اقتتحت السورة بالتسبيح واحدة من عائلة المسبحات السبع، والتسبيح شقيق التحميد وعائلة المحمدات خمس، وإذا استحضرنا عائلة الحروف النورانية فوجدناها تسعا وعشرين، تبين لنا تشريف التنزيل للعدد الوتري.. (ولا يقال إن سور التنزيل مائة وأربع وهو عدد غير وتر، لأنا نقول الوتر في التفصيل ، ألم تر أن البسملة في بداية مائة وثلاث سورة، وانفردت سورة التوبة بخلوها منها فكانت وترا...كما تجد في بعض الأذكار التسبيح ثلاثا وثلاثين والتحميد ثلاثا وثلاثين والتكبير ثلاثا وثلاثين وختامها تهليل واحد والمجوع مائة! ) لكن الأطرف هو هذا التوافق العجيب بين ترتيب سور التسبيح ، والنظرية المشهورة في النحوالتي ستتبلوربعد أكثر من قرن:
جاء الترتيب على هذا النحو: مصدر (سُبْحَانَ) فعل ماض(سَبَّحَ) فعل مضارع (يُسَبِّحُ) فعل أمر(سَبِّحِ) وهو الترتيب ذاته عند أهل النحو، فالمشهور عندهم أصالة المصدرالمطلقة وتبعية سائر المقولات، وأصالة الماضي النسبية ضمن دائرة الأفعال، وتبعية الأمر للمضارع... ولا يفوتنا أن نلحظ صيغة الماضي في مفتتح ثلاث سور وصيغة المضارع في مفتتح سورتين وصيغة الأمر في مفتتح سورة واحدة...هي سورة الأعلى التي نرجو الله أن يسدد لنا تدبرها.
إن ما يلفت النظر في هذه السورة الكريمة هو الجمع بين التركيز والاستيعاب ،فقد كادت أن تلخص القرآن على نحو ما ذكر المفسرون في شـأن فاتحة الكتاب.. فالكلمات السبع الأولى فقط جمعت كل أنواع التوحيد: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى
سبح : تنبيه على توحيد الألوهية. اسم ربك : إيماء إلى توحيد الأسماء والصفات. الذي خلق فسوى : إشارة إلى توحيد الربوبية. فالكلمات السبع قد استوعبت إذن أعظم مقصود على الإطلاق!
التوحيدان مقترنان في حجاج التنزيل ، فإن ذكر توحيد العبادة أولا جاء توحيد الربوبية دليلا عليه ، وإن ذكرت الربوبية أولا جاء توحيد العبادة بعدها لازما عنها، والجدال مع المشركين لا ينفك عن الأمرين: الاستدلال والإلزام... الإلزام على نحو :
"إن كنت مقرا بوحدانية الرب الخالق فيلزمك تخصيصه بالعبادة" والاستدلال على نحو:
" الله معبود بحق لأنه الرب "... وهذا ما افتتحت به سورة الأعلى.
التسبيح مقترن بالتحميد مع حفظ الترتيب...
فالتسبيح متقدم على التحميد في التنزيل وفي الأذكار، فيقال (سبح بحمد ربك) ولا يقال (احمد ربك بتسبيحه ) ...والسر في ذلك راجع إلى قاعدة عقلية مفادها تقدم النفي على الإثبات ،وتقدم التخلي على التحلي...فالتسبيح سلب للمعاني التي لا تليق بالرب وتنزيهه عن النقائص، لذا تجد في القرآن التعقيب ب (سبحان الله) كلما نسب الجهال والضالون إلى ربهم ما لا يليق به كنسبة الولد له مثلا ...وتجد المسلم إذا نسي شيئا يقول (سبحان الله) ...كأن لسان حاله يقول : أنا أنسى لكن ربي منزه عن النسيان... وفي حديث جابر " كنا إذا صعدنا كبرنا ، وإذا نزلنا سبحنا " ولعل النكتة في ذلك أن الإنسان يستشعر الزهو عند الارتقاء فيُذكر أن الله أكبر، وعند التسفل ينزه ربه عن أن يعلو عليه شئ فيسبح..
سنعرض بشأن إضافة الاسم إلى الرب عن أمرين: - الأول ذلك المبحث العقيم المشهور عند أهل الكلام هل الاسم هو المسمى أم غيره وهو مبحث لا يدل إلا على الشغف بالرياضة العقلية البعيدة عن الفطرة والواقع تلك الرياضة المستوردة من الهللينيين. - الثاني قول كثير من المفسرين أن (اسم) هنا صلة، والصلة عندهم- حين يتعلق الأمر بالقرآن- مرادف للزائد. والتحقيق أنه لازائد في القرأن ولا ننخدع بتسميتهم إياه صلة على وجه التأدب ، بل إن القول بالزيادة فرع عن ادعاء خطير هو الإحاطة بما أنزل الله ،فلسان حالهم: إننا قد تأملنا الآية كل التأمل وأحطنا بما فيها فوجدنا هذه الكلمة أو الحرف صلة!أو لم يعلموا أن عدم الدليل ليس دليلا على العدم! وللتخفيف من هذه الورطة يرددون دائما عبارة نمطية جاهزة : "هذه الكلمة صلة جاءت للتأكيد" وما أدراهم أن هناك حكمة أخرى قد خفيت عنهم! فمن المتعين إذا طرح لفظ الزائد و الصلة حتى لو قصد بهما الاصطلاح النحوي احترازا من ظلال أي معنى باطل.
نرد على زعم صلة (اسم) بوجهين:
1-إن الأمر بتسبيح (الاسم) يرفع التسبيح إلى منتهاه يتضح هذا بضرب مثال: هب رجلا يوقر رجلا ويقدره ، فصادف أن رأي يوما صورة صاحبه على الأرض معفرة وعرضة للأقدام فنزل عن مركوبه، وتحامل على نفسه ليأخذ الصورة، فتناولها بكل رفق ، ومسح ما علق بها من تراب بمنديله ، ثم عطرها بمسك، ووضعها في أحسن مكان عنده...إلا يدل هذا الفعل على أن توقيره لصاحبه لا مزيد عليه.... ولله المثل الأعلى ...
فمن وقر اسم ربه بكل حفاوة ما كان ذلك إلا دليلا على توقير ذات ربه لأن توقير الاسم ما هو إلا صدى لتوقير صاحب الاسم ...لهذا نرى في قوله تعالى سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى من القوة البلاغية ما لا يحتمله تعبير سبح ربك...فتأمل!
2- الوجه الثاني ما ذكره العلامة أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد السهيلي (المتوفى: 581هـ) في كتابه ( نتائج الفكر في النَّحو) من أن ذكر (الاسم) وإن كان المقصود هو صاحب الاسم ليستوعب الذكر وجهيه القلبي واللساني... وهاأنذا أنقل كلامه لحسنه ودقته:
(....والقول السديد في ذلك - والله المستعان - أن نقول: الذكر على الحقيقة محله القلب لأنه ضد النسيان، والتسبيح نوع من الذكر، فلو أطلق الذكر والتسبيح لما فهم منه إلا ذلك، دون اللفظ باللسان، والله إنما تعبدنا بالأمرين جميعاً، ولم يتقبل من الإيمان إلا ما كان قولاً باللسان، واعتقاداً بالجنان، فصار معنى الآيتين في هذا: اذكر ربك أو سبح ربك، بقلبك ولسانك، وكذلك أقحم (الاسم) تنبيها على هذا المعنى حتى لا يخلو الذكر والتسبيح من اللفظ باللسان، لأن الذكر بالقلب متعلقه بالمسمى المدلول عليه بالاسم دون ما سواه، والذكر باللسان متعلقه اللفظ مع ما يدل عليه، لأن اللفظ لا يراد لنفسه. فلا يتوهم أحد أن اللفظ هو التسبيح دون ما يدل عليه من المعنى، هذا ما لا يذهب إليه خاطر، ولا يتوهمه ضمير فقد وضحت تلك الحكمة التي من أجلها أقحم ذكر الاسم، وأنه به كملت الفائدة وظهر الإعجاز في النظم والبلاغة في الخطاب. وهذه نكتة لمتدبرها خير من الدنيا بحذافيرها، والحمد لله على ما فهم وعلم. ومما غلطوا من أجله قوله : (مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا) . والمعبود هو المسمى. والجواب: أنهم ما عبدوا إلا المسميات، ولكنهم عبدوها من أجل الأسماء المفخمة الهائلة التي اخترعوها لهم، كاللات والعزى، وتلك أسماء كاذبة غير واقعة على حقيقة، فكأنهم لم يعبدوا إلا الأسماء التي اخترعوها. وهذا من المجاز البديع الغريب وكذلك قامت الحجة عليهم، ولو كانت الأسماء ها هنا هي المسميات لقلت فائدة الكلام، ولخلا عن الإعجاز والبلاغة هذا النظام) انتهى كلامه رفع الله قدره!
الترتيب محكم ينتقل فيه الذهن تبعا للكلم من القضية إلى دليلها : فالألوهية دليلها الربوبية، والربوبية دليلها الخلق ، فمن لا يخلق لا يكون ربا ، ومن لا يكون ربا لا يستحق أن يكون إلها معبودا.والترتيب بالنظر إلى الإدراك بالتراجع : فأول ما يبدأ به العقل هو ملاحظة الخلق ، ومن الخلق يصل إلى الرب ، ومن الرب يصل إلى الله. ودلالة الخلق على الربوبية من الوضوح بمكان لا يماري فيها إلا من تنكر لعقله واتبع هواه...فالخلق يفرض على العقل ذلك السؤال الانطلوجي الحتمي الذي صاغه (لايبنتز) -وهو من عقلاء الفلاسفة وما أقلهم- لماذا كان هناك شيء بدلا من أن لا يكون؟ ولماذا كانت هذه الأشياء منظمة ومتسقة ومتناسبة؟ حقا ، إن مجرد وجود شيء فهويدل على الخالق، حتى ولو كان ذلك الشيء اعتباطيا لا معنى فيه ولا فائدة ... إن وجوده وحده يكفي، فكيف وقد تلبس بالحكمة تنظيما واتساقا وتناسبا ....والجواب على السؤال الانطلوجي بشقيه يقدمه التنزيل بكلمتين(خَلَقَ فَسَوَّى) مع التصحيح الواجب للعبارة : استبدال الخلق بالوجود والمخلوق بالشيء. لكن الفلاسفة تهربوا من هذه الحقيقة الساطعة فكان لهم منهجان في التهرب إما رفض الواقع وإما رفض العقل مادام اجتماع الواقع والعقل لا بد أن يفضي إلى الإيمان بالخالق..فجنح السفسطائيون إلى إلغاء الواقع واستمر تقليدهم في الفلسفات المثالية إلى أن وصل الأمر إلى منتهاه حين أعلن (جورج باركلي) أنه لا يوجد عالم خارجي إن الموجود فقط هو أفكاري عن هذا العالم!! وجنح الماديون الواقعيون إلى إلغاء العقل فمنهم من شك في قانون السببية مثل (دفيد هيوم) فالعالم موجود فعلا ولكن لا حاجة إلى السؤال عن علة وجوده لأن السببية ليست من ماهية العقل بل عادة نفسية فحسب ... ومنهم من صدم العقل بفرض وجود عالم أزلي سرمدي لا يحتاج إلى خالق ،وهو فرض لا يحتمله العقل وتأباه الفطرة ...ولعلك تعجب كيف تلتقي فلسفتان متعاديتان( المثالية والوضعية ) في هدف واحد، لكن لا عجب فمذهبهما واحد هو اتباع الهوى فلا بأس من إنكاركل شيء والتجديف في كل الضروريات إذا كانت النتيجة هي إبعاد الربوبية!! هذا منتهى المكركما ترى.
أ- الخلق وحده دليل الربوبية حتى لو كان المخلوق لا معنى له ، قبيحا غير جميل ، ضارا غير نافع... يكفي أن يوجد شيء بغض النظر عن أي اعتبار آخر، فكيف وقد شفعت التسوية الخلق فارتقى الحجاج إلى سماه : لم يخلق ربكم فقط بل سوى أيضا ما خلق ،فلا نقصان ولا تفاوت وكل ذلك شاخص أمامكم بل هو فيكم! ومن دلالة العطف ندرك الشمولية – وهي سمة السورة في نظرنا- 1- فبالنظر إلى نوع الموجود : الخلق دال على الكم،والتسوية دالة على الكيف. 2- وبالنظر إلى تفسير الموجود: الخلق دال على العلة السببية ،والتسوية دالة على العلة الغائية (فلا تدرك التسوية إلا إذا اعتبرت الغاية من الشيئ المخلوق فيلحظ التناسب بين المادة والغاية). 3- وبالنظر إلى ماهية الموجود: الخلق دال على الذوات ،والتسوية دالة على الوظائف والصفات. ب- "خلق ، سوى" فعلان متعديان لكن جاءا هنا كلازمين (محذوفي المفعولين) والحكمة من الحذف – في تصورنا- من وجهين: الأول لترتقي دلالة الفعل إلى دلالة الوصف فتكون بؤرة الاهتمام الخالق لا المخلوق فلو قيل "خلق الله السماء" لكان انتباه المتلقي موزعا على ثلاث جهات : الفعل والفاعل والمفعول ،وطي أحد الأطراف معناه مزيد من التركيزفي الانتباه ،ومظنة التقليل من تشتت الذهن، فتردد الذهن بين أمرين أخف من تردده بين ثلاثة...ولو قلت ما الفائدة ،قلت الفائدة يبينها
الوجه الثاني: الأمر في السورة بالتسبيح والأنسب فيه استحضار الذات والصفات فقط لأنها مناط التنزيه ،ولو كان الأمر بالتحميد لربما كان الأنسب ذكر المفعولات لأنها تشخيص للنعم وتوجيه الأذهان لاستحضارها...نقول هذا قياسا وإلا ففصل الخطاب متروك لاستقراء التنزيل.والله أعلم.
العطف بالواو بين الآيتين ( عطف الموصولين ) والعطف بالفاء بين الجملتين في حيز كل آية... إن العطف بالواو لمطلق الجمع - كما هو معلوم- لذلك لا دلالة هنا على الترتيب فيجوز أن يتقدم الخلق على التقدير، بل الأولى أن يتقدم التقدير على الخلق فما من مخلوق إلا وقد سبق تقديره في العلم الإلهي ، وقد فسر أهل العلم مسألة القضاء والقدر على هذا النحو، فالقضاء هو وجود الأمور في العلم الإلهي والقدر هو تحققها في الوجود شيئا بعد شيء (ومن العلماء من يعكس الاسمين لكن المقصود متحد... ) أما العطف بالفاء فلا بد فيه من الترتيب فلا تعقل التسوية إلا بعد الخلق ،ولا تعقل الهداية إلا بعد التقدير..
قَدَّرَ فَهَدَى
الهداية تحتمل الشرعية والكونية : فإن كان المفعول المحذوف من فعل "هدى" هم المكلفون من الثقلين فالهداية شرعية تتمثل في إنزال الوحي وبعث الأنبياء والمرسلين ،فرب العالمين لم يترك الناس هملا بعد خلقهم بل علمهم كيف يحيون وكيف يموتون وأرسل إليهم من يهديهم ويبينون لهم كل صغيرة وكبيرة مما يحتاجون. وإن كان المفعول المحذوف من غير المكلفين فالهداية كونية - غريزية وفطرية - كما هو الشأن في النبات والحيوان فالشجرة تنمو وتورق وتبحث عن أشعة الشمس في الأعلى وتمد جذورها إلى الأسفل باحثة عن الماء لتصنع من ذلك ثمارا لمخلوقات لا تعرفهم ولا تعي بهم...والوليد من الحيوان ما أن يخرج من رحم أمه حتى يضرب في الأرض يعلم ما يأكل وكيف يأكل وما من أحد علمه لكن الله هداه فسبحانه.!
ولعلك تلحظ سمة الشمولية هنا - مرة أخرى- من خلال الأفعال الثلاثة : خلق-قدر-هدى فقد لخصت المسار كله بجميع مراحله ما قبل الخلق، ثم الخلق ،فما بعد الخلق: - ما قبل هي مرحلة التقدير ( قَدَّرَ) - ثم الخلق ( خَلَقَ) - ثم تجد كل مخلوق ميسر لما خلق له ( فَهَدَى).
هذه خاتمة افتتاح السورة...متسقة مع مقصد إثبات الربوبية المتضمن في الافتتاحية الكريمة...غير أنها تتميز عما سبقها - لدرجة التقابل- على أكثر من وجه: 1- تقابل الذكر والحذف: فقد طويت المفاعيل في الأفعال الأربعة ( خلق، سوى، قدر، هدى ) وأظهرت هنا ، فالفعل المتعدي إلى مفعول واحد (أخرج) ذكر معه مفعوله ، والفعل المتعدي إلى مفعولين (جعل) ذكر معه أيضا مفعولاه...فتمت بذلك الإشارة إلى الربوبية الشاملة صفات وأفعالا. 2- تقابل الاجمال والبيان : طي المفعولات نشأ عنه الإجمال والعموم ، ومع ذكر المفاعيل نشأ البيان والتخصيص ، فكأن قوله ( أَخْرَجَ الْمَرْعَى ) يقدم مثالا على ما سبق من التقديروالتسوية والخلق والهداية 2- تقابل الكلي والجزئي: فالخلق الكلي أشفع بذكر المخلوق الجزئي الذي هو واحد من مصاديقه.
أَخْرَجَ الْمَرْعَى التنزيل ذكر شقا وعلى المتدبرأن يستحضر الشق الثاني ( إنزال الماء) فهوملزوم المذكور، إذ لا يكون إخراج المرعى إلا بعد إنزال الماء فتلحظ - عندئذ -في التدبير الرباني هذه الحركية الحوارية العجيبة : حركة نازلة من أعلى إلى أسفل هي حركة الماء ، يعقبها الجواب بحركة صاعدة من أسفل إلى أعلى هي حركة نمو النبات!!
لنتأمل كيف يستعمل القرآن المفردة : يقصد معناها الذاتي ويقصد في الوقت ذاته طيفا من اللوازم القريبة والبعيدة، فيكون استعمال كلمة واحدة في قوة استعمال جمهرة من الكلمات.! المراد ب(المرعى) النبات ،لكن شتان بين دلالة اللفظين ،فالمرعى دلت على النبات والحيوان معا بينما النبات لا تدل إلا على نفسها ولا يشم فيها رائحة بهائم ولا أنعام! ومن الاختزال العجيب أن تدل كلمة واحدة على كل عوالم الحياة الأرضية ،فالمرعى دلت على مملكة النبات وعلى مملكة الحيوان بشقيها البهيمية والآدمية - الإنسان مدلول عليه بطريقة مباشرة فهو من أكلة النبات مثل غيره من الأنعام ونستأنس هنا بآية يوسف (أرْسلهُ مَعنا غَدا يرتِع ويلعبْ) (وَهُوَ يفتعل من الرَّعْي ) ،وبطريقة غيرمباشرة فالأنعام تأكل من النبات لتعيش وتسمن فيستفيد الآدمي منها ومن رعيها-! قال ابن فارس في المقاييس: (رَعَى) الرَّاءُ وَالْعَيْنُ وَالْحَرْفُ الْمُعْتَلُّ أَصْلَانِ: أَحَدُهُمَا الْمُرَاقَبَةُ وَالْحِفْظُ، وَالْآخَرُ الرُّجُوعُ. فَالْأَوَّلُ رَعَيْتُ الشَّيْءَ، رَقَبْتُهُ; وَرَعَيْتُهُ، إِذَا لَاحَظْتَهُ...... وَالْأَصْلُ الْآخَرُ: ارْعَوَى عَنِ الْقَبِيحِ، إِذَا رَجَعَ.
وفي تأصيل ابن فارس بعض نظر، لأنه غفل عن المعنى الشائع والمألوف المتعلق بالأكل - وقد ذكرته المعاجم – وقد يكون من التعسف بمكان إرجاع هذا المعنى لأحد الأصلين بل هو أصل مستقل بنفسه كما هو ظاهر...
قال الأزهري في التهذيب: رعي: الْحَرَّانِي عَن ابْن السّكيت: الرَعْي مصدر رعى يرْعَى رَعْياً الْكلأ وَنَحْوه. والرِعْي: الْكلأ نَفسه بِكَسْر الرَّاء. والراعي يرْعَى الْمَاشِيَة أَي يحوطها ويحفظها. والماشية تَرْعى أَي ترتعُ وتأكل الرَّعْي. وكل شَيْء حُطْته فقد رَعيته. والوالي يرْعَى رَعيته إِذا ساسهم وحفظهم. والرِعاية: حِرْفَة الرَّاعِي، والمسوس مَرْعِيّ.
الأكل والحفظ قد يجتمعان في سياق تداولي واحد :فتقول" رعت البقرة " وتقول "رعت الفتاة البقرة" في الأول تعني أكلت العشب والنبات ،وفي الثاني تعني راقبت الفتاة بقرتها وحرستها حتى تأكل عشبها في أمن وأمان...ويصدق عليهما معا اسم الفاعل (راعية) بمعنى ناظرة وحارسة بالنسبة للفتاة ،وآكلة بالنسبة للبقرة. والذي يعنينا من كل هذا أن كلمة (المرعى) في سورة الأعلى بوتقة انصهرت فيها كل أشكال الحياة : نباتية بهيمية وبشرية ...فأي توسع وأي اختزال كأن الكلمة ما وجدت في العربية لا ليستعملها القرآن في سورة سمتها الشمول!!
الآية من جهة الحجاج قاصمة لظهر كل ملحد عنيد...وإليك البيان: فاعل الإخراج من مقولة السببية، مفعول الإخراج من مقولة الغائية ،لأن النبات المخرج عبر عنه بالمرعى (وهذا سر آخرمن أسرار هذه الكلمة ) موجه لغاية مقصودة ،وهذه الغاية مشهودة بالحس فكل ذي عينين يلحظ البهائم والأنعام تأكل من النبات الذي كان كامنا تحت الثرى والذي أخرج لها بعد نزول الماء، فمن ينكر الرب يلزمه إنكار السببية والغائية معا أي هدم العقل نفسه ،فكيف يناقش امرؤ يسارع في هدم العقل الذي يدعي الاستناد عليه!! لو لم يكن رب هناك فكيف يمكن للسماء، وهي غير عاقلة ،أن ترسل الماء إلى الأرض ،وهي غير عاقلة أيضا، ثم يتفق غير العاقلين على إخراج نبات يلائم بهائم وأنعام لا السماء واعية بوجودها ولا شريكتها الأرض!! لا يملك للملحد إلا أن يقول أن كل ذلك وقع هكذا صدفة....لكن الصدفة تقع مرة واحدة وهذا الأمر الذي نحن بصدده متكرر في الشرق والغرب بالليل والنهار....فكيف تكون الضرورة صدفة! كيف يمكن للصدفة أن تفسر التلاؤم التام بين عنصرين أحدهما غريب عن الثاني (تذكروا دائما قول ربكم "خَلَقَ فَسَوَّى" ) ...كيف يمكن لعناصر كثيرة مختلفة الماهيات والمواقع أن تجتمع لتصنع شيئا واحدا ويأتي هذا الشيء تاما مستقلا بماهيته ووجوده....البحر والشمس والريح والتراب ساهمت كلها في إخراج مرعى ملائما لكائنات لا البحر ولا الشمس ولا الريح ولا التراب تدري بها ....!!!! وفي بدن البهيمة تتلاءم الأسنان واللعاب واللسان والمعدة والأمعاء لتقوم كلها متفرقة بوظيفة واحدة من أجل غاية مقدرة منذ البدء!!!
تلك القصدية الظاهرة التي بينتها سورة أخرى من الذكر الحكيم: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا وَحَدَائِقَ غُلْبًا وَفَاكِهَةً وَأَبًّا مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ [عبس ] أفعال كثيرة مختلفة والمفعول لأجله واحد! هكذا فلينظر الانسان إلى طعامه نظرة توحيد لا نظرة شهوة وتلذذ فقط كديدن الملحد! لو وجد الملحد قفلا في فلاة ثم وجد في يوم آخر في مكان آخر مفتاحا فأدخل المفتاح في القفل فوجد أن أسنان هذا المفتاح تلائم تجاويف ذلك القفل ولا يوجد في الأرض كلها قفل يلائم ذلك المفتاح إلا ذلك القفل ولا مفتاح يلائم ذلك القفل إلا ذلك المفتاح...فهل سيقول ذلك كله صدفة واتفاق أم أن هناك صانعا سوى وقدر وهدى!!! إن هذا التلاؤم في الكون المعبر عنه ب "خَلَقَ فَسَوَّى" لقاصم لظهر كل ملحد!
قلنا هذا مثال جزئي لبيان الخلق الكلي المعبر عنه ب "خَلَقَ فَسَوَّى"...وقد تضمن المثال الصورتين الشائعتين من الخلق :
الإخراج
والجعل
الإخراج نقلة في المكان،والجعل نقلة في الزمان (ولا شك أن الجعل هنا بمعنى التحويل والتصيير، ألا ترى أن فعل جعل في الآية يتعدى إلى مفعولين ...والتحويل والتصييرلا يمكن لهما التحقق بدون شرط الزمن.)
فتكون الآيتان – في اتساق مع سمة الشمولية في السورة- عرضا للحياة في مختلف مراحلها وأطوارها :
الانتقال المكاني من الداخل إلى الخارج (أو من الكمون إلى الظهور.)
الانتقال الزماني من حالة إلى أخرى...وهذا قانون الأحياء جميعا ، فالإنسان مثلا كالنبات أخرجه الله من بطن أمه ثم جعله سميعا بصيرا وتطور عبر الزمان من الطفولة إلى الفتوة والشباب والكهولة...
قال الأنباري: الغثاء عند العرب: ما يعلو الماء من القماش والزَّبد، مما لا يُنْتَفَعُ به. فيُشَبَّهُ كلُّ مَنْ لا خير فيه، ولا منفعة عنده، بالغُثاء.
لاخلاف في دلالة أحوى على صفة السواد، لكن اختلفوا في الموصوف أهو المرعى أم الغثاء. قال الكفوي في كلياته : إِن أُرِيد بِهِ الْأسود من الْجَفَاف واليبس فَهُوَ صفة ل (غثاء) أَو من شدَّة الخضرة فحال من (المرعى).
قلت : فتكون أحوى قد تضمنت دلالتين متقابلتين دلالة على الحياة والموت معا !
فإن كان السواد المدلول عليه من الجفاف واليبس فهو موت وإنذار بالتلاشي المحتوم، وإن كان السواد من شدة الخضرة فهي الحياة في أوجها وتمامها...وكيفما كان فقد لمسنا سمة الشمولية مرة أخرى فالله خلق الحياة والموت، يخرج من الأرض ويعيد فيها ،يبدئ وينهي ويعيد!
ولنا وقفة مع بلاغة الفاء العاطفة:
فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى
من المعلوم أن الفاء العاطفة – عكس ثم- تفيد التقارب في الزمان والمجاورة في المكان ، فكأن التقدير: ما أن أخرج المرعى حتى جعله غثاء أَحْوَى ،في إشارة إلى سرعة انتهاء الحياة الدنيا ومن ثم لا ينبغي الاغترار بها والاطمئنان إليها ،وسوف يدركون غدا كم هي قصيرة لا تعدو يوما أوبعض يوم أو عشية أو ضحاها!!
انتبه إلى الفاء العاطفة مرة أخرى ،لم يقل -ما يلوح في أفق التوقع من قبيل - : اختلط الماء بالنبات فأصبح طريا نديا مخضرا ناميا ،بل قال : فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ...فليتدبر!
أحوى صفة لون باتفاق وهو المائل إلى السواد من حمرة أو خضرة .قال في المحكم والمحيط الأعظم :
وأصل الحُوّة السواد يُتخيّل من شدة الخُضرة، ومنه قيل للنبات أحوَى،... وشفة حَوَّاءُ: حَمْرَاء تضرب إِلَى السوَاد. وَكثر فِي كَلَامهم حَتَّى سموا كل أسود أحوى.
ومؤنث أحوى حواء كما هو القياس في صفات الألوان (أفعل- فعلاء ) فيقال أبيض بيضاء أسمر سمراء أزرق زرقاء ...إذن أحوى حواء.
وقفتنا هنا مع صفة حواء وهو اسم أم البشر فنتساءل لماذا سميت كذلك...التفسير الشائع أن الاسم مشتق من الحياة إما لأنها مخلوقة من ضلع حي وإما لأنها أم لكل حي من بني البشر..ويرى الأستاذ رءوف أبو سعدة صاحب الكتاب الماتع ( العلم الأعجمي في القرآن) أن حواء غير مشتق من الحياة لا في العربية ولا في العبرية نفسها إلا بافتعال شديد. قال : وقد تابع مفسرو القرآن أهل التوراة في تفسيرهم اسم حواء بالحياة لا تجد لهم في تفسيره قولا يغايره.
وذهب أبو سعدة - وفق منهجه في كتابه - إلى أن حواء من الحواء لا من الحياة ومعناه التجمع والمكان الذي يحوي الشيء والسكنى والسكينة ....وجاء القرآن مفسرا لاسم حواء مع أنه لم يذكرها بالاسم ولكن أشار في سياق ذكرها إلى دلالة اسمها :
وهو رأي حسن لكنا نزعم أن الأولى أن تكون حواء ليست من الحياة ولا من الاحتواء بل من الحوة أي اللون...وسندنا في هذا التوجيه التناسب بين اسمي آدم وحواء في دلالتهما معا على اللونية فاسم الأب دال على لون بشرته واسم الأم كذلك.
قال الزمخشري في كتابه الفائق في غريب الحديث والأثر : والأحوى لون يضْرب إِلَى سَواد قَلِيل وَسميت أُمّنا حَوَّاء لأُدمة كَانَت فِيهَا..
قال نشوان بن سعيد الحميرى اليمني:
وآدَمُ: اسم أبي البشر عليه السلام. قيل: سمّي آدم من اللون. وقيل: لأنه خُلق من أَدَمة الأرض. وجمعه آدَمُون.
الموضوع الموالي في هذه السورة الشريفة متوقع ومرتقب :
فبعد الحديث عن الشهادة الأولى ينتظر الحديث عن الشهادة الثانية...ولما ذكر في موضوع الشهادة الأولى الوجهين: الألوهية والربوبية فقد ذكر في الموضوع التالي الوجهين: النبوة والرسالة...
الجملة الطلبية الافتتاحية تشير الى العلاقة العمودية بين الرسول وربه : (اعبد ربك ) الجملة الاختتامية تشير إلى العلاقة الأفقية بين الرسول والناس: (ذكر امتك لتنقذها).
ويتحصل من الطلبين تحقيق الشهادتين ، فالرسول صلى الله عليه وسلم مطالب بهما كغيره من الناس، فتسبيحه قيام بالشهادة الأولى، وتذكير الناس قيام بالشهادة الثانية والشهادة هنا ليست إقرارا فقط بل هي أيضا تنفيذ عملي.
"سَنُقْرِئُكَ" معادلة ل "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ"
"فَلا تَنْسى" معادلة ل "وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ"
قيل إن( لا) إنشائية لا خبرية ، فهي للنهي وَالْأَلِفُ ثَابِتَةٌ لِأَجْلِ الْفَاصِلَةِ تعديلا لرؤوس الآي، وهذا من تعسف بعض المفسرين وَمَفْهُومُ الْآيَةِ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ،كما قال أبو حيان.
يمكن إضعاف هذا القول من جهة البلاغة أيضا :
فالمقام مقام بشارة ووعد حسن ، فلو نهى عن النسيان بعد البشارة لكان في المقال شيء من التنغيص والتكدير، فقد ينتاب الرسول صلى الله عليه وسلم قلق وخوف من النسيان الوارد فلا يتلقى البشارة بكل اطمئنان ...وفعلا كان عليه السلام يعاني من بعض توتر عندما يتلقى الوحي فكان إذا نزل عليه القرآن أكثر من تحريك لسانه مخافة أن ينساه:
الاستثناء حقيقي وليس صلة كما ذهب بعضهم،والرسول قد ينسى بعض ما يوحى إليه ، لكن الله سيذكره بما نسي لأن الوحي محفوظ ، فإن قيل ما الحكمة من جعل الرسول ينسى ثم يذكر؟ قلنا فيه حكمة بالغة وهي التأكيد على بشرية الرسول، فالنسيان صفة من جبلة الإنسان جارية على كل الأنبياء والرسل بمقتضى الطبيعة البشرية:
فلما قال "فلا تنسى" جاء الاستثناء بعده وكأنه جملة اعتراضية احترازية تقطع الطريق على أهل الغلو والإطراء فليس أقبح من التنقيص من الأنبياء إلا الغلو فيهم لأن الغلو تلويث لنقاء التنزيه بلا ريب.
"فلا تنسى" لا تعني العصمة من النسيان مطلقا ،ولاتعارض بين النبوة والنسيان عكس الكذب – مثلا- فإن النبي مبلغ عن الله ولا يمكن أن تكون فيه شائبة كذب لذا كان الرسول عليه السلام يمزح ولا يقول إلا صدقا وجعل الله له الصدق ميزة في الجاهلية فلقبوه ( الصادق الأمين) تمهيدا لبعثه بالرسالة، وتيسيرا لسبل الإيمان به: كيف تكذبونه وأنتم - وليس غيركم- سميتموه الصادق الأمين!
هناك واقعة في السنة النبوية تضمنت النسيان مع شبهة الكذب سنبحث فيها – بحول الله-على سبيل الاستطراد لما في الواقعة من فائدة .
واقعة ذي اليدين ومسألة تقصير الصلاة صحيحة مشهورة ، فقد صلى الرسول صلى الله عليه وسلم بالصحابة صلاة لم يأت فيها بكل ركعاتها، فقال ذُو اليَدَيْنِ: يا رَسولَ اللَّهِ، أنَسِيتَ أمْ قَصُرَتِ الصَّلَاةُ؟ قَالَ: لَمْ أنْسَ ولَمْ تُقْصَرْ....وفي رواية " كل ذلك لم يكن " وأجاب ذو اليدين : " قد كان بعض ذلك "
تناول الفقهاء وشراح الحديث هذه الواقعة من منظور فقهي فقط ، انصب اهتمامهم على مسائل السهو ولم يبحثوا كثيرا في درجة صدق قوله عليه السلام "لَمْ أنْسَ ولَمْ تُقْصَرْ"... كيف يجزم بأنه لم ينس والحال أنه نسي، والصحابة أكدوا صدق ذي اليدين عنما استشارهم النبي...
إن صدق القضية لا بد أن يلزم عنه كذب نقيضها : عبارة " كل ذلك لم يكن " قضية كلية سالبة ، ونقيضها في الصناعة المنطقية هي الجزئية الموجبة " قد كان بعض ذلك " ، ومن المعلوم أن التناقض أقوى من التضاد ، ففي التضاد تكون بين المتضادين واسطة ، أما المتناقضان فلا يجتمعان معا ولا يرتفعان ...فإذا كانت جملة " قد كان بعض ذلك " صادقة فإن نقيضها " كل ذلك لم يكن " كاذبة بالضرورة....
اكتفي شراح الحديث بقولهم إن النبي عندما قال "لم أنس.." إنما كان يخبر بما اعتقد أو غلب على ظنه...هذا التوجيه في نظري ضعيف جدا لا يزيل شبهة الكذب إلا على مذهب الجبائي المعتزلي الذي ذهب إلى أن الصدق هو المطابقة مع الاعتقاد فقط...وهو مذهب باطل قطعا لا لأنه صادر عن معتزلي – فالاعتزال فرقة لها وعليها- ولكن لأنه من النسبية المخربة لكل عقل ودين!
فلو كان الصدق هو المطابقة مع الاعتقاد فلا صدق ولا كذب في الوجود، فالملحد إذا قال "لا يوجد رب" فهو صادق لأن قوله موافق لاعتقاده، وإذا قال صاحبه "يوجد رب" فهو صادق أيضا طالما اعتقد ذلك، فتكون القضية الواحدة صادقة وكاذبة معا وهذا غير معقول...أو يتذرع بالنسبية فتنهار القيم كلها!
الصدق هو المطابقة بين القضية والواقع فقط ، لا المطابقة الثنائية بين القضية والاعتقاد - كما هو مذهب الجبائي- ،ولا المطابقة الثلاثية بين القضية والاعتقاد والواقع -كما هو مذهب الجاحظ- فعندما قال النبي صلى الله عليه وسلم :"لَمْ أنْسَ ولَمْ تُقْصَرْ " أو "كل ذلك لم يكن " فهل كان قوله مطابقا للواقع ونفس الأمرأم لا؟
إن النبي كان صادقا مطلقا لا نسبيا ، فالصلاة لم تقصر، وهو لم ينس، وخبره هنا صادق مثل كل أخباره ولو كان مازحا، لقد قصر الصلاة عمدا !
تعمد قصر الصلاة بدون نسيان لينشيء مناسبة يعلم فيها الصحابة كيف يصلون في حالة النسيان وهي مما تعم بها البلوى... وسلوكه هنا من حكمة التبليغ لأن القول المنفرد لا تكون له قوة القول المشفوع بالفعل والظرف القصصي...وكثيرا ما كان عليه السلام يأتي بسلوك لغوي غريب ليثير انتباه الصحابة
عن أَبي هريرة : أَن النَّبيَّ ﷺ قَالَ: واللَّهِ لا يُؤْمِنُ، واللَّهِ لا يُؤْمِنُ، واللَّهِ لا يُؤْمِنُ،
قِيلَ: مَنْ يا رسولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الَّذي لا يأْمنُ جارُهُ بَوَائِقَهُ ....مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
فخلق مناسبة حيوية الحوار مما يرسخ الحكم في الأذهان وهذا حاضربقوة في قصة ذي اليدين....والله أعلم
صفة العلم جاءت خاتمة لمجموعة الصفات العلية التي وردت في استهلال السورة وذكرت بعد الوعد بالإقراء ( سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى ) لأنها الصفة المناسبة للوحي ونزوله:
هنا ظاهرة أسلوبية لعلها من أبرز مميزات القرآن، ألا وهي ظاهرة "الالتفات" ، خاصة في ثنايا حديث الله عزوجل عن نفسه ، فتجد استعمال ضمائرالحضور ثم الإشارة إلى الذات العلية بضمائر الغياب ، كل ذلك في كلام واحد وكأن المتكلم والمتكلم عنه مختلفان!
سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى : يشير سبحانه وتعالى إلى ذاته بضمير الحضور الجمعي ،
إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى : يشير سبحانه وتعالى إلى ذاته بضمير الغياب الفردي...
فيكون الالتفات مزدوجا في كلام واحد ،لأن جملة الاستثناءلا تستقل بنفسها عما سبقها ولا تصح أن تكون استئنافا لكلام جديد إلا أن تكون اعتراضا.
وقد نقول استنادا إلى بلاغة النص الحديثة إن ضمير الحضور من مستوى التنصيص( أو فعل الكلام) énonciation وضميرالغياب من مستوى النص énoncé...
3-
إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى
تقديم الجهر على السر لأنه الأصل، وماجاء على أصله لا يسأل عن علته كما هو مقرر: ووجه الأصالة أن جملة "يعلم الجهر" لا يفهم منها أي شيء عن العلم بالسر لا إثباتا ولا نفيا فهو مسكوت عنه مطلقا وإذا عطفت عليها "يعلم السر" تكون قد أفدت المتلقي معنى جديدا ...ولكن إذا بدأت بقولك "يعلم السر" فإن المتلقي سيفهم منها "يعلم بالجهر" أيضا لأن العالم بالسر عالم بالجهر عن طريق الأولى، كما لو مدحت رجلا فقلت إنه يعطي القليل فلا يفهم منها أنه يعطي الكثيروإذا أردت هذا المعنى أيضا فلا بد من التصريح به ، ولكن إذا قلت "يعطي الكثير" فلا حاجة لقولك "ويعطي القليل" لأنه مفهوم عن طريق الأولى، وإذا صرحت به كان على جهة التوكيد لا التأسيس ،ومعلوم أن التأسيس في الكلام مقدم على التوكيد.
إذا ذكرالعلم بالجهروالسر فالأصل تقديم الجهر- كما بينا- ومعرفة مثل هذه الأصول في الدلالات لها قيمة كبيرة في علم التفسير وكذلك معرفة عادات القرآن في التعبير، لأن أي عدول عن القاعدة وأي تخلف عن العادة لهو بمثابة دعوة للتدبروهذا نهج يتبعه القرآن لتيسيرالذكر...وعلى هذا النهج نجد في القرآن مواضع كثيرة قدم فيها السر على الجهر فينتصب السؤال الذي لا مناص عنه : "لماذا"؟
والسؤال هو بداية التدبر...
4-
إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى
في العبارة تناسب لطيف بين المعنى المعجمي والمعنى النحوي : فلما كان الجهر ظاهرا معلوما مسموعا فقد حلي بلام التعريف (الْجَهْرَ) ، ولما كان السر خفيا مجهولا مبهما فقد دلت عليه "ما" المبهمة (مَا يَخْفَى)
5-
التعبير بالمضارع من أجل التعميم، وهو معنى لا يوجد في صيغة الماضي (ما خفي ) ، لأن المضارع هنا في قوة الصفة وليس حدثا مقيدا بالحاضر والمستقبل : "ما يخفي" أي ما من شأنه الخفاء فالمدلول عليه ماهية وليس فعلا عرضيا ...ومنه قوله تعالى: