تاريخ جمع القرآن

سهاد قنبر

New member
إنضم
1 يونيو 2011
المشاركات
388
مستوى التفاعل
1
النقاط
18
تاريخ جمع القرآن
إن الباحث الذي يقوم بدراسات تحقيقية في تاريخ جمع القرآن يرى أن هناك ثغرات نفذ منها أعداء الأمة وأثاروا من خلالها الشبهات، والكتب التي عرضت لتاريخ جمع القرآن بالرغم مما فيها من تحقيقات جيدة إلا أنها أبقت على بعض الأسئلة دون إجابات، وبعض الإشكالات بدون حل.
ومن هذه الأسئلة والإشكالات:
- صعوبة التوفيق بين الروايات التاريخية المتعارضة.
- ما مصير صحف أبي بكر طيلة خلافة عمر رضي الله عنه وهي فترة طويلة نسبياً؟
-تحدثت المؤلفات عن الفرق بين جمع أبي بكر وعثمان من حيث الباعث والهدف إلا أنها لم تذكر أثر هذا الباعث على الآليات الإجرائية للجمع.
-جعل جلّ الباحثين جمع عثمان هو عبارة فقط عن نسخ مصحف أبي بكر، وإلزام الأمة به، وتحريق النسخ المخالفة وهذا يختلف مع الروايات التي وردت بهذا الشأن إذ إن بعض الروايات تثبت أن عثمان رضي الله عنه ظل يستقبل ما عند الناس من نسخ ويستحلفهم أن النبي أملاها عليهم.
وقد أمضيت أشهراً بين روايات تاريخ القرآن حتى خلصت إلى بعض النتائج والتي أرجو أن أعد فيها بحثاً مستقلاً.
ولن أجيب في هذه الأسطر القليلة عن هذه الإشكالات لكني سأعرض لبعض القضايا المنهجية التي ينبغي مراعاتها في دراسة تاريخ جمع القرآن والتي قد تسهم في تغيير زاوية النظر لهذا الموضوع ومن هذه القضايا:
- القرآن محفوظ بحفظ الله وحفظه في الصدور وتواتره هو الأصل في صحة نقله، والبحث في تاريخ جمع القرآن هو استنطاق للتاريخ ولا علاقة له بوثاقة النص القرآني.
- ينبغي اعتماد المنهج التاريخي في الجمع والتوفيق بين روايات تاريخ جمع القرآن في محاولة لاسترداد ما جرى، ومن ثم إعادة تركيب الأحداث بالاعتماد على الروايات، فالباحث يعمل كما يعمل عالم الآثار(الأركيولوجي) الذي يدرس الآثار ليرسم حقائق الحقبة الزمنية فهو يضع الفترة الزمنية تحت مجهره ويجتزئ إشكاله من صيرورته التاريخية ولو تقديراً لا تحقيقاً[1].
- بالرغم من دقة منهج المحدثين إلا أن شروطهم تؤدي إلى إهمال الكثير من الروايات التاريخية ولعل شروط المحدثين أنفسهم كانت أدنى في روايات المغازي والسير فمن باب أولى أن لا نعتمد شروطهم في الروايات التاريخية، فالجمع بين الروايات أولى من إهمال أحدها، ولا تهمل الرواية التاريخية إلا في حال عدم إمكان الجمع.
- تحرير المصطلحات في الروايات مثل مصطلح جمع القرآن، نسخ القرآن، المصحف، الصحف، القرآن، فعلى سبيل المثال هناك تعاور في الروايات التاريخية في استخدام مصطلح القرآن والمصحف، ولا شك أن التفريق بين المصطلحين مهم في هذه الفترة المبكرة من تاريخ جمع القرآن.
- الابتعاد عن التبسيط المفرط في التعامل مع الموضوع.
- التحلي بالموضوعية العلمية والتخلي عن العاطفة أثناء البحث وعدم تبني منهج ردود الأفعال في محاولة لسد الطريق على مثيري الشبهات لأن هذا سيؤدي إلى رفع قيمة بعض الروايات المنقطعة مثل رواية الشاهدين، واستبعاد روايات في مستواها وهذا ليس من الأمانة العلمية في شيء، لا سيما أن الله المنّان منزل القرآن تعهد لنا بحفظه يقول تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)(الحجر: ٩) ، والبحث في هذا الموضوع هو بحث تاريخي لا يضر الخلاف في جزئياته على إيماننا بحفظ كتاب الله لأن المحفوظ المتواتر المقروء حجة على المكتوب حتى زمننا هذا.
- عدم الانقياد للنظريات الغربية التي تقلل قيمة الشفاهي المقروء المنقول لنا بالتواتر وترفع قيمة المكتوب.




[1] وقد فصل الدكتور فريد الأنصاري في المنهج التاريخي في كتابه أبجديات البحث في العلوم الشرعية.
 
أقترح التواصل مع د. جمال أبو حسان حيث إنه قد جمع مادة طيبة حول الموضوع ذاته، ومن المفضل البناء وتراكم المعرفة؛ كسباً للوقت، وفتحاً للآفاق، وتلاقحاً للأفكار.
 
لقد سمعت أن الدكتور جمال أبو حسان ترك البحث في هذا الموضوع لعدم إمكان القطع فيه.
 
فكرة جميلة ..
ولو كان عنوان الموضوع: قضايا منهجية لرد شبهات في تاريخ القرآن. لكان أبين للمقصود.
 
في نظري أن الإشكالات لا تطرح بصدق!
يجب معرفة الإشكالات وتجليتها بصدق وعدم الهروب منها، ومن صدق مع الله صدقه.

لي عودة....
 
أشكر لكم مروركم، عندي تحفظ على مشروعية مصطلح(تاريخ القرآن) وأرى أنه خلاف الأولى وهو: (تاريخ جمع القرآن)، الأمر الثاني لم يكن مقصدي رد الشبهات أصالة بل تبعاً، لقد كان اقتراحي تغيير زاوية النظر لموضوع تاريخ جمع القرآن، وطريقة دراسته مما قد يسهم في إزالة الإشكالات المثارة حول هذا الموضوع.
 
جميل جداً
لم لا تبدؤون بجمع الإشكالات جميعها وفرزها بشكل مرتب، ومن ثم محاولة رفع إشكالاتها، مع ضرورة حفظ هيبة القرآن وإثباته في صدور المؤمنين، لا نريد أن نجعل من هذا الموضوع فتنة للذين ءآمنوا، لأنه من السهل أن نطلق عبارات مثل( القرآن محفوظ ومتواتر) ومن ثم نحن نجلب أدلة على عكس ذلك!
و فوقها لا نريد من الناس أن يتأثروا ونقول لهم هذا
" بحث تاريخي لا يضر بقداسة القرآن وحفظه من قبل الله "

أقول هذا النهج ليس صحيحاً ، بل يكذبه الواقع، ولا بد من أن يدخل في القلب شيء، والدليل على ذلك سيد القراء الصحابي الجليل أبي بن كعب رضي الله عنه، والذي سماه الله عزوجل باسمه لقراءة القرآن عليه
جاء عنه
في صحيح مسلم هذه الرواية
أبي بن كعب قال كنت في المسجد فدخل رجل يصلي فقرأ قراءة أنكرتها عليه ثم دخل آخر فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه فلما قضينا الصلاة دخلنا جميعا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت إن هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه ودخل آخر فقرأ سوى قراءة صاحبه فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرآ فحسن النبي صلى الله عليه وسلم شأنهما فسقط في نفسي من التكذيب ولا إذ كنت في الجاهلية فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قد غشيني ضرب في صدري ففضت عرقا وكأنما أنظر إلى الله عز وجل فرقا فقال لي يا أبي أرسل إلي أن اقرأ القرآن على حرف فرددت إليه أن هون على أمتي فرد إلي الثانية اقرأه على حرفين فرددت إليه أن هون على أمتي فرد إلي الثالثة اقرأه على سبعة أحرف فلك بكل ردة رددتكها مسألة تسألنيها فقلت اللهم اغفر لأمتي اللهم اغفر لأمتي وأخرت الثالثة ليوم يرغب إلي الخلق كلهم حتى إبراهيم صلى الله عليه وسلم


بل قد عرفنا من دخلوا في هذا الموضوع "نصرة ودفعاً للشبهات"
فخرجوا منه منكرين للقرءآت ومنكرين لوقوع النسخ !
فهم حقيقة انتصروا لأهوائهم ، وهذه طاقتهم، ومن استشرف الفتنة أصابته.

والخلاصة : أنا مع مثل هذه الأبحاث لكن يجب أن تكون متوازية مع الإيمان وترسيخ القرآن في قلوب المؤمنين ، وإن عد ذلك
" مخالفة للحيادية " في البحث.

 
تساؤلي أخت سهاد، وإن بينت أن المقصد الأول من البحث ليس رد الشبهات، والسؤال عن شبهات المستشرقين التي وجدتها في هذا الموضوع، هل كانت ناتجة عن تسلسل تفكيري منطقي لديهم من قراءة هذه الروايات مع فراغ الحيّز الإيماني، أم غير ذلك؟! وإذا تقاربت (اعتراضات المؤمنين) مع (شبهات المغرضين) في بعض النقاط بناء على هذه الروايات، فما النقاط العلمية المنهجية التي تصلح لبناء حاجز فكري سليم ومنطقي يمنع من التحول من (نتيجة المؤمن) إلى (نتيجة الكافر)؟
وهل اعتمادنا للروايات التاريخية (غير المتعارضة) في (تاريخ جمع القرآن) ينحصر في هذه الزاوية، ام يتسع ليشمل روايات نزول القرآن على سبعة أحرف وغيرها، وما المقصود بضابط عدم التعارض؟ فهناك تفاوت في هذه المسألة كونها ترجع لاختلاف الأفهام، حيث يمكن أن يدخل التعارض الذي يرتفع، والتعارض الذي لا يرتفع؟!
آمل أن تكون تساؤلاتي نافعة لكم في بحثكم، وفقكم الله
 

ومن هذه الأسئلة والإشكالات:
- ما مصير صحف أبي بكر طيلة خلافة عمر رضي الله عنه وهي فترة طويلة نسبياً؟
لم أفهم مَورد هذا السؤال، وهل يُعد استشكالاً على الحقيقة؟
وما ثمرة البحث فيه؟
 
أخي عبد الله الأحمد إن ما يدخل على القلب من عدم الفهم أكبر مما قد يدخل من الفهم الصحيح وحديث أبي الذي ذكرته مثال ذلك فإنما دخل ما دخل على قلبه لعدم فهمه لقضية الأحرف السبعة فلما أخبره النبي صلى الله عليه وسلم بما خفي عنه سكنت نفسه. والبحث العلمي من أهل التخصص ليس استشرافاً للفتنة بل بالعكس غلقاً لِبابها، ولا ينبغي للبحث العلمي بحال أن يكون مفعماً بالعاطفة الدينية ويفتقر للحيادية وإلا أصبح من خطب الوعاظ والنُساك، والحق أن اليوم مع ثورة التكنولوجيا ما عاد أمر من الأمور حبيس قاعات أهل العلم وما عاد أحد يستشرف الفتنة بل الفتنة تدخل علينا من أقطارها، واتسع الخرق على الراقع والمعصوم من عصمه الله.
 
تساؤلي أخت سهاد، وإن بينت أن المقصد الأول من البحث ليس رد الشبهات، والسؤال عن شبهات المستشرقين التي وجدتها في هذا الموضوع، هل كانت ناتجة عن تسلسل تفكيري منطقي لديهم من قراءة هذه الروايات مع فراغ الحيّز الإيماني، أم غير ذلك؟! وإذا تقاربت (اعتراضات المؤمنين) مع (شبهات المغرضين) في بعض النقاط بناء على هذه الروايات، فما النقاط العلمية المنهجية التي تصلح لبناء حاجز فكري سليم ومنطقي يمنع من التحول من (نتيجة المؤمن) إلى (نتيجة الكافر)؟
وهل اعتمادنا للروايات التاريخية (غير المتعارضة) في (تاريخ جمع القرآن) ينحصر في هذه الزاوية، ام يتسع ليشمل روايات نزول القرآن على سبعة أحرف وغيرها، وما المقصود بضابط عدم التعارض؟ فهناك تفاوت في هذه المسألة كونها ترجع لاختلاف الأفهام، حيث يمكن أن يدخل التعارض الذي يرتفع، والتعارض الذي لا يرتفع؟!
آمل أن تكون تساؤلاتي نافعة لكم في بحثكم، وفقكم الله
أختي الكريمة شكر الله لك مرورك وتساؤلاتك مشروعة وسأجيب عنها بالترتيب:
-بعض نتائج المستشرقين ناتجة عن تسلسل منطقي في البحث وبعضها أدلجة وإسقاطات.
-أما عن تساؤلك عن النقاط المنهجية التي تصلح لبناء حاجز فكري سليم ومنطقي يمنع من التحول من (نتيجة المؤمن) إلى (نتيجة المستشرق) فالأمر بسيط مجرد ترك الإسقاطات، وسلامة المنهج ومناسبته لموضوع البحث، والتزام الموضوعية العلمية كفيل ببناء هذا الحاجز .
- أما عن سؤالك: وهل اعتمادنا للروايات التاريخية (غير المتعارضة) في (تاريخ جمع القرآن) ينحصر في هذه الزاوية، أم يتسع ليشمل روايات نزول القرآن على سبعة أحرف وغيرها؟ هناك فرق بين الروايات التاريخية والأحاديث، وروايات الأحرف السبعة أحاديث صحيحة ومنهج المحدثين منهج منضبط معروف في التعامل مع الأحاديث، ولعل من مقصود الموضوع الأصلي التفريق بين منهج المحدثين ومنهج المؤرخين.
-أما عن ضابط التعارض فهو التعارض الحقيقي ولعله ينطبق أكثر شيء على التناقض المنطقي، فيما عدا ذلك فكل تعارض ظاهري بين الروايات التاريخية يمكن رفعه بجمع أو تأويل أو اختلاف حال ومحل، وغيره.
حتى عند الأصوليين لا تطرح الرواية الضعيفة لصالح القوية لأن الإعمال أولى من الإهمال، فلماذا نطرح الروايات الأضعف لصالح الأقوى في موضوع تاريخ القرآن مع إمكان التوفيق.
أما قولك إن القضية تخضع لاختلاف الأفهام فنعم ولا، أما نعم فلأن بناء نظرية محكمة عقلية قوية لتاريخ جمع القرآن قد يخضع لقدرة الباحث على الحفر و الجمع والتركيب، ولا لأن العقل البشري المنطقي يصل تقريباً إلى نفس النتائج إذا تعامل مع نفس المعطيات وعليه فالنظرية التاريخية العقلية الأقوى هي التي ينبغي أن يُكتب لها البقاء.
 
لم أفهم مَورد هذا السؤال، وهل يُعد استشكالاً على الحقيقة؟
وما ثمرة البحث فيه؟
الدكتور الفاضل نعم هذا يعد إشكالاً حقيقياً أن يُفزع إلى أبي بكر رضي الله عنه ليجمع القرآن ويتم أهم مشروع في تاريخ المسلمين ثم لا نجد له ذكراً لأكثر من عشر سنوات وهي مدة خلافة عمر رضي الله عنه، فهذا لا يُتصور عقلاً.فلا يتم تعميم هذه الصحف مع الحاجة لها، ولا يتم نسخها إلى نسخ.
 
أخي عبد الله الأحمد إن ما يدخل على القلب من عدم الفهم أكبر مما قد يدخل من الفهم الصحيح وحديث أبي الذي ذكرته مثال ذلك فإنما دخل ما دخل على قلبه لعدم فهمه لقضية الأحرف السبعة فلما أخبره النبي صلى الله عليه وسلم بما خفي عنه سكنت نفسه. والبحث العلمي من أهل التخصص ليس استشرافاً للفتنة بل بالعكس غلقاً لِبابها، ولا ينبغي للبحث العلمي بحال أن يكون مفعماً بالعاطفة الدينية ويفتقر للحيادية وإلا أصبح من خطب الوعاظ والنُساك، والحق أن اليوم مع ثورة التكنولوجيا ما عاد أمر من الأمور حبيس قاعات أهل العلم وما عاد أحد يستشرف الفتنة بل الفتنة تدخل علينا من أقطارها، واتسع الخرق على الراقع والمعصوم من عصمه الله.
بارك الله فيك.
إن كان لديك علم لمواجهة هذه الشبهات فكلي آذان صاغية، وأنا كما قلت سابقاً
لا أعترض على مبدأ البحث العلمي في هذا الباب، لكن لدي إطارات معينة أفضل أن يُلتزم بها.
 
تاريخ جمع القرآن

الدكتور الفاضل نعم هذا يعد إشكالاً حقيقياً أن يُفزع إلى أبي بكر رضي الله عنه ليجمع القرآن ويتم أهم مشروع في تاريخ المسلمين ثم لا نجد له ذكراً لأكثر من عشر سنوات وهي مدة خلافة عمر رضي الله عنه، فهذا لا يُتصور عقلاً.فلا يتم تعميم هذه الصحف مع الحاجة لها، ولا يتم نسخها إلى نسخ.

وفق الله الأخت سهاد فيما هي مقبلة عليه من موضوع ماتع ومهم وهي أهل لخوض عبابه مع ما أبدته من توضيح لتصوّرها لطبيعته. بشأن هذه المسألة بالذات يبدو أن جمع زيد في عصر أبي بكر رضي الله عنه كان المقصود منه أن توجد نسخة ( تحت اليد) لم تظهر الحاجة إلى تعميمها الى ١٣-٢٠ سنة. [جمعا بين مذهب ابن حجر في أن حُذيفة فزع إلى عثمان سنة ٢٥ه ومذهب ابن الجزري في أن الجمع حصل بحدود ٣٠ ه] ويوجد سبب آخر ما عدا ظهور الحاجة إلى التعميم حين فزع حُذيفة إلى أمير المؤمنين عثمان ألا وهو عدم الإمكانية فعصر عمر رضي الله عنه كان عصر التعبئة العسكرية العامة وهي ظروف لا يذهب الظنّ إلى صلوحها لتعميم النسخة. أعني أنّ الظرف في عهد عثمان - مضافاً إليه ظهور الحاجة- كان أصلح لنشر النسخ على الأمة. وهذا ما يمكن أن تقولي بمثله في تحليلك ولكني دخلت حلقة نقاشكم التي هي أشبه بسمنار اونلاين لأدلي برأيي أن هذا التساؤل أقل إشكالاً من سواه تسليما بإشكال البواقي. ودعائي لكم بالتوفيق
 
وفق الله الأخت سهاد فيما هي مقبلة عليه من موضوع ماتع ومهم وهي أهل لخوض عبابه مع ما أبدته من توضيح لتصوّرها لطبيعته. بشأن هذه المسألة بالذات يبدو أن جمع زيد في عصر أبي بكر رضي الله عنه كان المقصود منه أن توجد نسخة ( تحت اليد) لم تظهر الحاجة إلى تعميمها الى ١٣-٢٠ سنة. [جمعا بين مذهب ابن حجر في أن حُذيفة فزع إلى عثمان سنة ٢٥ه ومذهب ابن الجزري في أن الجمع حصل بحدود ٣٠ ه] ويوجد سبب آخر ما عدا ظهور الحاجة إلى التعميم حين فزع حُذيفة إلى أمير المؤمنين عثمان ألا وهو عدم الإمكانية فعصر عمر رضي الله عنه كان عصر التعبئة العسكرية العامة وهي ظروف لا يذهب الظنّ إلى صلوحها لتعميم النسخة. أعني أنّ الظرف في عهد عثمان - مضافاً إليه ظهور الحاجة- كان أصلح لنشر النسخ على الأمة. وهذا ما يمكن أن تقولي بمثله في تحليلك ولكني دخلت حلقة نقاشكم التي هي أشبه بسمنار اونلاين لأدلي برأيي أن هذا التساؤل أقل إشكالاً من سواه تسليما بإشكال البواقي. ودعائي لكم بالتوفيق
جزاكم الله خيراً على مروركم وأعجبني تسميته سيمينار أون لاين فليكن كذلك، أما قولك: إن عدم الحاجة لنسخة أبي بكر وهي نسخة الدولة الرسمية لمدة عشر سنين أقل إشكالاً من سواه فهذا أمر نسبي، بل لعل هذا الإشكال هو المدخل لحل باقي الإشكالات، أو لعله الطريق لبناء نظرية أكثر تماسكاً في موضوع جمع القرآن.
 
نعم صحيح،
لم يكن هنالك حاجة لنشر (المصحف البكري) بأيدي الناس في زمن سيدنا عمر بن الخطاب وشطراً من زمن سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عن الصحابة أجمعين.
ولولا ظهور المشكلة في أرمينا التي أثارت انتباه حذيفة بن اليمان رضي الله عنه لبقي المصحف إلى عصور متأخرة في نسخته الوحيدة (البكرية).
أما المسوغ لوجود النسخة (البكرية) فهي ((نسخة رسمية)) تبقى في ديوان الدولة، يعني من باب التراتيب الإدارية.
فمثلاً: قد تحتفظ الدولة بنسخة من العقود المهمة كبيع الأراضي والوكالات والاتفاقيات.. ولا تظهرها إلا عند الحاجة.
وتجدر الإشارة بأن العصر العمري الراشد كان مهماً جداً في نشر القرآن الكريم وتعليمه للناس، فبعد انتهاء عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، انتقل عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالقرآن الكريم إلى الأمصار، وذلك في الفترة الزمنية بَينَ السنةِ الثانية عشرة من الهجرة ـ التي كُتِبَتْ فيها الصحف ـ، والسنة الخامسة والعشرين ـ التي نُسِخَتْ فيها المصاحف ـ حيث اتسعت بلاد الإسلام، وتضاعف عدد المسلمين، واحتاجوا إلى من يعلمهم القرآن الكريم، وتولى ذلك علماء القراءة من الصحابة. واستغرق ذلك معظم خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي أبدى اهتماماً عظيماً بتعليم الناس القرآن الكريم والفقه والعربية. فأرسل المعلمين إلى الأمصار لتعليم القرآن الكريم، فكان زيد بن ثابت وأبي بن كعب في المدينة، وعبد الله بن مسعود في الكوفة، وأبو موسى الأشعري في البصرة، وأبو الدرداء في دمشق، ومعاذ بن جبل في فلسطين، وعبادة بن الصامت في حمص. وتكوَّنت حول هؤلاء الصحابة مدارس لإقراء القرآن والتفسير والفقه، رضي الله عنهم أجمعين.

للتفصيل:
انظر: الطبقات الكبرى، ابن سعد 2 /345 و 2 /357 و6 /7.
 
يثير المستشرقون قضية عدم تدوين الوحي قبل الهجرة إلى المدينة ويربطونها بوثاقة النص القرآني وما هذا إلا لأنهم يرفعون قيمة الموثق كتابياً على المنقول بالتواتر، وفي ردة فعل على شبهات المستشرقين قطع بعض الباحثين مثل عبد الرحمن اسبينداري بتدوين كل ما نزل في مكة قبل الهجرة وقام بحشد أدلة التدوين في مكة وكلها أدلة طرأ عليها الاحتمال، ولا يمنع من الاستئناس ببعضها للقول بأن هناك تدويناً لكنه ليس بالضرورة غطى كل ما نزل في مكة.
وتنبع أهمية الموضوع من أن المكي ثلثا القرآن.
والحق أن أدلة الكتابة في العهد المكي أدلة ظنية محتملة يُستأنس بها ولا تصل إلى درجة القطعية، ومنها الآثار التي وردت عن إسلام عمر رضي الله عنه والصحيفة التي وجدها عند أخته، ومنها خبر رافع بن مالك وغيرها، وهذا لا يمنع أن بعض المقاطع القرآنية دونت وتم تداولها بطريقة مكتوبة في مكة أو قام كتبة الوحي بتدوين ما نزل في مكة بين يدي نبي الله في المدينة، ولا تسعف الروايات في القطع في هذا الموضوع.
والسؤال المشروع هنا هل عدم إمكان القطع بتدوين كامل ما نزل قبل الهجرة يؤثر في وثاقة نقل النص القرآني؟ أو لو افترضنا جدلاً أن آخر ما نزل من القرآن لم يدون بين يدي النبي عليه الصلاة فهل في جمع أبي بكر رضي الله عنه سيكون ما لم يتم تدوينه أقل وثاقة مما تم تدوينه بين يدي الرسول والكل متواتر النقل؟ مع العلم أن المحفوظ المتواتر المقروء حجة على المكتوب حتى زمننا هذا.
ما سبق يقود لفحص تاريخ جمع القرآن الكريم: بواعثه وأهدافه وآلياته الإجرائية في العصر الراشدي مجدداً وبمعزل عن شبهات المستشرقين، وفصل ما يمكن القطع فيه من الأدلة عن ما لا يمكن القطع فيه عند التصدي لرد الشبهات حتى لا تخرج الردود هزيلة ضعيفة تثبت الشبهة بدل استئصالها.
 
من الخطأ التسليم لهم بأن افتقارنا للدليل قطعي الثبوت والدلالة على كتابة (كل القرآن المكي قبل الهجرة) يعد دليلا على التحريف، فهذا ظلم وللزوم لما لا يلزم.
والقاعدة المنطقية تقول: عدم العلم بالشيء لا يعني العلم بالعدم.

فبما أن التواتر السمعي قد تحقق، ولم يختلف الصحابة فيما بينهم فيكفينا هذا كدليل، ولا يهم (إسقاطهم تحريف كتابهم المقدس) على كتابنا، فقرآننا ليس ككتابهم فإنه يُتلى آناء اليل وأطراف النهار، في الدروس، خطب الجمعة، الصلوات الجهرية، قيام الليل، للاستشفاء... الخ

وهذا لا يمنع من وجود أدلة على كتابة القرآن الكريم في الصحف زمن النبوة إضافة إلى حفظه المتواتر في الصدور ـ في عهد النبوة، ومنها:
أولاً: الأدلة من القرآن الكريم:
1. قال تعالى: " وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا " [الفرقان: 5].
ووجه الدلالة أن المشركين شاهدوا صحفاً مكتوب عليها آيات من القرآن الكريم، وقالوا: " اكْتَتَبَهَا " ولم يقولوا: " كتبها "، لأنهم يعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمي لا يكتب، بل يأمر غيره بالكتابة.
2. تكرار كلمة (الكتاب) في السور المكية، والتي تعني: القرآن الكريم. مثلاً: قال تعالى: " كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ" [الأعراف: 2]. وقال: " وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ " [النحل: 89].
ثانياً: السنة:
1. عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لَا تَكْتُبُوا عَنِّي، وَمَنْ كَتَبَ عَنِّي غَيْرَ الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ ".
2. وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لَا تُسَافِرُوا بِالْقُرْآنِ، فَإِنِّي لَا آمَنُ أَنْ يَنَالَهُ الْعَدُوُّ.. ".
3. وعن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه: ".. فَدَخَلْتُ عَلَى رَسُوْلِ الله صلى الله عليه وسلم فَسَأَلتُهُ مُصْحَفَاً كَانَ عِنْدَهُ، فَأَعْطَانِيْه ".
4. وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: " كُنَّا عِنْدَ رَسُوْلِ الله صلى الله عليه وسلم نُؤَلِّفُ القُرْآنَ مِنَ الرِّقاعِ... ".
5. قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ عن سورة الأنعام: " هِيَ مَكِيَّة، نَزَلَتْ جُمْلَةً وَاحِدَةً، نَزَلَتْ لَيْلَاً، وَكَتَبُوْهَا مِنْ لَيْلَتِهِمْ ".
ثالثاً: السيرة النبوية:
1. قصة إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
والشاهد فيها، أنه وجد عند أخته وزوجها صحيفة كتبت فيها سورة طه، كان خباب بن الأرت رضي الله عنه يعلمهما إياها. وهذا يدل على أن عادة خباب بن الأرت رضي الله عنه ، أخذ صحف من القرآن المكتوب، وتعليمها للمسلمين في بيوتهم.
2. قصة حَمْل رافع بن مالك رضي الله عنه صُحُفاً من مكة إلى المدينة:
لما لقي رافعٌ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بالعقبة، أعطاه ما أنزل عليه في عشر سنين خلت، وقدم به رافع المدينة، ثم جمع قومه فقرأ عليهم. وكان رافع بن مالك رضي الله عنه أول من قدم المدينة بسورة يوسف.
إذن، كان رافع رضي الله عنه يكتب آيات القرآن الكريم في مكة قبل الهجرة، وحمل معه الصُّحف المكتوبة إلى المدينة. وتعبير: "(أول) من قدِم المدينة بسورة يوسف "، يدل على أن هنالك ثان وثالث.
3. عن زيد بن ثابت رضي الله عنه: " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمْلَى عَلَيْهِ: " لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ". قَالَ: فَجَاءَهُ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ وَهُوَ يُمِلُّهَا عَلَيَّ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ أَسْتَطِيعُ الْجِهَادَ لَجَاهَدْتُ ـ وَكَانَ رَجُلًا أَعْمَى ـ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ وَفَخِذُهُ عَلَى فَخِذِي، فَثَقُلَتْ عَلَيَّ حَتَّى خِفْتُ أَنَّ تَرُضَّ فَخِذِي، ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: " غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ " ". وهذا الحديث نص قاطع على أن عناية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بتقييد القرآن الكريم كتابةً، كانت على الفور، مباشرة بعد نزول الآيات الكريمة، دون إبطاء (من أول لحظة نزوله).
4. قصة إسلام الشاعر الجاهلي الكبير لبيد بن ربيعة رضي الله عنه :
لبيد بن ربيعة رضي الله عنه ، كان من فرسان شعراء قريش في الجاهلية، ومن أصحاب المعلقات.
قيل: عُلِّقت قصيدة له على جدار الكعبة، وكانت من الروائع في بلاد العرب على عهد محمد صلى الله عليه وسلم ، لم يجرؤ أحد من الشعراء الآخرين على تقديم ما ينافسها. إلى أن علق بعض الصحابة صُحُفاً كُتِبت عليها آيات من القرآن الكريم بجانبها، ولم يكد لبيد رضي الله عنه يقرأ تلك الآيات حتى بهره الإعجاب بما قرأ، وقال: ما هذا بقول بشر، وأسلم من حينه.
5. كثرة الصُّحُف التي بين أيدي الصحابة الكرام، والتي اعتزَّ كلٌّ منهم أنه كتبها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيهم مَن أسلم في بداية العهد المكي. ولا يُعقَل أن يكونوا كتبوها جميعاً، في عهد أبي بكر رضي الله عنه
6. اشتراط زيد بن ثابت رضي الله عنه للشاهدين،
بماذا سيشهد الشاهدان؟؟
إنهما سيشهدان بأن كاتب النص القرآني كتبه في عهد النبوة تحت عيني رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حقق ذلك ابن حجر.

أعود للتذكير بأننا لا يعنينا ضرورة وجود أدلة يرتضيها المستشرقون على كتابة ((كل)) القرآن المكي قبل الهجرة؛ فاشتراطه لزومٌ لما لا يلزم، ولا يحق لهم أن (يُسقطوا) موقفهم من النقد الخارجي لكتبهم المقدسة على قرآننا الكريم.
ومن يتأمل نص حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع أخيه الخليفة الراشد أبي بكر الصديق رضي الله عنه يوم موقعة اليمامة، يتبين له أن خوف عمر رضي الله عنه كان من (موت القراء)، حَفَظَة القرآن في صدورهم، لا ذهاب المصحف مكتوباً. حيث كان مما قال: " إِنَّ الْقَتْلَ قَدْ اسْتَحَرَّ يَوْمَ الْيَمَامَةِ بِالنَّاسِ، وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ الْقَتْلُ بِالْقُرَّاءِ ".
يلزم من خوف عمر رضي الله عنه من ضياع القرآن بمقتل القراء: أن يكون القراء هم المصدر الأساس في نقل القرآن الكريم، وقد وافق أبو بكرٍ وزيد وجميع الصحابة على الذي رآه عمر ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ.
فالقراء هم مصدر التلقّي الأصح للقرآن الكريم، ولو كان مصدره هو الصُّحُف أو الكتابة: لما أهَمَّ ذلك عمر رضي الله عنه ، ولا غيره من الصحابة.
إن هذا يبيِّن أن المصدر الرئيس في نقل القرآن هو السماع لا الكتابة، لذا خشي من موت الحفظة الذين يحفظونه كما أُنْزِل، فلا بد من جمع القرآن من هؤلاء الحفظة، بالطريقة ذاتها التي حفظوه بها عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ولو كان الاعتماد في نقل القرآن على الصحف، لم يكن ثمة ما يدعو للانزعاج من استشهاد القراء والحفظة.
فما يضرُّ نقلَ القرآن الكريم إن قُتِل القراء جميعًا، وكان القرآن الكريم محفوظًا لديهم، في صحفٍ خاصةٍ ؟
بل المعوَّل عليه في نقل القرآن من السَّلف إلى الخلَف: روايته (سماعاً)، لا كتابةً (الصُّحُف). مصداقاً للحديث القدسي: " وَأَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَابًا لَا يَغْسِلُهُ الْمَاءُ، تَقْرَؤُهُ نَائِمًا وَيَقْظَانَ ".
فكان الصحابة الكرام يحرصون على تلقي القرآن مشافهة مِن في رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: " وَاللَّهِ لَقَدْ أَخَذْتُ مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِضْعًا وَسَبْعِينَ سُورَةً.. "،
مع الإكثار من تكرار الآيات والسور ليثبت الحفظ.
فعن أم هشام بنت حارثة الأنصارية ـ رضي الله عنها ـ قالت: " مَا حَفِظْتُ ق [أي سورة ق] إِلَّا مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، يَخْطُبُ بِهَا كُلَّ جُمُعَةٍ "..

لهذا كان القراء يقرؤون القرآن الكريم على مشايخهم حفظاً عشرات المرات، قبل أن يُقَرُّوا على حفظهم.
(انظر كتاب: السبعة في القراءات، أبو بكر بن مجاهد، ص88. وقبل ذلك، نبَّه إلى أنه تَرَكَ تلقي القرآن عمَّن " نسيَ سماعه ".
وما ضابط الذي " نسيَ سماعه " ؟ إنه مَن يخطيء في حركات الإعراب (ولو أحياناً )، إنْ قرأ مِن حِفظِهِ. انظر: ص46-48)
فقراءة القرآن سُنَّة، يأخذها الأول عن الآخر. والاعتماد على حفظ القلوب والصدور لحفظ القرآن الكريم، لا على خط المصاحف والكتب، أشرف خصيصة من الله تعالى لِهَذِهِ الأمة. (انظر: مقدمة كتاب: النشر في القراءات العشر، ابن الجوزي 1 /6)
" وحفظ القرآن الكريم في الصدور من أشرف خصائص القرآن الكريم، وليس هذا لكتاب غير القرآن، فالتوراة والإنجيل ترِك لأهلهما أمر الحفظ فاكتفوا بالقراءة دون الحفظ ـ إلا قلة لا تكاد تذكر ـ ولم تتوافر الدواعي لحفظهما كما توافرت لحفظ القرآن الكريم، ولم يكن لهما ثبوت قطعي كما هو للقرآن فسهل تحريفهما وتبديلهما.
تقول المستشرقة لورا فاجليري (L.Fagellery): إن " في مصر وحدها عدداً من الحفاظ، أكثر من عدد القادرين على تلاوة الأناجيل في أوروبا ". في حين قلّ بدرجة كبيرة اقتناء النصارى للإنجيل في بريطانيا، فطبقاً لأحد الإحصاءات الرسمية تقلصت نسبة البالغين الذين يقتنون (الكتاب المقدس) من 90% منذ ستين عاماً إلى 65%. ونجد أيضا أن التغيير فيه ما زال مستمراً، وكان آخره إصدار نسخة مختصرة منه منذ عدة أشهر في أستراليا قام بها القس البريطاني " هنتون " (Henton) بتلخيص الكتاب المكون من 66 جزءاً إلى ماسماه (بايبل [إنجيل] المائة دقيقة) بحيث يمكن قراءته كله في مائة دقيقة! ".
ولن تدع الأمة الخصيصة التي شرفها الله بها، فكان كما قال ابن تيمية : " الاعتماد في نقل القرآن على حفظ القلوب لا على المصاحف.. بخلاف أهل الكتاب الذين لا يحفظونه إلا في الكتب، ولا يقرؤونه كله إلا نظرًا، لا عن ظهر قلب".
مراعين شعار علماء الإسلام: " لا تأخذوا الحديثَ عن الصُّحُفيِّين، ولا تقرؤوا القرآنَ على الْمُصْحَفِيِّين ".
بهذا يتبين صدق ما قال الزرقاني: " المعوَّل عليه وقتئذٍ كان هو الحفظ والاستظهار، وإنما اعتمد على الكتابة كمصدر من المصادر؛ زيادة في الاحتياط، ومبالغة في الدقة والحذر ".
 
من الخطأ التسليم لهم بأن افتقارنا للدليل قطعي الثبوت والدلالة على كتابة (كل القرآن المكي قبل الهجرة) يعد دليلا على التحريف، فهذا ظلم وللزوم لما لا يلزم.
والقاعدة المنطقية تقول: عدم العلم بالشيء لا يعني العلم بالعدم.

فبما أن التواتر السمعي قد تحقق، ولم يختلف الصحابة فيما بينهم فيكفينا هذا كدليل، ولا يهم (إسقاطهم تحريف كتابهم المقدس) على كتابنا، فقرآننا ليس ككتابهم فإنه يُتلى آناء اليل وأطراف النهار، في الدروس، خطب الجمعة، الصلوات الجهرية، قيام الليل، للاستشفاء... الخ

وهذا لا يمنع من وجود أدلة على كتابة القرآن الكريم في الصحف زمن النبوة إضافة إلى حفظه المتواتر في الصدور ـ في عهد النبوة، ومنها:
أولاً: الأدلة من القرآن الكريم:
1. قال تعالى: " وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا " [الفرقان: 5].
ووجه الدلالة أن المشركين شاهدوا صحفاً مكتوب عليها آيات من القرآن الكريم، وقالوا: " اكْتَتَبَهَا " ولم يقولوا: " كتبها "، لأنهم يعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمي لا يكتب، بل يأمر غيره بالكتابة.
2. تكرار كلمة (الكتاب) في السور المكية، والتي تعني: القرآن الكريم. مثلاً: قال تعالى: " كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ" [الأعراف: 2]. وقال: " وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ " [النحل: 89].
ثانياً: السنة:
1. عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لَا تَكْتُبُوا عَنِّي، وَمَنْ كَتَبَ عَنِّي غَيْرَ الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ ".
2. وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لَا تُسَافِرُوا بِالْقُرْآنِ، فَإِنِّي لَا آمَنُ أَنْ يَنَالَهُ الْعَدُوُّ.. ".
3. وعن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه: ".. فَدَخَلْتُ عَلَى رَسُوْلِ الله صلى الله عليه وسلم فَسَأَلتُهُ مُصْحَفَاً كَانَ عِنْدَهُ، فَأَعْطَانِيْه ".
4. وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: " كُنَّا عِنْدَ رَسُوْلِ الله صلى الله عليه وسلم نُؤَلِّفُ القُرْآنَ مِنَ الرِّقاعِ... ".
5. قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ عن سورة الأنعام: " هِيَ مَكِيَّة، نَزَلَتْ جُمْلَةً وَاحِدَةً، نَزَلَتْ لَيْلَاً، وَكَتَبُوْهَا مِنْ لَيْلَتِهِمْ ".
ثالثاً: السيرة النبوية:
1. قصة إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
والشاهد فيها، أنه وجد عند أخته وزوجها صحيفة كتبت فيها سورة طه، كان خباب بن الأرت رضي الله عنه يعلمهما إياها. وهذا يدل على أن عادة خباب بن الأرت رضي الله عنه ، أخذ صحف من القرآن المكتوب، وتعليمها للمسلمين في بيوتهم.
2. قصة حَمْل رافع بن مالك رضي الله عنه صُحُفاً من مكة إلى المدينة:
لما لقي رافعٌ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بالعقبة، أعطاه ما أنزل عليه في عشر سنين خلت، وقدم به رافع المدينة، ثم جمع قومه فقرأ عليهم. وكان رافع بن مالك رضي الله عنه أول من قدم المدينة بسورة يوسف.
إذن، كان رافع رضي الله عنه يكتب آيات القرآن الكريم في مكة قبل الهجرة، وحمل معه الصُّحف المكتوبة إلى المدينة. وتعبير: "(أول) من قدِم المدينة بسورة يوسف "، يدل على أن هنالك ثان وثالث.
3. عن زيد بن ثابت رضي الله عنه: " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمْلَى عَلَيْهِ: " لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ". قَالَ: فَجَاءَهُ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ وَهُوَ يُمِلُّهَا عَلَيَّ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ أَسْتَطِيعُ الْجِهَادَ لَجَاهَدْتُ ـ وَكَانَ رَجُلًا أَعْمَى ـ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ وَفَخِذُهُ عَلَى فَخِذِي، فَثَقُلَتْ عَلَيَّ حَتَّى خِفْتُ أَنَّ تَرُضَّ فَخِذِي، ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: " غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ " ". وهذا الحديث نص قاطع على أن عناية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بتقييد القرآن الكريم كتابةً، كانت على الفور، مباشرة بعد نزول الآيات الكريمة، دون إبطاء (من أول لحظة نزوله).
4. قصة إسلام الشاعر الجاهلي الكبير لبيد بن ربيعة رضي الله عنه :
لبيد بن ربيعة رضي الله عنه ، كان من فرسان شعراء قريش في الجاهلية، ومن أصحاب المعلقات.
قيل: عُلِّقت قصيدة له على جدار الكعبة، وكانت من الروائع في بلاد العرب على عهد محمد صلى الله عليه وسلم ، لم يجرؤ أحد من الشعراء الآخرين على تقديم ما ينافسها. إلى أن علق بعض الصحابة صُحُفاً كُتِبت عليها آيات من القرآن الكريم بجانبها، ولم يكد لبيد رضي الله عنه يقرأ تلك الآيات حتى بهره الإعجاب بما قرأ، وقال: ما هذا بقول بشر، وأسلم من حينه.
5. كثرة الصُّحُف التي بين أيدي الصحابة الكرام، والتي اعتزَّ كلٌّ منهم أنه كتبها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيهم مَن أسلم في بداية العهد المكي. ولا يُعقَل أن يكونوا كتبوها جميعاً، في عهد أبي بكر رضي الله عنه
6. اشتراط زيد بن ثابت رضي الله عنه للشاهدين،
بماذا سيشهد الشاهدان؟؟
إنهما سيشهدان بأن كاتب النص القرآني كتبه في عهد النبوة تحت عيني رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حقق ذلك ابن حجر.

أعود للتذكير بأننا لا يعنينا ضرورة وجود أدلة يرتضيها المستشرقون على كتابة ((كل)) القرآن المكي قبل الهجرة؛ فاشتراطه لزومٌ لما لا يلزم، ولا يحق لهم أن (يُسقطوا) موقفهم من النقد الخارجي لكتبهم المقدسة على قرآننا الكريم.
ومن يتأمل نص حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع أخيه الخليفة الراشد أبي بكر الصديق رضي الله عنه يوم موقعة اليمامة، يتبين له أن خوف عمر رضي الله عنه كان من (موت القراء)، حَفَظَة القرآن في صدورهم، لا ذهاب المصحف مكتوباً. حيث كان مما قال: " إِنَّ الْقَتْلَ قَدْ اسْتَحَرَّ يَوْمَ الْيَمَامَةِ بِالنَّاسِ، وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ الْقَتْلُ بِالْقُرَّاءِ ".
يلزم من خوف عمر رضي الله عنه من ضياع القرآن بمقتل القراء: أن يكون القراء هم المصدر الأساس في نقل القرآن الكريم، وقد وافق أبو بكرٍ وزيد وجميع الصحابة على الذي رآه عمر ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ.
فالقراء هم مصدر التلقّي الأصح للقرآن الكريم، ولو كان مصدره هو الصُّحُف أو الكتابة: لما أهَمَّ ذلك عمر رضي الله عنه ، ولا غيره من الصحابة.
إن هذا يبيِّن أن المصدر الرئيس في نقل القرآن هو السماع لا الكتابة، لذا خشي من موت الحفظة الذين يحفظونه كما أُنْزِل، فلا بد من جمع القرآن من هؤلاء الحفظة، بالطريقة ذاتها التي حفظوه بها عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ولو كان الاعتماد في نقل القرآن على الصحف، لم يكن ثمة ما يدعو للانزعاج من استشهاد القراء والحفظة.
فما يضرُّ نقلَ القرآن الكريم إن قُتِل القراء جميعًا، وكان القرآن الكريم محفوظًا لديهم، في صحفٍ خاصةٍ ؟
بل المعوَّل عليه في نقل القرآن من السَّلف إلى الخلَف: روايته (سماعاً)، لا كتابةً (الصُّحُف). مصداقاً للحديث القدسي: " وَأَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَابًا لَا يَغْسِلُهُ الْمَاءُ، تَقْرَؤُهُ نَائِمًا وَيَقْظَانَ ".
فكان الصحابة الكرام يحرصون على تلقي القرآن مشافهة مِن في رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: " وَاللَّهِ لَقَدْ أَخَذْتُ مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِضْعًا وَسَبْعِينَ سُورَةً.. "،
مع الإكثار من تكرار الآيات والسور ليثبت الحفظ.
فعن أم هشام بنت حارثة الأنصارية ـ رضي الله عنها ـ قالت: " مَا حَفِظْتُ ق [أي سورة ق] إِلَّا مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، يَخْطُبُ بِهَا كُلَّ جُمُعَةٍ "..

لهذا كان القراء يقرؤون القرآن الكريم على مشايخهم حفظاً عشرات المرات، قبل أن يُقَرُّوا على حفظهم.
(انظر كتاب: السبعة في القراءات، أبو بكر بن مجاهد، ص88. وقبل ذلك، نبَّه إلى أنه تَرَكَ تلقي القرآن عمَّن " نسيَ سماعه ".
وما ضابط الذي " نسيَ سماعه " ؟ إنه مَن يخطيء في حركات الإعراب (ولو أحياناً )، إنْ قرأ مِن حِفظِهِ. انظر: ص46-48)
فقراءة القرآن سُنَّة، يأخذها الأول عن الآخر. والاعتماد على حفظ القلوب والصدور لحفظ القرآن الكريم، لا على خط المصاحف والكتب، أشرف خصيصة من الله تعالى لِهَذِهِ الأمة. (انظر: مقدمة كتاب: النشر في القراءات العشر، ابن الجوزي 1 /6)
" وحفظ القرآن الكريم في الصدور من أشرف خصائص القرآن الكريم، وليس هذا لكتاب غير القرآن، فالتوراة والإنجيل ترِك لأهلهما أمر الحفظ فاكتفوا بالقراءة دون الحفظ ـ إلا قلة لا تكاد تذكر ـ ولم تتوافر الدواعي لحفظهما كما توافرت لحفظ القرآن الكريم، ولم يكن لهما ثبوت قطعي كما هو للقرآن فسهل تحريفهما وتبديلهما.
تقول المستشرقة لورا فاجليري (L.Fagellery): إن " في مصر وحدها عدداً من الحفاظ، أكثر من عدد القادرين على تلاوة الأناجيل في أوروبا ". في حين قلّ بدرجة كبيرة اقتناء النصارى للإنجيل في بريطانيا، فطبقاً لأحد الإحصاءات الرسمية تقلصت نسبة البالغين الذين يقتنون (الكتاب المقدس) من 90% منذ ستين عاماً إلى 65%. ونجد أيضا أن التغيير فيه ما زال مستمراً، وكان آخره إصدار نسخة مختصرة منه منذ عدة أشهر في أستراليا قام بها القس البريطاني " هنتون " (Henton) بتلخيص الكتاب المكون من 66 جزءاً إلى ماسماه (بايبل [إنجيل] المائة دقيقة) بحيث يمكن قراءته كله في مائة دقيقة! ".
ولن تدع الأمة الخصيصة التي شرفها الله بها، فكان كما قال ابن تيمية : " الاعتماد في نقل القرآن على حفظ القلوب لا على المصاحف.. بخلاف أهل الكتاب الذين لا يحفظونه إلا في الكتب، ولا يقرؤونه كله إلا نظرًا، لا عن ظهر قلب".
مراعين شعار علماء الإسلام: " لا تأخذوا الحديثَ عن الصُّحُفيِّين، ولا تقرؤوا القرآنَ على الْمُصْحَفِيِّين ".
بهذا يتبين صدق ما قال الزرقاني: " المعوَّل عليه وقتئذٍ كان هو الحفظ والاستظهار، وإنما اعتمد على الكتابة كمصدر من المصادر؛ زيادة في الاحتياط، ومبالغة في الدقة والحذر ".
جزاكم الله خيراً على ما ذكرته وهو متفق عليه عند الباحثين، وهو مبسوط في الكتب التي ردت على المستشرقين، ما أردته من الموضوع الأصلي أن نبحث في تاريخ جمع القرآن في العصر الراشدي بعيداً عن ردات الفعل وبتجرد من مخاوف الطعن، وأن نتعامل مع الروايات التاريخية بمنهج المؤرخين.
 
لم تكن هناك حاجة في الماضي للتأليف في تاريخ الجمع، وكما قال أحد الإخوة في هذا الملتقى ينبغي عدم الخلط بين حفظ القرآن وحفظ تاريخ القرآن أو حفظ تاريخ جمع القرآن، لذا هنا لابد وأن نسلّم بـ إفتراض منطقي ننطلق منه في البحث وهو أن غياب هذا التأليف في الماضي وفي فترة التدوين بالذات كان نتيجة هيمنة العقل العملي وهذا ما تشير إليه تلك المقولة الشهيرة "لا أحب الخوض في ما ليس تحته عمل" لأنه من الناحية العملية تناقل القرآن عمل جمعي متواتر، أي حقيقة عملية واقعة، مؤطرة من ألفها إلى ياءها بإيمان راسخ، ومعرفة يقينية بضرورة ما يشهده الواقع، فلم تكن هناك حاجة للإهتمام بحفظ تاريخ (جمع) القرآن، وهل هناك في إطار الممارسة العقلية العملية حاجة إلى خطوات تثبت مثلا إستحالة الجمع بين النقيضين، أو كما ينسب إلى المتنبى "وليس يصح في الأفهام شيء إذا احتاج النهار الى دليل".

ولأن العقل يتطور بتراكم المعرفة أولا، وباتساع رقعة الممارسة العقلية ثانيا، أصبحت هناك حاجة إلى تجدد البحث في الموضوع لدراسة تلك الثغرات دراسة نقدية، وعملا بما قاله شيخ الاسلام بن تيمية: "ويجب أن يعلم أن الأمور المعلومة من دين المسلمين لا بد أن يكون الجواب عما يعارضها جوابا قاطعا لا شبهة فيه؛ بخلاف ما يسلكه من يسلكه من أهل الكلام فكل من لم يناظر أهل الإلحاد والبدع مناظرة تقطع دابرهم لم يكن أعطى الإسلام حقه ولا وفى بموجب العلم والإيمان ولا حصل بكلامه شفاء الصدور وطمأنينة النفوس ولا أفاد كلامه العلم واليقين".

في هذا السياق ومن أجل إخراج البحث في صيغة علمية، لابد من منهج علمي رصين. فنطرح أسئلة: كيف تمت عملية تأويل وشرح تلك الروايات؟ سنجمع هذه المعلومات. ما هي البحوث السابقة في الجمع بين تلك الروايات؟ وكيف أفادت مناهج المحدثين في دراسة تلك الروايات، وما هي الروايات التي لم تخضع للنقد الحديثي؟ أسئلة كهذه وغيرها من الأسئلة التي تسبح في نفس الفلك، تزود الباحث بكل شاردة وواردة وتشكل في البحث المدخل إلى موضوع البحث. هي معلومات طبعا. هذه هي المعلومات التي تفتقر إلى تحليل لإستخلاص النتائج وأثناء التحليل ستطرح أسئلة مثل: كيف الجمع بين الروايات؟ أو أين الروابط التي تربط بين الروايات، إلى غير ذلك. هنا سنحتاج إلى إطار أو مرجع نمارس فيه التحليل، على الأقل قاعدة وضابط.

القاعدة: مسلّمة في البحث (بدهية في التاريخ وعقيدة في الإيمان): الإفتراض المنطقي الذي أشرت إليه أعلاه.
الضابط: المعلومات والعوامل المتحكمة في التأويل.

عند التفكير في الضابط - وفي التطبيق ستكون ضوابط متعددة - سنرى ضرورة إستخلاص العوامل من الروايات الصحيحة، فدراسة هذه الروايات والربط بينها وشرح بعضها ببعض، خطوة أولية، قبل التفكير في غيرها من الرويات والتاريخ. لكن: ماذا عند تعارض الروايات التي خضعت للنقد الحديثي؟ سنركز على أصح الروايات والتي لا تعارض بينها، نستنتج منها المنطلقات التي ستساعد في تحليل غيرها من الروايات، وهكذا ننتقل من مستوى إلى آخر.
 
عودة
أعلى