بحث تعظيم المصحف للدكتور إبراهيم الحميضي
بحث تعظيم المصحف للدكتور إبراهيم الحميضي
تعظيم المـــصـــحــف
بحث مقدم للمشاركة في مؤتمر: المصاحف العثمانية وقراءات القرآن
الذي ينظمه: معهد دراسات المصاحف العثمانية والقراءات في الجمهورية الإسلامية الموريتانية
إعداد
د. إبراهيم بن صالح بن عبد الله الحميضي
الأستاذ المشارك بقسم القرآن وعلومه في جامعة القصيم
المقـدمـة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد:
فإن للقرآن الكريم منزلةً عظيمة ومكانة رفيعة، فهو كلام الله تعالى، وأفضل كتبه، وهو المعجزة الكبرى للنبي الخاتم صلى الله عليه وسلم، ولذلك جاءت النصوص الكثيرة بوجوب تعظيمه وحفظه وتقديسه وصيانته عن كل ما لا يليق به من قول أو فعل.
ولما كان هذا الكتاب الكريم مكتوباً في المصاحف كما هو محفوظ في الصدور= وجبت العناية بهذه المصاحف وتعظيمها واحترامها ؛لأنها وعاء للقرآن الكريم .
وقد بين العلماء - رحمهم الله - واجب المسلم تجاه المصحف، وتحدثوا عن أحكامه، وأوضحوا آداب التعامل معه، ذكروا ذلك في كتب علوم القرآن، وفضائل القرآن، وآداب حملته، وكتب الفقه، وغيرها.
وقد أحببت المساهمة في جمع بعض ما تفرق من مسائل هذا الموضوع، وتحرير ما يحتاج منها إلى تحرير، وتقريب ذلك لأهل القرآن المشتغلين بدراسته وقراءاته وحفظه، آملاً أن يكون ما كتبت معينا للمسلم على تعظيم المصحف وإجلاله بحيث يكون سلوكاً ملازماً له، مع التنبيه على جملة من الأخطاء التي يقع فيها بعض الناس في هذا الباب وسميته: ( تعظيم المصحف ).
وقد اشتمل هذا البحث على مقدمة، وتمهيد، وثمانية مباحث، وخاتمة، وهي كما يلي:
المقدمة: وفيها أهمية الموضوع،وسبب اختياره، وخطة البحث، ومنهجه.
التمهيد: وفيه تعريف تعظيم المصحف .
المبحث الأول : عناية الأمة بالمصحف.
المبحث الثاني : تعظيم المصحف واحترامه.
المبحث الثالث: حكم الطهارة لمسّ المصحف.
المبحث الرابع : فضل النظر في المصحف والنهي عن هجره.
المبحث الخامس : تحلية المصحف وتطييبه.
المبحث السادس :تقبيل المصحف.
المبحث السابع : أدب التعامل مع المصاحف التالفة أو التي لا ينتفع بها.
الخاتمة: وفيها أهم النتائج مع التوصيات.
وهذه المباحث - كما ترى- بعضها في تعظيم المصحف، وبعضها فيما يتنافى مع حرمته وإجلاله.
وقد سلكت في هذا البحث المنهج العلمي فوثَّقت النصوص، وخرجت الأحاديث والآثار، وذكرت أحكام الأئمة على ما ليس في الصحيحين منها، وشرحت الغامض، وعلقت على ما يحتاج إلى تعليق، ووازنت بين الأقوال المختلفة وذكرت الراجح منها.
ولم أتعرض لمسائل تعظيم القرآن الكريم، وإنما ذكرت ما يتعلق بتعظيم المصحف فقط.
وقد وأعرضت عن ذكر بعض المباحث، واختصرت الكلام فيما كتبت. تلبيةً لطلب الإخوة المنظمين للمؤتمر.
وفي الختام، أحمد الله تعالى على ما منَّ به عليَّ من إتمام هذا البحث المختصر، كما أشكر الإخوة القائمين على معهد دراسات المصاحف والقراءات على عنايتهم بكتاب الله تعالى .
وأسأل الله تعالى التوفيق والسداد في القول والعمل.
كتبه
د.إبراهيم بن صالح الحميضي
الأستاذ المشارك بقسم القرآن وعلومه
في جامعة القصيم
فاكس 0096663260196
[email protected]
التمهيد : تعريف تعظيم المصحف
تعريف التَّعْظِيْم
التعظيم في اللغة: التبجيل، والتشريف، والتفخيم.
قال ابن فارس: " الْعَيْنُ وَالظَّاءُ وَالْمِيمُ أَصْلٌ وَاحِدٌ صَحِيحٌ يَدُلُّ عَلَى كِبَرٍ وَقُوَّةٍ ".(1)
وقال ابن منظور: "التعظيم: التبجيل، والعَظَمَةُ: الكِبْرياءُ، وعَظَماتُ القَوْمِ: سادتُهم وَذَوُ شَرَفِهم "(2).
تعريف المصحف لغة:
المصحف بضم الميم (مُصحف) وهو الأشهر، ويجوز كسرها (مِصحف) وفتحها( مَصحف): اسم للصُّحف المكتوبة بين الدَفَّتين.(3)
قال الأزهري: "وإنما سمي المصحف مصحفاً؛ لأنه أُصْحِفَ، أي جُعل جامعاً للصُّحف المكتوبة بين دَفَّتين"(4).
تعريف المصحف اصطلاحاً:
ومن خلال التعريف اللغوي يتبين لنا أن المراد بالمصحف اصطلاحاً: اسم للصحف المجموعة التي كتب فيها القرآن الكريم.
"وقيل للقرآن مصحف؛ لأنه جُمع من الصحائف المتفرقة في أيدي الصحابة، وقيل: لأنه جَمع و حوى – بطريق الإجمال – جميع ما كان في كتب الأنبياء وصحفهم، لا بطريق التفصيل"(5).
وقد يكون المصحف حاوياً للقرآن كاملاً، وقد يكون حاوياً لبعضه.
والمراد بتعظيم المصحف: إجلاله وتكريمه واحترامه، وصيانته عما لا يليق بمن قول أو فعل.
المبحث الأول : عناية الأمة بالمصحف
إن مما يعين المسلم على تعظيم المصحف الشريف واحترامه معرفة عناية الأمة الإسلامية به منذ كتابته في عصر النبوة إلى يومنا هذا؛ حيث لم يحظَ كتابٌ من الكتب بمثل ما حظي القرآن الكريم من الحفظ والتقدير والخدمة، ومن ذلك العناية بالصحف التي تحويه ، وهذا من فضل الله - تعالى - على هذه الأمة؛ حيث تكفل بحفظ كتابها كما قال تعالى: ﭿ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝﭾ.(6)
وقد بدأت كتابة القرآن الكريم بعد نزوله، فقد كُتِبَ جميعُه في عهد النبي ؛ فكان إذا نزل على النبي شيء من القرآن دعا أحد كتاب الوحي من الصحابة الكرام -رضي الله عنهم- فكتبه، ولكنه لم يكن مجموعاً في مصحف واحد، بل كان متفرقاً .(7)
ولما وقعت معركة اليمامة المشهورة، واستحرّ(8) القتل في المسلمين، واستشهد منهم سبعون من القرَّاء؛ خاف عمر بن الخطاب ذهابَ القرآن بذهاب هؤلاء القرَّاء، ففزع إلى أبي بكر الصديق، وأشار عليه بجمع القرآن، فلم يوافقه أبو بكر في بداية الأمر متورعاَ أن يصنع شيئاً لم يصنعه رسول الله ، فلم يزل يراجعه حتى شرح الله صدره لذلك، فاختار أبو بكر لهذه المهمة الجليلة زيد بن ثابت فتتبع القرآن وجمعه من العسب، واللخاف ،والرقاع، ومن صدور الرجال، وكتبه في مصحف واحد، فكانت هذه الصحف المجموعة عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر، ثم عند حفصة بنت عمر - رضي الله عنهم-.(9)
وحينما اتسعت الفتوحات الإسلامية تفرق الصحابة في الأمصار، وأصبح أهل كل مصر يقرؤون بقراءة الصحابي الذي نـزل في مصرهم ،وفيها ما لم يثبت في العَرْضَةِ الأخيرة للقرآن، وأثناء فتح أذربيجان وأرمينية، في عهد عثمان - رضي الله عنه- اجتمع أهلُ الشام والعراق، فوقع بينهم الخلاف في كيفية قراءة القرآن، فلما رأى ذلك حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه- وكان معهم في ذلك الفتح = أفزعه ذلك وركب إلى عثمان- رضي الله عنه- في المدينة، وأخبره بما رأى ، وقال: يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، وكان عثمان قد رأى نحوا من ذلك عنده في المدينة، فأرسل إلى حفصة- رضي الله عنها-: أن أرسلي إلينا بالصُّحُف ننسخها في المصاحف، ثم نردها إليك، فأرسلت بها إليه فأمر زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص ،وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام - رضي الله عنهم- فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم، فلما نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصُّحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا ،وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يُحْرق.(10).
وقد كتب عثمان المصحف على حرف واحد من الأحرف السبعة التي نزل بها (11)، وكتبتْ مجردةً من النَّقط والشكل، لعدم الحاجة إلى ذلك في ذلك الوقت، ولكي تحتمل الأحرف الأخرى ، فإن لم تحتمل غير حرف واحد كتبت بلسان قريش.(12)
بقيت المصاحف العثمانية وما نسخ منها خاليةً من النقط والشكل مدة من الزمن، فلما توسعت الفتوحات الإسلامية، ودخلت أممٌ كثيرة في الإسلام وانتشرت العُجمة بين الناس، وكثر اللحن = خُشي أن ينتقل اللحن إلى القرآن، فوضعت علامات في المصحف يستعين بها الناس على الإعراب، فكان نقطُ الإعراب ( الشكل )، وهي نقط تدل على الفتح والضم والكسر ...
وبعد فترة أخرى احتاج الناس إلى علامات أخرى تميز لهم الحروف المتماثلة في الرسم، كالباء والتاء والثاء والياء، والجيم والحاء والخاء، والراء والزاي، والسين والشين ، فوضعت نقط الإعجام على صورة تختلف عن نقط الإعراب .
ثم بعد ذلك حصل عناء في التمييز بين نقط الإعراب ونقط الإعجام، وأخذ النُسَّاخ يفرقون بينها بألوان المداد، فقام الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت175هـ) بتبديل نقط الإعراب بعلامات التشكيل المعروفة: الفتحة، والضمة، والكسرة، والسكون، والشدة، والمدة، والصلة، والهمزة.(13)
وقد سمي هذا العلم - النَّقط والشَّكل – في العصور المتأخرة علمَ الضبط.(14)
ثم بعد ذلك تطورت المصاحف ووضعت فيها رموز أخرى للوقوف، والأحزاب، وكيفية أداء بعض الكلمات، ومواضع السجدات، وغير ذلك ،مع الالتزام بالرسم العثماني وعلامات الإعراب والإعجام(15).
وقد حث أهل العلم على العناية بكتابة المصاحف وضبط حروفها وتحسين خطوطها(16).
وبعد ظهور المطابع في العصر الحديث(17) اهتم المسلمون بأمر طباعة المصحف، وكونت اللجان المتخصصة لمراجعتها وإجازتها، وتنافست الدول والهيئات والمؤسسات في إنتاج المصاحف في غاية الضبط والإتقان والجودة.
المبحث الثاني: تعظيم المصحف واحترامه
أجمع المسلمون على وجوب تعظيم المصحف واحترامه، وتنزيهه، وصيانته عما لا يليق به؛ لأنه يجمع بين دفَّتيه كلام الله تعالى، وأجمعوا على أن من استخف بالمصحف، أو أهانه أو ألقاه في القاذورات متعمداً فهو كافر.(18)
قال الإمام القاضي عياض - رحمه الله-: "اعلم أن من استخَفَّ بالقرآن، أو بالمصحف، أو بشيء منه، أو سبَّهما، أو جحد حرفاً منه أو آية، أو كذَّب به أو بشيء مما صُرِّح به فيه من حكم أو خبر، أو أثبت ما نفاه، أو نفى ما أثبته وهو عالم بذلك، أو شكَّ في شيء من ذلك، فهو كافر عند أهل العلم بإجماع"(19).
واستقصاء صور الاستخفاف والانتقاص للمصحف يطول، ولكنْ يقال: إن كل قول أو فعل فيه امتهان للمصحف أو استخفاف به محرم، هذا إذا لم يقصد الإنسان به الاستخفاف، فإن قصد ذلك فهو كافر بالإجماع كما تقدم، ولا يمكن أن يقدم على ذلك مؤمن، لكن قد يحصل من بعض المسلمين بعض الأعمال التي فيها سوء أدب مع المصحف لجهل أو تهاون أو غير ذلك، فالواجب على المسلمين ولا سيما قراء القرآن الحذرُ الشديد من ذلك، وتنبيهُ من يقع منه إخلال بحق المصحف الشريف.
قال القرطبي : "ومنها- أي من آداب قارئ القرآن- : إذا قرأ في المصحف ألا يتركه منشورا ، وألا يضع فوقه شيئا من الكتب ولا ثوبا(20) ولا شيئا خطيرا أو حقيراً، حتى يكون بهذا محفوظا مكنوناً عاليا لسائر الكتب وغيرها ..."(21)، وفيما يلي ذكر لبعض المسائل المهمة في هذا الباب أسوقها على سبيل الاختصار، مع الإعراض عن الخلاف غير المعتبر في بعض فروعها :
1- الدخول بالمصحف لمكان قضاء الحاجة:
اختلف أهل العلم في هذه المسألة :
فمنهم من قال بتحريم إدخال المصحف أو جزء منه في أماكن قضاء الحاجة لغير ضرورة، ؛ إجلالاً لكتاب الله تعالى و صيانة له عن أماكن النجاسات والقاذورات.
ومنهم من قال بالكراهة.
والراجح – والله أعلم – القول الأول؛ صيانة لكتاب الله - تعالى – من الدنس والقذر.
أما إن وجدت هنالك ضرورة، كأن لم يجد من يودعه إياه، أو خاف عليه السرقة ، أو التلف، أو الوقوع بيد كافر يدنسه، ونحو ذلك، فقد أجاز بعض العلماء الدخول به(22).
2- الاتكاء على المصحف وتوسُده والوطء عليه ومدُّ الرجل إليه وتَخَطِّيه ووضعه على الأرض(23):
نصِّ جمع من أهل العلم على تحريم الاتكاء على المصحف، وتوسُده، والوطء عليه(24)،وتَخَطِّيه، ومدُّ الرجل إليه؛ لأن ذلك ينافي تكريمه واحترامه(25) وأما وضعه على الأرض فإن كان لغير حاجة وخشي عليه من الامتهان حَرُم.
قال القرطبي: "ومنها- أي آداب قارئ القرآن- أن يضعه في حًجْرِه إذا قرأه أو على شيء ولا يضعه على الأرض"(26).
وإن كان لحاجة كأن يضعه قريباً منه ليسجد للتلاوة أو نحو ذلك ,وأمن عليه من الوطء والامتهان جاز على الراجح - والله أعلم-؛ لأن الحكم يدور مع علته.
ويلحق بهذه الأمور ما شابهها من أخذه بالشمال، أو وضعه خلف الظَّهر، أو الكتابة عليه من غير حاجة، أو بقلم لا يمكن مسحه، أو وضعه مفتوحا مقلوبا، ونحو ذلك من الصور التي يصعب حصرها.
والملاحظ أن بعض الناس لا يبالي بمثل هذه الأمور، ولا ينكر على مَن فعلها، كما نرى ذلك في بعض المساجد والمدارس، فالواجب على كل مسلم احترام هذا الكتاب العزيز، والنصح لم يقع منه إخلال بما يجب له من الإجلال والتعظيم.
3- تصغير المصحف :
يراد بتصغير المصحف أمران:
أحدهما: تصغير اسم المصحف لفظاً؛ بأن يقال: مصيحف، ونحو ذلك.
والثاني: تصغير خط المصحف وحجمه.
وقد وردت آثار عديدة عن السلف في النهي عن الأمرين؛ لأن ذلك ينافي تعظيم المصحف وإجلاله، بل قد يشعر بالاستخفاف به.
فعن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه- أنه وجد مع رجل مصفحًا قد كتبه بقلم دقيق، فقال ما هذا؟ قال: القرآن كله، فكره ذلك وضربه وقال: عظموا كتاب الله تعالى، وكان عمر إذا رأى مصحفا عظيما سُرَّ به(27) .
وعن علي أنه كان يكره أن يكتب القرآن في الشيء الصغير(28).
وعن إبراهيم بن يزيد النخعي أنه قال: "كانوا يكرهون أن يكتبوا المصاحف في الشيء الصغير، يقول: عظموا كتاب الله"(29).
وعن مجاهد قال:"كان يكره أن يقول: مصيحف أو مسيجد"(30).
وعن سعيد بن المسيب قال: "لا يقول أحدكم مصيحف أو مسيجد، ما كان لله فهو عظيم حسن جميل"(31).
قال القرطبي: "ومن حرمته ألا يصغر بكتابة ولا باسم".(32)
وقد اختلف العلماء في النهي الوارد في هذه الآثار ، فمنهم من حمله على التحريم ومنهم من حمله على الكراهة.(33)
هذا ويمكن أن يعبَّر عن المراد بلفظ لا يشعر بانتقاص المصحف، كأن يقال: مصحف ذو حجم أو أوراق صغيره أو خفيفة، ونحو ذلك.
وأما كتابته بحرف صغير، فإن كان بخط تسهل قراءته، وتمييز رسمه وضبطه فلا بأس بذلك لحاجة بعض الناس إليه، وإن كان بخط دقيق تصعب قراءته ولا ينتفع به كالمصاحف التي لا تقرأ إلا بمكبر، وقد كتبت للتباهي ولفت الأنظار فهذا مكروه والله أعلم.
4- تلويث المصحف وبلُّه بالريق:
نصًّ أهل العلم على تحريم تلويث المصحف بأي نوع من الملوثات ولا سيما إذا كان مستقذراً، وألْحَق بذلك بعض أهل العلم بلَّ الأصبع بالريق عند تقليب صفحاته، كما يفعل بعض الناس؛ لأن ذلك نوع امتهان للمصحف مع مخالفتها للذوق السليم.
قال ابن العربي المالكي: "وقد اعتاد كثير من الناس إذا أرادوا أن يقرؤوا في مصحف أو كتاب علم يطرقون البزاق عليهم ، ويلطخون صفحات الأوراق ليسهل قلبها ! وهذه قذارة كريهة ، وإهانة قبيحة ينبغي للمسلم أن يتركها ديانة.."(34).
وقال ابن الحاج فيما يجب على مؤدب الأطفال: "ويتعين عليه أن يمنع الصبيان مما اعتاده بعضهم من أنهم يمسحون الألواح أو بعضها ببصاقهم وذلك لا يجوز; لأن البصاق مستقذر؛ وفيه امتهان ، والموضع موضع ترفيع وتعظيم وتبجيل ، فيُجل عن ذلك ويُنزَّه" (35)
5- السفر بالمصحف إلى أرض العدو:
ورد النهي عن السفر بالمصحف إلى أرض العدو كما في حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى أن يسافر بالمصحف إلى أرض العدو"، وفي رواية: "مخافة أن يناله العدو"(36)، وقد اختلف العلماء في هذه المسألة ؛ فمنهم من أجاز السفر به إلى دار الحرب مطلقاً، ومنهم من قال بالمنع مطلقاً، ومنهم من حمل النهي على الكراهة إذا خِيف عليه، ومنهم حرم السفر به إذا خيف أن يناله الكفار بمكروه، فإن لم يُخفْ ذلك جاز ذلك، وهذا هو الراجح، لدلالة الرواية الثانية: " مخافة أن يناله العدو" والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً"(37).
المبحث الثالث : حكم الطهارة لمسِّ المصحف
إن من تعظيم المصحف واحترامه الآَّ يمسَّه المسلم إلا على طهارة تامة.
وقد ذهب عامة أهل العلم إلى أنه لا يجوز للمحدث حدثاً أكبر أن يمس المصحف ، ولم يخالف في ذلك سوى أهل الظاهر(38) .
وأما المحدث حدثاً أصغر فقد اُختلف فيه على قولين:
القول الأول: ذهب أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين، والفقهاء السبعة ، والأئمة الأربعة ، وغيرهم(39) إلى أنه لا يجوز للمحدث أن يمس المصحف ، واستدلوا بما يلي:
1- استــدل كثير منهم بقوله تعالى (40) .
قال النووي : " واحتج أصحابنا بقول الله تعالى : (41) ، فوصفه بالتنْزيل، وهذا ظاهر في المصحف الذي عندنا ، فإن قالوا : المراد اللوح المحفوظ لا يمسه إلا الملائكة المطهرون ، ولهذا قال : بضم السين على الخبر ، ولو كان المصحف لقال يمسَّه بفتح السين على النهي .
فالجواب أن قوله تعالى : ظاهر في إرادة المصحف ، فلا يحمل على غيره إلا بدليل صحيح صريح ، وأما رفع السين فهو نهي بلفظ الخبر كقوله : (42) على قراءة من رفع(43).. " (44) .
وقال الباجي عند قوله تعالى : : " هذا نهي وإن كان لفظه لفظ الخبر ، فمعناه الأمر ؛ لأن خبر الباري تعالى لا يكون بخلاف مخبره ، ونحن نشاهد من يمسه غير طاهر " (45) .
ومن العلماء من ضعَّف الاستدلال بهذه الآية(46)، وهم القائلون المراد بالكتاب : اللوح المحفوظ ، والمطهرون الملائكة، وهو هو قول جمهور المفسرين(47)، لكن شيخ الإسلام ابن تيمية استدل بهذه الآية من وجه آخر وهو: "أن القرآن الذي في اللوح المحفوظ: هو القرآن الذي في المصحف ، كما أن الذي في هذا المصحف هو الذي في ذلك المصحف بعينه سواء كان المحل ورقاً أو أديماً أو حجراً أو لخافاً(48)، فإذا كان من حكم الكتاب الذي في السماء أن لا يمسه إلا المطهرون= وجب أن يكون الكتاب الذي في الأرض كذلك ؛ لأن حرمته كحرمته ، أو يكون الكتاب اسمَ جنس يعمُّ كل ما فيه القرآن سواء كان في السماء أو الأرض وقد أوحى إلى ذلك قوله تعالى: (49)، وكذلك قوله تعالى : (50) ، فوصفها أنها مطهرة ، فلا يصلح للمحدث مسها"(51) .
2-كما استدل أصحاب هذا القول بالسنة ، والعمدة في ذلك كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمرو بن حزم – رضي الله عنه - ، وفيه : " لا يُمَس القرآن إلا على طُهر " (52) .
قال ابن عبد البر : " وكتاب عمرو بن حزم هذا تلقاه العلماء بالقبول والعمل ، وهو عندهم أشهر وأظهر من الإسناد الواحد المتصل ، وأجمع فقهاء الأمصار الذين تدور عليهم الفتوى ، وعلى أصحابهم بأن المصحف لا يمسه إلا الطاهر " (53) .
وقال شيخ الإسلام عن هذا الكتاب : " وهو كتاب مشهور عند أهل العلم"(54) .
3ـ واستدل أصحاب هذا القول أيضاُ بالمعقول ، فقالوا إن في اشتراط الطهارة لمس المصحف إكراماً للقرآن وتعظيما له(55)
القول الثاني: ذهب بعض العلماء إلى أنه يجوز للمحدث حدثاً أصغر أن يمس المصحف، وهو مروي عن بعض السلف(56)، وبه قال الظاهرية.(57)
ومن أدلتهم :
1 - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث دحية الكلي- رضي الله عنه- إلى هرقل عظيم الروم بكتاب يدعوه فيه للإسلام ، وفيه قول الله تعالى : (58) (59) ، فإذا جاز مس الكافر له ، فالمسلم المحدث من باب أولى(60) .
ويجاب عن هذا بأن هذا الكتاب لا يسمى مصحفاً ، ولا تثبت له حرمته ؛ إذ ليس فيه سوى آية ، ولا يقصد منه التلاوة ، ومن العلماء من خص ذلك بقصد تبليغ الدعوة(61).
2 - أنه لم يثبت النهي عن مس المصحف لا في الكتاب ولا في السنة ، فيبقى الحكم على البراءة الأصلية ، وهي الإباحة(62) .
ويجاب بعدم التسليم ، فقد ثبت في السنة النهي عن ذلك ، وتقدم ذكر كتاب عمروبن حزم ، وقد ورد بمعناه أحاديث وآثار أخرى(63) .
والراجح – والله أعلم – القول الأول ، وهو ما ذهب إليه عامة أهل العلم ؛ لقوة أدلته، وضعف أدلة القول الثاني.
المبحث الرابع: فضل النظر في المصحف والنهي عن هجره
من آداب المصحف قراءته والنظر فيه وعدم هجره، والمراد بهجر المصحف هنا: ترك النظر فيه وقراءته غفلةً وتهاوناً، وليس المراد هجر القرآن بترك تدبره والعمل به والتحاكم إليه(64).
و النظر في المصحف من أجل تلاوته وحفظه وتعاهده مستحبة.
وقد وردت أحاديثُ عديدة في فضل النظر في المصحف، لكنْ لم يثبت منها شيء.(65)
وثبت عن جمع من الصحابة الحثُّ على إدامة النظر في المصحف.
ففي صحيح مسلم عن شقيق قال: قال عبد الله: "تعاهدوا هذه المصاحف، وربما قال القرآن، فلهو أشد تفصيا من صدور الرجال من النَّعم من عُقُلِه، قال وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا يقلْ أحدكم نسيتُ آية كيت وكيت بل هو أُنسي"(66).
وعنه- رضي الله عنه- أنه قال: "أديموا النظر في المصحف"(67)
قال ابن كثير: "فهذه الآثار تدل على أن هذا أمر مطلوب ؛ لئلا يُعَطَّل المصحف فلا يقرأ منه ، ولعله قد يقع لبعض الحفظة نسيان فيستذكر منه، أو تحريف كلمة أو آية ، أو تقديم أو تأخير ، فالاستثبات أولى ، والرجوع إلى المصحف أثبت من أفواه الرجال"(68).
وقال ابن الجوزي: "وينبغي لمن كان عنده مصحف أن يقرأ فيه كل يوم آيات يسيرة لئلا يكون مهجوراً"(69).
وقال القرطبي: "قال العلماء: فائدة القراءة من الحفظ قوة الحفظ، وثبات الذكر ، وهي أمكن للتفكر فيه، وفائدة القراءة في المصحف الاستثبات، لا يخلط بزيادة حرف ، ولا إسقاط حرف ، أو تقديم آية أو تأخيرها، وأيضا فإنه يعطي عينيه حظها منه ؛ فإن العين تؤدي إلى النفس، وبين النفس والصدر حجاب، والقرآن في الصدر، فإذا قرأ عن ظهر قلبه فإنه يسمع أذنه فيؤدي إلى النفس، وإذا نظر في الخط كانت العين والأذن قد اشتركتا في حق المصحف؛ لأن المصحف لم يتخذ ليهمل، وله على الانفراد حق، فلا يقرأ إلا على طهارة ، ألا ترى المحدث منهي عن مسه، وكانت القراءة أولى وأفضل"(70).
قلت: إذا كان الإنسان متقنا للحفظ وكان يقرأ عن ظهر قلب، فلا يظهر في تركه النظر كراهة؛ لكنْ إذا كان المصحف لا يُحتاج إليه ينبغي أن يدفع إلى من ينتفع به، ولا يترك مهجوراً، كما هو الحال في كثير من البيوت والمساجد .
المبحث الخامس: تحلية المصحف وتطييبه
يرى بعض أهل العلم أن من تعظيم المصحف وتكريمه تحْلِيَتَهُ، وتَطْييبه، وهما مسألتان اختلف فيهما العلماء، وإليك أقوال العلماء فيهما.
المسألة الأولى: تحلية المصحف بالذهب والفضة
اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال متعددة يمكن أن نجملها في قولين:
القول الأول: ذهب جمهور العلماء إلى عدم جواز تحلية المصحف بالذهب والفضة، على اختلاف بينهم في ذلك؛ حيث ذهب بعضهم إلى التحريم، وذهب آخرون إلى الكراهة ، ومنهم من فصَّل في ذلك فأجاز التحلية بالفضة دون الذهب، ومنهم من أجاز ذلك للرجال دون النساء، ومنهم من خصَّ المنع بالورق المكتوب به دون الجلد، ومنهم من قال بالعكس(71).
واستدل القائلون بالمنع بأدلة منها:
1- الآثار الواردة عن الصحابة- رضي الله عنهم- في الوعيد على من فعل ذلك، ومنها:
أ- ما رُوي عن أبي بن كعب - رضي الله عنه- أنه قال: " إذا حليتم مصاحفكم وزَوَّقتم(72)مساجدكم فالدَّمار عليكم" (73).
وفي هذا الأثر وعيد على من حلَّى المصحف، وله حكم الرفع؛ حيث إن مثله لا يقال بالرأي.
ب - وما روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما- أنه كان إذا رأى المصحف قد فُضِّض أو ذُهِّب قال: " أتغرون به السارق؟ وزينه في جوفه"(74).
وفي هذا الأثر أيضاً نهي عن تحلية المصحف.
2-كما استدلوا على ذلك من جهة النظر فقالوا: إن في تحلية المصاحف بالذهب والفضة سَرَفاً وتضييعاً للمال، ولأنها بمنزلة الآنية، وقد ثبت تحريم آنية الذهب والفضة.
وأما تخصيص المنع بالرجال فلم اطلع له على دليل ، إلا أن يكون بناء التفريع على إباحة التحلي للنساء، وهذا غير وجيه؛ حيث إن إباحة الذهب والفضة للنساء مخصوص بحلي الزينة فقط.
وأما تخصيص المنع بالذهب دون الفضة فلأن السنة جاءت بالتخفيف في الفضة ولا سيما إذا كانت يسرة(75).
القول الثاني: أن تحلية المصحف بالذهب والفضة(76) جائزة، ومن أدلة هذا القول:
1- بعض الآثار الواردة عن بعض السلف- رضي الله عنهم- في الترخيص في ذلك، ومنها ما رُوي عن محمد بن سيرين أنه كان يسأل عن تحلية المصحف، فيقول : لا أعلم به بأسا ، وكان يحب أن يزيَّن المصحف ، وتُجاد علاقته، وصنعه، وكل شيء من أمره(77).
ويناقش بأنه ورد النهي عن ذلك عن بعض الصحابة كما سبق، ولعل من قال بالجواز من التابعين لم يبلغه المنع.
2- أن في تحليته إكراماً له.
قال الزركشي: " ويجوز تحليته بالفضة إكراماً له على الصحيح ... وأما الذهب فالأصح يباح للمرأة دون الرجل، وخص بعضهم الجواز بنفس المصحف دون علاقته المنفصلة عنه، والأظهر التسوية"(78).
ويناقش بأن التكريم مشروط بما ليس فيه مخالفة للنصوص والآثار الثابتة، وهو غير متحقق هنا.
والأظهر – والله أعلم- القول الأول وهو عدم جواز تحلية المصحف بالذهب والفضة مطلقاً؛ لقوة أدلته، وأما من قال بالجواز فقد رأى أن ذلك من باب تكريم المصحف المأمور به، ولكنْ هذا غير مسلم لما يترتب عليه من المفاسد، ولأن فيه مخالفة للأدلة المانعة من استعمال الذهب والفضة إلا ما ورد الدليل بحله.
ومما يؤيد هذا القول بالمنع أن الناظر في حال المصاحف المذهَّبة اليوم يجد أنها تتخذ للمباهاة، وتوضع في المتاحف والمعارض في صناديق محكمة، ولا يقرأ فيها.
المسألة الثانية: تطييب المصحف
المراد بتطييب المصحف وضع الطِّيب عليه أو بين أوراقه لتحسين رائحته، وقد اختلف العلماء في حكم تطييب المصحف على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن تطييب المصحف مكروه، ورُوي عن بعض السلف، ومنهم مجاهد؛ حيث أثر عنه أنه كان يكره الطيب والتعشير في المصحف(79).
ويناقش بأن هذا الأثر ضعيف.
القول الثاني: أن تطييب المصحف مستحب.
قال الزركشي: " ويستحب تطييب المصحف، وجعله على كرسيّ... إكراما له على الصحيح (80).
ويمكن أن يناقش بعدم التسليم؛ حيث إن ذلك قد يؤدي إلى تبذير المال ولا سيما إذا كان هذا الطيب غالي الثمن، ثم إنه قد يؤثر على أوراق وحروف المصحف.
القول الثالث: أن تطييب المصحف مباح، لعدم ورود الدليل على الاستحباب أو المنع(81).
و الأظهر - والله أعلم- القول الأخير، وهو أن تطييب المصحف مباح، لعدم الدليل الصحيح على الاستحباب أو المنع، لكن ْ يقيد ذلك بعدم الإسراف، وعدم الإضرار بأوراق المصحف، أو إحداث بُقَع عليه. وأما إذا وجد مقتضٍ للتطييب كأن يصيب المصحف شييء يفسد رائحته فالاستحباب ظاهر - والله أعلم-.
المبحث السادس : تقبيل المصحف
يرى بعض أهل العلم أن من آداب المصحف تقبيله تكريماً له، وهي مسألة اختلف فيهما العلماء، وإليك أقوال العلماء فيها.
القول الأول: أن تقبيل المصحف مستحب.(82)
قال الزركشي: "ويستحب تقبيل المصحف؛ لأن عكرمة بن أبى جهل أنه كان يقبله، وبالقياس على تقبيل الحجر الأسود، ولأنه هدية لعباده فيشرع تقبيله كما يستحب تقبيل الولد الصغير..."(83)
وأدلتهم كما ذكرها الزركشي وغيره ما يلي:
1- ما روي عن عكرمة بن أبي جهل - رضي الله عنه- أنه كان يضع المصحف على وجهه ويقول: "كتاب ربي، كتاب ربي"(84).
ونوقش: بأنه ضعيف، وليس فيه ذكر للتقبيل.
2- القياس على استحباب تقبيل الحجر الأسود(85).
ونوقش: بأن تقبيل المصحف عبادة، والعبادات توقيفية لا يدخل فيها القياس.(86)
3- ولأنه هدية من الله لعباده فيشرع تقبيله كما يستحب تقبيل الولد الصغير.
ونوقش: بأن هذه دعوى لا دليل عليها فلا تقبل(87)
القول الثاني: أن تقبيل المصحف مباح.(88)
واستدلوا على ذلك بالأثر السابق عن عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه. فظاهر الأثر: أن عكرمة رضي الله عنه كان يضع المصحف على وجهه، ويقبِّله، مما يدل على إباحته.
ونوقش: بأنه غير ظاهر الدلالة، فكل ما فيه أنه كان يضع المصحف على وجهه، وهذا لا يلزم منه تقبيله له.(89)
وقد سئل الشيخ ابن باز رحمه الله عن ذلك، فأجاب: "لا نعلم دليلا على شرعية تقبيله، ولكن لو قبله الإنسان فلا بأس؛ لأنه يروى عن عكرمة بن أبي جهل الصحابي الجليل -رضي الله تعالى عنه- أنه كان يقبل المصحف ويقول هذا كلام ربي ، وبكل حال التقبيل لا حرج فيه ولكن ليس بمشروع وليس هناك دليل على شرعيته ، ولكن لو قبله الإنسان تعظيما واحتراما عند سقوطه من يده أو من مكان مرتفع فلا حرج في ذلك ولا بأس إن شاء الله" (90) .
القول الثالث: أن تقبيل المصحف بدعة مكروهة.
وتقدم في المسألة السابقة قول ابن الحاج: "فتعظيم المصحف قراءته والعمل بما فيه، لا تقبيله ..".
واستدلوا على ذلك بما يلي:
1- أنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن صحابته رضي الله عنهم، إلا ما روي عن عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه، وهو ضعيف، وليس في التصريح بأنه كان يقبله.(91)
2- ما ورد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما قبل الحجر الأسود أنه قال:"إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع , فلولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقبلك ما قبلتُك(92)، حيث لم يقدم – رضي الله عنه- على تقبيل الحجر مع فضله وشرفه وكونه من شعائر الله إلا بسنة ثابتة(93)
القول الرابع: التوقف في تقبيل المصحف.(94)
واستدلوا على ذلك بأن تقبيل المصحف وإن كان فيه رفعة وإكرام له إلا أنه لم يدل دليل على مشروعيته، وما طريقه القُرب إذا لم يكن للقياس فيه مدخل لا يستحب فعله – وإن كان فيه تعظيم – إلا بدليل(95).
قال ابن تيمية: " القيام للمصحف وتقبيله لا نعلم فيه شيئاً مأثوراً عن السلف... "(96).
و قال ابن مفلح : " ويجوز تقبيل المصحف ، قدمه في الرعاية وغيرها ، وعنه – أي عن الإمام أحمد - يستحب؛لأن عكرمة بن أبي جهل كان يفعل ذلك ، رواه جماعة منهم الدارمي وأبو بكر بن عبد العزيز ، وعنه التوقف فيه، وفي جعله على عينيه، قال القاضي في الجامع الكبير : إنما توقف عن ذلك وإن كان فيه رفعة وإكرام ، لأن ما طريقه القرب إذا لم يكن للقياس فيه مدخل لا يستحب فعله وإن كان فيه تعظيم إلا بتوقيف ، ألا ترى أن عمر لما رأى الحجر قال : لا تضر ولا تنفع ، ولولا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قبلك ما قبلتك ، وكذلك معاوية لما طاف فقبل الأركان كلها أنكر عليه ابن عباس ، فقال : ليس في البيت شيءٌ مهجور ، فقال : إنما هي السنة(97)، فأنكر عليه الزيادة على فعل النبي - صلى الله عليه وسلم."(98)
والراجح – والله أعلم – القول الثاني ، وهو أن تقبيل المصحف مباح؛ لعدم وجود دليل صحيح صريح في الندب إليه أو المنع منه، فيبقى على الأصل وهو الإباحة، والقول بأنه بدعة غير وجيه في رأيي؛ لأن هذا العمل نوع تقدير واحترام للمصحف وهو مأمور به في الجملة، ما لم يقيد بوقت أو هيئة معينة أو يرتب عليه أجر معين، ولا يقاس على الأحجار والآثار الأخرى وإن كانت كريمة كالحجر الأسود؛لأنه يجب للمصحف من الاحترام والتعظيم ما لا يجب لها.
المبحث السابع: أدب التعامل مع المصاحف التالفة أو التي لا ينتفع به
المصاحف السليمة التي يمكن الانتفاع بها على الوجه الصحيح لا يجوز إتلافها، وإن لم يحتج إليها فإنها تنقل إلى من يحتاجها من المسلمين.
قال ابن عبد الهادي: "ولا يجوز دفن مصحف صحيح ولا غسله"(99)، أما إن كان المصحف بالياً أو ممزقا، أو أصابته نجاسة لا يمكن تطهيرها، أو فيه خلل ظاهر في رسمه وضبطه فإنه يشرع إتلافه.
وقد اختلف العلماء في كيفية إتلاف المصاحف عند وجود سببه:
فذهب بعضهم إلى أنها تحرَّق، واستدلوا بما ثبت عن عثمان رضي الله عنه حينما جمع المصحف، أنه أمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرَّق.(100)
وذهب آخرون إلى أنها لا تحرق(101)؛ لأن ذلك لا يليق بكلام الله بل يتلف بغير الحَرْق(102)، فتدفن في مكان طاهر، واختلفوا في تمزيقها أو غسلها ومحوها قبل دفنها(103).
وقد ورد أن عثمان – رضي الله عنه – دفن المصاحف بين القبر والمنبر(104).
وعن إبراهيم النخعي أنه قال: "كانوا يأمرون بورق المصاحف إذا بلي أن يدفن"(105).
وقد تقدم أن إحراق عثمان - رضي الله عنه- للمصاحف ثابت في صحيح البخاري.
وقد جمع بعض العلماء بين الروايتين بأن الصحابة حرَّقوها أولاً ثم دفنوها(106).
قال الحافظ ابن حجر: "ويجمع بأنه صنع بالصحف جميع ذلك من تشقيق، ثم غسل، ثم تحريق"(107).
وأما ما ورد من غسل الآيات ومحوها قبل دفنها فعلى تقدير منع الحرق فإنه غير مناسب لهذا العصر حيث لا يتأتى المقصود منه مع هذه المصاحف المطبوعة.
هذا والناظر في المصاحف اليوم يجد أن عامة تلفها هو سقوط أوراقها أو انفتاح جلدها وهذا يمكن إصلاحه ولله الحمد، وهذا ما قامت به بعض المؤسسات الخيرية.
وينبغي الحذر من رمي أوراق المصاحف مع غيرها من الأوراق، أو وضعها في سلال المهملات مهما كانت حالتها، بل يحتسب المسلم في التخلص منها بالطريق المشروع بحرقها ثم دفنها في مكان طاهر، أو يدفعها إلى من يقوم بذلك من المسلمين.
الخـاتمـة
وفي الختام، ومن خلال دراسة هذه المباحث المختصرة، يمكن أن أجمل ما توصلت إليه فيما يلي:
1) وجوب تعظيم واحترام المصحف والتأدب معه، وتحريم إهانته بأي وجه من الوجوه.
2) اهتمام الأمة الإسلامية بالمصاحف وإجلالها لها وخدمتها على مرِّ العصور إلى يومنا هذا ولله الحمد.
3) النهي عن هجر المصحف غفلةً وتهاوناً.
4) أن حرمة المصحف باقية وإن تلف أو تمزق.
وهذه بعض التوصيات التي أرجو أن تكون معينةً على احترام المصحف والتأدب معه :
1. تعليم الناس، ولا سيما طلاب المدارس والحلقات القرآنية، تعظيم المصحف وآداب التعامل معه.
2. تربية الأجيال على التعظيم المعنوي للمصحف، وذلك بإجلال ما يحتوي عليه من كلام الله عز وجل.
3. أوصي المسؤولين عن المصاحف طباعةً أو توزيعاً أو بيعاً أو تعليماً، في الشؤون الإسلامية، والقطاعات التعليمية، والجمعيات الخيرية، وغيرها، بالعناية بها، وصيانتها عما لا يليق بها، ووضع النظم اللازمة لاحترامها، ومعالجة ما يتلف منها.
4. يجب على ولاة أمور المسلمين إيقاع العقوبات الشرعية بمن يتعمد إهانة المصحف من الزنادقة والسحرة وغيرهم، وعدم التهاون معهم.
وفي الختام، أسأل تعالى أن يعيننا على تعظيم كتابه الكريم والعمل به ، إنه سميع قريب. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
فهرس الموضوعات
الموضوع الصفحة
المقدمة 2
التمهيد : تعريف آداب المصحف 5
المبحث الأول : عناية الأمة بالمصحف 7
المبحث الثاني : تعظيم المصحف واحترامه 11
المبحث الثالث: حكم الطهارة لمسِّ المصحف 17
المبحث الرابع : فضل النظر في المصحف والنهي عن هجره 22
المبحث الخامس : تحلية المصحف وتطييبه 24
المبحث السادس : تقبيل المصحف ..................................... 28
المبحث السابع : أدب التعامل مع المصاحف التالفة أو التي لا ينتفع بها 32
الخـاتمـة 34
فهرس الموضوعات 35