بسم1
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.أما بعد؛ فهذه ورقات جمعتها في موضوع:
القياس في القراءات وموقف القراء منه
وسأستغني في هذا المقام عن تمهيد في تعريف القياس في اللغة، وفي اصطلاح النحويين والأصوليين والمناطقة، وأدخل في الموضوع رأسا، وأجعله في مبحثين:
المبحث الأول: أقسام القياس في القراءات.
المبحث الثاني: موقف القراء من القياس
وهذا أوان الشروع في المقصود، وعلى الله قصد السبيل.
المبحث الأول: أقسام القياس في القراءات.
كثر كلام القراء في القياس، وتباينت عباراتهم حوله، وقد نظرت فيما تيسر منها فخرجت بأقسام أربعة اشتمل عليها كلامهم، وها هي:• القسم الأول: حمل ما روي على نظيره المروي:
وهذا يمكن تسميته بالقياس المؤكِّد، ويكثر دوره في كتب القراءات، خصوصا عند تعرضها للاحتجاج والتوجيه، أو الاختيار بين الأوجه، ولم أر من منعه، ولا ثمت داع إلى منعه. مثال ذلك قول الإمام الداني - رحمه الله – معلقا على إدغام وإظهار واو ﴿هو﴾ المضموم الهاء: "وبالوجهين قرأت ذلك، وأختار الإدغام لاطراده وجريه على قياس نظائره، وقد رواه نصا عن اليزيدي ابنه وابن سعدان والسوسي"( ).
• القسم الثاني: حمل فروع لم ترو على أصولها المروية.
المقصود بهذا النوع أن يوجد فرع من فروع القراءة لم يرد نصٌّ عن الأئمة في كيفية قراءته، فيرجعه العلماء إلى أصله المطرد، وهذا واقع في كتب القراءات، وأكثر من احتفل به علماء الغرب الإسلامي، وله أمثلة وافرة في كتبهم، وهو الذي يعنيه الإمام مكي بقوله: "فجميع ما ذكرناه في هذا الكتاب ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
قسم قرأت به ونقلته، وهو منصوص في الكتب موجود.
وقسم قرأت به وأخذته لفظا أو سماعا، وهو غير موجود في الكتب.
وقسم لم أقر به ولا وجدته في الكتب، ولكن قسته على ما قرأت به؛ إذ لا يمكن فيه إلا ذلك عند عدم الرواية في النقل والنص، وهو الأقل، وقد نبهت على كثير منه في مواضع مضت"( ).
ويقول عنه الإمام الداني في آخر كتاب الإبانة له: "وكثير مما ذكرنا في كتابنا هذا، من أحكام الراءات واللامات، النص فيه معدوم عن الأئمة، وإنما بينا ذالك وشرحناه، ولخصنا جليه وخفيه، قياسا علي الأصول التي ورد النص فيها، وحملا عليها، لحاجتنا إليه، واضطرارنا إلى معرفة حقيقته. والقياس على الأصول وحمل الفروع عليها سائغ في سائر الأحكام وغيرها عند الجميع، وقد أذن الله عز وجل بذلك في قوله: ﴿لعلمه الذين يستنبطونه منهم﴾، ولا يلتفت إلى من غلط، وبعد إدراك تمييز ذلك عن فهمه من منتحلي القراءات، فأنكر ما حددناه وبيناه، وحكمنا عليه بالقياس الصحيح، والاستنباط الواضح، لعدم وجود أكثر ذلك مصنفا في كتب من تقدم من علمائنا، ومن تأخر من مشايخنا، إذ ذلك غير لازم في ذلك، ولا قادح فيه لما بيناه"( ).
ولا يخفاك أن قوله: "والقياس على الأصول وحمل الفروع عليها سائغ في سائر الأحكام وغيرها عند الجميع" واضح في حكاية الاتفاق على الأخذ بهذا النوع من القياس، وقد أكد هذا الاتفاق العلامة القيجاطي فقال: "واعلم أن القياس في أوجه القراءات ليس متروكا بإطلاق، بل لابد منه عند الاضطرار والحاجة إليه فيما لم يرد فيه نص صريح عن بعض القراء، أو عن جملتهم، فإن كان له أصل ثابت عند القراء يرجع إليه فإن الشيوخ من أهل الأداء متفقون على رده إليه، وذلك كثير في باب الراءات واللامات، وقد نص الحافظ أبو عمرو والشيخ أبو محمد مكي وغيرهما من شيوخ أهل الأداء علي جواز استعماله. وإن كان له أصلان عند القراء فيختلف الشيوخ من أهل الأداء على أي الأصلين يحمل"( ).
وللمزيد من أمثلة هذا القسم وأقوال العلماء فيه ينظر ما جمعه العلامة المنتوري في شرحه على الدرر اللوامع( )، فقد أجاد وأفاد رحمة الله عليه.
• القسم الثالث: حمل ما لم يرو مطلقا على ما روي:
ما لم يرو مطلقا أعني به ما لم ترد عينه ولا أصله، ومثاله ما ذكره البعض من ترقيق راء ﴿مريم﴾ وراء ﴿المرءِ﴾ أخذا بالقياس، قال الإمام أبو عبد الله الفاسي: "وكأنهم قاسوا كسرة همزة ﴿المرء﴾ على كسرة راء ﴿شرر﴾ حيث كانتا قويتين؛ لكونهما في حرف قوي، وقاسوا استشعار الثقل فيه على استشعار الثقل في نحو ﴿القرءان﴾ و﴿الظمآن﴾ حيث ترك ورش المد لأجله، وقاسوا الياء الواقعة بعد الراء الساكنة على الكسرة الواقعة قبلها، وجميع ذلك لا أثر له مع ضعف النص أو عدمه"( ).
ومن هذا النوع ما يكون قياسا مع الفارق، ومنه قول الإمام مكي متحدثا عما يجوز رومه وإشمامه في الوقف: "من ذلك ميم الجمع، وقد أغفل القراء الكلام عليها، والذي يجب فيها على قياس شرطهم أن يجوز فيها الروم والإشمام؛ لأنهم يقولون: لا فرق عندهم بين حركة الإعراب وحركة البناء في جواز الروم والإشمام..." ثم قال: "ومما يقوي جواز ذلك فيها نصهم على هاء الكناية - فيما ذكرنا - بالروم والإشمام، فهي مثل الهاء..."( ).
فهذا قياس مع الفارق في نظر المحقق ابن الجزري الذي يقول: "وشذ مكي فأجاز الروم والإشمام في ميم الجمع لمن وصلها قياساً على هاء الضمير، وانتصر لذلك وقواه. وهو قياس غير صحيح؛ لأن هاء الضمير كانت متحركة قبل الصلة، بخلاف الميم، بدليل قراءة الجماعة، فعوملت حركة الهاء في الوقف معاملة سائر الحركات، ولم يكن للميم حركة، فعوملت بالسكون، فهي كالذي تحرك لالتقاء الساكنين"( ).
• القسم الرابع: حمل ما لم يرو على ما لم يرو:
هذا هو الذي سماه الإمام ابن الجزري القياس المطلق، قال – رحمه الله – متحدثا عن ما يُرَد من القراءات: "وبقي قسم مردود أيضا،ً وهو ما وافق العربية والرسم ولم ينقل ألبتة، فهذا رده أحق، ومنعه أشد، ومرتكبه مرتكب لعظيم من الكبائر، وقد ذكر جواز ذلك عن أبي بكر محمد بن الحسن بن مقسم البغدادي المقري النحوي... وقد عقد له بسبب ذلك مجلس ببغداد حضره الفقهاء والقراء، وأجمعوا على منعه، وأوقف للضرب، فتاب ورجع، وكتب عليه بذلك محضر... ومن ثم امتنعت القراءة بالقياس المطلق، وهو الذي ليس له أصل في القراءة يرجع إليه، ولا ركن وثيق في الأداء يعتمد عليه... ولذلك كان الكثير من أئمة القراءة، كنافع وأبي عمرو، يقول: لولا أنه ليس لي أن أقرأ إلا بما قرأت لقرأت حرف كذا كذا، وحرف كذا كذا"( ).
المبحث الثاني: موقف القراء من القياس
سبقت الإشارة إلى أن القسم الأول، وهو حمل ما روي على نظيره المروي، لم أجد من رده، وليس ثمت داع لرده؛ لأنه مجرد مؤكد للرواية.كما سبقت الإشارة إلى أن القسم الثاني، وهو حمل فروع لم ترو على أصولها المروية، حكى الاتفاق على قبوله والأخذ به الداني والقيجاطي، وأنقل هنا كلام ابن الجزري عنه في النشر حيث قال: " أما إذا كان القياس على إجماع انعقد، أو عن أصل يعتمد، فيصير إليه عند عدم النص وغموض وجه الأداء، فإنه مما يسوغ قبوله ولا ينبغي رده، لاسيما فيما تدعو إليه الضرورة، وتمس الحاجة، مما يقوي وجه الترجيح، ويعين على قوة التصحيح، بل قد لا يسمى ما كان كذلك قياساً على الوجه الاصطلاحي؛ إذ هو في الحقيقة نسبة جزئي إلى كلي، كمثل ما اختير في تخفيف بعض الهمزات لأهل الأداء وفي إثبات البسملة وعدمها لبعض القراء... وكذلك قياس ﴿قال رجلان﴾ ﴿وقال رجل﴾ على ﴿قال رب﴾ في الإدغام كما ذكره الداني وغيره، ونحو ذلك مما لا يخالف نصّاً، ولا يرد إجماعاً ولا أصلاً "( ).
ولم أر من رد هذا النوع من القياس غير باحث معاصر اشتد جدا في رده، وتبرأ منه في بحث منشور له على الشبكة( ).
أما ما وقع في كلام بعض العلماء من إطلاقهم منع القياس، مثل قول الإمام الشاطبي:
وَمَا لِقِيَاسٍ فِي الْقِرَاءة مَدْخَلٌ=فَدُونَكَ مَا فِيهِ الرِّضاَ مُتَكَفِّلاَ( )
فلا بد من تقييده بما عدا القسمين الأولين؛ والسياق يدل على ذلك، وكذلك استعمال الإمام الشاطبي للقياس وأمره به في موضع آخر من الحرز، قال العلامة المنتوري: "وقد تبين بمخالفة الشاطبي لأهل الأداء في الوقف على ﴿تترا﴾ في قراءة أبي عمرو، وأخذه فيه بالقياس أن قوله:
وَمَا لِقِيَاسٍ فِي الْقِرَاءة مَدْخَلٌ=فَدُونَكَ مَا فِيهِ الرِّضاَ مُتَكَفِّلاَ
ليس على العموم، وإنما هو مخصوص بالمسألة التي تكلم عليها، وهي قوله:
وَمَا بَعْدَهُ كَسْرٌ أَوِ الْيَا فَمَا لَهُمْ=بِتَرْقِيقِهِ نَصٌّ وَثِيقٌ فَيَمْثُلاَ( )
كما فسره شيخنا الأستاذ أبو عبد الله القيجاطي رضي الله عنه"( ).
وأما القياس في القسمين: الثالث والرابع فهو القياس الممنوع الذي حذر من ركوبه العلماء، قال العلامة القيجاطي: "لا يقرأ بكل ما صح في القياس، وإنما يقرأ بما صحت روايته، وثبت له أصل في الرواية يرد إليه عند عدم الرواية والنص"( ).
هذا ما تيسرت كتابته في هذا الموضوع، وأسأل الله تعالى العفو والعافية، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
وكتب
محمد ايت عمران 14 ربيع الأول 1434هـ
محمد ايت عمران 14 ربيع الأول 1434هـ