الحسن محمد ماديك
New member
القراءات القرآنية : النشأة والتطور
بسم الله الرحمان الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه وبعد :
فإن بحثا بعنوان " القراءات القرآنية : النشأة والتطور" ليحتاج إلى :
تقديم : لمناقشة العلاقة الجدلية بين: القرآن والقراءات .
كما يحتاج لمعرفة مراحل تطور علم القراءات إلى الحديث بشيء من التفصيل عن خمس طبقات هي :
الطبقة الأولى : الآخذون عن الصحابة بأداء المصاحف العثمانية.
الطبقة الثانية : القراء ورواتهم
الطبقة الثالثة : مدرسة ابن مجاهد : المصنفون من طرق الرواة
الطبقة الرابعة : مدرسة ابن الجزري
الطبقة الخامسة : ما بعد ابن الجزري إلى عصرنا الحاضر .
وكذلك يحتاج البحث إلى :
خاتمة : لمناقشة موانع إخراج مصاحف مطابقة لقراءات الصحابة الذين رافقوا
المصاحف العثمانية
تقديم : لمناقشة العلاقة الجدلية بين القرآن والقراءات
إن القرءان وهو كلام الله المنزل على النبي الأمي المكتوب بين دفتي المصحف لمتواتر جملة وتفصيلا كلمة كلمة حرفا حرفا كما بينت في بحثي " إثبات تواتر القرآن دون الحاجة إلى اللهجات والقياس في القراءات " .
وأما القراءات فقد نشأت أول ما نشأت في القرن الثاني بعد نزول القرآن أي نشأت باجتهاد من القراء والرواة والطرق عنهم لتفسير مسألتين اثنتين :
1. الأحرف السبعة التي أنزل عليها القرآن
2. تعليل الاختلاف في رسم المصاحف العثمانية
ولقد شرع المتقدمون من أئمة القراءات في القرن الثاني والثالث بعد نزول القرآن في إدخال وإدراج من لهجات العرب كالإدغام والإمالة وتسهيل الهمز والروم والإشمام في أداء القرآن ، وتتبعوا كل قاعدة نحوية أو لهجة عربية وردت في بعض كلمات القرآن فقاسوا عليها نظائرها في سائر القرآن .
وهكذا أقول بالمغايرة بين لفظي القرآن والقراءات لأن القراءات قد تضمنت الضعيف والشاذ والوهم والوضع الذي منه القياس .
ولإثبات ذلك فلنستمع إلى اعترافات أئمة القراءات أنفسهم بهذه الحقيقة كاملة :
قال أبو شامة في كتابه المرشد الوجيز " فإن القراءات المنسوبة إلى كل قارئ من السبعة وغيرهم منقسمة إلى المجمع عليه والشاذ انتهى من النشر (1/10)
وقال عمرو ابن الحاجب "والسبعة متواترة فيما ليس من قبيل الأداء كالمد والإمالة وتخفيف الهمز ونحوه" اهـ من النشر (1/13) .
وقال أبو الحسن علي بن عبد الكافي السبكي "... وهكذا التفصيل في شواذ السبعة فإن عنهم شيئا كثيرا شاذا " اهـ من النشر (1/44 ).
وفي غاية النهاية لابن الجزري أن مصطلح القراءة الشاذة وقع في القرن الثاني وأن أبا حاتم السجستاني روى أن هارون الأعور العتكي البصري ت170 هـ هو أول من تتبع الشاذ من القراءات وبحث عن أسانيدها .
قلت : إن مدلول الشذوذ في القراءات يشمل :
1. الشذوذ عن المصاحف العثمانية
2. والشذوذ عن القياس في لسان العرب
3. والشذوذ عن الأداء والطريق الواحدة .
وإنما قصدت في هذا البحث الشذوذ عن الأداء .
واتسع الخرق بإكثار المصنفين من طرق الرواة من الروايات والقراءات إذ جمع الداني عن القراءات السبع أكثر من خمسمائة طريق وجمع الأهوازي كثيرا من المشهور والشاذ وجمع الهذلي في الكامل خمسين قراءة وألفا وأربعمائة وتسعة وخمسين رواية وطريقا ومثله الطبري بمكة وجمع الأسكندري سبعة آلاف رواية وطريق قال ابن الجزري في النشر (1/35) ولا زال الناس يؤلفون في كثير القراءات وقليلها ويروون شاذها وصحيحها بحسب ما وصل إليهم أو صح لديهم ولا ينكر أحد عليهم بل هم في ذلك متبعون سبيل السلف حيث قالوا القراءة سنة متبعة يأخذها الآخر عن الأول وما علمنا أحدا أنكر شيئا قرأ به الآخر إلا ما قدّمنا عن ابن شنبوذ لكنه خرج عن المصحف العثماني وللناس في ذلك خلاف كما قدمناه وكذا ما أنكر على ابن مقسم من كونه أجاز القراءة بما وافق المصحف من غير أثر كما قدّمنا وأما من قرأ بالكامل للهذلي أو سوق العروس للطبري أو إقناع الأهوازي أو كفاية أبي العز أو مبهج سبط الخياط أو روضة المالكي ونحو ذلك على ما فيه من ضعيف وشاذ عن السبعة والعشرة وغيرهم فلا نعلم أحدا أنكر ذلك ولا زعم أنه مخالف لشيء من الأحرف السبعة بل ما زالت علماء الأمة وقضاة المسلمين يكتبون خطوطهم ويثبتون شهاداتهم في إجازاتنا بمثل هذه الكتب والقراءات اهـ بلفظه .
ولعلنا على مضض تجرعنا اعتراف أئمة القراءات والمصنفين منهم بتسرب الشذوذ والوهم والضعف إلى القراءات عموما دونما استثناء للسبع والعشر وغيرهما .
وليت المعاصرين يكتشفون الأدلة التي أباحت لمن وصفهم ابن الجزري رحمه الله بالعلماء وقضاة المسلمين فأفتوا بجواز قراءة القرآن بقراءات ضعيفة وشاذة عن السبعة والعشرة يقرأ بها حتما من قرأ القرآن بمضمن كتاب الكامل للهذلي وسوق العروس للطبري وإقناع الأهوازي وكفاية القلانسي ومبهج سبط الخياط وروضة المالكي وغيره من أمهات النشر أي كتب المصنفين من طرق الرواة .
قلت : ولا يعني تضمن القراءات الشذوذ أنها متواترة فيما لا شذوذ فيه فهيهات أن يكون الأمر كذلك إذ اعترف أئمة القراءات بعدم تواترها ودافعوا عن هذه الحقيقة بدافع الدفاع عن تعدد الروايات والقراءات لا غير .
قال ابن الجزري في النشر(1/13) "وقد شرط بعض المتأخرين التواتر في هذا الركن ولم يكتف فيه بصحة السند وزعم أن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر وأن ما جاء مجيء الآحاد لا يثبت به قرآن وهذا مما لا يخفى ما فيه فإن التواتر إذا ثبت لا يحتاج فيه إلى الركنين الأخيرين من الرسم وغيره إذ ما ثبت من أحرف الخلاف متواترا عن النبي وجب قبوله وقطع بكونه قرآنا سواء وافق الرسم أم خالفه وإذا اشترطنا التواتر في كل حرف من حروف الخلاف انتفى كثير من أحرف الخلاف الثابت عن هؤلاء السبعة وغيرهم" اهـ
قلت : وهكذا تخلى ابن الجزري ومن سبقه عن ركن التواتر حفاظا على كثير من الأداء في القراءات السبع والعشر أي بدافع الحرص على تعدد الروايات والقراءات وليس لأجل حفظ القرآن المحفوظ المتواتر قبل نشأة القراءات وبعد انقراضها لو انقرضت .
ونقل ابن الجزري عن أبي شامة في مرشده قوله "وقد شاع على ألسنة جماعة من المقرئين المتأخرين وغيرهم من المقلدين أن القراءات السبع كلها متواترة أي كل فرد فرد ما روى عن هؤلاء الأئمة السبعة قالوا والقطع بأنها كلها منزلة من عند الله واجب ونحن بهذا نقول ولكن فيما اجتمعت على نقله عنهم الطرق واتفقت عليه الفرق من غير نكير له مع أنه شاع وذاع واشتهر واستفاض فلا أقل من اشتراط ذلك إذا لم يتفق التواتر في بعضها" اهـ ثم نقل عن الجعبري قوله "الشرط واحد وهو صحة النقل ويلزم الآخران فهذا ضابط يعرف ما هو من الأحرف السبعة وغيرها" ، ثم ذكر موافقة مكي له في الكشف .
وظن التراث الإسلامي وعلى رأسه القرّاء أن الأحرف السبعة التي أنزل عليها القرآن هي لهجات العرب المأذون بقراءة القرآن بها للرعيل الأول الذي لا يستطيع العدول عن لسانه الذي تربى عليه وهو تصور يحتاج على نقاش ومراجعة كما أوضحته في بحثي "دراسة نقدية حول الأحرف السبعة".
الطبقة الأولى : الآخذون عن الصحابة بأداء المصاحف العثمانية
وقد يتساءل الباحثون عن تجاوزي طبقة الصحابة في تقسيم مراحل تطور علم القراءات فأجيب بأن القراءات لم تنشأ في عصر الصحابة ولا في طبقة التابعين الأولى .
وتجمع المصادر المتخصصة على أن المصاحف العثمانية ثمانية : مصحفان في المدينة ومصحف لكل من البصرة والكوفة والشام ومكة واليمن والبحرين .
قال ابن الجزري في النشر (1/8) "وقرأ كل أهل مصر بما في مصحفهم وتلقوا ما فيه عن الصحابة الذين تلقوه من في رسول الله ثم قاموا بذلك مقام الصحابة الذين تلقوه عن النبي .
فممن كان بالمدينة : ابن المسيب ، وعروة ، وسالم ، وعمر بن عبد العزيز ، وسليمان وعطاء ابنا يسار ، ومعاذ بن الحارث المعروف بمعاذ القارئ ، وعبد الرحمان بن هرمز الأعرج ، وابن شهاب الزهري ، وابن جندب ، وزيد بن أسلم.
وبمكة : عبيد بن عمير ، وعطاء ، وطاووس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وابن أبي مليكة .
وبالكوفة : علقمة ، والأسود ، ومسروق ، وعبيدة ، وعمرو بن شرحبيل ، والحارث بن قيس ، والربيع بن خثيم ، وعمرو بن ميمون ، وأبو عبد الرحمان السلمي ، وزر بن حبيش ، وعبيد بن نضلة ، وأبو زرعة بن عمرو بن جرير ، وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي ، والشعبي.
وبالبصرة : عامر بن عبد قيس ، وأبو العالية ، وأبو رجاء ، ونصر بن عاصم ، ويحيى بن يعمر ، ومعاذ ، وجابر بن زيد ، والحسن ، وابن سيرين ، وقتادة .
وبالشام : المغيرة بن أبي شهاب المخزومي صاحب عثمان بن عفان في القراءة ، وخليد بن سعد صاحب أبي الدرداء " اهـ بلفظه.
قلت : وقد جمع ابن الجزري بين التابعين وتابعيهم .
ويلاحظ أن أيا من القراء السبعة والعشرة لم يكن ضمن الآخذين عن الصحابة مباشرة .
وأخرج ابن الجزري من تفصيله المذكور أربعة من القراء هم ابن كثير وعاصم وابن عامر الشامي وأبو جعفر المعدودون ضمن طبقات التابعين المتأخرة .
ويلاحظ ضياع أداء مصحفين من المصاحف العثمانية : مصحف البحرين ومصحف اليمن ولم يكن من القراء المحفوظة قراءاتهم قراء بأداء مصحف اليمن أو بأداء مصحف البحرين .
الطبقة الثانية : القراء ورواتهم
إن القراءات التي بين أيدينا هي اختيارات لمن نسبت إليهم من بين سيل من الروايات تلقوها عن شيوخهم من تابعي التابعين أو التابعين عن الصحابة رضي الله عنهم أجمعين عن النبي ولتقريب ذلك إلى العوام فإن قراءة نافع هي اختياراته من بين ما تلقى من الروايات عن سبعين من التابعين منهم أبو جعفر القارئ وعبد الرحمن ابن هرمز وشيبة ابن النصاح ويزيد ابن رومان ومسلم ابن جندب وابن شهاب الزهري وصالح ابن خوات ويعني هذا أن نافعا قد اختار التسهيل من قراءته على أحد شيوخه واختار التقليل من قراءته على شيخ ثان والفتح على شيخ ثالث وهكذا في كل حرف من أحرف الخلاف اختار من بين مروياته اختياره وهكذا كل قارئ من السبعة والعشرة وغيرهم بل هكذا كل راو من رواة القراء أنفسهم بل هكذا المصنفون من طرق الرواة كانت لهم اختياراتهم للرواة والقراء كما كان في اختيارات القراء والرواة زيادة على الأداء المنزل كما يأتي إثباته باعترافاتهم على أنفسهم .
وإن كان منها ما ينسب إليهم وفي تلك النسبة ضعف أو وهم أو وضع ولقد علمنا يقينا أن من اختيارات المصنفين منذ القرن الرابع ما يدعو إلى التعجب وأن منها ما يدعو إلى الاستغراب ولولا أنهم لم يدلسوا ولم يخلطوا القياس والاختيار بالرواية بل أعلنوا الرواية وأعلنوا القياس في ما انعدمت فيه الرواية لكانوا أخطر من واضعي الحديث على النبي لكن لهم صفاء فجزاهم الله خيرا على أمانتهم العلمية ، ومن أمثلة اختيارات المصنفين التي تدعو إلى التعجب ما اختاره الداني ت 444هـ رحمه الله في كتابه التيسير للأزرق عن ورش عن نافع إذ ضمّنه هذه الطريق من قراءته على شيخه خلف ابن خاقان على أحمد ابن أسامة على النحاس على الأزرق لكنه في كتابه التيسير قد اختار للأزرق في بعض حروف الخلاف غير هذا الأداء كاختياره له الفتح في ما لا راء فيه من سورتي والنازعات ووالشمس فيما كان من الفواصل على لفظ "ها" من ذوات الياء وتلك قراءة الداني على شيخه أبي الحسن طاهر بن غلبون واختيار الداني المذكور ومذهبه المؤلف يدعو إلى العجب لأنه وافق الرواية وهي الفتح الخالص كما هي طريق الأصبهاني عن ورش ورواية قالون وقراءة المكي والشامي وعاصم وأبي جعفر ويعقوب ووجه العجب أنه يبين لنا كيفية انشطار الروايات وتعددها وهو ما يسمى بتركيب الطرق وهو رغم ما فيه من العيوب قد لا يعترض عليه مادام دورانه في فلك الرواية وإنما يعترض عليه من حيث إمكانية تعدده حتى تصبح الروايات بالآلاف مما يقلب الأمر من السهولة إلى التكلف ومن اليسر إلى العسر ويشغل الناس عما كلفوا به من تدبر القرآن وتعقله وفقهه .
قال ابن الجزري في النشر (1/8ـ9) بعد ذكر رعيل التابعين ما نصه " ثم تجرد قوم للقراءة والأخذ واعتنوا بضبط القراءة أتم عناية حتى صاروا بذلك أئمة يقتدى بهم ويرحل إليهم ويؤخذ عنهم ، أجمع أهل بلدهم على تلقي قراءتهم بالقبول ولم يختلف عليهم فيها اثنان ولتصديهم للقراءة نسبت إليهم" اهـ بلفظه محل الغرض منه
قلت : وكان هذا أخطر قرار اتخذه المصنفون من طرق الرواة ابتداء بابن مجاهد وانتهاء بابن الجزري رحمهم الله تعالى ، قرار الاكتفاء بنسبة القراءات إلى هؤلاء الذين اختار منهم ابن مجاهد من تلقاء نفسه القراء السبعة وتبعه عامة المصنفين من طرق الرواة وساروا على نهجه .
سلوك تم بموجبه وأد الأداء بالقرآن كله الذي قرأ به كل من أبي بن كعب وعلي بن أبي طالب وزيد بن ثابت وابن عباس وابن مسعود وغيرهم من الصحابة والتابعين المتلقين منهم.
وأبرأ إلى الله من الطعن في القراء السبعة والعشرة وغيرهم ومن الطعن في المصنفين من طرقهم بل أشكر لهم أن لم يدلسوا ولم يخلطوا الأداء بالقياس وإنما أعلنوا الأداء والرواية وأعلنوا القياس اجتهادا منهم رحمهم الله .
وإنما قصدت تحرير البحث العلمي المجرد في هذه المسألة الخطيرة الجديرة بالدراسة والترقيع لاستعادة أداء الصحابة الكرام القرآن عذبا وسلسلا غير مشوب بالقياس واللهجات .
ولقد تأثر علم القراءات منذ نشأته بمنعطفين اثنين :
أولهما تمسك القراء بعد جيل التابعين بلهجات العرب الذين عاصروا نزول القرآن ، وجلي غير خفي أن جيل الصحابة فضلا عن التابعين لم يمض حتى لم يعد في الجزيرة قبيلة متقوقعة لا تعرف غير لهجتها إذ وقع الاختلاط ونفر الرجال إلى الجهاد خارج الجزيرة وتأثر العرب بالعجم مما يعني تأثر العرب بعضهم ببعض قبل ذلك .
وبانقراض جيل الصحابة لم يعد من قبائل العرب من لا يستطيع غير تخفيف الهمزة أو غير الإدغام الكبير أو غير قراءة نحو حيل و سيق و قيل بإشمام أوائلها الضم أو غير قراءة ذوات الياء بالإمالة إلخ ... ويعلم كل من درس كتب القراءات أن من القراء والمتعلمين العرب من لا يطيق التفرقة بين قسمي الإمالة ولا النطق ببين بين ولا الروم والإشمام منذ انقراض جيل التابعين إلى يومنا هذا .
وأما ثاني المنعطفين فقد بدأ مع نهاية القرن الثاني عقب قرّاء الأمصار إذ خلفتهم أجيال قال عنها ابن الجزري في النشر( 1/9 ) فكان منهم المتقن للتلاوة المشهور بالرواية والدراية ومنهم المقصّر على وصف من هذه الأوصاف وكثر بينهم لذلك الاختلاف وقلّ الضبط واتسع الخرق وكاد الباطل يلتبس بالحق اهـ بلفظه
وخلص بعد ذلك ابن الجزري إلى أنه سبب تأصيل أصول وأركان القراءات التي هي صحة السند وموافقة وجه من النحو والرسم ، واعتبار خلو القراءة من أحد هذه الأركان الثلاثة عند أئمة التدوين منذ القرن الثالث دليلا قويا لوصفها بالشذوذ أي عن أداء المصاحف العثمانية .
قلت : وإنما كانت هذه الأركان ميزانا وضعه المصنفون الأوائل الذين كانوا يجمعون ما وصل إليهم من القراءات وضابطا يقبلون به ما ألحقوه بالأداء من القياس ولهجات العرب وقواعد النحو والصرف كما يأتي قريبا تقريره .
ولقد كانت هذه الأركان لحفظ القراءات والروايات وضابطا لقبول انشطارها وتعدّدها إذ كانوا يكتفون بصحة السند إلى أحد المصنفين أو أئمة القراءات ولا يستطيع أحد رفع كل خلاف من قبيل اللهجات في القراءات إلى النبي .
ولقد كان نسخ هذه الأركان الثلاثة إحدى نتائج تحقيقاتي منذ سنة 2000 م بل يلزم عوضها الأداء المتصل بشرطه وتحريره من القياس ، ذلك أن القراءات ورواياتها منذ عصور التدوين في القرن الثالث الهجري إلى يومنا هذا ليست كل واحدة منها هكذا أنزلت من عند الله فإن اعترض الباحثون على ادعائي هذا فليرفعوا إلى النبي إمالة البارئ في الحشر ، ولن يستطيعوا إذ قد قرأها بالإمالة لأول مرة قياسا على حرفي البقرة ابن مجاهد في سبعته وأدرجها في رواية الدوري عن الكسائي .
وليرفعوا إلى النبي إدغام قال رجلان و قال رجل ، ولن يستطيعوا إذ هو قياس على إدغام قال رب .
إن القراء والرواة قد أدرجوا في الأداء أي في القراءات من لهجات العرب ومن القياس شيئا كثيرا كما هي دلالة قول الداني في جامع البيان (1/139) بإسناده إلى اليزيدي أنه قال "كان أبو عمرو ، وقد عرف القراءة فقرأ من كل قراءة بأحسنها ومما يختار العرب وبما بلغه من لغة النبي وجاء تصديقه في كتاب الله عز وجل " اهـ بلفظه
وقال في جامع البيان (1/167) ما نصه " وأخذ أبو عمرو من كل قراءة أحسنها " اهـ بلفظه
قلت : ولن ينكر أئمة القراءات المعاصرون أن أبا عمرو البصري قد ألف قراءته من بين سيل من الروايات التي تلقاها وأسأل بالله العظيم أئمة القراءات المعاصرين أن لا يكتموا شهادة عندهم الله عن مدلول قول الداني " ومما يختار العرب وبما بلغه من لغة النبي وجاء تصديقه في كتاب الله عز وجل " اهـ بلفظه أليس يعني أنه أدخل في الرواية من الأداء مما يختار العرب وبما بلغه من لغة النبي ، وأنه أدخل في قراءة القرآن أداء غير منزل من عند الله بل هو مما يختار العرب من اللهجات وقواعد النحو والصرف والتي نطق النبي في أحاديثه بمثلها خارج القرآن والتي قرئ بمثلها القرآن في أحرف معلومة أي قاس أبو عمرو البصري على ذلك ما شاء الله ولا حول ولا قوة إلا بالله والله يغفر له .
وهكذا ليس الأداء بكل حرف من أحرف الخلاف في قراءة أبي عمرو متصل الإسناد من لدنه إلى رسول الله لأنه قرأ على سبعة من أهل مكة هم :
1. مجاهد بن جبر
2. عطاء بن أبي رباح
3. سعيد بن جبير
4. عكرمة بن خالد
5. عبد الله بن كثير الداري
6. محمد بن محيصن
7. حميد بن قيس الأعرج
وقرأ على ثلاثة بالمدينة هم :
1. أبو جعفر القارئ
2. يزيد بن رومان
3. شيبة بن نصاح
وقرأ على أربعة بالبصرة هم :
1. الحسن البصري
2. يحيى بن يعمر
3. نصر بن عاصم الليثي
4. عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي
ولم أرد الاستقصاء بل التمثيل ومناقشة أي من شيوخ أبي عمرو البصري الأربعة عشر أقرأه قراءته المعروفة هذه بأحرفها المعلومة ومنها الإدغام الكبير كله ومذهبه في أرنا وفي سبلنا وبابه متصلة الإسناد إلى النبي ، لا شك أن الإنصاف يدعو إلى قبول تأليفه قراءته من بين سيل من الروايات التي تلقاها عن شيوخه المتعددين وأضاف إليها هو ما اختاره من لسان العرب أي لهجاتها فقاس عليه أحرفا من نظائرها كما تقدم النص به عن الداني في جامع البيان ، وكما نص عليه الداني كذلك عن الكسائي القارئ .
قال في جامع البيان (1/156) ما نصه "حدثنا محمد بن أحمد قال حدثنا ابن مجاهد قال وكان علي بن حمزة (أي الكسائي) قرأ على حمزة ونظر في وجوه القراءات وكانت العربية علمه وصناعته فاختار من قراءة حمزة وقراءة غيره قراءة متوسطة غير خارجة عن أثر من تقدم من الأئمة" اهـ بلفظه .
وقال في جامع البيان (1/156) بسنده عن أبي عبيد القاسم بن سلام ما نصه :"قال فأما الكسائي فإنه كان يتخير من القراءات فأخذ من قراءة حمزة ببعض وترك بعضا" اهـ بلفظه
ولابن قتيبة المتوفى سنة 276 هـ في كتابه تأويل مشكل القرآن ص(58 ) فما بعدها نكير شديد على قراءة حمزة واعتبر قراءته أكثر تخليطا وأشد اضطرابا قال :" لأنه يستعمل في الحرف ما يدّعه في نظيره ثم يؤصل أصلا ويخالف إلى غيره لغير ما علة ويختار في كثير من الحروف ما لا مخرج له إلا على طلب الحيلة الضعيفة هذا إلى نبذه في قراءته مذاهب العرب وأهل الحجاز بإفراطه في المدّ والهمز والإشباع وإفحاشه في الإضجاع والإدغام وحمله المتعلمين على المركب الصعب وتعسيره على الأمة ما يسره الله وتضييقه ما فسّحه " اهـ بلفظه
وأعلن القارئ نافع أنه ألف قراءته من بين مروياته أي نظر إلى ما اجتمع عليه اثنان من شيوخه فأخذ به وما تفرد به أحدهم فتركه ولا يخفى أن شيوخه خمسة أو ستة أو سبعون ، ولقد خالف شيخيه مسلم بن جندب وعبد الرحمان بن هرمز الأعرج في قراءة عليهم بضم الهاء وصلة ميم الجمع بواو كما في النشر (1/49)
الطبقة الثالثة : مدرسة ابن مجاهد : المصنفون من طرق الرواة
إن إيماني بضرورة تحرير البحث العلمي المجرد وحاجة الأمة إليه هو ما دفعني إلى إعلان المآخذ على كتب طرق المصنفين ابتداء بابن مجاهد وانتهاء بابن الجزري ، مدرسة واحدة تمسكت بمنهج فرض القراءات السبع والعشر وغيرها بدل الأداء الذي قرأ به الصحابة الذين رافقوا المصاحف العثمانية .
منهج أدرج في القراءات والروايات من اللهجات والقياس ما لا يحتاج إليه القرآن ولا تحتاجه الأمة ولا البشرية أجمع بما حوت من باحثين مسلمين وغير مسلمين ، وعليهم جميعا يقع الخطاب بتدبر القرآن والاهتداء به إلى الرشد وإلى التي هي أقوم .
منهج فرض على أصحابه القبول بجمع القراءات الذي فتح على الأمة بابا عريضا من الافتراض وضرب الحساب فلسفة أو قياسا على القياس مثل قولهم بتحرير الأوجه كحالات ءالآن المستفهم بها الخمس للأزرق وأن له في الحالة الأولى سبعة أوجه وفي الثانية تسعة أوجه وفي الثالثة والخامسة ثلاثة عشر وجها وفي الرابعة سبعة وعشرون وجها وهذا القياس يتوفر في مئات الكلمات من القرآن في كل رواية والعجيب أن هذه الأوجه وتحصيلها من الضرب يكثر في باب المد والإمالة وكل ما فيه الوجهان لأحد الرواة في كلمات القرآن حتى بلغ به بعضهم أربعة آلاف وجه .
منهج فرض على الأمة القبول باللهجات والقياس لتجذير المغايرة بين الروايات والقراءات حتى أصبحت بتعددها كأنها كلها منزلة من عند الله وهو قول في منتهى السقوط والافتراء كما تقدم ويترا الاستدلال عليه .
وأشكر للمصنفين من طرق الرواة ابتداء بابن مجاهد إلى ابن الجزري أمانتهم العلمية إذ لم يرفعوا إلى النبي ولا إلى احد من الصحابة والتابعين ـ على سبيل المثال ـ مذهب حمزة وهشام في الوقف على الهمز المتطرف أو المتوسط إذ هو قياس على لهجات عربية انقرض أهلها منذ جيل التابعين إذ لم يعد في جزيرة العرب قبيلة متقوقعة لا تعرف غير لهجتها بل نفر الرجال إلى الجهاد واختلط العرب بالعجم مما يعني اختلاط العرب بعضهم ببعض .
قال في النشر ( 1/17ـ18 ) "أما إذا كان القياس على إجماع انعقد أو عن أصل يعتمد فيصير إليه عند عدم النص وغموض وجه الأداء فإنه مما يسوغ قبوله ولا ينبغي رده لا سيما فيما تدعو إليه الضرورة وتمس الحاجة مما يقوّي وجه الترجيح ويعين على قوة التصحيح بل قد لا يسمى ما كان كذلك قياسا على الوجه الاصطلاحي إذ هو في الحقيقة نسبة جزئي إلى كلي كمثل ما اختير في تخفيف بعض الهمزات لأهل الأداء وفي إثبات البسملة وعدمها لبعض القراء ونقل كتابيه إني وإدغام ماليه هلك قياسا عليه وكذلك قياس قال رجلان و وقال رجل على قال رب في الإدغام كما ذكره الداني وغيره ونحو ذلك مما لا يخالف نصا ولا يرد إجماعا ولا أصلا مع أنه قليل جدا كما ستراه مبينا بعد إن شاء الله تعالى وإلى ذلك أشار مكي ابن أبي طالب رحمه الله في آخر كتابه التبصرة حيث قال فجميع ما ذكرناه في هذا الكتاب ينقسم إلى ثلاثة أقسام قسم قرأت به ونقلته وهو منصوص في الكتب موجود ، وقسم قرأت به وأخذته لفظا أو سماعا وهو غير موجود في الكتب وقسم لم أقرأ به ولا وجدته في الكتب ولكن قسته على ما قرأت به إذ لا يمكن فيه إلا ذلك عند عدم الرواية في النقل والنص وهو الأقل اهـ بلفظه وهو كذلك في التبصرة .
وما أشبهه بمنهج الداني رحمه الله تعالى في مقدمة كتابه جامع البيان (1/101) إذ قال ما نصه "ولا أعدو في شيء مما أرسمه في كتابي هذا مما قرأته لفظا ، أو أخذته أداء ، أو سمعته قراءة ، أو رويته عرضا أو سألت عنه إماما ، أو ذاكرت به متصدرا ، أو أجيز لي أو كتب به إليّ أو أذن لي في روايته أو بلغني عن شيخ متقدم ومقرئ متصدر بإسناد عرفته ، وطريق ميزته أو بحثت عنه عند عدم النص والرواية فيه ، فأبحث بنظيره وأجريت له حكم شبيهه" اهـ بلفظه محل الغرض منه .
قلت : يا ليت شعري ما الذي دفع مكيا والداني إلى ترك الرواية والنص عن الجماعة في حرف من أحرف الخلاف لأجل قراءته لراو من الرواة بأداء غير منزل قياسا على نظائره لأجل المحافظة على أداء متميز لذلك الراوي عن الأداء المتواتر عن الجماعة إذ لم يقع القياس إلا في تفردات الرواة عن الجماعة .
وأعجب العجب أن هذا القياس قد تم اعتماده منذ القرن الثالث للهجرة بسبب التمسك باللهجات العربية والمحافظة على أداء متميز لهذه الرواية أو تلك كالذي قاله ابن الجزري حينما أعلن أن مبرر القياس المقيد هو غموض وجه الأداء ويعني به يقينا أداء تفرد به راو أو قارئ عن سائر القراء وإلا فإن رواية الجماعة وأداءها أقرب إلى الاعتبار والتمسك به من راو تفرد عنهم بقاعدة من القواعد حافظت على لهجة عربية ألا ترى ابن الجزري رحمه الله مثل بتخفيف الهمزات وبإدغام قال رجلان و قال رجل قياسا على إدغام قال رب المنصوص أي في كتب القراءات المروي أي عن أبي عمرو فلماذا لم يعتمد المصنفون لأبي عمرو الإظهار فيهما ؟ موافقة لسائر القراء العشرة وغيرهم وهو الرواية والنص عن الجميع ومنهم أبو عمرو نفسه ، ومتى كانت المحافظة على هذه اللهجة أو القاعدة مما تدعو إليه الضرورة وتمسّ إليه الحاجة وأي ضرورة تؤدي إلى قراءة أحرف من القرآن بصيغة هي من إنشاء البشر رغم توفر الأداء المضبوط الذي نزل به جبريل على قلب رسول الله خاتم النبيين ، هل من ضرورة في نقل كتابيه إني لورش محافظة على قاعدة عليها مدار روايته وهي نقل حركة الهمز المحقق إلى الساكن قبلها ؟ إن الأمانة العلمية لتلزم بقراءة هذا الحرف لورش بالسكت والقطع موافقة لجميع القراء والرواة الذين رووها أداء كذلك .
ومن القياس الذي تضمنته كتب أئمة القراءات قول ابن الجزري في النشر (2/122) وشذ مكي فأجاز الروم والإشمام في ميم الجمع لمن وصلها قياسا على هاء الضمير وانتصر لذلك وقواه وهو قياس غير صحيح اهـ وهو في التبصرة لمكي ص171.
ومنه : أكثر ما حواه باب المد من الإشباع لجميع القراء ومن الإشباع والتوسط للأزرق خاصة فيه ومنه كثير من الإدغام الكبير لأبي عمرو .
ومنه اختيار ابن مجاهد في بداية القرن الرابع إمالة البارئ الحشر24 لدوري الكسائي قياسا على إمالته حرفي البقرة بارئكم فهذا الاختيار مبك حقا لأنه قراءة حرف من كتاب الله بأداء لم ينزل به جبريل من عند الله على النبي الأمي إذ قرأ جميع القراء والرواة حرف الحشر بالفتح الخالص وإنما ألحقه ابن مجاهد رحمه الله بأحرف اختص الدوري عن الكسائي وتفرد بإمالتها قال في النشر (2/39) :"وقال الداني في جامعه لم يذكر أحد عن البارئ نصا وإنما ألحقه بالحرفين اللذين في البقرة ابن مجاهد قياسا عليهما سمعت أبا الفتح يقول ذلك" اهـ
وعبارة الداني في جامع البيان (1/469) كالتالي "ولم يذكر أحد عنه البارئ نصا وإنما ألحقه بالحرفين اللذين في البقرة ابن مجاهد قياسا عليهما ، سمعت أبا الفتح يقول ذلك" اهـ بلفظه .
ومنه البحث في أصل ألف تترا الفلاح 44 وألف كلتا الكهف 33 لمعرفة صحة إمالتهما لغة لإقحامها في القراءات رغم تواتر الأداء بفتح اللف فيهما لجميع القراء .
ومنه ما حواه بابا الوقف على الهمز وعلى هاء التأنيث ومنه الوقف بالروم والإشمام بدل السكون ومنه ترقيق الراء في وزر أخرى وزرك ذكرك حذركم الإشراق للأزرق ومنه أكثر ما جاء في هذا الباب كما قال مكي في التبصرة "أكثر هذا الباب إنما هو قياس على الأصول وبعضه أخذ سماعا" اهـ ومنه الوقف بهاء السكت على العالمين والموفون والذين وشبهه ليعقوب وهو في مئات الكلمات ومنه الإخفاء أو الاختلاس في فنعما هي في البقرة وكذا حرف النساء لقالون وأبي عمرو وشعبة .
قلت : إنني مع تتبع مواضع هذا القياس الذي أبرأ منه لم أجده إلا فيما توفر الأداء بغيره لدى جماعة القراء والرواة .
إن القياس الذي وصفه مكي وابن الجزري بالقلة ليتوفر في مئات الكلمات من القرآن بسبب تعميم القواعد على النظائر .
إن القياس هو نتيجة حتمية لما أحدثه ابن مجاهد فمن جاء بعده من المصنفين طرق الرواة من استبدال أداء التابعين والصحابة بالقراءات السبع والعشر وغيرها ومن تتبع كل قاعدة في لسان العرب أو لهجة عربية وردت في بعض كلمات القرءان رواية فيقرأون بها سائر نظائرها لضمان فصل كل رواية وقراءة عن الأخرى وتتبع ما لها في أداء كل كلمة وكل حرف من القرآن حتى أصبحت المحافظة على رواية البزي أو هشام مثلا غاية لا يصح تواتر القرآن ولا حفظه دونها .
وكانت نشوة ازدهار قواعد النحو والصرف هي التي أملت تعدد الروايات ، ذلك التعدد الذي وجد في القياس تربة خصبة نشأ عليها .
وما كان للقراءات ورواياتها أن تتعدد وللطرق عن الروايات أن تبلغ المئات لولا ما أدرج في القراءات من اللهجات والقياس لضمان تعدد الروايات والفصل بينها بقاعدة لغوية وردت أداء في بعض حروف القرآن فقاسها المصنفون من الطرق ابتداء بابن مجاهد فمن بعده على سائر نظائرها .
ولا يعتبر العدول إلى صحيح الروايات بدل رواية عسر أو شق أو خفي أداؤها من القياس بل هو الرواية والنص والأداء الواجب اتباعه .
ووقع المصنفون من طرق الرواة في ثلاث متناقضات :
أولاها أنهم منعوا أو عابوا خلط الروايات الصحيحة الثابتة في القراءة وهو تركيب الطرق وعدم التحرير ويجيزون في نفس الوقت القراءة بالقياس الذي هو قراءة القرآن بأداء غير منزل .
وأما ثاني المتناقضات فقد وقعت في القرن الرابع بعد نزول القرآن وهي قضية ابن مقسم المقرئ النحوي الذي أجمع القراء والفقهاء على منعه من القراءة بما يوافق اللغة والرسم دون التقيد بالأداء والنقل وحوكم فتاب ورجع عن رأيه وقال ابن الجزري تعليقا على قضيته في النشر(1/18) ومن ثم امتنعت القراءة بالقياس المطلق وهو الذي ليس له أصل في القراءة يرجع إليه ولا ركن وثيق في الأداء يعتمد عليه اهـ .
قلت : لكن الذي حاوله ابن مقسم هو نفسه ما يسمونه بالقياس المقيد سواء بسواء إذ هو موافق اللغة والرسم فاقد شرط الأداء والنقل لا ينقصه من وجه التشبيه اعتماد القراء على قاعدة أو لهجة عربية اعتمدها أحد الرواة في بعض الأحرف دون سائر نظائره فقاس القراء والمصنفون سائر النظائر على بعض الأحرف المروية .
وأعجب العجب أن ابن الجزري نفسه قد قال في كتابه منجد المقرئين(ص 17) "وأما ما وافق المعنى والرسم أو أحدهما من غير نقل فلا تسمى شاذة بل مكذوبة يكفر متعمدها" اهـ .
وقال في النشر (1/293) "إن القراءة ليست بالقياس دون الأثر" ، وقال أيضا (2/263) "وهل يحل لمسلم القراءة بما يجد في الكتابة من غير نقل" اهـ ، وقال الشاطبي "وما لقياس في القراءة مدخل" اهـ .
ولقد قرر مكي وابن الجزري وغيرهما من المصنفين أن ما صحّ نقله عن الآحاد وصحّ وجهه في العربية وخالف لفظه خط المصحف أنه يقبل ولا يقرأ به ، ولا يخفى أن هذا القسم أقوى من القياس الذي يجب رده وعدم قبوله وحرمة القراءة به لأنه أضعف مما صحّ نقله عن الآحاد .
وأما ثالث المتناقضات فهي قضية ابن شنبوذ المتوفى سنة 328 هـ الذي كان يرى جواز القراءة بما صحّ سنده وإن خالف الرسم فعدّ معاصروه ـ ومنهم ابن مجاهد المتوفى 324 هـ الذي اشترك مع الوزير في محاكمته ـ ذلك من الشذوذ وأعجب من ذلك أن ابن مجاهد في سبعته قد اعتمد القياس .
إن ثبوت الشذوذ والضعف والوهم في القراءات وتضمنها القياس الذي هو قراءة القرآن بأداء غير منزل حقائق مرة باعتراف المصنفين من طرق الرواة ابتداء بابن مجاهد وانتهاء بابن الجزري :
قال ابن الجزري في النشر (1/9) "ثم إن القراء بعد هؤلاء المذكورين كثروا وتفرقوا في البلاد وانتشروا وخلفهم أمم بعد أمم وعرفت طبقاتهم واختلفت صفاتهم فكان منهم المتقن للتلاوة المشهور بالرواية والدراية ومنهم المقصّر على وصف من هذه الأوصاف وكثر بينهم لذلك الاختلاف وقلّ الضبط واتسع الخرق وكاد الباطل يلتبس بالحق"اهـ بلفظه محل الغرض منه
وقال (1/35) "وكان بدمشق الأستاذ أبو علي الحسن بن علي بن إبراهيم الأهوازي مؤلف الوجيز والإيجاز والإيضاح والاتضاح وجامع المشهور والشاذ"اهـ بلفظه محل الغرض منه .
قلت : ولم تنجب الأمة بعد صاحب النشر غير المقلدين المتوقفين المقيدين بقيدين اثنين من الأوهام :
1. أن قرنوا بين المراجعة وبين الطعن في الأئمة المتقدمين .
2. خوفهم من الخروج على المألوف الذي عرفه العوام منذ عشرات القرون.
يتواصل
بسم الله الرحمان الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه وبعد :
فإن بحثا بعنوان " القراءات القرآنية : النشأة والتطور" ليحتاج إلى :
تقديم : لمناقشة العلاقة الجدلية بين: القرآن والقراءات .
كما يحتاج لمعرفة مراحل تطور علم القراءات إلى الحديث بشيء من التفصيل عن خمس طبقات هي :
الطبقة الأولى : الآخذون عن الصحابة بأداء المصاحف العثمانية.
الطبقة الثانية : القراء ورواتهم
الطبقة الثالثة : مدرسة ابن مجاهد : المصنفون من طرق الرواة
الطبقة الرابعة : مدرسة ابن الجزري
الطبقة الخامسة : ما بعد ابن الجزري إلى عصرنا الحاضر .
وكذلك يحتاج البحث إلى :
خاتمة : لمناقشة موانع إخراج مصاحف مطابقة لقراءات الصحابة الذين رافقوا
المصاحف العثمانية
تقديم : لمناقشة العلاقة الجدلية بين القرآن والقراءات
إن القرءان وهو كلام الله المنزل على النبي الأمي المكتوب بين دفتي المصحف لمتواتر جملة وتفصيلا كلمة كلمة حرفا حرفا كما بينت في بحثي " إثبات تواتر القرآن دون الحاجة إلى اللهجات والقياس في القراءات " .
وأما القراءات فقد نشأت أول ما نشأت في القرن الثاني بعد نزول القرآن أي نشأت باجتهاد من القراء والرواة والطرق عنهم لتفسير مسألتين اثنتين :
1. الأحرف السبعة التي أنزل عليها القرآن
2. تعليل الاختلاف في رسم المصاحف العثمانية
ولقد شرع المتقدمون من أئمة القراءات في القرن الثاني والثالث بعد نزول القرآن في إدخال وإدراج من لهجات العرب كالإدغام والإمالة وتسهيل الهمز والروم والإشمام في أداء القرآن ، وتتبعوا كل قاعدة نحوية أو لهجة عربية وردت في بعض كلمات القرآن فقاسوا عليها نظائرها في سائر القرآن .
وهكذا أقول بالمغايرة بين لفظي القرآن والقراءات لأن القراءات قد تضمنت الضعيف والشاذ والوهم والوضع الذي منه القياس .
ولإثبات ذلك فلنستمع إلى اعترافات أئمة القراءات أنفسهم بهذه الحقيقة كاملة :
قال أبو شامة في كتابه المرشد الوجيز " فإن القراءات المنسوبة إلى كل قارئ من السبعة وغيرهم منقسمة إلى المجمع عليه والشاذ انتهى من النشر (1/10)
وقال عمرو ابن الحاجب "والسبعة متواترة فيما ليس من قبيل الأداء كالمد والإمالة وتخفيف الهمز ونحوه" اهـ من النشر (1/13) .
وقال أبو الحسن علي بن عبد الكافي السبكي "... وهكذا التفصيل في شواذ السبعة فإن عنهم شيئا كثيرا شاذا " اهـ من النشر (1/44 ).
وفي غاية النهاية لابن الجزري أن مصطلح القراءة الشاذة وقع في القرن الثاني وأن أبا حاتم السجستاني روى أن هارون الأعور العتكي البصري ت170 هـ هو أول من تتبع الشاذ من القراءات وبحث عن أسانيدها .
قلت : إن مدلول الشذوذ في القراءات يشمل :
1. الشذوذ عن المصاحف العثمانية
2. والشذوذ عن القياس في لسان العرب
3. والشذوذ عن الأداء والطريق الواحدة .
وإنما قصدت في هذا البحث الشذوذ عن الأداء .
واتسع الخرق بإكثار المصنفين من طرق الرواة من الروايات والقراءات إذ جمع الداني عن القراءات السبع أكثر من خمسمائة طريق وجمع الأهوازي كثيرا من المشهور والشاذ وجمع الهذلي في الكامل خمسين قراءة وألفا وأربعمائة وتسعة وخمسين رواية وطريقا ومثله الطبري بمكة وجمع الأسكندري سبعة آلاف رواية وطريق قال ابن الجزري في النشر (1/35) ولا زال الناس يؤلفون في كثير القراءات وقليلها ويروون شاذها وصحيحها بحسب ما وصل إليهم أو صح لديهم ولا ينكر أحد عليهم بل هم في ذلك متبعون سبيل السلف حيث قالوا القراءة سنة متبعة يأخذها الآخر عن الأول وما علمنا أحدا أنكر شيئا قرأ به الآخر إلا ما قدّمنا عن ابن شنبوذ لكنه خرج عن المصحف العثماني وللناس في ذلك خلاف كما قدمناه وكذا ما أنكر على ابن مقسم من كونه أجاز القراءة بما وافق المصحف من غير أثر كما قدّمنا وأما من قرأ بالكامل للهذلي أو سوق العروس للطبري أو إقناع الأهوازي أو كفاية أبي العز أو مبهج سبط الخياط أو روضة المالكي ونحو ذلك على ما فيه من ضعيف وشاذ عن السبعة والعشرة وغيرهم فلا نعلم أحدا أنكر ذلك ولا زعم أنه مخالف لشيء من الأحرف السبعة بل ما زالت علماء الأمة وقضاة المسلمين يكتبون خطوطهم ويثبتون شهاداتهم في إجازاتنا بمثل هذه الكتب والقراءات اهـ بلفظه .
ولعلنا على مضض تجرعنا اعتراف أئمة القراءات والمصنفين منهم بتسرب الشذوذ والوهم والضعف إلى القراءات عموما دونما استثناء للسبع والعشر وغيرهما .
وليت المعاصرين يكتشفون الأدلة التي أباحت لمن وصفهم ابن الجزري رحمه الله بالعلماء وقضاة المسلمين فأفتوا بجواز قراءة القرآن بقراءات ضعيفة وشاذة عن السبعة والعشرة يقرأ بها حتما من قرأ القرآن بمضمن كتاب الكامل للهذلي وسوق العروس للطبري وإقناع الأهوازي وكفاية القلانسي ومبهج سبط الخياط وروضة المالكي وغيره من أمهات النشر أي كتب المصنفين من طرق الرواة .
قلت : ولا يعني تضمن القراءات الشذوذ أنها متواترة فيما لا شذوذ فيه فهيهات أن يكون الأمر كذلك إذ اعترف أئمة القراءات بعدم تواترها ودافعوا عن هذه الحقيقة بدافع الدفاع عن تعدد الروايات والقراءات لا غير .
قال ابن الجزري في النشر(1/13) "وقد شرط بعض المتأخرين التواتر في هذا الركن ولم يكتف فيه بصحة السند وزعم أن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر وأن ما جاء مجيء الآحاد لا يثبت به قرآن وهذا مما لا يخفى ما فيه فإن التواتر إذا ثبت لا يحتاج فيه إلى الركنين الأخيرين من الرسم وغيره إذ ما ثبت من أحرف الخلاف متواترا عن النبي وجب قبوله وقطع بكونه قرآنا سواء وافق الرسم أم خالفه وإذا اشترطنا التواتر في كل حرف من حروف الخلاف انتفى كثير من أحرف الخلاف الثابت عن هؤلاء السبعة وغيرهم" اهـ
قلت : وهكذا تخلى ابن الجزري ومن سبقه عن ركن التواتر حفاظا على كثير من الأداء في القراءات السبع والعشر أي بدافع الحرص على تعدد الروايات والقراءات وليس لأجل حفظ القرآن المحفوظ المتواتر قبل نشأة القراءات وبعد انقراضها لو انقرضت .
ونقل ابن الجزري عن أبي شامة في مرشده قوله "وقد شاع على ألسنة جماعة من المقرئين المتأخرين وغيرهم من المقلدين أن القراءات السبع كلها متواترة أي كل فرد فرد ما روى عن هؤلاء الأئمة السبعة قالوا والقطع بأنها كلها منزلة من عند الله واجب ونحن بهذا نقول ولكن فيما اجتمعت على نقله عنهم الطرق واتفقت عليه الفرق من غير نكير له مع أنه شاع وذاع واشتهر واستفاض فلا أقل من اشتراط ذلك إذا لم يتفق التواتر في بعضها" اهـ ثم نقل عن الجعبري قوله "الشرط واحد وهو صحة النقل ويلزم الآخران فهذا ضابط يعرف ما هو من الأحرف السبعة وغيرها" ، ثم ذكر موافقة مكي له في الكشف .
وظن التراث الإسلامي وعلى رأسه القرّاء أن الأحرف السبعة التي أنزل عليها القرآن هي لهجات العرب المأذون بقراءة القرآن بها للرعيل الأول الذي لا يستطيع العدول عن لسانه الذي تربى عليه وهو تصور يحتاج على نقاش ومراجعة كما أوضحته في بحثي "دراسة نقدية حول الأحرف السبعة".
الطبقة الأولى : الآخذون عن الصحابة بأداء المصاحف العثمانية
وقد يتساءل الباحثون عن تجاوزي طبقة الصحابة في تقسيم مراحل تطور علم القراءات فأجيب بأن القراءات لم تنشأ في عصر الصحابة ولا في طبقة التابعين الأولى .
وتجمع المصادر المتخصصة على أن المصاحف العثمانية ثمانية : مصحفان في المدينة ومصحف لكل من البصرة والكوفة والشام ومكة واليمن والبحرين .
قال ابن الجزري في النشر (1/8) "وقرأ كل أهل مصر بما في مصحفهم وتلقوا ما فيه عن الصحابة الذين تلقوه من في رسول الله ثم قاموا بذلك مقام الصحابة الذين تلقوه عن النبي .
فممن كان بالمدينة : ابن المسيب ، وعروة ، وسالم ، وعمر بن عبد العزيز ، وسليمان وعطاء ابنا يسار ، ومعاذ بن الحارث المعروف بمعاذ القارئ ، وعبد الرحمان بن هرمز الأعرج ، وابن شهاب الزهري ، وابن جندب ، وزيد بن أسلم.
وبمكة : عبيد بن عمير ، وعطاء ، وطاووس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وابن أبي مليكة .
وبالكوفة : علقمة ، والأسود ، ومسروق ، وعبيدة ، وعمرو بن شرحبيل ، والحارث بن قيس ، والربيع بن خثيم ، وعمرو بن ميمون ، وأبو عبد الرحمان السلمي ، وزر بن حبيش ، وعبيد بن نضلة ، وأبو زرعة بن عمرو بن جرير ، وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي ، والشعبي.
وبالبصرة : عامر بن عبد قيس ، وأبو العالية ، وأبو رجاء ، ونصر بن عاصم ، ويحيى بن يعمر ، ومعاذ ، وجابر بن زيد ، والحسن ، وابن سيرين ، وقتادة .
وبالشام : المغيرة بن أبي شهاب المخزومي صاحب عثمان بن عفان في القراءة ، وخليد بن سعد صاحب أبي الدرداء " اهـ بلفظه.
قلت : وقد جمع ابن الجزري بين التابعين وتابعيهم .
ويلاحظ أن أيا من القراء السبعة والعشرة لم يكن ضمن الآخذين عن الصحابة مباشرة .
وأخرج ابن الجزري من تفصيله المذكور أربعة من القراء هم ابن كثير وعاصم وابن عامر الشامي وأبو جعفر المعدودون ضمن طبقات التابعين المتأخرة .
ويلاحظ ضياع أداء مصحفين من المصاحف العثمانية : مصحف البحرين ومصحف اليمن ولم يكن من القراء المحفوظة قراءاتهم قراء بأداء مصحف اليمن أو بأداء مصحف البحرين .
الطبقة الثانية : القراء ورواتهم
إن القراءات التي بين أيدينا هي اختيارات لمن نسبت إليهم من بين سيل من الروايات تلقوها عن شيوخهم من تابعي التابعين أو التابعين عن الصحابة رضي الله عنهم أجمعين عن النبي ولتقريب ذلك إلى العوام فإن قراءة نافع هي اختياراته من بين ما تلقى من الروايات عن سبعين من التابعين منهم أبو جعفر القارئ وعبد الرحمن ابن هرمز وشيبة ابن النصاح ويزيد ابن رومان ومسلم ابن جندب وابن شهاب الزهري وصالح ابن خوات ويعني هذا أن نافعا قد اختار التسهيل من قراءته على أحد شيوخه واختار التقليل من قراءته على شيخ ثان والفتح على شيخ ثالث وهكذا في كل حرف من أحرف الخلاف اختار من بين مروياته اختياره وهكذا كل قارئ من السبعة والعشرة وغيرهم بل هكذا كل راو من رواة القراء أنفسهم بل هكذا المصنفون من طرق الرواة كانت لهم اختياراتهم للرواة والقراء كما كان في اختيارات القراء والرواة زيادة على الأداء المنزل كما يأتي إثباته باعترافاتهم على أنفسهم .
وإن كان منها ما ينسب إليهم وفي تلك النسبة ضعف أو وهم أو وضع ولقد علمنا يقينا أن من اختيارات المصنفين منذ القرن الرابع ما يدعو إلى التعجب وأن منها ما يدعو إلى الاستغراب ولولا أنهم لم يدلسوا ولم يخلطوا القياس والاختيار بالرواية بل أعلنوا الرواية وأعلنوا القياس في ما انعدمت فيه الرواية لكانوا أخطر من واضعي الحديث على النبي لكن لهم صفاء فجزاهم الله خيرا على أمانتهم العلمية ، ومن أمثلة اختيارات المصنفين التي تدعو إلى التعجب ما اختاره الداني ت 444هـ رحمه الله في كتابه التيسير للأزرق عن ورش عن نافع إذ ضمّنه هذه الطريق من قراءته على شيخه خلف ابن خاقان على أحمد ابن أسامة على النحاس على الأزرق لكنه في كتابه التيسير قد اختار للأزرق في بعض حروف الخلاف غير هذا الأداء كاختياره له الفتح في ما لا راء فيه من سورتي والنازعات ووالشمس فيما كان من الفواصل على لفظ "ها" من ذوات الياء وتلك قراءة الداني على شيخه أبي الحسن طاهر بن غلبون واختيار الداني المذكور ومذهبه المؤلف يدعو إلى العجب لأنه وافق الرواية وهي الفتح الخالص كما هي طريق الأصبهاني عن ورش ورواية قالون وقراءة المكي والشامي وعاصم وأبي جعفر ويعقوب ووجه العجب أنه يبين لنا كيفية انشطار الروايات وتعددها وهو ما يسمى بتركيب الطرق وهو رغم ما فيه من العيوب قد لا يعترض عليه مادام دورانه في فلك الرواية وإنما يعترض عليه من حيث إمكانية تعدده حتى تصبح الروايات بالآلاف مما يقلب الأمر من السهولة إلى التكلف ومن اليسر إلى العسر ويشغل الناس عما كلفوا به من تدبر القرآن وتعقله وفقهه .
قال ابن الجزري في النشر (1/8ـ9) بعد ذكر رعيل التابعين ما نصه " ثم تجرد قوم للقراءة والأخذ واعتنوا بضبط القراءة أتم عناية حتى صاروا بذلك أئمة يقتدى بهم ويرحل إليهم ويؤخذ عنهم ، أجمع أهل بلدهم على تلقي قراءتهم بالقبول ولم يختلف عليهم فيها اثنان ولتصديهم للقراءة نسبت إليهم" اهـ بلفظه محل الغرض منه
قلت : وكان هذا أخطر قرار اتخذه المصنفون من طرق الرواة ابتداء بابن مجاهد وانتهاء بابن الجزري رحمهم الله تعالى ، قرار الاكتفاء بنسبة القراءات إلى هؤلاء الذين اختار منهم ابن مجاهد من تلقاء نفسه القراء السبعة وتبعه عامة المصنفين من طرق الرواة وساروا على نهجه .
سلوك تم بموجبه وأد الأداء بالقرآن كله الذي قرأ به كل من أبي بن كعب وعلي بن أبي طالب وزيد بن ثابت وابن عباس وابن مسعود وغيرهم من الصحابة والتابعين المتلقين منهم.
وأبرأ إلى الله من الطعن في القراء السبعة والعشرة وغيرهم ومن الطعن في المصنفين من طرقهم بل أشكر لهم أن لم يدلسوا ولم يخلطوا الأداء بالقياس وإنما أعلنوا الأداء والرواية وأعلنوا القياس اجتهادا منهم رحمهم الله .
وإنما قصدت تحرير البحث العلمي المجرد في هذه المسألة الخطيرة الجديرة بالدراسة والترقيع لاستعادة أداء الصحابة الكرام القرآن عذبا وسلسلا غير مشوب بالقياس واللهجات .
ولقد تأثر علم القراءات منذ نشأته بمنعطفين اثنين :
أولهما تمسك القراء بعد جيل التابعين بلهجات العرب الذين عاصروا نزول القرآن ، وجلي غير خفي أن جيل الصحابة فضلا عن التابعين لم يمض حتى لم يعد في الجزيرة قبيلة متقوقعة لا تعرف غير لهجتها إذ وقع الاختلاط ونفر الرجال إلى الجهاد خارج الجزيرة وتأثر العرب بالعجم مما يعني تأثر العرب بعضهم ببعض قبل ذلك .
وبانقراض جيل الصحابة لم يعد من قبائل العرب من لا يستطيع غير تخفيف الهمزة أو غير الإدغام الكبير أو غير قراءة نحو حيل و سيق و قيل بإشمام أوائلها الضم أو غير قراءة ذوات الياء بالإمالة إلخ ... ويعلم كل من درس كتب القراءات أن من القراء والمتعلمين العرب من لا يطيق التفرقة بين قسمي الإمالة ولا النطق ببين بين ولا الروم والإشمام منذ انقراض جيل التابعين إلى يومنا هذا .
وأما ثاني المنعطفين فقد بدأ مع نهاية القرن الثاني عقب قرّاء الأمصار إذ خلفتهم أجيال قال عنها ابن الجزري في النشر( 1/9 ) فكان منهم المتقن للتلاوة المشهور بالرواية والدراية ومنهم المقصّر على وصف من هذه الأوصاف وكثر بينهم لذلك الاختلاف وقلّ الضبط واتسع الخرق وكاد الباطل يلتبس بالحق اهـ بلفظه
وخلص بعد ذلك ابن الجزري إلى أنه سبب تأصيل أصول وأركان القراءات التي هي صحة السند وموافقة وجه من النحو والرسم ، واعتبار خلو القراءة من أحد هذه الأركان الثلاثة عند أئمة التدوين منذ القرن الثالث دليلا قويا لوصفها بالشذوذ أي عن أداء المصاحف العثمانية .
قلت : وإنما كانت هذه الأركان ميزانا وضعه المصنفون الأوائل الذين كانوا يجمعون ما وصل إليهم من القراءات وضابطا يقبلون به ما ألحقوه بالأداء من القياس ولهجات العرب وقواعد النحو والصرف كما يأتي قريبا تقريره .
ولقد كانت هذه الأركان لحفظ القراءات والروايات وضابطا لقبول انشطارها وتعدّدها إذ كانوا يكتفون بصحة السند إلى أحد المصنفين أو أئمة القراءات ولا يستطيع أحد رفع كل خلاف من قبيل اللهجات في القراءات إلى النبي .
ولقد كان نسخ هذه الأركان الثلاثة إحدى نتائج تحقيقاتي منذ سنة 2000 م بل يلزم عوضها الأداء المتصل بشرطه وتحريره من القياس ، ذلك أن القراءات ورواياتها منذ عصور التدوين في القرن الثالث الهجري إلى يومنا هذا ليست كل واحدة منها هكذا أنزلت من عند الله فإن اعترض الباحثون على ادعائي هذا فليرفعوا إلى النبي إمالة البارئ في الحشر ، ولن يستطيعوا إذ قد قرأها بالإمالة لأول مرة قياسا على حرفي البقرة ابن مجاهد في سبعته وأدرجها في رواية الدوري عن الكسائي .
وليرفعوا إلى النبي إدغام قال رجلان و قال رجل ، ولن يستطيعوا إذ هو قياس على إدغام قال رب .
إن القراء والرواة قد أدرجوا في الأداء أي في القراءات من لهجات العرب ومن القياس شيئا كثيرا كما هي دلالة قول الداني في جامع البيان (1/139) بإسناده إلى اليزيدي أنه قال "كان أبو عمرو ، وقد عرف القراءة فقرأ من كل قراءة بأحسنها ومما يختار العرب وبما بلغه من لغة النبي وجاء تصديقه في كتاب الله عز وجل " اهـ بلفظه
وقال في جامع البيان (1/167) ما نصه " وأخذ أبو عمرو من كل قراءة أحسنها " اهـ بلفظه
قلت : ولن ينكر أئمة القراءات المعاصرون أن أبا عمرو البصري قد ألف قراءته من بين سيل من الروايات التي تلقاها وأسأل بالله العظيم أئمة القراءات المعاصرين أن لا يكتموا شهادة عندهم الله عن مدلول قول الداني " ومما يختار العرب وبما بلغه من لغة النبي وجاء تصديقه في كتاب الله عز وجل " اهـ بلفظه أليس يعني أنه أدخل في الرواية من الأداء مما يختار العرب وبما بلغه من لغة النبي ، وأنه أدخل في قراءة القرآن أداء غير منزل من عند الله بل هو مما يختار العرب من اللهجات وقواعد النحو والصرف والتي نطق النبي في أحاديثه بمثلها خارج القرآن والتي قرئ بمثلها القرآن في أحرف معلومة أي قاس أبو عمرو البصري على ذلك ما شاء الله ولا حول ولا قوة إلا بالله والله يغفر له .
وهكذا ليس الأداء بكل حرف من أحرف الخلاف في قراءة أبي عمرو متصل الإسناد من لدنه إلى رسول الله لأنه قرأ على سبعة من أهل مكة هم :
1. مجاهد بن جبر
2. عطاء بن أبي رباح
3. سعيد بن جبير
4. عكرمة بن خالد
5. عبد الله بن كثير الداري
6. محمد بن محيصن
7. حميد بن قيس الأعرج
وقرأ على ثلاثة بالمدينة هم :
1. أبو جعفر القارئ
2. يزيد بن رومان
3. شيبة بن نصاح
وقرأ على أربعة بالبصرة هم :
1. الحسن البصري
2. يحيى بن يعمر
3. نصر بن عاصم الليثي
4. عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي
ولم أرد الاستقصاء بل التمثيل ومناقشة أي من شيوخ أبي عمرو البصري الأربعة عشر أقرأه قراءته المعروفة هذه بأحرفها المعلومة ومنها الإدغام الكبير كله ومذهبه في أرنا وفي سبلنا وبابه متصلة الإسناد إلى النبي ، لا شك أن الإنصاف يدعو إلى قبول تأليفه قراءته من بين سيل من الروايات التي تلقاها عن شيوخه المتعددين وأضاف إليها هو ما اختاره من لسان العرب أي لهجاتها فقاس عليه أحرفا من نظائرها كما تقدم النص به عن الداني في جامع البيان ، وكما نص عليه الداني كذلك عن الكسائي القارئ .
قال في جامع البيان (1/156) ما نصه "حدثنا محمد بن أحمد قال حدثنا ابن مجاهد قال وكان علي بن حمزة (أي الكسائي) قرأ على حمزة ونظر في وجوه القراءات وكانت العربية علمه وصناعته فاختار من قراءة حمزة وقراءة غيره قراءة متوسطة غير خارجة عن أثر من تقدم من الأئمة" اهـ بلفظه .
وقال في جامع البيان (1/156) بسنده عن أبي عبيد القاسم بن سلام ما نصه :"قال فأما الكسائي فإنه كان يتخير من القراءات فأخذ من قراءة حمزة ببعض وترك بعضا" اهـ بلفظه
ولابن قتيبة المتوفى سنة 276 هـ في كتابه تأويل مشكل القرآن ص(58 ) فما بعدها نكير شديد على قراءة حمزة واعتبر قراءته أكثر تخليطا وأشد اضطرابا قال :" لأنه يستعمل في الحرف ما يدّعه في نظيره ثم يؤصل أصلا ويخالف إلى غيره لغير ما علة ويختار في كثير من الحروف ما لا مخرج له إلا على طلب الحيلة الضعيفة هذا إلى نبذه في قراءته مذاهب العرب وأهل الحجاز بإفراطه في المدّ والهمز والإشباع وإفحاشه في الإضجاع والإدغام وحمله المتعلمين على المركب الصعب وتعسيره على الأمة ما يسره الله وتضييقه ما فسّحه " اهـ بلفظه
وأعلن القارئ نافع أنه ألف قراءته من بين مروياته أي نظر إلى ما اجتمع عليه اثنان من شيوخه فأخذ به وما تفرد به أحدهم فتركه ولا يخفى أن شيوخه خمسة أو ستة أو سبعون ، ولقد خالف شيخيه مسلم بن جندب وعبد الرحمان بن هرمز الأعرج في قراءة عليهم بضم الهاء وصلة ميم الجمع بواو كما في النشر (1/49)
الطبقة الثالثة : مدرسة ابن مجاهد : المصنفون من طرق الرواة
إن إيماني بضرورة تحرير البحث العلمي المجرد وحاجة الأمة إليه هو ما دفعني إلى إعلان المآخذ على كتب طرق المصنفين ابتداء بابن مجاهد وانتهاء بابن الجزري ، مدرسة واحدة تمسكت بمنهج فرض القراءات السبع والعشر وغيرها بدل الأداء الذي قرأ به الصحابة الذين رافقوا المصاحف العثمانية .
منهج أدرج في القراءات والروايات من اللهجات والقياس ما لا يحتاج إليه القرآن ولا تحتاجه الأمة ولا البشرية أجمع بما حوت من باحثين مسلمين وغير مسلمين ، وعليهم جميعا يقع الخطاب بتدبر القرآن والاهتداء به إلى الرشد وإلى التي هي أقوم .
منهج فرض على أصحابه القبول بجمع القراءات الذي فتح على الأمة بابا عريضا من الافتراض وضرب الحساب فلسفة أو قياسا على القياس مثل قولهم بتحرير الأوجه كحالات ءالآن المستفهم بها الخمس للأزرق وأن له في الحالة الأولى سبعة أوجه وفي الثانية تسعة أوجه وفي الثالثة والخامسة ثلاثة عشر وجها وفي الرابعة سبعة وعشرون وجها وهذا القياس يتوفر في مئات الكلمات من القرآن في كل رواية والعجيب أن هذه الأوجه وتحصيلها من الضرب يكثر في باب المد والإمالة وكل ما فيه الوجهان لأحد الرواة في كلمات القرآن حتى بلغ به بعضهم أربعة آلاف وجه .
منهج فرض على الأمة القبول باللهجات والقياس لتجذير المغايرة بين الروايات والقراءات حتى أصبحت بتعددها كأنها كلها منزلة من عند الله وهو قول في منتهى السقوط والافتراء كما تقدم ويترا الاستدلال عليه .
وأشكر للمصنفين من طرق الرواة ابتداء بابن مجاهد إلى ابن الجزري أمانتهم العلمية إذ لم يرفعوا إلى النبي ولا إلى احد من الصحابة والتابعين ـ على سبيل المثال ـ مذهب حمزة وهشام في الوقف على الهمز المتطرف أو المتوسط إذ هو قياس على لهجات عربية انقرض أهلها منذ جيل التابعين إذ لم يعد في جزيرة العرب قبيلة متقوقعة لا تعرف غير لهجتها بل نفر الرجال إلى الجهاد واختلط العرب بالعجم مما يعني اختلاط العرب بعضهم ببعض .
قال في النشر ( 1/17ـ18 ) "أما إذا كان القياس على إجماع انعقد أو عن أصل يعتمد فيصير إليه عند عدم النص وغموض وجه الأداء فإنه مما يسوغ قبوله ولا ينبغي رده لا سيما فيما تدعو إليه الضرورة وتمس الحاجة مما يقوّي وجه الترجيح ويعين على قوة التصحيح بل قد لا يسمى ما كان كذلك قياسا على الوجه الاصطلاحي إذ هو في الحقيقة نسبة جزئي إلى كلي كمثل ما اختير في تخفيف بعض الهمزات لأهل الأداء وفي إثبات البسملة وعدمها لبعض القراء ونقل كتابيه إني وإدغام ماليه هلك قياسا عليه وكذلك قياس قال رجلان و وقال رجل على قال رب في الإدغام كما ذكره الداني وغيره ونحو ذلك مما لا يخالف نصا ولا يرد إجماعا ولا أصلا مع أنه قليل جدا كما ستراه مبينا بعد إن شاء الله تعالى وإلى ذلك أشار مكي ابن أبي طالب رحمه الله في آخر كتابه التبصرة حيث قال فجميع ما ذكرناه في هذا الكتاب ينقسم إلى ثلاثة أقسام قسم قرأت به ونقلته وهو منصوص في الكتب موجود ، وقسم قرأت به وأخذته لفظا أو سماعا وهو غير موجود في الكتب وقسم لم أقرأ به ولا وجدته في الكتب ولكن قسته على ما قرأت به إذ لا يمكن فيه إلا ذلك عند عدم الرواية في النقل والنص وهو الأقل اهـ بلفظه وهو كذلك في التبصرة .
وما أشبهه بمنهج الداني رحمه الله تعالى في مقدمة كتابه جامع البيان (1/101) إذ قال ما نصه "ولا أعدو في شيء مما أرسمه في كتابي هذا مما قرأته لفظا ، أو أخذته أداء ، أو سمعته قراءة ، أو رويته عرضا أو سألت عنه إماما ، أو ذاكرت به متصدرا ، أو أجيز لي أو كتب به إليّ أو أذن لي في روايته أو بلغني عن شيخ متقدم ومقرئ متصدر بإسناد عرفته ، وطريق ميزته أو بحثت عنه عند عدم النص والرواية فيه ، فأبحث بنظيره وأجريت له حكم شبيهه" اهـ بلفظه محل الغرض منه .
قلت : يا ليت شعري ما الذي دفع مكيا والداني إلى ترك الرواية والنص عن الجماعة في حرف من أحرف الخلاف لأجل قراءته لراو من الرواة بأداء غير منزل قياسا على نظائره لأجل المحافظة على أداء متميز لذلك الراوي عن الأداء المتواتر عن الجماعة إذ لم يقع القياس إلا في تفردات الرواة عن الجماعة .
وأعجب العجب أن هذا القياس قد تم اعتماده منذ القرن الثالث للهجرة بسبب التمسك باللهجات العربية والمحافظة على أداء متميز لهذه الرواية أو تلك كالذي قاله ابن الجزري حينما أعلن أن مبرر القياس المقيد هو غموض وجه الأداء ويعني به يقينا أداء تفرد به راو أو قارئ عن سائر القراء وإلا فإن رواية الجماعة وأداءها أقرب إلى الاعتبار والتمسك به من راو تفرد عنهم بقاعدة من القواعد حافظت على لهجة عربية ألا ترى ابن الجزري رحمه الله مثل بتخفيف الهمزات وبإدغام قال رجلان و قال رجل قياسا على إدغام قال رب المنصوص أي في كتب القراءات المروي أي عن أبي عمرو فلماذا لم يعتمد المصنفون لأبي عمرو الإظهار فيهما ؟ موافقة لسائر القراء العشرة وغيرهم وهو الرواية والنص عن الجميع ومنهم أبو عمرو نفسه ، ومتى كانت المحافظة على هذه اللهجة أو القاعدة مما تدعو إليه الضرورة وتمسّ إليه الحاجة وأي ضرورة تؤدي إلى قراءة أحرف من القرآن بصيغة هي من إنشاء البشر رغم توفر الأداء المضبوط الذي نزل به جبريل على قلب رسول الله خاتم النبيين ، هل من ضرورة في نقل كتابيه إني لورش محافظة على قاعدة عليها مدار روايته وهي نقل حركة الهمز المحقق إلى الساكن قبلها ؟ إن الأمانة العلمية لتلزم بقراءة هذا الحرف لورش بالسكت والقطع موافقة لجميع القراء والرواة الذين رووها أداء كذلك .
ومن القياس الذي تضمنته كتب أئمة القراءات قول ابن الجزري في النشر (2/122) وشذ مكي فأجاز الروم والإشمام في ميم الجمع لمن وصلها قياسا على هاء الضمير وانتصر لذلك وقواه وهو قياس غير صحيح اهـ وهو في التبصرة لمكي ص171.
ومنه : أكثر ما حواه باب المد من الإشباع لجميع القراء ومن الإشباع والتوسط للأزرق خاصة فيه ومنه كثير من الإدغام الكبير لأبي عمرو .
ومنه اختيار ابن مجاهد في بداية القرن الرابع إمالة البارئ الحشر24 لدوري الكسائي قياسا على إمالته حرفي البقرة بارئكم فهذا الاختيار مبك حقا لأنه قراءة حرف من كتاب الله بأداء لم ينزل به جبريل من عند الله على النبي الأمي إذ قرأ جميع القراء والرواة حرف الحشر بالفتح الخالص وإنما ألحقه ابن مجاهد رحمه الله بأحرف اختص الدوري عن الكسائي وتفرد بإمالتها قال في النشر (2/39) :"وقال الداني في جامعه لم يذكر أحد عن البارئ نصا وإنما ألحقه بالحرفين اللذين في البقرة ابن مجاهد قياسا عليهما سمعت أبا الفتح يقول ذلك" اهـ
وعبارة الداني في جامع البيان (1/469) كالتالي "ولم يذكر أحد عنه البارئ نصا وإنما ألحقه بالحرفين اللذين في البقرة ابن مجاهد قياسا عليهما ، سمعت أبا الفتح يقول ذلك" اهـ بلفظه .
ومنه البحث في أصل ألف تترا الفلاح 44 وألف كلتا الكهف 33 لمعرفة صحة إمالتهما لغة لإقحامها في القراءات رغم تواتر الأداء بفتح اللف فيهما لجميع القراء .
ومنه ما حواه بابا الوقف على الهمز وعلى هاء التأنيث ومنه الوقف بالروم والإشمام بدل السكون ومنه ترقيق الراء في وزر أخرى وزرك ذكرك حذركم الإشراق للأزرق ومنه أكثر ما جاء في هذا الباب كما قال مكي في التبصرة "أكثر هذا الباب إنما هو قياس على الأصول وبعضه أخذ سماعا" اهـ ومنه الوقف بهاء السكت على العالمين والموفون والذين وشبهه ليعقوب وهو في مئات الكلمات ومنه الإخفاء أو الاختلاس في فنعما هي في البقرة وكذا حرف النساء لقالون وأبي عمرو وشعبة .
قلت : إنني مع تتبع مواضع هذا القياس الذي أبرأ منه لم أجده إلا فيما توفر الأداء بغيره لدى جماعة القراء والرواة .
إن القياس الذي وصفه مكي وابن الجزري بالقلة ليتوفر في مئات الكلمات من القرآن بسبب تعميم القواعد على النظائر .
إن القياس هو نتيجة حتمية لما أحدثه ابن مجاهد فمن جاء بعده من المصنفين طرق الرواة من استبدال أداء التابعين والصحابة بالقراءات السبع والعشر وغيرها ومن تتبع كل قاعدة في لسان العرب أو لهجة عربية وردت في بعض كلمات القرءان رواية فيقرأون بها سائر نظائرها لضمان فصل كل رواية وقراءة عن الأخرى وتتبع ما لها في أداء كل كلمة وكل حرف من القرآن حتى أصبحت المحافظة على رواية البزي أو هشام مثلا غاية لا يصح تواتر القرآن ولا حفظه دونها .
وكانت نشوة ازدهار قواعد النحو والصرف هي التي أملت تعدد الروايات ، ذلك التعدد الذي وجد في القياس تربة خصبة نشأ عليها .
وما كان للقراءات ورواياتها أن تتعدد وللطرق عن الروايات أن تبلغ المئات لولا ما أدرج في القراءات من اللهجات والقياس لضمان تعدد الروايات والفصل بينها بقاعدة لغوية وردت أداء في بعض حروف القرآن فقاسها المصنفون من الطرق ابتداء بابن مجاهد فمن بعده على سائر نظائرها .
ولا يعتبر العدول إلى صحيح الروايات بدل رواية عسر أو شق أو خفي أداؤها من القياس بل هو الرواية والنص والأداء الواجب اتباعه .
ووقع المصنفون من طرق الرواة في ثلاث متناقضات :
أولاها أنهم منعوا أو عابوا خلط الروايات الصحيحة الثابتة في القراءة وهو تركيب الطرق وعدم التحرير ويجيزون في نفس الوقت القراءة بالقياس الذي هو قراءة القرآن بأداء غير منزل .
وأما ثاني المتناقضات فقد وقعت في القرن الرابع بعد نزول القرآن وهي قضية ابن مقسم المقرئ النحوي الذي أجمع القراء والفقهاء على منعه من القراءة بما يوافق اللغة والرسم دون التقيد بالأداء والنقل وحوكم فتاب ورجع عن رأيه وقال ابن الجزري تعليقا على قضيته في النشر(1/18) ومن ثم امتنعت القراءة بالقياس المطلق وهو الذي ليس له أصل في القراءة يرجع إليه ولا ركن وثيق في الأداء يعتمد عليه اهـ .
قلت : لكن الذي حاوله ابن مقسم هو نفسه ما يسمونه بالقياس المقيد سواء بسواء إذ هو موافق اللغة والرسم فاقد شرط الأداء والنقل لا ينقصه من وجه التشبيه اعتماد القراء على قاعدة أو لهجة عربية اعتمدها أحد الرواة في بعض الأحرف دون سائر نظائره فقاس القراء والمصنفون سائر النظائر على بعض الأحرف المروية .
وأعجب العجب أن ابن الجزري نفسه قد قال في كتابه منجد المقرئين(ص 17) "وأما ما وافق المعنى والرسم أو أحدهما من غير نقل فلا تسمى شاذة بل مكذوبة يكفر متعمدها" اهـ .
وقال في النشر (1/293) "إن القراءة ليست بالقياس دون الأثر" ، وقال أيضا (2/263) "وهل يحل لمسلم القراءة بما يجد في الكتابة من غير نقل" اهـ ، وقال الشاطبي "وما لقياس في القراءة مدخل" اهـ .
ولقد قرر مكي وابن الجزري وغيرهما من المصنفين أن ما صحّ نقله عن الآحاد وصحّ وجهه في العربية وخالف لفظه خط المصحف أنه يقبل ولا يقرأ به ، ولا يخفى أن هذا القسم أقوى من القياس الذي يجب رده وعدم قبوله وحرمة القراءة به لأنه أضعف مما صحّ نقله عن الآحاد .
وأما ثالث المتناقضات فهي قضية ابن شنبوذ المتوفى سنة 328 هـ الذي كان يرى جواز القراءة بما صحّ سنده وإن خالف الرسم فعدّ معاصروه ـ ومنهم ابن مجاهد المتوفى 324 هـ الذي اشترك مع الوزير في محاكمته ـ ذلك من الشذوذ وأعجب من ذلك أن ابن مجاهد في سبعته قد اعتمد القياس .
إن ثبوت الشذوذ والضعف والوهم في القراءات وتضمنها القياس الذي هو قراءة القرآن بأداء غير منزل حقائق مرة باعتراف المصنفين من طرق الرواة ابتداء بابن مجاهد وانتهاء بابن الجزري :
قال ابن الجزري في النشر (1/9) "ثم إن القراء بعد هؤلاء المذكورين كثروا وتفرقوا في البلاد وانتشروا وخلفهم أمم بعد أمم وعرفت طبقاتهم واختلفت صفاتهم فكان منهم المتقن للتلاوة المشهور بالرواية والدراية ومنهم المقصّر على وصف من هذه الأوصاف وكثر بينهم لذلك الاختلاف وقلّ الضبط واتسع الخرق وكاد الباطل يلتبس بالحق"اهـ بلفظه محل الغرض منه
وقال (1/35) "وكان بدمشق الأستاذ أبو علي الحسن بن علي بن إبراهيم الأهوازي مؤلف الوجيز والإيجاز والإيضاح والاتضاح وجامع المشهور والشاذ"اهـ بلفظه محل الغرض منه .
قلت : ولم تنجب الأمة بعد صاحب النشر غير المقلدين المتوقفين المقيدين بقيدين اثنين من الأوهام :
1. أن قرنوا بين المراجعة وبين الطعن في الأئمة المتقدمين .
2. خوفهم من الخروج على المألوف الذي عرفه العوام منذ عشرات القرون.
يتواصل