القرآن و شعر العرب

محمد رشيد

New member
إنضم
04/04/2003
المشاركات
308
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
السلام عليكم و رحمة الله تعالى وبركاته
أما بعد ، مشايخي الكرام ، فعند بداية دراستي لعلم العروض في الجامع الأزهر، ذكر لنا شيخنا و قرأت في الكتب أن من فوائد علم العروض ، الردّ على المستشرقين و حجاجهم على أن القرآن ليس شعرا ، و ذلك لأن الكلام الشعري له شرطان :
1 ـ أن يكون كلاما موزونا على بحر من بحور العرب
2 ـ أن يكون مقصودا
ووجه الحجاج الذي ذكره شيخي أن القرآن و إن كان موزونا إلا أنه غير مقصود .
ووجه الإشكال عندي من عدة نقاط :
أولا / كيف أحتج على الملاحدة و المستشرقين ، بأن القرآن غير مقصود !! فإن كونه غير مقصود هو ما نتناظر عليه من الأصل ، فإذا قمت أنا بإثبات أنه كلام الله ، لكونه غير مقصود من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيكون هذا ما يسمى عند المناطقة في المناظرة ( المصادرة على المطلوب ) و هي ببساطة أن تجعل ما تريد إثباته حجة مسلّمة تلزم بها خصمك ، على الرغم من كونها يطلب إثباتها ، ومما يثبت ما أقول أن العرب اتهموا النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ بأنه ساحر أو كاهن أو يكتبه له يهود ، هذا ما فعله جل العرب ، و لم يقل بأنه أتى به من عنده إلا القليل ،،،، أقول / العرب هم أفصح من خلق الله تعالى ، و لو كان كان القرآن كالشعر ـ موزونا ـ وأن الفارق بينه و بين الشعر هو كونه غير موزون ، ما كان أسهل على العرب أن تنفي هذا الفارق لتنسب الوضع إلى النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ و لكنهم لم يفعلوا ، بل قالوا ساحر أو كاهن أو يكتب له يهود ، و أيضا لو قلت بأن الفارق هو الوزن فما يكون الفرق إذا بين القرآن و قوله ـ صلى الله عليه و سلم ـ ( أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عم المطلب ) فإن هذا الشعر أيضا غير مقصود رغم كونه موزون .
ثانيا / هل يثبت بالفعل أن القرآن موزون ؟
و إن كان موزونا فعلى أي بحور الشعر هو ؟
( الطويل ) ( المديد ) ( البسيط ) ( الرجز ) !!
أنا حينما أقرأ القرآن ـ صحيح أنني مبتدئ في علم العروض و ليس لي فيه ملكة ـ إلا أنني لا أرى القرآن ينطبق على أي بحر من بحور العرب ، هذا ما يظهر ـ و الله أعلم ـ و قد يرى غيري غير ذلك .
 
الأخ محمد يوسف وفقه الله، حقيقة لم يتبين لي مدى الإشكال الذي عندك ولكن أقول قي توضيح قول شيخك ( إنه غير مقصود ) - والعلم عند الله - أن السياق القرآني له نظامه الخاص به فهو لايتقيد بقافية معينة من أول آية إلى آخر آية في السورة نفسها ، ولكن ربما تأتي آية في السورة تحمل نفس وزن قافية معينة في الشعر على ماذكره السيوطي في الإتقان مثل قوله تعالى : وجفان كالجواب ... وقدور راسيات الخ فأنت تجد أن هذا الاتفاق ليس مقصودا لذات الوزن بل جاء اتفاقا كما يقال ، وهذا على عكس الشعر فإنه يلتزم قافية محددة من أول القصيدة إلى آخرها فتلاحظ أن الوزن مقصود لذاته في الشعر ولذلك بعض الشعراء لربما راعى الوزن فأخل بقوة المعنى حتى لا يضيع عليه اتفاق الأبيات في الوزن وهذا مجاله عند أهل البلاغة وحاشا كلام الله أن يكون كذلك بل هو الكلام الفصل الذي لايأتيه الباطل من بين يديه ولامن خلفه تنزيل من حكيم حميد .
أرجو أن أكون قد أجبتك على سؤالك.
 
المقصود( بأن القرآن غير مقصود) في كلامك . أي أنه غير مقصود به الوزن الشعري المصطلح عليه عند العروضيين. فالقرآن ولو وافق وزن العروض في بعض المقاطع فلا يعني ذلك أنه من الشعر الذي هو نوع من الكلام معروف. ولو تتبعت كلام الناس العادي لظهر لك كثير منه على بحور الشعر. مثل (أجب سؤالي)(مالك ومالي)(دعني وشأني)(نظف ثيابك)...وغيرها من الكلام الدارج العادي. وقد تكلم عن هذه المسألة النقاد والعروضيون على حد سواء. ولم يقل أحد منهم أن من يتفق كلامه في بعضه مع بحور الشعر شاعرٌ ، وإلا فكل الناس شعراء. ولم يعتبروا ما قل عن سبعة أبيات قصيدة ، ويسموا صاحبها شاعراً ما لم يكن له قصائد عديدة ، ولذلك استبعد من كتب تاريخ الشعر أولئك الذين لم يحفظ لهم إلا الأبيات المفردة يقولها الرجل في حاجته. وقد ذكر محمد بن سلام الجمحي أن العرب في أوليتها لم يكن لها إلا الأبيات المفردة ، وأن أول من قصد القصائد وطولها هو مهلهل بن ربيعة ، وهذه مسألة طال الجدل حولها ، وهي أولية الشعر الجاهلي وليست مقصودة هنا بالحديث. ويقال مثل ذلك فيما وافق في كلام النبي صلى الله عليه وسلم أوزان الشعر كالمثال الذي ذكرته وهو قوله :
أنا النبي لا كذب ***أنا ابن عبدالمطلب
والنبي صلى الله عليه وسلم كان يتذوق الشعر ويعجب به ، وليس معنى عدم تعليمه الشعر عدم فهمه له أو تذوقه له ، وإنما عدم القدرة على قوله.
وأما هل القرآن فيه آيات أو مقاطع من آيات تتفق مع البحور الشعرية فالجواب : نعم.
وقد ذكرها العلماء في باب الاقتباس في كتب البديع من علوم البلاغة وللدكتور الخطيب مشاركة حول الاقتباس بها بعض الأمثلة على هذا الرابط .
وأما البحور التي اتفقت مع بعض الآيات فيحضرني منها الآن :
- وزن مجزوء بحر الرمل ، قافية المتواتر . جاء عليه قوله تعالى :(وجفان كالجوابِ * وقدور راسيات).
- ومن مجزوء الرمل كذلك قافية المرادف قوله تعالى :(لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون).
وزن بحر الخفيف ، قافية المتواتر. يمكن اعتبار قوله تعالى :(ثاني اثنين إذ هما في الغار..الآية). حيث ضمنها أحد الشعراء فقال:
فمقام الصديق عند إله العرش عالٍ ، دع عنك قول المماري
فإذا كنت لم تثق بي فاقرأ* (ثاني اثنين إذ هما في الغار).
- ومن مخلع البسيط جاء :(يزيد في الخلق ما يشاء).
- ومن السريع جاء :(ذلك تقدير العزيز العليم).
- ومن الكامل جاء :(صلوا عليه وسلموا تسلميا).

وقد تتبعت هذه المسألة يوماً في القرآن فظهر لي عدد كبير جداً من الآيات ، ثم وقع لي قبل مدة كتاب جيد تتبع كل الآيات التي وافقت وزن الشعر ، وهو كتاب :(معجم آيات الاقتباس) تأليف حكمت فرج البدري. فأجاد في تتبعه ، وهو كتاب نفيس ، ولم أجد في بابه مثله.
هذه إجابة عجلى ، فمعذرة أخي الكريم محمد وفقك الله ، ومعذرة لأخي الكريم محمد العبدالهادي لتطفلي وتعقيبي على جوابه مع صواب قوله وفقه الله.
 
جزاكم الله تعالى خير الجزاء شيخنا / عبد الرحمن الشهري
و أخي / محمد ،، بارك الله تعالى فيك ، ولكن ما ذكرتم ـ اخي محمد ـ ليس هو مرادي ، بل مرادي بكلمة ( أوزان مقصودة ) أي متعمدة ، أي أن القرآن له وزن على بحر من بحور العرب الذي تزن عليها أشعارها ، و ما دام الأمر كذلك فإذا جاءني مستحمر من المستحمرين ـ والذين يسمون المستشرقين ـ ، فقال لي : لماذا لا توافقني أن القرآن على شعر من تأليف محمد ، و هاهو على وزن السريع أو الكامل ؟
فهنا ـ على حسب ما ذكره شيخي في العروض ـ أقول له : نعم هو على وزن الشعر ، و لكن الفرق بينه و بين الشعر أن محمد ـ صلى الله عليه و سلم ـ لم يتعمد أن يقوله ، و أما الشعر فإن العربي يتعمد قوله ،،،،،،،
سيقول لي دون أدنى تفكير : هذا الذي تقوله هو ما تحتاج إلى إثباته ، فلا تحتج به على إثباته ، كيف أصدق أنا و أنا من المستحمرين أنه لم يتعمده ! إنني ـ أنا المستحمر ـ أتهم محمد نبيكم بأنه وضع القرآن من عند نفسه و أنه تعمد وضعه ، فلا تحتج عليّ بأنه لم يتعمده على أنه لم يتعمده ، ثم إنكم أيها المسلمون تقولون بأن نبيكم لم يعرف صناعة الشعر ، و مع ذلك فقد قال بيتا موزونا (( أنا النبي لا كذب ..... أنا بن عبد المطلب )) و تقولون بأنه قاله غير قاصد بل بسليقة العرب ، فما الفرق عندكم إذا أيها المسلمون بين هذا الشعر الذي نطق به موزونا و بين القرآن الذي نطق به موزونا إن كل منهما غير مقصود !!!
هذا ما يمكن أن يقوله ، وهو الكلام المنطقي ، إن أنا احتججت عليه بما سبق
****************************
شيخنا الشهري بارك الله تعالى فيكم
ها أنتم توضحون لنا ، معنى كون الوزن مقصودا
أي أنه متعمد النظم ،،، متسلسل ،،، كثير ،،، معروف صاحبه بالشعر ...
هل هذا الفهم مني صحيحا ؟
و هل هذا هو السبب الي جعل العرب ـ أو جلهم ـ لا يتهمونه بالسحر ؟ أي لأن الأوزان فيه جاءت متفرقة متباعدة غير مسلسلة على بحر واحد في تتابع و تقارب ؟ و لأن العرب أيضا ـ كما ذكرتم ـ لا يطلقون على البيت أو البيتين شعرا ، و لاعلى من ليس له أكثر من قصيدة شاعرا ، فلذلك لم يطلقوا على القرآن ((شعرا )) أنه ليس بالكثرة و التسلسل والتتابع كما في الشعر المقصود ، وأيضا لا يطلقون على النبي صلى الله عليه و سلم (( شاعرا )) لأنه لم يأت فيه بهذا التتابع و الكثرة و التسلسل ؟
هل هذا الفهم مني صحيحا ؟
 
السلام عليكم و رحمة الله تعالى وبركاته
أما بعد
فهذا بحث قد ظفرت به في كتاب ( إعجاز القرآن ) للقاضي أبي بكر الباقلاني ، و هو يؤيد تماما ما أفادنا به شيخنا الشيخ الفاضل الشهري ـ حفظه الله ـ وأنا أنقله كاملا رجاء الإفادة و ليكون القول الفصل في الموضوع ، و حتى يكتمل الموضوع و تتم الفائدة في بابها ، و يكون الموضوع مستحقا أن يوضع في فهرس الملتقى ،،،،،

يقول الباقلاني في كتابه ( إعجاز القرآن ) 1 / 93 المطبوع بهامش ( الإتقان ) للسيوطي طـ مصطفى الحلبي :

فصل : في نفي الشعر من القرآن
قد علمنا أن الله تعالى نفى الشعر من القرآن و من النبي صلى الله عليه و سلم فقال ـ و ما علمناه الشعر و ما ينبغي له إن هو إلا ذكر و قرآن مبين ـ و قال في ذم الشعراء ـ و الشعراء يتبعهم الغاوون ألن تر أنهم من كل واد يهيمون ـ إلى آخر ما وصفهم به في هذه الآيات فقال ـ و ما هو بقول شاعر ـ و هذا يدل على أن ما حكاه عن الكفار من قولهم إنه شاعر و إن هذا شعر لابد من أن يكون محمولا على أنهم نسبوه في القرآن إلى أن الذي أتاهم به هو من قبيل الشعر الذي يتعارفونه على الأعاريض المحصورة المألوفة ، أو يكون محمولا على ما كان يطلق الفلاسفة على حكمائهم و أهل الفطنة منهم في وصفهم إياهم بالشعر لدقة نظرهم في وجوه الكلام و طرق لهم في المنطق و إن كان ذلك الباب خارجا عما هو عند العرب شعر على الحقيقة .
فإن حمل على الوجهين الأولين كان ما أطلقوه صحيحا ، و ذلك أن الشاعر يفطن لما لا يفطن له غيره ، و إذا قدر على صنعة الشعر كان على ما دونه في رأيهم و عندهم أقدر ، فنسبوه إلى ذلك لهذا السبب .
فإن زعم زاعم أنه قد وجد في القرآن شعرا كثيرا ، فمن ذلك ما يزعمون أنه بيت تام أو أبيات تامة ، و منه ما يزعمون أنه مصراع كقول القائل :
قد قلت لما حاولوا سلوتي .... هيهات هيهات لما توعدون

ومما يزعمون أنه بيت قوله :
و جفان كالجواب ...... و قدور راسيات
قالوا : هو من الرمل من البحر الذي قيل فيه :
ساكن الريح نطوف الـ ..... ـمزن منحل العزالى

و كقوله :
من تزكى فإنمــــــــــــا..... يتزكــــى لنـفـســـــه
كقول الشاعر من بحر الخفيف :
كل يوم بشمسه ..... و غد مثل أمسه

و كقوله عز و جل :
و من يتق الله يجعل له مخرجا ... و يرزقه من حيث لا يحتسب
قالوا : هو من المتقارب ، و كقوله :
و دانية عليهم ظلالها .... و ذللت قطوفها تذليلا

و يشبعون حركة الميم فيزعمون أنه من الرجز .
و ذكر عن أبي نواس أنه ضمن ذلك شعرا و هو قوله :
و فتية في مجلس وجوههم .... ريحانهم قد عدموا التثقيلا
دانيــة عليــهم ظــلالـــهــا .... و ذلـلــت قطوفـهـا تذليـلا

و قوله عز و جل :
و يخزهم و ينصركم عليهم .... و يشف صدور قوم مؤمنينا
زعموا أنه من الوافر كقول الشاعر :
لنــا غنم نسوقهــا غـزارا .... كأن قرون غلتها عصى

و كقوله عز و جل :
أرأيت الذي يكذب بالدين .... فذلك الذي يـدع اليتيـم
ضمنه أبو نواس في شعره ففصل و قال : فذاك الذي ، و شعره :
و قرأ معلنا ليصدع قلبي .... و الهوى يصدع الفؤاد السقيما
أرأيت الذي يكذب بالدين .... فذاك الذي يدع اليتيم
و هذا من الخفيف كقول الشاعر :
و فؤادي كعهده بسليمي .... يهوى لم يحل و لم يتغير
و كما ضمنه في شعره من قوله :
سبحان من سخر هذا لنا .... حقا و ما كنا له مقرنينا
فزاد في حتى انتظم له الشعر ، و كما يقولونه في قوله عز و جل ـ و العاديات ضبحا فالموريات قدحا ـ و نحو ذلك في القرآن كثير كقوله ـ و الذاريان ذروا . فالحاملات وقرا . فالجاريات يسرا ـ و هو عندهم شعر من بحر البسيط ، و الجواب عن هذه الدعوى التي ادعوها من وجوه .
أولها : أن الفصحاء منهم حين أورد عليهم القرآن لو كانوا يعتقدونه شعرا و لم يروه خارجا عن أساليب كلامهم لبادروا إلى معارضته ، لأن الشعر مسخر لهم سهل عليهم فيه ما قد علمت من التصرف العجيب و الاقتدار اللطيف ، فلما لم نرهم اشتغلوا بذلك و لا عوّلوا عليه علم أنهم لم يعتقدوا فيه شيئا مما يقدره الضعفاء في الصنعة و المرمدون في هذا الشأن ، و إن استدراك من يجئ الآن على فصحاء قريش و شعراء العرب قاطبة في ذلك الزمان و بلغائهم و خطبائهم و زعمه أمه قد ظفر بشعر في القرآن ذهب أولئك النفر عنه و خفي عليهم شدة حاجاتهم إلى الطعن في القرآن و الغض عنه و التوصل إلى تكذيبه بكل ما قدروا عليه ، فلن يجوز أن يخفى على أولئك و أن يجهلوه و يعرفه من جاء الآن و هو بالجهل حقيق ، و إذا كان كذلك علم أن الذي أجاب به العلماء عن هذا السؤال شديد ، و هو أنهم قالوا : إن البي الواحد و ما كان على وزنه لا يكون شعرا ، و أقل الشعر بيتان فصاعدا ، و غلى ذلك ذهب أكثر أهل صناعة العربية من أهل الإسلام .
و قالوا أيضا : إن ما كان على وزن بيتين إلا أنه يختلف رويهما و قافيتهما فليس بشعر .
ثم منهم من قال : إن الرجز ليس بشعر أصلا ، لاسيما إذا كان مشطورا أو منهوكا ، و كذلك ما يقارنه في قلة الأجزاء ، و على هذا يسقط السؤال .
ثم يقولون : إن الشعر إنما يطلق متى قصد القاصد إليه على الطريق الذي يتعمد و يسلك ، و لا يصح أن يتفق مثله إلا من الشعراء دون ما يستوي فيه العامي و الجاهل و العالم بالشعر و اللسان و تصرفه ، و ما بتفق من كل واحد فليس يكتسب اسم الشعر و لا صاحبه اسم شاعر ، لأنه لو صح أن يسمى كل من اعترض في كلامه ألفاظ تتزن بوزن الشعر أو تنتظم انتظام بعض الأعاريض كان الناس كلهم شعراء ، لأن كل متكلم لا ينفك من ان يعرض في جملة كلام كثير يقوله ما قد يتزن بوزن الشعر و ينتظم انتظامه ، ألا ترى أن العامي قد يقول لصاحبه أغلق الباب و ائتني بالطعام ، و يقول الرجل لأصحابه أكرموا من لقيتم من تميم ، و متى تتبع الإنسان هذا عرف أنه يكثر في تضاعف الكلام مثله و أكثر منه ، و هذا القدر الذي يصح فيه التوارد ليس بعد أهل الصنعة سرقة ، إذ لم تعلم فيه حقيقة الأخذ كقول امرئ القيس :
وقوفا بهم صحبى على مطيهم …. يقولون لا تهلك أسى و تحمل
و كقول طرفة :
وقوفا بها صحبى على مطيهم …. يقولون لا تهلك أسى و تجلد

و مثل هذا كثير فإذا صح مثل ذلك في بعض البيت و لم يمتنع التوارد فيه فكذلك لا يمتنع وقوعه في الكلام لمنثور اتفاقا غير مقصود إليه ، فإذا اتفق لم يكن شعرا ، و كذلك يمتنع التوارد على بيتين ، و كذلك يمتنع في الكلام المنثور وقوع البيتين و نحوهما ، فثبت بهذا أن ما وقع هذا الموقع لم يعد شعرا ، و إنما يعد شعرا ما إذا قصده صاحبه تأتّى له و لم يمتع عليه ، فإذا كان هو مع قصده لا يتأتى له و إنما يعرض في كلامه عن غير قصد إليه لم يصح أن يقال إنه شعر و لا إن صاحبه شاعر ، و لا يصح أن يقال إن مثل هذا لو اتفق من شاعر فيجب أن يكون شعرا لأنه لو قصده لكان يتأتى منه ، وإنما لم يصح ذلك لأن ما ليس بشعر فلا يجوز أن يكون شعرا من أحد ، و ما كان شعرا من أحد من الناس كان شعرا من كل أحد ؛ ألا ترى أن السوقي قد يقول اسقني الماء يا غلام سريعا قد يتفق ذلك من الساهي و من لا يقصد النظم فإما الشعر إذا بلغ الحد الذي بينا فلا يصح أن يقع إلا من قاصد إليه ، فأما الرجز فإنه يعرض في كلام العوام كثيرا ، فإذا كان بيتا واحد فليس ذلك بشعر ، و قد قيل إن أقل ما يكون منه شعرا أربعة أبيات بعد أن تتفق قوافيها ، و لم يتفق ذلك في القرآن بحال ، فأما دون أربعة أبيات منه أو ما يجري مجراه في قلة الكلمات فليس بشعر ، و ما اتفق في ذلك من القرآن مختلف الروي . و يقولون إنه نتى اختلف الروي خرج من أن يكون شعرا ، و هذه الطرق التي سلكوها في الجواب معتمدة أو أكثرها ، و لو كان ذلك شعرا لكانت النفوس تتشوف إلى معارضته ، لأن طريق الشعر غير مستصعب على أهل الزمان الواحد وأهله يتقاربون فيه أو يضربون فيه بسهم .
فإن قيل في القرآن كلام موزون كوزن الشعر و إن كان غير مقفى بل هو مزاوج متساوي الضروب و ذلك آخر أقسام كلام العرب . قيل : من سبيل الموزون من كلام أن يتساوى أجزاؤه في الطول و القصر و السواكن و الحركات ، فإن خرج عن ذلك لم يكن موزونا كقوله : ربّ أخ كنت به مغتبطا أشدّ ، كفى بعري صحبته تمسكا مني بالود ، و لا أحسبه يزهد في ذي أمل تمسكا مني بالود ، و لا أحسبه يغير العهد ، و لا يحول عنه أبدا فخاب فيه أملي . و قد علمنا أن هذا القرآن ليس من هذا القبيل ، بل هذا قبيل غير ممدوح و لا مقصود من جملة الفصيح و ربما كان عندهم مستنكرا ، بل أكثره على ذلك .
و كذلك ليس في القرآن من الموزون الذي وصفناه أولا و هو الذي شرطنا فيه التعادل و التساوي في الأجزاء غير الاختلاف الواقع في التقفية ، و يبين ذلك أن القرآن خارج عن الوزن الذي بيّنا ، و تتم فائدته بالخروج منه . و أما الكلام الموزون فإن فائدته تتم بوزنه .

(( انتهى كلامه بتمامه ـ رحمه الله ـ ))
 
عودة
أعلى