الطريق إلى حل مشكلة الأحرف السبعة ( 1 )

إنضم
15 أبريل 2003
المشاركات
1,698
مستوى التفاعل
4
النقاط
38
الطريق إلى حل مشكلة الأحرف السبعة ( 1 )
إن هذا الموضوع من أعظم مشكل علوم القرآن ، ولا أُرى أنه يُختلف في ذلك .
ومهما تعدد الدراسات فيها ، وتكاثر الآراء حول المراد بها ، فإنه يبقى في نفس القارئ أسئلة لا يرى لها حلاًّ .
وإن تعدد الدراسات من الأمور المحمودة في البحث العلمي ؛ لأنَّ العقول تختلف في نظراتها ، وفي طريقة عرضها ، وفي استنباطاتها ، وقد يوجد جزء من الحق في هذه المسألة عند باحث ، ويوجد جزء آخر عند غيره ، وهكذا .
وأذكر أنَّ الأخ الفاضل محمد بن عبد العزيز الخضيري طرح سؤالاً على أحد أساتذتنا أثناء الدراسات العليا لإعداد درجة الماجستير ، فقال : لماذا لا يكون مثل هذا الموضوع وغيره من الموضوعات المشكلة محلَّ بحثٍ في الدراسات العليا ؟
فكان من جواب الأستاذ الدكتور أن قال بأن هذا الموضوع مشكل ، ولا يوجد له حلُّ ، ودراسته إنما هي تكرار لما كُتبَ .
وهذا الموضوع وأمثاله من أبرز وأهم الموضوعات التي تصلح للنقاش والدراسة في الدراسات العليا ؛ لأن مناقشة مثل هذا الموضوع بحدِّ ذاته مفيد للدارس ، فضلاً عما يمكن أن يفتح عليه من الرأي الصائب الذي قد يخرج به .
ولست أرى أن الموضوع قد انتهى بقول فلان ، بل لا زال الموضوع بحاجة إلى بحثٍ ، وأعمال من سبق إنما هي مفاتيح للدراسة ، وبعضها أوفر فائدة من بعض .
وإذا كان ذلك كذلك ، فإني سأطرح لك ـ أيها القارئ الكريم ـ خلاصة ما توصلت إليه في قراءة هذا الموضوع ، وإني لأسأل الله التوفيق في القول والعمل .
أولاً : إنَّ الدراسات المتقدمة والمتأخرة قد تناولت هذا الموضوع بطرق شتى ، وسأذكر نوعين من الدراسات المعاصرة من باب بيان أمثلة لهذه الدراسات ، وليس من باب استقرائها .
الدراسة الأولى : دراسة الشيخ الدكتور عبد العزيز بن عبد الفتاح القارئ في كتابه ( حديث الأحرف السبعة ) .
وقد تميَّزت هذه الدراسة بالاستقراء لحديث الأحرف السبعة ودراسة سنده ، ثم استقراء أراء العلماء في المراد بها مع الاستدراك على كل قول بما فيه من وجوه الضعف .
وبعد استدراكاته هذه خلُص إلى رأيه المتميز في المراد بالأحرف السبعة ، وشرحه مبينا مأخذ كل قيد ذكره في التعريف . ومن أهم ما يحسن التنبه له في هذا الرأي أنه اعتمد على نص الحديث في استنباط معنى الأحرف ، وهذه سابقة جيدة تفكُّ شيئًا كبيرًا من معنى هذه الأحرف .
ثم طرح بعد ذلك الحكمة من الأحرف السبعة ، ثم ذكر فصولاً تتعلق بالقراءات وصلتها بالأحرف السبعة ، وما يتعلق بتواترها ، ثم ما يتعلق بمعنى الاختيار وحقيقته .
وتُعدُّ هذه الدراسة أنفس ما كُتِب في هذا الموضوع .
وإني لأنوه هنا بأن هذا المنهج الذي سلكه الشيخ عبد العزيز في طريقة دراسة الأحرف هو المنهج السديد في دراسة كثير من موضوعات علوم القرآن المعلَّقة أو الناقصة بحثًا ، حيث يتم جمع الآثار المتعلقة بالموضوع ، ثم يقوم الباحث بدراسة تلك النصوص واستنباط الفوائد والأحكام منها .
وسأعرض لكم لاحقًا ـ إن شاء الله ـ أمرًا يتعلق بعلوم القرآن ، وهو ( علوم القرآن بين الآثار والاستنباط ) ، وسأطرق فيه ما يمكن أن يكون فيه الرأي من هذه الموضوعات .
الدراسة الثانية : دراسة الدكتور حسن ضياء الدين عتر في كتابه ( الأحرف السبعة ومنْزلة القراءات منها ) .
وهي دراسة واسعة للأحرف السبعة ، ومن أبرز ما فيها أن المؤلف أنه يذكر الحديث ، ثم يذكر ما يحمله الحديث من فوائد متعلقة بالموضوع .
وهذه طريقة حسنة في دراسة الموضوع ، وفي الكتاب مسائل وفوائد كثيرة تتعلق بهذا الموضوع ، وهو من الكتب المفيدة في هذا الموضوع ، وإن كان المؤلف لم يخرج فيه عن أن الأحرف السبعة سبع لغات هي أشهر وأفصح لغات العرب أنزل الله القرآن بها ( ص : 177 ) .
الدراسة :
المســألة الأولى :
لقد نزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة ، وبقي في المدينة مدة من الزمن يقرأ بما كان يقرأ به في مكة .
ولم ينْزل عليه الترخيص بالقراءة بالأحرف السبعة إلا في المدينة ، كما هو ظاهر من حديث أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند أضاة بني غفار ، قال : فأتاه جبريل عليه السلام ، فقال : » إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرف .
فقال : أسأل الله معافاته ومغفرته ، وإن أمتي لا تطيق ذلك .
ثم أتاه الثانية ، فقال : إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرفين .
فقال : أسأل الله معافاته ومغفرته ، وإن أمتي لا تطيق ذلك .
ثم جاءه الثالثة ، فقال : إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف .
فقال : أسأل الله معافاته ومغفرته ، وإن أمتي لا تطيق ذلك .
ثم جاءه الرابعة ، فقال إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على سبعة أحرف ، فأيما حرف قرؤوا عليه فقد أصابوا « . رواه مسلم .
وقد أفاد هذا الحديث ما يأتي :
1 ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم يعرف المراد بالحرف الذي يراد القراءة به ، لذا استزاد تخفيفًا على الأمة .
ولما كان عارفًا بهذه الأحرف ، فإنه قد علَّمها الصحابة رضي الله عنهم ، وقرؤوا بها ، ويشهد لذلك ما وقع لعمر بن الخطاب مع حكيم بن حزام في قراءته لسورة الفرقان .
وهذا فيه ردٌّ على من يزعم أنَّ الأحرف السبعة من المتشابه . وذلك صحيح إن كان المراد به أنه متشابه على قائلة ، أما أن يكون متشابهًا على كل أحد ، فلا .
2 ـ أن الأمر بالقراءة بهذه الأحرف كان في المدينة بدلالة قوله : » أضاة بني غفار « ، وهو موضع بالمدينة ، ويشهد له ما روي من طريق آخر أن جبريل لقيه عند أحجار المِرَى أو أحجار المِراء ، وهي قباء كما في النهاية في غريب الأثر لابن الأثير .
3 ـ أن العدد سبعة مقصودٌ ، وليس المراد به التكثير ، بدلالة التدرج الذي ذُكِر في الحديث ، ولو كان العدد غير مقصود لما كان لهذا التدرج معنى ، بل لجاء الأمر بالقراءة على سبعة أحرف من أول الأمر .
4 ـ أن القراءة كانت على حرف واحدٍ قبل نزول هذا التيسير ، وهذا الحرف كان يوافق لغة قريش ( ينظر : سنن القراء ومناهج المجودين : 32 ) .
وهذا متوافق مع طبيعة الرسالة ؛ لأنَّ الرسول يرسل بلسان قومه ، وينْزل الكتاب عليه بلسانهم ، ولسان قريش معروف مشهور بين العرب بسبب الحجِّ الذي يقومون به إلى مكة ، فكان كثير منهم يمكنهم القراءة به ، والله أعلم .
ولا تعجل عليَّ هنا باستنباط أنَّ الأحرف هي لغات ، فليس الأمر كذلك على إطلاقه ، بل هناك تفصيل سيأتي في حينه .
5 ـ إن نزول الأحرف السبعة قد كان متأخِّرًا ، وقد ذكر الشيخ عبد العزيز بن عبد الفتاح القارئ أنه كان بعد فتح مكة ، حيث بدأت قبائل العرب على اختلاف ألسنتها ولهجاتها تدخل في دين الله أفواجًا . ( سنن القراء ومناهج المجودين : 32 ) .
وهذا الوقت الذي نزلت فيه الأحرف السبعة هو أنسب الأوقات بالنسبة لتلك الوفود التي سترد المدينة وتتعلم القرآن ، فكان من تيسير الله أن أنزل تلك الأحرف تيسيرًا لهم ، كما ورد في الحديث ، وهذا التيسير لا زال مستمرًا حتى يرث الله الأرض ومن عليها .
 
جزيتم خيرا.
وسعيا.. حثيثاً.. لنرى المزيد حول هذا الموضوع ..
 
نقل الشيخ مساعد حفظه الله ورعاه ما يلي:

=============



إن نزول الأحرف السبعة قد كان متأخِّرًا ، وقد ذكر الشيخ عبد العزيز بن عبد الفتاح القارئ أنه كان بعد فتح مكة ، حيث بدأت قبائل العرب على اختلاف ألسنتها ولهجاتها تدخل في دين الله أفواجًا .

==============

أقول:

أما كون الأحرف السبعة نزلت في المدينة فهو واضح، لكن تحديد ذلك بأنه بعد فتح مكة، فالظاهر من الكلام أعلاه أنه استنباط.

أما التعليل الذي ذكره فليس بالضرورة ألا يكون نزول الأحرف قبل ذلك بمدة،
فهل هناك نص قاطع للنزاع يشهد لذلك الرأي؟
 
جزى الله الشيخ / مساعد

على هذا التحقيق الجميل

وأما الأخ / أنمار

فأقول لك // ما يضيرك ان يكون كون الأحرف بعد الفتح او قبله
فألامر واحد مادام انه في المدينة وبعد الهجرة
 
نعم
فبعض العلماء ذهب إلى أن تكرر نزول كثير من الآيات كما هو معلوم في أسباب النزول محمول عندهم على تنزلها ببعض الأحرف السبعة، وهو عندي قول وجيه جدا، وكثير منها حصل في أول العهد المدني كما في آخره ، فلا أعدل عن قناعتي هذه إلا بنص.
 
رأي آخر

رأي آخر

بسم الله الرحمن الرحيم
ماابتدأه أخونا الأستاذ د.مساعد
يفتح الأمل فى نفوس إخوانه المقرئين فهذا الحديث هو أصلهم العلمي، ومادتهم التى يحتكمون إليها عند الاستدلال،
لذا رأيت أن أنبه من قبيل التوضيح إلى أن طرق المسائل بطريقة أخرى عمل جيد لكنه قد لايحقق الهدف،
وأشكر أخونا الدكتور مساعد لشعوره بهذه الحيثية، وتطرقه لدراسات متنوعة فى هذا الموضوع ،
واسأل الله العظيم أن تجد هذه المسائل الشائكة رجالا على شاكلته لتجد البحوث فى أمر الأحرف الضوء من جديد.
وفى الحقيقة بالنسبة لي أقول لقد تعلقت بهذا الحديث المبارك منذ الدراسات المنهجية الماجستير وخلال دروس العلامة عبد العزيز القارئ فى هذا الموضوع ،
وما يقال عن تلك الدروس فهو قليل جدا. نسأل الله أن يجزيه خير الجزاء،
وفى الحقيقة إن الأحرف مادة علمية دسمة واسعة الأطراف .
وهذا الذى تفطن له أستاذنا الدكتور القاري
يقول فى كتابه الأحرف السبعة : أما مايترتب على تعدد هذه الأوجه من اختلاف فى المعاني أو زيادة وماتدور حوله من مقاصد .... إلى أن يقول كل ذلك نعده بحوثا متفرعة من الأحرف خارجة عن حقيقة كنهها، منفصلة عن بحث تأويلها وتفسيرها وبيان المراد منها.
فى الحقيقة : تحمل هذه العبارات الدلالات المطلوبة للحل والباحث يطرق الجانب الذي يختاره منها أو مافهمه.
وأقول فى الحقيقة هناك جوانب لا أرى الشيخ تطرق إليها
كفضل القراءات على غيرها من علوم القرآن كما هو الحال فى فضائل القرآن. وغير ذلك من بحوث منطوية تحت هذا الحديث الكبير. والله أعلم .
 
الذي ذكره احد الاخوه من فرحه بقول بعض المتقدمين ان هناك بعض الايات قد تكرر نزولها فرح ليس في موضعة وهي قضية ناقشها الاستاذ الدكتور فضل عباس في كتابه اتقان البرهان وله كذلك راي في الاحرف السبعة حبذا ان يطلع الاخ الدكتور الطيار عليه وفي سنة 1991 كنت في مصر وزرت المرحوم الاستاذ الذكتور السيد الكومي فاخبرني انه تقدم ببحث للاستاذية حول الاحرف السبعة لكن المؤسف ان البحث لم يكن موجودا عنده وتوفي الشيخ ولم اطلع على هذا البحث فهل من واسطة تجلب البحث من الازهر وتضعه على الشبكة لعلنا نستفيد وقد عرضت انا لهذا الموضوع في رسالة الماجستير حول الدراسة المنهجية والنقدية لتفسير ابن عاشور ولعلي ان انسا الله تعالى في الاجل ان ابدي رايا في هذا لكن بعد ان اطلع على ما كتبه الاخ الدكتور الطيار والمقال الاول حسن جدا وانا ننتظر المقال الاتي
فكل التحية للدكتور الطيار
 
معنى الأحرف السبعة في القراءة
فضيلة د. خالد السبت
10 / 11 / 1427

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

فإن أقرب الأقوال في معنى الأحرف السبعة: أنها سبعة أوجه من وجوه التغاير كما سنوضح ذلك إن شاء الله.
وهذا القول اختاره كثير من المحققين في هذا الشأن كأبي الفضل الرازي، وابن قتيبة، والباقلاني، وابن الجزري والسخاوي، ومكي بن أبي طالب، وأبي عمرو الداني، وغيرهم.

أما حصر هذه الأوجه فلا يخلو من إشكال لأن مبنى ذلك على الاستقراء، وهو استقراء ناقص باعتبار أن عثمان رضي الله عنه جمع الناس على حرف واحد وهو حرف قريش، ومن ثم لم تصل إلينا جميع الأحرف السبعة، وإنما بعضها.

وغاية ما هنالك أن نمثل على وجوه التغاير هذه فنقول مثلاً: من ذلك:
اختلاف الأسماء بالإفراد والتثنية والجمع والتذكير والتأنيث، نحو (أمانتهم) و(أماناتهم)، وكالاختلاف في وجوه الإعراب، نحو (ما هذا بشراً) و(ما هذا بشرٌ)، والاختلاف في التصريف، نحو: (ربَّنا باعِد بين أسفارنا) و(ربُّنا باعَد بين أسفارنا)، وهكذا ما كان بتغيير حرف، نحو (يعملون) و(تعملون) إلى غير ذلك من الأوجه التي يحصل بها التغاير. والله أعلم.


http://www.almoslim.net/rokn_elmy/show_question_main.cfm?id=16971
 
أساس شرعي لعلم القراءات

أساس شرعي لعلم القراءات

بسم الله الرحمن الرحيم العلم ابن المذاكرة كما علمونا صغارا، وكانوا يعنون بالمذاكرة (الحوار) ، أو هكذا فهمنا، قبل أن تغزونا وسائل الإعلام فتحول معنى المذاكرة عن معهودنا إلى (القراءة)، وعلى كلّ فقد أحببت أن أسطر بعض الأفكار التي تجول فيَّ عن حديث الأحرف السبعة، شاكراً للإخوة الذين فتقوا الحديث فيه والذين علقوا عليه. على الرغم من أهمية فهم معاني الحديث لأنه المصدر الثاني للتشريع، إلا أني أرى أن البحث التاريخي واللغوي (الفيلولوجي) في علم القراءات هو الذي سيضيف الى العلم شيئا جديدا.وفي الوقت الذي أشكر للأستاذ مساعد- وأحبه في الله كثيرا- أن دلنا على المحاولات او المقاربات العلمية في تحديد معنى (الحرف)، فإني أستأذنه في طرح وجهة نظري بمودة عن الموضوع المهم الذي يشغل جميع الباحثين في الدراسات القرآنية والمتعلمين لعلم القراءات وربما لكل مسلم مثقف. اتجه تفكيري بهذا النحو ، شاكرا لكل من يدل على الطريق: سواء عرفنا المراد الحقيقي من حديث (سبعة أحرف كلها شاف كاف) أم لم نعرف ، فإنّ فائدة الحديث تنحصر في إضفاء الشرعية على علم القراءات وتاريخ المصحف ، ولن تتجاوز البحوث والدراسات التخمين في معناه بحكم القيود الدلالية والفاصل الزماني بين المرسل والمتلقي. مثله في ذلك مثل حديث الفرق ، فلن نتجاوز التخمين في معنى الفرقة إلى قيام الساعة ولذلك فحديث الأحرف السبعة لن يفيدنا وقد تيقنا من ثبوت سنده عند أهل النقل - سوى بإضفاء الشرعية على علم القراءات وهي مضفاة، لكنه يستل سخيمة المتعصبين لظاهر قوله تعالى إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ممن يظنون حُرمة الحديث في مواضيع كثيرة متعلقة بتاريخ القرآن. وقد رأيت من يبسط لسانه بالنكير على مثل ابن جرير على جلالة قدره وعظيم فضله لتكلمه على بعض القراءات وترجيحه بينها. ولا يجرؤ على الترجيح بين القراءات إلا من كان بمستوى ابن جرير وأين مثل أبي جعفر؟ لكن السياق القرآني والمعنى الظاهر للفقرة أو القطعة قد ينصر إحدى القراءات على بعض. فقراءة الكوفيين (حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كُذِبوا) بالتخفيف تبدو أقوى وأكثر ملاءمة للسياق من قراءة البصريين (كُذِبوا) بالتشديد. ذلك أن الآية تصوّر حالة الرسل النفسية والمفارقة التي يشعرون بها بين عظم تكذيب قومهم وجراءتهم على الله وبين حلم الله تعالى عنهم مما تشبه (اليأس) ، ولبيان بغتة نصر الله تعالى وحلاوته ويقين مجيئه لمن لم ييأس من روحه قال تعالى حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كُذبوا، ومعنى كُذبوا أُخلِفوا ما وُعدوا، ولأن الفاعل المجهول شيء من قبل الله تعالى حسن العدول الى كُذبوا بالتشديد لزيادة فائدة تنزيه الرسل من ظنهم ما لا يليق بربهم. لكن قراءة التشديد ستجعل الفاعل المجهول هو قومهم ، والقوم قد كذّبوا، فلا يناسب التشديد السياق أبدا. على أهمية السياق كان يعتمد المرجحون بين القراءات، وربما غضب أو امتعض المرجحون للروايات، ويميل علم الدلالة المعاصر الى نصر المرجحين للسياق لسبب من علم التاريخ، فلا يجوز إخضاع النص المتواتر قطعيّ الثبوت ومنه سياقه العام وترابط جمله وأجزائه لنصوص ظنية الثبوت مروية في ضوئه وظلاله. كتبت هذا الترجيح في ظلال القراءتين قبل أن أقرأ تفسير ابن جرير والآن سأراجعه لأرى ماذا قال: ثم ارتأيت نسخه من نسخة الطبري على موقع مجمع الملك فهد لأشرك القارئ الكريم معي في التفكير، فنحن نفكّر في النصوص وليس في الفراغ، ، قال الطبري رحمه الله تعالى: * * * < 16-296 > القول في تأويل قوله تعالى : حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى , فدعوْا من أرسلنا إليهم , فكذبوهم , وردُّوا ما أتوا به من عند الله =( حتى إذا استيئسَ الرسل )، الذين أرسلناهم إليهم منهم أن يؤمنوا بالله، ويصدِّقوهم فيما أتوهم به من عند الله = وظن الذين أرسلناهم إليهم من الأمم المكذِّبة أن الرسل الذين أرسلناهم قد كذبوهم فيما كانوا أخبروهم عن الله، من وَعده إياهم نصرَهم عليهم =( جاءهم نصرنا ). * * * وذلك قول جماعة من أهل التأويل . * ذكر من قال ذلك: 19987 - حدثنا أبو السائب سلم بن جنادة , قال: حدثنا أبو معاوية , عن الأعمش , عن مسلم , عن ابن عباس , في قوله: (حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا) ، قال: لما أيست الرسل أن يستجيب لهم قومُهم , وظنَّ قومهم أن الرسل قد كذَبَوهم , جاءهم النصر على ذلك , فننجّي من نشاء. 19988 - حدثنا الحسن بن محمد , قال: حدثنا أبو معاوية الضرير, قال: حدثنا الأعمش , عن مسلم , عن ابن عباس، بنحوه = غير أنه قال في حديثه، قال: " أيست الرسل " , ولم يقل: " لما أيست ". < 16-297 > 19989 - حدثنا محمد بن بشار , قال: حدثنا مؤمل , قال: حدثنا سفيان , عن عطاء بن السائب , عن سعيد بن جبير: (حتى إذا استيئس الرسل) ، أن يسلم قومهم , وظنّ قوم الرسل أن الرسل قد كَذَبُوا جاءهم نصرنا. 19990 - حدثنا ابن بشار , قال: حدثنا مؤمل , قال: حدثنا سفيان , عن الأعمش , عن أبي الضحى , عن ابن عباس , مثله . 19991 - حدثنا ابن وكيع , قال: حدثنا عمران بن عيينة , عن عطاء , عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس: (حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كُذِبوا) ، قال: حتى إذا استيأس الرسل من قومهم , وظن قومهم أن الرسل قد كَذَبوا ,(جاءهم نصرنا). 19992 - حدثنا ابن بشار , قال: حدثنا عبد الرحمن , قال: حدثنا سفيان , عن حصين , عن عمران السلمي , عن ابن عباس: (حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا) ، أيس الرسل من قومهم أن يصدِّقوهم , وظن قومهم أن الرسل قد كذبتهم. 19993 - حدثنا عمرو بن عبد الحميد , قال: حدثنا جرير, عن حصين , عن عمران بن الحارث السلمي , عن عبد الله بن عباس , في قوله: (حتى إذا استيئس الرسل ) ، قال: استيأس الرسل من قومهم أن يستجيبوا لهم =(وظنوا أنهم قد كذبوا)، قال: ظن قومهم أنهم جاؤوهم بالكذب. 19994 - حدثنا أبو كريب , قال: حدثنا ابن إدريس , قال: سمعت حصينًا , عن عمران بن الحارث , عن ابن عباس: حتى إذا استيأس الرسل من أن يستجيب لهم قومهم , وظنَّ قومهم أن قد كذبوهم =(جاءهم نصرنا). < 16-298 > 19995 - حدثني أبو حصين عبد الله بن أحمد بن يونس , قال: حدثنا عبثر , قال: حدثنا حصين , عن عمران بن الحارث , عن ابن عباس , في هذه الآية: (حتى إذا استيئس الرسل ) ، قال: استيأس الرسل من قومهم أن يؤمنوا , وظنَّ قومُهم أن الرسل قد كَذَبوهم فيما وعدوا وكذبوا =( جاءهم نصرنا ). 19996 - حدثنا محمد بن المثنى , قال: حدثنا ابن أبي عدي , عن شعبة , عن حصين , عن عمران بن الحارث , عن ابن عباس , قال: ( حتى إذا استيئس الرسل ) ، من نصر قومهم =( وظنوا أنهم قد كذبوا ) ، ظن قومهم أنهم قد كَذَبوهم. 19997 - حدثنا الحسن بن محمد , قال: حدثنا محمد بن الصباح , قال: حدثنا هشيم , قال: أخبرنا حصين , عن عمران بن الحارث , عن ابن عباس , في قوله: ( حتى إذا استيئس الرسل ) ، قال : من قومهم أن يؤمنوا بهم , وأن يستجيبوا لهم , وظن قومهم أن الرسل قد كذبوهم ( جاءهم نصرنا ) ، يعني الرسلَ. 19998 - حدثني المثنى , قال: حدثنا عمرو بن عون , قال: أخبرنا هشيم , عن حصين , عن عمران بن الحارث , عن ابن عباس، بمثله سواء . 19999 - حدثنا الحسن بن محمد , قال: حدثنا عبد الوهاب بن عطاء , عن هارون , عن عباد القرشي , عن عبد الرحمن بن معاوية , عن ابن عباس: ( وظنوا أنهم قد كُذِبوا ) خفيفة , وتأويلها عنده: وظن القومُ أن الرسل قد كذبوا. < 16-299 > 20000 - حدثنا أبو بكر , قال: حدثنا طلق بن غنام , عن زائدة , عن الأعمش , عن مسلم , عن ابن عباس , قال: ( حتى إذا استيئس الرسل ) ، من قومهم أن يصدِّقوهم , وظن قومُهم أن قد كذبتهم رُسُلهم =( جاءهم نصرنا ) . 20001 - حدثني المثنى , قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال: حدثني معاوية , عن علي , عن ابن عباس , قوله: ( حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا ) ، يعني: أيس الرسل من أن يتّبعهم قومهم , وظن قومُهم أن الرسل قد كَذَبوا , فينصر الله الرسل , ويبعثُ العذابَ. 20002 - حدثني محمد بن سعد , قال: حدثني أبي , قال: حدثني عمي , قال: حدثني أبي , عن أبيه , عن ابن عباس قوله: ( حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا ) ، حتى إذا استيأس الرسلُ من قومهم أن يطيعوهم ويتبعوهم , وظنَّ قومُهم أن رسلهم كذبوهم =( جاءهم نصرنا ). 20003 - حدثني المثنى , قال: حدثنا إسحاق , قال: حدثنا محمد بن فضيل , عن حصين , عن عمران بن الحارث , عن ابن عباس: ( حتى إذا استيئس الرسل ) ، من قومهم =( وظنوا أنهم قد كذبوا ) ، قال: فما أبطأ عليهم إلا من ظن أنهم قد كَذَبوا. 20004 - .... قال: حدثنا آدم العسقلاني , قال: حدثنا شعبة , قال: < 16-300 > أخبرنا حصين بن عبد الرحمن , عن عمران بن الحارث قال: سمعت ابن عباس يقول: ( وظنوا أنهم قد كذبوا ) خفيفةً . وقال ابن عباس: ظن القومُ أنّ الرسل قد كَذَبوهم، خفيفةً. 20005 - حدثنا ابن وكيع , قال: حدثنا جرير , عن عطاء , عن سعيد بن جبير , في قوله: ( حتى إذا استيئس الرسل ) ، من قومهم , وظنّ قومُهم أن الرسل قد كَذَبوهم . 20006 - .... قال: حدثنا محمد بن فضيل , عن خصيف , قال: سألت سعيد بن جبير , عن قوله: ( حتى إذا استيئس الرسل ) ، من قومهم , وظن الكفار أنهم هم كَذَبوا. 20007 - حدثني يعقوب والحسن بن محمد , قالا حدثنا إسماعيل بن علية . قال: حدثنا كلثوم بن جبر , عن سعيد بن جبير , قوله: ( حتى إذا استيئس الرسل ) ، من قومهم أن يؤمنوا , وظن قومُهم أن الرسل قد كَذَبتهم. 20008 - حدثني المثنى , قال: حدثنا عارم أبو النعمان , قال: حدثنا حماد بن زيد , قال: حدثنا شعيب , قال: حدثني إبراهيم بن أبي حرة الجزري , قال: سأل فتى من قريش سعيد بن جبير , فقال له: يا أبا عبد الله، كيف تقرأ هذا الحرف، فإني إذا أتيت عليه تمنَّيت أن لا أقرأ هذه السورة: ( حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا ) ؟ قال: نعم , حتى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يصدِّقوهم , وظن المرسَلُ إليهم أن الرُّسُل كَذَبوا . قال: فقال الضحاك بن مزاحم: ما رأيت كاليوم قط رجلا يدعى إلى علم فيتلكَّأ!! لو رحلت في هذه إلى اليمن كان قليلا! < 16-301 > 20009 - حدثني المثنى , قال: حدثنا الحجاج , قال: حدثنا ربيعة بن كلثوم , قال: حدثني أبي , أن مسلم بن يسار , سأل سعيد بن جبير ; فقال: يا أبا عبد الله , آية بلغت مني كل مبلغ: ( حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا ) ، فهذا الموتُ , أن تظنّ الرسل أنهم قد كُذِبوا , أو نظنّ أنهم قد كَذَبوا، مخففة! قال: فقال سعيد بن جبير: يا أبا عبد الرحمن , حتى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يستجيبوا لهم , وظن قومُهم أن الرسل كذبتهم =( جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين ) . قال: فقام مسلم إلى سعيد , فاعتنقه وقال: فرّج الله عنك كما فرّجت عني 20010 - حدثنا الحسن بن محمد , قال: حدثنا يحيى بن عباد , قال: حدثنا وهيب , قال: حدثنا أبو المعلى العطار , عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس: ( حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا ) قال: استيأس الرسل من إيمان قومهم ; وظنَّ قومهم أن الرسل قد كَذَبوهم , ما كانوا يخبرونهم ويبلِّغونهم. < 16-302 > 20011 - .... قال: حدثنا شبابة , قال: حدثنا ورقاء , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد , قوله ;( حتى إذا استيئس الرسل ) أن يصدقهم قومهم , وظن قومهم أن الرسل قد كَذَبوا , جاء الرسل نَصرُنا. 20012 - حدثني محمد بن عمرو , قال: حدثنا أبو عاصم , قال: حدثنا عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد , مثله . 20013 - حدثني المثنى: قال: حدثنا الحجاج , قال: حدثنا حماد , عن عطاء بن السائب , عن سعيد بن جبير , في هذه الآية: حتى إذا استيأس الرسل من قومهم، وظن قومهم أن الرسل قد كَذَبت. 20014 - .... قال: حدثنا حماد , عن كلثوم بن جبر , قال: قال لي سعيد بن جبير: سألني سيد من ساداتكم عن هذه الآية فقلت: استيأس الرسل من قومهم , وظنَّ قومهم أن الرسل قد كذبت. 20015 - حدثني يونس , قال: أخبرنا ابن وهب , قال: قال ابن زيد , في قوله: ( حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا ) ، قال: استيأس الرسل أن يؤمن قومهم بهم , وظنَّ قومهم المشركون أن الرسل قد كَذَبوا ما وعدهم الله من نصره إياهم عليهم، وأخْلِفُوا، وقرأ: ( جاءهم نصرنا ) ، قال: جاء الرسلَ النصرُ حينئذ. قال: وكان أبيّ يقرؤها: " كُذِبُوا ". 20016 - حدثنا الحسن بن محمد , قال: حدثنا عبد الوهاب بن عطاء , عن سعيد , عن أبي المتوكل , عن أيوب ابن أبي صفوان , عن عبد الله بن الحارث , < 16-303 > أنه قال: ( حتى إذا استيئس الرسل ) ، من إيمان قومهم =( وظنوا أنهم قد كذبوا ) ، وظن القوم أنهم قد كذبوهم فيما جاءوهم به. 20017 - حدثنا الحسن بن محمد , قال: حدثنا عبد الوهاب , عن جويبر , عن الضحاك , قال: ظن قومهم أن رسلهم قد كَذَبوهم فيما وعدوهم به. 20018 - حدثنا القاسم , قال: حدثنا الحسين , قال: حدثنا محمد بن فضيل , عن جحش بن زياد الضبي , عن تميم بن حذلم , قال: سمعت عبد الله بن مسعود يقول في هذه الآية: " حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا " ، قال: استيأس الرسل من إيمان قومهم أن يؤمنوا بهم , وظن قومهم حين أبطأ الأمر أنهم قد كَذَبوا بالتخفيف. 20019 - حدثنا أبو المثنى , قال: حدثنا محمد بن جعفر , قال: حدثنا شعبة , < 16-304 > عن أبي المعلى , عن سعيد بن جبير , في قوله: ( حتى إذا استيئس الرسل ) ، قال: استيأس الرسل من نصر قومهم , وظنّ قومُ الرسل أن الرسل قد كَذَبوهم. 20020 - حدثنا أحمد بن إسحاق , قال: حدثنا أبو أحمد , قال: حدثنا عمرو بن ثابت , عن أبيه , عن سعيد بن جبير: حتى إذا استيأس الرسل أن يصدِّقوهم , وظن قومُهم أن الرسل قد كذبوهم. 20021 - .... قال: حدثنا أبو أحمد , قال: حدثنا إسرائيل , عن عطاء بن السائب , عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس: حتى إذا استيأس الرسل أن يصدّقهم قومهم , وظن قومُهم أن الرسل قد كَذَبوهم. 20022 - حدثت عن الحسين بن الفرج , قال: سمعت أبا معاذ يقول: حدثنا عبيد بن سليمان , قال: سمعت الضحاك في قوله: ( حتى إذا استيئس الرسل ) ، يقول: استيأسوا من قومهم أن يجيبوهم , ويؤمنوا بهم =" وظنوا "، يقول: وظن قوم الرسل أن الرسل قد كَذَبوهم الموعد. * * * قال أبو جعفر: والقراءة على هذا التأويل الذي ذكرنا في قوله: ( كُذِبُوا ) بضم الكاف وتخفيف الذال. وذلك أيضًا قراءة بعض قرأة أهل المدينة وعامة قرأة أهل الكوفة . وإنما اخترنا هذا التأويل وهذه القراءة , لأن ذلك عقيب قوله: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ < 16-305 > كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ، فكان ذلك دليلا على أن إياس الرسل كان من إيمان قومهم الذين أهلكوا , وأن المضمر في قوله: ( وظنوا أنهم قد كذبوا ) ، إنما هو من ذكر الذين من قبلهم من الأمم الهالكة , وزاد ذلك وضوحًا أيضًا، إتباعُ الله في سياق الخبر عن الرسل وأممهم قوله: ( فنجي من نشاء ) ، إذ الذين أهلكوا هم الذين ظنوا ان الرسل قد كذبتهم، فكَذَّبوهم ظنًّا منهم أنهم قد كَذَبوهم. * * * وقد ذهب قوم ممن قرأ هذه القراءة، إلى غير التأويل الذي اخترنا , ووجّهوا معناه إلى: حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم , وظنَّتِ الرسل أنهم قد كُذِبوا فيما وُعِدُوا من النصر . * ذكر من قال ذلك: 20023 - حدثنا الحسن بن محمد , قال: حدثنا عثمان بن عمر , قال: حدثنا ابن جريج , عن ابن أبي مليكة , قال: قرأ ابن عباس: ( حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كُذِبوا ) ، قال: كانوا بشرًا ضَعفُوا ويَئِسوا. 20024 - .... قال: حدثنا حجاج بن محمد , عن ابن جريج , قال: أخبرني ابن أبي مليكة , عن ابن عباس , قرأ: ( وظنوا أنهم قد كُذِبوا ) ، خفيفة، قال ابن جريج: أقول كما يقول: أخْلِفوا. قال عبد الله: قال لي ابن عباس: كانوا بشرًا. وتلا ابن عباس: حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [سورة البقرة: 214] = قال ابن جريج: قال ابن أبي مليكة: ذهب بها إلى أنهم ضَعُفوا فظنوا أنهم أخْلِفوا. 20025 - حدثنا ابن بشار , قال: حدثنا مؤمل , قال: حدثنا سفيان , عن الأعمش , عن أبي الضحى , عن مسروق , عن عبد الله , أنه قرأ: ( حتى إذا < 16-306 > استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كُذِبوا ) ، مخففة. قال عبد الله: هو الذي تَكْرَه. 20026 - .... قال: حدثنا أبو عامر , قال: حدثنا سفيان , عن سليمان , عن أبي الضحى , عن مسروق , أن رجلا سأل عبد الله بن مسعود: ( حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا ) ، قال: هو الذي تكره = مخففةً. 20027 - .... قال: حدثنا محمد بن جعفر , قال: حدثنا شعبة , عن أبي بشر , عن سعيد بن جبير , أنه قال في هذه الآية: ( حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا ) ، قلت: " كُذِبوا "! قال: نعم ألم يكونوا بشرًا؟ 20028 - حدثنا الحارث , قال: حدثنا عبد العزيز , قال: حدثنا إسرائيل , عن سماك , عن عكرمة , عن ابن عباس , في قوله: (حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كُذِبوا ) ، قال: كانوا بشرًا، قد ظنُّوا. * * * قال أبو جعفر: وهذا تأويلٌ وقولٌ , غيرُه من التأويل أولى عندي بالصواب، وخلافه من القول أشبه بصفات الأنبياء، والرسل إن جاز أن يرتابوا بوعدِ الله إياهم ويشكوا في حقيقة خبره، مع معاينتهم من حجج الله وأدلته ما لا يعاينه المرسَل إليهم فيعذروا في ذلك، فإن المرسَلَ إليهم لأوْلى في ذلك منهم بالعذر. وذلك قول إن قاله قائلٌ لا يخفى أمره. * * * وقد ذُكِر هذا التأويل الذي ذكرناه أخيرًا عن ابن عباس لعائشة , فأنكرته أشد النُكرة فيما ذكر لنا. * ذكر الرواية بذلك عنها، رضوانُ الله عليها: 20029 - حدثنا الحسن بن محمد , قال: حدثنا عثمان بن عمر , قال: حدثنا < 16-307 > ابن جريج , عن ابن أبي مليكة , قال: قرأ ابن عباس: ( حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا )، فقال: كانوا بشرًا، ضعفوا ويئسوا = قال ابن أبي مليكة: فذكرت ذلك لعروة , فقال: قالت عائشة: معاذ الله! ما حدَّث الله رسوله شيئًا قطُّ إلا علم أنه سيكون قبل أن يموت , ولكن لم يزل البلاء بالرسل حتى ظن الأنبياء أن من تبعهم قد كذّبوهم . فكانت تقرؤها: " قَدْ كُذِّبُوا " ، تثقلها. 20030 - .... قال: حدثنا حجاج , عن ابن جريج , قال: أخبرني ابن أبي مليكة , أن ابن عباس قرأ: ( وظنوا أنهم قد كُذِبوا ) ، خفيفة، قال عبد الله: ثم قال لي ابن عباس: كانوا بشرًا وتلا ابن عباس: حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [سورة البقرة: 214] = قال ابن جريج: قال ابن أبي مليكة: يذهب بها إلى أنهم ضَعُفوا , فظنوا أنهم أُخْلِفوا . قال ابن جريج: قال ابن أبي مليكة: وأخبرني عروة عن عائشة , أنها خالفت ذلك وأبته , وقالت: ما وعد الله محمدًا صلى الله عليه وسلم من شيء إلا وقد علم أنه سيكون حتى مات , ولكنه لم يزل البلاء بالرسل حتى ظنوا أنَّ من معهم من المؤمنين قد كذَّبوهم. قال ابن أبي مليكة في حديث عروة: كانت عائشة تقرؤها: " وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِّبُوا " مثقَّله , للتكذيب. 20031 - .... قال: حدثنا سليمان بن داود الهاشمي , قال: حدثنا إبراهيم بن سعد , قال: حدثني صالح بن كيسان , عن ابن شهاب , عن عروة , < 16-308 > عن عائشة قال: قلت لها قوله: ( حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كُذِبوا ) ، قال: قالت عائشة: لقد استيقنوا أنهم قد كُذِّبوا . قلت: " كُذِبوا ". قالت: معاذ الله , لم تكن الرُّسل تظُنُّ بربها، إنما هم أتباع الرُّسُل، لما استأخر عنهم الوحيُ، واشتد عليهم البلاء، ظنت الرسل أن أتباعهم قد كذَّبوهم =( جاءهم نصرنا ). 20032 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى , قال: حدثنا محمد بن ثور , عن معمر , عن الزهري , عن عروة , عن عائشة , قالت: حتى إذا استيأس الرجل ممن كذبهم من قومهم أن يصدّقوهم , وظنَّت الرسل أن من قد آمن من قومهم قد كَذَّبوهم , جاءهم نصر الله عند ذلك. * * * قال أبو جعفر: فهذا ما روي في ذلك عن عائشة , غير أنها كانت تقرأ: " كُذِّبُوا " ، بالتشديد وضم الكاف , بمعنى ما ذكرنا عنها: من أن الرسل ظنَّت بأتباعها الذين قد آمنوا بهم، أنهم قد كذَّبوهم , فارتدُّوا عن دينهم , استبطاءً منهم للنصر . وقد بيّنا أن الذي نختار من القراءة في ذلك والتأويل غيرَه في هذا الحرف خاصّةً. * * * وقال آخرون ممن قرأ قوله: " كُذِّبُوا " بضم الكاف وتشديد الذال , معنى ذلك: حتى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يؤمنوا بهم ويصدِّقوهم , وظنَّت الرسل، بمعنى: واستيقنت، أنهم قد كذّبهم أممهم، جاءَتِ الرُّسل نُصْرَتنا . وقالوا: < 16-309 > " الظن " في هذا بمعنى العلم، من قول الشاعر: فَظُنُّــوا بِــأَلْفَيْ فَــارِسٍ مُتَلَبِّـبٍ سَــرَاتُهُمْ فِــي الفَارِسِـيّ المُسَـرَّدِ * * * * ذكر من قال ذلك: 20033 - حدثنا بشر , قال: حدثنا يزيد , قال: حدثنا سعيد , عن قتادة , عن الحسن = وهو قول قتادة =: " حتى إذا استيئس الرسل من إيمان قومهم , وظنوا أنهم قد كُذِّبوا "، أي: استيقنوا أنه لا خير عند قومهم , ولا إيمان =( جاءهم نصرنا). * * * 20034 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى , قال: حدثنا محمد بن ثور , عن معمر , عن قتادة: ( حتى إذا استيئس الرسل ) ، قال: من قومهم =( وظنوا أنهم قد كذِّبوا )، قال: وعلموا أنهم قد كذبوا =( جاءهم نصرنا). * * * قال أبو جعفر: وبهذه القراءة كانت تقرأ عامة قرأة المدينة والبصرة والشأم , أعني بتشديد الذال من " كُذِّبُوا " وضم كافها. * * * وهذا التأويل الذي ذهب إليه الحسن وقتادة في ذلك، إذا قرئ بتشديد الذال وضم الكاف، خلافٌ لما ذكرنا من أقوال جميع من حكينا قوله من الصحابة , لأنه لم يوجه " الظن " في هذا الموضع منهم أحدٌ إلى معنى العلم واليقين , مع أن " الظنّ" إنما استعمله العرب في موضع العلم فيما كان من علم أدرك من جهة الخبر أو من غير وجه المشاهده والمعاينة. فأما ما كان من علم أدرك من وجه المشاهدة والمعاينة، فإنها لا تستعمل فيه " الظن " , لا تكاد تقول: " أظنني حيًّا، وأظنني إنسانًا " , بمعنى: أعلمني إنسانًا، وأعلمني حيًا . والرسل الذين كذبتهم أممهم , لا شك أنها كانت لأممها شاهدة، ولتكذيبها إياها منها سامعة , فيقال فيها: ظنّت بأممها أنها كَذَّبتها. * * * وروي عن مجاهد في ذلك قولٌ هو خلاف جميع ما ذكرنا من أقوال الماضين الذين سَمَّينا أسماءهم وذكرنا أقوالهم، وتأويلٌ خلاف تأويلهم، وقراءةٌ غير قراءة < 16-310 > جميعهم , وهو أنه، فيما ذُكِر عنه، كان يقرأ: " وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كَذَبُوا " بفتح الكاف والذال وتخفيف الذال. * ذكر الرواية عنه بذلك: 20035 - حدثني أحمد بن يوسف , قال: حدثنا أبو عبيد , قال: حدثنا حجاج , عن ابن جريج , عن مجاهد , أنه قرأها: " كَذَبُوا " بفتح الكاف بالتخفيف. * * * =وكان يتأوّله كما: - 20036 - حدثنا القاسم , قال: حدثنا الحسين , قال:حدثني حجاج , عن ابن جريج , عن مجاهد: استيأس الرجل أن يُعَذَّبَ قومهم , وظن قومهم أن الرسل قد كَذَبوا =( جاءهم نصرنا ) , قال: جاء الرسلَ نصرنا . قال مجاهد: قال في" المؤمن " فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ ، قال: قولهم: " نحن أعلم منهم ولن نعذّب " . وقوله: وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ، [سورة غافر: 83] ، قال: حاق بهم ما جاءت به رسلهم من الحق. * * * قال أبو جعفر: وهذه قراءة لا أستجيز القراءة بها، لإجماع الحجة من قرأة الأمصار على خلافها. ولو جازت القراءة بذلك، لاحتمل وجهًا من التأويل، وهو أحسن مما تأوله مجاهد , وهو: حتى إذا استيأس الرسل من عذاب الله قومَها المكَذِّبة بها , وظنَّت الرسل أن قومها قد كَذَبوا وافتروا على الله بكفرهم بها = ويكون " الظن " موجِّهًا حينئذ إلى معنى العلم , على ما تأوَّله الحسن وقتادة. * * * وأما قوله: ( فنجي من نشاء ) فإن القرأة اختلفت في قراءته. فقرأه عامة قرأة أهل المدينة ومكة والعراق: " فَنُنْجِي مَنْ نَشَاء "، مخفّفة بنونين، < 16-311 > بمعنى: فننجي نحنُ من نشاء من رسلنا والمؤمنين بنا , دون الكافرين الذين كَذَّبوا رُسلنا، إذا جاء الرسلَ نصرُنا. * * * واعتلّ الذين قرءوا ذلك كذلك، أنه إنما كتب في المصحف بنون واحدة، وحكمه أن يكون بنونين , لأن إحدى النونين حرف من أصل الكلمة , من: " أنجى ينجي" , والأخرى " النون " التي تأتي لمعنى الدلالة على الاستقبال , من فعل جماعةٍ مخبرةٍ عن أنفسها، لأنهما حرفان، أعني النونين، من جنس واحدٍ يخفى الثاني منهما عن الإظهار في الكلام , فحذفت من الخط، واجتزئ بالمثبتة من المحذوفة , كما يفعل ذلك في الحرفين اللذين يُدْغم أحدهما في صاحبه. * * * وقرأ ذلك بعض الكوفيين على هذا المعنى , غير أنه أدغم النون الثانية وشدّد الجيم. * * * وقرأه آخر منهم بتشديد الجيم ونصب الياء، على معنى فعل ذلك به من: " نجَّيته أنجّيه ". * * * وقرأ ذلك بعض المكيين: " فَنَجَا مَنْ نَشَاءُ" بفتح النون والتخفيف , من: " نجا ينجو ". * * * قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندنا، قراءة من قرأه: " فَنُنْجِي مَنْ نَشَاءُ" بنونين , لأن ذلك هو القراءة التي عليها القرأة في الأمصار , وما خالفه ممن قرأ ذلك ببعض الوجوه التي ذكرناها، فمنفرد بقراءته عما عليه الحجة مجمعة من القرأة. وغير جائز خلاف ما كان مستفيضًا بالقراءة في قرأة الأمصار. * * * < 16-312 > قال أبو جعفر: وتأويل الكلام: فننجي الرسلَ ومن نشاء من عبادنا المؤمنين إذا جاء نصرنا، كما: - 20037 - حدثني محمد بن سعد , قال: حدثني أبي , قال حدثني عمي: قال: حدثني أبي , عن أبيه , عن ابن عباس: " فننجي من نشاء " ، فننجي الرسل ومن نشاء =( ولا يردّ بأسنا عن القوم المجرمين ) ، وذلك أن الله تبارك وتعالى بَعَث الرسل , فدعوا قومهم، وأخبروهم أنه من أطاع نجا، ومن عصاه عُذِّب وغَوَى. * * * وقوله ( ولا يردّ بأسنا عن القوم المجرمين ) ، يقول: ولا تردُّ عقوبتنا وبطشنا بمن بطشنا به من أهل الكفر بنا وعن القوم الذين أجرموا , فكفروا بالله، وخالفوا رسله وما أتوهم به من عنده. * * *
خلاصة ما أورده ابن جرير رحمه الله تعالى حتى إذا استيأس الرسل وظنوا(ظن قومهم) أنهم قد كُذِبوا حتى إذا استيأس الرسل وظنوا (الرسل أنفسهم) أنهم قد كُذبوا حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كُذِّبوا (من قبل قومهم) ورجح الطبري قراءة التخفيف لكن على تأويل أن الذين ظنوا هم القوم لا الرسل، معتمدا على قاعدة خارج السياق هي عصمة الرسل وربأ بهم عما لا يليق بهم. قلت وقد انتصرت لتأويل ابن عباس في أن القراءة الأكثر مواءمة للسياق هي (كُذبوا) بالتخفيف وأن الرسل أنفسهم هم الذين ظنوا، ومعنى ظنهم بالضبط هو معنى قولهم حين (يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله) و في هذه الحالة وما أشبه، يكون المعنى العام أولى بالمصير اليه من المعنى الجزئيّ. والله أعلى وأعلم. لكننا نخلص من هذه المحاورة إلى أن الموقف من القراءات والترجيح بينها ، الجرأة والإحجام عن نقدها، هو موقف معرفي في ترتيب الأولويات المعرفية، ولا أجدني مستطيعا أن أقتنع بتقديم شيء على السياق القرآني وترابط أجزائه.
 
عودة
أعلى