مساعد الطيار
مستشار
- إنضم
- 15/04/2003
- المشاركات
- 1,698
- مستوى التفاعل
- 5
- النقاط
- 38
[align=center]بسم الله الرحمن الرحيم[/align]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ن وعلى آله وصحبه ومن والاه ، أما بعد:
فيكثر استشهاد الوعاظ وغيرهم بآيات مساقاتها الكاملة لا تدلُّ على ما استشهدوا به ، كما فعل بعضهم بوضع رسمٍ للدشِّ (اللاقط الفضائي) ، وكتب تحتها جزءَ آيةٍ ، وهي قوله تعالى :(;يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ) الحشر : 2
ولو نظرت إلى مساق الآية كاملاً لعلمت أنَّه في يهود بني النظير ، وانها تذكر ما حصل لهم لما حاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وأخرجهم من حصونهم المنيعة ، قال تعالى :(هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأبْصَارِ) الحشر : 2
فهل يصحُّ هذا الاستدال وأمثاله ؟
هذا ما سأجتهد في تأصيله في هذه المقالة الموجزة .
إنَّ في الموضوع جانبان متقاربان :
الأول : الاستشهاد بجزء من الآية في غير ما وردت من أجلِه في الأصل .
الثاني : تنْزيل الآية على واقعة حادثةٍ ، وجعلُها مما يدخل في معنى الآيةِ .
فهل يوجد في سنة النبي صلى الله عليه وسلم وأقوال الصحابة ومن بعدهم ما يدلُّ على صحَّةِ هذا العملِ ؟
1 ـ في تفسير قوله تعالى :(وَكَانَ الإنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) الكهف : 54 ، يورد بعض المفسرين ما ورد في خبر علي بن أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طرقه وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة ، فقال : ألا تُصَلِّيان ؟!
فقلت : يا رسول الله ، إنما أنفسنا بيد الله ، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا ، فانصرف حين قلت ذلك ، ولم يرجع إليَّ شيئًا ، ثم سمعته وهو مُوَلٍّ يضرب فخذه ويقول :(وَكَانَ الإنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) الكهف : 54 أخرجه الإمام أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم .
وإذا رجعت إلى مساق الآيات التي ورد فيها هذا الجزء من الآية وجدته حديثًا عن الذين كفروا ، قال تعالى :(مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً ، وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً ، وَرَأى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً ، وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً ، وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً ، وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُواً ، وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً ، وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً) الكهف : 51 ـ 58
ومن هذه السياقات يتضح أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم اقتطع هذا الجزء الذي يصدق على حال علي رضي الله عنه ، ولا يعني هذا أنَّه ممن اتصف بباقي تلك الصفات المذكورات أبدًا .
2 ـ في تفسير قوله تعالى :(أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا)الأحقاف : 20[1] ، ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما أنَّ عمر رضي الله عنه رأى في يد جابر بن عبد الله درهمًا فقال : ما هذا الدرهم ؟
قال : أريد ان أشتري لحمًا لأهلي قَرِمُوا إليه .
فقال : أفكلما اشتهيتم شيئًا اشتريتموه ؟! أين تذهب عنكم هذه الآيةُ :(أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا) الأحقاف : 20 .
والآية التي يستشهد بها أمير المؤمنين جاءت في سياق التقريع والتوبيخ للكافرين ، وليست في سياق المؤمنين ، قال تعالى :(وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُون) الأحقاف : 20 ، ومع ذلك استشهد بها أمير المؤمنين ونزَّلها على أهل الإيمان .
وهناك عدَّة آثارٍ ستأتي لاحقًا ، والمراد مما مضى أنَّ أصل هذا الموضوع موجودٌ في السنة وأقوال الصحابة .
إذا تأمَّلت هذه المسألةُ وجدت أنها ترجع إلى أصلٍ من أصولِ التفسيرِ ، وهو التفسيرُ على القياسِ ، والمرادُ به : إلحاقُ معنًى باطنٍ في الآيةِ بظاهرِها الَّذي يدلُّ عليه اللَّفظُ .
قالَ ابن القيِّم ( ت : 751 ) :( وتفسيرُ النَّاسِ يدورُ على ثلاثةِ أصولٍ :
تفسيرٌ على اللَّفظِ ، وهو الَّذي ينحو إليه المتأخِّرونَ .
وتفسيرٌ على المعنى ، وهو الَّذي يذكرُهُ السَّلفُ .
وتفسيرٌ على الإشارةِ والقياسِ ، وهو الَّذي ينحو إليه كثيرٌ من الصُّوفيَّةِ وغيرِهم).[2]
والتفسير على القياس موجودٌ في تفسيرِ السلفِ ؛ لكنَّه أقلُّ من القسمين الآخَرين . ومن أمثلتِه ، ما ورد في قوله تعالى :(فَلَمَّا زَاغُوا أزَاغَ الله) الصف : 5 ، أنها نزلتْ في الخوارجِ.[3]
فالمفسِّر انتزع هذا المقطع من الآيةِ ، ونزَّله على الخوارجِ الذين لم يكونوا عند نزولِ هذه الآياتِ ، وإنما جاءوا بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وانقطاع الوحي ، وإذا نظرتَ إلى سياقِ الآيةِ ، وجدتَ أنه في الحديثِ عن بني إسرائيل ، وأنهم هم الموصوفون بهذا الوصف ، قال الله تعالى :(وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) الصف : 5
والمفسِّرُ هنا إنما أراد أنْ يُنبِّه إلى دخولِ الخوارجِ في حكمِ هذه المقطع من الآيةِ ، وأنهم مثالٌ لقومٍ مالوا عن الحقِّ ، فأمالَ اللهُ قلوبهم جزاءً وفاقاً لميلِهم ، وتنْزيل ذلك المقطع من الآية على الخوارجِ إنما هو على سبيلِ القياسِ بأمرِ بني إسرائيلَ ، وليس مراده أنهم هم سبب نزولها ، فهذا لا يقول به عاقل .
وعلى هذا يُقاسُ ما وردَ عن السلفِ في حكايةِ نزولِ بعض الآياتِ في أهلِ البدعِ ، وأنهم أرادوا التنبيه على دخولهم في حكم الآيةِ ، لا أنهم هم المعنيون بها دون غيرهم ، خاصةً إذا كانَ المذكورون غيرُ موجودينَ في وقتِ التنْزيل ؛ كأهلِ البدعِ الذينَ نُزِّلتْ عليهم بعضُ الآياتِ ، واللهُ أعلمُ .
قال الشاطبي :( …كما قاله القاضي إسماعيل ـ في قوله تعالى :(إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيءٍ) الأنعام : 159 بعد ما حكى أنها نزلت في الخوارج ـ : وكأنَّ القائل بالتخصيص ، والله أعلم ،لم يقل به بالقصد الأول ، بل أتى بمثالٍ مما تتضمنه الآية ؛ كالمثال المذكور ، فإنه موافق لما قال ، مشتهراً ( كذا) في ذلك الزمان ، فهو أولى ما يمثل به ، ويبقى ما عداه مسكوتاً عن ذكره عند القائل به ، ولو سئل عن العموم لقال به .
وهكذا كل ما تقدم من الأقوال الخاصة ببعض أهل البدع ، إنما تحصل على التفسير ، ألا ترى أن الآية الأولى من سورة آل عمران إنما نزلت في قصة نصارى نجران ؟! ثمَّ نُزِّلت على الخوارج ، حسبما تقدم ، إلى غير ذلك مما يذكـر في التفسير ، إنما يحملونه على ما يشمله الموضع بحسب الحاجة الحاضرة لا حسب ما يقتضيه اللفظ لغةً .
وهكذا ينبغي أن تفهم أقوال المفسرين المتقدمين ، وهو الأولَى لمناصبهم في العلم ، ومراتبهم في فهم الكتاب والسنة).[4]
وفي قوله تعالى :(وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) الأنفال : 71 قال ابن عطيَّةَ ( ت : 542 ) :(وأما تفسير الآية بقصة عبد الله بن أبي السرح ، فينبغي أن يُحرَّرَ ، فإن جُلبتْ قصةُ عبد الله بن أبي السرح على أنها مثالٌ ، كما يمكن أن تُجْلَبَ أمثلةٌ في عصرنا من ذلك ، فحسنٌ . وإن جُلبت علـى أنَّ الآية نزلت في ذلك ، فخطاٌ ؛ لأنَّ ابن أبي السرحِ إنما تبيَّن أمره في يوم فتح مكة ، وهذه الآية نزلت عَقِيبَ بدرٍ).[5]
وفي قوله تعالى :(فَأَمَّا الْأِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ) الفجر : 15 ـ 20
قال ابن عطية ( ت : 542 ) :( ذكر الله تعالى في هذه الآية ما كانت قريش تقوله وتستدلُّ به على إكرام الله تعالى وإهانته لعبده ، وذلك أنهم كانوا يرون أن من عنده الغنى والثروة والأولاد ، فهو المُكرَم ، وبضدِّه المهانُ .
ومن حيثُ كان هذا المقطع غالباً على كثير من الكفار ، جاء التوبيخُ في هذه الآية لاسم الجنسِ ؛ إذ قد يقع بعض المؤمنين في شيء من هذا المنْزع [6]، ومن ذلك حديث الأعرابِ الذين كانوا يقصدون المدينة على النبي صلى الله عليه وسلم ، فمن نال منهم خيراً ، قال : هذا دين حسنٌ ، ومن نال منهم شرٌّ ، قال : هذا دين سوءٍ).[7]
وقال ابن عطية ( ت : 542 ) في قوله تعالى :(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) الأنبياء : 1 :( وقوله تعالى :(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ) عامٌّ في جميع الناسِ ، وإن كان المشارُ إليه في ذلك الوقت كفار قريشٍ ، ويدلُّ على ذلك ما بعدها من الآياتِ ، وقوله :(وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) ؛ يريد : الكفار .
قال القاضي أبو محمد [8]رحمه الله :(ويتَّجِهُ من هذه الآيةِ على العُصاةِ من المؤمنين قِسْطُهُم .
وقوله تعالى :(ما يأتيهم) وما بعدها مختصٌّ بالكفارِ).[9]
وقال في قوله تعالى :(وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) يونس : 12 ).
وقوله :(مرَّ) يقتضي أن نزولها في الكفار ، ثم هي بَعْدُ تتناول كل من دخل تحت معناها من كافرٍ أو عاصٍ).[10]
وقد ذكر الشنقيطي ( ت : 1393 ) ـ في معرضِ ردِّه على التقليدِ ـ آياتٍ في النهي عن التقليدِ ، فقال :(… وقال جل وعز :(وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ ، قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ) الزخرف : 23 ـ 24 ، فمنعهم الاقتداء بآبائهم من قبول الاهتداء ، فقالوا : إنا بما أرسلتم به كافرون .
وفي هؤلاء ومثلهم قال الله عزَّ وجل :(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) الأنفال : 22 ، وقال : (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ ، وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ) البقرة : 166 ـ 167 ، وقال عز وجل ـ عائباً لأهل الكفر وذامّاً لهم ـ :(ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون قالوا وجدنا آباءنا كذلك يفعلون)[11] ، وقال :(وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا) الأحزاب : 67 ، ومثل هذا في القرآن كثير في ذمِّ تقليد الآباء والرؤساء .
وقد احتجَّ العلماء بهذه الآيات في إبطال التقليد ، ولم يمنعهم كفرُ أولئك[12] من الاحتجاج بها ؛ لأنَّ التشبيه لم يقع منهم من جهة كفرِ أحدهما وإيمانِ الآخرِ، وإنما وقع التشبيه بين التقليدين بغير حجةٍ للمقلِّد ، كما لو قلَّد رجلٌ ، فكفرَ ، وقلَّدَ آخرٌ ، فأذنبَ ، وقلَّدَ آخرٌ في مسألةِ دنياه ، فأخطأ وجهها ، كان كلُّ واحدٍ ملوماً على التقليدِ بغيرِ حجةٍ ؛ لأنَّ كل تقليدٍ يشبه بعضه بعضًا ، وإن اختلفت الآثامُ).[13]
ومن هذه النقولِ يتحصَّلُ ما يأتي :
1 ـ أنَّ مثلَ هذه التفاسيرِ أو الاستشهادات إنما جاءتْ على سبيلِ القياسِ .
2 ـ أنَّ هذا الأسلوبَ معروفٌ في السنة وآثار السلف ومن جاء بعدهم من العلماءِ ، ولذا حكموا بإبطالِ التقليدِ اعتمادًا على الآياتِ النازلةِ في الكفارِ .
3 ـ أنَّ القياسَ إنما هو بالاتصافِ بشيءٍ من أوصافِ الكفارِ التي قد تقع من عموم الناسِ . أما الأوصاف التي تختصُّ بوصف الكفرِ الأكبر ؛ كنواقض الإسلام العشرة التي ذكرها الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، فهذه لو عمل بشيء منها فإنه يخرج عن مسمى الإيمان إلى الكفر ، ولا يدخل في ما سيق البحث من أجله .
وليس يلزمُ من تنْزيلِ الحكمِ بشيءٍ من أوصافِ الكفارِ على أحدِ العصاةِ ، أنه مُتَّصفٌ بكاملِ أوصاف الكفارِ ، وإلاَّ لكان الكلامُ عن كفارٍ ، لا عن مؤمنينَ ، وهذا ما وضَّحه الشنقيطيُّ ( ت : 1393 ) في المثال الذي ذكره في حكمِ التقليدِ .
* ضوابط وتنبيهات في مسألة الاستشهاد وما جرى مجراها :
أولاً : يحسُنُ ذكرُ مدلولِ الآيةِ المطابقِ ، وهو أنها نازلةٌ في الكفارِ ، وأنه يُستفادُ منها أنَّ من اتصف بهذه الصفةِ من المسلمينَ ، فأنه يُلحقُ بحكم الكفارِ ، ولكنْ كلٌّ بِحَسَبِه ، فهذا كافرٌ كفراً محضاً ، وهذا مسلمٌ عاصٍ وافق الكفارَ في هذه الصفةِ ، واللهُ أعلمُ .
ثانيًا : إنَّ من سلكَ هذا الطريقَ ، فإنه لا يصحُّ أنْ يقصِرَ الآيةَ على ما فسَّرَ به قياساً ، ولو فعلَ لكانَ فِعْلُه تحكُّماً بلا دليلٍ ، كما هو حالُ أهل البدعِ ، والتَّحَكُّمُ لا يَعجزُ عنه أحدٌ .
ثالثًا : يلزمُ أن يكونَ بين معنى الآيةِ الظاهرِ وبين ما ذكرَه من الاستشهاد أو التفسيرِ قياساً ارتباطٌ ظاهرٌ ، وإلاَّ كانَ الاستشهاد بالآية أو حملُها على التفسيرِ القياسيِّ خطأً .
وليعلم أنَّ الاستشهاد أشبهَ حكاية الأمثال التي يتمثَّلُ بها الناس في محاوراتهم ، مع ملاحظة الفارقِ بين الأمرين كما سيأتي ، فكم من الناس يتمثَّل بقول الشاعر :
تكاثرت الظباء على خراش فما يدري خراش ما يصيد
وخراش في هذا البيت كلب صيدٍ ، وقد يحسبه السامعون اسم رجلٍ ، والاستشهاد به على أنه كلب ليس يعني أبدًا أنَّ المستشهد عليه يكون كلبًا ، فالمثل يُحكى كما قيل ، ويستفاد منه في الأحوال المشابهة لأصل المثل ، ولا يعني هذا التماثل في كل شيء .
غير أنَّ الاستشهاد بالآية القرآنية يلزم منه معرفة الأصل الذي تدلُّ عليه الآيةُ ، وإلاَّ لما أمكن إدراك وجه الشبه بين المستشهَد به والمستشهَدِ عليه .
كما يلزم إثبات ذلك الأصل والقولَ به ، ثمَّ الاستدلال به بعد ذلك ، وهذا لا يلزم في المثلِ ، فكم من مثل تنَزِّله على واقعة معيَّنة ، وأنت لا تعرف أصل حكاية هذا المثلَ ، ولا يضير هذا شيئًا إن كنت تعرف مكان ضربه ، وهذا ما لا يتأتَّى مع آيات القرآن .
ومما يُنبَّه عليه هنا أنه لا يجوز الاستشهاد بالقرآن في مواطن الهزل ، فهذا حرام لا يجوز القول به ، ومثله الاقتباس الذي يعمله بعض الشعراء في شعرهم ، فيدخلون مقطعًا من آيةٍ في مواطن هزلية أو غير لائقة بالقرآن ، فيجب الحذر من ذلك ؛ لنه من المحرمات ، فالقرآن جِدٌّ كلُّه ليس فيه هزل ، كما قال تعالى :(إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ ، وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ) الطارق : 14
وأخيرًا ، يجبُ أن يُعلمَ أنَّ هذا الاستشهاد أو حمل الآية على التفسير بالقياس أنه من التفسيرِ بالرأي ، ولذا يلزمُ الحذرُ منه ، والتأكُّدُ من صحةِ حملِ الآيةِ عليه.
ـــــــــ
* الحواشي:
(1) انظر الدر المنثور (7:445-446) وقد أخرجه سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر والحاكم والبيهقي ، كما أورد السيوطي عدة آثار عن عمر بن رضي الله عنه في نفس المعنى (7:446-447).
(2) التبيان في أقسام القرآن ، تحقيق طه شاهين ص 51
(3) ورد ذلك عن أبي أمامة ، انظر تفسير الطبري . ط. الحلبي (28:86-87)
(4) الاعتصام للشاطبي ، تحقيق محمد رشيد رضا (1:103)
(5) المحرر الوجيز ، ط.قطر (6:386-387)
(6) نقل الطاهر بن عاشور هذه الجملة عن ابن عطية ، ولم يعترض عليها ، انظر : التحرير والتنوير (30:326-327)
(7) المحرر الوجيز ، ط. قطر (10:122)
(8) هو ابن عطية.
(9) المُحرر الوجيز ، ط.قطر (10:122)
(10) المحرر الوجيز ، ط.قطر عند تفسير الآية.
(11) كذا وردت عند الشيخ ، وفي هذا وهم لأنه جمع بين آيتين من سورتين مختلفتين فيهما القصة نفسها ، والآيات التي تصلح لغرضه ما في سورة الشعراء من قوله تعالى :(واتل علهم نبأ إبراهيم..) إلى قوله :(قالوا وجدنا آباءنا كذلك يفعلون). الشعراء:69-74
(12) يقصد فكر المقلدين من الكفار الذين نزلت الآيات حاكية أمرهم في تقليد الآباء والرؤساء.
(13) أضواء البيان (7:490-491)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ن وعلى آله وصحبه ومن والاه ، أما بعد:
فيكثر استشهاد الوعاظ وغيرهم بآيات مساقاتها الكاملة لا تدلُّ على ما استشهدوا به ، كما فعل بعضهم بوضع رسمٍ للدشِّ (اللاقط الفضائي) ، وكتب تحتها جزءَ آيةٍ ، وهي قوله تعالى :(;يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ) الحشر : 2
ولو نظرت إلى مساق الآية كاملاً لعلمت أنَّه في يهود بني النظير ، وانها تذكر ما حصل لهم لما حاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وأخرجهم من حصونهم المنيعة ، قال تعالى :(هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأبْصَارِ) الحشر : 2
فهل يصحُّ هذا الاستدال وأمثاله ؟
هذا ما سأجتهد في تأصيله في هذه المقالة الموجزة .
إنَّ في الموضوع جانبان متقاربان :
الأول : الاستشهاد بجزء من الآية في غير ما وردت من أجلِه في الأصل .
الثاني : تنْزيل الآية على واقعة حادثةٍ ، وجعلُها مما يدخل في معنى الآيةِ .
فهل يوجد في سنة النبي صلى الله عليه وسلم وأقوال الصحابة ومن بعدهم ما يدلُّ على صحَّةِ هذا العملِ ؟
1 ـ في تفسير قوله تعالى :(وَكَانَ الإنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) الكهف : 54 ، يورد بعض المفسرين ما ورد في خبر علي بن أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طرقه وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة ، فقال : ألا تُصَلِّيان ؟!
فقلت : يا رسول الله ، إنما أنفسنا بيد الله ، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا ، فانصرف حين قلت ذلك ، ولم يرجع إليَّ شيئًا ، ثم سمعته وهو مُوَلٍّ يضرب فخذه ويقول :(وَكَانَ الإنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) الكهف : 54 أخرجه الإمام أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم .
وإذا رجعت إلى مساق الآيات التي ورد فيها هذا الجزء من الآية وجدته حديثًا عن الذين كفروا ، قال تعالى :(مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً ، وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً ، وَرَأى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً ، وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً ، وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً ، وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُواً ، وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً ، وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً) الكهف : 51 ـ 58
ومن هذه السياقات يتضح أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم اقتطع هذا الجزء الذي يصدق على حال علي رضي الله عنه ، ولا يعني هذا أنَّه ممن اتصف بباقي تلك الصفات المذكورات أبدًا .
2 ـ في تفسير قوله تعالى :(أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا)الأحقاف : 20[1] ، ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما أنَّ عمر رضي الله عنه رأى في يد جابر بن عبد الله درهمًا فقال : ما هذا الدرهم ؟
قال : أريد ان أشتري لحمًا لأهلي قَرِمُوا إليه .
فقال : أفكلما اشتهيتم شيئًا اشتريتموه ؟! أين تذهب عنكم هذه الآيةُ :(أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا) الأحقاف : 20 .
والآية التي يستشهد بها أمير المؤمنين جاءت في سياق التقريع والتوبيخ للكافرين ، وليست في سياق المؤمنين ، قال تعالى :(وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُون) الأحقاف : 20 ، ومع ذلك استشهد بها أمير المؤمنين ونزَّلها على أهل الإيمان .
وهناك عدَّة آثارٍ ستأتي لاحقًا ، والمراد مما مضى أنَّ أصل هذا الموضوع موجودٌ في السنة وأقوال الصحابة .
إذا تأمَّلت هذه المسألةُ وجدت أنها ترجع إلى أصلٍ من أصولِ التفسيرِ ، وهو التفسيرُ على القياسِ ، والمرادُ به : إلحاقُ معنًى باطنٍ في الآيةِ بظاهرِها الَّذي يدلُّ عليه اللَّفظُ .
قالَ ابن القيِّم ( ت : 751 ) :( وتفسيرُ النَّاسِ يدورُ على ثلاثةِ أصولٍ :
تفسيرٌ على اللَّفظِ ، وهو الَّذي ينحو إليه المتأخِّرونَ .
وتفسيرٌ على المعنى ، وهو الَّذي يذكرُهُ السَّلفُ .
وتفسيرٌ على الإشارةِ والقياسِ ، وهو الَّذي ينحو إليه كثيرٌ من الصُّوفيَّةِ وغيرِهم).[2]
والتفسير على القياس موجودٌ في تفسيرِ السلفِ ؛ لكنَّه أقلُّ من القسمين الآخَرين . ومن أمثلتِه ، ما ورد في قوله تعالى :(فَلَمَّا زَاغُوا أزَاغَ الله) الصف : 5 ، أنها نزلتْ في الخوارجِ.[3]
فالمفسِّر انتزع هذا المقطع من الآيةِ ، ونزَّله على الخوارجِ الذين لم يكونوا عند نزولِ هذه الآياتِ ، وإنما جاءوا بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وانقطاع الوحي ، وإذا نظرتَ إلى سياقِ الآيةِ ، وجدتَ أنه في الحديثِ عن بني إسرائيل ، وأنهم هم الموصوفون بهذا الوصف ، قال الله تعالى :(وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) الصف : 5
والمفسِّرُ هنا إنما أراد أنْ يُنبِّه إلى دخولِ الخوارجِ في حكمِ هذه المقطع من الآيةِ ، وأنهم مثالٌ لقومٍ مالوا عن الحقِّ ، فأمالَ اللهُ قلوبهم جزاءً وفاقاً لميلِهم ، وتنْزيل ذلك المقطع من الآية على الخوارجِ إنما هو على سبيلِ القياسِ بأمرِ بني إسرائيلَ ، وليس مراده أنهم هم سبب نزولها ، فهذا لا يقول به عاقل .
وعلى هذا يُقاسُ ما وردَ عن السلفِ في حكايةِ نزولِ بعض الآياتِ في أهلِ البدعِ ، وأنهم أرادوا التنبيه على دخولهم في حكم الآيةِ ، لا أنهم هم المعنيون بها دون غيرهم ، خاصةً إذا كانَ المذكورون غيرُ موجودينَ في وقتِ التنْزيل ؛ كأهلِ البدعِ الذينَ نُزِّلتْ عليهم بعضُ الآياتِ ، واللهُ أعلمُ .
قال الشاطبي :( …كما قاله القاضي إسماعيل ـ في قوله تعالى :(إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيءٍ) الأنعام : 159 بعد ما حكى أنها نزلت في الخوارج ـ : وكأنَّ القائل بالتخصيص ، والله أعلم ،لم يقل به بالقصد الأول ، بل أتى بمثالٍ مما تتضمنه الآية ؛ كالمثال المذكور ، فإنه موافق لما قال ، مشتهراً ( كذا) في ذلك الزمان ، فهو أولى ما يمثل به ، ويبقى ما عداه مسكوتاً عن ذكره عند القائل به ، ولو سئل عن العموم لقال به .
وهكذا كل ما تقدم من الأقوال الخاصة ببعض أهل البدع ، إنما تحصل على التفسير ، ألا ترى أن الآية الأولى من سورة آل عمران إنما نزلت في قصة نصارى نجران ؟! ثمَّ نُزِّلت على الخوارج ، حسبما تقدم ، إلى غير ذلك مما يذكـر في التفسير ، إنما يحملونه على ما يشمله الموضع بحسب الحاجة الحاضرة لا حسب ما يقتضيه اللفظ لغةً .
وهكذا ينبغي أن تفهم أقوال المفسرين المتقدمين ، وهو الأولَى لمناصبهم في العلم ، ومراتبهم في فهم الكتاب والسنة).[4]
وفي قوله تعالى :(وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) الأنفال : 71 قال ابن عطيَّةَ ( ت : 542 ) :(وأما تفسير الآية بقصة عبد الله بن أبي السرح ، فينبغي أن يُحرَّرَ ، فإن جُلبتْ قصةُ عبد الله بن أبي السرح على أنها مثالٌ ، كما يمكن أن تُجْلَبَ أمثلةٌ في عصرنا من ذلك ، فحسنٌ . وإن جُلبت علـى أنَّ الآية نزلت في ذلك ، فخطاٌ ؛ لأنَّ ابن أبي السرحِ إنما تبيَّن أمره في يوم فتح مكة ، وهذه الآية نزلت عَقِيبَ بدرٍ).[5]
وفي قوله تعالى :(فَأَمَّا الْأِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ) الفجر : 15 ـ 20
قال ابن عطية ( ت : 542 ) :( ذكر الله تعالى في هذه الآية ما كانت قريش تقوله وتستدلُّ به على إكرام الله تعالى وإهانته لعبده ، وذلك أنهم كانوا يرون أن من عنده الغنى والثروة والأولاد ، فهو المُكرَم ، وبضدِّه المهانُ .
ومن حيثُ كان هذا المقطع غالباً على كثير من الكفار ، جاء التوبيخُ في هذه الآية لاسم الجنسِ ؛ إذ قد يقع بعض المؤمنين في شيء من هذا المنْزع [6]، ومن ذلك حديث الأعرابِ الذين كانوا يقصدون المدينة على النبي صلى الله عليه وسلم ، فمن نال منهم خيراً ، قال : هذا دين حسنٌ ، ومن نال منهم شرٌّ ، قال : هذا دين سوءٍ).[7]
وقال ابن عطية ( ت : 542 ) في قوله تعالى :(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) الأنبياء : 1 :( وقوله تعالى :(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ) عامٌّ في جميع الناسِ ، وإن كان المشارُ إليه في ذلك الوقت كفار قريشٍ ، ويدلُّ على ذلك ما بعدها من الآياتِ ، وقوله :(وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) ؛ يريد : الكفار .
قال القاضي أبو محمد [8]رحمه الله :(ويتَّجِهُ من هذه الآيةِ على العُصاةِ من المؤمنين قِسْطُهُم .
وقوله تعالى :(ما يأتيهم) وما بعدها مختصٌّ بالكفارِ).[9]
وقال في قوله تعالى :(وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) يونس : 12 ).
وقوله :(مرَّ) يقتضي أن نزولها في الكفار ، ثم هي بَعْدُ تتناول كل من دخل تحت معناها من كافرٍ أو عاصٍ).[10]
وقد ذكر الشنقيطي ( ت : 1393 ) ـ في معرضِ ردِّه على التقليدِ ـ آياتٍ في النهي عن التقليدِ ، فقال :(… وقال جل وعز :(وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ ، قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ) الزخرف : 23 ـ 24 ، فمنعهم الاقتداء بآبائهم من قبول الاهتداء ، فقالوا : إنا بما أرسلتم به كافرون .
وفي هؤلاء ومثلهم قال الله عزَّ وجل :(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) الأنفال : 22 ، وقال : (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ ، وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ) البقرة : 166 ـ 167 ، وقال عز وجل ـ عائباً لأهل الكفر وذامّاً لهم ـ :(ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون قالوا وجدنا آباءنا كذلك يفعلون)[11] ، وقال :(وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا) الأحزاب : 67 ، ومثل هذا في القرآن كثير في ذمِّ تقليد الآباء والرؤساء .
وقد احتجَّ العلماء بهذه الآيات في إبطال التقليد ، ولم يمنعهم كفرُ أولئك[12] من الاحتجاج بها ؛ لأنَّ التشبيه لم يقع منهم من جهة كفرِ أحدهما وإيمانِ الآخرِ، وإنما وقع التشبيه بين التقليدين بغير حجةٍ للمقلِّد ، كما لو قلَّد رجلٌ ، فكفرَ ، وقلَّدَ آخرٌ ، فأذنبَ ، وقلَّدَ آخرٌ في مسألةِ دنياه ، فأخطأ وجهها ، كان كلُّ واحدٍ ملوماً على التقليدِ بغيرِ حجةٍ ؛ لأنَّ كل تقليدٍ يشبه بعضه بعضًا ، وإن اختلفت الآثامُ).[13]
ومن هذه النقولِ يتحصَّلُ ما يأتي :
1 ـ أنَّ مثلَ هذه التفاسيرِ أو الاستشهادات إنما جاءتْ على سبيلِ القياسِ .
2 ـ أنَّ هذا الأسلوبَ معروفٌ في السنة وآثار السلف ومن جاء بعدهم من العلماءِ ، ولذا حكموا بإبطالِ التقليدِ اعتمادًا على الآياتِ النازلةِ في الكفارِ .
3 ـ أنَّ القياسَ إنما هو بالاتصافِ بشيءٍ من أوصافِ الكفارِ التي قد تقع من عموم الناسِ . أما الأوصاف التي تختصُّ بوصف الكفرِ الأكبر ؛ كنواقض الإسلام العشرة التي ذكرها الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، فهذه لو عمل بشيء منها فإنه يخرج عن مسمى الإيمان إلى الكفر ، ولا يدخل في ما سيق البحث من أجله .
وليس يلزمُ من تنْزيلِ الحكمِ بشيءٍ من أوصافِ الكفارِ على أحدِ العصاةِ ، أنه مُتَّصفٌ بكاملِ أوصاف الكفارِ ، وإلاَّ لكان الكلامُ عن كفارٍ ، لا عن مؤمنينَ ، وهذا ما وضَّحه الشنقيطيُّ ( ت : 1393 ) في المثال الذي ذكره في حكمِ التقليدِ .
* ضوابط وتنبيهات في مسألة الاستشهاد وما جرى مجراها :
أولاً : يحسُنُ ذكرُ مدلولِ الآيةِ المطابقِ ، وهو أنها نازلةٌ في الكفارِ ، وأنه يُستفادُ منها أنَّ من اتصف بهذه الصفةِ من المسلمينَ ، فأنه يُلحقُ بحكم الكفارِ ، ولكنْ كلٌّ بِحَسَبِه ، فهذا كافرٌ كفراً محضاً ، وهذا مسلمٌ عاصٍ وافق الكفارَ في هذه الصفةِ ، واللهُ أعلمُ .
ثانيًا : إنَّ من سلكَ هذا الطريقَ ، فإنه لا يصحُّ أنْ يقصِرَ الآيةَ على ما فسَّرَ به قياساً ، ولو فعلَ لكانَ فِعْلُه تحكُّماً بلا دليلٍ ، كما هو حالُ أهل البدعِ ، والتَّحَكُّمُ لا يَعجزُ عنه أحدٌ .
ثالثًا : يلزمُ أن يكونَ بين معنى الآيةِ الظاهرِ وبين ما ذكرَه من الاستشهاد أو التفسيرِ قياساً ارتباطٌ ظاهرٌ ، وإلاَّ كانَ الاستشهاد بالآية أو حملُها على التفسيرِ القياسيِّ خطأً .
وليعلم أنَّ الاستشهاد أشبهَ حكاية الأمثال التي يتمثَّلُ بها الناس في محاوراتهم ، مع ملاحظة الفارقِ بين الأمرين كما سيأتي ، فكم من الناس يتمثَّل بقول الشاعر :
تكاثرت الظباء على خراش فما يدري خراش ما يصيد
وخراش في هذا البيت كلب صيدٍ ، وقد يحسبه السامعون اسم رجلٍ ، والاستشهاد به على أنه كلب ليس يعني أبدًا أنَّ المستشهد عليه يكون كلبًا ، فالمثل يُحكى كما قيل ، ويستفاد منه في الأحوال المشابهة لأصل المثل ، ولا يعني هذا التماثل في كل شيء .
غير أنَّ الاستشهاد بالآية القرآنية يلزم منه معرفة الأصل الذي تدلُّ عليه الآيةُ ، وإلاَّ لما أمكن إدراك وجه الشبه بين المستشهَد به والمستشهَدِ عليه .
كما يلزم إثبات ذلك الأصل والقولَ به ، ثمَّ الاستدلال به بعد ذلك ، وهذا لا يلزم في المثلِ ، فكم من مثل تنَزِّله على واقعة معيَّنة ، وأنت لا تعرف أصل حكاية هذا المثلَ ، ولا يضير هذا شيئًا إن كنت تعرف مكان ضربه ، وهذا ما لا يتأتَّى مع آيات القرآن .
ومما يُنبَّه عليه هنا أنه لا يجوز الاستشهاد بالقرآن في مواطن الهزل ، فهذا حرام لا يجوز القول به ، ومثله الاقتباس الذي يعمله بعض الشعراء في شعرهم ، فيدخلون مقطعًا من آيةٍ في مواطن هزلية أو غير لائقة بالقرآن ، فيجب الحذر من ذلك ؛ لنه من المحرمات ، فالقرآن جِدٌّ كلُّه ليس فيه هزل ، كما قال تعالى :(إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ ، وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ) الطارق : 14
وأخيرًا ، يجبُ أن يُعلمَ أنَّ هذا الاستشهاد أو حمل الآية على التفسير بالقياس أنه من التفسيرِ بالرأي ، ولذا يلزمُ الحذرُ منه ، والتأكُّدُ من صحةِ حملِ الآيةِ عليه.
ـــــــــ
* الحواشي:
(1) انظر الدر المنثور (7:445-446) وقد أخرجه سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر والحاكم والبيهقي ، كما أورد السيوطي عدة آثار عن عمر بن رضي الله عنه في نفس المعنى (7:446-447).
(2) التبيان في أقسام القرآن ، تحقيق طه شاهين ص 51
(3) ورد ذلك عن أبي أمامة ، انظر تفسير الطبري . ط. الحلبي (28:86-87)
(4) الاعتصام للشاطبي ، تحقيق محمد رشيد رضا (1:103)
(5) المحرر الوجيز ، ط.قطر (6:386-387)
(6) نقل الطاهر بن عاشور هذه الجملة عن ابن عطية ، ولم يعترض عليها ، انظر : التحرير والتنوير (30:326-327)
(7) المحرر الوجيز ، ط. قطر (10:122)
(8) هو ابن عطية.
(9) المُحرر الوجيز ، ط.قطر (10:122)
(10) المحرر الوجيز ، ط.قطر عند تفسير الآية.
(11) كذا وردت عند الشيخ ، وفي هذا وهم لأنه جمع بين آيتين من سورتين مختلفتين فيهما القصة نفسها ، والآيات التي تصلح لغرضه ما في سورة الشعراء من قوله تعالى :(واتل علهم نبأ إبراهيم..) إلى قوله :(قالوا وجدنا آباءنا كذلك يفعلون). الشعراء:69-74
(12) يقصد فكر المقلدين من الكفار الذين نزلت الآيات حاكية أمرهم في تقليد الآباء والرؤساء.
(13) أضواء البيان (7:490-491)