الحالة الرابعة – وهي الأهم وهي محور نقاشنا -:
إذا اختلف الصحابة في تفسير الآية على قولين فأكثر، فهل يجوز إحداث قول بعدهم؟
هذه المسألة هي التي سنشبعها بحثاً إن شاء الله تعالى
كلّ من قرأ يعلم أنك ما أشبعتها بحثاً , ولا أحسنت لها ردّاً , وما زلت كما كنت , وحين أقرأ أمانيك هذه أتذكر قول ابن الدّمينة في آخر قصيدة له أكثر فيها من الأماني , ثم قال :
أكثرت من ليتني لو كان ينفعني *** ومن مُنى النفس لو تُعطى أمانيها
كلما جئنا إلى هذه المسألة خطب فينا أبو حسان خطبة بليغة ؛ فيها كل شيء إلا الدليل , وفيها ألوان التهم والتحقير وقلب مقاصد الأولين والآخرين , وألوان التعاظم والتعالي , ممّا يستحي العاقل من قراءته فضلاً عن كتابته .
فإذا انتهى الخطاب رجعت إلى نفسك تفتش عن بحث أو دليل فلا ترى شيئاً .
أدعو كلَّ قارئ منصف إلى قراءة جواب أبي حسان عن هذا السؤال , تجده .. لا جواب .
بل هو من أوّله إلى آخره صراعٌ نفسي مع السلفيين , وخصومة جائرة لا أعلم لها سبباً , ولا أرى لها مناسبة مع السؤال !!
ما أسهل الجواب عن (هل) ؛ إما نعم أو لا , ثم اذكر دليلك , ثم فنّد ما تحب .
هكذا أصول البحث العلمي , وهكذا يفعل من يحسن الحوار .
أمّا هنا فلا بحث أصلاً , ناهيك عن ( إشباعها بحثاً ) .
إذا اختلف الصحابة في تفسير الآية على قولين فأكثر، فهل يجوز إحداث قول بعدهم؟
رأي جمهور السلفيين: أن الصحابة إذا اختلفوا في التفسير فإنه لا يجوز إحداث قول بعدهم.
وهذا الرأي قال به جمع منهم، كالإمام أحمد، والآجري، وابن تيمية، وابن القيم، وابن رجب، وابن عبد الهادي، وغيرهم
سأخبرك عن (غيرهم) , وسأكثر عن غير (السلفيين) على تصنيفك :
- قال الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام 1 / 268 : (إذا اختلف أهل العصر في مسألة على قولين، هل يجوز لمن بعدهم إحداث قول ثالث ؟
اختلفوا فيه: فذهب الجمهور إلى المنع من ذلك، خلافا لبعض الشيعة, وبعض الحنفية, وبعض أهل الظاهر) وبعد حكاية قول الغزالي والقاضي عبد الجبار قال 1 / 269 : (والمختار في ذلك إنما هو التفصيل وهو أنه : إن كان القول الثالث مما يرفع ما اتفق عليه القولان، فهو ممتنع لما فيه من مخالفة الإجماع).
- وقال الرازي في المحصول 4 / 159 : (إذا استدل أهل العصر بدليل أو ذكروا تأويلا ثم استدل أهل العصر الثاني بدليل آخر أو ذكروا تأويلا آخر فقد اتفقوا على أنه لا يجوز إبطال التأويل القديم لأنه لو كان ذلك باطلا وكانوا ذاهلين عن التأويل الجديد الذي هو الحق لكانوا مطبقين على الخطأ وهو غير جائز , وأما التأويل الجديد فإن لزم من ثبوته القدح في التأويل القديم لم يصح .. وإما إذا لم يلزم من صحة التأويل الجديد فساد التأويل القديم جاز ذلك والدليل عليه أن الناس يستخرجون في كل عصر أدلة وتأويلات جديدة ولم ينكر عليهم أحد فكان ذلك إجماعا) .
- قال أبو إسحاق الشيرازي في اللمع في أصول الفقه 1 / 262 : (واعلم أنه إذا اختلفت الصحابة في المسألة على قولين وانقرض العصر عليه لم يجز للتابعين إحداث قول ثالث . وقال بعض أهل الظاهر : يجوز ذلك . والدليل على فساد ذلك هو أن اختلافهم على قولين إجماع على إبطال كل قول سواهما , كما أن إجماعهم على قول واحد إجماع على إبطال كل قول سواه , فلما لم يجز إحداث قول ثان فيما أجمعوا فيه على قول واحد ؛ لم يجز إحداث قول ثالث فيما أجمعوا فيه على قولين) .
- وقال الغزالي في المستصفى 1 / 388 : (إذَا اجْتَمَعَتْ الْأُمَّةُ فِي الْمَسْأَلَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ ؛ كَحُكْمِهِمْ مَثَلًا فِي الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَاةِ إذَا وَطِئَهَا الْمُشْتَرِي ثُمَّ وَجَدَ بِهَا عَيْبًا فَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهَا تُرَدُّ مَعَ الْعُقْرِ ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى مَنْعِ الرَّدِّ . فَلَوْ اتَّفَقُوا عَلَى هَذَيْنِ الْمَذْهَبَيْنِ كَانَ الْمَصِيرُ إلَى الرَّدِّ مَجَّانًا خَرْقًا لِلْإِجْمَاعِ عِنْدَ الْجَمَاهِيرِ إلَّا عِنْدَ شُذُوذٍ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ , وَالشَّافِعِيُّ إنَّمَا ذَهَبَ إلَى الرَّدِّ مَجَّانًا ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ بِجُمْلَتِهِمْ لَمْ يَخُوضُوا فِي الْمَسْأَلَةِ ، وَإِنَّمَا نُقِلَ فِيهَا مَذْهَبُ بَعْضِهِمْ ، فَلَوْ خَاضُوا فِيهَا بِجُمْلَتِهِمْ وَاسْتَقَرَّ رَأْيُ جَمِيعِهِمْ عَلَى مَذْهَبَيْنِ لَمْ يَجُزْ إحْدَاثُ مَذْهَبٍ ثَالِثٍ . وَدَلِيلُهُ أَنَّهُ يُوجِبُ نِسْبَةَ الْأُمَّةِ إلَى تَضْيِيعِ الْحَقِّ إذْ لَا بُدَّ لِلْمَذْهَبِ الثَّالِثِ مِنْ دَلِيلٍ وَلَا بُدَّ مِنْ نِسْبَةِ الْأُمَّةِ إلَى تَضْيِيعِهِ وَالْغَفْلَةِ عَنْهُ ، وَذَلِكَ مُحَالٌ) .
- وقال في المسودة 1 / 289 : (اذا اختلفت الصحابة على قولين لم يجز لمن بعدهم احداث قول ثالث يخرج عن أقاويلهم . نص عليه , وهو قول الجماعة , وأجازه بعض الناس ؛ قال ابن عقيل : هو قول بعض الرافضة وبعض الحنفية . وقال ابن برهان : هو قول أصحاب أبى حنيفة وأهل الظاهر . وقال أبو الطيب : هو قول بعض المتكلمين . ورأيت بعض الحنفية يختاره وينصره , وقال الجوينى : هو قول شرذمة من طوائف الأصوليين) .
- وقال الزركشي في البحر المحيط في الأصول 6 / 192 : (إذَا اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَصْرِ فِي مَسْأَلَةٍ عَلَى قَوْلَيْنِ ، فَهَلْ يَجُوزُ لِمَنْ بَعْدَهُمْ إحْدَاثُ قَوْلٍ ثَالِثٍ ؟
فِيهِ مَذَاهِبُ :
الْأَوَّلُ : الْمَنْعُ مُطْلَقًا ، وَهُوَ كَاتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنْ لَا قَوْلَ سِوَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ . قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ : وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ ، وَقَالَ إلْكِيَا : إنَّهُ الصَّحِيحُ ، وَبِهِ الْفَتْوَى ، وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ : إنَّهُ مَذْهَبُنَا ، وَجَزَمَ بِهِ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ فِي كِتَابِهِ ، وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ ، وَكَذَا الرُّويَانِيُّ ، وَالصَّيْرَفِيُّ ، وَلَمْ يَحْكِيَا مُقَابِلَهُ إلَّا عَنْ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ . قَالَ الصَّيْرَفِيُّ : وَقَدْ رَأَيْته مَوْجُودًا فِي فُتْيَا بَعْضِ الْفُقَهَاءِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ ، فَلَا أَدْرِي أَكَانَ قَالَ هَذَا مُنَاقَضَةً ، أَوْ غَلَطًا ، أَوْ كَانَ يَذْهَبُ إلَى هَذَا الْمَذْهَبِ . وَكَذَلِكَ ابْنُ الْقَطَّانِ ، لَمْ يَحْكِ مُقَابِلَهُ إلَّا عَنْ دَاوُد ، فَقَالَ : إذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي حَدِّ السُّكْرِ ، فَقِيلَ : ثَمَانُونَ ، وَقِيلَ : أَرْبَعُونَ ، فَهُوَ إجْمَاعٌ عَلَى نَفْيِ مَا عَدَاهُمَا ، وَقَالَ دَاوُد : لَا يَكُونُ هَذَا إجْمَاعًا ؛ لِأَنَّهَا قَدْ وَقَعَتْ مُخَالَفَةٌ ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ اللَّهِ فِيهَا الِاخْتِلَافَ . قَالَ : وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ غَيْرُ الَّذِي اتَّفَقُوا عَلَيْهِ .
وَقَالَ صَاحِبُ الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ " : هُوَ مَذْهَبُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ ، وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ فِي رِسَالَتِهِ " ، وَكَذَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي نَوَادِرِ هِشَامٍ " ؛ لِأَنَّهُ عَدَّ الْأُصُولَ ، وَعَدَّ فِي جُمْلَتِهَا اخْتِلَافَ الصَّحَابَةِ .
وَالثَّانِي : الْجَوَازُ مُطْلَقًا . قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ : رَأَيْت بَعْضَ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ يَخْتَارُهُ وَيَنْصُرُهُ وَنَقَلَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ ، وَالظَّاهِرِيَّةِ ، وَنَسَبَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ الْقَاضِي عِيَاضٌ إلَى دَاوُد .
وَالثَّالِثُ : -وَهُوَ الْحَقُّ عِنْدَ الْمُتَأَخِّرِينَ- أَنَّ الثَّالِثَ إنْ لَزِمَ مِنْهُ رَفْعُ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ إحْدَاثُهُ ، وَإِلَّا جَازَ ، وَكَلَامُ الشَّافِعِيِّ فِي الرِّسَالَةِ " يَقْتَضِيهِ) .
- وقال في شرح الكوكب المنير 1 / 409 : ((وَإِذَا) كَانَ مُجْتَهِدُوا عَصْرٍ (اخْتَلَفُوا) فِي مَسْأَلَةٍ (عَلَى قَوْلَيْنِ حَرُمَ إحْدَاثُ) قَوْلٍ (ثَالِثٍ) مُطْلَقًا عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَصْحَابِهِ وَعَامَّةِ الْفُقَهَاءِ. قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ : كَمَا لَوْ أَجْمَعُوا عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ , فَإِنَّهُ يَحْرُمُ إحْدَاثُ قَوْلٍ ثَانٍ. وَنَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الرِّسَالَةِ. وَقَالَ الْآمِدِيُّ وَالطُّوفِيُّ وَجَمْعٌ : إنْ رَفَعَ الْقَوْلُ الثَّالِثُ حُكْمًا مُجْمَعًا عَلَيْهِ حَرُمَ إحْدَاثُهُ وَإِلَّا فَلَا. فَمِثَالُ مَا يَرْفَعُ الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ : إذَا رَدَّ بِكْرًا بِعَيْبٍ بَعْدَ وَطْئِهَا مَجَّانًا. فَهَذَا الْقَوْلُ يَحْرُمُ إحْدَاثُهُ) .
- وقال في كشف الأسرار شرح أصول البزدوي 6 / 130 : (أَنَّ الصَّحَابَةَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ إذَا اخْتَلَفُوا فِي حَادِثَةٍ عَلَى قَوْلَيْنِ أَوْ أَقَاوِيلَ مَحْصُورَةٍ كَانَ ذَلِكَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَا قَوْلَ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ سِوَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ ، وَأَنَّ مَا خَرَجَ مِنْهَا بَاطِلٌ فَلَا يَجُوزُ إحْدَاثُ قَوْلٍ آخَرَ وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ . وَإِنَّمَا فَسَّرَ قَوْلَهُ : (إنَّهُمْ إذَا اخْتَلَفُوا) بِقَوْلِهِ : (أَعْنِي أَصْحَابَ النَّبِيِّ) وَعَطَفَ قَوْلَهُ : (وَكُلُّ عَصْرٍ مِثْلُ ذَلِكَ) أَيْضًا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ فِي اخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ لَا خِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ إجْمَاعٌ وَفِي اخْتِلَافِ مَنْ بَعْدَهُمْ اخْتِلَافٌ) , ثم قال في 6 / 131 – 132 : (فَإِذَا اخْتَلَفُوا عَلَى أَقْوَالٍ كَانَ هَذَا إجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى حَصْرِ الْأَقْوَالِ فِي الْحَادِثَةِ إذْ لَوْ كَانَ وَرَاءَ أَقْوَالِهِمْ قَوْلٌ آخَرُ مُحْتَمِلٌ لِلصَّوَابِ لَكَانَ اجْتِمَاعُهُمْ عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ إجْمَاعًا عَلَى الْخَطَأِ وَلَوَجَبَ نِسْبَةُ الْأُمَّةِ إلَى تَضْيِيعِ الْحَقِّ ؛ إذْ لَا بُدَّ لِلْقَوْلِ الْخَارِجِ مِنْ دَلِيلٍ , وَلَا بُدَّ مِنْ نِسْبَةِ الْأُمَّةِ إلَى تَضْيِيعِهِ وَالْغَفْلَةِ عَنْهُ , وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ : (وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ بِهِمْ) أَيْ بِجَمِيعِ الْأُمَّةِ (الْجَهْلُ بِالْحَقِّ وَالْعُدُولُ عَنْهُ) , فَكَانَ اخْتِلَافُهُمْ عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِهِمْ عَلَيْهَا بِمَنْزِلَةِ التَّنْصِيصِ مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ مَا هُوَ الْحَقُّ حَقِيقَةً فِي هَذِهِ الْأَقْوَالِ وَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إلَّا الضَّلَالُ) .
- وقال في التقرير والتحبير شرح التحرير 5 / 115 : (مَسْأَلَةٌ (إذَا أُجْمِعَ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَسْأَلَةٍ) فِي عَصْرٍ مِنْ الْأَعْصَارِ (لَمْ يَجُزْ إحْدَاثُ) قَوْلٍ (ثَالِثٍ) فِيهَا (عِنْدَ الْأَكْثَرِ) مِنْهُمْ الْإِمَامُ الرَّازِيّ فِي الْمَعَالِمِ , وَنَصَّ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي نَوَادِرِ هِشَامٍ , وَالشَّافِعِيُّ فِي رِسَالَتِهِ . (وَخَصَّهُ) أَيْ عَدَمَ جَوَازِ إحْدَاثِ ثَالِثٍ (بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ بِالصَّحَابَةِ) أَيْ بِمَا إذَا كَانَ الْإِجْمَاعُ عَلَى قَوْلَيْنِ فِيهَا مِنْهُمْ فَلَمْ يُجَوِّزْ لِمَنْ بَعْدَهُمْ إحْدَاثَ ثَالِثٍ فِيهَا) .
- وقال في غاية الوصول في شرح لب الأصول 1 / 105 : ((فعلم) من حرمة خرقه (تحريم إحداث) قول (ثالث) في مسألة اختلف أهل عصر فيها على قولين (و) إحداث (تفصيل) بين مسألتين لم يفصل بينهما أهل عصر. (إن خرقاه) أي إن خرق الثالث والتفصيل الإجماع بأن خالفا ما اتفق عليه أهل عصر، بخلاف ما إذا لم يخرقاه) .
إذاً .. هذا قول عامة الفقهاء وجمهور الأصوليين ؛ ويكاد يكون إجماعاً منهم لولا خلاف شرذمة من الأصوليين , كما قاله الغزالي والجويني .
فأين : (سأشبعها بحثاً) ؟!
وقد أطنب ابن القيم في كتابه أعلام الموقعين - كعادته حينما ينتصر لفكرة معينة - في تقرير هذا المذهب وحشد الأدلة له، وما ذكره أخي أبو بيان يُعد بعضاً منه ولم يزد شيئاً
اختصرتُ الكلام ولخصتُه -مراعاةً لك- .. ولم تُجب , وأطال ابن القيم وأطنب .. ولم تُجب , فماذا نفعل ؟!
وكل الذي ذكره ابن القيم وغيره ممن انتصر لهذا المذهب لا يُعد دليلاً بل هي تعليلات وانطباعات وتهويل وحشد لقصد نصر الفكرة لا غير
وهذا الذي تفعله أنت هنا .. ماذا تسميه ؟!
ابن القيم يا سادة ذكر ستةً وأربعين دليلاً على وجوب اتباع الصحابة وحجية أقوالهم ؛ كلُّ دليل منها بشرحه وتعليله وبيانه تامّاً وافياً , مع التعرض للإيرادات واعتراضات المخالفين عليها والجواب عنها في كثير منها .
فأين الانطباعات والتهويل .. هنا أم هناك ؟!
ولماذا تستخفُّ بعقولنا يا أبا حسان ؟
والذي دعاهم لنصرة هذا المذهب هو ما حدث من آراء عقدية استجدت في الساحة الإسلامية بعد جيل الصحابة رضوان الله عليهم، فكان من ردة الفعل لهذه الآراء أن وضعت قواعد مغرقة في التقليد حتى يتمكنوا من غلق الباب عن كل رأي جديد
أحاديّة التفكير ؛ وإرجاع الظواهر إلى سبب واحد .. أكبر دليل على ضعف العقل وضيق التفكير .
لا أدري كيف يدعي التجديد والعقل من يفكر هكذا ؟!
أجزم أنك لم تقرأ (إعلام الموقعين) كما ذكرت , أو –وأعيذك منها- قرأته وتكابر , فإنه يكاد يكون كله في ذم التقليد وأهله والنعي عليهم , والأمر بالنظر والاجتهاد كما كان الصحابة والأئمة بعدهم .
فأين القواعد (المغرقة) في التقليد ؟!
وكل من سمَّيتهم مع ابن القيم ؛ كالإمام أحمد وابن تيمية وابن رجب وابن عبد الهادي من أشد الناس ذَمّاً للتقليد وأعظمهم اجتهاداً وتجديداً في دين الله , وكتبهم والأئمة ممّن وافقهم وخالفهم يشهدون بذلك .
وهب أنهم نصروا ذلك القول فقط (ردَّة فعل) لآراء عقدية ظهرت بعد زمن الصحابة كما ذكرت ؛ فلماذا يختاره وينصره : عامّة الفقهاء وجمهور الأصوليين ؟!
لماذا نصّ عليه الإمام الشَّافِعِيُّ واختاره مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ والآمدي والرازي وأبو إسحاق الشيرازي والغزالي والجوينى والزركشي والْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ وإلْكِيَا وابْنُ بَرْهَانٍ والْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَكَذَا الرُّويَانِيُّ ، وَالصَّيْرَفِيُّ وابْنُ الْقَطَّانِ وابْنُ مُفْلِحٍ وَالطُّوفِيُّ وزكريا الأنصاري وغيرهم وغيرهم . وبعضهم صاروا أئمة لبعض الآراء التي ظهرت بعد زمن الصحابة .
نحن لسنا أطفالاً أبا حسان حتى تغالطنا وتلبّس علينا هكذا .
إنا نعي ما نقرأ , ونفهم ما تقول , فلا تعد إلى هذا الأسلوب الساذج في الاستدلال .
ولعل أقرب مثال لذلك نفي ابن تيمية للمجاز وكذا بعض تلاميذه، وفعلهم هذا مكابرة ومصادمة لحقيقة لا يمكن إنكارها، وإنما لجأوا للنفي حتى يغلقوا الباب على خصومهم ممن يرى تأويل الصفات متذرعاً بالمجاز اللغوي، فلاحظ كيف كابر منكروا المنجاز الحقيقة نصرة لمذهبهم
لا يخفى على القارئ كيف انحرفت بالموضوع لتصل به إلى هذا , وللأسف فهمك له ليس بأحسن من فهمك لما قبله , فلن ننجرّ معك إليه .
وتأمل كلام الإمام أحمد – رحمه الله – بخصوص هذه المسألة تجد عين ما قلته، فإنه حينما سئل : هل لرجل أن يخرج من أقاويل الصحابة إذا اختلفوا ؟ فأجاب رحمه الله: "هذا قول خبيث، قول أهل البدع ، لا ينبغي لأحد أن يخرج من أقاويل الصحابة إذا اختلفوا".
فانظر كيف تم ربط المسألة بأهل البدع ويقصد بهم أرباب المقالات التي استجدت في الساحة الإسلامية
من أعظم آثار جواب الإمام أحمد هذا = غلق الباب أمام البدع وأهلها , ولا ينكر هذا أحد , وهذا ممّا أوجبه الله علينا , وأمرنا به رسوله صلى الله عليه وسلم , وهذه نتيجة طبيعية لاتباع أقوال الصحابة والاحتجاج بها , فلماذا تغضب من هذا أبا حسان ؟!
أجمع المبتدعة على عدم اعتبار أقوال الصحابة فيما اختلفوا فيه وفيما اتفقوا فيه . وتأمّل هذا تجده جليّاً في كل طائفة أحدثت ما لم يكن على زمن رسول الله وأصحابه , فكل المبتدعة مشتركون في هذا .
وقد تنبه لهذا رؤوس المبتدعة وأهل الكلام في تاريخ الإسلام , واجتهدوا في تجاوزه مبكراً , وأصّلوا لذلك أصولاً تضمن لهم فهم النصوص بعيداً عن فهم الصحابة رضي الله عنهم , وأبرزها :
- تقديم العقل على النقل .
- وفهم القرآن بلسان كل زمان .
واقرأ ما قاله الإمام أبو الحسن الأشعري مبيناً وجه فساد تفسير شيخه أبي علي الجُبّائي , حين قال : (ورأيت الجبائي ألف في تفسير القرآن كتاباً أوَّلَه على خلاف ما أنزل الله عز وجل , وعلى لغة أهل قريته المعروفة بِجُبّى –بين البصرة والأهواز- , وليس من أهل اللسان الذي نزل به القرآن , وما روى في كتابه حرفاً واحداً عن أحد من المفسرين , وإنما اعتمد على ما وسوس به صدره وشيطانه) . السير 14/183 , وشذرات الذهب 4/18,130 .
نعم لا ينبغي لأحد أن يخرج عن أقاويل الصحابة إذا اختلفوا , ومن خرج عنها ابتدع ولا بد ؛ لأن الله تعالى ضمن لنا أن الحق فيها , وكذا رسوله صلى الله عليه وسلم .
هذا إن صح النقل عن الإمام أحمد، مع أني استبعد ثبوت ذلك عنه، حيث إن إمامته ومكانته التي حباه الله إياها تأبى صدور ذلك منه
من الطبيعي أن تشك في ثبوتها عنه ؛ لأنها لا توافق هواك .
لا مزيد من التلبيس أبا حسان ؛ ولا حاجة للظهور بمظهر الورع المتثبت , فقد أخبرتنا في أول كلامك أن هذا قول الإمام أحمد , ثم نقلت هذا عنه هنا منكراً عليه , ولا وجه لإنكار ثبوتها عنه وقد نقلها عنه القاضي أبو يعلى من رواية عبد الله ابن الإمام أحمد وأبي الحارث .
إن محاولة هؤلاء حشر الأمة بأقوال الصحابة وتحريم الخروج عليها هو من باب غلق الباب عن كل جديد
لماذا تستعجل النتائج ؟ أين المنهج العلمي ؟ وأين الاستدلال ؟ بل أين العقل والإنصاف عن الدراسات التجديدية في التفسير والتي لا ينكرها إلا مكابر ؟
أم لابد في التجديد أن يكون بالابتداع حتى تقبله ؟
ومع الأسف لم يستطيعوا ولم يحسنوا لغة الحوار والمناظرة مع خصومهم، فلجأوا إلى لغة الإقصاء والمنع من محاورتهم وأفتوا بتحريم ذلك، وهل الحقيقة تُحجب بمجرد المنع؟
صدقت كان بالإمكان طردك , ومنعك من المشاركة في الملتقى , ولكن .. مازلنا نحاورك , وتقول ما تحب كما تحب , وحين أردت مجاملتنا في بعض المشاركات أبينا عليك إلا أن تأخذ حريتك في الكلام , وتطرح ما تعتقد .
فأيّ إنصاف أعظم من هذا ؟!
وأين الإقصاء والمنع ؟!
وأين أنت من عقل وحوار الكناني في (الحيدة) , وأبو حنيفة , وأحمد , والشافعي , وابن جرير , والباقلاني , وابن تيمية , وغيرهم كثير ؟
إن الدليل الذي يصمد أمام النقد هو الدليل الذي يستحق الإشادة ويُسلم له، وهذا لا يكون إلا من الكتاب والسنة بحيث يكون واضح الدلالة في المقصود، وكذا الدليل المعلل على أصول لا تقبل النقض
ما أسهل الكلام أبا حسان .. حتى الآن ما رأينا في كلامك شيئاً من ذلك , فتقريرك في واد وتطبيقك في واد آخر .
إذا علمنا هذا فإن كل ما يذكره هؤلاء من تعليل لنصرة هذه الفكرة - أعني أصل مسألتنا - فإنه لايثبت أمام النقد العلمي، لأن الفكرة أُصلت أولاً بلا دليل ثم تكلفوا الأدلة لنصرتها ولتمريرها على العامة بحيث لا يُقبل بعد ذلك أي رأي يستجد من أي فرقة مهما كان في القوة.
وهذا هو أساس المشكلة برمتها
أعانك الله على فهمك , وأعاننا الله عليه .
( كُلّ ما يذكرونه .. لا يثبت أمام النقد العلمي ) ,
وكيف ثبت كل هذه القرون ؟
ولماذا لم ينقده أحد من العلماء - قبلك ؟
بل لماذا لم تنقده أنت (نقداً علمياً) ؟
وليتهم وقفوا عند هذا الحد وحسب، ولكنهم لجأوا أيضاً إلى أسلوب الإرهاب الفكري، فأصدروا الفتاوى المغرقة بالتطرف والمحذرة من كل قول جديد، حتى وصل الحال ببعضهم أن أصدروا فتاوى التكفير في حق كل رأي يخالف بزعمهم رأي السلف
(الإرهاب الفكري , التطرف , فتاوى التكفير) هذا كلام جرائد , انقله في الصحف الالكترونية والمواقع الفكرية وناقشه هناك .
ولا يقوله إنسان يحمل الدكتوراه في علم شرعي , فضلاً عن الدكتوراه في القرآن وعلومه ؛ ولذلك أنا أشك في هذا .
ومع الأسف فإن أبناء هذا العصر انساقوا خلف ما تم تأصيله في عصور قديمة ولم يكلفوا أنفسهم عناء البحث في أسباب هذا التأصيل ومدى موافقته للحقيقة، بل زاد الطين بله أن صرنا نقرر كل ما قالوه ونتعامل به مع واقعنا على أنه حقيقة مسلمة ولا يجوز أن نتعداها، مع أن الواقع اختلف جذريا فلم تعد كثير من تلك الأزمات الفكرية موجودة الآن، بل استجدت أزمات أخرى نحن بحاجة إلى تنزيل نصوص الوحيين عليها بأصول جديدة مغايرة كل المغايرة لتلك الأصول التي ولدت في حقبة معينة لأسباب معينة
اقرأوا هذا بتمعن :
بل استجدت أزمات أخرى نحن بحاجة إلى تنزيل نصوص الوحيين عليها بأصول جديدة مغايرة كل المغايرة لتلك الأصول التي ولدت في حقبة معينة لأسباب معينة
هذه حقيقة دعوتك أبا حسان , أصولٌ جديدة لفهم القرآن , تقوم على ركنين :
الأول : أنها جديدة معاصرة .
الثاني : أنها مغايرة كل المغايرة لتلك الأصول القديمة التي ولدت في حقبة معينة لأسباب معينة .
كم سمعت هذا من العلمانيين والحداثيين وأصحاب القراءات الجديدة للقرآن الكريم , وكم سعت إلى هذا أمم الاستشراق ومراكز الدراسات الاستراتيجية الغربية , إنه –بالنص- ما يسعون إليه ويروجونه بكل وسيلة إعلامية أو ثقافية أو اجتماعية أو حتى سياسية .
أصول المبتدعة في فهم القرآن هي الأصول التي يدعوا إليها وينادي بها أعداء الإسلام صراحةً ؛ لأنه لا سبيل لهم لتغيير أديان الناس ومفاهيمهم العقدية والشرعية إلا من خلالها .
هل رأيت أحداً من المستشرقين أو العلمانيين أو نحوهم يدعو الناس إلى التمسك بفهم الصحابة وتفسيرهم للقرآن وأن لا يخرجوا عنه أو يخالفوه ؟!
وهذا ما أدركه عقل أولئك السلف ؛ أن البدعة دهليز الكفر , ولذا حذروا منها أشد التحذير , بل اشتدت عبارتهم في ذلك , فلا تستغرب عبارة الإمام أحمد حين يصف قول من يخرج عن أقوال الصحابة أنه مبتدع خبيث . فجزاهم الله أعظم الجزاء وأوفاه .
ولا أدري أيّ دين سنكون عليه لو أخذ الناس برأي أبي حسان وأصوله في فهم القرآن من قديم ؟
وكان الأولى بها أن تموت مع أصحابها كما ماتوا.
بعض أهل البدع ممّن سبق كانوا يجيدون الهدم .. ولا يحسنون البناء , أمّا أنت فلا تجيد الهدم ولا تحسن البناء .
هذه الأصول لن تموت لأنها الحق ؛ والحق باقٍ ولو كره المجرمون .
ولأن من يعارضها من أهل الباطل ليسوا كفئاً لهدمها وإماتتها , بل لهم أعظم نصيب ممّا قال الله : { إن شانئك هو الأبتر } .
وها أنذا أخبرك أبا حسان :
لن تستطيع هدمها , ولن يستطيعه أحدٌ غيرك بإذن الله , وأقول هذا عن علمٍ ويقين , وحوارنا هذا مثالٌ يسير على ذلك .