تفاسير الصحابة – رضوان الله عليهم - لأي آية قرآنية لا يخلو من أربع حالات:
الحالة الأولى:
أن يُجمعوا على تفسير واحد ، وهذا نُسلم له إذا كان إجماعاً معتبراً بالشروط التي ذكرتها سابقاً، وهي : ثبوت الإجماع، وأن يكون له مستند من كتاب أو سنة
شرطك الأول : (ثبوت الإجماع) يغني عن الثاني : (أن يكون له مستند من كتاب وسنة) ؛ لأن الإجماع الثابت لا يمكن أن يكون على غير مستند وإن لم يحكوه , كما لا يمكن أن يقع إجماع على خلاف نَصٍّ أبداً .
إلا إن كنت لا تثق بإجماعات الصحابة وتتطلب معرفة النص بنفسك لتوافقهم أو تخالفهم فهذا أمر آخر , ولا أظن ذلك ؛ لأنك ذكرت وجوب الأخذ بإجماع الصحابة وتحريم مخالفتها في لحاق كلامك .
فإذا ثبت الإجماع بهذه الصورة - وثبوته قليل جدا -
نعم ثبوته قليل جداً بحسب طريقتك الخاصة فيه ؛ فأنت لا تقبل الإجماع إلا مُسنداً –كما سيأتي-! ولا تقبل إجماعاً يحكيه متأخر في القرن الخامس مثلاً .
وإلا فقد نقلت لك عمّن درس وبحث إجماعات المفسرين أنها تجل عن الحصر
قال الخضيري في كتابه ( الإجماع في التفسير ) صـ 95 :
(أمّا الإجماع المتصل بتفسير القرآن الكريم فإن المفسرين لم يَنُصّوا عليه في جميع موارده التي وقع فيها إجماع في القرآن الكريم ؛ وسبب ذلك عائدٌ -في نظري- إلى كثرتها إلى الحَدِّ الذي يصعب معه حصرها .. ولذلك فإنهم لا يكادون يذكرون الإجماع في تفسير لفظ أو تحديد معنى معين إلا لسبب يدعوهم لذكره) ثم ذكر جملةً من تلك الأسباب مع أمثلتها من كتب التفسير .
(المشاركة 120) .
وفيما يأتي نتعرف على الإجماع عند أبي حسان أكثر :
وحكايات الإجماع – على الرغم من كثرتها – إلا أني لا أُسلم لكثير منها، لأنها لا تثبت أمام البحث العلمي، وعلى سبيل المثال: كيف يحكي الإجماع شخص عاش في القرن الخامس الهجري؟ ومن سبقه بهذه الدعوى؟ وكيف علم به؟ وما أدراه أن الصحابة أجمعوا؟ وهل قراءته للتفاسير التي أُلّفت في جمع أقوال السلف تخوله أن يحكي الإجماع على غرارها؟ وهل يُسمى هذا إجماعاً؟
كل هذا يُقال لك في الإجماعات -القليلة- التي تقبلها عن الصحابة :
- من حكى لك الإجماع ؟
- ومن سبقك إليه ؟
- وكيف علمت به ؟
- وما أدراك أن الصحابة أجمعوا ؟
- وهل قراءتك للتفاسير التي أُلّفت في جمع أقوال السلف تخولك أن تحكي الإجماع على غرارها ؟
- وهل يُسمى هذا إجماعاً ؟
وجوابك عنها هو جواب أولئك الأئمة الذين لا تقبل ما حكوه من إجماع .
على أني بخبرهم أوثق مني بما تعاينه , فأين علمك بالتفسير وبأقوال المفسرين من علم الثعلبي والواحدي والبغوي ومكي بن أبي طالب والماوردي وأبي المظفر السمعاني والراغب الأصفهاني والزمخشري وابن عطية -ممّن مَثَّلت لهم في القرن الخامس الهجري فقط- ؟!
إنا ننقل ما حكوه ونتثبت منه ونقبله ما لم يثبت عندنا خلافه , ونثق بعلمهم , ونعلم أنهم إنما قالوه عن علم لا عن هوى , ومن أخطأ منهم في علمه أو قصده فيما حكاه سهل على الباحث معرفة ما أخطاه وتمييزه .
وسأعطيك مثالاً على أن تنظيرك في وادٍ وتطبيقك في وادٍ , وأن كثيراً ممّا تُنظر له لا واقع له :
قال أبو الليث السمرقندي: أجمع المفسرون أن المغضوب عليهم اليهود، والضالين أراد به النصارى.
وأما ابن أبي حاتم فإنه أورد الحديث باللفظ الأول ثم قال: ولا أعلم بين المفسرين في هذا الحرف اختلافاً.
(المشاركة 119) .
قبلتَ هذا الإجماع واستدللت به مثالاً على ما أجمع عليه الصحابة , وقد حكاه أبو الليث السمرقندي (ت:375) وابن أبي حاتم (ت:327) وهما من علماء القرن الرابع الهجري . فكيف قبلته واعتمدته ؟ أم الشأن عندك في القرن الخامس وما بعده , أمّا ما قبله فلا ؟!
وما الفرق بين ما يحكيه هو من إجماع وما يحكيه الآخرون من أهل الفرق الأخرى من إجماعات؟ كيف نقبل من هذا ونرد ذاك؟
أخبرتك أنا نتثبت , وبعده نقبل ونرد ممّن كان , وقد ذكرت لك الزمخشري مع من سبق , ولسنا كغيرنا ممّن يقبل ويرد لاعتباراته وتصنيفاته الخاصة .
هل هو لأجل الشخص وانتمائه؟
لو تَحرَرتَ من هذه العقدة لاستبان لك شيء كثير , وكيف يدعي العقل والتجديد من حاصر عقله بمثل هذه الأطر الضيقة .
وإذا كان الحديث لا يُقبل إلا مُسنداً فكيف نقبل الإجماع بلا سند؟
إن كان قصدك أنا لا نقبل -ممّن يحكي الإجماع- نقله حتى يسنده عمّن قال بذلك الحكم من الأئمة = فهذا لم يقل به أحد , ولم يفعله أحد ممّن حكى الإجماع يوماً .
وإن كان قصدك أن من نقل الإجماع يلزمه أن يسنده عمّن أخذه منه , كنوعٍ من التثبت = فهذا حسن , وليس بلازم , بل لو أخبر العالمُ المجتهدُ المطلع على الأقوال في التفسير بإجماعهم على قول فيه = صحَّ قوله , وقُبلَ عنه حتى يثبت خلافه .
كل هذه الأسئلة تجعل كثيراً من هذه الإجماعات المحكية تتساقط أمام الحقيقة العلمية التي لا تعترف بمجرد الدعاوى، ولا تعترف بالمعلومة المغلفة بلباس القدسية لتمريرها على عقول كثير من الناس.
عزيزي أبا حسان
حين تنظر إلى تراثنا بهذا الإطار الضيق يصعب عليك فهم الأمور على حقيقتها كما هي .
نحن أكثر من يطالب بالدليل , ويعتمد على الدليل , ولولا ذلك لقبلنا كلامك من أوّل وهلة ؛ حين أنزلت نفسك منازل الأئمة , وساويت رأسك بالرؤوس , وفي آخر مقالك من ذلك ما يُدهش .
ولا يُستغرَب ذلك ممن يقول عن السلف ما قلتَ , ومَن الإمام أحمد , والآجري , وابن تيمية ، وابن القيم ، وابن رجب ، وابن عبد الهادي .. وغيرهم = عند الصحابة والتابعين وأتباعهم بالنسبة لك ؟!
نعم نحن نُجل ونعظم نصوص الوحيين وندين الله تعالى بالاحتجاج والعمل بهما
ولأجل هذا أحببناك , وأهم من قول ذلك أن نجعله واقعاً لا شعاراً فقط .
ولكن بشروط كما هي معلومة قاسية في حق الأحاديث النبوية من علماء الحديث والجرح والتعديل، والذين بذلوا غاية الجهد في تمييز الصحيح من الضعيف، ووضعوا معايير قاسية تمنع تمرير أي حديث مكذوب، وتمنع أيضاً تمرير أي خطأ من الرواة والتي تقع غالباً من غير قصد
صدقت .
وأما حكايات الإجماع فلم تلقَ أي تمحيص أو تدقيق
أنت تخبر عن حَدِّ علمك , وبحسب ما سبق فمعلوماتك عن الإجماع محدودة , ولو تذكرتَ فقط (مراتب الإجماع) لابن حزم , و (نقده) لابن تيمية لتبين لك خطأ عبارتك , ناهيك عمّا كُتِب في إجماعات المفسرين على الخصوص .
إطلاق الأحكام بلا زمام هو أكثر ما نأخذه عليك أبا حسان , ولعل من أهم ما نستفيده هنا : أن نعدل في أحكامنا , ونزن ألفاظنا , ولا نبني أحكاماً على عواطف ومواقف لا تثبت عند التمحيص .
بل أُخذت على التسليم من أي قائل
ربما كما فعلتَ أنت , أمّا عند المحققين فلهم ميزانهم الذي ذكرتُ .
وليس المقام هنا لنقد هذا المصطلح الفضفاض الذي وللأسف لم يُحرر حتى الآن، وصارت تبنى عليه مسائل علمية خطيرة، وحتى تعلم صدق ما أقول راجع كتب الفقه والعقائد وانظر في كثير من الإجماعات، تجد أن من يحكيها عالم واحد أو اثنين أحدهما نقل عن الآخر، وكلاهما عاشا في زمن بعيد عن الزمن الذي يُفترض أن يكون وقع فيه الإجماع وهو زمن الصحابة، ثم تأمل كيف علموا بهذا الإجماع؟ وكيف سُلم لهم هذا الإجماع؟ ولو أنهم رووا حديثاً لم يُقبل منهم إلا بسند متصل ، فكيف قُبل منهم هذا الإجماع، بمجرد دعوى منهم؟!
وأنا لا أُنكر حجية الإجماع، وهو عندي ملزم ويحرم مخالفته، ولكن بشروطه المعتبرة والتي ذكرت بعضاً منها.
نفس الكلام ونفس الجواب .