الأسماء الحسنى في الفاصلة القرآنية

روضة

New member
إنضم
06/01/2006
المشاركات
205
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
الإقامة
الأردن
بسم الله الرحمن الرحيم​
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد،
فإن كتاب الله معجز ... أعجز الجن والإنس، وأحببت أن أبحث فيما يدلل على إعجازه، ويثبت أنه في أعلى درجات البلاغة . . . لا يرقى إليه كلام أحد، فقمت بالكتابة حول سر اختيار أسماء الله الحسنى في الفواصل القرآنية، ووجه ارتباطها بالآيات، فبحثت في مئة فاصلة، وأسأل الله أن يعينيي على المواصلة في بقية الفواصل في رسالة علمية موسعة.
وسر اختيار الاسم بحث عن صلة هذا الاسم بالآية الكريمة، وهذا يحتاج أولاً إلى معرفة المعنى الدقيق للاسم الكريم، وبيان الفروق المعنوية بين الأسماء التي يُظن بها الترادف، ومعرفة معنى الآية، وقد يتعدى ذلك إلى معرفة سياقها، ثم الربط بين الاسم والآية، لهذا كان لا بد من الاستعانة بمعجمات اللغة، والكتب التي تهتم ببيان الفروق اللغوية بين الألفاظ، ولا يُستغنى عن التفاسير وخاصة ذات الاتجاه اللغوي والبياني.
أسأل الله التوفيق، وأسأل القراء التصويب والإضافة..


أولاً: تعريف الفاصلة

الفاصلة (لغة):
لمادة (فَصَلَ) في اللغة العربية أصل واحد تلتقي عليه الاستخدامات المختلفة لهذه المادة، وهو: البَون ما بين الشيئين، والفصل من الجسد: موضع المفصل، وبين كل فصلين وصل، مثل ذلك: الحاجز بين الشيئين، والفاصلة: الخرزة التي تفصل بين الخرزتين في النظام، وقد فصّل النظم، وعقد مفصّل، أي جعل بين كل لؤلؤتين خرزة، ومثله: الفصل القضاء بين الحق والباطل.
ومنها: التفصيل: التبيين، ومنها: الفصل واحد الفُصول: أي القِِطع .
والفاصلة في علامات الترقيم في الكتابة العلامة التي تُوضع بين الجمل التي يتركب منها كلامٌ تام الفائدة .

الفاصلة (اصطلاحاً):
استخدمت الفاصلة اصطلاحاً في عدد من علوم العربية: في النحو، وفي العروض، وفي علامات الترقيم، وما يهمنا هو استخدامها في (علوم القرآن)، وقد تعددت تعريفات العلماء لها في هذا المجال، سأقتصر على تعريفين: تعريف للأقدمين، وتعريف للمحدثين.
قال الإمام الرماني: "إن الفواصل حروف متشاكلة في المقاطع توجب حسن إفهام المعاني" ، وتبعه القاضي الباقلاني في هذا التعريف في كتابه (إعجاز القرآن) .
ونجد تفصيلاً أكثر عند المحدثين، قال د. فضل عباس: "الفواصل هي أواخر كلمات الآي، كالقافية آخر كلمات البيت، وكالسجعة في الكلام المسجوع، وقد أطلقوا على أواخر آي القرآن فواصل أخذاً من قوله تعالى: (كتاب فصلت آياته) [فصلت:3]، وابتعاداً عن أن تسمى أسجاعاً، وقد دار خلاف بين العلماء: أيجوز أن يقال: إن في القرآن سجعاً؟ فمنعه بعضهم، منهم الإمام الرماني المعتزلي، والقاضي الباقلاني ـ رحمهما الله ـ وأجازه الأكثرون" ، وتعريفات القدماء والمحدثين للفاصلة لا تخرج عن هذين التعريفين.

ثانياً: الكلمة القرآنية مختارة منتقاة

إن من مظاهر إعجاز القرآن الكريم أن الكلمة فيه تقع موقعها اللائق بها، فلا يمكن استبدالها بكلمة أخرى، وإلا أدى ذلك إلى اضطراب في الكلام.
وإنما كان ذلك كذلك؛ لأن القرآن في أعلى طبقات البلاغة، وعمود البلاغة ـ كما يقول الإمام الخطابي ـ: "هو وضع كل نوع من الألفاظ التي تشتمل عليها فصول الكلام موضعه الأخص الأشكل به، الذي إذا بُدّل مكانه غيره جاء منه: إما تبدّل المعنى الذي يكون منه فساد الكلام، وإما ذهاب الرونق الذي يكون معه سقوط البلاغة، ذلك أن في الكلام ألفاظاً متقاربة في المعاني يحسب أكثر الناس أنها متساوية في إفادة بيان مراد الخطاب، والأمر فيها وفي ترتيبها عند علماء أهل اللغة بخلاف ذلك، ولأن لكل لفظة منها خاصية تتميز بها عن صاحبتها في بعض معانيها، وإن كانا قد يشتركان في بعضها "، وهذا يقودنا إلى نفي الترادف، ووسيتم الحديث عنه إن شاء الله.
والحديث عن اختيار الكلمة القرآنية ملاحظ بوضوح في كلام العلماء ـ متقدمين ومتأخرين ـ فالجاحظ يرى أن القرآن بليغ من حيث ألفاظه المختارة المنتقاة، ومن حيث نظمه ورصفه .. إلخ، والقاضي عبد الجبار يجعل اختيار الكلمة نفسها دعامة من دعامات فصاحة القرآن الكريم.
ويقول القاضي ابن عطية: "إن كتاب الله لو نزعت منه لفظة، ثم أُدير لسان العرب على لفظة غيرها لم يوجد، ونحن يتبيّن لنا البراعة في أكثره، ويخفى علينا وجهه في مواضع لقصورنا عن مرتبة العرب ـ يومئذِ ـ في سلامة الذوق، وجودة القريحة" .
ونجد الرافعي عندما يتحدث عن الجمل القرآنية يقول: إن كلماتها قد قُدرت لها تقديراً محكماً، بحيث لا تجد كلمة زائدة أو معنى فيه شيء من النقص، وكذلك نجد د. محمد دراز وسيد قطب يوليان الكلمة القرآنية كثيراً من العناية، ويبيّنان سر اختيارها.
وفي هذا الموضوع كتب الدكتور فضل عباس بحثاً بعنوان: (المفردات القرآنية مظهر من مظاهر الإعجاز)، قال فيه: "إن المفردة القرآنية تعتبر مظهراً من مظاهر الإعجاز البياني للقرآن الكريم، ذلك أن المفردات القرآنية مختارة منتقاة، ثم قال: إن كل كلمة في القرآن الكريم اسماً أو فعلاً أو حرفاً إنما جاءت لتؤدي رسالة خاصة بها لا يؤديها غيرها من الكلمات" .
إذن فالكلمة القرآنية مظهر من مظاهر الإعجاز البياني، والفاصلة القرآنية هي كلمة في آخر الآية، هذه الكلمة كغيرها من كلمات القرآن تُختار اختياراً دقيقاً لتؤدي الرسالة التي جاءت من أجلها، ويظهر فيها إعجاز القرآن، وهذا هو حظ الفاصلة من الإعجاز.

ثالثاُ: حظ الفاصلة من الإعجاز

ذكر الدكتور الحسناوي هذا العنوان في كتابه (الفاصلة في القرآن)، وبيّن أن إجماع الجمهور على اعتبار السورة أدنى حجم لمقدار المعجز، ونفي الإعجاز في الجزئيات وحدها، بل هي جزء يًسهم في الإعجاز .
وهذا القول للدكتور الحسناوي هو رفض لأن تكون الكلمة المفردة بحدّ ذاتها معجزة، فلا يظهر إعجاز الكلمة أو الفاصلة إلا عند اتصالها بباقي الكلمات في الآية، وهذا موافق لنظرية النظم التي قال بها الشيخ عبد القاهر قديماً.
فإعجاز القرآن عند المحققين من أهل العلم يظهر بنظم القرآن الكريم، لا بكلماته المفردة، وعليه فالفاصلة القرآنية مظهر من مظاهر الإعجاز بموقعها من الآية واتصالها بها، وباختيارها دون غيرها، فليست معجزة بمفردها.
ومن هنا كان لا بد للفاصلة من وظيفة تؤديها يظهر بها إعجاز القرآن، فما هي وظيفة الفاصلة؟

رابعاً: وظيفة الفواصل

لم تأتِ الفواصل عبثاً أو لتتميم السجع، بل جاءت لتؤدي معنى تتم به الفائدة، ويطلبه السياق، وقد عرض الدكتور فضل عباس لهذه القضية في ردّه على دائرة المعارف البريطانية، حيث قال: "وقد استدلت دائرة المعارف البريطانية على أن القرآن مجرد إنشاء بطريقة عشوائية، استدلت على هذه الدعوى بالفواصل القرآنية، حيث جاء فيها: (وكان القرآن يعطي للقارئ أنه مجرد إنشاء جاء بطريقة عشوائية، ويؤكد صحة ذلك طريقة ختم هذه الآيات، بآيات مثل: (إن الله عليم)، (إن الله حكيم)، (إن الله يعلم ما لا تعلمون)، وأن هذه الأخيرة لا علاقة لها مع ما قبلها، وأنها وضعت فقط لتتميم السجع والقافية).
ثم قال: الفاصلة القرآنية لم تأتِ لغرض لفظي فحسب، وهو اتفاق رؤوس الآي بعضها مع بعض، وهو ما يعبرون عنه بمراعاة الفاصلة، إنما جاءت الفاصلة في كتاب الله لغرض معنوي يحتمه السياق، وتقتضيه الحكمة، ولا ضير أن يجتمع مع هذا الغرض المعنوي ما يتصل بجمال اللفظ وبديع الإيقاع" .
وأثناء ردّه على هذه الشبهة في كتاب آخر، قال: "الدقة في الفاصلة القرآنية والترتيب المحكم، والنظام البديع لا يقلّ عما في هذا الكون، فخالق الكون ومنزل القرآن هو الله، الذي أتقن كل شيء، وكان حريّاً بأولئك أن لا يصدروا أحكاماً على ما لا يعلمون، وهذا ما تقتضيه بدهيات البحث العلمي" .
إذن الفاصلة القرآنية لها وظيفتان: الوظيفة الرئيسة معنوية يحتمها السياق، ووظيفة أخرى لفظية تتصل بجمال الإيقاع، ولا يجوز أن نقول إن الفاصلة جاءت لتتفق مع رؤوس الآي الأخرى فقط دون الانتباه للغرض المعنوي، وهذا ما قررته أيضاً د. عائشة عبد الرحمن في كتابها (الإعجاز البياني للقرآن) .
والغرض المعنوي للقرآن هو المعنى الذي تؤديه الفاصلة، قال علي الجندي: "من مزايا معاني الفواصل في القرآن الكريم شدة ارتباطها بما قبلها من الكلام، وقوة تعطّف الكلام عليها، كأنهما معاً جملة مفرغة يسري فيها روح واحد، ونغم واحد ينحدر إلى الأسماع انحداراً، وكأن ما سبقها لم يكن إلا تمهيداً لها لتتمم معناه، حتى لتبلغ من وقوعها موقعها، واطمئنانها في موضعها أنها لو حذفت لاختل معنى الكلام، واضطرب فهمه، واستغلق بيانه، ولو سُكت عنها لاستطاع السامع أن يختمه بها انسياقاً مع الطبع الملهم والذوق السليم ... ـ ثم يتابع فيقول ـ: بل قد يبلغ من تعيّنها في مكانها وفرض نفسها عليه، أنها لو بدّل بها غيرها لأدرك السامع الحصيف الثاقب الفطنة أن كلاماً غريباً ينقصه التناسب حلّ محلها، فأنكر ذلك سمعه وضاق به صدره .. من ذلك أن أعرابياً سمع رجلاً يقرأ: (وحملناه على ذات ألواح ودسر، تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر)، قرأها بفتح الكاف، فقال الأعرابي: لا يكون!! فقرأها عليه بضم الكاف وكسر الفاء، فقال: يكون" .
واتصال الفاصلة مع السياق قد يكون ظاهراً لا يحتاج إلى مزيد نظر، وقد يحتاج إلى تأمل وتفكّر ودراية بمعاني الكلمات الدقيقة، وهذه الدراية هي التي تبيّن تمكّن الفاصلة من موقعها وتنفي الترادف عن بعض الكلمات، فلا يُقال حينئذٍ: إن الآية لو خُتمت بـ(الرؤوف) بدلاً من (الرحيم) لا بأس، فالكلمتان تدلان على الرحمة.
وقد قُرر سابقاً أن الكلمة أو الفاصلة مختارة منتقاة دون غيرها من الكلمات التي قد يُظن بها الترادف، وهذا يعني أنه لا ترادف في القرآن، كما أنه لا ترادف في العربية بشكل عام، وهذا هو الموضوع التالي.

خامساً: نفي الترادف

لكل لفظة في اللغة العربية معنى خاص به يميّزه عن غيره من الألفاظ، فهناك فروق بين الكلمات، هذه الفروق هي التي جعلت لكل كلمة موقعها الذي لا يناسبه غيرها، وهذا هو نفي الترادف، وقد تحدث عن هذا العلماء قديماً وحديثاً، يقول د. محمد المبارك في كتابه (فقه اللغة وخصائص العربية) عن موضوع الترادف تحت عنوان: (آفة الترادف والعموم والغموض)، أنقل كلامه باختصار، قال: لقد أصاب العربية في عصور الانحطاط المنصرمة مرض العموم والغموض والإبهام، كما أصابت هذه الآفات التفكير نفسه، فضاعت الفروق الدقيقة بين الألفاظ المتقاربة فغدت مترادفة..
ثم قال: وقد كان كتّاب العربية في العصور الزاهرة يحرصون على دقة التعبير ووضع الألفاظ في مواضعها، ... ونحن اليوم بحاجة للتحرر من آفات عصور الانحطاط في ميدان اللغة، والعودة إلى خصائص العربية في استعمال اللفظ الخاص والعام، وكل في موضعه اللائق به، ومكانه المناسب له .
وردّ الإمام محمد عبده بشدة القول بوجود كلمات مترادفة، حيث قال: "وأنا لا أجيز لمسلم أن يقول في نفسه أو بلسانه إن في القرآن كلمة تغاير أخرى، ثم تأتي لمجرد تأكيد غيرها بدون أن يكون لها في نفسها معنى تستقل به، نعم قد يكون معنى الكلمة هو عين معنى الأخرى تقريراً أو إيضاحاً، ولكن الذي لا أجيزه هو أن يكون معنى الكلمة هو عين معنى الأخرى بدون زيادة، ثم يؤتى بها لمجرد التأكيد لا غير، بحيث تكون من قبيل ما يُسمى بالمترادف في عرف أهل اللغة، فإن ذلك لا يقع إلا في كلام من يرمي في لفظه إلى مجرد التنمق والتزويق، وفي العربية طرق للتأكيد ليس هذا منها" .
وعلى هذا، فلا يقال مثلاً في قوله تعالى: (إن الله كان عفواً غفوراً) إن (عفو) و(غفور) بمعنى، وجاء اسم (الغفور) لتوكيد (العفو) دون زيادة معنى، فلا بد من زيادة فائدة.

سادساً: أسماء الله الحسنى في الفاصلة القرآنية

كثير من الآيات الكريمة خُتمت بأسماء الله الحسنى، حيث بلغت أكثر من خمسمائة آية، وهذه الأسماء الكريمة تلقي بظلالها على الآية التي ذكرت في ختامها، فتتصل اتصالاً وثيقاً معها، بحيث إنه لا يمكن استبدال الاسم باسم آخر، وإنْ كان يشترك معه في أصل المعنى، فمثلا (الغفور) لا يمكن استبداله بـ(الغفار) مع أن كليهما يدل على ستر الذنوب. قال الغزالي في (المقصد الأسنى): "هذه الأسامي، وإنْ كانت متقاربة المعاني .. فليست مترادفة .. وعلى الجملة يبعد الترادف المحض في الأسماء الداخلة في التسعة التسعين؛ لأن الأسامي لا تُراد لحروفها ومخارج أصواتها، بل لمفهوماتها ومعانيها، فهذا أصل لا بد من اعتقاده" .
ولا بد من البحث عن وجه الربط بين الاسم الكريم وبين ما سبقه، فالآية وحدة واحدة تترابط أجزاؤها وتنتظم انتظام الدرر في العقد.

(يتبع)....
[line]
1. انظر: مادة (فَصَل) في (لسان العرب)، و(أساس البلاغة)، و(القاموس المحيط).
2. المعجم الوسيط.
3. رسالة الرماني (ثلاث رسائل في إعجاز القرآن)، ص97.
4. إعجاز القرآن للباقلاني، ص244 .
5. إتقان البرهان في علوم القرآن، فضل عباس، (440:1).
6. رسالة الخطابي، (ثلاث رسائل ..)، ص29.
7. المحرر الوجيز، (39:1).
8. نُشر هذا البحث في مجلة (دراسات)، الجامعة الأردنية، مجلد11، عدد4، 1984.
9. انظر: (الفاصلة في القرآن)، محمد الحسناوي، ص378.
10. إعجاز القرآن الكريم، فضل عباس، ص222.
11. قضايا قرآنية في الموسوعة البريطانية، نقد مطاعن وردّ شبهات، فضل عباس، ص82.
12. الإعجاز البياني للقرآن، ومسائل نافع ابن الأزرق، عائشة عبد الرحمن، ص278.
13. صور البديع، فن الأسجاع، علي الجندي، (192:2).
14. فقه اللغة وخصائص العربية، محمد المبارك، ص(318-321) باختصار.
15. تفسير المنار، محمد رشيد رضا، (46:1).
16. المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى، أبو حامد الغزالي، ص23.
 
بسم الله الرحمن الرحيم و الصلاة و السلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين .
السلام عليكم ورحمة الله و بركاته .
إن البحث في القيم الجمالية و تحققه في القرآن الكريم مبنى و معنى لهو من الواجبات التي يتعين على الباحثين المقتدرين الوفاء بها ، و إني لأكون في غاية السرور عندما تهل علينا دراسات قيمة في التفسير اللغوي و البياني للقرآن الكريم ، لأننا نكون بذلك نعطي البديل الأكفى عما يسمونه بالقراءات الحداثية للقرآن الكريم .
جزاكم الله خيرا .
و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته .
 
أختي الكريمة روضة : شكر الله لك ما كتبتي , ومشاركة مني في إثراء الموضوع أقول :
مِن وجوه إعجازِ القرآن الكريم الإعجازُ في فواصلهِ وخواتم آياته ، حيث نَجِدُها نازلة في مواضعها ملائمة لمواقعها ، مساهِمة في إحْكام الآي وبنائِها ،في الشكْل والمضمون ، في المبنى والمعنى .
وأواخِرُ الآي تُسمّى عند أهل العلْم : فَوَاصِل .
قال الراغب الأصفهاني :" والفَوَاصِلُ : أَوَاخِرُ الآيِ ".
وقالَ الزجّاجُ :" وَرُؤُوسُ الآيِ فَوَاصِل ".
فينبغي للمفسِّر أنْ يتأمّلَ آخر الآية ومناسبتها لمضمونها .
قال الزركشيُّ :" اعْلَمْ : أنّ مِنْ المواضع التي يُتأكَّدُ فيها إيقاعُ المناسبةِ : مَقاطِع الكلامِ وأواخره ، وإيقاعُ الشيءِ فيها بما يُشاكِلُه . فلا بدَّ أنْ تكونَ مناسبةً للمعنى المذكور أولاً ،وإلا خرجَ بعض الكلام عن بعض . وفواصلُ القرآن العظيم لا تخْرُج عنْ ذلك ، لكن منْهُ ما يظْهر ،ومنْهُ ما يُسْتخْرج بالتَّأَمُّلِ لِلَّبِيب ".( )
وفواصل الآي الكريم إمّا أنْ تُختَم بأسماء الله الحسنى أو تُختَم بغير ذلك , والحديث هنا عن الأول .
قالَ الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :" منْ بلاغة القرآن : ختْمُ الأحكام بما يُناسبها من أسماء الله ".
ونقلَ السيوطيُّ عنْ أعرابيٍّ أنّه سمِعَ قارئًا يقرأُ{فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ} (البقرة:من الآية209) فاعلموا أنّ الله غفورٌ رحيم ، ولم يكنْ يقرأُ القرآنَ ، فقالَ :" إنْ كانَ هذا كلام الله فلا يقولُ كذا . الحكيم لا يَذْكُر الغفرانَ عندَ الزَّلَلْ لأنّه إغْراءٌ عليه ".( )
فخَتْمُ الآيةِ بأحد أسماء الله الحسْنى مُشْعِرٌ بعلاقة بين هذا الاسم وبين مضمون الآية ينبغي للمفسِّر إظهارُه وبيانُ وجْهِه .
ومن أمثلة ذلك ما ذكره الشيخ ابن عثيمين في تفسيره :
- فعند تفسيره لقوله تعالى :{لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة:284)
قال :" فإنْ قيل : لماذا ختَمَ الآية بالقدرة من بعد قوله تعالى : {فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} ؛ ولم يَخْتِمها بالرحمة ، ولا بالعقوبة ؟
فالجواب : إنّ المحاسبة تكون بعد البعْث ؛ والبعْثُ يدلُّ على القدرة ؛ كما قال تعالى:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}(الاحقاف:33) وقالَ تعالى :{ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}(فصلت: من الآية39) .
وجْهٌ آخر : لو خُتِمتْ الآيةُ بما يقتضي الرحمةَ وفيها التعذيبُ لم يَكُنْ هناكَ تَنَاسُبٌ ؛ لو خُتِمتْ بما يقتضي التعذيبَ وفيها مغفرةٌ لم يَكُنْ هناكَ تَنَاسُبٌ ؛ والقدرةُ تُناسِب الأمرين: تُناسِبُ المغفرةَ وتُناسِبُ التعذيبَ ؛لأنّ المغفرة والتعذيب كلاًّ لا يكون إلا بقدرة الله ".
- وعند تفسيره لقوله تعالى:{إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} (النساء:17)
قال :" خَتَم الله الآية بقولـه : { عَلِيماً حَكِيماً} ؛ مع أنّ المتوقع أنْ يقول : تَوَّابًا رحيما ؛ والحِكْمَـةُ مِن ذلكَ هي بيانُ أنّ الله يعْلَمُ مَن يستحقُّ التوبـةَ مِمّنْ لا يستحقُّها ، ويضعها في محلّها ؛ لأنّه سيأتي حالٌ لا تُقْبلُ فيها التوبة ،فناسبَ أنْ يُبَيِّنَ أنّ توبتَهُ على هؤلاءِ مبْنيّةٌ على عِلْمٍ وحكمةٍ "
 
سر اختيار (الرحمن) و(الرحيم) مقترنين في الفاصلة القرآنية

سر اختيار (الرحمن) و(الرحيم) مقترنين في الفاصلة القرآنية

الدكتوران الأحمدان ..د. أحمد بزوي ، ود. أحمد البريدي،
جزاكم الله خيراً على المرور والتعليق، وزادكم علماً ونفع بكم.

°ˆ~*¤®§(*§*)§®¤*~ˆ°******°ˆ~*¤®§(*§*)§®¤*~ˆ°


سر اختيار (الرحمن) و(الرحيم) مقترنين في الفاصلة القرآنية


يتحتم عليّ في البداية أن أبيّن المعنى الدقيق لهذين الاسمين المشتقين من الرحمة، وبيان الفروق بينهما، ثم دراسة الآيات التي ختمت بهذين الاسمين مقترنين.
قال ابن فارس: "الراء والحاء والميم أصل واحد يدل على الرقة والعطف والرأفة، يقال في ذلك: رحمه يَرْحمه، إذا رقّ له وتعطّف عليه"(1) .
"والرحمة مأخوذة من الرحم؛ وذلك لأن الرحم منعطفة على ما فيها، وهذا بالنسبة إلى الله تعالى كناية عن إنعامه وإحسانه على خلقه"(2)، "فإذا وصف به الباري تعالى، فليس يراد به إلا الإحسان المجرد دون الرقة، وعلى هذا رُوي أن الرحمةمن الله إنعام وإفضال، ومن الآدميين رقة وتعطّف"(3).
إذن، اسما (الرحمن) و(الرحيم) يشتركان في أصل المعنى وهو الدلالة على الإحسان والإنعام، إلا أن هناك فرقاً بين الاسمين؛ ذلك أنه لا ترادف في القرآن كما تقرر من قبل، وقد لاحظ ابن عباس رضي الله عنه هذا الفرق، حيث قال: "هما اسمان رفيقان، أحدهما أرفق من الآخر"(4).
وهذا ما وضحه الزمخشري في الكشاف، قال: "في الرحمن من المبالغة ما ليس في الرحيم، ولذلك قالوا: رحمن الدنيا والآخرة، ورحيم الدنيا، ويقولون: عن الزيادة في البناء لزيادة المعنى"(5) .
ولا يطلق (الرحمن) إلا على الله تعالى، لا مطلقاً ولا مضافاً؛ إذ هو الذي وسع كل شيء رحمة وعلماً، و(الرحيم) يُستعمل في غيره، وهو الذي كثُرت رحمته، وقيل: (الرحمن) عام، و(الرحيم) خاص، وقيل: (الرحمن) الذي الرحمة وصفه، و(الرحيم) الراحم لعباده، ولهذا يقول تعالى: "وكان بالمؤمنين رحيماً"، "إنه بهم رؤوف رحيم"، ولم يجئ: رحمن بعباده، ولا رحمن بالمؤمنين، مع ما في اسم (الرحمن) الذي هو على زِنة فَعلان من السَّعة، ألا ترى أنهم يقولون: غضبان، للمتلئ غضباً ... فبناء (فعلان) للسعة والشمول(6) .
وعلى هذا القول الأخير يمكن القول إن (الرحمن) صفة ذات؛ فهي صفة قائمة به سبحانه، و(الرحيم) صفة فعل تتعلق بالمرحومين، وهذا ما ذهب إليه ابن القيم(7) ، واستدل بالآيتين السابقتين، بينما خالفه الإمام محمد عبده والشيخ الشعراوي(8) رحمهم الله جميعاً.
قال الإمام: "إن صيغة (فعلان) تدل على وصف (فََعلى)، فيه معنى المبالغة، كـ(فعّال)، وهو في استعمال اللغة للصفات العارضة كعطشان وغضبان وغرثان، وأما صيغة (فعيل)، فإنها تدل في الاستعمال على المعاني الثابتة، كالأخلاق والسجايا في الناس، كعليم وحليم، وحكيم وجميل، والقرآن الكريم لا يخرج عن الأسلوب العربي البليغ في الحكاية عن صفات الله عز وجل التي تعلو عن مماثلة صفات المخلوقين، فلفظ (الرحمن) يدل على من تصدر عنه آثار الرحمة بالفعل، وهي إفاضة النِّعم والإحسان، ولفظ (الرحيم) يدل على منشأ هذه الرحمة والإحسان، وعلى أنها من الصفات الثابتة الواجبة، وبهذا المعنى لا يُستغنى بأحد الوصفين عن الآخر، ولا يكون الثاني مؤكداً للأول، فإذا سمع العربي وصف الله ـ جل ثناؤه ـ بالرحمن، وفهم منه أنه المفيض للنِّعم فعلاً، لا يعتقد منه أن الرحمة من الصفات الواجبة له دائماً، لأن الفعل قد ينقطع إذا لم يكن عن صفة لازمة ثابتة، وإنْ كان كثيراًً، فعندما يسمع لفظ (الرحيم) يكمل اعتقاده على الوجه الذي يليق بالله تعالى ويرضيه سبحانه، ويعلمُ أن لله صفة ثابتة هي الرحمة التي عنها يكون أثرها، وإن كانت تلك الصفة على غير مثال صفات المخلوقين، ويكون ذكرها بعد (الرحمن) كذكر الدليل بعد المدلول ليقوم برهاناً عليه"(9) .
ويمكن ترجيح قول الإمام محمد عبده بأن (الرحمن) صفة فعل، و(الرحيم) صفة ذات، حيث استدل على رأيه بما جاء في اللغة، والقرآن الكريم قد أنزل بلسان عربي مبين، أما قوله: (وكان بالمؤمنين رحيماً)، فيمكن أن يكون المراد أن صفة الرحمة ملازمة ثابتة لله تعالى في معاملته للمؤمنين، فهو تعالى لا يعاملهم إلا بهذه الصفة، ولو أنه قال: وكان بالمؤمنين رحماناً، لفُهم أن الرحمة بالمؤمنين قد تنقطع؛ لأن صيغة فعلان تدل على الصفات العارضة، والله اعلم.

هذه هي أهم الأقوال التي قيلت في التفرقة بين الاسمين، وألخصها بأمرين:
الأول: في لفظ (الرحمن) من المبالغة ما ليس في (الرحيم) لدلالة بناء (فعلان) على السعة والشمول.
الثاني: (الرحمن) صفة تدل على صدور فعل الرحمة، و(الرحيم) صفة ذات، تدل على صفة ثابتة، وتدل على منشأ الرحمة.

وفيما يلي الآيات التي اشتملت في فواصلها على هذين الاسمين مجتمعين:


الآية الأولى: (بسم ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ) [الفاتحة:1].
الآية الثانية: (ٱلرَّحْمـٰنِ ٱلرَّحِيمِ) [الفاتحة:3]


"ذكرهما في البسملة تعليل للابتداء باسمه عز وجل، وذكرهما في الآية الثالثة من الفاتحة تعليل لاستحقاقه تعالى الحمد"، قاله الألوسي(10) .
فناسب أن يُذكر هذان الاسمان الجليلان المشتَقَّان من الرحمة في أول الكتاب لما فيهما من معنى الإحسان، والتفضل، فنحن نبدأ مستعينين بالله لما له من فضل علينا، ونحمده كذلك لكثرة إنعامه علينا.
وذكر الإمام محمد عبده أن الابتداء بالرحمة في أول الكتاب وعدٌ بالإحسان، وتكريرهما مرة ثانية تنبيه لنا على أن أمره إيانا بتوحيده وعبادته رحمة منه سبحانه بنا، لأنه لمصلحتنا ومنفعتنا(11) .
فنبّه الإمام على موقع هذين الاسمين بالنسبة للقرآن الكريم، وما جاء فيه من أوامر ونواهٍ.
ويمكن أن نربط بينهما وبين ما جاء قبلهما، وهو لفظ الجلالة في البسملة، قال أبو السعود: "والاقتصار على نعته تعالى بهما في التسمية؛ لما أنه الأنسب بحال المتبرك المستعين باسمه الجليل والأوفق لمقاصده"(12) .
وكذلك الأمر في الفاصلة الثانية .. يمكن ربط الاسمين بما سبقهما، وهو قوله تعالى: (الحمد لله رب العالمين)، "فكأن الله تعالى أراد أن يتحبب إلى عباده، فعرّفهم أن ربوبيته ربوبية رحمة وإحسان، ليعلموا أن هذه الصفة هي التي ربما يرجع إليها معنى الصفات، وليتعلقوا به ويُقبلوا على اكتساب مرضاته"(13) .

وفي سبب تقديم (الرحمن) على (الرحيم) مع كون القياس تأخيره رعاية لأسلوب الترقي إلى الأعلى، كما في قولهم: جوّاد فيّاض، قال أبو السعود: لأنه باختصاصه به عز وجل (يعني اسم الرحمن) صار حقيقاً بأن يكون قريناً للاسم الجليل الخاص به تعالى؛ ولأن ما يدل على جلائل النعم وعظائمها وأصولها أحق بالتقديم مما يدل على دقائقها وفروعها، وإفراد الوصفين الجليلين بالذكر لتحريك سلسلة الرحمة"(14) .
وما قيل في آيات الفاتحة، يقال في البسملة التي افتُتح بها كتاب سليمان ـ عليه السلام ـ إلى أهل سبأ: (إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ) [النمل:30]، ويُضاف: إنه عليه السلام بعد أن عرّفهم بصاحب الكتاب عرّفهم بالإله الذي دعاهم لعبادته لما وجب له لذاته، وما استحقه بصفاته؛ ليكون ذلك أجدر بقبول كتابه(15) .


الآية الثالثة: (وَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلرَّحْمَـٰنُ ٱلرَّحِيمُ) [البقرة:163]

تكلم أبو السعود عن وجه ارتباط هذه الفاصلة بآيتها، فقال: "هو تقرير للتوحيد؛ فإنه تعالى حيث كان مولياً لجميع النعم وأصولها وفروعها، جليلها ودقيقها، وكان ما سواه كائناً ما كان مفتقراً إليه في وجوده وما يتفرع عليه من كمالاته تحققت وحدانيته بلا ريب، وانحصر استحقاق العبادة فيه تعالى قطعاً"(16) .
ويمكن أن أضيف وجهاً آخر في مناسبة الفاصلة للسياق، وهو مناسبة لفظية ومعنوية، فالرحمة هنا جاءت بعد ذكر التوحيد في مقابل اللعنة التي جاءت في الآية السابقة مقترنة بالكفر، وهو قوله تعالى: (إِن الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ ٱللَّهِ وَٱلْمَلاۤئِكَةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ)، والرحمة ضد اللعنة التي هي لمن كفر ومات على الكفر، والرحمة لمن وحّد.
وإذا تدبرنا قوله تعالى: (وَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلرَّحْمَـٰنُ ٱلرَّحِيمُ) وجدنا أنها تحدثت عن وحدانية الألوهية، وتظهر هذه الوحدانية في جوانب عدة، يقول صاحب الظلال: "ومن وحدانية الألوهية التي يؤكدها هذا التأكيد، بشتى أساليب التأكيد، يتوحد المعبود الذي يتجه إليه الخلق بالعبودية والطاعة، وتتوحد الجهة التي يتلقى منها الخلق قواعد الأخلاق والسلوك، ويتوحّد المصدر الذي يتلقى منه الخلق أصول الشرائع والقوانين، ويتوحد المنهج الذي يصرف حياة الخلق في كل طريق، ثم يقول: يُذكر من صفات الله هنا: (الرحمن الرحيم)، فمن رحمته السابغة العميقة الدائمة تنبثق كل التشريعات والتكاليف"(17) .
من هذه النظرة العميقة في ظلال معنى التوحيد، نجد أن صفة الرحمة جاءت مناسبة جداً لهذا المقام، بحيث إن أي صفة أخرى لن تسدّ مسدّها.... فالرحمة تظهر في توحيد المعبود، وفي التشريعات التي شرّعها المعبود.


الآية الرابعة: (تَنزِيلٌ مِّنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ) [فصلت:2]

وجه ارتباط الفاصلة بالآية ظاهر، فذكر الرحمة مع تنزيل القرآن؛ لأنه نزل رحمة للناس يخرجهم من الظلمات إلى النور، وقد نزل فيه من التشريعات ما فيه خيرهم في الدنيا والآخرة.
وقال ابن عاشور: "في ذلك إيماء إلى استحماق الذين أعرضوا عن الاهتداء بهذا القرآن بأنهم أعرضوا عن رحمة، وأن الذين اهتدوا به هم أهل المرحمة لقوله بعد ذلك: (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ وَٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِيۤ آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) [فصلت44](18) ".
فهدف تنزيل الكتاب رحمة العباد، إلا أننا نجد في آيات أخرى اقتران التنزيل بأسماء أخرى، كقوله تعالى في سور الزمر، والجاثية، والأحقاف: (تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ)، وفي سورة يس: (تَنزِيلَ ٱلْعَزِيزِ ٱلرَّحِيمِ)، وغيرها من الأسماء، وسأحاول بيان ذلك في موضعه إن شاء الله.


الآية الخامسة: هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ هُوَ ٱلرَّحْمَـٰنُ ٱلرَّحِيمُ [الحشر:22]


ذكرُ الاسمين الجليلين بعد ذكر صفة العلم له ملحظ نفسي أشار إليه صاحب الظلال، وهو أن علمَ الله للظاهر والمستور يوقظ في النفس شعور المراقبة، فيعمل الإنسان كل ما يعمل بشعور المراقَب من الله، المراقِب لله، وبعد صفة العلم يذكر صفة الرحمة ليستقر في الضمير شعور الطمأنينة لرحمة الله والاسترواح، ويتعادل الخوف والرجاء، والفزع والطمأنينة، فالله في تصوّر المؤمن لا يطارد عباده ولكن يراقبهم، ولا يتركهم بلا عون وهم يصارعون الشرور والأهواء(19) .
هذا هو سر اختيار الاسمين الدالّين على الرحمة في هذه الآية الكريمة.

لم يقترن الاسمان الكريمان في الفواصل القرآنية إلا في الآيات السابقة، ويلاحظ من خلال ما سبق أنهما يقترنان في سياق الحديث عن التوحيد.
ففي سورة الفاتحة ذُكر الاسمان في البسملة بعد الاسم الأعظم (الله) الذي يشير إلى توحيد الألوهية، ثم ذكرا في الآية الثالثة من السورة بعد قوله تعالى: (الحمد لله رب العالمين)، وهذا هو توحيد الربوبية.
أما قوله تعالى: (وَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلرَّحْمَـٰنُ ٱلرَّحِيمُ) فظاهر، كما أن السياق الذي وردت فيه آية فصلت: (تَنزِيلٌ مِّنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ) يتحدث عن التوحيد، ففي مطلع السورة يقول الله تعالى: (قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ فَٱسْتَقِيمُوۤاْ إِلَيْهِ وَٱسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ)، وذكر التوحيد غير مرة في السورة، فمثلاً قوله تعالى: (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِٱلَّذِي خَلَقَ ٱلأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ)، وقال: (إِذْ جَآءَتْهُمُ ٱلرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ ٱللَّهَ)، وقال: (لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ وَٱسْجُدُواْ لِلَّهِ ٱلَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ)، وقال: (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَآئِي قَالُوۤاْ آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ).
ويبدو ذلك واضحاً في آية الحشر، حيث إن هذين الاسمين: (الرحمن) و(الرحيم) أحيطا بذكر التوحيد، فقال تعالى: (هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ هُوَ ٱلرَّحْمَـٰنُ ٱلرَّحِيمُ هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ...).
وسر الربط بين التوحيد وبين هذين الاسمين، هو ما ذكرتُه قبلُ وهو أن الرحمة تظهر في توحيد المعبود، وفي التشريعات التي شرّعها، والله أعلم.
[line]
1. معجم مقاييس اللغة، ابن فارس، مادة (رحم).
2.عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ، السمين الحلبي، (87:2).
3.المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، وانظر: بصائر ذوي التمييز، الفيروزأبادي.
4.عمدة الحفاظ، (87:2).
5.الكشاف، (16:1).
6.اشتقاق أسماء الله الحسنى، أبو القاسم الزجاجي، ص55، وانظر: بصائر ذوي التمييز.
7.بدائع الفوائد، (21:1).
8.المختار من تفسير القرآن العظيم، (12:2).
9.تفسير المنار، (12:2).
10.روح المعاني، (84:1).
11.المنار، (37:1).
12.تفسير أبي السعود، (15:1).
13.المنار، (53:1).
14. تفسير أبي السعود، (11:1).
15.انظر: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، البقاعي، (423:5).
16.تفسير أبي السعود، (184:1).
17.في ظلال القرآن، (214:1).
18.التحرير والتنوير، (230:24).
19.انظر: الظلال، (49:8).
 
هناك رسالة دكتوراه قدمت في جامعة القران الكريم بالسودان للدكتور احمد المناعي من الاردن حول هذا الموضوع ولا اعلم هل طبعت ام لا
 

===================
أقول:
===================

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله ( صحبه و اتباعه أجمعين )

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته



جزاك الله خيرا

موضوع جميل جدا



/////////////////////////////////////////////////
 
بسم الله الرحمن الرحيم و الصلاة و السلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين .
الأخت الفاضلة : الأستاذة روضة ـ حفظها الله ـ
السلام عليكم ورحمة الله و بركاته .
جزاك الله خيرا ، ما تقومين به عمل في غاية الأهمية في زمن أصبحنا نؤتى فيه من جانب دعاة القراءات الجديدة للقرآن الكريم ، و التي تدعي تسلحها باللسانيات و مناهج تحليل الخطاب الحديثة ، مما يحتم علينا التسلح بهذه الأدوات العلمية لإقامة الحجة عليهم بأن دراساتهم غير علمية و غير منهجية من جانب . و لنفهم تراثنا التفسيري خاصة و التراث عامة فهما جيدا. فأعمال مفسرينا و لغويينا و الإعجازيين هي دراسات لسانية بامتياز ، بل سجلت السبق العلمي على كثير من النظريات اللسانية الحديثة ، كما أن ذلك سيمكننا من فهم قضية الإعجاز ، والوصول إلى قضايا إعجازية جزئية ، واكتشاف توازنات صوتية مناسبة للمقال وللمقام و السياق ، ومحققة البعد الجمالي للخطاب القرآني ، ومحدثة الأثر المقصود في المتلقي ، بأن تأسره بعلمها و بسحرها، فتجعله يد لأمر الله طواعية ، ويقبل على ربه حبا وكرامة، فيحقق صلاحه في الحال و المآل .
إنني أقول ذلك لأننا ندرس أمر الفاصلة من حيث التوازنات الدلالية و المقامية ، ونغيب جانب التوازنات الصوتية كآلية مهمة استخدمها البيان القرآني لرسم إيقاعه الخاص ، والمعجز، و المتشابك مع المستويات اللسانية الأخرى : الصرف ، و التركيب ، و الدلالة ، و الأسلوبية ، و التداولية .
آمل أن تجربي ذلك فستجدين متعة علمية أكبر ، وفائدة أعم ، وبيانا لفضل الله على العباد بأن يسر فهم مراداته ، وهيأ لهم أسباب معرفته ، وفتح أبواب الوصول إليه ، حيث عتبات المحبة ، ومدارج القبول .
وتفضلوا بقبول خالص التحيات و التقدير .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
 
جزاك الله خيراً ..
وننتظر المزيد.

ودمتم ،،،
 
هناك كتابان في هذا الموضوع هما :
ختم الآيات بأسماء الله الحسنى ودلالتها , واسماء الله الحسنى في خواتم سورة الفاتحة والبقرة .
كلاهما للدكتور علي العبيد .
 
أسماء الله الحسنى
في خواتم آيات سورة الفاتحة والبقرة


تأليف
د. علي بن سليمان العبيد



copyof0.jpg

التحميل
archive أو 4shared


بطاقة الكتاب:
العنوان: أسماء الله الحسنى في خواتم آيات سورة الفاتحة والبقرة .
تأليف: د. علي بن سليمان العبيد.
دار النشر: دار العاصمة.
سنة الطبع: الطبعة الأولى (1418 هـ) .
نوع التغليف: غلاف (112).
رقم الكتاب: (500).
 
عودة
أعلى