بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.أما بعد،
فإن كتاب الله معجز ... أعجز الجن والإنس، وأحببت أن أبحث فيما يدلل على إعجازه، ويثبت أنه في أعلى درجات البلاغة . . . لا يرقى إليه كلام أحد، فقمت بالكتابة حول سر اختيار أسماء الله الحسنى في الفواصل القرآنية، ووجه ارتباطها بالآيات، فبحثت في مئة فاصلة، وأسأل الله أن يعينيي على المواصلة في بقية الفواصل في رسالة علمية موسعة.
وسر اختيار الاسم بحث عن صلة هذا الاسم بالآية الكريمة، وهذا يحتاج أولاً إلى معرفة المعنى الدقيق للاسم الكريم، وبيان الفروق المعنوية بين الأسماء التي يُظن بها الترادف، ومعرفة معنى الآية، وقد يتعدى ذلك إلى معرفة سياقها، ثم الربط بين الاسم والآية، لهذا كان لا بد من الاستعانة بمعجمات اللغة، والكتب التي تهتم ببيان الفروق اللغوية بين الألفاظ، ولا يُستغنى عن التفاسير وخاصة ذات الاتجاه اللغوي والبياني.
أسأل الله التوفيق، وأسأل القراء التصويب والإضافة..
أولاً: تعريف الفاصلة
الفاصلة (لغة):
لمادة (فَصَلَ) في اللغة العربية أصل واحد تلتقي عليه الاستخدامات المختلفة لهذه المادة، وهو: البَون ما بين الشيئين، والفصل من الجسد: موضع المفصل، وبين كل فصلين وصل، مثل ذلك: الحاجز بين الشيئين، والفاصلة: الخرزة التي تفصل بين الخرزتين في النظام، وقد فصّل النظم، وعقد مفصّل، أي جعل بين كل لؤلؤتين خرزة، ومثله: الفصل القضاء بين الحق والباطل.
ومنها: التفصيل: التبيين، ومنها: الفصل واحد الفُصول: أي القِِطع .
والفاصلة في علامات الترقيم في الكتابة العلامة التي تُوضع بين الجمل التي يتركب منها كلامٌ تام الفائدة .
الفاصلة (اصطلاحاً):
استخدمت الفاصلة اصطلاحاً في عدد من علوم العربية: في النحو، وفي العروض، وفي علامات الترقيم، وما يهمنا هو استخدامها في (علوم القرآن)، وقد تعددت تعريفات العلماء لها في هذا المجال، سأقتصر على تعريفين: تعريف للأقدمين، وتعريف للمحدثين.
قال الإمام الرماني: "إن الفواصل حروف متشاكلة في المقاطع توجب حسن إفهام المعاني" ، وتبعه القاضي الباقلاني في هذا التعريف في كتابه (إعجاز القرآن) .
ونجد تفصيلاً أكثر عند المحدثين، قال د. فضل عباس: "الفواصل هي أواخر كلمات الآي، كالقافية آخر كلمات البيت، وكالسجعة في الكلام المسجوع، وقد أطلقوا على أواخر آي القرآن فواصل أخذاً من قوله تعالى: (كتاب فصلت آياته) [فصلت:3]، وابتعاداً عن أن تسمى أسجاعاً، وقد دار خلاف بين العلماء: أيجوز أن يقال: إن في القرآن سجعاً؟ فمنعه بعضهم، منهم الإمام الرماني المعتزلي، والقاضي الباقلاني ـ رحمهما الله ـ وأجازه الأكثرون" ، وتعريفات القدماء والمحدثين للفاصلة لا تخرج عن هذين التعريفين.
ثانياً: الكلمة القرآنية مختارة منتقاة
إن من مظاهر إعجاز القرآن الكريم أن الكلمة فيه تقع موقعها اللائق بها، فلا يمكن استبدالها بكلمة أخرى، وإلا أدى ذلك إلى اضطراب في الكلام.
وإنما كان ذلك كذلك؛ لأن القرآن في أعلى طبقات البلاغة، وعمود البلاغة ـ كما يقول الإمام الخطابي ـ: "هو وضع كل نوع من الألفاظ التي تشتمل عليها فصول الكلام موضعه الأخص الأشكل به، الذي إذا بُدّل مكانه غيره جاء منه: إما تبدّل المعنى الذي يكون منه فساد الكلام، وإما ذهاب الرونق الذي يكون معه سقوط البلاغة، ذلك أن في الكلام ألفاظاً متقاربة في المعاني يحسب أكثر الناس أنها متساوية في إفادة بيان مراد الخطاب، والأمر فيها وفي ترتيبها عند علماء أهل اللغة بخلاف ذلك، ولأن لكل لفظة منها خاصية تتميز بها عن صاحبتها في بعض معانيها، وإن كانا قد يشتركان في بعضها "، وهذا يقودنا إلى نفي الترادف، ووسيتم الحديث عنه إن شاء الله.
والحديث عن اختيار الكلمة القرآنية ملاحظ بوضوح في كلام العلماء ـ متقدمين ومتأخرين ـ فالجاحظ يرى أن القرآن بليغ من حيث ألفاظه المختارة المنتقاة، ومن حيث نظمه ورصفه .. إلخ، والقاضي عبد الجبار يجعل اختيار الكلمة نفسها دعامة من دعامات فصاحة القرآن الكريم.
ويقول القاضي ابن عطية: "إن كتاب الله لو نزعت منه لفظة، ثم أُدير لسان العرب على لفظة غيرها لم يوجد، ونحن يتبيّن لنا البراعة في أكثره، ويخفى علينا وجهه في مواضع لقصورنا عن مرتبة العرب ـ يومئذِ ـ في سلامة الذوق، وجودة القريحة" .
ونجد الرافعي عندما يتحدث عن الجمل القرآنية يقول: إن كلماتها قد قُدرت لها تقديراً محكماً، بحيث لا تجد كلمة زائدة أو معنى فيه شيء من النقص، وكذلك نجد د. محمد دراز وسيد قطب يوليان الكلمة القرآنية كثيراً من العناية، ويبيّنان سر اختيارها.
وفي هذا الموضوع كتب الدكتور فضل عباس بحثاً بعنوان: (المفردات القرآنية مظهر من مظاهر الإعجاز)، قال فيه: "إن المفردة القرآنية تعتبر مظهراً من مظاهر الإعجاز البياني للقرآن الكريم، ذلك أن المفردات القرآنية مختارة منتقاة، ثم قال: إن كل كلمة في القرآن الكريم اسماً أو فعلاً أو حرفاً إنما جاءت لتؤدي رسالة خاصة بها لا يؤديها غيرها من الكلمات" .
إذن فالكلمة القرآنية مظهر من مظاهر الإعجاز البياني، والفاصلة القرآنية هي كلمة في آخر الآية، هذه الكلمة كغيرها من كلمات القرآن تُختار اختياراً دقيقاً لتؤدي الرسالة التي جاءت من أجلها، ويظهر فيها إعجاز القرآن، وهذا هو حظ الفاصلة من الإعجاز.
ثالثاُ: حظ الفاصلة من الإعجاز
ذكر الدكتور الحسناوي هذا العنوان في كتابه (الفاصلة في القرآن)، وبيّن أن إجماع الجمهور على اعتبار السورة أدنى حجم لمقدار المعجز، ونفي الإعجاز في الجزئيات وحدها، بل هي جزء يًسهم في الإعجاز .
وهذا القول للدكتور الحسناوي هو رفض لأن تكون الكلمة المفردة بحدّ ذاتها معجزة، فلا يظهر إعجاز الكلمة أو الفاصلة إلا عند اتصالها بباقي الكلمات في الآية، وهذا موافق لنظرية النظم التي قال بها الشيخ عبد القاهر قديماً.
فإعجاز القرآن عند المحققين من أهل العلم يظهر بنظم القرآن الكريم، لا بكلماته المفردة، وعليه فالفاصلة القرآنية مظهر من مظاهر الإعجاز بموقعها من الآية واتصالها بها، وباختيارها دون غيرها، فليست معجزة بمفردها.
ومن هنا كان لا بد للفاصلة من وظيفة تؤديها يظهر بها إعجاز القرآن، فما هي وظيفة الفاصلة؟
رابعاً: وظيفة الفواصل
لم تأتِ الفواصل عبثاً أو لتتميم السجع، بل جاءت لتؤدي معنى تتم به الفائدة، ويطلبه السياق، وقد عرض الدكتور فضل عباس لهذه القضية في ردّه على دائرة المعارف البريطانية، حيث قال: "وقد استدلت دائرة المعارف البريطانية على أن القرآن مجرد إنشاء بطريقة عشوائية، استدلت على هذه الدعوى بالفواصل القرآنية، حيث جاء فيها: (وكان القرآن يعطي للقارئ أنه مجرد إنشاء جاء بطريقة عشوائية، ويؤكد صحة ذلك طريقة ختم هذه الآيات، بآيات مثل: (إن الله عليم)، (إن الله حكيم)، (إن الله يعلم ما لا تعلمون)، وأن هذه الأخيرة لا علاقة لها مع ما قبلها، وأنها وضعت فقط لتتميم السجع والقافية).
ثم قال: الفاصلة القرآنية لم تأتِ لغرض لفظي فحسب، وهو اتفاق رؤوس الآي بعضها مع بعض، وهو ما يعبرون عنه بمراعاة الفاصلة، إنما جاءت الفاصلة في كتاب الله لغرض معنوي يحتمه السياق، وتقتضيه الحكمة، ولا ضير أن يجتمع مع هذا الغرض المعنوي ما يتصل بجمال اللفظ وبديع الإيقاع" .
وأثناء ردّه على هذه الشبهة في كتاب آخر، قال: "الدقة في الفاصلة القرآنية والترتيب المحكم، والنظام البديع لا يقلّ عما في هذا الكون، فخالق الكون ومنزل القرآن هو الله، الذي أتقن كل شيء، وكان حريّاً بأولئك أن لا يصدروا أحكاماً على ما لا يعلمون، وهذا ما تقتضيه بدهيات البحث العلمي" .
إذن الفاصلة القرآنية لها وظيفتان: الوظيفة الرئيسة معنوية يحتمها السياق، ووظيفة أخرى لفظية تتصل بجمال الإيقاع، ولا يجوز أن نقول إن الفاصلة جاءت لتتفق مع رؤوس الآي الأخرى فقط دون الانتباه للغرض المعنوي، وهذا ما قررته أيضاً د. عائشة عبد الرحمن في كتابها (الإعجاز البياني للقرآن) .
والغرض المعنوي للقرآن هو المعنى الذي تؤديه الفاصلة، قال علي الجندي: "من مزايا معاني الفواصل في القرآن الكريم شدة ارتباطها بما قبلها من الكلام، وقوة تعطّف الكلام عليها، كأنهما معاً جملة مفرغة يسري فيها روح واحد، ونغم واحد ينحدر إلى الأسماع انحداراً، وكأن ما سبقها لم يكن إلا تمهيداً لها لتتمم معناه، حتى لتبلغ من وقوعها موقعها، واطمئنانها في موضعها أنها لو حذفت لاختل معنى الكلام، واضطرب فهمه، واستغلق بيانه، ولو سُكت عنها لاستطاع السامع أن يختمه بها انسياقاً مع الطبع الملهم والذوق السليم ... ـ ثم يتابع فيقول ـ: بل قد يبلغ من تعيّنها في مكانها وفرض نفسها عليه، أنها لو بدّل بها غيرها لأدرك السامع الحصيف الثاقب الفطنة أن كلاماً غريباً ينقصه التناسب حلّ محلها، فأنكر ذلك سمعه وضاق به صدره .. من ذلك أن أعرابياً سمع رجلاً يقرأ: (وحملناه على ذات ألواح ودسر، تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر)، قرأها بفتح الكاف، فقال الأعرابي: لا يكون!! فقرأها عليه بضم الكاف وكسر الفاء، فقال: يكون" .
واتصال الفاصلة مع السياق قد يكون ظاهراً لا يحتاج إلى مزيد نظر، وقد يحتاج إلى تأمل وتفكّر ودراية بمعاني الكلمات الدقيقة، وهذه الدراية هي التي تبيّن تمكّن الفاصلة من موقعها وتنفي الترادف عن بعض الكلمات، فلا يُقال حينئذٍ: إن الآية لو خُتمت بـ(الرؤوف) بدلاً من (الرحيم) لا بأس، فالكلمتان تدلان على الرحمة.
وقد قُرر سابقاً أن الكلمة أو الفاصلة مختارة منتقاة دون غيرها من الكلمات التي قد يُظن بها الترادف، وهذا يعني أنه لا ترادف في القرآن، كما أنه لا ترادف في العربية بشكل عام، وهذا هو الموضوع التالي.
خامساً: نفي الترادف
لكل لفظة في اللغة العربية معنى خاص به يميّزه عن غيره من الألفاظ، فهناك فروق بين الكلمات، هذه الفروق هي التي جعلت لكل كلمة موقعها الذي لا يناسبه غيرها، وهذا هو نفي الترادف، وقد تحدث عن هذا العلماء قديماً وحديثاً، يقول د. محمد المبارك في كتابه (فقه اللغة وخصائص العربية) عن موضوع الترادف تحت عنوان: (آفة الترادف والعموم والغموض)، أنقل كلامه باختصار، قال: لقد أصاب العربية في عصور الانحطاط المنصرمة مرض العموم والغموض والإبهام، كما أصابت هذه الآفات التفكير نفسه، فضاعت الفروق الدقيقة بين الألفاظ المتقاربة فغدت مترادفة..
ثم قال: وقد كان كتّاب العربية في العصور الزاهرة يحرصون على دقة التعبير ووضع الألفاظ في مواضعها، ... ونحن اليوم بحاجة للتحرر من آفات عصور الانحطاط في ميدان اللغة، والعودة إلى خصائص العربية في استعمال اللفظ الخاص والعام، وكل في موضعه اللائق به، ومكانه المناسب له .
وردّ الإمام محمد عبده بشدة القول بوجود كلمات مترادفة، حيث قال: "وأنا لا أجيز لمسلم أن يقول في نفسه أو بلسانه إن في القرآن كلمة تغاير أخرى، ثم تأتي لمجرد تأكيد غيرها بدون أن يكون لها في نفسها معنى تستقل به، نعم قد يكون معنى الكلمة هو عين معنى الأخرى تقريراً أو إيضاحاً، ولكن الذي لا أجيزه هو أن يكون معنى الكلمة هو عين معنى الأخرى بدون زيادة، ثم يؤتى بها لمجرد التأكيد لا غير، بحيث تكون من قبيل ما يُسمى بالمترادف في عرف أهل اللغة، فإن ذلك لا يقع إلا في كلام من يرمي في لفظه إلى مجرد التنمق والتزويق، وفي العربية طرق للتأكيد ليس هذا منها" .
وعلى هذا، فلا يقال مثلاً في قوله تعالى: (إن الله كان عفواً غفوراً) إن (عفو) و(غفور) بمعنى، وجاء اسم (الغفور) لتوكيد (العفو) دون زيادة معنى، فلا بد من زيادة فائدة.
سادساً: أسماء الله الحسنى في الفاصلة القرآنية
كثير من الآيات الكريمة خُتمت بأسماء الله الحسنى، حيث بلغت أكثر من خمسمائة آية، وهذه الأسماء الكريمة تلقي بظلالها على الآية التي ذكرت في ختامها، فتتصل اتصالاً وثيقاً معها، بحيث إنه لا يمكن استبدال الاسم باسم آخر، وإنْ كان يشترك معه في أصل المعنى، فمثلا (الغفور) لا يمكن استبداله بـ(الغفار) مع أن كليهما يدل على ستر الذنوب. قال الغزالي في (المقصد الأسنى): "هذه الأسامي، وإنْ كانت متقاربة المعاني .. فليست مترادفة .. وعلى الجملة يبعد الترادف المحض في الأسماء الداخلة في التسعة التسعين؛ لأن الأسامي لا تُراد لحروفها ومخارج أصواتها، بل لمفهوماتها ومعانيها، فهذا أصل لا بد من اعتقاده" .
ولا بد من البحث عن وجه الربط بين الاسم الكريم وبين ما سبقه، فالآية وحدة واحدة تترابط أجزاؤها وتنتظم انتظام الدرر في العقد.
(يتبع)....
[line]
1. انظر: مادة (فَصَل) في (لسان العرب)، و(أساس البلاغة)، و(القاموس المحيط).
2. المعجم الوسيط.
3. رسالة الرماني (ثلاث رسائل في إعجاز القرآن)، ص97.
4. إعجاز القرآن للباقلاني، ص244 .
5. إتقان البرهان في علوم القرآن، فضل عباس، (440:1).
6. رسالة الخطابي، (ثلاث رسائل ..)، ص29.
7. المحرر الوجيز، (39:1).
8. نُشر هذا البحث في مجلة (دراسات)، الجامعة الأردنية، مجلد11، عدد4، 1984.
9. انظر: (الفاصلة في القرآن)، محمد الحسناوي، ص378.
10. إعجاز القرآن الكريم، فضل عباس، ص222.
11. قضايا قرآنية في الموسوعة البريطانية، نقد مطاعن وردّ شبهات، فضل عباس، ص82.
12. الإعجاز البياني للقرآن، ومسائل نافع ابن الأزرق، عائشة عبد الرحمن، ص278.
13. صور البديع، فن الأسجاع، علي الجندي، (192:2).
14. فقه اللغة وخصائص العربية، محمد المبارك، ص(318-321) باختصار.
15. تفسير المنار، محمد رشيد رضا، (46:1).
16. المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى، أبو حامد الغزالي، ص23.