أوهام في الاستدراك على الإمام ابن كثير في تفسيره
أوهام في الاستدراك على الإمام ابن كثير في تفسيره
بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
أولاً/ ذكر ابن كثير رحمه الله حديث معاذ رضي الله عنه عندما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فقال: "بم تحكم؟" قال: بكتاب الله قال:"فإن لم تجد؟" قال: بسنة رسول الله قال:"فإن لم تجد؟" قال: أجتهد رأيي. فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدره وقال:
"الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله لما يُرضي رسولَ الله" ثم قال ابن كثير رحمه الله: وهذا الحديث في المسند للإمام أحمد والسنن بإسناد جيد كما هو مقرر في موضعه اهـ.
عقب القاضي كنعان فقال: قول ابن كثير رحمه الله:"وفي السنن بإسناد جيد" فيه تساهل بيانه: أن هذا الحديث لم يخرجه من أصحاب السنن سوى أبي داود والترمذي بالإضافة إلى الإمام أحمد في مسنده اهـ.
وكما ذكر الدكتور أبي مجاهد العبيدي حفظه الله فقد ضعف الألباني رحمه الله الحديث سنداً ومتناً
ما ذُكِر هنا ليس استدراكا على الإمام ابن كثير - رحمه الله - و إنما هو وهمٌ من أوهام المستدرِك كنعان ؛ فذلك الحديث أخرجه البيهقي ، و الدارمي من أصحاب السُنن ، غير أبي داود و الترمذي ؛ فلم يصحّ الاستدراك هنا
و قد احتج بذلك الحديث عددٌ من الأئمة المتقدمين ؛ منهم :
1 - الإمام الشافعي في كتابه " الأم " ؛ فذكر الحديث (( عن عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر) قال يزيد فحدثت بهذا الحديث أبا بكر بن حزم فقال : هكذا حدثنى أبو سلمة بن عبد الرحمن عن أبى هريرة .
(قال الشافعي) رحمه الله تعالى : ومعنى الاجتهاد من الحاكم إنما يكون بعد أن لا يكون فيما يريد القضاء فيه كتاب ولا سنة ولا أمر مجتمع عليه ، فأما وشئ من ذلك موجود فلا .
فإن قيل : فمن أين قلت هذا ، وحديث النبي صلى الله عليه وسلم ظاهره الاجتهاد ؟ قيل له : أقرب ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل : (كيف تقضى ؟) قال : بكتاب الله عزوجل، قال :(فإن لم يكن ؟) قال : فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال :(فإن لم يكن) قال : أجتهد رأيى قال : (الحمد لله الذى وفق رسول رسول الله لما يحب رسول الله) ، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الاجتهاد بعد أن لا يكون كتاب الله ولا سنة رسوله )) . أهـ
2 - و احتج به أيضا الإمام ابن عبد البر في كتابه " جامع بيان العلم وفضله " ، ( باب اجتهاد الرأي على الأصول عند عدم النصوص في حين نزول النازلة ) ؛ قال : ( قرأت على عبد الوارث بن سفيان حدثكم قاسم بن أصبغ ، قال : نعم حدثنا قال حدثنا بكر بن حماد ، قال حدثنا مسدد ، قال حدثنا يحيى القطان عن شعبة ، قال حدثني أبو عون عن الحارث بن عمرو عن أناس من أصحاب معاذ عن معاذ أنه قال : لما بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قال : كيف تقضي ، وحدثنا عبد الوارث قال حدثنا قاسم قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا علي بن الجعد قال حدثنا شعبة عن أبي عون وهو محمد بن عبيد الله الثقفي قال سمعت الحارث بن عمرو بن أخي المغيرة بن شعبة يحدث عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن قال : كيف تقضي - ثم اتفقا - إذا عرض لك قضاء ، قال أقضي بكتاب الله ، قال : فإن لم يكن في كتاب الله ، قال فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : فإن لم يكن في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال أجتهد رأيي ولا آلو ، قال فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره وقال : الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضى رسول الله ، ولفظ حديث القطان على لفظ معاذ فضرب صدري وقال لي نحو هذا .... ) . أهـ
3 - و كذا احتج به الإمام الخطيب البغدادي في كتابه " الفقيه و المتفقه " ، و قال : ( فإن اعترض المخالف بأن قال : لا يصح هذا الخبر ، لأنه يروى عن أناس من أهل حمص لم يسموا فهم مجاهيل ، فالجواب : أن قول الحارث بن عمرو ، عن أناس من أهل حمص من أصحاب معاذ ، يدل على شهرة الحديث ، وكثرة رواته ، وقد عرف فضل معاذ وزهده ، والظاهر من حال أصحابه الدين والثقة والزهد والصلاح ، وقد قيل : إن عبادة بن نسي رواه عن عبد الرحمن بن غنم ، عن معاذ ، وهذا إسناد متصل ، ورجاله معروفون بالثقة ، على أن أهل العلم قد تقبلوه واحتجوا به ، فوقفنا بذلك على صحته عندهم كما وقفنا على صحة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا وصية لوارث " ، وقوله في البحر : " هو الطهور ماؤه الحل ميتته " ، وقوله : " إذا اختلف المتبايعان في الثمن والسلعة قائمة تحالفا وترادا البيع " ، وقوله : " الدية على العاقلة " ، وإن كانت هذه الأحاديث لا تثبت من جهة الإسناد ، لكن لما تلقتها الكافة عن الكافة غنوا بصحتها عندهم عن طلب الإسناد لها ، فكذلك حديث معاذ ، لما احتجوا به جميعا غنوا عن طلب الإسناد له ) . أهـ
4 - و احتج به أيضا الإمام ابن القيم في " إعلام الموقعين عن رب العالمين " ، فصل ( حديث معاذ في القياس ) ؛ قال : ( وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم معاذا على اجتهاد رأيه فيما لم يجد فيه نصا عن الله ورسوله - ثم ذكر الحديث ، و قال : - فهذا حديث وإن كان عن غير مسمّين فهم أصحاب معاذ فلا يضره ذلك ؛لأنه يدل على شهرة الحديث ، وأن الذي حدث به الحارث بن عمرو عن جماعةٍ من أصحاب معاذ ، لا واحدٍ منهم ، وهذا أبلغ في الشهرة من أن يكون عن واحد منهم لو سُمّي ، كيف وشهرة أصحاب معاذ بالعلم والدين والفضل والصدق بالمحل الذي لا يخفى ، ولا يُعرف في أصحابه متهم ولا كذاب ولا مجروح ، بل أصحابه من أفاضل المسلمين وخيارهم ، لا يشك أهل العلم بالنقل في ذلك ، كيف وشعبة حامل لواء هذا الحديث وقد قال بعض أئمة الحديث : "إذا رأيت شعبة في إسناد حديث فاشدد يديك به" قال أبو بكر الخطيب: "وقد قيل إن عبادة بن نسى" رواه عن عبد الرحمن بن غنم عن معاذ وهذا إسناد متصل ورجاله معروفون بالثقة على أن أهل العلم قد نقلوه واحتجوا به فوقفنا بذلك على صحته عندهم كما وقفنا على صحة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا وصية لوارث" وقوله في البحر: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" وقوله: "إذا اختلف المتبايعان في الثمن والسلعة قائمة تحالفا وترادا البيع" وقوله: "الدية على العاقلة" وإن كانت هذه الأحاديث لا تثبت من جهة الإسناد ولكن ما تلقتها الكافة عن الكافة ؛ غنوا بصحتها عندهم عن طلب الإسناد لها ؛ فكذلك حديث معاذ لَمّا احتجوا به جميعا غنوا عن طلب الإسناد له انتهى كلامه ) . أهـ [ يعني هذا القدْرالذي نقله عن أبي بكر الخطيب ]
* و بذا سقط قول ابن حزم في كتابه " الإحكام " : (( هذا حديث ساقط، ، لم يروه أحد من غير هذا الطريق ، وأول سقوطه أنه عن قوم مجهولين لم يسمّوا، فلا حجة فيمن لا يعرف من هو، وفيه الحارث بن عمرو وهو مجهول لا يعرف من هو، ولم يأت هذا الحديث قط من غير طريقه.
أخبرني أحمد بن عمر العذري، ثنا أبو ذر الهروي، ثنا زهر بن أحمد الفقيه زنجويه بن النيسابوري، ثنا محمد بن إسماعيل البخاري، هو جامع الصحيح، قال فذكر سند هذا الحديث، وقال رفعه في اجتهاد الرأي، قال البخاري: ولا يعرف الحارث إلا بهذا، ولا يصح . هذا كلام البخاري رحمه الله )) . انتهى
-----------------
فقول ابن حزم بسقوط ذلك الحديث لأنه ( عن قوم مجهولين ، لم يُسَمّوا ) مدفوعٌ بما ذكره آنفا الإمامان ابن القيم والخطيب البغدادي ، الذي ترجم له الحافظ ابن عساكر بـ (الفقيه الحافظ أحد الأئمة المشهورين والمصنفين المكثرين والحفاظ المبرزين ومن ختم به ديوان المحدِّثين ) .
و أما زعم ابن حزم بجهالة الحارث بن عمرو ، و قوله - في ذلك الحديث - : ( وفيه الحارث بن عمرو وهو مجهول لا يعرف من هو ) فَوهمٌ ؛ فقد ترجم له ابن أبي حاتم في " الجرح و التعديل " ، و قال : ( الحارث بن عمرو ابن اخى المغيرة بن شعبة روى عن اصحاب معاذ روى عنه أبو عون الثقفى سمعت ابى يقول ذلك ) .
و كذا ترجم له الإمام البخاري في " التاريخ الكبير " ، و " التاريخ الصغير " ، و المزي في " تهذيب الكمال " ، و الذهبي في " ميزان الاعتدال " ، و ابن حجر في " تهذيب التهذيب " ؛ فالقول بأنه لا يُعرَف مَن هو قولٌ باطل ، و عدم معرفة ابن حزم بالحارث لا تضرّه ؛ فقد عرفه غيره من الأئمة الأعلام و ترجموا له ؛ فلا يكون مجهولاً ، كما ادعى ابن حزم ، لا جهالة عيْنٍ و لا جهالة حال ؛ فقد وثّقه ابن حبان ، و ذكره في الثقات ، في الرقم ( 7219) ، و ترجم له : - ( الحارث بن عمرو بن اخى المغيرة بن شعبة يروى عن أصحاب معاذ روى عنه أبو عون الثقفى ) .
و أما قول الإمام البخاري : ( و لا يصِحّ ) - في حديث الحارث في اجتهاد الرأي - فالمراد به أنه لا يصِحّ رفعه ، و هذه عبارته في " التاريخ الصغير " : ( الحارث بن عمرو بن أخي المغيرة بن شعبة الثقفي عن أصحاب معاذ ، رفعه في اجتهاد الرأي ، قال شعبة عن أبي عون ، ولا يعرف الحارث إلا بهذا ، ولا يصح ) . أي رفْعُه ، و إنما هو مرسل ؛ كما صرّح في " التاريخ الكبير " ؛ قال : ( الحارث بن عمرو ابن أخى المغيرة بن شعبة الثقفى، عن أصحاب معاذ عن معاذ ، روى عنه أبو عون ، ولا يصح ، ولا يعرف الا بهذا، مرسل ) . و قوله ( و لا يعرف إلا بهذا ) يعني : لا يعرف إلا بهذا الحديث ؛ قال ابن عدي : هو معروف بهذا الحديث ؛ ذكره ابن حجر في " تهذيب التهذيب " .
-----------------------
5 - و قال ابن قدامة في " روضة الناظر وجنة المناظر " - بعد أن ذكر رواية الحارث بن عمرو - : ( و قد رواه عبادة بن نُسَيّ عن عبد الرحمن بن غَنْم عن معاذ.
ثم الحديث تلقته الأمة بالقبول، فلا يضره كونه مرسلا ) .
6 - و قال الإمام الذهبي : ( و إسناده صالح ) ؛ قاله في كتابه " سير أعلان النبلاء " ، في تعقيبه على ما ذكره الجويني في كتاب " البرهان " في حديث معاذ في القياس ، و قوله فيه : هو مدون في الصحاح، متفق على صحته.
قلت [ الذهبي ] : بل مداره على الحارث بن عمرو ، وفيه جهالة، عن رجال من أهل حمص، عن معاذ.
فإسناده صالح . أهـ
* و لعل البعض قد اغتر بكلمة ( و فيه جهالة ) ، المذكورة هنا و نحوها ، و ليست على ظاهرها في اصطلاح بعض المحدِّثين ، و إنما يعنون بها ( مَن لم يُعرَف حديثه إلا من جهة راوٍ واحد ) ، كما حكاه الإمام ابن الصلاح في " مقدمته " ؛ قال : ( ذكرأبوبكر الخطيب البغدادي في أجوبة مسأل سئل عنها : أن المجهول عند أصحاب الحديث هو كل من لم تعرفة العلماء ، ومن لم يعرف حديثه إلا من جهة راوٍ واحد . مثل: عمرو ذي مر، وجبار الطائى. وسعيد بن ذي حدان. لم يروى عنهم غير أبي أسحق السبيعي.: مثل الهزهاز بن ميزن: لا راوى عنة غير الشعبى. ومثل جرى بن كليب، لم يرو عنه إلا قتادة.
قلت: قد روى عن الهزهاز الثوري أيضا.
قال الخطيب: وأقل ما يرتفع به الجهالة أن يروى عن الرجل ثنان من المشهورين بالعلم، إلا أنه لا يثبت له حكم العدالة بررأيتهما عنه. وهذا مما قدمنا بيان، الله أعلم ) . أهـ
و عليه فقول الذهبي في الحارث بن عمرو - أحد رواة حديث اجتهاد الرأي - ( و فيه جهالة ) إنما يُراد به أنه لم يَرْو عنه إلا راوٍ واحد ، و يؤيده قول الذهبي في " لسان الاعتدال " - في حديث اجتهاد الرأي هذا - : ( تفرد به أبو عون محمد بن عبيدالله الثقفى، عن الحارث بن عمرو الثقفى ابن أخى المغيرة. وما روى عن الحارث غير أبى عون، فهو مجهول ) .
يعني : لم يرو عنه إلا راوٍ واحد
*********
7 - و احتج بذلك الحديث أيضا الإمام أبو بكر الجصاص في كتابه " أحكام القرآن " ؛ قال : ( استعمال الرأي والاجتهاد وردّ الحوادث إلى نظائرها من المنصوص قد كان جائزا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم في حاليْن ، ولم يكن يجوز في حال ؛ فأما الحالان اللتان كانتا يجوز فيهما الاجتهاد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فإحداهما في حال غيبتهم عن حضرته ، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم معاذا حين بعثه إلى اليمن فقال له { : كيف تقضي إن عرض لك قضاء ؟ قال : أقضي بكتاب الله قال : فإن لم يكن في كتاب الله ؟ قال : أقضي بسنة نبي الله ، قال : فإن لم يكن في كتاب الله ولا في سنة رسول الله ؟ قال : أجتهد رأيي لا آلو ، قال : فضرب بيده على صدره وقال : الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله } ؛ فهذه إحدى الحالين اللتين كان يجوز الاجتهاد فيهما في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ) . أهـ
8 - و كذا احتج به الإمام أبو بكر بن العربي في كتابه " أحكام القرآن " ؛ قال في ( المسألة الثالثة : قوله تعالى : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } : قال علماؤنا : ردوه إلى كتاب الله ، فإذا لم تجدوه فإلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن لم تجدوه فكما قال عليّ : ما عندنا إلا ما في كتاب الله تعالى أو ما في هذه الصحيفة ، أو فهم أوتيه رجل مسلم ، وكما { قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ : بم تحكم ؟ قال : بكتاب الله .
قال : فإن لم تجد .
قال : بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال : فإن لم تجد ؟ قال : أجتهد رأيي ، ولا آلو .
قال : الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله } .
فإن قيل : هذا لا يصح .
قلنا : قد بينا في كتاب " شرح الحديث الصحيح " وكتاب " نواهي الدواهي " صحته ، وأخذ الخلفاء كلهم بذلك ... ) . أهـ
* * *
و عليه ، فالقول بالاستدراك على الإمام ابن كثير فيما ذكره غير صحيح ، و كذا القول بتضعيف حديث معاذ رضي الله عنه - في اجتهاد الرأي عند غياب نصٍ من الكتاب و السُنة - .
و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
كتبه
د . أبو بكر عبد الستار خليل
عفا الله عنه و عافاه في الداريْن
اللهم آمين يا رب العالمين