أسرار الأستثناء فی كتاب الله

الجوهرة السابعة والتسعون

{ إِلاَّ مَوْتَتَنَا ٱلأُولَىٰ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ }

قال السمين فی دره المصون

قوله: { إِلاَّ مَوْتَتَنَا }: منصوبٌ على المصدر. والعاملُ فيه الوصفُ قبلَه، ويكون استثناءً مفرَّغاً. وقيل: هو استثناءٌ منقطعٌ، أي: لكنْ الموتةُ الأولى كانت لنا في الدنيا. وهذا قريبٌ في المعنى مِنْ قولِه تعالى:
{ لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا ٱلْمَوْتَ إِلاَّ ٱلْمَوْتَةَ ٱلأُولَىٰ }
[الدخان: 56] وفيها بَحْثٌ حَسَنٌ وهناك إنْ شاء اللَّهُ يأتي تحقيقُه.

ملحوظة

{ لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا ٱلْمَوْتَ إِلاَّ ٱلْمَوْتَةَ ٱلأُولَىٰ وَوَقَاهُمْ عَذَابَ ٱلْجَحِيمِ }

قال السمين فی دره:

قوله: { إِلاَّ ٱلْمَوْتَةَ ٱلأُولَىٰ } فيه أوجهٌ، أحدُها: أنَّه منقطعٌ أي: لكنْ الموتةُ الأولى قد ذاقُوها.

الثاني: أنه متصلٌ وتَأَوَّلوه: بأنَّ المؤمنَ عند موتِه في الدنيا بمنزلته في الجنة لمعاينة ما يُعْطاه منها، أو لِما يَتَيَقَّنُه مِنْ نعيمِها

. الثالث: أنَّ " إلاَّ " بمعنى سِوى نقله الطبريُّ وضَعَّفَه. قال ابن عطية: " وليس تَضْعيفُه بصحيحٍ، بل هو كونُها بمعنى سِوى مستقيمٌ مُتَّسِقٌ ". الرابع: أن " إلاَّ " بمعنى بَعْد. واختاره الطبريُّ، وأباه الجمهورُ؛ لأنَّ " إلاَّ " بمعنى بعد لم يَثْبُتْ

. وقال الزمخشري: " فإنْ قلت: كيف اسْتُثْنِيَتِ الموتةُ الأُولى المَذُوْقَةُ قبلَ دخول الجنةِ مِنَ الموتِ المنفيِّ ذَوْقُه؟ قلت: أُريدَ أَنْ يُقالَ: لا يَذُوْقون فيها الموتَ البتةَ، فوضع قولَه { إِلاَّ ٱلْمَوْتَةَ ٱلأُولَىٰ } مَوْضِعَ ذلك؛ لأنَّ الموتَةَ الماضيةَ مُحالٌ ذَوْقُها في المستقبل فهو من بابِ التعليقِ بالمُحال: كأنَّه قيل: إنْ كانت الموتةُ الاُولى يَسْتقيم ذَوْقُها في المستقبلِ؛ فإنَّهم يَذْوْقونها في الجنة ". قلت: وهذا عند علماءِ البيانِ يُسَمَّى نَفْيَ الشيء بدليلِه. ومثلُه قول النابغةِ:
4022 ـ لا عَيْبَ فيهم غيرَ أنَّ سيوفَهُمْ بهنَّ فُلولٌ مِنْ قِراعِ الكتائبِ
يعني: إنْ كان أحدٌ يَعُدُّ فُلولَ السيوفِ مِنْ قِراع الكتائب عَيْباً فهذا عيبُهم، لكنَّ عَدَّهُ من العيوبِ مُحالٌ، فانتفى عنهم العيبُ بدليل تعلُّقِ الأمرِ على مُحال. وقال ابن عطية بعد ما قَدَّمْتُ حكايَته عن الطبريِّ: فَبيَّنَ أنه نَفَى عنهم ذَوْقَ الموتِ، وأنه لا ينالُهم من ذلك غيرُ ما تقدَّم في الدنيا ". يعني أنه كلامٌ محمولٌ على معناه..

{ وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ ٱلأَوَّلِينَ } * { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُّنذِرِينَ } * { فَٱنظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ } * { إِلاَّ عِبَادَ ٱللَّهِ الْمُخْلَصِينَ }

قال الرازی

فيه قولان أحدهما: أنه استثناء من قوله: { وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ ٱلأَوَّلِينَ } والثاني: أنه استثناء من قوله:
{ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلْمُنْذَرِينَ }
[يونس: 73] فإنها كانت أقبح العواقب وأفظعها إلا عاقبة عباد الله المخلصين، فإنها كانت مقرونة بالخير والراحة.
 
الجوهرة الثامنة والتسعون

أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ ٱلْخَالِقِينَ } * { ٱللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَآئِكُمُ ٱلأَوَّلِينَ } * { فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ } * { إِلاَّ عِبَادَ ٱللَّهِ ٱلْمُخْلَصِينَ }

قال السمين فی دره

قوله: { إِلاَّ عِبَادَ ٱللَّهِ }: استثناءٌ متصلٌ مِنْ فاعلِ " فكذَّبوه " وفيه دلالةٌ على أنَّ في قومِه مَنْ لم يُكَذِّبْه، فلذلك اسْتُثْنُوا. ولا يجوزُ أَنْ يكونوا مُسْتَثْنَيْن مِنْ ضمير " لَمُحْضَرون " لأنه يَلْزَمُ أَنْ يكونوا مَنْدَرجين فيمَنْ كَذَّبَ، لكنهم لم يُحْضَروا لكونِهم عبادَ اللَّهِ المُخْلِصين. وهو بَيِّنُ الفسادِ. لا يُقال: هو مستثنى منه استثناءً منقطعاً؛ لأنه يَصيرُ المعنى: لكنَّ عبادَ اللَّهِ المخلصين من غير هؤلاء لم يُحْضَروا. ولا حاجةَ إلى هذا بوجهٍ، إذ به يَفْسُدُ نَظْمُ الكلامِ.

وقال الالوسي

استثناء متصل من الواو في (كذبوه) فيدل على أن من قومه مخلصين لم يكذبوه، ومنع كونه استثناء متصلاً من ضيمر { مُحْضَرُونَ } لأنه للمكذبين فإذا استثني منه اقتضى أنهم كذبوه ولم يحضروا وفساده ظاهر، وقيل: لأنه إذا لم يستثن من ضمير كذبوا كانوا كلهم مكذبين فليس فيهم مخلص فضلاً عن مخلصين ومآله ما ذكر، لكن اعترضه ابن كمال بأنه لا فساد فيه لأن استثناءهم من القوم المحضرين لعدم تكذيبهم على ما دل عليه التوصيف بالمخلصين لا من المكذبين فمآل المعنى واحد. ورد بأن ضمير محضرين للقوم كضمير كذبوا، وقال الخفاجي: لا يخفى أن اختصاص الإحضار بالعذاب كما صرح به غير واحد يعين كون ضمير محضرين للمكذبين لا لمطلق القوم فإن لم يسلمه فهو أمر آخر، وفي " البحر " ولا يناسب أن يكون استثناء منقطعاً إذ يصير المعنى لكن عباد الله المخلصين من غير قومه لا يحضرون في العذاب وفيه بحث.

وقال ابو حيان

إلا عباد الله المخلصين }: استثناء يدل على أن من قومه مخلصين لم يكذبوه، فهو استثناء متصل من ضمير { فكذبوه } ، ولا يجوز أن يكون استثناء من { فإنهم لمحضرون } ، لأنهم كانوا يكونون مندرجين فيمن كذب، ويكونون { عباد الله المخلصين } ، وذلك لا يمكن ولا يناسب أن يكون استثناء منقطعاً، إذ يصير المعنى: لكن عباد الله المخلصين من غير قومه لا يحضرون للعذاب، ولا مسيس لهؤلاء الممسوسين بالآية التي فيها قصة إلياس هذه.
 
عودة
أعلى