أسرار الأستثناء فی كتاب الله

الجوهرة السابعة والاربعون

{ لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ ٱلَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }

قال الامام ابن الجوزى فى تفسير زاد المسير فى معنى هذا الاستثناء


في المعنى. قولان:

أحدهما: إلا أن يموتوا، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة في آخرين.

والثاني: إلا أن يتوبوا توبة تتقطع بها قلوبهم ندماً وأسفاً على تفريطهم، ذكره الزجاج.

وقال ابو حيان فی بحره

{لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم }:

يحتمل أن يكون البنيان هنا مصدراً أي: لا يزال ذلك الفعل وهو البنيان، ويحتمل أن يراد به المبني، فيكون على حذف مضاف أي: لا يزال بناء المبنى. قال ابن عباس: لا يزالون شاكين. وقال حبيب بن أبي ثابت: غيظاً في قلوبهم، أي سبب غيظ. وقيل: كفراً في قلوبهم. وقال عطاء: نفاقاً في قلوبهم. وقال ابن جبير: أسفاً وندامة. وقال ابن السائب ومقاتل: حسرة وندامة، لأنهم ندموا على بنيانه. وقال قتادة: في الكلام حذف تقديره: لا يزال هدم بنيانهم الذي بنوا ريبة أي: حزازة وغيظاً في قلوبهم. وقال ابن عطية: الذي بنوا تأكيد وتصريح بأمر المسجد ورفع الإشكال، والريبة الشك، وقد يسمى ريبة فساد المعتقد واضطرابه، والإعراض في الشيء والتخبيط فيه. والحزازة من أجله، وإن لم يكن شكا فقد يرتاب من لا يشك، ولكنها في معتاد اللغة تجري مع الشك. ومعنى الريبة في هذه الآية تعم الحيق، واعتقاد صواب فعلهم، ونحو هذا مما يؤدي كله إلى الريبة في الإسلام. فمقصد الكلام: لا يزال هذا البنيان الذي هدم لهم يبقي في قلوبهم حزازة وأثر سوء. وبالشك فسر ابن عباس الريبة هنا، وفسرها السدي بالكفر.
 
الجوهرة الثامنة والاربعون

وَمَا كَانَ ٱسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ }

قال الامام الالوسى فى تفسيره

والاستثناء مفرغ من أعم العلل أي لم يكن استغفاره عليه السلام لأبيه ناشئاً عن شيء من الأشياء إلا عن موعدة { وَعَدَهَا } أي إبراهيم عليه السلام { إِيَّـٰهُ } أي أباه بقوله:
{ لاَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ }
[الممتحنة: 4] وقوله:
{ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِي }
[مريم: 47] فالوعد كان من إبراهيم عليه السلام. ويدل على ذلك ما روي عن الحسن وحماد الرواية وابن السميقع وابن نهيك ومعاذ القارىء أنهم قرأوا { وَعَدَهَا أَبَاهُ } بالموحدة، وعد ذلك أحد الأحرف الثلاث التي صحفها ابن المقفع في القرآن مما / لا يلتفت إليه بعد قراءة غير واحد من السلف به وإن كانت شاذة.
 
الجوهرة التاسعة والاربعون

قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَهْدِيۤ إِلَى ٱلْحَقِّ قُلِ ٱللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِيۤ إِلَى ٱلْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيۤ إِلاَّ أَن يُهْدَىٰ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ }

قال الامام القرطبى فى تفسيره


وفي «يَهدِي» قراءات ست:

الأُولى ـ قرأ أهل المدينة إلا وَرْشاً «يَهْدّي» بفتح الياء وإسكان الهاء وتشديد الدال؛ فجمعوا في قراءتهم بين ساكنين كما فعلوا في قوله: { لاَ تَعْدُواْ } وفي قوله: «يَخْصِّمُونَ» قال النحاس: والجمع بين الساكنين لا يقدر أحد أن ينطق به. قال محمد بن يزيد: لا بد لمن رام مثل هذا أن يحرك حركة خفيفة إلى الكسر، وسيبويه يسمي هذا اختلاس الحركة.

الثانية ـ قرأ أبو عمرو وقالون في روايةٍ بين الفتح والإسكان، على مذهبه في الإخفاء والاختلاس.

الثالثة ـ قرأ ابن عامر وابن كثير وورش وابن مُحَيْصن «يَهَدّي» بفتح الياء والهاء وتشديد الدال. قال النحاس: هذه القراءة بيّنة في العربية، والأصل فيها يهتدي أدغمت التاء في الدال وقلبت حركتها على الهاء.

الرابعة ـ قرأ حفص ويعقوب والأعمش عن أبي بكر مثل قراءة ابن كَثير، إلا أنهم كسروا الهاء، قالوا: لأن الجزم إذا ٱضْطُرّ إلى حركته حُرّك إلى الكسر. قال أبو حاتم: هي لغة سُفْلَى مضر.

الخامسة ـ قرأ أبو بكر عن عاصم «يِهِدّي» بكسر الياء والهاء وتشديد الدال، كل ذلك لإتباع الكسر الكسر كما تقدم في البقرة في
{ يَخْطَفُ }
[البقرة: 20]. وقيل: هي لغة من قرأ «نِسْتَعِينُ» و
{ لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ }
[آل عمران: 24] ونحوه. وسيبويه لا يجيز «يِهِدّي» ويجيز «تهِدّي» و «نهِدّي» و «إهدي» قال: لأن الكسرة في الياء تثقل.

السادسة ـ قرأ حمزة والكسائي وخلف ويحيى بن وَثّاب والأعمش «يَهْدِي» بفتح الياء وإسكان الهاء وتخفيف الدال؛ من هَدَى يهدي. قال النحاس: وهذه القراءة لها وجهان في العربية وإن كانت بعيدة، وأحد الوجهين أن الكسائي والفراء قالا: «يهدي» بمعنى يهتدي. قال أبو العباس: لا يعرف هذا، ولكن التقدير أمن لا يهدي غيره، تم الكلام،

ثم قال: «إلاَّ أَنْ يُهْدَى» استأنف من الأوّل، أي لكنه يحتاج أن يهدى؛ فهو استثناء منقطع، كما تقول؛ فلان لا يُسمِع غيره إلا أن يُسمع، أي لكنه يحتاج أن يُسْمَع.

وقال الامام الطبرى فى تفسيره بعد نقله للقراءات

وأولى القراءة في ذلك بالصواب قراءة من قرأ: «أمْ مَنْ لا يَهَدّي» بفتح الهاء وتشديد الدال، لما وصفنا من العلة لقارىء ذلك كذلك، وأن ذلك لا يدفع صحته ذو علم بكلام العرب وفيهم المنكر غيره، وأحقّ الكلام أن يقرأ بأفصح اللغات التي نزل بها كلام الله تبارك وتعالى.

فتأويل الكلام إذا: أفمن يهدي إلى الحقّ أحقّ أن يتبع، أم من لا يهتدي إلى شيء إلا أن يُهْدَى.

وقال السمين الحلبى فى الدر المصون

{ إِلاَّ أَن يُهْدَىٰ } استثناءٌ منقطع، أي: لكنه يحتاج إلى أن يُهْدَىٰ كما تقول: فلان لا يسمع غيره إلا أَنْ يُسْمع، أي: لكنه يحتاج إلى أن يَسمع ". انتهىٰ.

ويجوز أن يكونَ استثناءً متصلاً، لأنه إذ ذاك يكون فيهم قابليةُ الهدايةِ بخلافِ الأصنام.

ويجوز أن يكونَ استثناء من تمامِ المفعول له، أي: لا يهدي لشيءٍ من الأشياءِ إلا لأَجْل أن يُهْدَىٰ بغيره.

وقال الامام الرازى فى تفسيره
في لفظ الآية إشكال، وهو أن المراد من الشركاء في هذه الآية الأصنام وأنها جمادات لا تقبل الهداية، فقوله: { أَم مَّنْ لاَّ يَهِدِّي إِلاَّ أَن يَهْدِي } لا يليق بها.

والجواب من وجوه: الأول: لا يبعد أن يكون المراد من قوله: { قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ } هو الأصنام. والمراد من قوله: { قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَهْدِى إِلَى ٱلْحَقّ } رؤساء الكفر والضلالة والدعاة إليها. والدليل عليه قوله سبحانه: { ٱتَّخَذُواْ أَحْبَـٰرَهُمْ وَرُهْبَـٰنَهُمْ أَرْبَاباً مّن دُونِ ٱللَّهِ } إلى قوله:
{ لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَـٰنَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ }
[التوبة: 31] والمراد أن الله سبحانه وتعالى هدى الخلق إلى الدين الحق بواسطة ما أظهر من الدلائل العقلية والنقلية. وأما هؤلاء الدعاة والرؤساء فإنهم لا يقدرون على أن يهدوا غيرهم إلا إذا هداهم الله تعالى، فكان التمسك بدين الله تعالى أولى من قبول قول هؤلاء الجهال.

الوجه الثاني: في الجواب أن يقال: إن القوم لما اتخذوها آلهة، لا جرم عبر عنها كما يعبر عمن يعلم ويعقل، ألا ترى أنه تعالى قال:
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ }
[الأعراف: 194] مع أنها جمادات وقال:
{ إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَاءكُمْ }
[فاطر: 14] فأجرى اللفظ على الأوثان على حسب ما يجري على من يعقل ويعلم فكذا ههنا وصفهم الله تعالى بصفة من يعقل، وإن لم يكن الأمر كذلك،

الثالث: أنا نحمل ذلك على التقدير، يعني أنها لو كانت بحيث يمكنها أن تهدي، فإنها لا تهدي غيرها إلا بعد أن يهديها غيرها، وإذا حملنا الكلام على هذا التقدير فقد زال السؤال.

الرابع: أن البنية عندنا ليست شرطاً لصحة الحياة والعقل، فتلك الأصنام حال كونها خشباً وحجراً قابلة للحياة والعقل، وعلى هذا التقدير فيصح من الله تعالى أن يجعلها حية عاقلة ثم إنها تشتغل بهداية الغير.

الخامس: أن الهدى عبارة عن النقل والحركة يقال: هديت المرأة إلى زوجها هدى، إذا نقلت إليه والهدي ما يهدى إلى الحرم من النعم، وسميت الهدية هدية لانتقالها من رجل إلى غيره، وجاء فلان يهادى بين اثنين إذا كان يمشي بينهما معتمداً عليهما من ضعفه وتمايله.
 
الجوهرة الخمسون

{ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً إِلاَّ مَا شَآءَ ٱللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ }

سبق ان تكلما عن نوع هذا الاستثناء فى جوهرة سابقة

واحب ان انقل هنا بعض ماقاله الامام الرازى فى تفسير الايه فى هذا المقام

المسألة الثانية: المعتزلة احتجوا بقوله: { قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِى ضَرّا وَلاَ نَفْعًا إِلاَّ مَا شَاء ٱللَّهُ } فقالوا: هذا الاستثناء يدل على أن العبد لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً إلا الطاعة والمعصية،فهذا الاستثناء يدل على كون العبد مستقلا بهما.

والجواب:قال أصحابنا:هذا الاستثناء منقطع،والتقدير:ولكن من ذلك كائن.
 
الجوهرة الواحدة والخمسون

{ إِنَّ ٱلَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ } * { وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلْعَذَابَ ٱلأَلِيمَ } *{ فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَآ إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ ٱلخِزْيِ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ }

قال الامام السمين الحلبى فى الدر المصون


.

قوله: { إِلاَّ قَوْمَ } فيه وجهان، أحدهما: أنه استثناء منقطعٌ وإليه ذهبَ سيبويه والكسائي والأخفش/ والفراء، ولذلك أدخله سيبويه في باب ما لا يكون فيه إلا النصبُ لانقطاعِه، وإنما كان منقطعاً؛ لأن ما بعد " إلا " لا يندرجُ تحت لفظ " قرية ".

والثاني: أنه متصل. قال الزمخشري: " استثناءٌ من القرى لأن المرادَ أهاليها،


ويجوز أن يكون متصلاً، والجملةُ في معنى النفي كأنه قيل: ما آمنت قريةٌ من القرى الهالكة إلا قوم يونس ".


وقال ابن عطية: " هو بحسب اللفظ استثناءٌ منقطع، وكذلك رسمه النحويون، وهو بحسبِ المعنى متصلٌ لأن تقديره: ما آمنَ أهل قريةٍ إلا قومَ يونس ". قلت: وتقديرُ هذا المضافِ هو الذي صَحَّح كونَه استثناء متصلاً، وكذلك قال أبو البقاء ومكي وابن عطية وغيرهُم. وأمَّا الزمخشري فإن ظاهرَ عبارتِه أنَّ المصحِّحَ لكونه متصلاً كونُ الكلام في معنىٰ النفي، وليس كذلك بل المسوِّغ كونُ القرىٰ يراد بها أهاليها من بابِ إطلاق المحلِّ على الحالِّ، وهو أحد الأوجهِ المذكورة في قوله:
{ وَسْئَلِ ٱلْقَرْيَةَ }
[يوسف: 82].


وقال ابن الجوزى فى زاد المسير

وذكر ابن الأنباري في قوله: «إِلا» قولين آخرين:

أحدهما: أنها بمعنى الواو، والمعنى: وقوم يونس لما آمنوا فعلنا بهم كذا وكذا، وهذا مروي عن أبي عبيدة، والفراء ينكره.

والثاني: أن الاستثناء من الآية التي قبل هذه، تقديره: حتى يروا العذاب الأليم إِلا قوم يونس، فالاستثناء على هذا متصل غير منقطع.
 
بعد الانتهاء من سورة يونس ننتقل الى سورة هود

سورة هود

الجوهرة الثانية والخمسون

{ وَلَئِنْ أَذَقْنَا ٱلإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ } * { وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَآءَ بَعْدَ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ ٱلسَّيِّئَاتُ عَنِّيۤ إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ } * { إِلاَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ }

قال السمين الحلبى فى الدر المصون



قوله تعالى: { إِلاَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ }: فيه ثلاثةُ أوجه،

أحدها: أنه منصوبٌ على الاستثناء المتصل؛ إذ المرادُ به جنس/ الإِنسانِ لا واحدٌ بعينه.

والثاني: أنه منقطعٌ، إذ المراد بالإِنسان شخصٌ معين، وهو على هذين الوجهين منصوبُ المحل.

والثالث: أنه مبتدأ، والخبرُ الجملةُ من قوله { أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ } وهو منقطعٌ أيضاً. وقوله: " مغفرةٌ " يجوز أن يكونَ مبتدأ، و " لهم " الخبر، والجملةُ خبرُ " أولئك " ، ويجوز أن يكونَ " لهم " خبرَ " أولئك " و " مغفرة " فاعلٌ بالاستقرار.

وقال الامام الالوسي فى تفسيره


{ إِلاَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ } استثناء من
{ ٱلإِنْسَانَ }
[هود: 9] وهو متصل إن كانت أل فيه لاستغراق الجنس، وهو الذي نقله الطبرسي مخالفاً لابن الخازن عن الفراء، ومنقطع إن كانت للعهد إشارة إلى الإنسان الكافر مطلقاً، وعن ابن عباس أن المراد منه كافر معين وهو الوليد بن المغيرة، وقيل: هو عبد الله بن أمية المخزومي، .....
 
الجوهرة الثالثة والخمسون

{ حَتَّىٰ إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ قُلْنَا ٱحْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ

ٱثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ ٱلْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ }

قال الامام الالوسي فى تفسيره

والاستثناء جوز أن يكون متصلاً إن أريد بالأهل الأهل إيماناً، وأن يكون منقطعاً إن أريد به الأهل قرابة،


ويكفي في صحة الاستثناء المعلومية عند المراجعة إلى أحوالهم والتفحص عن أعمالهم، وجيء بعلى لكون السابق ضاراً لهم كما جيء باللام فيما هو نافع في قوله تعالى:
{ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ٱلْمُرْسَلِينَ }
[الصافات: 171] وقوله سبحانه:
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا ٱلْحُسْنَىٰ }
[الأنبياء: 101].

{ وَمَنْ آمَنَ } عطف على الأهل أي والمؤمنين من غيرهم وإفراد أولئك منهم للاستثناء المذكور، وإيثار صيغة الإفراد في { آمَنَ } محافظة على لفظ { مِنْ } للإيذان بالقلة كما أفصح عن ذلك قوله تعالى: { وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ } قيل: كانوا سبعة زوجته وأبناؤه الثلاثة وكنائنه الثلاث، وروي هذا عن قتادة والحكم بن عقبة وابن جريج ومحمد بن كعب، ويرده عطف { وَمَنْ آمَنَ } على الأهل إلا أن يكون الأهل بمعنى الزوج فإنه قد ثبت بهذا المعنى لكن قيل: إنه خلاف الظاهر، والاستثناء عليه منقطع أيضاً،


ملحوظة

قال الامام الالوسى

والاستثناء جوز أن يكون متصلاً إن أريد بالأهل الأهل إيماناً، وأن يكون منقطعاً إن أريد به الأهل قرابة،


وقال الامام ابو السعود فى تفسير ارشاد العقل السليم

والاستثناءُ منقطِعٌ إن أريد بالأهل الأهلُ إيماناً وهو الظاهرُ كما ستعرفه أو متصلٌ إن أريد به الأهلُ قرابة

فى الحقيقة اخى الحبيب الذى افهمه قول الامام ابى السعود وليس الامام الالوسي
 
الجوهرة الرابعة والخمسون

{ قَالَ سَآوِيۤ إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ ٱلْمَآءِ قَالَ لاَ عَاصِمَ ٱلْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا ٱلْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ ٱلْمُغْرَقِينَ }

قال السمين الحلبى فى الدر المصون

قوله تعالى: { لاَ عَاصِمَ ٱلْيَوْمَ }: فيه أقوالٌ،

أحدها: أنه استثناءٌ منقطع، وذلك أن تَجْعَلَ عاصماً على حقيقته، ومَنْ رَحِم هو المعصوم، وفي " رَحِم " ضميرٌ مرفوعٌ يعود على اللَّه تعالىٰ، ومفعولُه ضميرُ الموصولِ وهو " مَنْ " حُذِف لاستكمالِ الشروط، والتقدير: لا عاصمَ اليومَ البتةَ مِنْ أمر اللَّه، لكن مَنْ رَحِمه اللَّه فهو معصوم.


الثاني: أن يكونَ المرادُ بـ " مَنْ رَحِم " هو الباري تعالى كأنه قيل: لا عاصمَ اليومَ إلا الراحمَ.


الثالث: أن عاصماً بمعنى مَعْصوم، وفاعِل قد يجيءُ بمعنىٰ مفعول نحو: ماء دافق، أي: مدفوق، وأنشدوا:2666 ـ بطيءُ القيامِ رخيمُ الكلا مِ أَمْسى فؤادي به فاتِنا
أي مفتوناً، و " مَنْ " مرادٌ بها المعصومُ، والتقدير: لا معصومَ اليومَ مِنْ أَمْرِ اللَّه إلا مَنْ رحمه اللَّه فإنه يُعْصَم. ا

الرابع: أن يكون " عاصم " هنا بمعنى النَّسَب، أي: ذا عِصْمة نحو: لابن وتامر، وذو العصمة ينطلق على العاصم وعلى المعصوم، والمرادُ به هنا المَعْصوم.

وهو على هذه التقاديرِ استثناءٌ متصلٌ، وقد جعله الزمخشري متصلاً لمَدْرك آخرَ، وهو حذفُ مضافٍ تقديرُه: لا يعصمك اليومَ معتصِمٌ قط مِنْ جبلٍ ونحوِه سوى معتصمٍ واحد، وهو مكان مَن رحمهم اللَّه ونجَّاهم، يعني في السفينة ".
 
الجوهرة الخامسة والخمسون

{ قَالُواْ يٰلُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوۤاْ إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ ٱلْلَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ ٱمْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَآ أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ ٱلصُّبْحُ أَلَيْسَ ٱلصُّبْحُ بِقَرِيبٍ }



قال السمين الحلبى فى الدر المصون


قوله: { إِلاَّ ٱمْرَأَتَكَ } ابن كثير وأبو عمرو برفع " امرأتك " والباقون بنصبها.



وفي هذه الآية الكريمة كلامٌ كثيرٌ لا بد من استيفائه.


أمَّا قراءة الرفع ففيها وجهان،

أشهرُهما عند المعربين: أنَّه على البدل من " أحد " وهو أحسن من النصب، لأنَّ الكلام غيرُ موجَب. وهذا الوجهُ قد رَدَّه أبو عبيد بأنه يَلْزَمُ منه أنهم نُهوا عن الالتفات إلا المرأة، فإنها لم تُنْهَ عنه، وهذا لا يجوزُ، ولو كان الكلامُ " ولا يلتفت " برفع " يلتفت " يعني على أنْ تكونَ " لا " نافيةً، فيكون الكلام خبراً عنهم بأنهم لم يَلْتفتوا إلا امرأته فإنها تلتفت، لكان الاستثناء بالبدلية واضحاً، لكنه لم يقرأ برفع " يلتفت " أحد.

وقد استحسن ابنُ عطيةَ هذا الإِلزامَ من أبي عبيد، وقال: " إنه وارِدٌ على القول باستثناءِ المرأة من " أحد " سواءً رَفَعْتَ المرأة أو نَصَبْتها ". قلت: وهذا صحيحٌ، فإن أبا عبيد لم يُرِد الرفعَ لخصوصِ كونه رفعاً، بل لفسادِ المعنىٰ، وفسادُ المعنىٰ دائر مع الاستثناء من " أحد " ، وأبو عبيد يُخَرِّج النصبَ على الاستثناء من " بأهلك " ، ولكنه يَلْزم من ذلك إبطالُ قراءة الرفع، ولا سبيلَ إلى ذلك لتواترها.

وقد انفصل المبردُ عن هذا الإِشكالِ الذي أورده أبو عبيد بأن النهيَ في اللفظ لـ " أحد " وهو في المعنى للوط عليه السلام، إذ التقدير: لا تَدَعْ منهم أحداً يلتفت، كقولك لخادمك: " لا يَقُمْ أحدٌ " النهيُ لأحد، وهو في المعنىٰ للخادم، إذ المعنى: " لا تَدَعْ أحداً يقوم ".

قلت: فآل الجواب إلى أنَّ المعنىٰ: لا تَدَعْ أحداً يلتفت إلا امرأتك فَدَعْها تلتفت، هذا مقتضى الاستثناء كقولك: " لا تَدَعْ أحداً يقوم إلا زيداً، معناه: فَدَعْه يقوم. وفيه نظر؛ إذ المحذور الذي قد فرَّ منه أبو عبيد موجودٌ هو أو قريب منه هنا.

والثاني: أن الرفعَ علىٰ الاستثناءِ المنقطع،

والقائلُ بهذا جعل قراءةَ النصبِ أيضاً من الاستثناء المنقطع، فالقراءتان عنده على حَدٍّ سواء،

ولنسْرُدْ كلامه لنعرفَه فقال:

" الذي يظهر أن الاستثناء على كلتا القراءتين منقطع، لم يُقْصَدْ به إخراجُها من المأمور بالإِسراء معهم، ولا من المنهيين عن الالتفاتِ، ولكن استؤنف الإِخبار عنها، فالمعنىٰ: لكن امرأتَك يَجْري لها كذا وكذا، ويؤيد هذا المعنى أن مثلَ هذه الآية جاءت في سورة الحجر، وليس فيها استثناءٌ البتةَ، قال تعالى: { فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ } الآية. فلم تقع العنايةُ في ذلك إلا بذكر مَنْ أنجاهم اللَّه تعالىٰ، فجاء شرح حالِ امرأتِه في سورة هود تبعاً لا مقصوداً بالإِخراج مما تقدم، وإذا اتضح هذا المعنى عُلم أن القراءتين وردتا على ما تقتضيه العربية في الاستثناء المنقطع، وفيه النصب والرفع، فالنصب لغة أهل الحجاز وعليه الأكثر، والرفع لغة تميم وعليه اثنان من القراء ".

قال الشيخ: " وهذا الذي طوَّل به لا تحقيقَ فيه، فإنه إذا لم يُقْصَدْ إخراجُها من المأمور بالإِسراء بهم ولا من/ المَنْهِيِّين عن الالتفاتِ، وجُعل استثناءً منقطعاً، كان من المنقطع الذي لم يتوجَّهْ عليه العاملُ بحال، وهذا النوع يجب فيه النصبُ على كلتا اللغتين، وإنما تكون اللغتان في ما جاز توجُّهُ العاملِ عليه، وفي كلا النوعين يكون ما بعد " إلا " من غير الجنس المستثنىٰ، فكونُه جازَ في اللغتان دليل على أنه يمكن أن يتوجَّه عليه العامل، وهو قد فرض أنه لم يُقْصَدْ بالاستثناء إخراجُها من المأمور بالإِسراء بهم ولا من المنهيين عن الالتفات، فكان يجب فيه إذ ذاك النصبُ قولاً واحداً ".

[قلت: القائل بذلك هو الشيخ شهاب الدين أبو شامة]. وأمَّا قولُه: " إنه لم يتوجَّهْ عليه العامل " ليس بمسلَّم، بل يتوجَّه عليه في الجملة، والذي قاله النحاة ممَّا لم يتوجَّهْ عليه العاملُ من حيث المعنى نحو: ما زاد إلا ما نقص، وما نفع إلا ما ضر، وهذا ليس مِنْ ذاك، فكيف يُعْترض به على أبي شامة؟.
.

وأمَّا النصبُ ففيه ثلاثة أوجه،


أحدها: أنه مستثنىٰ مِنْ " بأهلك " ، واستَشْكلوا عليه إشكالاً من حيث المعنى: وهو أنه يلزم ألاَّ يكونَ سَرَى بها، لكن الفرضِ أنه سرىٰ بها، يدلُّ عليه أنها التفتَتْ، ولو لم تكن معهم لمَا حَسُن الإِخبار عنها بالالتفات، فالالتفاتُ يدلُّ على كونها سَرَتْ معهم قطعاً. وقد أُجيب عنه بأنه لم يَسْرِ هو بها، ولكن لمَّا سَرَى هو وبنتاه تَبِعَتْهم فالتفتت، ويؤيِّد أنه استثناء من الأهل ما قرأ به عبد اللَّه وسقط مِنْ مصحفه " فَأَسْر بأهلك بقطع من الليل إلا امرأتك " ولم يذكر قوله { وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ }.

والثاني: أنه مستثنىٰ مِنْ " أحد " وإن كان الأحسنُ الرفعَ إلا أنه جاء كقراءة ابن عامر { مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ } [النساء: 66] بالنصبِ مع تقدُّم النفي الصريح. وقد تقدَّم لك هناك تخريجٌ آخرُ لا يمكن ههنا.

والثالث: أنه مستثنىٰ منقطعٌ على ما قدَّمْتُه عن أبي شامة.

وقال الزمخشري: " وفي إخراجها مع أهله روايتان، روي أنه أخرجها معهم، وأُمِرَ أَنْ لا يلتفتَ منهم أحد إلا هي، فلما سَمِعَتْ هِدَّة العذاب التفتَتْ وقالت: يا قوماه، فأدركها حجرٌ فقتلها، ورُوي أنه أُمِر بأن يُخَلِّفَها مع قومها فإنَّ هواها إليهم ولم يَسْرِ بها، واختلاف القراءتين لاختلاف الروايتين ".

قال الشيخ: " وهذا وهمٌ فاحشٌ، إذ بنىٰ القراءتين على اختلاف الروايتين مِنْ أنه سَرَىٰ بها أو لم يَسْرِ بها، وهذا تكاذُبٌ في الإِخبار، يستحيل أن تكن القراءتان ـ وهما مِنْ كلام اللَّه تعالىٰ ـ يترتبان على التكاذب ". قلت: وحاشَ للَّه أن تترتب القراءتان على التكاذُب، ولكن ما قاله الزمخشري صحيحٌ، الفرض أنه قد جاء في التفسير القولان، ولا يَلْزم من ذلك التكاذبُ، لأنَّ مَنْ قال إنه سَرَىٰ بها يعني أنها سَرَتْ هي بنفسها مصاحِبةً لهم في أوائل الأمر، ثم أخذها العذاب فانقطع سُراها، ومن قال إنه لم يَسْرِ بها، أي: لم يَأْمرها ولم يأخذها وأنه لم يَدُم سُراها معهم بل انقطع فَصَحَّ أن يقال: إنه سَرَى بها ولم يَسْرِ بها، وقد أجاب الناسُ بهذا وهو حسنٌ.

وقال الشيخ أبو شامة: " ووقع لي في تصحيح ما أعربه النحاةُ معنى حسنٌ، وذلك أن يكون في الكلام اختصارَ نَبَّهَ عليه اختلافُ القراءتين فكأنه قيل: فَأَسْرِ بأهلِك إلا امرأتك، وكذا روى أبو عبيدة وغيره أنها في مصحف عبد اللَّه هكذا، وليس فيها { وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ } فهذا دليلٌ على استثنائها مِن السُّرى بهم، ثم كأنه قال سبحانه: فإن خرجَتْ معكم وتَبِعَتْكم ـ غيرَ أن تكونَ أنت سَرَيْتَ بها ـ فانْهَ أهلك عن الالتفات غيرَها، فإنها ستلتفت فيُصيبها ما أصاب قومها، فكانت قراءةُ النصب دالَّةً على المعنى المتقدم، وقراءةُ الرفع دالَّةً على المعنى المتأخر، ومجموعُهما دالٌّ على جملة المعنى المشروح " وهو كلامٌ حسنُ شاهدٌ لِما ذكرته.

وقال القرطبي فى تفسيره


{ إِلاَّ ٱمْرَأَتَكَ } بالنصب؛ وهي القراءة الواضحة البيّنة المعنى؛ أي فأسر بِأهلِك إلا ٱمرأتك. وكذا في قراءة ٱبن مسعود «فأسرِ بِأهلِك إِلا ٱمرأتك» فهو ٱستثناء من الأهل. وعلى هذا لم يخرج بها معه. وقد قال الله عز وجل:
{ كَانَتْ مِنَ ٱلْغَابِرِينَ }
[الأعراف: 83] أي من الباقين.

وقرأ أبو عمرو وٱبن كثير: «إِلا ٱمرأتُك» بالرفع على البدل من «أحد». وأنكر هذه القراءة جماعة منهم أبو عبيد؛ وقال: لا يصح ذلك إلا برفع «يلتفت» ويكون نعتاً؛ لأن المعنى يصير ـ إذا أبدلت وجزمت ـ أن المرأة أبيح لها الالتفات، وليس المعنى كذلك.

قال النحاس: وهذا الحمل من أبي عبيد وغيره على مثل أبي عمرو مع جلالته ومحله من العربية لا يجب أن يكون؛ والرفع على البدل له معنى صحيح، والتأويل له على ما حكى محمد بن الوليد عن محمد بن يزيد أن يقول الرجل لحاجبه: لا يخرج فلان؛ فلفظ النهي لفلان ومعناه للمخاطب؛ أي لا تدعه يخرج؛ ومثله قولك: لا يقم أحد إلا زيد؛ يكون معناه: ٱنههم عن القيام إلا زيداً؛ وكذلك النهي للوط ولفظه لغيره؛ كأنه قال: ٱنههم لا يلتفت منهم أحد إلا ٱمرأتك.

ويجوز أن يكون استثناء من النهي عن الالتفات لأنه كلام تام؛ أي لا يلتفت منكم أحد إلا ٱمرأتك فإنها تلتفت وتهلك، وأن لوطاً خرج بها، ونهى من معه ممن أسرى بهم ألا يلتفت، فلم يلتفت منهم أحد سوى زوجته؛ فإنها لما سمعت هدّة العذاب التفتت وقالت: واقوماه فأدركها حجر فقتلها.

وقال ابن كثير فى تفسيره

{ إِلاَّ ٱمْرَأَتَكَ } قال الأكثرون: هو استثناء من المثبت، وهو قوله: { فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ } تقديره: { إِلاَّ ٱمْرَأَتَكَ } وكذلك قرأها ابن مسعود، ونصب هؤلاء امرأتك لأنه من مثبت، فوجب نصبه عندهم،


وقال آخرون من القراء والنحاة: هو استثناء من قوله: { وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ ٱمْرَأَتَكَ } فجوزوا الرفع والنصب.

وذكر هؤلاء أنها خرجت معهم، وأنها لما سمعت الوجبة، التفتت، وقالت: واقوماه فجاءها حجر من السماء، فقتلها،

وقال الرازى فى تفسيره

واعلم أن القراءة بالرفع أقوى، لأن القراءة بالنصب تمنع من خروجها مع أهله لكن على هذا التقدير الاستثناء يكون من الأهل كأنه أمر لوطاً بأن يخرج بأهله ويترك هذه المرأة فإنها هالكة مع الهالكين

وأما القراءة بالنصب فإنها أقوى من وجه آخر، وذلك لأن مع القراءة بالنصب يبقى الاستثناء متصلاً ومع القراءة بالرفع يصير الاستثناء منقطعاً.
 
الجوهرة السادسة والخمسون

خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلأَرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ }

قال الامام السمين الحلبى فى الدر المصون:

قوله: { إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ } فيه أقوال كثيرة منتشرة لخّصتها في أربعةَ عشرَ وجهاً،

أحدها: ـ وهو الذي ذكره الزمخشريُّ فإنه قال: " فإنْ قلت: ما معنى الاستثناء في قوله: { إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ } وقد ثَبَتَ خلودُ أهلِ الجنة والنار في الأبد مِنْ غير استثناء؟ قلت: هو استثناء مِن الخلود في عذاب النار، ومن الخلود في نعيم أهل الجنة، وذلك أنَّ أهل النار لا يُخَلَّدون في عذابها وحدَه، بل يُعَذَّبون بالزمهرير، وبأنواعٍ أُخَرَ من العذاب، وبما هو أشدُّ من ذلك وهو سُخْط اللَّه عليهم، وكذا أهل الجنة لهم مع نعيم الجنة ما هو أكبرُ منه كقوله:
{ وَرِضْوَانٌ مِّنَ ٱللَّهِ أَكْبَرُ }
[التوبة: 72]، والدليل عليه قوله:
{ عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ }
[هود: 108]، وفي مقابله { إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } ، أي: يَفْعل بهم ما يريد من العذاب، كما يعطي أهل الجنة ما لا انقطاعَ له ". قال الشيخ: " ما ذكره في أهل النار قد يتمشىٰ لأنهم يَخْرُجون من النار إلى الزمهرير فيصحُّ الاستثناء، وأما أهل الجنة فلا يخرجون من الجنة فلا يصحُّ فيهم الاستثناء ". قلت: الظاهر أنه لا يصحُّ فيهما؛ لأنَّ أهلَ النار مع كونهم يُعَذَّبون بالزمهرير هم في النار أيضاً.

الثاني: أنه استثناءٌ من الزمان الدالِّ عليه قوله: " خالدين فيها ما دامَتِ السماواتُ والأرضُ " والمعنى: إلا الزمان الذي شاءه اللَّه فلا يُخَلَّدون فيها.

الثالث: أنه مِنْ قوله: " ففي النار " و " ففي الجنة " ، أي: إلا الزمان الذي شاءَه اللَّهُ فلا يكون في النار ولا في الجنة، ويمكن أن يكون هذا الزمانُ المستثنىٰ هو الزمان الذي يَفْصِل اللَّهُ فيه بين الخلق يومَ القيامة إذا كان الاستثناءُ مِن الكون في النار أو في الجنة، لأنه زمانٌ يخلو فيه الشقيُّ والسعيدُ مِنْ دخول النار والجنة، وأمَّا إن كان الاستثناءُ مِنْ الخلود يمكن ذلك بالنسبة إلى أهل النار، ويكون الزمانُ المستثنىٰ هو الزمان الذي فات أهلَ النارِ العصاةَ من المؤمنين الذي يَخْرجون من النار ويَدْخلون الجنة فليسوا خالدين في النار، إذ قد أخرجوا منها وصاروا إلى الجنة. وهذا المعنى مَرْوِيٌّ عن قتادة والضحاك وغيرهما، والذين شَقُوا على هذا شامل للكفار والعصاة، هذا في طرفِ الأشقياء العُصاة ممكنٌ، وأمَّا حقُّ الطرف الآخر فلا يتأتَّى هذا التأويلُ فيه؛ إذ ليس منهم مَنْ يدخلُ الجنةَ ثم لا يُخَلَّد فيها.


قال الشيخ: يمكن ذلك/ باعتبار أن يكونَ أريد الزمان الذي فاتَ أهلَ النار العصاة من المؤمنين، أو الذي فات أصحابَ الأعراف، فإنه بفوات تلك المدة التي دخل المؤمنون فيها الجنة وخُلِّدوا فيها صَدَقَ على العصاة المؤمنين وأصحابِ الأعراف أنهم ما خُلِّدوا في الجنة تخليدَ مَنْ دخلها لأولِ وَهْلة ".

الرابع: أنه استثناءٌ من الضمير المستتر في الجار والمجرور وهو قوله: " ففي النار " و " ففي الجنة "؛ لأنه لمَّا وقع خبراً تحمَّل ضميرَ المبتدأ.

الخامس: أنه استثناءٌ من الضمير المستتر في الحال وهو " خالدين " ، وعلى هذين القولين تكون " ما " واقعةً على مَنْ يعقل عند مَنْ يرى ذلك، أو على أنواعٍ مَنْ يعقل كقوله:
{ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ }
[النساء: 3] والمراد بـ " ما " حينئذٍ العصاةُ من المؤمنين في طرفِ أهل النار، وأمَّا في طرف أهل الجنة فيجوز أن يكونوا هم أو أصحابُ الأعراف، لأنهم لم يدخلوا الجنة لأولِ وهلة ولا خُلِّدوا فيها خلودَ مَنْ دَخَلها أولاً.

السادس: قال ابن عطية: " قيل: إنَّ ذلك على طريقِ الاستثناء الذي نَدَبَ الشارعُ إلى استعماله في كل كلامٍ فهو كقولِه:
{ لَتَدْخُلُنَّ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ آمِنِينَ }
[الفتح: 27]، استثناء في واجب، وهذا الاستثناء هو في حكم الشرط، كأنه قال: إنْ شاء اللَّه، فليس يحتاج أن يُوْصَفَ بمتصل ولا منقطع ".

السابع: هو استثناءٌ من طول المدة، ويروى عن ابن مسعود وغيره، أنَّ جهنمَ تخلو مِن الناس وتَخْفِق أبوابُها فذلك قولُه: { إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ }. وهذا مردودٌ بظواهر الكتابِ والسنة، وما ذكرته عن ابن مسعود فتأويله أنَّ جهنم هي الدَّرَك الأَعْلى، وهي تَخْلو من العُصاة المؤمنين، هذا على تقديرِ صحةِ ما نُقِل عن ابن مسعود.

الثامن: أن " إلا " حرفُ عطفٍ بمعنى الواو، فمعنى الآية: وما شاءَ ربُّك زائداً على ذلك.

التاسع: أن الاستثناءَ منقطعٌ، فيقدَّر بـ " لكن " أو بـ " سوىٰ " ، ونَظَّروه بقولك: " لي عليك ألفا درهم، إلا الألفَ التي كنت أسلفتك " بمعنىٰ سوى تلك، فكأنه قيل: خالدين فيها ما دامت السماواتُ والأرضُ سوى ما شاء ربك زائداً على ذلك. وقيل:سوى ما أعدَّ لهم مِنْ عذابٍ غيرِ عذابِ النار كالزَّمْهرير ونحوِه.

العاشر: أنه استثناءٌ من مدة السماوات والأرض التي فَرَطَت لهم في الحياة الدنيا.

الحادي عشر: أنه استثناءٌ من التدرُّج الذي بين الدنيا والآخرة.

الثاني عشر: أنه استثناءٌ من المسافات التي بينهم في دخول النار، إذ دخولُهم إنما هو زُمَراً بعد زُمَر.

الثالث عشر: أنه استثناءٌ من قوله: " ففي النار " كأنه قال: إلا ما شاء ربُّك مِنْ تأخُّر قوم عن ذلك، وهذا القولُ مرويٌّ عن أبي سعيد الخدري وجابر.

الرابع عشر: أنَّ " إلا ما شاء " بمنزلة كما شاء، قيل: كقوله:
{ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ }
[النساء: 22]، أي: كما قَدْ سَلَفَ.

وقال ابن الجوزى فى زاد المسير:

قوله تعالى: { إِلا ما شاء ربك } في الاستثناء المذكور في حق أهل النار سبعة أقوال.

أحدها: أن الاستثناء في حق الموحِّدين الذين يخرجون بالشفاعة، قاله ابن عباس، والضحاك.

والثاني: أنه استثناء لا يفعله، تقول: والله لأضربنَّك إِلا أن أرى غير ذلك، وعزيمتك على ضربه، ذكره الفراء، وهو معنى قول أبي صالح عن ابن عباس: «إِلا ما شاء ربك» قال: فقد شاء أن يخلَّدوا فيها. قال الزجاج: وفائدة هذا، أنه لو شاء أن يرحمهم لرحمهم، ولكنه أعلمنا أنهم خالدون أبداً.

والثالث: أن المعنى: خالدين فيها أبداً، غير أن الله تعالى يأمر النار فتأكلهم وتفنيهم، ثم يجدد خلقهم، فيرجع الاستثناء إِلى تلك الحال، قاله ابن مسعود.

والرابع: أن «إِلا» بمعنى «سوى» تقول: لو كان معنا رجل إِلا زيد، أي: سوى زيد؛ فالمعنى: خالدين فيها مقدار دوام السموات والأرض سوى ما شاء ربك من الخلود والزيادة، وهذا اختيار الفراء. قال ابن قتيبة: ومثله في الكلام أن تقول: لأُسْكنَنَّك في هذه الدار حولاً إِلا ما شئتَ؛ تريد: سوى ما شئتَ أن أزيدك.

والخامس: أنهم إِذا حُشروا وبُعثوا، فهم في شروط القيامة؛ فالاستثناء واقع في الخلود بمقدار موقفهم في الحساب، فالمعنى: خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إِلا مقدار موقفهم للمحاسبة، ذكره الزجاج. وقال ابن كيسان: الاستثناء يعود إِلى مكثهم في الدنيا والبرزخ والوقوف للحساب؛ قال ابن قتبية: فالمعنى: خالدين في النار وخالدين في الجنة دوام السماء والأرض إِلا ما شاء ربك من تعميرهم في الدنيا قبل ذلك، فكأنه جعل دوام السماء والأرض بمعنى الأبد على ما كانت العرب تستعمل، وإن كانتا قد تتغيَّران. واستثنى المشيئة من دوامهما، لأن أهل الجنة والنار قد كانوا في وقت من أوقات دوام السماء والأرض في الدنيا، لا في الجنة، ولا في النار.

والسادس: أن الاستثناء وقع على أن لهم فيها زفيراً وشهيقاً، إِلا ما شاء ربك من أنواع العذاب التي لم تُذكر؛ وكذلك لأهل الجنة نعيم مما ذُكر، ولهم مما لم يُذكر ما شاء ربك، ذكره الزجاج أيضاً.

والسابع: أن «إِلا» بمعنى «كما» ومنه قوله:
{ ولا تَنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إِلا ما قد سلف }
[النساء 22]، ذكره الثعلبي.
 
الجوهرة السابعة والخمسون

وَأَمَّا ٱلَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي ٱلْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلأَرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ }

قال ابن الجوزى فى زاد المسير:


فأما الاستثناء في حق أهل الجنة، ففيه ستة أقوال:

أحدها: أنه استثناء لا يفعله.

والثاني: أن «إِلا» بمعنى «سوى».

والثالث: أنه يرجع إِلى وقوفهم للحساب ولبثهم في القبور.

والرابع: أنه بمعنى: إِلا ما شاء أن يزيدَهم من النعيم الذي لم يُذكر.

والخامس: أن «إِلا» كـ «ما»، وهذه الأقوال قد سبق شرحها.

والسادس: أن الاستثناء يرجع إِلى لبث من لبث في النار من الموحِّدين، ثم أُدخل الجنة، قاله ابن عباس، والضحاك، ومقاتل. قال ابن قتيبة: فيكون الاستثناء من الخلود مُكث أهل الذنوب من المسلمين في النار، فكأنه قال: إِلا ما شاء ربك من إِخراج المذنبين إِلى الجنة، وخالدين في الجنة إِلا ما شاء ربك من إِدخال المذنبين النارَ مدَّةً.


ملحوظة

قال الامام النسفى فى مدار التنزيل:

هو استثناء من الخلود في نعيم الجنة وذلك أن لهم سوى الجنة ما هو أكبر منها وهو رؤية الله تعالى ورضوانه،

والله اعلم
 
الجوهرة الثامنة والخمسون

فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ ٱلْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْفَسَادِ

فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَٱتَّبَعَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَآ أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ }

قال السمين الحلبى فى الدر المصون:

قوله: { إِلاَّ قَلِيلاً } فيه وجهان،

أحدهما؛

أن يكون استثناءً منقطعاً، وذلك أن يُحمل التحضيضُ على حقيقته، وإذا حُمل على حقيقته تعيَّن أن يكونَ الاستثناء منقطعاً لئلا يفسُدَ المعنىٰ

قال الزمشخري: " معناه: ولكن قليلاً ممَّن أَنْجَيْنا مِن القرون نُهوا عن الفساد، وسائرُهم تاركوا النهي ". ثم قال. " فإن قُلْتَ: هل لوقوع هذا الاستثناء متصلاً وجهٌ يُحْمَلُ عليه؟ قلت: إن جَعَلْتَه متصلاً على ما عليه ظاهرُ الكلام كان المعنىٰ فاسداً؛ لأنه يكون تحضيضاً لأولي البقية على النهي عن الفساد إلا للقليل من الناجين منهم، كما تقول: هلا قرأ قومُك القرآن إلا الصلحاءَ منهم، تريد استثناء الصلحاء من المُحَضَّضين على قراءة القرآن ". قلت: لأن الكلام يَؤُول إلى أنَّ الناجين لم يُحَضُّوا على النهي عن الفساد، وهو معنىً فاسدٌ.

والثاني: أن يكونَ متصلاً، وذلك بأن يُؤَوَّل التحضيضُ بمعنى النفي فيصحَّ ذلك، إلا أنه يؤدِّي إلى النصب في غير الموجَب، وإن كان غيرُ النصب أَوْلىٰ. قال الزمخشري: " فإن قلت: في تحضيضهم على النهي عن الفسادِ معنىٰ نَفْيه عنهم فكأنه قيل: ما كان من القرونِ أولو بقيةٍ إلا قليلاً كان استثناءٌ متصلاً ومعنى صحيحاً،
 
الجوهرة التاسعة والخمسون

وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ ٱلنَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ } * { إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذٰلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ }

قال السمين الحلبى فى الدر المصون:

قوله تعالى: { إِلاَّ مَن رَّحِمَ }: ظاهرُه أنه متصلُ وهو استثناءٌ مِنْ فاعل " يَزالون " أو من الضمير في " مختلفين ". وجوَّز الحوفي أن يكون استثناءً منقطعاً، أي: لكن مَنْ رَحِمَ لم يختلفوا، ولا ضرورةَ تدعو إلى ذلك
 
الجوهرة الستون

بعد الانتهاء من سورة هود ننتقل الى سورة يوسف

{ وَمَآ أُبَرِّىءُ نَفْسِيۤ إِنَّ ٱلنَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوۤءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيۤ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ }

قال السمين الحلبى فى الدر المصون:



قوله تعالى: { إِلاَّ مَا رَحِمَ }: فيه أوجه،

أحدُها: أنه مستثنىٰ من الضمير المستكنِّ في " أمَّارَةٌ " كأنه قيل: إن النفس لأمَّارة بالسوءِ إلا نَفْساً رحمها ربِّي، فيكون أراد بالنفس الجنسَ، فلذلك ساغ الاستثناء منها كقولِه تعالى:
{ إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ }
[العصر: 2-3]، وإلى هذا نحا الزمخشري فإنه قال: " إلا البعضَ الذي رحمه ربي بالعِصْمة كالملائكة " وفيه نظرٌ مِنْ حيث إيقاعُ " ما " على مَنْ يَعْقِلُ والمشهورُ خِلافُه.

والثاني: أنَّ " ما " في معنى الزمان فيكون مستثنى من الزمن العام المقدَّر. والمعنى: إنَّ النفس لأمَّارَةٌ بالسوء في كلِّ وقتٍ وأوانٍ إلا وقتَ رحمةِ ربي إياها بالعِصْمة. ونظرَّه أبو البقاء بقوله تعالى:
{ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ }
[النساء: 92]. وقد تقدَّم أن الجمهورَ لا يُجيزون أن تكون " أنْ " واقعةً موقعَ ظرفِ الزمان.

والثالث: أنه مستثنىٰ من مفعول " أمَّارة " ، أي: لأمَّارةٌ صاحبَها بالسوءِ إلا الذي رَحِمه اللَّه. وفيه إيقاعُ " ما " على العاقل.

والرابع: أنه استثناءٌ منقطعٌ. قال ابن عطية: " وهو قولُ الجمهور ". وقال الزمخشري: " ويجوز أن يكونَ استثناءً منقطعاً، أي: ولكنْ رحمةُ ربي هي التي تَصْرِف الإِساءةَ كقوله:
{ وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ إِلاَّ رَحْمَةً مِّنَّا }
[يس: 23].
 
الجوهرة الواحدة والستون

قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّىٰ تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِّنَ ٱللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّآ آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ ٱللَّهُ عَلَىٰ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ }

قال السمين الحلبى فى الدر المصون:

قوله: { إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ } في هذا الاستثناء أوجه

أحدُها: أنه منقطع، قاله أبو البقاء، يعني فيكون/ تقديرُ الكلام: لكن إذا أحيط بكم خَرَجْتُمْ مِنْ عَتَبي وغضبي عليكم إن لم تَأْتوني به لوضوح عُذْركم.

الثاني: أنه متصل وهو استثناء مِن المفعول له العامِّ. قال الزمخشري: " فإن قلت أخبرْني عن حقيقة هذا الاستثناء ففيه إشكال. قلت: { أَن يُحَاطَ بِكُمْ } مفعولٌ له، والكلامُ المثبت الذي هو قولُه " لَتأْتُنَّني به " في معنى النفي معناه: لا تَمْتنعون من الإِتيان به إلا للإِحاطة بكم، أو لا تمتنعون منه لعلةٍ من العلل إلا لعلة واحدة وهي أنْ يُحاط بكم، فهو استثناءٌ مِنْ أَعَمِّ العامِّ في المفعول له، والاستثناء من أعم العام لا يكون إلا في النفي وحده، فلا بد مِنْ تأويله بالنفي، ونظيرُه في الإِثبات المتأوَّل بمعنى النفي قولهم: " أقسمتُ باللَّه لمَّا فعلتَ وإلا فعلت " ، تريد: ما أطلبُ منك إلا الفعلَ " ولوضوح هذا الوجهِ لم يذكر غيره.

والثالث: أن مستثنىٰ مِنْ أعمِّ العامِّ في الأحوال. قال أبو البقاء: " تقديره: لَتَأْتُنَّني به على كل حال إلا في حال الإِحاطة بكم ". قلت: قد نَصُّوا على أنَّ " أنْ " الناصبة للفعل لا تقع موقعَ الحال، وإن كانَتْ مؤولةً بمصدر يجوز أن تقع موقع الحال، لأنهم لم يَغْتفروا في المُؤَول ما يَغْتفرونه في الصريح فيجيزون: جئتُك رَكْضاً، ولا يُجيزون: جئتك أن أركضَ، وإن كان في تأويله.

الرابع: أنه مستثنىٰ من أعم العام في الأزمان والتقدير: لَتَأْتُنَّني به في كلِّ وقتٍ لا في وقت الإِحاطة بكم. وهذه المسألة تَقدَّم فيها خلافٌ، وأن أبا الفتح أجاز ذلك، كما يُجَوِّزه في المصدر الصريح، فكما تقول: " أتيتُكَ صِياحَ الدِّيك " يُجيز " أنْ يَصيح الديك " وجعل من ذلك قول تأبط شراً:2806 ـ وقالوا لا تَنْكِحيهِ فإنَّه لأَِوَّلِ نَصْلٍ أن يُلاقِيَ مَجْمعا
وقولَ أبي ذؤيب الهذلي:2807 ـ وتاللَّهِ ما إنْ شَهْلَةٌ أمُّ واجدٍ بأوجدَ مني أن يُهانَ صغيرُها
قال: " تقديره: وقتَ ملاقاتِه الجمعَ، ووقت إهانةِ صغيرها ". قال الشيخ: " فعلَىٰ ما قاله يجوز تخريجُ الآية، ويبقىٰ " لتأتُنَّني به " على ظاهره من الإِثبات ".

قلت: الظاهر من هذا أنه استثناءٌ مفرغ، ومتى كان مفرَّغاً وَجَبَ تأويلُه بالنفي.
 
الجوهرة الثانية والستون

وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِّنَ ٱللَّهِ مِن شَيْءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ }

قال الامام الالوسي فى تفسيره:

{ إِلاَّ حَاجَةً } استثناء منقطع أي ولكن حاجة { فِى نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا } أي أظهرها ووصاهم بها دفعا للخطرة غير معتقد أن للتدبير تأثيراً في تغيير التقدير،

والمراد بالحاجة شفقته عليه السلام وحرازته من أن يعانوا....

وجوز أن يكون ضمير { قَضَاهَا } للدخول على معنى أن ذلك الدخول قضى حاجة في نفس يعقوب عليه السلام وهي إرادته أن يكون دخولهم من أبواب متفرقة، فالمعنى ما كان ذلك الدخول يغني عنهم من جهة الله تعالى شيئاً لكن قضى حاجة حاصلة في نفس يعقوب لوقوعه حسب إرادته، والاستثناء منقطع أيضاً، وجملة { قَضَاهَا } صفة { حَاجَةً } وجوز أن يكون خبر { إِلا } لأنها بمعنى لكن وهي يكون لها اسم وخبر فإذا أولت بها فقد يقدر خبرها وقد يصرح به كما نقله القطب وغيره عن ابن الحاجب، وفيه أن عمل إلا بمعنى لكن عملها مما لم يقل به أحد من أهل العربية.

وجوز الطيبـي كون الاستثناء متصلاً على أنه من باب.

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
فالمعنى ما أغني عنهم ما وصاهم به أبوهم شيئاً إلا شفقته التي في نفسه، ومن الضرورة أن شفقة الأب مع قدر الله تعالى كالهباء فإذن ما أغنى عنهم شيئاً أصلاً

وقال السمين الحلبى فى الدر المصون:

{ إِلاَّ حَاجَةً } فيه وجهان،

أحدهما: أنه استثناءٌ منقطع تقديرُه: ولكنَّ حاجةً في نفس يعقوب قضاها، ولم يذكر الزمخشري غيره.

والثاني: أنه مفعولٌ مِنْ أجله، ولم يذكر أبو البقاء غيره، ويكون التقدير: ما كان يُغْني عنهم لشي من الأشياء إلا لأجلِ حاجةٍ كانت في نفس يعقوب.

وفاعل " يُغْني " ضميرُ التفرقِ المدلولِ عليه من الكلام المتقدم. وفيما أجازه أبو البقاء نظرٌ من حيث المعنىٰ لا يَخْفَى على متأمِّله. و " قضاها " صفةٌ لـ " حاجةً ".

وقال ابن عاشور فى التحرير والتنوير:

والاستثناء في قوله: { إلاّ حاجةً } منقطع لأن الحاجة التي في نفس يعقوب ــــ عليه السلام ــــ ليست بعضاً من الشيء المنفي إغناؤه عنهم من الله، فالتقدير: لكن حاجة في نفس يعقوب ــــ عليه السلام ــــ قضاها.

ملحوظة

الظاهر ان الضمير المرفوع فى قضاها لسيدنا يعقوب او عائد على الدخول كما ذكر الالوسى ونقلناه
 
الجوهرة الثالثة والستون

{ فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَآءِ أَخِيهِ ثُمَّ ٱسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَآءِ أَخِيهِ كَذٰلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ ٱلْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ }

قال السمين الحلبى فى الدر المصون:

{ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ } فيه وجهان

أحدهما: أنه استثناءٌ منقطعٌ تقديرُه: ولكن بمشيئة اللَّه أَخَذَه في دين غيرِ الملك، وهو دينُ آلِ/ يعقوب: أن الاسترقاقَ جزاءُ السارق.

الثاني: أنه مفرغٌ من الأحوال العامة، والتقدير: ما كان ليأخذَه في كل حال إلا في حال التباسِه بمشيئة اللَّه أي إذنه في ذلك. وكلامُ ابنِ عطية مُحْتَمِلٌ فإنه قال: " والاستثناء حكاية حال، التقدير: إلا أن يَشاء اللَّه ما وقع من هذه الحيلة ".
 
الجوهرة الرابعة والستون

سورة ابراهيم

{ وَقَالَ ٱلشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ ٱلأَمْرُ إِنَّ ٱللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ ٱلْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوۤا أَنفُسَكُمْ مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ ٱلظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }

قال السمين الحلبى فى الدر المصون:

قوله: { إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ } فيه وجهان،

أظهرُهما: أنه استثناءٌ منقطعٌ لأنَّ دعاءَه ليس من جنسِ السلطانِ وهو الحُجَّةُ البيِّنَةُ.

والثاني: أنه متصلٌ، لأنَّ القدرةَ على حَمْلِ الإنسانِ على الشرِّ تارةً تكون بالقَهْرِ، وتارةً تكون بقوة الداعية في قلبه، وذلك بالوسوسة إليه فهو نوعٌ من التسلُّطِ.
 
الجوهرة الخامسة والستون

سورة الحجر

{ وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي ٱلسَّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ } * { وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ } * { إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ }

قال السمين الحلبى فى الدر المصون:

قوله تعالى: { إِلاَّ مَنِ ٱسْتَرَقَ }: فيه خمسةُ أوجهٍ،

أحدُها: في محلِّ نصب على الاستثناءِ المتصلِ، والمعنى: فإنها لم تُحْفَظْ منه، قاله غيرُ واحدٍ.

والثاني: منقطع، ومحلُّه النصبُ أيضاً..

وقال الرازى فى تفسيره:

وقوله: { إِلاَّ مَنِ ٱسْتَرَقَ ٱلسَّمْعَ } لا يمكن حمل لفظة { إِلا } ههنا على الاستثناء، بدليل أن إقدامهم على استراق السمع لا يخرج السماء من أن تكون محفوظة منهم إلا أنهم ممنوعون من دخولها، وإنما يحاولون القرب منها، فلا يصح أن يكون استثناء على التحقيق، فوجب أن يكون معناه: لكن من استرق السمع. قال الزجاج: موضع { مِن } نصب على هذا التقدير. قال: وجائز أن يكون في موضع خفض، والتقدير: إلا ممن. قال ابن عباس: في قوله: { إِلاَّ مَنِ ٱسْتَرَقَ ٱلسَّمْعَ } يريد الخطفة اليسيرة، وذلك لأن المارد من الشياطين يعلو فيرمى بالشهاب فيحرقه ولا يقتله، ومنهم من يحيله فيصير غولاً يضل الناس في البراري
 
الجوهرة السادسة والستون

إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْغَاوِينَ }

قال السمين الحلبى فى الدر المصون:

قوله تعالى: { إِلاَّ مَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْغَاوِينَ }: فيه وجهان،

أحدُهما: أنه استثناءٌ متصل، لأنَّ المرادَ بعبادي العمومُ طائعهم وعاصيهم، وحينئذ يَلْزَمُ استثناءُ الأكثرِ من الأقل، وهي مسالةُ خلافٍ.

والثاني: أنه منقطعٌ؛ لأنَّ الغاوين لم يَنْدرجوا في " عبادي "؛ إذ المرادُ بهم الخُلَّصُ، والإِضافةُ إضافةُ تشريفٍ.

وقال الالوسي فى تفسيره:

{ إِلاَّ مَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْغَاوِينَ } منقطع واختار ذلك غير واحد، واستدل عليه بسقوط الاستثناء في الإسراء، وجوز أن يكون المراد بالعباد العموم والاستثناء متصل والكلام كالتقرير لقوله:
{ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ }
[الحجر: 40] ولذا لم يعطف على ما قبله، وتغيير الوضع لتعظيم المخلصين بجعلهم هم الباقين بعد الاستثناء.

وفي الآية دليل لمن جوز استثناء الأكثر وإلى ذلك ذهب أبو عبيد والسيرافي وأكثر الكوفية، واختاره ابن خروف والشلوبين وابن مالك، وأجاز هؤلاء أيضاً استثناء النصف، وذهب بعض البصرية إلى أنه لا يجوز كون المستثنى قدر نصف المستثنى منه أو أكثر ويتعين كونه أقل من النصف واختاره ابن عصفور والآمدي وإليه ذهب أبو بكر الباقلاني من الأصوليين، وذهب البعض الآخر من علماء البلدين إلى أنه يجوز أن يكون المخرج النصف فما دونه ولا يجوز أن يكون أكثر وإليه ذهب الحنابلة، واتفق النحويون كما قال أبوحيان وكذا الأصوليون عند الإمام والآمدي خلافاً لما اقتضاه نقل القرافي عن " المدخل " لابن طلحة على أنه لا يجوز أن يكون المستثنى مستغرقاً للمستثنى منه، ومن الغريب نقل ابن مالك عن الفراء جواز له على الف إلا ألفين، وقيل: إن كان المستثنى منه عدداً صريحاً يمتنع فيه النصف والأكثر وإن كان غير صريح لا يمتنعان، وتحقيق هذه المسألة في الأصول، والمذكور في بعض كتب العربية عن أبـي حيان أنه قال: المستقرأ من كلام العرب إنما هو استثناء الأقل وجميع ما استدل به على خلافه محتمل التأويل؛ وأنت تعلم أن الآية تدفع مع ما تقدم/ قول من شرط الأقل لما يلزم عليه من الفساد لأن استثناء الغاوين هنا يستلزم على ذلك أن يكونوا أقل من المخلصين الذين هم الباقون بعد الاستثناء من جنس العباد، واستثناء
{ ٱلْمُخْلَصِينَ }
[الحجر: 40] هناك يستلزم أن يكونوا أقل من الغاوين الذين هم الباقون بعد الاستثناء من ذلك فيكون كل من المخلصين والغاوين أقل من نفسه وهو كما ترى.

وأجاب بعضهم بأن المستثنى منه هنا جنس العباد الشامل للمكلفين وغيرهم ممن مات قبل أن يكلف ولا شك أن الغاوين أقل من الباقي منهم بعد الاستثناء وهم المخلصون ومن مات غير مكلف والمستثنى منه هناك المكلفون إذ هم الذين يعقل حملهم على الغواية والضلال إذ غير المكلف لا يوصف فعله بذلك والمخلصون أقل من الباقي منهم بعد الاستثناء أيضاً ولا محذور في ذلك، وذكر بعضهم أن الكثرة والقلة الادعائيتين تكفيان لصحة الشرط فقد ذكر السكاكي في آخر قسم الاستدلال وكذا لا تقول لفلان عليَّ ألف إلا تسعمائة وتسعين إلا وأنت تنزل ذلك الواحد منزلة الألف بجهة من الجهات الخطابية مع أنه ممن يشترط كون المستثنى أقل من الباقي اهـ، وظاهر كلام الأصوليين ينافيه.

وجوز أن يكون الاستثناء منقطعاً على تقدير إرادة الجنس أيضاً ويكون الكلام تكذيباً للملعون فيما أوهم أن له سلطاناً على من ليس بمخلص من عباده سبحانه فإن منتهى قدرته أن يغرهم ولا يقدر على جبرهم على اتباعه كما قال:
{ وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَـٰنٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَٱسْتَجَبْتُمْ لِى }
[إبراهيم: 22]. فحاصل المعنى أن من اتبعك ليس لك عليهم سلطان وقهر بل أطاعوك في الإغواء واتبعوك لسوء اختيارهم ولا يضر في الانقطاع دخول الغاوين في العباد بناء على ما قالوا من أن المعتبر في الاتصال والانقطاع الحكم، ويفهم كلام البعض أنه يجوز أن تكون الآية تصديقاً له عليه اللعنة في صريح الاستثناء وتكذيباً في جعل الإخلاص علة للخلاص حسبما يشير إليه كلامه فإن الصبيان والمجانين خلصوا من إغوائه مع فقد هذه العلة.

وقال الرازى فى تفسيره:

اعلم أن إبليس لما قال: { لأزَيّنَنَّ لَهُمْ فِى ٱلأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ }

أوهم هذا الكلام أن له سلطاناً على عباد الله الذين يكونون من المخلصين، فبين تعالى في هذه الآية أنه ليس له سلطان على أحد من عبيد الله سواء كانوا مخلصين أو لم يكونوا مخلصين، بل من اتبع منهم إبليس باختياره صار متبعاً له، ولكن حصول تلك المتابعة أيضاً ليس لأجل أن إبليس يقهره على تلك المتابعة أو يجبره عليها والحاصل في هذا القول: أن إبليس أوهم أن له على بعض عباد الله سلطاناً، فبين تعالى كذبه فيه، وذكر أنه ليس له على أحد منهم سلطان ولا قدرة أصلاً، ونظير هذه الآية قوله تعالى حكاية عن إبليس أنه قال:
{ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَـٰنٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَٱسْتَجَبْتُمْ لِي }
[إبراهيم: 22] وقال تعالى في آية أخرى:
{ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَىٰ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَلَىٰ رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَـٰنُهُ عَلَىٰ ٱلَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَٱلَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ }
[النحل: 99، 100] قال الجبائي: هذه الآية تدل على بطلان قول من زعم أن الشيطان والجن يمكنهم صرع الناس وإزالة عقولهم كما يقوله العامة، وربما نسبوا ذلك إلى السحرة قال وذلك خلاف ما نص الله تعالى عليه،

وفي الآية قول آخر، وهو أن إبليس لما قال:
{ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ }
[الحجر: 40] فذكر أنه لا يقدر على إغواء المخلصين صدقه الله في هذا الاستثناء فقال: { إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَـٰنٌ إِلاَّ مَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْغَاوِينَ } فلهذا قال الكلبي: العباد المذكورون في هذه الآية هم الذين استثناهم إبليس.

واعلم أن على القول الأول يمكن أن يكون قوله: { إِلاَّ مَنِ ٱتَّبَعَكَ } استثناء، لأن المعنى: أن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين فإن لك عليهم سلطاناً بسبب كونهم منقادين لك في الأمر والنهي.

وأما على القول الثاني فيمتنع أن يكون استثناء، بل تكون لفظة (إلا) بمعنى لكن، وقوله: { إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ } قال ابن عباس: يريد إبليس وأشياعه، ومن اتبعه من الغاوين
 
الجوهرة السابعة والستون

قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَىٰ قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ } * { إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ }

قال السمين الحلبي فى الدر المصون:

قوله تعالى: { إِلاَّ آلَ لُوطٍ }: فيه [أوجهٌ] أحدُها: أنه مستثنى متصلٌ على أنه مستثنى من الضميرِ المستكنِّ في " مجرمين " بمعنى: أَجْرَموا كلُّهم إلا آلَ لوطٍ فإنهم لم يُجْرِموا، ويكونُ قولُه { إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ } / استئنافَ إخبارٍ بنجاتهم لكونِهم لم يُجْرِموا، ويكون الإِرسالُ حينئذ شاملاً للمجرمين ولآلِ لوط، لإِهلاكِ أولئك، وإنجاءِ هؤلاء.

والثاني: أنه استثناءٌ منقطع؛ لأنَّ آل لوط لم يَنْدَرجوا في المجرمين البتَة. قال الشيخ: " وإذا كان استثناءً منقطعاً فهو ممِّا يجبُ فيه النصبُ، لأنه من الاستثناءِ الذي لا يمكن تَوَجُّه العاملِ إلى المستثنى فيه؛ لأنهم لم يُرْسَلوا إليهم، إنما أُرْسِلوا إلى القوم المجرمين خاصةً، ويكون قوله { إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ } جَرَى مجرى خبرِ " لكن " في اتصالِه بآلِ لوطٍ، لأنَّ المعنى: لكن آل لوطٍ مُنَجُّوهم. وقد زعم بعض النحويين في الاستثناءِ المنقطعِ المقدَّرِ بـ " لكن " إذا لم يكن بعده ما يَصِحُّ أن يكونَ خبراً أنَّ الخبرَ محذوفٌ، وأنه في موضعِ رفعٍ لجريان " إلا " وتقديرها بـ " لكن ".

قلت: وفيه نظرٌ؛ لأنَّ قولَهم: لا يتوجَّه عليه العاملُ، أي: لا يمكن، نحو: " ضحك القومُ إلا حمارَهم " ، و " صَهِلَت الخيلُ إلا الإِبلَ ". وأمَّا هذا فيمكن الإِرسالُ إليهم مِنْ غيرِ مَنْعٍ. وأمَّا قولُه " لأنهم لم يُرْسَلُوا إليهم " فصحيحٌ لأنَّ حكمَ الاستثناءِ كلِّه هكذا، وهو أن يكونَ خارجاً عن ما حُكِم به الأولِ، لكنه لو تَسَلَّط عليه لَصَحَّ ذلك، بخلافِ ما ذكرْتُه مِنْ أمثلتِهم.
 
الجوهرة الثامنة والستون
{ إِلاَّ ٱمْرَأَتَهُ قَدَّرْنَآ إِنَّهَا لَمِنَ ٱلْغَابِرِينَ }

قال السمين الحلبي فى الد المصون:

قوله تعالى: { إِلاَّ ٱمْرَأَتَهُ }: فيه وجهان: أحدُهما: أنه استثناءٌ مِنْ آل لوط. قال أبو البقاء: " والاستثناءُ إذا جاء بعد الاستثناءِ كان الاستثناءُ الثاني مضافاً إلى المبتدأ كقولِك: " له عندي عشرةٌ إلا أربعةً إلا درهماً " فإنَّ الدرهمَ يُستثنى من الأربعة، فهو مضافٌ إلى العشرة، فكأنك قلت: أحد عشر إلا أربعةً، أو عشرة إلا ثلاثةً ".

الثاني: أنَّها مستثناةٌ من الضمير المجرور في " مُنجُّوهم ". وقد مَنَعَ الزمخشريُّ الوجهَ الأول، وعَيَّن الثاني فقال: " فإن قلتَ: فقوله: " إلا امرأته " مِمَّ استثني؟ وهل هو استثناءٌ مِنْ استثناءٍ؟ قلت: مستثنى من الضمير المجرور في قوله " لمنجُّوهُمْ " وليس من الاستثناء من الاستثناء في شيءٍ؛ لأنَّ الاستثناءَ من الاستثناء إنما يكونُ فيما اتَّحد الحكمُ فيه، وأن يقالَ: أهلكناهم إلا آلَ لوطٍ إلا امرأتَه، كما اتحد في قولِ المُطْلَق: أنتِ طالقٌ ثلاثاً إلا اثنتين إلا واحدةً، وقولِ المُقِرِّ لفلان: عليَّ عشرةٌ إلا ثلاثةً إلا درهماً، وأمَّا الآيةُ فقد اختلف الحكمان لأنَّ { إِلاَّ آلَ لُوطٍ } متعلقٌ بـ " أَرْسَلْنا " أو بمجرمين، و { إِلاَّ ٱمْرَأَتَهُ } قد تعلَّق بقولِه " لمنجُّوهم " فأنَّى يكون استثناءً من استثناء "؟

قال الشيخ: " ولمَّا استسلف الزمخشريُّ أن " امرأته " استثناءٌ من الضمير في لمنجُّوهم " أنى أن يكون استثناءً من استثناء؟ ومَنْ قال إنه استثناءٌ من استثناء فيمكن تصحيحُ قولِه بأحدِ وجهين، أحدُهما: أنَّه لمَّا كان " امرأتَه " مستثنى من الضمير في " لمُنجُّوهم " وهو عائدٌ على آلِ لوط صار كأنه مستثنى مِن آلِ لوط، لأنَّ المضمرَ هو الظاهر. والوجهُ الآخر: أن قولَه { إِلاَّ آلَ لُوطٍ } لمَّا حَكَمَ عليهم بغيرِ الحكم الذي حَكَم به على قومٍ مجرمين اقتضى ذلك نجاتَهم فجاء قولُه: { إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ } تاكيداً لمعنى الاستثناء، إذ المعنى: إلا آلَ لوط لم يُرْسَلْ إليهم بالعذاب، ونجاتُهم مترتبةٌ على عدمِ الإِرسال إليهم بالعذاب، فصار نظيرَ قولِك: " قام القومُ إلا زيداً لم يَقُمْ " ، أو " إلا زيداً فإنه لم يَقُمْ " ، فهذه الجملةُ تأكيدٌ لِما تَضَمَّن الاستثناءُ من الحكم على ما بعد إلاّ بضدِّ الحكم السابق على المستثنى منه، فـ " إلا امرأته " على هذا التقريرِ الذي قَرَّرْناه مستثنى مِنْ آل لوط، لأنَّ الاستثناءَ ممَّا جيء به للتأسيسِ أَوْلَى من الاستثناءِ ممَّا جِيْءَ به للتأكيد ".

وقال القرطبي فى تفسيره:

لا خلاف بين أهل اللسان وغيرهم أن الإستثناء من النفي إثبات ومن الإثبات نفي؛ فإذا قال رجل: له عليّ عشرة دراهم إلا أربعة إلا درهماً؛ ثبت الإقرار بسبعة؛ لأن الدرهم مستثنًى من الأربعة، وهو مثبت لأنه مستثنى من منفي، وكانت الأربعة منفية لأنها مستثناة من موجب وهو العشرة، فعاد الدرهم إلى الستة فصارت سبعة. وكذلك لو قال: عليّ خمسة دراهم إلا درهماً إلا ثلثيه؛ كان عليه أربعة دراهم وثلث. وكذلك إذا قال: لفلان عليّ عشرة إلا تسعة إلا ثمانية إلا سبعة؛ كان الاستثناء الثاني راجعاً إلى ما قبله، والثالث إلى الثاني فيكون عليه درهمان؛ لأن العشرة إثبات والثمانية إثبات فيكون مجموعها ثمانية عشر. والتسعة نفي والسبعة نفي فيكون ستة عشر تسقط من ثمانية عشر ويبقى درهمان، وهو القدر الواجب بالإقرار لا غير. فقوله سبحانه: { إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَىٰ قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ ٱمْرَأَتَهُ } فاستثنى آل لوط من القوم المجرمين، ثم قال «إلا ٱمرأته» فاستثناها من آل لوط، فرجعت في التأويل إلى القوم المجرمين كما بينا. وهكذا الحكم في الطلاق، لو قال لزوجته: أنت طالق ثلاثاً إلا ٱثنتين إلا واحدة طلقت ثنتين؛ لأن الواحدة رجعت إلى الباقي من المستثنى منه وهي الثلاث. وكذا كل ما جاء من هذا فتفهّمه.

ملحوظة

اطنب الالوسي وافاد واجاد فى شرح هذا الاستثناء فى تفسيره فقال:

وقوله سبحانه: { إِلاَّ ٱمْرَأَتَهُ } على التقديرين عند جار الله مستثنى من الضمير المجرور في لمنجوهم ولم يجوز أن يكون من الاستثناء من الاستثناء في شيء قال: لأن ذلك إنما يكون فيما اتحد الحكم فيه كقول المطلق أنت طالق ثلاثاً إلا اثنتين إلا واحدة والمقر لفلان عليَّ عشرة دراهم إلا ثلاثة إلا درهماً، وهٰهنا قد اختلف الحكمان لأن آل لوط متعلق بأرسلنا أو بمجرمين و { إِلاَّ ٱمْرَأَتَهُ } تعلق ـ بمنجوهم ـ فأنى يكون استثناءً من استثناء انتهى. وقد يتوهم أن الإرسال إذا كان بمعنى الإهلاك فلا اختلاف إذ التقدير إلا آل لوط لم نهلكهم فهو بمعنى منجوهم فيكون من الاستثناء من الاستثناء على أحد التقديرين. وأجاب عن ذلك صاحب " التقريب " بأن شرط الاستثناء المذكور أن لا يتخلل لفظ بين الاستثنائين متعدد يصلح أن يكون مستثنى منه وهٰهنا قد تخلل منجوهم ولو قيل إلا آل لوط إلا امرأته لجاز ذلك؛ وتعقب بأنه لا يدفع الشبهة لأن السبب حينئذٍ في امتناعه وجود الفاصل لا اختلاف الحكمين فلا وجه للتعبير به عنه، وفي «الكشف» المراد من اتحاد الحكم اتحاده شخصاً وعدداً فلا يرد أن الإرسال إذا كان بمعنى الإهلاك كان قوله سبحانه:
{ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ }
[الحجر: 59] وقوله تعالى: { إِلا ءالَ لُوطٍ } في معنى واحد فالاستثناء من الأول في المعنى، وإنما شرط الاتحاد لأن المتصل كاسمه لا يجوز تخلل جملة بين العصا ولحائها وكذلك في المنقطع وبه يتضح حال ما تقدم أتم اتضاح، وفيه أيضاً، فإن قلت: لم لا يرجع الاستثناء إليهما؟ قلت: لأن الاستثناء متعلق بالجملة المستقلة والخلاف في رجوعه إلى الجملتين فصاعداً لا إلى جملة، وبعض جملة سابقة، هذا والمعنى مختلف في ذلك ومحل الخلاف الجمل المتعاطفة لا المنقطع بعضها عن بعض انتهى، والأمر كما ذكر في تعيين محل الخلاف، والمسألة قل من تعرض لها من النحاة وفيها مذاهب

. الأول وهو الأصح وعليه ابن مالك أن الاستثناء يعود للكل إلا أن يقوم دليل على إرادة البعض كما في قوله تعالى:
{ وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ }
[النور: 6] الآية فإن { إِلاَّ ٱلَّذِينَ } فيه عائد إلى فسقهم وعدم قبول شهادتهم معاً لا إلى الجلد للدليل، ولا يضر اختلاف العامل لأن ذلك مبني على أن إلا هي العاملة.

الثاني أنه يعود للكل إن سيق الكل لغرض واحد نحو حبست داري على أعمامي ووقفت بستاني على أخوالي وسبَّلت سقايتي لجيراني إلا أن يسافروا وإلا فللأخيرة فقط نحو أكرم/ العلماء واحتبس دارك على أقاربك وأعتق عبيدك إلا الفسقة منهم.

الثالث: إن كان العطف بالواو عاد للكل أو بالفاء أو ثم عاد للأخيرة وعليه ابن الحاجب،

الرابع: أنه خاص بالأخيرة واختاره أبو حيان.

الخامس: إن اتحد العامل فللكل أو اختلف فللأخيرة إذ لا يمكن حمل المختلفات في مستثنى واحد وعليه البهاباذي، وهو مبني على أن عامل المستثنى الأفعال السابقة دون إلا، هذا ويوهم كلام بعضهم أنه لوجعل الاستثناء من { آل لوط } لزم أن تكون امرأته غير مهلكة أو غير مجرمة وهو توهم فاحش لأن الاستثناء من { آل لوط } إن قلنا به بملاحظة الحكم عليهم بالإنجاء وعدم الإهلاك أو بعدم الإجرام والصلاح فتكون الامرأة محكوماً عليه بالإهلاك أو الإجرام. ويرشدك إلى هذا ما ذكره الرضى فيما إذا تعدد الاستثناء وأمكن استثناء كل تال من متلوه نحو جاءني المكيون إلا قريشاً إلا بني هاشم إلا بني عقيل حيث قال: لا يجوز في الموجب حينئذ في كل وتر إلا النصب على الاستثناء لأنه عن موجب، والقياس أن يجوز في كل شفع الإبدال والنصب على الاستثناء لأنه عن غير موجب والمستثنى منه مذكور، والكلام في وتر وشفع غير الموجب على عكس هذا، وهو مبني على ما ذهب إليه الجمهور من أن الاستثناء من النفي إثبات ومن الإثبات نفي خلافاً للكسائي حيث قال: إن المستثنى مسكوت عن نفي الحكم عنه أو ثبوته له، ولا دلالة في الكلام على شيء من ذلك، واستفادة الإثبات في كلمة التوحيد من عرف الشرع، وكما وقع الخلاف في هذه المسألة بين النحويين وقع بين الأئمة المجتهدين وتحقيق ذلك في محله. واختار ابن المنير كون { إِلا ءالَ لُوطٍ } مستثنى من
{ قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ }
[الحجر: 58] على أنه منقطع قال: وهو أولى وأمكن لأن في استثنائهم من الضمير العائد على قوم منكرين بعداً من حيث إن موقع الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل المستثنى في حكم الأول، وهنا الدخول متعذر مع التنكير ولذلك قلما تجد النكرة يستثنى منها إلا في سياق نفي لأنها حينئذ تعم فيتحقق الدخول لولا الاستثناء، ومن ثمة لم يحسن رأيت قوماً إلا زيداً وحسن ما رأيت أحداً إلا زيداً انتهى.

ورد بأن هذا ليس نظير رأيت قوماً إلا زيداً بل من قبيل رأيت قوماً أساءوا إلا زيداً فالوصف يعينهم ويجعلهم كالمحصورين، قال في «همع الهوامع»: ولا يستثنى من النكرة في الموجب ما لم تفد فلا يقال: جاء قوم إلا رجلاً ولا قام رجال إلا زيداً لعدم الفائدة، فإن أفاد جاز نحو
{ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً }
[العنكبوت: 14] وقام رجال كانوا في دارك إلا رجلاً، على أن المراد بالقوم أهل القرية كما صرح به في آية أخرى فهم معنى محصورون، ونقل المدقق عن السكاكي أنه صرح في آخر بحث الاستدلال من " كتابه " بأن الاستثناء من جمع غير محصور جائز على المجاز، مع أن بعض الأصوليين أيضاً جوزوا الاستثناء من النكرة في الإيجاب وأطلقوا القول في ذلك.

نعم المصرح به في كثير من كتب النحو نحو ما في «الهمع».

وزعم بعضهم أنه ينبغي أن يكون الاستثناء من الظاهر والضمير منقطعاً، وعلل ذلك بأن الضمير في الصفة هو عين الموصوف المقيد بالصفة، وذكر الجلال السيوطي أن بعض الفضلاء رفع هذا مع عدة أسئلة نثراً ونظماً إلى الكمال بن الهمام ولم يذكر أنه أجاب عنها، والجواب عما زعمه هنا قد مرت إليه الإشارة، وأما الجواب عن سائر ما استشكله وسئل عنه الكمال فيغني عنه الإطلاع على السؤال فإنه مما يتعجب منه، ومن هنا قال الشهاب: أظن أن ابن الهمام إنما سكت عن جواب ذلك لوضوح اندفاعه وأنه لا ينبغي أن يصدر عمن تحلى بحلية الفضل، نعم بعد كل حساب الذي ينساق إلى الذهن أن الاستثناء من الظاهر لكن الرضيّ أنه إذا اجتمع شيآن فصاعداً يصلحان لأن يستثني منهما فهناك تفصيل فإِما بأن يتغايرا معنى أو لا فإن تغايرا وأمكن اشتراكهما في/ ذلك الاستثناء بلا بعد اشتركا فيه نحو ما بر أب وابن إلا زيدا أي زيد أب بار وابن بار، فإن لم يمكن الاشتراك نحو ما فضل ابن أباً إلا زيداً أو كان بعيداً نحو ما ضرب أحد أحداً إلا زيداً فإن الأغلب مغايرة الفاعل للمفعول نظرنا فإن تعين دخول المستثنى في أحدهما دون الآخر فهو استثناء منه وليه أوْلاً نحو ما فدى وصي نبياً إلا علياً كرم الله تعالى وجهه، وإن احتمل دخوله في كل واحد منهما فإن تأخر عنهما المستثنى فهو من الأخير نحو ما فضل ابن أباً إلا زيداً وكذا ما فضل أباً ابن إلا زيد لأن اختصاصه بالأقرب أولى لما تعذر رجوعه إليهما، وإن تقدمهما معاً فإن كان أحدهما مرفوعاً لفظاً أو معنى فالاستثناء منه لأن مرتبته بعد الفعل فكأن الاستثناء وليه بعده نحو ما فضل إلا زيداً أبا ابن أو من ابن، وإن لم يكن أحدهما مرفوعاً فالأول أولى به لقربه نحو ما فضلت إلا زيداً واحداً على أحد ويقدر للأخير عامل، وإن توسطهما فالمتقدم أحق به لأن أصل المستثنى تأخره عن المستثنى منه نحو ما فضل أبا إلا زيد ابن ويقدر أيضاً للأخير عامل، وإن لم يتغايرا معنى اشتركا فيه، وإن اختلف العاملان فيهما نحو ما ضرب أحد وما قتل إلا خالداً لأن فاعل قتل ضمير أحد انتهى.

وجزم ابن مالك فيما إذا تقدم شيآن مثلاً يصلح كل منهما للاستثناء منه بأن الاستثناء من الأخير وأطلق القول في ذلك فليتأمل ذاك مع ما نحن فيه، وقال القاضي البيضاوي: إنه على الانقطاع يجوز أن يجعل { إِلاَّ ٱمْرَأَتَهُ } مستثنى من
{ آلَ لُوطٍ }
[الحجر: 59] أو من ضمير { مُنَجُّوهُم } وعلى الاتصال يتعين الثاني لاختلاف الحكمين اللهم إلا إذا جعلت جملة

{ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ }
[الحجر: 59] معترضة انتهى، ومخالفته لما نقل عن الزمخشري ظاهرة حيث جوز الاستثناء من المستثنى في الانقطاع ومنعه الزمخشي مطلقاً، وحيث جعل اختلاف الحكمين في الاتصال وأثبته الزمخشري مطلقاً أيضاً وبين اختلاف الحكمين بنحو ما بين به في كلام الزمخشري، ولم يرتض ذلك مولانا سري الدين وقال: المراد بالحكمين الحكم المفاد بطريق استثناء الثاني من الأول وهو على تقدير الاتصال إجرام الامرأة والحكم المقصود بالإفادة وهو الحكم عليها بالإهلاك وبين إتحاد هذا الحكم المقصود مع الحكم المفاد بالاستثناء على تقدير الانقطاع بأنه على ذلك التقدير تكون إلا بمعنى لكن و
{ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ }
[الحجر: 59] خبراً له ثابتاً للآل فيكون الحكم الحاصل من الاستثناء منه بعينه هو الحكم المقصود بالإفادة ويقال على تقدير الاتصال والاعتراض: إن الحكمين وإن اختلفا ظاهراً إلا أنه لما كانت الجملة المعترضة كالبيان لما يقتضيه الاستثناء الأول كان في المعنى كأنه هو وصار الإخراج منه كالإخراج منه، وهذا بخلاف ما إذا كان استئنافاً فإنه يكون منقطعاً عنه ويكون جواباً لسؤال مقدر ولا يتم الجواب بدون الاستثناء ولا يخلو عن الاعتراض. وقال بعضهم في توجيه الاستثناء على هذا: إن هناك حكمين الإجرام والإنجاء فيجر الثاني الاستثناء إلى نفسه كيلا يلزم الفصل إلا إذا جعل اعتراضاً فإن فيه سعة حتى يتخلل بين الصفة وموصوفها فيجوز أن يكون استثناء من
{ آلَ لُوطٍ }
[الحجر: 59] ولذا جوز الرضيّ أن يقال: أكرم القوم والنحاة بصريون إلا زيداً، ويرد عليه أن كون الحكم المفاد بالاستثناء غير الحكم المقصود بالإفادة باقياً بحاله ولا يحتاج الأمر إلى ما سمعت وهو كما سمعت، والذي ينساق إلى الذهن ما ذكره الزمخشري. وفي «الحواشي الشهابية» أنه الحق دراية ورواية. أما الأول: فلأن الحكم المقصود بالإخراج منه هو الحكم المخرج منه الأول والثاني حكم طارىء من تأويل إلا بلكن وهو أمر تقديري، وأما الثاني: فلما ذكر في " التسهيل " من أنه تعدد الاستثناء فالحكم المخرج منه حكم الأول، ومما يدل عليه أنه لو كان الاستثناء مفرغاً في هذه الصورة كما إذا قلت: لم يبق في الدار إلا اليعافير أبقاها الزمان إلا يعفور صيد منها فإنه يتعين إعرابه بحسب العامل الأول كقولك:/ ما عندي إلا عشرة إلا ثلاثة، ثم إن كلامه مبني على أمر ومانع معنوي لا على عدم جواز تخلل كلام منقطع بين المستثنى والمستثنى منه كما قيل وأن كان مانعاً أيضاً كما صرح به الرضيُّ فتدبر انتهى، فافهم ذاك والله سبحانه يتولى هداك
 
الجوهرة التاسعة والستون

سورة النحل

{ مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِٱلإِيمَانِ وَلَـٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }

قال السمين الحلبي فى الدر المصون:

قولِه: { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ } فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه مستثنى مقدَّمٌ مِنْ قولِه { فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ ٱللَّهِ } ، وهذا يكونُ فيه منقطعاً؛ لأنَّ المُكْرَه لم يَشْرَحْ بالكفرِ صدراً. وقال أبو البقاء: " وقيل: ليس بمقدَّمٍ فهو كقول لبيد:
3016- ألا كلُّ شيءٍ ما خلا اللهَ باطلُ ..............................
فظاهرُ كلامِه يَدُلُّ على أنَّ بيتَ لبيدٍ لا تقديمَ فيه، وليس كذلك فإنه ظاهرٌ في التقديمِ جداً.

الثاني: أنه مستثنى مِنْ جوابِ الشرط، أو مِنْ خبر المبتدأ المقدر، تقديرُه: فعليهمْ غضبٌ من الله إلا مَنْ أُكْرِه، ولذلك قَدَّر الزمخشري جزاءَ الشرط قبل الاستثناء، وهو استثناءٌ متصلٌ؛ لأنَّ الكفرَ يكون بالقولِ مِنْ غير اعتقادٍ كالمُكْرَه، وقد يكون - والعياذُ بالله - باعتقادٍ، فاستثنى الصِّنفَ الأول.
 
الجوهرة السبعون

سورة الاسراء

{ وَإِذَا مَسَّكُمُ ٱلْضُّرُّ فِي ٱلْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى ٱلْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ ٱلإِنْسَانُ كَفُوراً }

قال السمين الحلبي فى الدر المصون:

قوله تعالى: { إِلاَّ إِيَّاهُ }: فيه وجهان، أحدهما: أنه استثناءٌ منقطعٌ لأنه لم يَنْدَرِجْ فيما ذُكِر، إذ المرادُ به آلهتُهم من دون الله.

والثاني: أنه متصلٌ؛ لأنهم كانوا يَلْجَؤون إلى آلهتِهم وإلى اللهِ تعالى.

وقال الالوسي فى تفسيره:

والدعاء في هذا على ظاهره. والاستثناء متصل بناء على أن ما عبارة عن المدعوين مطلقاً وأنهم كانوا يدعون الله تعالى وغيره في الحوادث، وإن كانت ما عبارة عن آلهتهم الباطلة فقط وأنهم كانوا في حالة السراء يدعونها وحدها كما يدل عليه ظاهر ما بعد فالاستثناء منقطع، وفسر الدعاء على هذا بدعاء العبادة واللجأ. وقال أبو حيان: الظاهر الانقطاع لأنه تعالى لم يندرج في { مَن تَدْعُونَ } إذ المعنى ضلت آلهتهم أي معبوداتهم وهم لا يعبدون الله تعالى. وتعقب بأن مقتضى كونهم مشركين أنهم يعبدونه سبحانه أيضاً لكن على طريق الإشراك بل قولهم
{ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَى }
[الزمر: 3] كما قص سبحانه عنهم يقتضي أنه جل مجده المعبود الحقيقي عندهم، وقد يقال: إن الشارع أسقط مثل هذه العبادة عن درجة الاعتبار فهم غير عابدين الله جل وعلا شرعاً بل قيل إنهم غير عابدين لغة أيضاً لأن العبادة لغة غاية الخضوع والتذلل ولا يتحقق ذلك مع الشركة ولو على الوجه الذي زعموه فتأمل. وجوز غير واحد أن يكون المعنى ضل من تدعونه عن إغاثتكم إلا إياه تعالى، والضلال فيه إما بمعنى الغيبة أو بمعنى عدم الاهتداء منه كأنه قيل ضل عن حجة الصواب في إنقاذكم ولم يقدر على ذلك، وأمر الاستثناء من الاتصال والانقطاع ومبنى كل على حاله. والزمخشري جوز أن يكون المعنى ضل من تدعون من الآلهة عن إغاثتكم ولكن الله تعالى هو الذي ترجونه وجعل الاستثناء عليه منقطعاً فقيل إن ذلك لتخصيصه المدعوين بالآلهة. وفي «الكشف» لعل الوجه فيه أنه تعالى ما كانوا يدعونه أي دعاء العبادة واللجأ إلا في تلك الحالة وأما في حالة السراء فيخصون آلهتهم بالدعاء، والتحقيق أن الضلال بهذا المعنى لم يتناول الحق سبحانه لأن معناه ضل المدعوون وغابوا عن إغاثتهم ولا يراد غابوا وحضر جل وعلا بل المراد ولكن رجوا أن يغيثهم ولا يخذلهم فعل المدعوين على حسبانهم وهذا هو الوجه إن شاء الله تعالى
 
الجوهرة الواحدة والسبعون

وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِٱلَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً } * { إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً }

قال السمين الحلبي فى الدر المصون:

قوله تعالى: { إِلاَّ رَحْمَةً }: فيها قولان، أحدُهما: أنها استثناء متصلٌ لأنها تَنْدَرِجُ في قولِه " وكيلا ".

والثاني: أنها استثناء منقطعٌ فتتقدر بـ " لكن " عند البصريين، و " بل " عند الكوفيين. و " مِنْ ربِّك ": يجوز أن يتعلَّقَ بـ " رحمة " وأن يتعلَّقَ بمحذوف، صفةً لها.

وقال الالوسي فى تفسيره:

{ إِلاَّ رَحْمَةً مّن رَّبّكَ } استثناء منقطع على ما اختاره ابن الأنباري وابن عطية وغيرهما وهو مفسر بلكن في المشهور. والاستدراك على ما صرح به الطيبـي وغيره واقتضاه ظاهر كلام جمع عن قوله تعالى: { إِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ } وقال في «الكشف»: إنه ليس استدراكاً عن ذلك فإن المستثنى منه
{ وَكِيلاً }
[الإسراء: 86] وهذا من المنقطع الممتنع إيقاعه موقع الاسم الأول الواجب فيه النصب في لغتي الحجاز وتميم كما في قوله تعالى:
{ لاَ عَاصِمَ ٱلْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ }
[هود: 43] في رأي، وقولهم: لا تكونن من فلان إلا سلاماً بسلام فقد صرح الرضي وغيره بأن الفريقين يوجبون النصب ولا يجوزون الإبدال في المنقطع فيما لا يكون قبله اسم يصح حذفه، وكون / ما نحن فيه من ذلك ظاهر لمن له ذوق. والمعنى ثم بعد الإذهاب لا تجد من يتوكل علينا بالاسترداد ولكن رحمة من ربك تركته غير منصوب فلم تحتج إلى من يتوكل للاسترداد مأيوس عنه بالفقدان المدلول عليه بـِ
{ لا تجد }
[الإسراء: 86]، والتغاير المعنوي بين الكلامين من دلالة الأول على الإذهاب ضمناً والثاني على خلافه حاصل وهو كاف فافهم. ويفهم صنيع البعض اختيار أنه استثناء متصل من
{ وَكِيلاً }
[الإسراء: 86] أي لا تجد وكيلاً باسترداده إلا الرحمة فإنك تجدها مستردة، وأنت تعلم أن شمول الوكيل للرحمة يحتاج إلى نوع تكلف. وقال أبو البقاء: إن { رَحْمَةً } نصب على أنه مفعول له والتقدير حفظناه عليك للرحمة، ويجوز أن يكون نصباً على أنه مفعول مطلق أي ولكن رحمناك رحمة اهـ وهو كما ترى. والآية على تقدير الانقطاع امتنان بإبقاء القرآن بعد الامتنان بتنزيله، وذكروا أنها على التقدير الآخر دالة على عدم الإبقاء فالمنة حينئذ إنما هي في تنزيله، ولا يخفى ما فيه من الخفاء وما يذكر في بيانه لا يروي الغليل.

والآية ظاهرة في أن مشيئة الذهاب به غير متحققة وأن فقدان المسترد إلا الرحمة إنما هو على فرض تحقق المشيئة لكن جاء في الأخبار أن القرآن يذهب به قبل يوم القيامة، فقد أخرج البيهقي والحاكم وصححه وابن ماجه بسند قوي عن حذيفة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب حتى لا يدرى ما صيام ولا صدقة ولا نسك ويسري على كتاب الله تعالى في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية ويبقى الشيخ الكبير والعجوز يقولون أدركنا آباءنا على هذه الكلمة لا إله إلا الله فنحن نقولها " وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن عمر قالا: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " يا أيها الناس ما هذه الكتب التي بلغني أنكم تكتبونها مع كتاب الله تعالى يوشك أن يغضب الله تعالى لكتابه فيسري عليه ليلاً لا يترك في قلب ولا ورق منه حرف إلا ذهب به فقيل: يا رسول الله فكيف بالمؤمنين والمؤمنات؟ قال: من أراد الله تعالى خيراً أبقى في قلبه لا إله إلا الله "

وأخرج ابن أبـي حاتم والحاكم وصححه عن أبـي هريرة قال: يسري على كتاب الله تعالى فيرفع إلى السماء فلا يبقى في الأرض آية من القرآن ولا من التوراة والإنجيل والزبور فينزع من قلوب الرجال فيصبحون في الضلالة لا يدرون ما هم فيه. وأخرج الديلمي عن ابن عمر مرفوعاً " لا تقوم الساعة حتى يرجع القرآن من حيث جاء له دوي حول العرش كدوي النحل فيقول الله عز وجل: مالك؟ فيقول منك خرجت وإليك أعود أتلى ولا يعمل بـي "؛ وأخرج محمد بن نصر نحوه موقوفاً على عبد الله بن عمرو بن العاص، وأخرج غير واحد عن ابن مسعود أنه قال: سيرفع القرآن من المصاحف والصدور، ثم قرأ
{ وَلَئِن شِئْنَا }
[الإسراء: 86] الآية، وفي «البهجة» أنه يرفع أولاً من المصاحف ثم يرفع لأعجل زمن من الصدور والذاهب به هو جبريل عليه السلام كما أخرجه ابن أبـي حاتم من طريق القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن جده فيا لها من مصيبة ما أعظمها وبلية ما أوخمها فإن دلت الآية على الذهاب به فلا منافاة بينها وبين هذه الأخبار وإذا دلت على إبقائه فالمنافاة ظاهرة إلا أن يقال: إن الإبقاء لا يستلزم الاستمرار ويكفي فيه إبقاؤه إلى قرب قيام الساعة فتدبر.

ومما يرشد إلى أن سوق الآية للامتنان قوله تعالى: { إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ } لم يزل ولا يزال { عَلَيْكَ كَبِيرًا } ومنه إنزال القرآن واصطفاؤه على جميع الخلق وختم الأنبياء عليهم السلام به وإعطاؤه المقام المحمود إلى غير ذلك وقال أبو سهل: أنها / سيقت لتهديد غيره صلى الله عليه وسلم بإذهاب ما أوتوا ليصدهم عن سؤال ما لم يؤتوا كعلم الروح وعلم الساعة. وقال صاحب «التحرير» يحتمل أن يقال: أنه صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الروح وذي القرنين وأهل الكهف وأبطأ عليه الوحي شق عليه ذلك وبلغ منه الغاية فأنزل الله تعالى هذه الآية تسكيناً له صلى الله عليه وسلم والتقدير أيعز عليك تأخر الوحي فإنا إن شئنا ذهبنا بما أوحينا إليك جميعه فسكن ما كان يجده صلى الله عليه وسلم وطاب قلبه انتهى، وكلا القولين كما ترى

وقال الرازى فى تفسيره:

{ إِلاَّ رَحْمَةً مّن رَّبّكَ } أي إلا أن يرحمك ربك فيرده عليك أو يكون على الاستثناء المنقطع بمعنى ولكن رحمة ربك تركته غير مذهوب به وهذا امتنان من الله ببقاء القرآن
 
الجوهرة الثانية والسبعون

سورة الكهف

{ وَإِذِ ٱعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ ٱللَّهَ فَأْوُوا إِلَى ٱلْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُمْ مِّرْفَقاً }

قال السمين الحلبي فى الدر المصون:

قوله: { وَمَا يَعْبُدُونَ } يجوز في " ما " ثلاثةُ أوجهٍ،

أحدُها: أَنْ تكونَ بمعنى الذي، والعائدُ مقدرٌ، أي: واعْتَزَلْتُم الذي يعبدونه. و " إلا الله " يجوز فيه أن يكونَ استثناءً متصلاً، فقد رُوي أنهم كانوا يعبدون اللهَ ويُشْرِكون به غيرَه، ومنقطعاً، فقد رُوي أنهم كانوا يعبدون الأصنام فقط. والمستثنى منه يجوز أن يكونَ الموصولَ، وأن يكون عائدَه، والمعنى واحد.

والثاني: أنها مصدريةٌ، أي: واعتزلتُمْ عبادَتهم، أي: تركتموها. و " إلا اللهَ " على حَذْفِ مضاف، أي: إلا عبادةَ اللهِ. وفي الاستثناء الوجهان المتقدمان.

الثالث: أنها نافيةٌ، وأنَّه مِنْ كلامِ الله تعالى، وعلى هذا فهذه الجملةُ معترضةٌ بين أثناءِ القصةِ وإليه ذهب الزمخشري. و { إِلاَّ ٱللَّهَ } استثناءٌ مفرغٌ أخبر الله عن الفتنةِ أنَّهم لا يعبدون غيرَه. وقال أبو البقاء: " والثالث: أنها حرفُ نفيٍ فيخرج في الاستثناء وجهان، أحدهما: هو منقطعٌ، والثاني: هو متصلٌ، والمعنى: وإذ اعتزلتموهم إلا الله وما يعبدون إلا اللهََ " قلت: فظاهرُ هذا الكلامِ: أن الانقطاعَ والاتصالَ في الاستثناءِ مترتبان على القولِ بكون " ما " نافيةً، وليس الأمرُ كذلك.

وقال الالوسي فى تفسيره:
و { مَا } يحتمل أن تكون موصولة وأن تكون مصدرية، والعطف في الاحتمالين على الضمير المنصوب،

والظاهر أن الاستثناء فيهما متصل، ويقدر على الاحتمال الثاني مضاف في جانب المستثنى ليتأتى الاتصال، أي وإذ اعتزلتموهم واعتزلتم الذين يعبدونهم إلا الله تعالى أو إذا اعتزلتموهم واعتزلتم عبادتهم إلا عبادة الله عز وجل، وتقدير مستثنى منه على ذلك الاحتمال لذلك نحو عبادتهم لمعبوديهم تكلف،

ويحتمل أن يكون منقطعاً،

وعلى الأول: يكون القوم عابدين الله تعالى وعابدين غيره كما جاء ذلك في بعض الآثار. أخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبـي حاتم وأبو نعيم عن عطاء الخراساني أنه قال: كان قوم الفتية يعبدون الله تعالى ويعبدون معه آلهة شتى فاعتزلت الفتية عبادة تلك الآلهة ولم تعتزل عبادة الله تعالى. وعلى الثاني: يكونون عابدين غيره تعالى فقط، قيل وهذا هو الأوفق بقوله تعالى أولاً:
{ هَٰؤُلاء قَوْمُنَا ٱتَّخَذْواْ مِن دُونِهِ ءالِهَةً }
[الكهف: 15] فتأمل.

وجوز أن تكون (ما) نافية والاستثناء مفرغ والجملة إخبار من الله تعالى عن الفتية بالتوحيد معترضة بين (إذ) وجوابه أعني قوله تعالى: { فَأْوُواْ } أي التجؤا { إِلَى ٱلْكَهْفِ } ووجه الاعتراض على ما في «الكشف» أن قوله تعالى: { وَإِذِ ٱعْتَزَلْتُمُوهُمْ } فأووا معناه وإذا اجتنبتم عنهم وعما يعبدون فأخلصوا له العبادة في موضع تتمكنون منه فدل الاعتراض على أنهم كانوا صادقين وأنهم أقاموا بما وصى به بعضهم بعضاً فهو يؤكد مضمون الجملة. وإلى كون { فَأْوُواْ } جواب (إذ) ذهب الفراء، وقيل: إنه دليل الجواب أي وإذا اعتزلتموهم اعتزالاً اعتقادياً فاعتزلوهم اعتزالاً جسمانياً أو إذا أردتم الاعتزال الجسماني فافعلوا ذلك.
 
الجوهرة الثالثة والسبعون

{ سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِٱلْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآءً ظَاهِراً وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِّنْهُمْ أَحَداً }

قال القرطبي فى تفسيره

قوله تعالى: { فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآءً ظَاهِراً } أي لا تجادل في أصحاب الكهف إلا بما أوحيناه إليك؛ وهو ردّ علم عدتهم إلى الله تعالى. وقيل: معنى المراء الظاهر أن تقول: ليس كما تقولون، ونحو هذا، ولا تحتج على أمر مقدّر في ذلك. وفي هذا دليل على أن الله تعالى لم يبيّن لأحد عددهم فلهذا قال { إِلاَّ مِرَآءً ظَاهِراً } أي ذاهباً؛ كما قال:
وتـلك شَكَـاةٌ ظاهـرٌ عنـك عارُهـا
ولم يبح له في هذه الآية أن يماري؛ ولكن قوله: «إلاّ مراءً» استعارة من حيث يماريه أهل الكتاب. سميت مراجعته لهم مراء ثم قيد بأنه ظاهر؛ ففارق المراء الحقيقي المذموم. والضمير في قوله: «فيهم» عائد على أهل الكهف. وفي قوله «منهم» عائد على أهل الكتاب المعارضين. وقوله: { فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ } يعني في عدتهم؛ وحذفت العدّة لدلالة ظاهر القول عليها.

وقال الماتريدى فى تاويلات اهل السنة

ثم اختلف في قوله: { فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآءً ظَاهِراً }:

قال بعضهم: ذلك في أمر أصحاب الكهف، أي: لا تمار فيهم ولا تستفت فيهم منهم إلا قدر ما كان في كتبهم، فإنك لو ماريتهم بما ليس في كتابهم كذبوك، ولكن قدر ما في كتبهم؛ هذا كان على المسألة، فإن كان على غير المسألة في غير أمر أصحاب الكهف على ابتداء المحاجة والحجاج فهو يحتمل وجهين:

أحدهما: أي: لا تمار فيهم إلا بما هو أظهر ويعرفون ذلك ظاهراً، من نحو ما يعرفون أن الأصنام التي عبدوها لا تنفع ولا تضر ولا تبصر ولا تسمع، ونحو ذلك مما يعرفون أنها كذلك.

والثاني: لا تحاجهم بلطائف الحكمة ودقائقها، ولكن بشيء محسوس ظاهر من الآية، لا بما يلطف ويدق، على ما يحاجهم الأنبياء بآيات حسيات.
 
الجوهرة الرابعة والسبعون

{ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ وَٱذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَىٰ أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَـٰذَا رَشَداً }

قال السمين الحلبي فى الدر المصون

قوله تعالى: { إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ }: قاله أبو البقاء: " في المستثنى منه ثلاثةُ أوجهٍ،

أحدُها: هو مِنَ النَّهْيِ. والمعنى: لا تقولَنَّ: أفعل غداً، إلا أَنْ يُؤْذَنَ لك في القول.

الثاني: هو من " فاعلٌ " ، أي: لا تقولَنَّ إني فاعلٌ غداً حتى تَقْرِنَ به قولَ " إن شاء الله ".

والثالث: أنه منقطعٌ. وموضعُ " أَنْ يشاء اللهُ " نصبٌ على وجهين، أحدُهما على الاستثناءِ، والتقدير: لا تقولَنَّ ذلك في وقتٍ إلا وقتَ أنْ يشاء الله، أي: يَأْذَنَ، فحذف الوقتَ وهو مُرادٌ. والثاني: هو حالٌ والتقدير: لا تقولَنَّ أفعل غداً إلا قائلاً: إن شاء الله، وحَذْفُ القولِ كثيرٌ، وجَعَل قولَه إلا أن يشاء في معنى: إن شاء وهو ممَّا حُمِلَ على المعنى. وقيل: التقدير إلا بأَنْ يشاءَ اللهُ، أي: ملتبساً بقولِ: " إن شاء الله ".

قلت: قد رَدَّ الزمخشريُّ الوجهَ الثاني، فقال: " إلا أَنْ يشاء " متعلقٌ بالنهي لا بقولِه " إنِّي فاعلٌ " لأنَّه لو قال: إني فاعلٌ كذا إلا أَنْ يشاء اللهُ كان معناه: إلا أن تَعْتَرِضَ مشيئةُ اللهِ دونَ فِعْلِه، وذلك ممَّا لا مَدْخَلَ فيه للنهي ". قلت: يعني أنَّ النهي عن مثلِ هذا المعنى لا يَحْسُن.

ثم قال: " وتعلُّقُه بالنهي مِنْ وجهين،

أحدهما: ولا تقولنَّ ذلك القولَ إلا أَنْ يشاءَ الله أَنْ تقولَه بأَنْ يَأْذَنَ لك فيه.

والثاني: ولا تقولَنَّه إلا بأَنْ يشاءَ الله أَي: إلا بمشيئته، وهو في موضعِ الحال، أي: ملتبساً بمشيئةِ الله قائلاً إنْ شاء الله.

وفيه وجهٌ ثالث: وهو أَنْ يكونَ " إلا أَنْ يشاء " في معنى كلمةِ تأبيد كأنَّه قيل: ولا تقولَنَّه أبداً، ونحوُه:
{ وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ رَبُّنَا }
[الأعراف: 89] لأنَّ عَوْدَهم في ملَّتِهم ممَّا لم يَشَأ الله ".

وهذا الذي ذكره الزمخشريُّ قد رَدَّه ابنُ عطية بعد أنْ حكاه عن الطبري وغيرِه ولم يوضِّح وجهَ الفسادِ.

وقال الشيخ: " وإلا أَنْ يشاءَ اللهُ استثناءٌ لا يمكن حَمْلُه على ظاهرِه، لأنه يكونُ داخلاً تحت القول فيكونُ من المقول، ولا ينهاه اللهُ أَنْ يقول: إني فاعل ذلك غداً إلا أَنْ يشاءَ اللهُ، لأنه كلامٌ صحيحٌ في نفسِه لا يمكنُ أَنْ يَنْهى عنه، فاحتيج في تأويلِ هذا الظاهرِ إلى تقديرٍ. فقال ابن عطية: " في الكلامِ حَذْفٌ يَقْتضيه الظاهرُ، ويُحَسِّنه الإيجازُ، تقديرُه: إلا أَنْ تقولَ: إلا أَنْ يشاءَ الله، أو إلا أَنْ تقولَ: إنْ شاء الله. والمعنى: إلا أَنْ تذكُرَ مشيئةَ الله، فليس " إلا أن يشاءَ اللهُ " من القولِ الذي نَهَى عنه ".

وقال الالوسي فى تفسيره:

{ إِلاَّ أَن يَشَاء ٱللَّهُ } استثناء متعلق بالنهي على ما اختاره جمع من المحققين، وقول ابن عطية اغتراراً برد / الطبري ((إنه من الفساد بحيث كان الواجب أن لا يحكى)) خروج عن الإنصاف، وهو مفرغ من أعم الأحوال. وفي الكلام تقدير باء للملابسة داخلة على أن والجار والمجرور في موضع الحال أي لا تقولن ذلك في حال من الأحوال إلا حال ملابسته بمشيئة الله عز وجل بأن تذكر. قال في «الكشف»: إن التباس القول بحقيقة المشيئة محال فبقي أن يكون بذكرها وهو إن شاء الله تعالى ونحوه مما يدل على تعليقه الأمور بمشيئة الله تعالى. ورد بما يصلح أن يكون تأييداً لا رداً، وجوز أن يكون المستثنى منه أعم الأوقات أي لا تقولن ذلك في وقت من الأوقات إلا في وقت مشيئة الله تعالى ذلك القول منك، وفسرت المشيئة على هذا بالإذن لأن وقت المشيئة لا يعلم إلا بإعلامه تعالى به وإذنه فيه فيكون مآل المعنى لا تقولن إلا بعد أن يؤذن لك بالقول. وجوز أيضاً أن يكون الاستثناء منقطعاً، والمقصود منه التأبيد أي ولا تقولن ذلك أبداً، ووجه ذلك في «الكشف» بأنه نهي عن القول إلا وقت مشيئة الله تعالى وهي مجهولة فيجب الانتهاء أبداً، وأشار إلى أنه هو مراد الزمخشري لا ما يتوهم من جعله مثل قوله تعالى:
{ وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلا أَن يَشَاء ٱللَّهُ }
[الأعراف: 89] من أن التأبيد لعدم مشيئته تعالى فعل ذلك غداً لقبحه كالعود في ملة الكفر لأن القبح فيما نحن فيه على إطلاقه غير مسلم، والتخصيص بما يتعلق بالوحي على معنى لا تقولن فيما يتعلق بالوحي إني أخبركم به إلا أن يشاء الله تعالى والله تعالى لم يشأ أن تقوله من عندك فإذاً لا تقولنه أبداً يأباه النكرة في سياق النهي المتضمن للنفي والتقييد بالمستقبل، وأن قوله:
{ فَاعِلٌ ذٰلِكَ غَداً }
[الكهف: 23] أي مخبر عن أمر يتعلق بالوحي غداً غير مؤذن بأن قوله في الغد يكون من عنده لا عن وحي فالتشبيه في أن الاستثناء بالمشيئة استعمل في معرض التأبيد وإن كان وجه الدلالة مختلفاً أخذاً من متعلق المشيئة تارة ومن الجهل بها أخرى، ولا يخفى أن الظاهر في الآية الوجه الأول وأن أمته صلى الله عليه وسلم وهو في الخطاب الذي تضمنته سواء مخصوصاً بالنبـي صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز أن يكون الاستثناء متعلقاً بقوله تعالى:
{ إِنّى فَاعِلٌ }
[الكهف: 23] بأن يكون استثناء مفرغاً مما في حيزه من أعم الأحوال أو الأوقات لأنه حينئذ إما أن تعتبر تعلق المشيئة بالفعل فيكون المعنى إني فاعل في كل حال أو في كل وقت إلا في حال أو وقت مشيئة الله تعالى الفعل وهو غير سديد أو يعتبر تعلقها بعدمه فيكون المعنى إني فاعل في كل حال أو في كل وقت إلا في حال أو وقت مشيئة الله تعالى عدم الفعل، ولا شبهة في عدم مناسبته للنهي بل هو أمر مطلوب.

وقال الخفاجي: إذا كان الاستثناء متعلقاً بِـ
{ إِنّى فَاعِلٌ }
[الكهف: 23] والمشيئة متعلقة بالعدم صار المعنى إني فاعل في كل حال إلا إذا شاء الله تعالى عدم فعلي وهذا لا يصح النهي عنه، أما على مذهب أهل السنة فظاهر، وأما على مذهب المعتزلة فلأنهم لا يشكون في أن مشيئة الله تعالى لعدم فعل العبد الاختياري إذا عرضت دونه بإيجاد ما يعوق عنه من الموت ونحوه منعت عنه وإن لم تتعلق عندهم بإيجاده وإعدامه، وكذا لا يصح النهي إذا كانت المشيئة متعلقة بالفعل في المذهبين، فما قيل: إن تعلق الاستثناء بما ذكر صحيح والمعنى عليه النهي عن أن يذهب مذهب الاعتزال في خلق الأعمال فيضيفها لنفسه قائلاً إن لم تقترن مشيئة الله تعالى بالفعل فأنا فاعله استقلالاً فإن اقترنت فلا لا يخفى ما فيه على نبيه فتأمل.

وقد شاع الاعتراض على المعتزلة في زعمهم أن المعاصي واقعة من غير إرادة الله تعالى ومشيئته وإنه تعالى لا يشاء إلا الطاعات بأنه لو كان كذلك لوجب فيما إذا قال الذي عليه دين لغيره قد طالبه به والله لأعطيتك حقك غداً إن شاء الله تعالى أن يكون حانثاً إذا لم يفعل لأن الله تعالى قد شاء ذلك لكونه طاعة وإن لم يقع فتلزمه الكفارة عن يمينه ولم ينفعه الاستثناء / كما لو قال: والله لأعطينك إن قام زيد فقام ولم يفعل، وفي التزام الحنث في ذلك خروج عن الإجماع. وقد أجاب عنه المرتضى بأن للاستثناء الداخل في الكلام وجوهاً مختلفة فقد يدخل في الأيمان والطلاق والعتاق وسائر العقود وما يجري مجراها من الأخبار وهذا يقتضي التوقف عن إمضاء الكلام والمنع من لزوم ما يلزم به ويصير به الكلام كأنه لا حكم له، ويصح في هذا الوجه الاستثناء في الماضي فيقال: قد دخلت الدار إن شاء الله تعالى ليخرج بذلك من أن يكون خبراً قاطعاً أو يلزم به حكم، ولا يصح في المعاصي لأن فيه إظهار الانقطاع إلى الله تعالى والمعاصي لا يصلح ذلك فيها قال: وهذا الوجه أحد محتملات الآية، وقد يدخل في الكلام ويراد به التسهيل والإقدار والتخلية والبقاء على ما هو عليه من الأحوال وهذا هو المراد إذا دخل في المباحات وهو ممكن في الآية، وقد يدخل لمجرد غرض الانقطاع إلى الله تعالى ويكون على هذا غير معتد به في كون الكلام صادقاً أو كاذباً وهو أيضاً ممكن في الآية، وقد يدخل ويراد به اللطف والتسهيل وهذا يختص بالطاعات ولا يصح أن تحمل الآية عليه لأنها تتناول كل ما لم يكن قبيحاً.

وقول المديون السابق إن قصد به هذا المعنى لا يلزم منه الحنث إذا لم يفعل، ويدين المديون وغيره إن ادعى قصد ما لا يلزمه فيه شيء فلا ورود لما اعترضوا به، والإنصاف أن الاعتراض ليس بشيء والرد عليهم غني عن مثل ذلك.

هذا ثم اعلم أن إطلاق الاستثناء على التقييد بإِن شاء الله تعالى بل على التقييد بالشرط مطلقاً ثابت في اللغة والاستعمال كما نص عليه السيرافي في «شرح الكتاب». وقال الراغب: الاستثناء دفع ما يوجبه عموم سابق كما في قوله تعالى:
{ قُل لا أَجِدُ فِي مَآ أُوحِىَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَن يَكُونَ مَيْتَةً }
[الأنعام: 145] الخ أو دفع ما يوجبه اللفظ كقوله: امرأته طالق إن شاء الله تعالى انتهى.

وفي الحديث " من حلف على شيء فقال: إن شاء الله تعالى فقد استثنى " فما قيل: إن كلمة إن شاء الله تعالى تسمى استثناء لأنه عبر عنها هنا بقوله سبحانه: { إِلاَّ أَن يَشَاء ٱللَّهُ } ليس بسديد فكذا ما قيل: إنها أشبهت الاستثناء في التخصيص فأطلق عليها اسمه كذا قال الخفاجي، ولا يخفى أن في الحديث نوع إباء لدعوى أن إطلاق الاستثناء على التقييد بإِن شاء الله تعالى لغوي لأنه صلى الله عليه وسلم لم يبعث لإفادة المدلولات اللغوية بل لتبليغ الأحكام الشرعية فتذكر

وقال ابن الجوزى فى زاد المسير

قوله تعالى: { ولا تقولَنَّ لشيء إِني فاعل ذلك غداً إِلا أن يشاء الله } سبب نزولها أن قريشاً سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذي القرنين، وعن الرُّوح، وعن أصحاب الكهف، فقال: غداً أخبركم بذلك، ولم يقل: إِن شاء الله، فأبطأ عليه جبريل خمسة عشر يوماً لتركه الاستثناء، فشقَّ ذلك عليه، ثم نزلت هذه الآية، قاله أبو صالح عن ابن عباس. ومعنى الكلام: ولا تقولن لشيء: إِني فاعل ذلك غداً، إِلا أن تقول: إِن شاء الله، فحذف القول.
 
الجوهرة الخامسة والسبعون

سورة مريم

{ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَٱتَّبَعُواْ ٱلشَّهَوَٰتِ فَسَوْفَ يَلْقَونَ غَيّاً } * { إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَـٰئِكَ يَدْخُلُونَ ٱلْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً }

قال السمين الحلبي فى الدر المصون:

قوله تعالى: { إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ }: فيه وجهان، أظهرهما: أنه استثناءٌ متصلٌ. وقال الزجاج: " هو منقطعٌ " وهذا بناءً منه على أنَّ المُضَيِّعَ للصلاة من الكفار.

وقال ابن عطية فى المحرر الوجيز:
وقوله { إلا من تاب } استثناء يحتمل الاتصال والانقطاع، وقوله { وآمن } يقتضي أن الإضافة أولاً هي إضاعة كفر هذا مع اتصال الاستثناء، وعليه فسر الطبري

وقال الالوسي فى تفسيره:

{ إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ صَـٰلِحاً } استثناء منقطع عند الزجاج. وقال في «البحر»: ظاهره الاتصال، وأيد بذكر الإيمان كون الآية في الكفرة أو عامة لهم ولغيرهم لأن من آمن لا يقال إلا لمن كان كافراً إلا بحسب التغليظ، وحمل الإيمان على الكامل خلاف الظاهر، وكذا كون المراد إلا من جمع التوبة والإيمان، وقيل: المراد من الإيمان الصلاة كما في قوله تعالى:
{ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَـٰنَكُمْ }
[البقرة: 143] ويكون ذكره في مقابلة إضاعة الصلاة وذكر العمل الصالح في مقابلة اتباع الشهوات
 
الجوهرة السادسة والسبعون

{ لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلاَّ سَلاَماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً }
قال السمين الحلبي فى الدر المصون
قوله: { إِلاَّ سَلاَماً }: أبدى الزمخشريُّ فيه ثلاثةَ أوجهٍ

أحدُها: أَنْ يكونَ معناه: إنْ كان تَسْلِيمُ بعضِهم على بعض - أو تسليمُ الملائكة عليهم - لغواً، فلا يسمعون لغواً إلى ذلك فهو مِنْ وادي قولِه:
3234- ولا عيبَ فيهم غيرَ أنَّ سيوفَهم بهنَّ فُلولٌ من قراعِ الكتائبِ
الثاني: أنهم لا يَسْمعون فيها إلا قولاً يَسْلَمون فيه من العيبِ والنقيصةِ، على الاستثناء المنقطع.

الثالث: أنَّ معنى السلامِ هو الدعاءُ بالسلامةِ، ودارُ السلام هي دارُ السلامةِ، وأهلُها عن الدعاءِ بالسلامةِ أغنياءُ، فكان ظاهرُه من باب اللَّغْوِ وفُضولِ الحديث، لولا ما فيه من فائِدةِ الإكرامِ.

قلت: ظاهرُ هذا أنَّ الاستثناء على الأول وأخر متصلٌ؛ فإنه صَرَّح بالمنقطع في الثاني.

أمَّا اتصالُ الثالثِ فواضحٌ، لأنه أَطْلَقَ اللغوَ على السلامِ بالاعتبارِ الذي ذكره،

وأمَّا الاتصالُ في الأولِ فَعَسِرٌ؛ إذ لا يُعَدُّ ذلك عيباً، فليس من جنس الأول، وسيأتي تحقيقُ هذا إنْ شاء الله تعالى عند قولِه تعالى
{ لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا ٱلْمَوْتَ إِلاَّ ٱلْمَوْتَةَ ٱلأُولَىٰ }
[الدخان: 56].
 
الجوهرة السابعة والسبعون

{ لاَّ يَمْلِكُونَ ٱلشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنِ ٱتَّخَذَ عِندَ ٱلرَّحْمَـٰنِ عَهْداً }

قال السمين الحلبي فى الدر المصون

قوله: { لاَّ يَمْلِكُونَ }: في هذه الجملةِ وجهان، أحدهما: أنها مستأنفةٌ سِيْقت للإِخبارِ بذلك. والثاني: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال ممَّا تقدَّم.

وفي هذه الواوِ قولان، أحدهما: أنها علامةٌ للجمع ليسَتْ ضميراً البتَة، وإنما هي علامةٌ كهي في لغةِ " أكلوني البراغيث " والفاعلُ " مِنْ اتَّخَذَ " لأنه في معنى الجمع. قاله الزمخشري. وفيه بُعْدٌ، وكأنه قيل: لا يملك الشفاعةَ إلا المتخذون عَهْداً. قال الشيخ: " ولا ينبغي حَمْلُ القرآنِ على هذه اللغةِ القليلةِ مع وضوحِ جَعْلِ الواوِ ضميراً. وقد قال الأستاذ أبو الحسن ابنُ عصفور: إنها لغة ضعيفة ".

قلت: قد قالوا ذلك في قوله تعالى:
{ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ }
[المائدة: 71]
{ وَأَسَرُّواْ ٱلنَّجْوَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ }
[الأنبياء: 3] فلهذا الموضعِ بهما أُسْوَةٌ.

ثم قال الشيخ: " وأيضاً فالألفُ والواوُ والنونُ التي تكون علاماتٍ لا ضمائرَ لا يُحْفَظُ ما يجيءُ بعدها فاعلاً إلا بصريح الجمع وصريحِ التثنية أو العطفِ، أمَّا أنْ يأتيَ بلفظٍ مفردٍ، ويُطلَقَ على جمع أو مثنى، فيُحتاج في إثباتِ مثلِ ذلك إلى نَقْلِ. وأمَّا عُوْدُ الضمائرِ مثناةً أو مجموعةً على مفردٍ في اللفظِ يُراد به المثنى والمجموعُ فمسموعٌ معروفٌ في لسانِ العرب، على أنه يمكنُ قياسُ هذه العلاماتِ على تلك الضمائرِ، ولكن الأَحْوَطَ أن لا يُقال إلا بسماعٍ ".

والثاني: أن الواوَ ضميرٌ. وفيما تعود عليه حينئذٍ أربعةُ أوجهٍ،

أحدُها: انها تعودُ على الخَلْق جميعِهم لدلالة ذِكْر الفريقين - المُتَّقين والمجرمين - عليهم، إذ هما قِسْماه.

والثاني: أنه يعودُ على المتقين والمجرمين، وهذا لا تظهر مخالفتُه للأولِ أصلاً لأنَّ هذين القسمين هما الخَلْقُ كله.

والثالث: أنه يعودُ على المُتَّقين فقط أو المجرمين فقط، وهو تَحَكُّمٌ. قوله: { إِلاَّ مَنِ ٱتَّخَذَ } هذا الاستثناءُ يترتيب على عَوْدِ الواو على ماذا؟ فإنْ قيل بأنَّها تعودُ على الخَلْقِ أو على الفريقَيْن المذكورَيْن أو على المتَّقين فقط فالاستثناءُ حينئذٍ متصلٍ.

وفي محلِّ المستثنى الوجهان المشهوران: إمَّا على الرفعُ على البدلِ، وإمَّا النصبُ على أصلِ الاستثناء. وإنْ قيل: إنه يعودُ على المجرمينَ فقط كان استثناءً منقطعاً، وفيه حينئذٍ اللغتان المشهورتان: لغةُ الحجازِ التزامُ النصبِ، ولغةُ تميمٍ جوازُه مع جوازِ البدلِ كالمتصل.

وجَعَلَ الزمخشريُّ هذا الاستثناء من " الشفاعة " على حَذْفِ مضافٍ تقديرُه: لا يملكونَ الشفاعةَ إلا شفاعةَ مَنِ اتَّخذ، فيكون نصبُه على وَجْهَي البدلِ وأصلِ الاستثناء، نحو: " ما رأيت أحداً إلا زيداً ". وقال بعضُهم: إن المستثنى منه محذوفٌ والتقديرُ: لا يملكون الشفاعةَ لأحدٍ لِمَن اتَّخَذَ عند الرحمن عَهْداً، فَحُذِفَ المستثنى منه للعلم به فهو كقول الآخر:
3259- نجا سالمٌ والنفسُ منه بِشِدْقِهِ ولم يَنْجُ إلا جَفْنَ سَيْفٍ ومِئْزَرا
أي: ولم يَنْجُ شيءٌ.

وجَعَلَ ابنُ عطية الاستثناءَ متصلاً وإن عاد الضميرُ في { لاَّ يَمْلِكُونَ } على المجرمين فقط على أَنْ يُراد بالمجرمين الكفرةُ والعُصاةُ من المسلمين. قال الشيخ: " وحَمْلُ المجرمين على الكفارِ والعُصاة بعيدٌ ". قلت: ولا بُعْدَ فيه، وكما اسْتَبْعَدَ إطلاقَ المجرمين على العصاة كذلك يَسْتَبعد غيرُه إطلاقَ المُتَّقين على العُصاة، بل إطلاقُ المجرمِ على العاصي أشهرُ مِنْ إطلاقِ المتَّقي عليه.

وقال ابن كثير فى تفسيره

وقوله: { وَنَسُوقُ ٱلْمُجْرِمِينَ إِلَىٰ جَهَنَّمَ وِرْداً } أي: عطاشاً { لاَّ يَمْلِكُونَ ٱلشَّفَـٰعَةَ } أي: ليس لهم من يشفع لهم كما يشفع المؤمنون بعضهم لبعض، كما قال تعالى مخبراً عنهم:
{ فَمَا لَنَا مِن شَـٰفِعِينَ وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ }
[الشعراء: 100 -101]. وقوله: { إِلاَّ مَنِ ٱتَّخَذَ عِندَ ٱلرَّحْمَـٰنِ عَهْداً } هذا استثناء منقطع، بمعنى: لكن من اتخذ عند الرحمن عهداً، وهو شهادة أن لا إله إلا الله، والقيام بحقها.
 
الجوهرة الثامنة والسبعون

سورة طه

{ إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ }

قال الالوسي فى تفسيره
{ إِلاَّ تَذْكِرَةً } نصب على الاستثناء المنقطع أي ما أنزلناه لشقائك لكن تذكيراً ...

وكون الآية نظير ما ضربتك للتأديب إلا اشفاقاً مما يشهد به الذوق، ويجوز أن تكون حالاً من الكاف أو
{ ٱلْقُرْءانَ }
[طه: 2] والاستثناء مفرغ، والمصدر مؤول بالصفة أو قصد به المبالغة. وجوز الحوفي كونها بدلاً من
{ ٱلْقُرْءانَ }
[طه: 2] والزجاج كونها بدلاً من محل
{ لِتَشْقَىٰ }
[طه: 2] لأن الاستثناء من غير الموجب يجوز فيه الإبدال. وتعقب بأن ذلك إذا كان متصلاً بأن كان المستثنى من جنس المستثنى منه والبدلية حينئذ البدلية البعضية في المشهور، وقيل: بدلية الكل من الكل، ولا يخفى عدم تحقق ذلك بين التذكرة والشقاء. والقول ببدلية الاشتمال في مثل ذلك لتصحيح البدلية هنا بناء على أن التذكرة تشتمل على التعب مما لم يقله أحد من النحاة
 
الجوهرة التاسعة والسبعون

سورة الانبياء

{ لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ ٱللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ ٱللَّهِ رَبِّ ٱلْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ }
قال السمين الحلبي فى الدر المصون
قوله: { إِلاَّ ٱللَّهُ }: " إلاَّ " هنا صفةٌ للنكرة قبلها بمعنى " غَيْر ". والإِعرابُ فيها متعذَّر، فَجُعِل على ما بعدها. وللوصفِ بها شروطٌ منها: تنكيرُ الموصوفِ، أو قُرْبُه من النكرة بأَنْ يكونَ معرفاً بأل الجنسية. ومنها أَنْ يكونَ جمعاً صريحاً كالآية، أو ما في قوةِ الجمعِ كقوله:
3334ـ لو كان غيري سُلَيْمى اليومَ غيَّره وَقْعُ الحوادِثِ إلاَّ الصارمُ الذَّكَرُ
فـ " إلاَّ الصارِمُ " صفةُ لغيري لأنه في معنى الجمع. ومنها أَنْ لا يُحْذَفَ موصوفُها عكسَ " غير ". وقد أَتْقَنَّا هذا كلَّه في " إِيضاحِ السبيل إلى شرح التسهيل " فعليك به. وأنشد سيبويهِ على ذلك قولَ الشاعر:
3335ـ وكلُّ أخٍ مُفارِقُه أخُوه لَعَمْرُ أبيكَ إلاَّ الفرقدانِ
أي: وكلُّ أخٍ غيرُ الفرقدين مفارِقُه أخوه. وقد وقع الوصفُ بـ إلاَّ كما وقع الاستثناء بـ " غير " ، والأصلُ في " إلاَّ " الاستثناءُ وفي " غير " الصفةُ. ومن مُلَحِ كلامِ أبي القاسم الزمخشري: " واعلم أنَّ " إلاَّ " وغير يَتَقَارضان ".

ولا يجوزُ أَنْ ترتفعَ الجلالةُ على البدل مِنْ " آلهة " لفسادِ المعنى. قال الزمخشري: " فإن قلت: ما مَنَعك من الرفع على البدل؟ قلت: لأنَّ " لو " بمنزلةِ " إنْ " في أنَّ الكلامَ معها موجَبٌ، والبدلُ لا يَِسُوغ إلاَّ في الكلام غيرِ الموجبِ كقوله تعالىٰ: { وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ ٱمْرَأَتُكَ } [هود: 81] وذلك لأنَّ أعمَّ العامِّ يَصِحُّ نفيُه ولا يَصِحُّ إيجابُه ". فجعل المانعَ صناعياً مستنداً إلى ما ذُكِر مِنْ عدم صحةِ إيجاب أعمِّ العام.

وأحسنُ مِنْ هذا ما ذكره أبو البقاء مِنْ جهة المعنىٰ فقال: " ولا يجوزُ أَنْ يكونَ بدلاً، لأنَّ المعنىٰ يصيرُ إلى قولك: لو كان فيهما اللهُ لَفَسَدَتا، ألا ترىٰ أنَّك لو قلت: " ما/ جاءني قومُك إلاَّ زيدٌ " على البدلِ لكان المعنىٰ: جاءني زيدٌ وحدَه. ثم ذكر الوجه الذي رَدَّ به الزمخشريُّ فقال: " وقيل: يمتنعُ البدلُ لأنَّ قبلها إيجاباً ". ومنع أبو البقاء النصبَ على الاستثناء لوجهين، أحدُهما: أنه فاسدٌ في المعنىٰ، وذلك أنك إذا قلتَ: " لو جاءني القومُ إلاَّ زيداً لقتلتُهم " كان معناه: أنَّ القَتْلَ امتنع لكونِ زيدٍ مع القوم. فلو نُصِبَتْ في الآية لكان المعنىٰ: إنَّ فسادَ السماواتِ والأرض امتنع لوجود الله تعالى مع الآلهة. وفي ذلك إثباتُ إلهٍ مع الله. وإذا رُفِعَتْ على الوصفِ لا يلزمُ مثلُ ذلك؛ لأنَّ المعنىٰ: لو كان فيهما غيرُ اللهِ لفسدتا. والوجهُ الثاني: أنَّ آلهة هنا نكرةٌ، والجمعُ إذا كان نكرةً لم يُسْتثنَ منه عند جماعةٍ من المحققين؛ إذ لا عمومَ له بحيث يدخلُ فيه المستثنىٰ لولا الاستثناءُ ".
وهذا الوجهُ الذي منعاه ـ أعني الزمخشري وأبا البقاء ـ قد أجازه أبو العباس المبرد وغيره: أمَّا المبردُ فإنه قال: " جاز البدلُ لأنَّ ما بعد " لو " غيرُ موجَبٍ في المعنىٰ. والبدلُ في غير الواجبِ أحسنُ من الوصفِ. وفي هذه نظرٌ من جهة ما ذكره أبو البقاء من فسادِ المعنىٰ.

وقال ابنُ الضائعِ تابعاً للمبرد: لا يَصِحُّ المعنى عندي إلاَّ أن تكون " إلاَّ " في معنى " غير " التي يُراد بها البدلُ أي: لو كان فيهما آلهةٌ عِوَضَ واحدٍ أي بدل الواحد الذي هو الله لفسدتا. وهذا المعنى أرادَ سيبويه في المسألةِ التي جاء بها توطئةً.

وقال الشَّلَوْبين في مسألةِ سيبويه " لو كان معنا رجلٌ إلاَّ زيدٌ لَغُلِبْنا ": إنَّ المعنى: لو كانَ معنا رجلٌ مكانَ زيد لَغُلبنا، فـ " إلاَّ " بمعنى " غير " التي بمعنى مكان. وهذا أيضاً جنوحٌ من أبي عليّ إلى البدلِ. وما ذكره ابنُ الضائع من المعنى المتقدمِ مُسَوِّغٌ للبدل. وهو جوابٌ عَمَّا أَفْسَد به أبو البقاء وجهَ البدل، إذ معناه واضحٌ، ولكنه قريبٌ من تفسير المعنى لا من تفسيرِ الإِعراب.

وقال الرازى فى تفسيره

أما قوله تعالى: { لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَةٌ إِلاَّ ٱللَّهُ لَفَسَدَتَا } ففيه مسألتان:

المسألة الأولى: قال أهل النحو إلا ههنا بمعنى غير أي لو كان يتولاهما ويدير أمورهما شيء غير الواحد الذي هو فاطرهما لفسدتا، ولا يجوز أن يكون بمعنى الاستثناء لأنا لو حملناه على الإستثناء لكان المعنى لو كان فيهما آلهة ليس معهم الله لفسدتا وهذا يوجب بطريق المفهوم أنه لو كان فيهما آلهة معهم الله أن لا يحصل الفساد، وذلك باطل لأنه لو كان فيهما آلهة فسواء لم يكن الله معهم أو كان فالفساد لازم. ولما بطل حمله على الاستثناء ثبت أن المراد ما ذكرناه.
 
سورة الحج

الجوهرة الثمانون

ٱلَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ

وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا ٱسمُ ٱللَّه كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ }

قال السمين الحلبي فى الدر المصون

قوله: { إِلاَّ أَن يَقُولُواْ } فيه وجهان،

أحدهما: أنه منصوبٌ على الاستثناءِ المنقطع، وهذا ممَّا يُجْمِعُ العربُ على نصبه؛ لأنه منقطعٌ لا يمكنُ تَوَجُّهُ العاملِ إليه، وما كان كذا أجمعوا على نصبهِ، نحو: " ما زاد إلاَّ ما نقصَ " ، " وما نفعَ إلاَّ ما ضَرَّ ". فلو توجَّهَ العاملُ جاز فيه لغتان: النصبُ وهو لغةُ الحجاز، وأَنْ يكونَ كالمتصلِ في النصبِ والبدل نحو: " ما فيها أحدٌ إلاَّ حمارٌ " ، وإنما كانت الآيةُ الكريمةُ من الذي لا يتوجَّه عليه العاملُ؛ لأنك لو قلت: " الذين أُخْرِجوا مِنْ ديارهم إلا أَنْ يقولوا ربُّنا الله " لم يَصحَّ.

الثاني: أنه في محلِّ جر بدلاً من " حَقّ " قال الزمخشري: " أي بغير موجِبٍ سوى التوحيد الذي ينبغي أن يكون موجب الإِقرارِ والتمكينِ لا موجبَ الإِخراجِ والتسييرِ. ومثلُه:
{ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِٱللَّهِ }
[المائدة: 59].

وممَّنْ جَعَلَه في موضع جرٍّ بدلاً ممَّا قبله الزجاجُ. إلاَّ أن الشيخ قد رَدَّ ذلك فقال: " ما أجازاه من البدل لا يجوز؛ لأنَّ البدلَ لا يجوزُ إلاَّ حيث سبقه نفيٌ أو نهيٌ أو استفهامٌ في معنى النفي. وأمَّا إذا كان الكلام موجَباً أو أمراً فلا يجوزُ البدلُ؛ لأنَّ البدلَ لا يكون إلا حيثُ يكونُ العاملُ يَتَسَلَّطُ عليه. ولو قلت: " قام إلاَّ زيدٌ " ، و " لْيَضْرِبْ إلاَّ عمروٌ " لم يجز. ولو قلت في غير القرآن: " أُخْرِجَ الناسُ مِنْ ديارِهم إلاَّ بأَنْ يقولوا: لا إلهَ إلاَّ اللهُ " لم يكن كلاماً. هذا إذا تُخُيِّل أَنْ يكونَ { إِلاَّ أَن يَقُولُواْ } في موضعِ جرٍّ بدلاً من " غير " المضاف إلى " حَقٍّ ". وأمَّا إذا كان بدلاً من " حق " كما نَصَّ عليه الزمخشريُّ فهو في غايةِ الفسادِ؛ لأنه يَلْزَمُ منه أن يكونَ البدلُ يلي " غيراً " فيصير التركيبُ: بغير إلاَّ أَنْ يقولوا، وهذا لا يَصِحُّ، ولو قَدَّرْنا [إلاَّ] بـ " غير " كما/ يُقَدَّرُ في النفي في: " ما مررت بأحدٍ إلاَّ زيدٍ " فتجعلُه بدلاً لم يَصِحَّ؛ لأنه يصيرُ التركيبُ: بغير غيرِ قولِهم ربُّنا اللهُ، فتكون قد أضَفْتَ غيراً إلى " غير " وهي هي فيصير: بغير غير، ويَصِحُّّ في " ما مررتُ بأحدٍ إلاَّ زيدٍ " أن تقول: ما مررت بغير زيد، ثم إن الزمخشري حيث مَثَّل البدلَ قَدَّره: بغير موجبٍ سوى التوحيدِ، وهذا تمثيلٌ للصفة جَعَلَ [إلاَّ] بمعنى سِوَى، ويَصِحُّ على الصفةِ فالتبسَ عليه بابُ الصفة بباب البدل.ويجوز أن تقولَ: " مررتُ بالقومِ إلاَّ زيدٍ " على الصفة لا على البدل ".


وقال الالوسي فى تفسيره

وقوله تعالى: { إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ } استثناء متصل من { حَقّ } و(أن) وما بعدها في تأويل مصدر بدل منه لما في غير من معنى النفي، وحاصل المعنى لا موجب لإخراجهم إلا التوحيد وهو إذا أريد بالموجب الموجب النفس الأمري على حد قول النابغة:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
وجوز أن يكون الإبدال من غير وفي (أخرجوا) معنى النفي أي لم يقروا في ديارهم إلا بأن يقولوا الخ وهو كما ترى، وجوز أن يكون الاستثناء منقطعاً وأوجبه أبو حيان أي ولكن أخرجوا بقولهم ربنا الله، وأوجب نصب ما بعد (إلا) كما أوجبوه في قولهم: ما زاد إلا ما نقص وما نفع إلا ما ضر، ورد كونه متصلاً وكون ما بعد (إلا) بدلاً من { حَقّ } بما هو أشبه شيء بالمغالطة، ويفهم من كلامه جواز أن تكون (إلا) بمعنى سوى صفة لحق أي أخرجوا بغير حق سوى التوحيد، وحاصله أخرجوا بكونهم موحدين.

{ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِيۤ أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ ٱللَّهُ مَا يُلْقِي ٱلشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }

قال السمين الحلبي فى الدر المصون:
قوله: { إِلاَّ إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى ٱلشَّيْطَانُ }: في هذه الجملةِ بعد " إلاَّ " ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال من " رسول " والمعنى: وما أَرْسَلْناه إلاَّ حالُهُ هذه، والحالُ محصورةً. الثاني: أنها في محلِّ الصفةِ لـ " رسول " ، فيجوزُ أَنْ يُحْكَمَ على موضعها بالجرِّ باعتبارِ لفظِ الموصوف، وبالنصبِ باعتبارِ محلِّه؛ فإنَّ " مِنْ " مزيدةٌ فيه. الثالث: أنَّها في موضعِ استثناءٍ من غيرِ الجنس. قاله أبو البقاء. يعني أنه استثناءٌ منطقعٌ.

{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي ٱلأَرْضِ وَٱلْفُلْكَ تَجْرِي فِي ٱلْبَحْرِ

بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ ٱلسَّمَآءَ أَن تَقَعَ عَلَى ٱلأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ }

قال الالوسي فى تفسيره

{ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } أي بمشيئته، والاستثناء مفرغ من أعم الأسباب، وصح ذلك في الموجب قيل لصحة إرادة العموم أو لكون { يُمْسِكُ } فيه معنى النفي أي لا يتركها تقع بسبب من الأسباب كمزيد مرور الدهور عليها وكثقلها بما فيها إلا بسبب مشيئته وقوعها، وقيل: استثناء من أعم الأحوال أي لا يتركها تقع في حال من الأحوال إلا في كونها ملتبسة بمشيئته تعالى ولعل ما ذكرناه أظهر. وفي «البحر» أن الجار والمجرور متعلق بتقع، وقال ابن عطية: يحتمل أن يتعلق بيمسك لأن الكلام يقتضي بغير عمد ونحوه فكأنه أراد إلا بإذنه فبه يمسكها ولو كان كما قال لكان التركيب بدون إلا انتهى، ولعمري إن ما قاله ابن عطية لا يقوله من له أدنى روية كما لا يخفى، ثم إنه لا دلالة في الآية على وقوع الإذن بالوقوع، وقيل فيها إشارة إلى الوقوع وذلك يوم القيامة فإن السماء فيه تتشقق وتقع على الأرض، وأنا ليس في ذهني من الآيات أو الأخبار ما هو صريح في وقوع السماء على الأرض في ذلك اليوم وإنما هي صريحة في المور والانشقاق والطي والتبدل وكل ذلك لا يدل على الوقوع على الأرض فضلاً عن أن يكون صريحاً فيه.
 
الجوهرة الواحدة والثمانون

سورة المؤمنون

{ وَٱلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ } * { إِلاَّ عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ }

قال السمين الحلبي فى تفسيره
قوله: { إِلاَّ عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ } فيه أوجهٌ،

أحدُها: أنَّه متعلقٌ بـ " حافِظون " على التضمين. يعني مُمْسِكين أو قاصِرين. وكلاهما يتعدَّىٰ بـ على. قال تعالىٰ:
{ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ }
[الأحزاب: 37]

الثاني: أن " على " بمعنى " مِنْ " أي: إلاَّ مِنْ أزواجهم. فـ " على " بمعنى " مِنْ " ، كما جاءَتْ " مِنْ " بمعنى " على " في قوله
{ وَنَصَرْنَاهُ مِنَ ٱلْقَوْمِ }
[الأنبياء: 77]، وإليه ذَهَب الفراءُ.

الثالث: أَنْ يكونَ في موضع نصبٍ على الحالِ. قال الزمخشري: أي إلاَّ والين على أزواجِهم أو/ قَوَّامين عليهنَّ. مِنْ قولِك: كان فلان على فلانةَ فمات عنها، فخلف عليها فلانٌ. ونظيرُه: كان زيادٌ على البصرة أي: والياً عليها. ومنه قولُهم: " ثلاثةٌ تحت فلان، ومِنْ ثَمَّ سُمِّيَتْ المرأةُ فِراشاً ".

الرابع: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ يَدُلُّ عليه " غيرُ مَلومين ". قال الزمخشري: " كأنه قيل: يُلامُون إلاَّ على أزواجِهم أي: يلامون على كلِّ مباشِر إلاَّ على ما أُطْلِقَ لهم فإنهم غيرُ ملومين عليه ". قلت: وإنما لم يَجْعَلْه متعلقاً بـ " ملومين " لوجهين.

أحدهما: أنَّ ما بعد " إنَّ " لا يَعْمل فيما قبلها

والثاني: أنَّ المضافَ إليه لا يَعْمل فيما قبلَ المضاف، ولفسادِ المعنىٰ أيضاً.

الخامس: أَنْ يُجْعل صلةً لحافظين. قال الزمخشري: " مِنْ قولِك: احفَظْ عَلَيَّ عِنَانَ فرسي " ، على تضمينِه معنى النفي كما ضُمِّن قولُهم: " نَشَدْتُك باللهِ إلاَّ فَعَلْتَ " معنى: ما طَلَبْتُ منك إلاَّ فِعْلَك. يعني: أَنَّ صورتَه إثباتُ ومعناه نفيٌ.

قال الشيخ بعدما ذكَرْتُه عن الزمخشري: " وهذه وجوهٌ متكلَّفَةٌ ظاهرٌ فيها العُجْمَةُ " قلت: وأيُّ عُجْمَةٍ في ذلك؟ على أنَّ الشيخَ جعلها متعلقةً بـ " حافظون " على ما ذكره مِنَ التضمين. وهذا لا يَصِحُّ له إلاَّ بأَنْ يرتكبَ وجهاً منها: وهو التأويلُ بالنفيِ كـ " نَشَدْتُك الله " لأنه استثناءٌ مفرغ، ولا يكونُ إلاَّ بعد نفيٍ أو ما في معناه.

السادس: قال أبو البقاء: " في موضعِ نصبٍ بـ حافِظُون " على المعنىٰ؛ لأنَّ المعنىٰ: صانُوها عن كل فَرْجٍ إلاَّ عن فروجِ أزواجِهم ". قلت: وفيه شيئان، أحدهما: تضمين " حافظون " معنىٰ صانُوا، وتضمينُ " على " معنىٰ " عن ".

وقال الالوسي فى تفسيره

والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال أي حافظون لفروجهم في جميع الأحوال إلا حال كونهم والين وقوامين على أزواجهم من قولك: كان فلان على فلانة فمات عنها، ومنه قولهم: فلانة تحت فلان ولذا سميت المرأة فراشاً أو متعلقة بمحذوف يدل عليه { غَيْرُ مَلُومِينَ } كأنه قيل يلامون إلا على أزواجهم أي يلامون على كل مباشر إلا على ما أطلق لهم فإنهم غير ملومين عليه، وكلا الوجهين ذكرهما الزمخشري

{ فَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ أَنِ ٱصْنَعِ ٱلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ فَٱسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ ٱلْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ }

قال الالوسي فى تفسيره

{ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ ٱلْقَوْلُ مِنْهُمْ } استثناء منقطعاً، واختار بعضهم حمل الأهل على المشهور وإرادة امرأته وبنيه منه كما في سورة هود وحينئذٍ يكون الاستثناء متصلاً

ملحوظة

ذكرنا الأية فی جوهرة سابقة
 
الجوهرة الثانية والثمانون
سورة النور

{ وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَٱجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ } * { إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذٰلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }

قال ابو حيان فى البحر المحيط:

{ إلاّ الذين تابوا } هذا الاستثناء يعقب جملاً ثلاثة، جملة الأمر بالجلد وهو لو تاب وأكذب نفسه لم يسقط عنه حد القذف، وجملة النهي عن قبول شهادتهم أبداً وقد وقع الخلاف في قبول شهادتهم إذا تابوا بناء على أن هذا الاستثناء راجع إلى جملة النهي، وجملة الحكم بالفسق أو هو راجع إلى الجملة الأخيرة وهي الثالثة وهي الحكم بفسقهم والذي يقتضيه النظر أن الاستثناء إذا تعقب جملة يصلح أن يتخصص كل واحد منها بالاستثناء أن يجعل تخصيصاً في الجملة الأخيرة، وهذه المسألة تكلم عليها في أصول الفقه وفيها خلاف وتفصيل، ولم أر من تكلم عليها من النحاة غير المهاباذي وابن مالك فاختار ابن مالك أن يعود إلى الجمل كلها كالشرط، واختار المهاباذي أن يعود إلى الجملة الأخيرة وهو الذي نختاره، وقد استدللنا على صحة ذلك في كتاب التذييل والتكميل في شرح التسهيل. وقال الزمخشري: وجعل يعني الشافعي الاستثناء متعلقاً بالجملة الثانية وحق المستثنى عنده أن يكون مجرور بدلاً من { هم } في { لهم } وحقه عند أبي حنيفة النصب لأنه عن موجب، والذي يقتضيه ظاهر الآية ونظمها أن تكون الجمل الثلاث مجموعهن جزاء الشرط يعني الموصول المضمن معنى الشرط كأنه قيل: ومن قذف المحصنات فاجلدوه وردوا شهادته وفسِّقوه أي اجمعوا له الحد والرد والفسق.

{ إلاّ الذين تابوا } عن القذف { وأصلحوا فإن الله غفور رحيم } فينقلبون غير محدودين ولا مردودين ولا مفسقين انتهى. وليس يقتضي ظاهر الآية عود الاستثناء إلى الجمل الثلاث، بل الظاهر هو ما يعضده كلام العرب وهو الرجوع إلى الجملة التي تليها والقول بأنه استثناء منقطع مع ظهور اتصاله ضعيف لا يصار إليه إلاّ عند الحاجة.

وقال القرطبي فى تفسيره

الحادية والعشرون: قوله تعالى: { إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ } في موضع نصب على الاستثناء. ويجوز أن يكون في موضع خفض على البدل. والمعنى ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً إلا الذين تابوا وأصلحوا من بعد القذف { فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }. فتضمنت الآية ثلاثة أحكام في القاذف: جلده، وردّ شهادته أبداً، وفسقه، فالاستثناء غير عامل في جلده بإجماع، إلا ما روي عن الشَّعْبِيّ على ما يأتي.

وعاملٌ في فسقه بإجماع. واختلف الناس في عمله في ردّ الشهادة؛ فقال شُريح القاضي وإبراهيم النَّخَعِيّ والحسن البصريّ وسفيان الثَّوْريّ وأبو حنيفة: لا يعمل الاستثناء في ردّ شهادته، وإنما يزول فسقه عند الله تعالى. وأما شهادة القاذف فلا تقبل ألبتة ولو تاب وأكذب نفسه ولا بحال من الأحوال.وقال الجمهور: الاستثناء عامل في رد الشهادة، فإذا تاب القاذف قُبلت شهادته؛ وإنما كان ردها لعلة الفسق فإذا زال بالتوبة قبلت شهادته مطلقاً قبل الحدّ وبعده، وهو قول عامة الفقهاء. ثم اختلفوا في صورة توبته؛ فمذهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه والشّعبِيّ وغيره، أن توبته لا تكون إلا بأن يكذب نفسه في ذلك القذف الذي حُدّ فيه. وهكذا فعل عمر؛ فإنه قال للذين شهدوا على المغيرة: من أكذب نفسه أَجَزْت شهادته فيما استقبل، ومن لم يفعل لم أجِز شهادته؛ فأكذب الشّبل بن معبد ونافع بن الحارث بن كَلَدة أنفسهما وتابا، وأبى أبو بكرة أن يفعل؛ فكان لا يقبل شهادته. وحكى هذا القول النحاس عن أهل المدينة. وقالت فرقة ـ منها مالك رحمه الله تعالى وغيره ـ: توبته أن يَصْلُح ويَحْسُن حاله وإن لم يرجع عن قوله بتكذيب؛ وحسبه الندم على قذفه والاستغفارُ منه وترك العود إلى مثله؛ وهو قول ابن جرير. ويروى عن الشّعبِيّ أنه قال: الاستثناء من الأحكام الثلاثة، إذا تاب وظهرت توبته لم يُحدّ وقبلت شهادته وزال عنه التفسيق؛ لأنه قد صار ممن يُرْضَى من الشهداء؛ وقد قال الله عز وجل:
{ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ }
[طه: 82] الآية...

الرابعة والعشرون: الاستثناء إذا تعقّب جُمَلاً معطوفة عاد إلى جميعها عند مالك والشافعيّ وأصحابهما. وعند أبي حنيفة وجُلِّ أصحابه يرجع الاستثناء إلى أقرب مذكور وهو الفسق؛ ولهذا لا تقبل شهادته، فإن الاستثناء راجع إلى الفسق خاصة لا إلى قبول الشهادة.

وسبب الخلاف في هذا الأصل سببان:

أحدهما: هل هذه الجمل في حكم الجملة الواحدة للعطف الذي فيها، أو لكل جملة حكم نفسِها في الاستقلال وحرفُ العطف محسّن لا مُشَرِّك، وهو الصحيح في عطف الجمل؛ لجواز عطف الجمل المختلفة بعضها على بعض، على ما يعرف من النحو.

السبب الثاني: يشبِّه الاستثناء بالشرط في عوده إلى الجمل المتقدمة، فإنه يعود إلى جميعها عند الفقهاء، أو لا يُشبَّه به، لأنه من باب القياس في اللغة وهو فاسد على ما يعرف في أصول الفقه. والأصل أن كل ذلك محتمَل ولا ترجيح، فتعيّن ما قاله القاضي من الوقف. ويتأيّد الإشكال بأنه قد جاء في كتاب الله عز وجل كِلاَ الأمرين؛ فإن آية المحاربة فيها عود الضمير إلى الجميع باتفاق، وآية قتل المؤمن خطأ فيها ردّ الاستثناء إلى الأخيرة باتفاق، وآية القذف محتملة للوجهين، فتعيّن الوقف من غير مَيْن. قال علماؤنا: وهذا نظر كليّ أصولي. ويترجح قول مالك والشافعيّ رحمهما الله من جهة نظر الفقه الجزئي بأن يقال: الاستثناء راجع إلى الفسق والنهي عن قبول الشهادة جميعاً إلا أن يفرق بين ذلك بخبر يجب التسليم له. وأجمعت الأمة على أن التوبة تمحو الكفر، فيجب أن يكون ما دون ذلك أوْلى؛ والله أعلم. قال أبو عبيد: الاستثناء يرجع إلى الجمل السابقة؛ قال: وليس مَن نسب إلى الزنى بأعظم جرماً من مرتكب الزنى، ثم الزاني إذا تاب قبلت شهادته؛ «لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له»، وإذا قبل الله التوبة من العبد كان العباد بالقبول أولى؛ مع أن مثل هذا الاستثناء موجود في مواضع من القرآن؛ منها قوله تعالى:
{ إِنَّمَا جَزَآءُ ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ ـ إلى قوله ـ إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ }
[المائدة: 33]. ولا شك أن هذا الاستثناء إلى الجميع؛ وقال الزجاج: وليس القاذف بأشد جرماً من الكافر، فحقه إذا تاب وأصلح أن تقبل شهادته. قال: وقوله: «أَبَداً» أي ما دام قاذفاً؛ كما يقال: لا تقبل شهادة الكافر أبداً؛ فإن معناه ما دام كافراً. وقال الشَّعْبِي للمخالف في هذه المسألة: يقبل الله توبته ولا تقبلون شهادته! ثم إن كان الاستثناء يرجع إلى الجملة الأخيرة عند أقوام من الأصوليين فقوله: «وأولئك هم الفاسِقون» تعليل لا جملة مستقلة بنفسها؛ أي لا تقبلوا شهادتهم لفسقهم، فإذا زال الفسق فلمَ لا تقبل شهادتهم.

ثم توبة القاذف إكذابه نفسه، كما قال عمر لقَذَفة المغيرة بحضرة الصحابة من غير نكير، مع إشاعة القضية وشهرتها من البصرة إلى الحجاز وغير ذلك من الأقطار. ولو كان تأويل الآية ما تأوّله الكوفيون لم يجز أن يذهب علم ذلك عن الصحابة، ولقالوا لعمر: لا يجوز قبول توبة القاذف أبداً، ولم يسعهم السكوت عن القضاء بتحريف تأويل الكتاب؛ فسقط قولهم، والله المستعان.

وقال الالوسي فى تفسيره


...وذكر بعض أجلة المحققين أن الحنفية إنما قالوا برجوع الاستثناء إلى الجملة الأخيرة هنا لأن الجملتين الأوليين وردتا جزاء لأنهما أخرجتا بلفظ الطلب مخاطباً بهما الأئمة ولا يضر اختلافهما أمراً ونهياً والجملة الأخيرة مستأنفة بصيغة الإخبار دفعاً لتوهم استبعاد كون القذف سبباً لوجوب العقوبة التي تندرىء بالشبهة وهي قائمة هنا لأن القذف خبر يحتمل الصدق وربما يكون حسبة، ووجه الدفع أنهم فسقوا بهتك ستر العفة بلا فائدة حيث عجزوا عن الإثبات فلذا استحقوا العقوبة وحيث كانت مستأنفة توجه الاستثناء إليها...

هذا وإلى ما ذهب إليه أبو حنيفة من عدم قبول شهادة المحدود في القذف إذا تاب ذهب الحسن وابن سيرين وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وقد روى ذلك عن كل الجلال السيوطي في «الدر المنثور» وإلى ما ذهب إليه الشافعي من قبول شهادته ذهب مالك وأحمد، وروي ذلك عن عمر بن عبد العزيز وطاوس ومجاهد والشعبـي والزهري ومحارب وشريح ومعاوية بن قرة وعكرمة وسعيد بن جبير على ما ذكره الطيبـي وعدّ ابن جبير من القائلين كقول الشافعي يخالفه ما سمعت آنفاً، وعد ابن الهمام شريحاً ممن قال كقول أبـي حنيفة وعن ابن عباس روايتان، وفي «صحيح البخاري» جلد عمر رضي الله تعالى عنه أبا بكرة وشبل بن معبد ونافعاً بقذف المغيرة ثم استتابهم وقال من تاب قبلت شهادته، ومن تتبع تحقق أن أكثر الفقهاء قائلون كقول الشافعي عليه الرحمة ودعوى إجماع فقهاء التابعين عليه غير صحيحة كما لا يخفى والله تعالى أعلم...
 
الجوهرة الثالثة والثمانون
{ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَآئِهِنَّ أَوْ آبَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِيۤ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ ٱلتَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي ٱلإِرْبَةِ مِنَ ٱلرِّجَالِ أَوِ ٱلطِّفْلِ ٱلَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَىٰ عَوْرَاتِ ٱلنِّسَآءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }

قال ابن الجوزى فى زاد المسير:
{ إلا ما ظهر منها } وفيه سبعة أقوال.

أحدهما: انها الثياب، رواه أبو الأحوص عن ابن مسعود، وفي لفظ آخر قال هو الرداء.

والثاني: أنها الكف والخاتم والوجه.

والثالث: الكحل والخاتم، رواهما سعيد بن جبير عن ابن عباس.

والرابع: القُلْبان، وهما السواران والخاتم والكحل، قاله المسور بن مخرمة.

والخامس: الكحل والخاتم والخضاب، قاله مجاهد.

والسادس: الخاتم والسوار، قاله الحسن.

والسابع: الوجه والكفان

سورة الفرقان


{ وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ ٱلطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي ٱلأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً }
قال الالوسي فى تفسيره
وقال ابن الأنباري: الجملة حالية والاستثناء من أعم الأحوال والتقدير إلا وإنهم. قال أبو حيان: وهو المختار،

{ وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِٱلْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً }
قال السمين الحلبي فى الدر المصون:

قوله: { إِلاَّ جِئْنَاكَ بِٱلْحَقِّ } هذا الاستثناءُ مفرَّغٌ. والجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحالِ أي: لا يَأْتُونك بمَثَلٍ إلاَّ في حالِ إتيانِنا إياك كذا

{ قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَن شَآءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلاً }

قال السمين الحلبي فى الدر المصون:

قوله: { إِلاَّ مَن شَآءَ }: فيه وجهان،

أحدُهما: هو منقطعٌ أي: لكنْ مَنْ شاءَ أَنْ يتَّخِذَ إلى ربه سبيلاً فَلْيَفْعَلْ.

والثاني: أنه متصلٌ على حَذْفِ مضافٍ يعني: إلاَّ أجرَ مَنْ، أي: الأجر الحاصل على دعائِه إلى الإِيمانِ وقَبولِه؛ لأنَّه تعالى يَأْجُرُني على ذلك. كذا حكاه الشيخ. وفيه نظرٌ؛ لأنَّه لم يُسْنِدِ السؤالَ المنفيَّ في الظاهر إلى اللهِ تعالى، إنما أسندَه إلى المخاطبين. فكيف يَصِحُّ هذا التقديرُ؟

وقال ابن عطية فى المحرر الوجيز:

وقوله { إلا من شاء } الظاهر فيه أنه استثناء منقطع، والمعنى مسؤولي ومطلوبي من شاء أن يهتدي ويؤمن ويتخذ إلى رحمة ربه طريق نجاة، قال الطبري المعنى لا أسألكم أجراً إلا إنفاق المال في سبيل الله فهو المسؤول وهو السبيل إلى الرب.

قال الفقيه الإمام القاضي: فالاستثناء على هذا كالمتصل، وكأنه قال إلا أجر من شاء والتأويل الأول أظهر.

وقال الرازى فى تفسيره

أما قوله: { إِلاَّ مَن شَاء } فذكروا فيه وجوهاً متقاربة أحدها: لا يسألهم على الأداء والدعاء أجراً إلا أن يشاءوا أن يتقربوا بالإنفاق في الجهاد وغيره، فيتخذوا به سبيلاً إلى رحمة ربهم ونيل ثوابه وثانيها: قال القاضي: معناه لا أسألكم عليه أجراً لنفسي وأسألكم أن تطلبوا الأجر لأنفسكم باتخاذ السبيل إلى ربكم وثالثها: قال صاحب «الكشاف»: مثال قوله: { إِلاَّ مَن شَاء } والمراد إلا فعل من شاء، واستثناؤه عن الأجر قول ذي شفقة عليك قد سعى لك في تحصيل مال ما أطلب منك ثواباً على ما سعيت، إلا أن تحفظ هذا المال ولا تضيعه، فليس حفظك المال لنفسك من جنس الثواب، ولكن صوره هو بصورة الثواب وسماه باسمه فأفاد فائدتين إحداهما قلع شبهة الطمع في الثواب من أصله كأنه يقول لك إن كان حفظك لمالك ثواباً، فإني أطلب الثواب، والثانية إظهار الشفقة البالغة، وأن حفظك لمالك يجري مجرى الثواب العظيم الذي توصله إلي، ومعنى اتخاذهم إلى الله سبيلاً، تقربهم إليه وطلبهم عنده الزلفى بالإيمان والطاعة، وقيل المراد التقرب بالصدقة والنفقة في سبيل الله.

{ وَٱلَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِي

حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ يَلْقَ أَثَاماً }

قال الالوسي فى تفسيره

{ إِلاَّ بِٱلْحَقّ } متعلق بلا يقتلون والاستثناء مفرغ من أعم الأسباب أي لا يقتلونها بسبب من الأسباب إلا بسبب الحق المزيل لحرمتها وعصمتها كالزنا بعد الإحصان والكفر بعد الإيمان، وجوز أن يكون صفة لمصدر محذوف أي لا يقتلونها نوعاً من القتل إلا قتلاً ملتبساً بالحق وأن يكون حالاً أي لا يقتلونها في حال من الأحوال إلا حال كونهم ملتبسين بالحق. وقيل: يجوز أن يكون متعلقاً بالقتل المحذوف والاستثناء أيضاً من أعم الأسباب أي لا يقتلون النفس التي حرم الله تعالى قتلها بسبب من الأسباب إلا بسبب الحق. ويكون الاستثناء مفرغاً في الإثبات لاستقامة المعنى بإرادة العموم أو لكون حرم نفياً معنى, ولا يخفى ما فيه من التكلف { وَلاَ يَزْنُونَ } ولا يطؤن فرجاً محرماً عليهم.
 
الجوهرة الرابعة والثمانون

{ يُضَاعَفْ لَهُ ٱلْعَذَابُ يَوْمَ ٱلْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً } * { إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَـٰئِكَ يُبَدِّلُ ٱللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً }

قال السمين الحلبي فى الدر المصون
قوله: { إِلاَّ مَن تَابَ }: فيه وجهان، أحدُهما: ـ وهو الذي لم يَعْرف الناسُ غيرَه أنَّه استثناءٌ متصلٌ لأنَّه من الجنسِ.

الثاني: أنه منقطع. قال الشيخ: " ولا يَظْهَرْ ـ يعني الاتصال ـ لأنَّ المستثنى منه مَحْكومٌ عليه بأنَّه يُضاعَفُ له العذابُ، فيصيرُ التقديرُ: إلاَّ مَنْ تابَ وآمَنَ وعَمِلَ صالحاً فلا يُضاعَفُ له. ولا يَلزَمُ من انتفاءِ التضعيفِ انتفاءُ العذابِ غيرِ المضعَّفِ، فالأولىٰ عندي أَنْ يكونَ استثناءً منقطعاً أي: لكن مَنْ/ تابَ وآمنَ وعَمِل عملاً صالحاً فأولئك يُبَدِّل اللهُ سيئاتِهم حسناتٍ. وإذا كان كذلك فلا يَلْقَى عذاباً البتةَ ". قلت: والظاهرُ قولُ الجمهورِ. وأمَّا ما قاله فلا يَلْزَمُ؛ إذ المقصودُ الإِخبارُ بأنَّ مَنْ فعل كذا فإنه يَحُلُّ به ما ذَكَرَ، إلاَّ أَنْ يتوبَ. وأمَّا إصابةُ أصلِ العذابِ وعدمُها فلا تَعرُّضَ في الآية له.
 
الجوهرة الخامسة والثمانون

سورة الشعراء

{ قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ } * { أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمُ ٱلأَقْدَمُونَ } * { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِيۤ إِلاَّ رَبَّ ٱلْعَالَمِينَ }

قال السمين الحلبي فى الدر المصون:

قوله: { إِلاَّ رَبَّ ٱلْعَالَمِينَ } فيه وجهان،

أحدُهما: أنَّه منقطعٌ أي: لكنْ ربُّ العالمين ليس بعدُوّ لي. وقال الجرجاني: " فيه تقديمٌ وتأخيرٌ أي: أفَرَأَيْتُمْ ما كنتم تَعْبُدُوْنَ أنتم وآباؤكم الأَقْدمون، إلاَّ ربَّ العالمين فإنهم عدوٌّ لي، و " إلاَّ " بمعنى/ " دون " و " سوى ".

والثاني: أنه متصلٌ. وهو قول الزجاج؛ لأنهم كانوا يَعْبدون اللهَ تعالى والأصنامَ.


{ وَلاَ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ } *{ يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ } { إِلاَّ مَنْ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ }
قال السمين الحلبي فى الدر المصون:

قوله: { إِلاَّ مَنْ أَتَى ٱللَّهَ }: فيه أوجهٌ،

أحدُها: أنه منقطِعٌ أي: لكنْ مَنْ أتىٰ اللهَ بقَلْبٍ سليمٍ فإنه ينفَعُه ذلك. وقال الزمخشري: " ولا بُدَّ لك مع ذلك مِنْ تقديرِ مضافٍ وهو الحالُ المرادُ بها السلامةُ، وليست من جنسِ المالِ والبنينَ، حتى يَؤول المعنى إلى: أنَّ البنينَ والمالَ لا ينفعانِ، وإنما ينفعُ سَلامةُ القلبِ، ولو لم يُقَدَّرِ المُضافُ لم يَتَحصَّلْ للاستثناءِ معنىٰ ".

قال الشيخ: " ولا ضرورةَ تَدْعُو ألى حذفِ المضافِ كما ذكر ". قلت: إنما قَدَّرَ المضافَ ليُتَوَهَّمَ دخولُ المستثنى في المستثنى منه؛ لأنه متى لم يُتَوَهَّمْ ذلك لم يَقعِ الاستثناءُ، ولهذا مَنَعوا: " صَهَلَتِ الخيلُ إلاَّ الإِبِلَ " إلاَّ بتأويلٍ.

الثاني: أنه مفعولٌ به لقوله: " لا يَنْفَعُ " أي: لا ينفعُ المالُ والبنونَ إلاَّ هذا الشخصَ فإنه ينفَعُه فإنه ينفَعُه مالُه المصروفُ في وجوهِ البِرِّ، وبنوه الصلحاءُ، لأنه عَلَّمهم وأحسنَ إليهم.

الثالث: أنه بدلٌ مِن المفعولِ المحذوفِ، أو مستثنىٰ منه، إذ التقديرُ: لا ينفعُ مالٌ ولا بنونَ أحداً من الناس إلاَّ مَنْ كانت هذه صفتَه. والمستثنى منه يُحْذَفُ كقوله:
3520ـ....................... ولم يَنْجُ إلاَّ جَفْنَ سيفٍ ومِئْزرا
أي: ولم يَنْجُ بشيءٍ.

الرابع: أنه بدلٌ مِنْ فاعلٍ " يَنْفَعُ " فيكون مرفوعاً. قال أبو البقاء: " وغَلَّبَ مَنْ يَعْقِلُ فيكون التقديرُ: إلاَّ مالُ مَنْ، أو بنو مَنْ فإنه ينفع نفسَه وغيرَه بالشفاعة ".

قلت: وأبو البقاء خَلَط وجهاً بوجهٍ: وذلك أنه إذا أرَدْنا أن نجعلَه بدلاً من فاعل " ينفع " فلنا فيه طريقان، أحدهما: طريقةُ التغليب أي: غَلَّبْنا البنين على المالِ، فاستثنى من البنين، فكأنه قيل: لا ينفعُ البنونَ إلاَّ مَنْ أتى مِن البنين بقلبٍ سليم فإنه ينفع نفسَه بصلاحِه، وغيرَه بالشفاعةِ.

والطريقة الثانية: أَنْ تُقَدِّر مضافاً محذوفاً قبل " مَنْ " أي: إلاَّ مالُ مَنْ أو بنو مَنْ فصارَتِ الأوجُه خمسةً.

ووجَّه الزمخشريُّ اتصالَ الاستثناءِ، بوجهين، أحدُهما: إلاَّ حالَ مَنْ أتىٰ اللهِ بقلبٍ سليمٍ، وهو مِنْ قوله:
3521ـ...................... تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ
" وما ثوابُه إلاَّ السيفُ " ومثاله أن يقال: هل لزيدٍ مالٌ وبنون؟ فيقال: مالُه وبَنُوه سلامةُ قلبِه. تريد نَفْيَ المالِ والبنين عنه، وإثباتَ سلامةِ قلبِه بدلاً عن ذلك. والثاني قال: " وإن شِئْتَ حَمَلْتَ الكلامَ على المعنىٰ وجَعَلْتَ المالَ والبنين في معنى الغِنَىٰ، كأنه قيل: يومَ لا يَنْفع غِنَى إلاَّ غَنى مَنْ أتىٰ، لأنَّ غِنى الرجلِ في دينِه بسلامةِ قلبِه، كما أنَّ غِناه في دنياه بمالِه وبنيه. ".

وقال الرازى فى تفسيره

أما قوله: { إِلاَّ مَنْ أَتى ٱللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } فاعلم أنه تعالى أكرمه بهذا الوصف حيث قال:
{ وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْرٰهِيمَ * إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ }
[الصافات: 83، 84].

ثم في هذا الاستثناء وجوه: أحدها: أنه إذا قيل لك: هل لزيد مال وبنون؟ فتقول ماله وبنوه سلامة قلبه، تريد نفي المال والبنين عنه وإثبات سلامة القلب له بدلاً عن ذلك، فكذا في هذه الآية وثانيها: أن نحمل الكلام على المعنى ونجعل المال والبنين في معنى الغنى كأنه قيل يوم لا ينفع غنى إلا غنى من أتى الله بقلب سليم لأن غنى الرجل في دينه بسلامة قلبه كما أن غناه في دنياه بماله وبنيه وثالثها: أن نجعل (من) مفعولاً لينفع أي لا ينفع مال ولا بنون إلا رجلاً سلم قلبه مع ماله حيث أنفقه في طاعة الله تعالى، ومع بنيه حيث أرشدهم إلى الدين، ويجوز على هذا { إِلاَّ مَنْ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } من فتنة المال والبنين،
 
الجوهرة السادسة والثمانون

سورة النمل

{ وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ وَلَّىٰ مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يٰمُوسَىٰ لاَ تَخَفْ إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ ٱلْمُرْسَلُونَ } * { إِلاَّ مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوۤءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ }

قال السمين الحلبي فى الدر المصون

قوله: { إَلاَّ مَن ظَلَمَ }: فيه وجهان،

أحدُهما: أنه استثناءٌ منقطعٌ؛ لأنَّ المرسلين مَعْصُومون من المعاصي. وهذا هو الظاهرُ الصحيحُ.

والثاني: أنه متصلٌ. وِلأهلِ التفسيرِ فيه عباراتٌ ليس هذا موضعَها. وعن الفراء: أنَّه متصلٌ. لكن من جملةٍ محذوفةٍ، تقديرُه: وإنما يَخاف غيرُهم إلاَّ مَنْ ظَلَمَ. وردَّه النحاس: بأنه لو جاز هذا لجازَ " لا أضرب القوم إلاَّ زيداً " أي: وإنما أَضْرِبُ غيرَهم إلاَّ زيداً، وهذا ضدُّ البيانِ والمجيءُ بما لا يُعْرَفُ معناه.

وقَدَّره الزمخشري بـ " لكن ". وهي علامةٌ على أنه منقطعٌ، وذكر كلاماً طويلاً. فعلى الانقطاعِ يكونُ منصوباً فقط على لغةِ الحجاز. وعلى لغةِ تميمٍ يجوزُ فيه النَصبُ والرفعُ على البدلِ من الفاعلِ قبلَه. وأمَّا على الاتصالِ فيجوزُ فيه الوجهان على اللغتين، ويكون الاختيارُ البدلَ؛ لأنَّ الكلامَ غيرُ موجَبٍ.

وقال القرطبي فى تفسيره

{ إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ ٱلْمُرْسَلُونَ } وتم الكلام ثم استثنى استثناء منقطعاً فقال: { إَلاَّ مَن ظَلَمَ }. وقيل: إنه استثناء من محذوف؛ والمعنى: إني لا يخاف لديّ المرسلون وإنما يخاف غيرهم ممن ظلم { إَلاَّ مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوۤءٍ } فإنه لا يخاف؛ قاله الفرّاء. قال النحاس: استثناء من محذوف محال؛ لأنه استثناء من شيء لم يذكر ولو جاز هذا لجاز إني لأضرب القوم إلا زيداً بمعنى إني لا أضرب القوم وإنما أضرب غيرهم إلا زيداً؛ وهذا ضدّ البيان، والمجيء بما لا يعرف معناه. وزعم الفرّاء أيضاً: أن بعض النحويين يجعل إلى بمعنى الواو أي ولا من ظلم؛ قال:
وكلُّ أخٍ مفارقُه أخوهُ لَعَمْرُ أبيكَ إلا الْفَرْقَدانِ
قال النحاس: وكون «إِلاَّ» بمعنى الواو لا وجه له ولا يجوز في شيء من الكلام، ومعنى { إلاَّ } خلاف الواو؛ لأنك إذا قلت: جاءني إخوتك إلا زيداً أخرجت زيداً مما دخل فيه الإخوة فلا نسبة بينهما ولا تقارب. وفي الآية قول آخر: وهو أن يكون الاستثناء متصلاً؛ والمعنى إلا من ظلم من المرسلين بإتيان الصغائر التي لا يسلم منها أحد، سوى ما روي عن يحيـى بن زكريا عليه السلام، وما ذكره الله تعالى في نبينا عليه السلام في قوله:
{ لِّيَغْفِرَ لَكَ ٱللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ }
[الفتح: 2] ذكره المهدويّ واختاره النحاس؛ وقال: علِم الله من عصى منهم { يُسرّ الخيفة } فاستثناه فقال: { إَلاَّ مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوۤءٍ } فإنه يخاف وإن كنت قد غفرت له. الضحاك: يعني آدم وداود عليهما السلام. الزمخشري: كالذي فرط من آدم ويونس وداود وسليمان وإخوة يوسف، ومن موسى عليه السلام بوكزه القبطي. فإن قال قائل: فما معنى الخوف بعد التوبة والمغفرة؟ قيل له: هذه سبيل العلماء بالله عز وجلّ أن يكونوا خائفين من معاصيهم وجلين، وهم أيضاً لا يأمنون أن يكون قد بقي من أشراط التوبة شيء لم يأتوا به، فهم يخافون من المطالبة به.

وقال الحسن وابن جريج: قال الله لموسى إني أخفتك لقتلك النفس. قال الحسن: وكانت الأنبياء تذنب فتعاقَب. قال الثعلبي والقشيري والماوردي وغيرهم: فالاستثناء على هذا صحيح؛ أي إلا من ظلم نفسه من النبيين والمرسلين فيما فعل من صغيرة قبل النبوة. وكان موسى خاف من قتل القبطي وتاب منه. وقد قيل: إنهم بعد النبوة معصومون من الصغائر والكبائر. وقد مضى هذا في «البقرة».
 
الجوهرة السابعة والثمانون

{ قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوٰتِ وٱلأَرْضِ ٱلْغَيْبَ إِلاَّ ٱللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ }

قال السمين الحلبي فى الدر المصون:

قوله: { إِلاَّ ٱللَّهُ }: فيه أوجهٌ،

أحدُها: أنه فاعلُ " يَعْلَمُ " و " مَنْ " مفعولُه. و " الغيبَ " بدلٌ مِنْ " مَنْ السماواتِ " أي: لا يعلمُ غيبَ مَنْ في السماواتِ والأرضِ إلاَّ اللهُ أي: الأشياءَ الغائبةَ التي تَحْدُثُ في العالَمِ. وهو وجهٌ غريبٌ ذكره الشيخ.

الثاني: أنه مستثنى متصلٌ مِنْ " مَنْ " ، ولكن لا بُدَّ من الجمعِ بين الحقيقةِ والمجازِ في كلمةٍ واحدةٍ على هذا الوجهِ بمعنىٰ: أنَّ عِلْمَه في السماوات والأرضِ، فيَنْدَرِجُ في { مَن فِي ٱلسَّمَاواتِ وٱلأَرْضِ } بهذا الاعتبارِ وهو مجازٌ وغيرُه مِنْ مخلوقاتِه في السماواتِ والأرضِ حقيقةٌ، فبذلِك الاندراجِ المُؤَوَّل اسْتُثْنِي مِنْ " مَنْ " وكان الرفعُ على البدلِ أَوْلَى لأنَّ الكلامَ غيرُ موجَبٍ.

وقد رَدَّ الزمخشريُّ هذا: بأنه جَمْعٌ بين الحقيقةِ والمجازِ، وأوجبَ أن يكونَ منقطعاً فقال: " فإنْ قلتَ: لِمَ رُفِعَ اسمُ اللهِ، واللهُ يَتعالَىٰ أن يكونَ مِمَّنْ في السماواتِ والأرض؟ قلت: جاء على لغةِ بني تميمٍ حيث يقولون: " ما في الدار أحدٌ إلاَّ حمارٌ " يريدون: ما فيها إلاَّ حمارٌ، كأنَّ " أحداً " لم يُذْكَرْ. ومنه قولُه:
3577ـ عَشِيَّةَ ما تُغْني الرِّماحُ مكانَها ولا النَّبْلُ إلاَّ المَشْرَفِيُّ المُصَمِّمُ
وقولُهم: " ما أتاني زيدٌ إلاَّ عمروٌ، وما أعانني إخوانكم إلاَّ إخوانُه ". فإنت قلت: ما الداعي إلى اختيارِ المذهبِ التميمي على الحجازي؟ قلت: دَعَتْ إليه نُكْتَةٌ سِرِّيَّةُ حيث أُخْرِج المستثنىٰ مُخْرَجَ قولِه:
3578ـ إلاَّ اليَعافِيرُ....................
بعد قوله:
3579ـ.................. لَيْسَ بها أنيسُ
ليَؤُوْلَ المعنى إلى قولك: إنْ كان الله مِمَّنْ في السماوات والأرضَ فهم يعلمون الغيبَ. يعني: أنَّ عِلْمَهم الغيبَ في استحالتِه كاستحالةِ أن يكونَ اللهُ منهم. كما أنَّ معنىٰ ما في البيت: إنْ كانت اليعافيرُ أَنيساً ففيها أنيسٌ، بَتَّاً للقولِ بخُلُوِّها من الأنيسِ. فإن قلت: هَلاَّ زَعَمْتَ أن اللهَ مِمَّنْ في السماواتِ والأرضِ، كما يقول المتكلمون: " إنَّ الله في كلِّ مكان " على معنىٰ: أنَّ عِلْمَه في الأماكن كلها، فكأنَّ ذاتَه فيها حتى لا يُحْمَل على مذهبِ بني تميمٍ " قلتُ: يَأْبَىٰ ذلك أنَّ كونَه في السمواتِ والأرضِ مجازٌ، وكونَهم فيهنَّ حقيقةٌ، وإرادةُ المتكلمِ بعبارةٍ واحدةٍ حقيقةً ومجازاً غيرُ صحيحٍ. على أنَّ قولَك " مَنْ في السماوات والأرض: وجَمْعَك بينه وبينهم في إطلاقِ اسمٍ واحدٍ، فيه إيهامُ تَسْويةٍ، والإِيهاماتُ مُزَالةٌ عنه وعن صفاتِه. ألا ترىٰ كيف " قال عليه السلام لِمَنْ قال: " ومَنْ يَعْصِهما فقد غوىٰ " " بِئْسَ خطيبُ القومِ أنت " "

قلت: فقد رَجَّحَ الانقطاعَ واعتذر عن ارتكابِ مذهبِ التميمين بما ذَكَر. وأكثرُ العلماءِ أنه لا يُجْمَعُ بين الحقيقةِ والمجازِ في كلمةٍ واحدة. وقد قال به الشافعيُّ ".

وقال الرازى فى تفسيره

فإن قيل الاستثناء حكمه إخراج ما لولاه لوجب أو لصح دخوله تحت المستثنى منه ودلت الآية ههنا على استثناء الله سبحانه وتعالى عمن في السموات والأرض فوجب كونه ممن في السموات والأرض وذلك يوجب كونه تعالى في المكان

والجواب: هذه الآية متروكة الظاهر لأن من قال إنه تعالى في المكان زعم أنه فوق السموات، ومن قال إنه ليس في مكان فقد نزهه عن كل الأمكنة، فثبت بالإجماع أنه تعالى ليس في السموات والأرض فإذن وجب تأويله فنقول إنه تعالى ممن في السموات والأرض كما يقول المتكلمون: الله تعالى في كل مكان على معنى أن علمه في الأماكن كلها، لا يقال إن كونه في السموات والأرض مجاز وكونهم فيهن حقيقة وإرادة المتكلم بعبارة واحدة ومجازاً غير جائزة، لأنا نقول كونهم في السموات والأرض، كما أنه حاصل حقيقة وهو حصول ذواتهم في الأحياز فكذلك حاصل مجازاً، وهو كونهم عالمين بتلك الأمكنة فإذا حملنا هذه الغيبة على المعنى المجازي وهو الكون فيها بمعنى العلم دخل الرب سبحانه وتعالى والعبيد فيه فصح الاستثناء.
 
الجوهرة الثامنة والثمانون


{ وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي ٱلصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ مَن شَآءَ ٱللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ }

قال الالوسي فى تفسيره:

{ إِلاَّ مَن شَاء ٱللَّهُ } استثناء متصل كما هو الظاهر من (من) ومفعول المشيئة محذوف أي إلا من شاء الله تعالى أن لا يفزع، والمراد بذلك على ما قيل: من جاء بالحسنة لقوله تعالى فيهم:
{ وَهُمْ مّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ ءامِنُونَ }
[النمل: 89] وتعقب بأن الفزع في تلك الآية غير الفزع المراد من قوله سبحانه: { فَفَزِعَ } الخ وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى،

واختلف الذين حملوا النفخ هنا على النفخة الأولى التي تكون للصعق - أي الموت - في تعيينهم فقيل هم جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل وروي ذلك عن مقاتل والسدي.

وقال الضحاك: هم الولدان والحور العين وخزنة الجنة وحملة العرش. وحكى بعضهم هذين القولين في المراد بالمستثنى على تقدير أن يراد بالنفخ النفخة الثانية وبالفزع الخوف والرعب وأورد عليهما أن حملة العرش ليسوا من سكان السماوات والأرض لأن السماوات في داخل الكرسي ونسبتها إليه نسبة حلقة في فلاة ونسبة الكرسي إلى العرش كهذه النسبة أيضاً فكيف يكون حملته في السماوات وكذا الولدان والحور وخزنة الجنة لأن هؤلاء كلهم في الجنة والجنان جميعها فوق السماوات ودون العرش على ما أفصح عنه قوله صلى الله عليه وسلم: " سقف الجنة عرش الرحمن " فما فيها من الولدان والحور والخزنة لا يصح استثناؤهم ممن في السماوات والأرض وأما جبرائيل ومن معه من الملائكة المقربين عليهم السلام فهم من الصافين المسبحين حول العرش وإذا كان العرش فوق السماوات لا يمكن أن يكون الاصطفاف حوله في السماوات، وأجيب بأنه يجوز أن يراد بالسماوات ما يعم العرش والكرسي وغيرهما من الأجرام العلوية فإنه الأليق بالمقام، وقد شاع استعمال من في السماوات والأرض عند إرادة الإحاطة والشمول.

وقيل: لا مانع من حمل السماوات على السماوات السبع والتزام كون الاستثناء على القولين المذكورين منقطعاً ولا يخفى ما فيه،

وعد بعضهم ممن استثنى موسى عليه السلام، وأنت تعلم أنه لا يكاد يصح إلا إذا أريد بالفزع الصعق يوم القيامة بعد النفخة الثانية، أما إذا أريد به ما يكون في الدنيا عند النفخة الأولى فلا، على أن / عده عليه السلام ممن لا يصعق يوم القيامة بعد قوله صلى الله عليه وسلم في حديث «الصحيحين» السابق «فلا أدري أفاق قبلي أو جزي بصعقة الطور» يحتاج إلى خبر صحيح وارد بعد ذلك. " وروى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم الشهداء عند ربهم يرزقون " وصححه القاضي أبو بكر بن العربـي كما قال القرطبـي وبه رد على من زعم أنه لم يرد في تعيينهم خبر صحيح، وإلى ذلك ذهب ابن جبير ولفظه «هم الشهداء متقلدو السيوف حول العرش» وكذا ذهب إليه الحليمي وقال: هو مروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ثم ضعف غيره من الأقوال.

وقد ذكره غير واحد من المفسرين إلا أن بعضهم ذكره في تفسير
{ مَن شَآءَ ٱللَّهُ }
[الزمر: 68] في آية الصعق وبعض آخر ذكره في تفسيره في آية الفزع فتدبر.
 
الجوهرة التاسعة والثمانون

سورة القصص

{ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ ٱلْوَارِثِينَ }

قال الالوسي فى تفسيره

{ لَمْ تُسْكَن مّن بَعْدِهِمْ } من بعد تدميرهم { إِلاَّ قَلِيلاً } أي إلا زماناً قليلاً إذ لا يسكنها إلا المارة يوماً أو بعض يوم أو إلا سكناً قليلاً وقلته باعتبار قلة الساكنين فكأنه قيل: لم يسكنها من بعدهم إلا قليل من الناس. وجوز أن يكون الاستثناء من المساكن أي إلا قليلاً منها سكن وفيه بعد.

وقال القرطبي فى تفسيره

{ فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً } أي لم تسكن بعد إهلاك أهلها إلا قليلاً من المساكن وأكثرها خراب.والاستثناء يرجع إلى المساكن أي بعضها يسكن؛ قاله الزجاج. واعترض عليه؛ فقيل: لو كان الاستثناء يرجع إلى المساكن لقال إلا قليل؛ لأنك تقول: القوم لم تضرب إلا قليل؛ ترفع إذا كان المضروب قليلاً، وإذا نصبت كان القليل صفة للضرب؛ أي لم تضرب إلا ضرباً قليلاً، فالمعنى إذاً: فتلك مساكنهم لم يسكنها إلا المسافرون ومن مرّ بالطريق يوماً أو بعض يوم، أي لم تُسْكن من بعدهم إلا سكوناً قليلاً. وكذا قال ابن عباس: لم يسكنها إلا المسافر أو مارّ الطريق يوماً أو ساعة

{ وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ ٱلْقُرَىٰ حَتَّىٰ يَبْعَثَ فِيۤ أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي ٱلْقُرَىٰ إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ }

قال الالوسي فى تفسيره

{ وَمَا كُنَّا مُهْلِكِى ٱلْقُرَىٰ } عطف على { وَمَا كَانَ رَّبُّكَ مُهْلِكَ ٱلْقُرَىٰ } { إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَـٰلِمُونَ } استثناءً مفرغ من أعم الأحوال أي وما كنا مهلكين لأهل القرى بعد ما بعثنا في أمها رسولاً يدعوهم إلى الحق ويرشدهم إليه في حال من الأحوال إلا حال كونهم ظالمين بتكذيب رسولنا والكفر

{ وَمَا كُنتَ تَرْجُوۤ أَن يُلْقَىٰ إِلَيْكَ ٱلْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهيراً لِّلْكَافِرِينَ }
قال السمين الحلبي فى الدر المصون

قوله: { إِلاَّ رَحْمَةً }: فيه وجهان،

أحدهما: هو منقطعٌ أي لكنْ رَحِمَكَ رحمةً.

والثاني: أنه متصلٌ. قال الزمخشري: " هذا كلامٌ محمولٌ على المعنى. كأنه قيل: وما أَلْقَىٰ إليك الكتابَ إلاَّ رحمةً " فيكونُ استثناءً من الأحوالِ أو من المفعولِ له.

وقال الالوسي فى تفسيره
{ إِلاَّ رَحْمَةً مّن رَّبّكَ } على ما ذهب إليه الفراء وجماعة استثناء منقطع أي ولكن ألقاه تعالى إليك رحمة منه عز وجل، وجوز أن يكون استثناءً متصلاً من أعم العلل أو من أعم الأحوال على أن المراد نفي الإلقاء على أبلغ وجه، فيكون المعنى ما ألقى إليك الكتاب لأجل شيء من الأشياء إلا لأجل الترحم أو في حال من الأحوال إلا في حال الترحم
 
الجوهرة التسعون

{ وَلاَ تَدْعُ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ ٱلْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}

قال السمين الحلبي فى الدر المصون

قوله: { إِلاَّ وَجْهَهُ }: مَنْ جَعَل " شيئاً " يُطْلَق على الباري تعالى ـ وهو الصحيح ـ قال: هذا استثناءٌ متصلٌ، والمرادُ بالوجهِ الذاتُ، وإنما جرىٰ على عادةِ العربِ في التعبير بالأشرفِ عن الجملة. ومَنْ لم يُطْلِقْ عليه جَعَله متصلاً أيضاً، وجعل الوجهَ ما عُمِل لأجله أو الجاهَ الذي بين الناس، أو يجعلُه منقطعاً أي: لكن هو بحاله لم يَهْلَكْ.

وقال الرازى فى تفسيره

المسألة الثانية: احتج أهل التوحيد بهذه الآية على أن الله تعالى شيء، قالوا لأنه استثنى من قوله: { كُلّ شَىْء } استثناء يخرج ما لولاه لوجب أو لصح دخوله تحت اللفظ، فوجب كونه شيئاً يؤكده ما ذكرناه في سورة الأنعام، وهو قوله:
{ قُلْ أَىُّ شَىْء أَكْبَرُ شَهَـٰدةً قُلِ ٱللَّهِ }
[الأنعام: 19] واحتجاجهم على أنه ليس بشيء بقوله:
{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء }
[الشورى: 11] والكاف معناه المثل فتقدير الآية ليس مثل مثله شيء ومثل مثل الله هو الله فوجب أن لا يكون الله شيئاً، جوابه: أن الكاف صلة زائدة.
 
الجوهرة الواحدة والتسعون

سوؤة العنكبوت

{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىٰ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ ٱلطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ }
قال السمين الحلبي فى الدر المصون
قوله: { أَلْفَ سَنَةٍ }: منصوبٌ على الظرفِ. { إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً } منصوبٌ على الاستثناءِ، وفي وقوع الاستثناءِ مِنْ أسماءِ العددِ خلافٌ. وللمانعين منه جوابٌ عن هذه الآيةِ. وقد رُوْعِيَتْ هنا نكتةٌ لطيفةٌ: وهو أَنْ غايرَ بين تمييزَيْ العددَيْن فقال في الأول: " سَنَة " وفي الثاني: " عاماً " لئلا يَثْقُلَ اللفظُ. ثم إنه خَصَّ لفظَ العامِ بالخمسين إيذاناً بأنَّ نبيَّ اللَّهِ صلَّى الله عليه وسلَّم لَمَّا استراح منهم بقيَ في زمنٍ حسنٍ، والعربُ تُعَبِّرُ عن الخِصْبِ بالعام، وعن الجَدْبِ بالسَّنَة.

وقال ابو حيان فى بحره

والاستثناء من الألف استدل به على جواز الاستثناء من العدد، وفي كونه ثابتاً من لسان العرب خلاف مذكور في النحو، وقد عمل الفقهاء المسائل على جواز ذلك، وغاير بين تمييز المستثنى منه وتمييز المستثنى، لأن التكرار في الكلام الواحد مجتنب في البلاغة، إلا إذا كان لغرض من تفخيم، أو تهويل، أو تنويه. ولأن التعبير عن المدة المذكورة بما عبر به، لأن ذكر رأس العدد الذي لا رأس أكبر منه أوقع وأوصل إلى الغرض من استطالة السامع مدّة صبره، ولإزالة التوهم الذي يجيء مع قوله: تسعمائة وخمسون عاماً، بأن ذلك على سبيل المبالغة لا التمام، والاستثناء يرفع ذلك التوهم المجازي.

{ وَلاَ تُجَادِلُوۤاْ أَهْلَ ٱلْكِتَابِ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ وَقُولُوۤاْ آمَنَّا بِٱلَّذِيۤ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَـٰهُنَا وَإِلَـٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ }

قال السمين الحلبي فى الدر المصون:

قوله: { إِلاَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ }: استثناءٌ متصلٌ. وفيه معنيان،

أحدهما: إلاَّ الظَّلَمَةَ فلا تُجادلوهم البتةَ. بل جادِلوهم بالسيف.

والثاني: جادِلوهم بغير التي هي أحسنُ أي: أَغْلِظوا لهم كما أَغْلَظوا عليكم


وقال ابن الجوزى فى زاد المسير


قوله تعالى: { ولا تُجادِلوا أهل الكتاب إِلاَّ بالَّتي هي أحسن } في التي هي أحسن ثلاثة أقوال.

أحدها: أنها لا إِله إلا الله، رواه الضحاك عن ابن عباس.

والثاني: أنها الكفُّ عنهم إِذا بذلوا الجزية، فان أبَواْ قوتِلوا، قاله مجاهد.

والثالث: أنها القرآن والدُّعاء إِلى الله بالآيات والحُجج.

قوله تعالى: { إِلاَّ الذين ظَلَموا منهم } وهم الذين نصبوا الحرب وأبَواْ أن يؤدُّوا الجزية، فجادِلوا هؤلاء بالسيف حتى يُسْلِموا أو يُعطوا الجزية { وقولوا } لِمَن أدَّى الجزية منهم إِذا أخبركم بشيء ممَّا في كتبهم { آمَنَّا بالذي أُنْزل إِلينا وأُنْزل إِليكم... } [الآية].
 
الجوهرة الثانية والتسعون

سورة الاحزاب


{ ٱلنَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُواْ ٱلأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ ٱللَّهِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُهَاجِرِينَ إِلاَّ أَن تَفْعَلُوۤاْ إِلَىٰ أَوْلِيَآئِكُمْ مَّعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِي ٱلْكِتَابِ مَسْطُوراً }

قال السمين الحلبي فی دره المصون

قوله: { إِلاَّ أَن تَفْعَلُوا } هذا استثناءٌ مِنْ غيرِ الجنس، وهو مستثنىً مِنْ معنى الكلامِ وفحواه، إذ التقديرُ: أُولو الأرحامِ بعضُهم أَوْلَى ببعض في الإِرث وغيرِه، لكن إذا فَعَلْتُمْ مع غيرِهم مِنْ أوليائِكم خيراً كان لكم ذلك. وعُدِّي " تَفْعَلوا " بـ " إلى " لتضمُّنِه معنى تَدْخُلوا.

وقال ابن عاشور

والاستثناء بقوله { إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفاً } منقطع، و { إلا } بمعنى (لكنْ) لأن ما بعد { إلا } ليس من جنس ما قبلها فإن الأولوية التي أثبتت لأولي الأرحام أولوية خاصة وهي أولوية الميراث بدلالة السياق دون أولوية حسن المعاشرة وبذل المعروف. وهذا استدراك على ما قد يتوهم من قطع الانتفاع بأموال الأولياء عن أصحاب الولاية بالإخاء والحلف فبين أن الذي أُبطل ونسخ هو انتفاع الإرث وبَقي حكم المواساة وإسداء المعروف بمثل الإنفاق والإهداء والإيصاء.


لاَّ يَحِلُّ لَكَ النِّسَآءُ مِن بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ

أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى° كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيباً }

قال السمين الحلبي في الدر المصون

قوله: " إلاَّ ما مَلَكَتْ " فيه أوجهٌ، أحدها: أنه مستثنى من " النساء " ، فيجوز فيه وجهان: النصبُ على أصل الاستثناء، والرفعُ على البدل. وهو المختار. الثاني: أنه مستثنى من أزواج. قاله أبو البقاء. فيجوزُ أَنْ يكونَ في موضعِ نصبٍ على أصل الاستثناء، وأنْ يكونَ/ في موضع جَرّ بدلاً مِنْ " هنَّ " على اللفظِ، وأن يكونَ في موضع نصبٍ بدلاً مِنْ " هُنَّ " على المحلِّ.

وقال الالوسي

وقوله: { إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ } استثناء من (النساء) متصل بناءً على أصل اللغة لتناوله عليه الحرائر والإماء ومنقطع بناءً على العرف لاختصاصه فيه بالحرائر { ولا أن تبدل بهن من أزواج } كالصريح فيه. وقال ابن عطية: إن ما إن كانت موصولة واقعة على الجنس فهو استثناء من الجنس مختار فيه الرفع على البدل من (النساء) ويجوز النصب على الاستثناء وإن كانت مصدرية فهي في موضع نصب لأنه استثناء من غير الجنس الأول انتهى، وليس بجيد لأنه قال والتقدير إلا ملك اليمين وملك بمعنى مملوك فإذا كان بمعنى مملوك لم يصح الجزم بأنه ليس من الجنس وأيضاً لا يتحتم النصب وإن فرضنا أنه من غير الجنس حقيقة بل أهل الحجاز ينصبون وبنو تميم يبدلون وأياً ما كان فالظاهر حل المملوكة له صلى الله عليه وسلم سواء كانت مما أفاء الله تعالى عليه أم لا.
 
الجوهرة الثالثة والتسعون

سورة سبأ


{ وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ }

قال ابن عاشور في التحرير

و { إلا فريقاً } استثناء من ضمير الرفع في { فاتبعوه } وهو استثناء متصل إن كان ضمير «اتبعوه» عائداً على المشركين وأما إن كان عائداً على أهل سبا فيحتمل الاتصال إن كان فيهم مؤمنين وإلا فهو استثناء منقطع، أي لم يعصه في ذلك إلا فريق من المؤمنين وهم الذين آمنوا من أهل مكة، أو الذين آمنوا من أهل سبا. فلعل فيهم طائفة مؤمنين ممن نجوا قبل إرسال سيل العرم.

وقال القرطبي

{ إِلاَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ } نصب على الاستثناء، وفيه قولان: أحدهما أنه يراد به بعض المؤمنين، لأن كثيراً من المؤمنين من يذنب وينقاد لإبليس في بعض المعاصي، أي ما سلم من المؤمنين أيضاً إلا فريق وهو المعني بقوله تعالى:

{ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ }
[الإسراء: 42]. فأما ابن عباس فعنه أنه قال: هم المؤمنون كلهم، فـ«ـمن» على هذا للتبيين لا للتبعيض،
 
الجوهرة الرابعة والتسعون

{ وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَىٰ إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ جَزَآءُ ٱلضِّعْفِ بِمَا عَمِلُواْ وَهُمْ فِي ٱلْغُرُفَاتِ آمِنُونَ }

قال ابو حيان فی بحره

{ إلا من آمن }: الظاهر أنه استثناء منقطع، وهو منصوب على الاستثناء، أي لكن من آمن؛ { وعمل صالحاً } ، فإيمانه وعمله يقربانه. وقال الزجاج: هو بدل من الكاف والميم في تقربكم، وقال النحاس: وهذا غلط لأن الكاف والميم للمخاطب، فلا يجوز البدل، ولو جاز هذا لجاز: رأيتك زيداً؛ وقول أبي إسحاق هذا قول الفراء. انتهى. ومذهب الأخفش والكوفيين أنه يجوز أن يبدل من ضمير المخاطب والمتكلم، لكن البدل في الآية لا يصح. ألا ترى أنه لا يصح تفريغ الفعل الواقع صلة لما بعد إلا؟ لو قلت: مازيد بالذي يضرب إلا خالداً، لم يصح. وتخيل الزجاج أن الصلة، وإن كانت من حيث المعنى منفية، أنه يصح البدل، وليس بجائز إلا فيما يصح التفريغ له. وقد اتبعه الزمخشري فقال: إلا من آمن استثناء من كم في تقربكم، والمعنى: أن الأموال لا تقرب أحداً إلا المؤمن الصالح الذي ينفقها في سبيل الله؛ والأولاد لا تقرب أحداً إلا من علمهم الخير وفقههم في الدين ورشحهم للصلاح والطاعة. انتهى، وهو لا يجوز. كما ذكرنا، لا يجوز: ما زيد بالذي يخرج إلا أخوه، ولا مازيد بالذي يضرب إلا عمراً، ولا ما زيد بالذي يمر إلا ببكر. والتركيب الذي ركبه الزمخشري من قوله: لا يقرب أحداً إلا المؤمن، غير موافق للقرآن؛ ففي الذي ركبه يجوز ما قال، وفي لفظ القرآن لا يجوز. وأجاز الفراء أن تكون من في موضع رفع، وتقدير الكلام عنده ما هو المقرب { إلا من آمن }. انتهى. وقوله كلام لا يتحصل منه معنى، كأنه كان نائماً حين قال ذلك.
 
الجوهرة الخامسة والتسعون

سورة الصافات

{ إِلاَّ مَنْ خَطِفَ ٱلْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ }

قال الالوسي

{ إِلاَّ مَنْ خَطِفَ ٱلْخَطْفَةَ } استثناء متصل من واو
{ يَسْمَعُونَ }
[الصافات: 8] و { مِنْ } بدل منه على ما ذكره الزمخشري ومتابعوه، وقال ابن مالك: إذا فصل بين المستثنى والمستثنى منه فالمختار النصب لأن الإبدال للتشاكل وقد فات بالتراخي، وذكره في «البحر» هنا وجهاً ثانياً،

وقيل: هو منقطع على أن { مِنْ } شرطية جوابها الجملة المقرونة بالفاء بعد وليس بذاك. والخطف الاختلاس والأخذ بخفة وسرعة على غفلة المأخوذ منه، والمراد اختلاس كلام الملائكة مسارقة كما يعرب عنه تعريف الخطفة بلام العهد لأن المراد بها أمر معين معهود فهي نصب على المصدرية، وجوز أن تكون مفعولاً به على إرادة الكلمة...
 
الجوهرة السادسة والتسعون

{ إِنَّكُمْ لَذَآئِقُو ٱلْعَذَابِ ٱلأَلِيمِ } * { وَمَا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } * { إِلاَّ عِبَادَ ٱللَّهِ ٱلْمُخْلَصِينَ }

قال الالوسي

استثناء منقطع من ضمير
{ ذائقو }
[الصافات: 38] وما بينهما اعتراض جيء به مسارعة إلى تحقيق الحق ببيان أن ذوقهم العذاب ليس إلا من جهتهم لا من جهة غيرهم أصلاً فإلا مؤولة بلكن وما بعد كخبرها فيصير التقدير لكن عباد الله المخلصين أولئك لهم رزق وفواكه الخ. ويجوز إن يكون المعنى لكن عباد الله المخلصين ليسوا كذلك،

وقيل: استثناء منقطع من ضمير
{ تُجْزَوْنَ }
[الصافات: 39] على أن المعنى تجزون بمثل ما عملتم لكن عباد الله المخلصين يجزون أضعافاً مضاعفة بالنسبة إلى ما عملوا، ولا يخفى بعده، وأبعد منه جعل الاستثناء من ذلك متصلاً بتعميم الخطاب في { تُجْزَوْنَ } لجميع المكلفين لما فيه مع احتياجه إلى التكلف الذي في سابقه من تفكيك الضمائر
 
عودة
أعلى