أسباب الاختلاف في الوقف والابتداء

ايت عمران

New member
إنضم
17 مارس 2008
المشاركات
1,470
مستوى التفاعل
0
النقاط
36
الإقامة
المغرب
بسم الله الرحمن الرحيم​
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد فهذا بحث متواضع كان قد اقترحه علي الشيخ الحبيب محمد خالد منصور ـ حفظه الله ـ أيام تريسه إياي الوقف والابتداء، وعنوانه:
أسباب الاختلاف في الوقف والابتداء
دراسة تطبيقية نظرية​
وقصدت من طرحه بهذه الطريقة الإفادة من مناقشة الإخوة في هذا الملتقى الموقر، خصوصا الأستاذ ابو يوسف الكفراوي الذي أتحفنا في هذه الأيام بموضوعات مفيدة في هذا العلم.
وها أنا أدخل الموضوع بدون مقدمات:
منهج البحث​
اقتضت طبيعة البحث أن يكون المنهج المتبع فيه هو المنهج الاستقرائي التحليلي؛ حيث قمت فيه بجمع أسباب الاختلاف في الوقف والابتداء، ثم تناولتها بالتحليل وضرب الأمثلة، سالكا في ذلك الطريقة الآتية:
o التزمت بالرسم الإملائي الحديث.
o عرفت المصطلحات الواردة في عنوان البحث.
o اعتمدت في التعريفات اللغوية على المصادر المعجمية الأصيلة.
o حاولت إيجاد سند لحصر أسباب الاختلاف من أقوال الأئمة السابقين.
o رتبت تلك الأسباب ترتيبا أبجديا.
o اقتصرت في الأمثلة على ما صرح العلماء بكونه سببا من أسباب الاختلاف في الوقف.
تمهيد​
جرى على الألسنة أنه إذا ظهر السبب بطل العجب، وهو قول صحيح، وينطبق على ما أنا بصدد بحثه من أسباب الاختلاف في الوقف والابتداء؛ إذ الناظر في كتب التمام، وكتب الوقف والابتداء، يفاجأ بزخم من أقوال متعددة، وآراء متضادة؛ هذا يقول: إن الوقف في هذا الموضع كاف، والثاني يقول: إنه حسن، والثالث يقول: إنه قبيح، وهكذا. فإذا عرف الناظر سبب ذلك استطاع أن يوفق بين الأقوال، وينظر في تلك الأسباب، فيستبقي أقواها، ويبعد أضعفها وأوهاها.
المبحث الأول: التعريف بالمصطلحات الواردة في العنوان
المطلب الأول: تعريف أسباب الإختلاف​
الأسباب: جمع سبب، وهو: «كل شئ يتوصل به إلى غيره»( ).
والاختلاف: مصدر اختلف: ضد اتفق( )، قال في اللسان: « وتَخالَفَ الأَمْران واخْتَلَفا: لم يَتَّفِقا، وكلُّ ما لم يَتَساوَ فقد تَخالفَ واخْتَلَفَ»( ).
المطلب الثاني: تعريف الوقف والابتداء​
الوقف في اللغة:
قال ابن فاس: « الواو والقاف والفاء: أصلٌ واحد يدلُّ على تمكُّثٍ في شيءٍ ثمَّ يقاس عليه»( ).
وقال ابن دريد: « الوَقْف: مصدر وَقَفْتُ الدابّةَ أقِفها وَقْفاً، وكذلك كل شيء: حبستَه»( ).
وقال الجوهري: «يقال: وَقَفَتِ الدابةُ تقِف وقوفا، ووقفتُها أنا وقفا، يتعدى ولا يتعدى. ووقفتُه على ذنبه، أي: أطلعتُه عليه. ووقفتُ الدار للمساكين وقفا»( ).
يستشف من هذا أن الوقف لغة هو الحبس والتلبث في الشيء وإطلاع الغير على الشيء، والمصدر: وَقْفٌ ووُقُوفٌ، والفعل منهما يأتي لازما ومتعديا، بحيث تقول: وَقَفَتِ الدابَّةُ ووَقَفْتُ الدابَّةَ.
ولفت انتباهي ملحظ ذكره الدكتور محمد خليل الزروق، مفاده: أن استعمال الوقوف قسيما للجلوس والقعود، جاء متأخرا؛ إذ أول من أثاره هو ابن منظور في لسانه حيث قال: «الوقوف: خلاف الجلوس»، وتبعه صاحب تاج العروس، وواضعو المعجم الوسيط.
ذكر هذا الملحظ تم قال: «وظني.. أن ذلك مما زاده ابن منظور من عند نفسه اعتمادا على الشائع في استعمال المتأخرين، كما تسمع في عصرنا من قولهم للقاعد: قف، وهم يريدون: قُم»( ).
الوقف في الاصطلاح:
من أجمع التعريفات الاصطلاحية للوقف تعريف الإمام ابن الجزري حيث قال: «الوقف: عبارة عن قطع الصوت على الكلمة زمناً يتنفس فيه عادة بنية استئناف القراءة؛ إما بما يلي الحرف الموقوف عليه، أو بما قبله ... لا بنية الإعراض»( ).
وعلاقة التعريف الاصطلاحي باللغوي واضحة؛ إذ تقدم أن الوقف في اللغة: مطلق الحبس، وهو هنا حبس الصوت خاصة، وهو ما عبر عنه في التعريف بقطع الصوت. فيكون أخص من التعريف اللغوي. والله أعلم.
الابتداء في الغة:
قال ابن فارس: «الباء والدال والهمزة من افتتاح الشيء، يقال بدأت بالأمر وابتدأت، من الابتداء»( ).
وقال ابن منظور: «البَدء: فِعْل الشيء أَوَّلُ، بَدأَ بهِ وبَدَأَهُ يَبْدَؤُهُ بَدْءاً وأَبْدَأَهُ وابْتَدَأَهُ»( ).
فهو بهذا مرادف للائتناف الذي يقول فيه ابن منظور: «اسْتَأْنَفَ الشيءَ وائتَنَفَه: أَخذ أَوّله وابتدأَه»( ).
الابتداء في الاصطلاح:
لم يحفل المتقدمون ببيان معنى الابتداء اصطلاحا، ولا شك أن له علاقة بالمعنى اللغوي، لكن ما نوع هذه العلاقة؟
المتأخرون درجوا على هذا التعريف: «هو الشروع في القراءة بعد قطع أو وقف»، ومنهم: المرصفي( ) وإبراهيم الجرمي( ) وعبد الكريم إبراهيم( ) وعبد العلي المسئول( ) وغيرهم.
فالشروع في القراءة بعد قطع موافق للابتداء والائتناف في اللغة، أما الشروع بعد وقف فموافقته ليست ظاهرة؛ إذ الابتداء كما تقدم: فعل الشيء أولُ، والشارع في القراءة بعد وقف مستمرٌّ في قراءته، وبهذا يمتاز التعريف اللغوي عن الاصطلاحي. والله أعلم.
ال
مبحث الثاني: حصر أسباب الاختلاف​
اتضح مما تقدم أن أسباب الاختلاف في الوقف والابتداء هي تلك الملابسات التي تؤدي إلى تعدد آراء العلماء في تحديد نوعِ الوقف في الكلمة القرآنية المراد الوقوف عليها، ونوعِ الابتداء بما بعدها، وسأحاول حصرها فيما يأتي إن شاء الله تعالى، منطلقا في ذلك من هذا النقل النفيس:
قال أبو جعفر النحاس: «ذكر لي بعض أصحابنا عن أبي بكر بن مجاهد أنه كان يقول: لا يقوم بالتمام إلا نحوي، عالم بالقراءات، عالم بالتفسير، عالم بالقصص وتلخيص بعضها من بعض، عالم باللغة التي نزل بها القرآن.
وقال غيره: يحتاج صاحب علم التمام إلى المعرفة بأشياء من اختلاف الفقهاء في أحكام القرآن؛ لأنه من قال من الفقهاء: لا تقبل شهادة القاذف ـ وإن تاب ـ فإن الوقف عنده: ﴿وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً﴾... ومن قال: تجوز شهادته إذا تاب كان الكلام عنده متصلا، والوقف عند: ﴿فإن الله غفور رحيم﴾»( ).
وقال الإمام الهذلي، وهو يتحدث عن كتابه "الجامع في الوقف والابتداء": «بينت فيه وقف الفقهاء، والصوفية، والمتكلمين، والقراء، وأهل المعاني...»( ).
وقد تناقل الناس قول الإمام النحاس، واحتفلوا به؛ وقد جعلته كالأساس لبحثي هذا؛ إذ إنه عدد الأسباب الرئيسة للاختلاف في الوقف، وجعلها ستا؛ خمس في قول ابن مجاهد، وهي: النحو، والقراءات، والتفسير، والقصص، ولغة القرآن. وسادس في قول غيره، وهو الفقه.
وقد فرعتُ عن لغة القرآن سببين، هما: كمالُ الإعجاز، وعلمُ البلاغة، وقد ذكرهذا الأخير الإمام الهذلي، كما أضفت أسبابا أخرى لها تأثير قوي في الاختلاف في الوقف، وهي: المذهب العقدي، وقد ذكره الإمام الهذلي أيضا، والسياق، وعد الآي، ورسم المصحف، والحديث قبولا وردا، فصارت اثني عشر سببا من أسباب الاختلاف، وهي كما يلي:
1. الإعراب
2. التفسير
3. الحديث قبولا وردا
4. رسم المصحف
5. السياق
6. عد الآي
7. علم البلاغة
8. القراءات
9. القصص
10. كمال الإعجاز
11. المذهب العقدي
12. المذهب الفقهي
المبحث الثالث: أسباب الاختلاف في الوقف والابتداء​
غير خاف أن كثيرا من هذه الأسباب متداخلة فيما بينها. وقد رأيت أن أرتبها ترتيبا أبجديا؛ لأن أيَّ ترتيب آخر قد تختلف فيه أنظار الناس، ويكون قابلا لأخذ والرد. وهذا شروع في المقصود.
السبب الأول: الإعراب
يكاد يكون الإعراب هو السبب الغالب في الاختلاف في الوقف والابتداء، وبينه وبين الأسباب الأخرى تداخل ملحوظ. وعلماء هذا الفن إذا ذكروا موقفا مختلفا فيه فأول ما يعللون به الاختلاف هو الإعراب، لذلك كانت أمثلته كثيرة تند عن الحصر، وأكتفي منها بهذا المثال:
قوله تعالى: ﴿ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين﴾، فالوقف على ﴿لا ريب﴾ يعانق الوقف على ﴿فيه﴾، وإما حاء هذا التعانق ـ وهو جزء من الاختلاف في الوقف ـ من اختلاف الإعراب.
يقول نظام الدين النيسابوري: «﴿لا ريب﴾ (ج)( ) على حذف خبر لاَ، تقديره: لا ريب فيه، ثم يستأنف: ﴿فيه هدى﴾. ومن وصل جعل ﴿فيه﴾ خبر ﴿لا﴾، أو وصف ﴿ريب﴾ وحذف خبر ﴿لا﴾ تقديره: لا ريب فيه عند المؤمنين. والوقف على التقديرين على ﴿فيه﴾»( ).
السبب الثاني: التفسير
من أوضح الأمثلة على ذلك ما ذكره نظام الدين النيسابوري بقوله:
«قوله سبحانه وتعالى: ﴿ولكل جعلنا موالى مما ترك الوالدان والأقربون﴾ يمكن تفسيره بحيث يكون الوالدان والأقربون وارثين وبحيث يكونان موروثاً منهما.
والمعنى على الأول : لكل أحد جعلنا ورثة في تركته. ثم إنه كأنه قيل: ومَن هؤلاء الورثة؟ فقيل: هم الوالدان والأقربون؛ فيحسن الوقف على قوله: ﴿مما ترك﴾..
وأما على الثاني، فإما أن يكون في الكلام تقديم وتأخير، أي: ولكل شيء مما ترك الوالدان والأقربون جعلنا موالي، أي: ورثة. وإما أن يكون ﴿جعلنا موالي﴾ صفة ﴿لكل﴾ بل محذوف، والعائد محذوف، وكذا المبتدأ. والتقدير: ولكل قوم جعلناهم موالي نصيبٌ مما ترك الوالدان والأقربون، كما تقول: لكل من خلقه الله إنساناً من رزق الله. أي: حظٌ من رزق الله»( ).
فأنت تلاحظ أنه على المعنى الأول يكون الوقف على ﴿ترك﴾ كافيا، وعلى المعنى الثاني يكون قبيحا؛ لأن ﴿الوالدان والأقربون﴾ فاعل ﴿ترك﴾، ولا يفصل بين الفعل وفاعله.
السبب الثالث: الحديث قبولا وردا
من أوضح ما يمثَّل به لهذا السبب من أسباب الاختلاف ما أسماه بعض العلماء وقف السنة أو وقف جبريل ×، وإنما اعتبرت هذا من أسباب الاختلاف لأنهم اختلفوا في ثبوت نسبة هذه الوقوف للنبي > وعدم ثبوت ذلك.
واكتفي هنا بذكر كلام الشيخ المرصفي؛ لأنه لخص كلام من سبقه، فقال: «والآن نشرع بحول الله في بيان الوقف المنسوب إلى النبي > في القرآن العظيم؛ مما أكثره ليس برأس آية، ونص عليه غير واحد ممن يعتد بنقلهم من محققي علماء القراءات، مع عَزْوِ ذلك إليهم، ونسبته لهم. فقد قيل: إن من بركة العلم نسبة القول إلى قائله. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
أولاً: نقل صاحب "منار الهدى في بيان الوقف والابتدا" عن العلامة السخاوي أن هذه الوقوف عشرة، وسمى بعضها بوقف جبريل عليه السلام، وإليك نص عبارته: (قال السخاوي( ): ينبغي للقارئ أن يتعلم وقف جبريل؛ فإنه كان يقف في سورة آل عمران عند قوله: ﴿قُلْ صَدَقَ اللَّهُ﴾ ثم يبتدىء ﴿فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً﴾ والنبي > يتبعه. وكان النبي > يقف في سورة البقرة والمائدة عند قوله تعالى: ﴿فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ﴾. وكان يقف على قوله: ﴿سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ﴾. وكان يقف ﴿قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ﴾، ثم يبتدىء ﴿عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾. وكان يقف ﴿كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ﴾، ثم يبتدىء ﴿لِلَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى﴾. وكان يقف ﴿وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا﴾، ثم يبتدىء ﴿لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ﴾. وكان يقف ﴿أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً﴾ ثم يبتدىء ﴿لاَّ يَسْتَوُونَ﴾. وكان يقف ﴿ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى فَحَشَرَ﴾ ثم يتبدىء ﴿فَنَادَى﴾. وكان يقف ﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾ ثم يبتدىء ﴿تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ﴾.
فكان > يتعمد الوقف على تلك الوقوف، وغالبها ليس رأس آية، وما ذلك إلا لعلم لدنِّي علمه من علمه وجهله من جهله. فاتباعه سنة في أقواله وأفعاله)( ) انتهى منه بحرفه.
ثانياً: نقل صاحب( ) انشراح الصدور أن مواضع هذه الوقوف سبعة عشر موضعاً وفيما يلي نص عبارته: (اعلم أن الوقوف المندوبة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى الوقوف عليها سبعة عشر موضعاً:
الأول والثاني: ﴿فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ﴾ بالبقرة والمائدة.
والثالث: ﴿قُلْ صَدَقَ اللَّهُ﴾ بآل عمران.
والرابع: ﴿مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ﴾ بالمائدة.
والخامس: ﴿أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ﴾ بيونس.
والسادس: ﴿وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ﴾ بها أيضاً.
والسابع: ﴿قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ﴾ بيوسف.
والثامن: ﴿كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ﴾ بالرعد.
والتاسع: ﴿وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا﴾ بالنحل.
والعاشر: ﴿إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ﴾ بها أيضاً.
والحادي عشر: ﴿يا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ﴾ بلقمان.
والثاني عشر: ﴿كَمَن كَانَ فَاسِقاً﴾ بالسجدة.
والثالث عشر: ﴿أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ﴾ بغافر.
والرابع عشر: ﴿فَحَشَرَ﴾ بالنازعات.
والخامس عشر: ﴿خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾ بالقدر.
والسادس عشر: ﴿مِّن كُلِّ أَمْرٍ﴾ بها أيضاً.
والسابع عشر: ﴿بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ﴾ بالنصر أهـ منه بلفظه.
ثالثاً: نقل صاحب "الرحلة العياشية" أن هذه الوقوف سبعة عشر وقفاً وساقها في نظم مبارك بديع...»( ).
وبعد أن سرد تلك الأوقاف، وأردفها بذلك النظم، قال: «ومن هذه النقول يتبين لك أيها القارىء الكريم أن هذه المواضع كلها، منها ما هو رأس آية، وهو القليل. ومنها ما ليس برأس آية وهو الكثير. فالذي هو رأس آية قوله تعالى: ﴿كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ﴾ بالرعد. وقوله سبحانه: ﴿وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ﴾ بغافر. وقوله عز شأنه: ﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾. وقوله جل وعلا: ﴿تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ﴾ وهذان الموضعان بسورة القدر.
وقد قدمنا لك أن الوقف على رؤوس الآي سنة مطلقاً، فيكون ذكره هنا في هذه الأوقاف من باب التأكيد عليه عند من وصل رؤوس الآي المتعلقة بما بعدها في غير هذه المواضع، فليعلم ذلك. ولعل أحداً أن يقول: لقد تفاوتت مواضع هذه الأوقاف المذكورة في هذه النقول الثلاثة التي قدمنا. فهل يعتبر تفاوتها مدعاة إلى عدم التسليم ببعضها؟
والجواب عن ذلك ظاهر؛ فإن هذه النقول، وإن كان فيها تفاوت، لكنه ليس تفاوت التناقض والاضطراب، وإنما هو تفاوت الرواية والحفظ. ومن حفظ حجة على من لم يحفظ. فكل هذه النقول صحيحة، وسائر نقلتها عدول، وقد ذكر كل منهم ما انتهى إليه علمه بحسب التلقي والمشافهة عن شيوخه، وعليه فلا اختلاف. وهناك نقول أخرى غير هذه تركنا ذكرها هنا طلباً للاختصار والله تعالى أعلم»( ).
فأنت ترى كيف صحح الشيخ المرصفي نسبة هذه الوقوف، وأيدها، وانتصر لها، بينما تجد في المقابل أن الشيخ الحصري شكك فيها ، إذ إنه لما أوردها في كتابه، عقَّب عليها بقوله: «وسمي الوقف في هذه المواضع وقف السنة، ووقف جبريل، ووقف الاتباع، لأن الرسول  كان يتحرى الوقف في هذه المواضع دائما. هكذا قالوا. ولكن، مع التنقيب البالغ، والبحث الفاحص في شتى الأسفار، ومختلف المراجع، من أمهات الكتب في علوم القرآن والتفسير والسنة والشمائل والآثار، لم أعثر على أثر صحيح أو ضعيف يدل على أن الوقف على جميع هذه المواضع أو بعضها من السنة العملية أو القولية، ولعلنا بعد هذا نظفر بما يبدد القلق ويريح الضمير»( ).
وأحسب أن هذا مثالا جيدا لهذا السبب من أسباب الاختلاف؛ لأنه جمع سبعة عشر مثالا، فإذا استثنيت منها المواضع الأربعة التي تقدم أنها رؤوس آي، يبقى معك ثلاثة عشر موضعا يمكن أن يكون للاختلاف فيها مجال. فالذي يثبت نسبة ذلك إلى الجناب الشريف > لا إشكال عنده في جواز الوقف، والذي لا يثبته سيختلف نظره إليها، أو إلى بعضها، مثل: ﴿فحشر﴾، ومثل: ﴿قل صدق الله﴾ الخ.

السبب الرابع: رسم المصحف
اعتبرت رسم المصحف سببا من أسباب الخلاف؛ لأن كثيرا من الكلمات في القرآن الكريم اختلفت المصاحف في رسمها بين الوصل والفصل( )، وذلك مثل: (أين ما) في قوله تعالى في النساء: ﴿أين ما تكونوا يدرككم الموت﴾ و(أن لا) في قوله تعالى في الأنبياء: ﴿أن لا إله إلا أنت سبحانك﴾، ومن ما في قوله تعالى في المنافقون: ﴿مما رزقناكم﴾ ونحو ذلك، فعلى تقدير أنها كتبت مفصولة يجوز الوقف اضطرارا أو اختبارا على الكلمة الأولى منها، وعلى تقدير أنها كتبت موصولة لا يجوز ذلك( ).
السبب الخامس: السياق
لا يخفى أن السياق له دور كبير في بيان المعنى في القرآن الكريم؛ وهو أيضا له دور في اختلاف العلماء في الوقف والابتداء؛ إذ يمكن أن يكون مرجحا قويا لنوع من أنواع الوقف على نوع آخر. وخذ كمثال على ذلك قوله تعالى: ﴿ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه﴾، فقد وقع خلاف بين العلماء في نوع الوقف على قوله تعالى: ﴿ ولقد همت به﴾.
قال الشيخ محمد محمد أبو شهبة: «والصحيح في تفسير قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّه﴾ أن الكلام تم عند قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِه﴾ وليس من شك في أن همها كان بقصد الفاحشة، ﴿وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾. الكلام من قبيل التقديم والتأخير ، والتقدير : ولولا أن رأى برهان ربه لهمَّ بها ، فقوله تعالى: ﴿وهم بها﴾، جواب "لولا" مقدم عليها ومعروف في العربية أن "لولا" حرف امتناع لوجود ، أي: امتناع الجواب لوجود الشرط، فيكون الهم ممتنعا لوجود البرهان الذي ركزه الله في فطرته...
وهذا هو القول الجزل الذي يوافق ما دل عليه العقل من عصمة الأنبياء، ويدعو إليه السابق واللاحق»( ).
وما عبر عنه بالسابق واللاحق هو الذي يعبر عنه غيره بالسياق، والسياق هنا يرجح أن يكون الوقف كافيا على قوله تعالى: ﴿ولقد همت به﴾ ويكون همُّ يوسف لم يحدث؛ لكون حدوثه معلقا على عدم رؤيته برهان ربه، فبما أنه رأى برهان ربه لم يصدر منه همٌّ، ويدل على ذلك من سابق الآية قوله سبحانه: ﴿قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي﴾، ومن لاحقها قوله جل وعز: ﴿واستبقا الباب﴾ وما بعدها.
السبب السادس: عد الآي
معلوم أن مذاهب العد سبعة، ومعلوم أن بينها خلافا في أربعة وخمسين ومائتي موضع، وبعض هذه المواضع له تعلق شديد بما بعده. ولذلك أمثلة كثيرة:
منها في أول البقرة قوله تعالى: ﴿ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون﴾ حيث عد أهل الشام: ﴿عذاب أليم﴾ رأس آية، ولم يعدها غيرهم.
ومنها قوله تعالى في أول آل عمران: ﴿وأنزل التوراة والإنجيل﴾ حيث ترك عده الشامي، وعده غيره.
فمن عد الموضعين وما ضارعهما جاز له الوقف، ومن لم يعدهما لم يقف، على الخلاف المشهور في حكم الوقف على رؤوس الآي، وليس هذا محل بسطه.

السبب السابع: علم البلاغة
عبرت بعلم البلاغة لأدخل فنون البلاغة الثلاثة؛ لأنها كلها قد يكون لها أثر في الوقف والابتداء، لكن فن المعاني أكثر تاثيرا؛ لأن مباحثه كثيرة، فمنها القصر، والفصل والوصل، والإنشاء، والإيجاز والإطناب والمساوات...
ولقد احتفل ببيان ذلك العلامة ابن عاشور أيما احتفال، واسمع إليه يقول: «إن بلاغة الكلام لا تنحصر في أحوال تراكيبه اللفظية، بل تتجاوز إلى الكيفيات التي تؤدى بها تلك التراكيب؛ فإن سكوت المتكلم البليغ في جملة سكوتا خفيفا قد يفيد من التشويق إلى ما يأتي بعده ما يفيده إبْهام بعض كلامه ثم تعقيبه ببيانه، فإذا كان من مواقع البلاغة نحو الإتيان بلفظ الاستئناف البياني، فإن السكوت عند كلمة وتعقيبها بما بعدها، يجعل ما بعدها بمنزلة الاستئناف البياني، وإن لم يكنه، مثاله قوله تعالى: ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً﴾[النازعات:16] فإن الوقف على قوله: ﴿مُوسَى﴾ يحدث في نفس السامع ترقبا لما يبين حديث موسى، فإذا جاء بعده: ﴿إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ﴾ الخ، حصل البيان، مع ما يحصل عند الوقف على كلمة ﴿موسى﴾ من قرينة من قرائن الكلام؛ لأنه على سجعة الألف، مثل قوله: ﴿طُوىً﴾، ﴿طَغَى﴾، ﴿تَزَكَّى﴾ الخ»( ).
ثم مثل رحمه الله بمثال آخر فقال:
«وقد بينت عند تفسير قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة:2] أنك إن وقفت على كلمة ﴿رَيْبَ﴾ كان من قبيل إيجاز الحذف، أي: لا ريب في أنه الكتاب، فكانت جملة ﴿فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ﴾ ابتداءَ كلام، وكان مفاد حرف (في) استنزالَ طائر المعاندين، أي: إن لم يكن كله هدى فإن فيه هدى. وإن وصلت ﴿فِيهِ﴾ كان من قبيل الإطناب، وكان ما بعده مفيدا أن هذا الكتاب كله هدى»( ).
السبب الثامن: القراءات
لهذا السبب أمثلة كثيرة في القرآن الكريم، ومن أول ما ورد منه في القرآن الكريم الوقف على قوله تعالى: ﴿ولو ترى الذين ظلموا إذ يرون العذاب﴾ فقد ذكر العلماء أن الوقف على لفظ ﴿العذاب﴾ تتعاقب عليه أنواع الوقف الثلاثة، وهي: الكافي والحسن والقبيح.
فعلى قراءة يعقوب بتاء الخطاب في ﴿ولو ترى﴾ وكسر همزة أن في قوله تعالى: {إن القوة لله جميعا وإن الله شديد العذاب} يكون الوقف كافيا؛ لأن الجملة مستأنفة، وجواب لو محذوف. ومثل هذا يقال في قراءة أبي جعفر، إلا أنه يقرأ ﴿ولو يرى) بالغيبة.
وعلى قراء نافع وابن عامر بتاء الخطاب في ﴿ولو ترى﴾ وفتح همزة أن في موضعيها: ﴿أَن القوة لله جميعا وأَن الله شديد العذاب﴾ يكون الوقف حسنا، قال الإمام الداني: «لأن ﴿أَن﴾ تكون منصوبة على التكرير بتقدير: ولو ترى الذين ظلموا إذ يرون العذاب ترى، أو ترون أن القوة لله»( ).
وعلى قراءة باقي العشرة بالغيب وفتح ﴿أن﴾ يكون الوقف قبيحا؛ لأن ﴿أن﴾ منصوبة بـ ﴿يرى﴾( ).
فهذا من أوضح الأمثلة على تأثير القراءات في الوقف والابتداء، ونظائره في القرآن كثير.

السبب التاسع: القصص
لا ريب أن العلم بالقصص، وابتدائها وانتهائها، وتفاصيل الأحداث التي تذكر فيها، له أثر ملموس في اختلاف العلماء في الوقف والابتداء، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: ﴿قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ﴾، فقد اختلف المفسرون في مدة تيه بني إسرائيل، ومدة تحريم الأرض المقدسة عليهم، وبناء على ذلك اختلفوا في حكم الوقف على قوله تعالى: ﴿ قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ﴾ وقوله سبحانه: ﴿ أَرْبَعِينَ سَنَةً﴾.
قال الإمام الطبري رحمه الله: «اختلف أهل التأويل في الناصب لِـ(الأربعين).
فقال بعضهم: الناصب له قوله:﴿محرّمة﴾، وإنما حرم الله جل وعزّ على القوم الذين عصوه، وخالفوا أمره من قوم موسى، وأبوا حَرْب الجبارين، دخولَ مدينتهم أربعين سنة، ثم فتحها عليهم وأسكنهموها، وأهلك الجبارين بعد حرب منهم لهم، بعد أن انقضت الأربعون سنة وخرجوا من التيه»( ).
ثم اسند لمن قال بذلك، ثم قال: «وقال آخرون: بل الناصب لِـ﴿الأربعين﴾ ﴿يتيهون في الأرض﴾. قالوا: ومعنى الكلام: قال فإنَّها محرمة عليهم أبدًا، يتيهون في الأرض أربعين سنة. قالوا: ولم يدخُل مدينة الجبَّارين أحد ممن قال: ﴿إنا لن ندخلها أبدًا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون﴾، وذلك أن الله عزَّ ذِكرُه حرَّمها عليهم. قالوا: وإنما دخلها من أولئك القوم يُوشع وكلاب، اللذان قالا لهم: ﴿ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون﴾، وأولادُ الذين حرَّم الله عليهم دخولها، فتيَّههم الله فلم يدخلها منهم أحدٌ»( ). ثم أسند لمن قال بذلك.
وبعد ما عرفت اختلاف أهل العلم بالقصص أنقل لك قول أهل العلم بالوقف الابتداء، فهذا الإمام أبو عمرو الداني يقول: «في ذلك وجهان من التفسير والإعراب؛ من قال: إن التحريم والتيه كان أربعين سنة، وهو قول ابن عباس والربيع والسدي، نصب ﴿أربعين﴾ بـ﴿محرمة﴾ على تفسير التحريم. فعلى هذا يكون الوقف على: ﴿يتيهون في الأرض﴾، وهو قول عبد الرزاق، وهو اختيار ابن جرير.
وقيل: الوقف على ﴿أربعين سنة﴾، ثم يستأنف ﴿يتيهون في الأرض﴾.
ومن قال: إن التحريم كان أبدا، وإن التيه كان أربعين سنة، وهو قول عكرمة وقتادة، نصب ﴿أربعين﴾ بـ﴿يتيهون﴾. فعلى هذا يكون الوقف على: ﴿محرمة عليهم﴾. هو قول نافع ويعقوب والأخفش وأبي حاتم، وهو اختياري»( ).
فتحصل من اختلاف أهل القصص ثلاثة أقوال في الوقف:
القول الأول: أن الوقف على: ﴿محرمة عليهم﴾.
القول الثاني: أن الوقف على: ﴿محرمة عليهم أربعين سنة﴾ وتكون جملة ﴿يتيهون في الأرض﴾ مستانفة.
القول الثالث: أن الوقف لا يجوز إلا على: ﴿يتيهون في الأرض﴾.
ومعلوم أن بين الموضع الأول والثاني تعانقا.
السبب العاشر: كمال الإعجاز
قد يكون لهذا السبب علاقة بعلم البلاغة باعتبار أن من أهم طرق إعجاز القرآن الكريم ما امتاز به من كمال الفصاحة وجمال والبلاغة وإبداع النظم، يقول الشيخ ابن عاشور رحمه الله:
«ولما كان القرآن مرادا منه فهم معانيه، وإعجاز الجاحدين به، وكان قد نزل بين أهل اللسان، كان فهم معانيه مفروغا من حصوله عند جميعهم. فأما التحدي بعجز بلغائهم عن معارضته فأمر يرتبط بما فيه من الخصوصيات البلاغية التي لا يستوي في القدرة عليها جميعهم؛ بل خاصة بلغائهم من خطباء وشعراء، وكان من جملة طرق الإعجاز ما يرجع إلى محسنات الكلام من فن البديع، ومن ذلك فواصل الآيات التي هي شبه قوافي الشعر وأسجاع النثر، وهي مراده في نظم القرآن لا محالة... فكان عدم الوقف عليها تفريطا في الغرض المقصود منها«( ).
فهو هنا جعل الوقف على رءوس الآي مظهرا من مظاهر الإعجاز، والذي لا يقف يفرط في إظهار هذا الإعجاز للسامعين.
ويمكن التمثيل أيضا بقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَاْلإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا﴾
يقول نظام الدين النيسابوري:
«﴿لا يفقهون بها﴾(ج)( ) لأن العطف صحيح، ولكن الوقف لإمهال فرصة الاعتبار. وكذا الثانية؛ ولهذا كرر لفظة ﴿لهم﴾ في أول كل جملة»( ).
فالوقف على كلمة ﴿بها﴾ في مواضعها الثلاثة يضفي على المقام روعة يفوتها الوصل، ويجعل للسامع فرصة يجري فيها خياله وراء المعنى، ولذلك كررت لفظة ﴿بها﴾. وهذا لا شك أنه إعجاز لا يسيتطيعه مخلوق كائنا من كان.

السبب الحادي عشر: المذهب العقدي
من المعلوم أن القرآن الكريم والسنة النبوية هما المصدران الرئيسان اللذان يستمد منهما المسلمون عقيدتهم، ومن المعلوم أيضا أن القرآن الكريم حمال لوجوه من المعاني والدلالات، ومحتمل لأوجه من التقديرات والتأويلات، ومن بين ما ساهم في ذلك: الوقف والابتداء؛ حيث تجد أن الاستدلال يختلف أحيانا بسبب توارد أنواع مختلفة من الوقف على موضع ما، وكثيرا ما ينزع أهل البدع والأهواء إلى الاستدلال بها على عقائدهم الفاسدة. ولذلك أمثلة في القرآن، منها:
1ـ قوله تعالى: ﴿الرحمن على العرش استوى﴾.
قال العلامة السمين الحلبي رحمه الله: «وفاعلُ ﴿استوى﴾ ضميرٌ يعودُ على ﴿الرحمنُ﴾. وقيل: بل فاعلُه ﴿ما﴾ الموصولةُ بعده، أي: استوى الذي له في السموات. قال أبو البقاء: (وقال بعضُ الغلاةِ: ﴿ما﴾ فاعلُ ﴿استوى﴾. وهذا بعيدٌ، ثم هو غيرُ نافعٍ له في التأويل؛ إذ يبقى قولُه ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ﴾ كلاماً تاماً ومنه هرب)( ).
قلت: هذا يُروى عن ابنِ عباسب، وأنه كان يقف على لفظ ﴿العرش﴾، ثم يبتدِئُ ﴿استوى له ما في السموات﴾ وهذا لا يَصِحُّ عنه»( ).
فصاحب هذا الوقف دفعه مذهبه المنكر لصفة الاستواء إلى منع الوقف على ﴿استوى﴾ لأنه عمل الرفع في ﴿ما﴾ الموصولة بعده.
2ـ قوله تعالى: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ﴾.
قال ابن كثير رحمه الله: «وقوله: ﴿مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ﴾ نفي على أصح القولين، كقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾[ الأحزاب : 36 ].
وقد اختار ابن جرير أن ﴿مَا﴾ ها هنا بمعنى "الذي"، تقديره: ويختار الذي لهم فيه خيرة. وقد احتج بهذا المسلك طائفة المعتزلة على وجوب مراعاة الأصلح. والصحيح أنها نافية، كما نقله ابن أبي حاتم، عن ابن عباس وغيره أيضا، فإن المقام في بيان انفراده تعالى بالخلق والتقدير والاختيار، وأنه لا نظير له في ذلك؛ ولهذا قال: ﴿سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾، أي: من الأصنام والأنداد، التي لا تخلق ولا تختار شيئًا»( ).
وقال الأشموني: «والوقف على ﴿ويختار﴾، وهو مذهب أهل السنة، وترك الوقف عليه مذهب المعتزلة. والطبري من أهل السنة منع أن تكون ﴿ما﴾ نافية قال: (لئلا يكون المعنى أنَّه لم تكن لهم الخيرة فيما مضى وهي لهم فيما يستقبل)( ) وهذا الذي قاله ابن جرير مروي عن ابن عباسب. وليس بوقف إن جعلت {ما} موصولة في محل نصب والعائد محذوف، أي: ما كان لهم الخيرة فيه. ويكون (يختار) عاملاً فيها وكذا إن جعلت مصدرية، أي: يختار اختيارهم».
فظهر بهذا أن الصحيح أن يكون الوقف على ﴿ويختار﴾ وأن تكون ﴿ما﴾ نافية، والمعتزلة يمنعون هذا احتجاجا لمذهبهم.

السبب الثاني عشر: المذهب الفقهي
من أشهر الأمثلة على تأثير المذهب الفقهي في الوقف والابتدا قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
فالوقف على قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا﴾ مختلف فيه، قال الإمام النحاس: «فإن هذا يُعرَف التمام فيه من جهة الفقه»( ).
وقال الإمام الداني: «﴿شهادةً أبدا﴾ كاف على قول من قال: إن شهادة القاذف لا تجوز وإن تاب، والاستثناء في قوله: ﴿إلا الذين تابوا﴾ عند القائلين بذلك من الفسق لا غير...
ومن قال: إن شهادته جائزة إذا تاب، وجعل الاستثناء من قوله: ﴿ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا﴾ وما بعده، لم يقف على قوله: ﴿أبدا﴾ ووقف على قوله: ﴿فإن الله غفور رحيم﴾ وهذا هو الاختيار»( ).
ولما ذكر العلامة الأشموني هذا زاد تفصيلا بذكره المذاهب الفقهية، فقال: «وحاصله: أنَّ الفاسق إما أن يجيء تائباً وأقيم عليه الحد وتاب، أولم يُحَدَّ ولم يَتُبْ، أو تابَ ولم يُحَدَّ، أوْ حُدَّ ولم يَتُبْ. فالأول تقبل شهادته مطلقاً؛ لأنَّه زال عنه اسم القذف، وزال ما ترتب عليه من رد الشهادة. والثاني والثالث لا تقبل مطلقاً. والرابع اختلف فيه مالك والشافعي وأصحاب الرأي؛ فمالك يقول بقبول شهادته في غير ما حُدَّ فيه بخصوصه، والشافعي يقول بقبول شهادته وإنْ فيما حد فيه؛ لأنَّ الحدود عنده كفاراتٌ للذنوب، وأصحاب الرأي يقولون: لا تقبل شهادة المحدود وإن تاب»( ).
فهذا مثال واضح لتأثر الوقف والابتداء بالفقه، وقد ذكر الإمام الهذلي مثالين آخرين، فقال في معرض حديثه عن كتابه الجامع في الوقف والابتداء: «بينت فيه وقف الفقهاء، والصوفية، والمتكلمين، والقراء، وأهل المعاني؛ مثل قول الشافعي: ﴿فلا جناح﴾ ويبتدئ: عليه أن يطوَّف بهما﴾، وقول من جعل العمرة غير الحج، كابن سيرين وغيره حين قرأ: ﴿وأتموا الحج والعمرةُ لله﴾...»( ).
والمثال الأول منهما ذكره أيضا العلامة العكبَري، فقال: «واختلفوا في تمام الكلام هنا؛ فقيل: تمام الكلام ﴿فلا جناح﴾ ثم يبتدئ فيقول: ﴿عليه أن يطوف﴾ لأن الطواف واجب. وعلى هذا، خبر لا محذوف؛ أي: لا جناح في الحج. والجيد أن يكون عليه في هذا الوجه خبرا وأن يطوف مبتدأ»( ).
إلا أن المحقق ابن الجزري عد هذا الوقف مما يتعسفه المتعسفون، ويفضي إلى تمحل وتحريف للكلم عن مواضعه( ).

خاتمة​
هذا ما تيسر جمعه في هذا الموضوع، وهو موضوع بالغ الغاية في الأهمية، إلا أنه يحتاج إلى وقت وجهد كبيرين؛ ليتم استقراء ما في القرآن الكريم من الأمثلة لكل سبب من تلك الأسباب المذكورة، وليتم البحث بدقة أكثر عما إذا كانت هناك أسباب أخرى لها أثر في الاختلاف في الوقف والابتداء.
وأكاد أجزم أن هناك أسبابا أخرى، لذا فإني أوصي من بلغه كلامي هذا من المتخصصين أن يواصلوا بحث هذا الموضوع، ويستفيدوا من الرسائل العلمية التي سجلت حديثا، وأفردت بعض الأسباب بالدراسة.
كما أوصيهم بالعناية بعلم الوقف والابتداء عموما؛ لأنه علم جليل، يخدم جانبا مهما من جوانب تفسير كتاب الله تعالى، ويساعد على التدبر والفهم لما يقرؤه القارئ.
كما أخص بالوصية من انتصب للإقراء، وأشد على يديه أن يمارس مع طلابه هذا العلم تطبيقا، ويمرنهم على اختيار أنسب الأماكن للوقف، وينكر عليهم الوقفات المستبشعة أو الضعيفة.
وبعد، فهذا جهد المقل القليل البضاعة، المتطفل على هذه الصناعة، فإن يكن من توفيق فمن الله المعين، وإن يكن من زلل فمن نفسي ومن الشيطان اللعين، وما توفيقي إلا بالله عليه أتوكل وبه أستعين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وأصحابه والتابعين.
 
السلام عليكم ورحمة الله
بحث ماتع طيب، وفكرته جميلة.
شكر الله لكم، ونفع بما كتبتم.
 
أخي الكريم محمد عمران أحييك على كتاباتكم العلمية , ومشاراكاتكم الندية , وبجدارة تستحق أن تلقب (الداني الصغير). ولي وجهة نظر وليس بعد رأي د/ خالد منصور تعقيب.

فأقول : يمكن اختزال أسباب اختلاف الوقف في الآتي :

1/ وقوف السنة ( أي الوقف على رؤوس الآي).

2/ اللغة ( وتحتها يندرج الإعراب , والبلاغة ,,,).

3/ المعنى وهو ركيزة في أسباب الاختلاف في الوقف والابتداء.

أما الرسم فهو مندرج تحت الوقوف الاختبارية . (والحديث عن الوقف الاختياري).

أماالاختلاف العقدي والفقهي فلا يعد سببا - في نظري -لأمرين:

1/ قلة المواضع .

2/عدم تعميم الخلاف المنبي عليها لاختلاف مشارب الناس منقدم مذهبية وعقدية . ودمتم سالمين,,,[/SIZE]
 
الأستاذ أحمد:
السلام عليكم ورحمة الله، وشكرا لكم على تشجيعكم.
الأستاذ كامل:
حياكم الله، وأفخر أن أحمل ـ بحق ـ لقب الداني الصغير، لكني الآن لا أستحقه، فما أنا إلا (الطالب الصغير).
أشكرك أيها الأستاذ الكريم على هذه المناقشة الطيبة، وأطمئنك بأن الدكتور محمد خالد منصور كان له الفضل في اقتراح عنوان الموضوع فقط، لذلك خذ راحتك في النقد فلن يلحق الدكتور منه شيء.
وغرضي من طرح الموضوع هنا ـ ولم أنشره في مكان آخر ـ هو الوصول إلى حصر نهائي لتلك الأسباب، وجمع لأكبر قدر ممكن من الأمثلة لها.
لذلك أرى في هذه المرحلة أن لا تختزل في ثلاث كما تفضلتم، وقد يكون ذلك بعد حصول ما ذكرته.
وما تفضلتم به من أن أمثلة الخلاف العقدي والفقهي قليلة فأنا معكم في ذلك، لكن لا بد أن ننتظر ما سيسفر عنه بحث الماجستير لزميلنا في الملتقى أبو صالح المدني، وعنوانه: "أثر الوقف والابتدا في تقرير مسائل العقيدة" وكان قد أعلن عنه هنا:
http://vb.tafsir.net/showthread.php?t=14616
جزاك الله خيرا، والمزيد المزيد من ملاحظاتكم.
 
أخي الكريم محمد آيت عمران وفقه الله إلى ما يحبه ويرضاه
فلقد أرسلت إليك رسالة على الخاص ، ولما يأتني ردك بعد.
وأما عن موضوعك فهو موضوع قيم يستحق دراسة مفصلة موسعة ، وبخصوص كون رسم المصحف أحد أسباب الاختلاف في الوقف والابتداء فإنني أوافق أخي كامل الجعفري فيما ذهب إليه ، وأما ما ذهب إليه من أن أمثلة الخلاف العقدي والفقهي قليلة فأنا لا اوافقه فيما ذهب إليه ؛ لأنه لو وقف على أمثال كتب الإبانة في الوقف والابتداء لأبي الفضل الخزاعي ، والوقف والابتداء لابن الغزال النيسابوري ، وجامع الوقوف لأبي الفضل الرازي ، المنتخب في كتاب منازل القرآن لتكشفت له أمثلة كثيرة غير هذه الوقوف الموجودة في كتب الوقف والابتداء المطبوعة المتداولة ؛ مثل : وقف المشبهة على قوله تعالى في أول الأنعام : وهو الله في السماوات ، ووقف محيي الدين بن عربي ، أبرز القائلين بوحدة الوجود في سورة الأنعام على قوله تعالى : رسل الله الله ... وغير ذلك.
 
[align=justify]الخلافاتُ العقديةُ المنبنيـةُ على المذهب العقدي موجودةٌ في كتب العقائد , وأهل الوقوف ينقلون عنها ذلك.
أمَّا قول أخينا الشيخ كامل في الخلاف الفقهي العائد إلى الوقف بانَّـهُ محدودُ المواضعِ ولا يُعَمَّـم الخلاف فيه , ففيه نظرٌ , لأنَّ بعضَ مسائل الفقه المشهورة كتوبة القاذف واعتبار شهادته بعد ذلك , لا وجهَ للخلاف فيها إلا موضعُ الوقفِ المُعتَبر.[/align]
 
جزاكم الله خيراً.
موضوع مهم، وأسأل الله تعالى أن ييسر للباحثين تحريره في بحوث مؤصلة موسعة مفصلة تستوعب أطرافه، وتضبط حدوده وأبعاده.
 
هذا النقاش يحسن أن يكون مبدؤه هذا السؤال :
هل الأصل المعنى أو الوقف ؟
فإن كان المعنى ، فكل الأسباب ترجع إليه ، فالخلاف الفقهي مرتبط بالمعنى أولاً ، ثم يُبنى الوقف عليه ، وكذا غيره من أسباب الوقف .
وإذا كان تكثير الأسباب من باب التفنن فلا بأس ، أما من الجهة العلمية فإن الأصل هو المعنى ، ثم يبنى عليه الوقف والإعراب والحكم ... إلخ .
وعندي أن الموضوع لو كان مرتبطًا بالعلاقة وليس بالتأثير لكان أسلم ، فيقال :
علاقة الوقف بالقراءات ، علاقة الوقف بعد الآي ، علاقة الوقف بالبلاغة .... إلخ .
 
ما شاء الله لا قوة إلا بالله بحث الشيخ محمد ايت عمران بحث جيد وثري بالمادة العلمية ويظهر فيه الجدة والابتكار ، وقد كنت بالأمس مع عدد من المتخصصين وكان النقاش في هذا الموضوع وتوصلنا إلى نتيجة مفادها أن كل الاختلاف في الوقف والابتداء راجع إلى الفهم والمعنى المراد ( كما تفضل الدكتور مساعد وفقه الله وسدد خطاه) ثم يتفرع من ذلك الفروع الأخرى ، وهي مندرجة تحت الفهم والمعنى المراد .
 
Tafsir Center for Quranic Studies | مركز تفسير للدراسات القرآنية

الاختلاف في وقوف القرآن الكريم
مسالكه، أسبابه قواعده آثاره رموزه
للدكتور عادل السنيد - حفظه الله -
وقد أحصى ستة أسباب في اختلاف الوقوف، وهي
اختلاف القراءات
اختلاف التفسير
اختلاف العقائد
اختلاف الأحكام والمذاهب الفقهية
اختلاف الإعراب
اختلاف الأسلوب البلاغي
 
عودة
أعلى