السلام عليكم ، تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال فى الشهر الفضيل ، وأعاده علينا جميعا بالخير والبركات
السؤال الاول: ما معنى قوله تعالى وازدادوا تسعا في قصة مكوث اهل الكهف ثلاثمائة سنة ؟ قد اجاب كثير أن هذه الجزئية من الاية للتفريق بين التقويم الشمسي والقمري ولست أرى هذا بجواب لان هذه معلومة لا ينبني عليها فائدة في القصة فهل من جواب اخر
نعم ، يوجد جواب آخر ، وهو جواب ينبنى عليه فائدة فى القصة كما تنشدون
وذلك إذا إعتبرنا أن عبارة "
وَلَبَثُوا فِـي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِـينَ " من مقول بعض الناس الذين سبق لهم أن أفتوا فى عدتهم ،
وعندئذ تكون عبارة " وَازْدَادُوا تِسْعاً " بمثابة إضراب عن القول الأول ( ثلاثَ مِئَةٍ سِنِـينَ ) ، بمعنى أنها تعبر عن تقدير طائفة أخرى من الناس الذين سبق لهم كذلك أن زادوا فى عدتهم عن الثلاثة فجعلوها خمسا ، ثم جعلوها سبعا ، ويشهد لهذا ما ذكره البيضاوى فى تفسيره بقوله :
" وقيل إنه حكاية كلام أهل الكتاب فإنهم اختلفوا في مدة لبثهم كما اختلفوا في عدتهم
فقال بعضهم ثلاثمائة ، وقال بعضهم ثلثمائة وتسع سنين "
ومما يعزز هذا الفهم ويؤيده ، ما ذكره المفسرون منذ شيخهم الطبرى رحمه الله وحتى أحدث التفاسير المعاصرة من أن عبارة {
وَلَبَثُوا فِـي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِـينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً } تُعد فى رأى البعض حكاية لكلام أهل الكتاب المعاصرين للنبى صلى الله عليه وسلم والذين تنازعوا فى أمر أصحاب الكهف ، وأنها ليست من خبر الله وتقريره ، ودليلهم على ذلك أن الله عز وجل يُعَقِب على هذا بقوله : {
قُلِ اللّهُ أعْلَـمُ بِـمَا لَبِثُوا } ، فلو كان العدد المذكور تقريراً منه تعالى لمدة لبثهم ، لما كان للتعقيب المذكور بعده أى معنى فى هذا السياق ، وهذا الرأى قد نسبه المفسرون إلى قتادة ومطرف بن عبد الله
جاء فى تفسير الطبرى: " وقالوا: لو كان ذلك خبرا من الله عن قدر لبثهم فـي الكهف، لـم يكن لقوله {
قُلِ اللّهُ أعْلَـمُ بِـمَا لَبِثُوا } وجه مفهوم بعد أن أعلم الله خـلقه قدر لبثهم فـيه."
وفى تفسير البحر المحيط :" قيل : هو من قول المتنازعين في أمرهم ، وهو الصحيح على مقتضى سياق الآية ، ويؤيده : {
قُلِ اللّهُ أعْلَـمُ بِـمَا لَبِثُوا } ، كما أنه جعل ذلك من الغيوب التي يختص بها الله تعالى فقال : (
له غيب السموات والأرض )
وفضلا عن هذا فإن ذلك الرأى قد تبناه كذلك بعض العلماء المعاصرين ، مثل الشيخ أبو الأعلى المودودى ، والشيخ عبد الوهاب النجار وغيرهم
وقد فصّل الشيخ النجار دليله على صحة هذا الرأى بقوله :
" إن قوله تعالى (
ولبثوا ) الخ ، معمول لقوله تعالى : {
سَيَقُولُونَ ثَلَـٰثَةٌ } الخ ، فهو من مقول السائلين ، وليس خبراً من الله تعالى ، لذا أتبع ذلك القول بقوله : (
قل ربى أعلم بعدتهم ، ما يعلمهم إلا قليل ) . وعلى ذلك فالقرآن لم ينص على عدد أهل الكهف ، ولا على المدة التى مكثوها فيه قبل أن يُعثر عليهم ، بل أمر الله رسوله أن يقول عن عددهم ( ربى أعلم بعدتهم ) ، وأن يرد عليهم حين يقولون : {
وَلَبِثُوا فِـي كَهْفِهِمْ ثلاثَ مِئَةٍ سِنِـينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً } بقوله : {
ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ } . وقد ورد هذا القول عن ابن عباس " ( أنظر تعليق الشيخ النجار على ما ورد فى دائرة المعارف الإسلامية ، المجلد الثالث ، ص 456 )
وأيضا فإن مما يعزز هذا الرأى ويمنحه مزيدا من الوجاهة والقبول ما هو معلوم من القصة القرآنية من أن الدافع وراء لجوء الفتية إلى الكهف هو الفرار بدينهم والنجاة بأنفسهم من بطش واضطهاد ملكهم الوثنى وحاشيته الشريرة الذين أرادوا إكراههم على تبديل دينهم
وهذا بدوره يدفعنا للتساؤل : وكم تدوم مدة حكم ملك ظالم على أقصى تقدير ؟
وهل يستلزم هذا الأمر أن يظل الفتية نياما فى كهفهم طيلة ثلاثة قرون بأكملها للنجاة من بطش هذا الملك بهم ؟!!
أعتقد أن الجواب واضح ، وأن أمراً كهذا لا يحتاج إلى كل تلك الفترة الطويلة جدا ، وإنما يكفى أن تمر بضعة عقود من السنين لن تتجاوز غالبا نصف قرن فحسب وعلى أقصى تقدير
وحتى لو افترضنا أن هذا الملك الظالم بعدما هلك قد خَلَفَه سليل ظالم على شاكلته ، أو حتى أكثر من خليفة ظالم مثله
أقول : حتى لو افترضنا ذلك - برغم عدم ثبوت ذلك - فإن من الصعب تصور أن رحمة الله تعالى تتأخر عن نجدة المظلومين والمستضعفين ( وهم هنا عامة الشعب ) لثلاثة قرون كاملة
فإذا كان الأمر كذلك ، فما الذى أتى بتلك التقديرات الكبيرة والمبالغ فيها : {
ثلاثَ مِئَةٍ سِنِـينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً } ؟
والجواب نأخذه من علوم تاريخ الأديان والإجتماع والميثولوجى : إنها مبالغات البشر المعهودة التى دأبوا على نسجها حول الأخبار والوقائع العجيبة فزادوا فيها كثيرا حتى أحالوها إلى ما يشبه الأساطير والخرافات
إنها الطبيعة البشرية التى تغلو فى شأن كل ما هو غير مألوف وكل ما هو خارق لناموس الطبيعة
ألم يسبق لهؤلاء الذين اختلفوا فى أمر أصحاب الكهف أن غلوا كذلك فى شأن المسيح ابن مريم عليهما السلام ، وهو الغلو الذى سجله عليهم القرآن ونهاهم عنه فى الآية 171 من سورة النساء ؟!
فالقرآن هنا فيما أرى إنما ينقل لنا مبالغاتهم وغلوهم فى تقدير المدة التى لبثها هؤلاء الفتية الذين بدوا لهم وقد خرقوا ناموس الطبيعة وحجاب الزمان
أقول : إن القرآن ينقل لنا هذه المبالغات ، ثم يُعقّب عليها تعقيبا بليغاً بقوله : "
قُلِ اللّهُ أعْلَـمُ بِـمَا لَبِثُوا ، لَهُ غَيْبُ السَّمَواتِ والأرْضِ " ، فجعل مدة لبثهم من الغيوب التى لا يعلمها بالتفصيل إلا هو سبحانه
وفى هذا التعقيب وحده الكفاية - فيما أرى - لترجيح الرأى المطروح
هذا هو ما أميل إليه ، والله أحكم وأعلم
السؤال الثاني: لم كان تمييز العدد مجموعا في قوله ثلاثمئة سنين دون سنة مثلا
أرى أن ما جاء فى هذا السؤال إنما يؤكد الرأى السابق ذكره ، لأن القياس كان يقتضى بالفعل أن يأتى تمييز العدد مفردا ( سنة ) وليس مجموعاً ( سنين ) ، والذى أراه أن عدول القرآن الكريم عن القياس المألوف إنما يؤكد أنه يترجم مقولة إناس أعجمين ، فالأعاجم هم الذين يجعلون تمييز العدد على هذا النحو ، فيقولون مثلا : 300years
ولا يقولون 300 year
فكأن القرآن هنا يترجم قولهم إلى العربية ترجمة حرفية دون أن يخل بمعنى الكلام العربى ، وعلى ذلك تكون تلك الترجمة بمثابة إشارة خفية وإعجازية إلى أن هذا الإحصاء ليس خبرا من الله تعالى ، وإنما هو حكاية لقول الأعجمين الذين شهدوا هذه المعجزة ودونوها فى كتبهم باللغات السريانية واللاتينية واليونانية والروسية تحت اسم "
نيام أفسوس السبعة " ، حيث" أفسوس " هو اسم المدينة التى شهدت تلك الواقعة العجيبة ، وأعتقد أن هذا الجواب يصلح لدفع السؤال الثالث كذلك
ويبقى الله عز وجل أحكم وأعلم