في المسألة المطروحة هناك أدلة وليس هناك من نص يقدّم لنا من قبل أيٍّ من المختلفين في المسألة.
بارك الله فيكم . هذا غلط ، أنتم مَن ادعى التوقيف ، فأدخلتم في دين الله ما ليس منه ، فصرتم المطالبين بالدليل عليه ، إذ ادعيتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجّه الكُتابَ إلى نظام معين يتبعونه في كتابة المصاحف يوافق أو يخالف ما عهدوه من نظام كتابتهم قبل بعثته صلى الله عليه وسلم ، وهذه دعوى خطيرة تحتاج إلى برهان وبينة ، لما يترتب عليها من أحكام شرعية يجب المصير إليها .
فالأصل أن الصحابة رضي الله عنهم فعلوا ما لا دليل عندكم يخرجه عن أن يكون مباحا كغيره من سائر معارف الدنيا التي سكت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يوقّفهم على شيء فيها ! شأنه في ذلك شأن جميع رسل الله وأنبيائه ، إذ لم يُبثعوا لمثل هذا .
ومع ذلك نجيبكم إلى بعض ما طلبتم هنا :
فأرجو أن يُنقل لي أقوال عن الصحابة تؤيد قولهم بأن الرسم ليس بتوقيفي.
من ذلك - مثلا - قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ( لا
يُمْلِيَنَّ - أو
يُمِلَّنَّ - في مصاحفنا هذه إلا غلمان قريش أو غلمان ثقيف ) . [ أخرجه أبو عبيد في الفضائل ، وابن أبي داود في المصاحف ، وغيرهما بسند صحيح لغيره ] .
وكذا قوله رضي الله عنه لما قال له رجل : ( يا أمير المؤمنين ، جئتك من الكوفة وتركت بها رجلاً
يملي المصاحف عن ظهر قلبه ) يعني عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، قال عمر رضي الله عنه : ( والله ما أعلم بقي من الناس أحد هو أحق بذلك منه ) . [ أخرجه ابن أبي داود وغيره بسند حسن ] .
ومن ذلك أيضا قول عثمان بن عفان رضي الله عنه في نسخ المصاحف : ( فليكتبْ زيدٌ
وليُمل سعيدٌ ) ، أو ( ليكتب أحدهما ،
ويملي الآخر ) . [ أخرجه ابن أبي داود في المصاحف بسند صحيح ] .
وكذا ما رواه البخاري في صحيحه ( كتاب فضائل القرآن ، باب تأليف القرآن ) عن يوسف بن ماهَكٍ : أن عائشة رضي الله عنها أخرجت مُصحفَها لرجل عراقي
فأمْلَتْ عليه آيَ السوَرِ . وعند أبي عبيد في الفضائل أن يوسف هو الذي أملى عليه .
والشاهد مما أوردت هنا وغيره أنهم كانوا يملون المصاحف ، ولو كان وقّفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على كيفية معينة من الرسم ووجوه خاصة = لما كان الإملاء ممكنا أبدا ، إنما كان يجب أن ينقل الرجل بنفسه ونظره هو من مصحف معين ، حتى ينسخه كله ، وهذا عسير جدا في مثل زمانهم ، بل ونادر حتى في زماننا اليوم بعدما تيسرت أدواته من أقلام ومداد وورق وأجهزة .
ثم إن الإملاء هو المتصور أصلا في عملهم ، لأن به يمكن للنفر من الرجال أن يكتبوا جميعا في الوقت نفسه بإملاء رجل واحد . فينجزون النسخ بسرعة . وإلا بقوا في إخراج النسخة الواحدة أياما كثيرة ! وربما اضطروا لتوزيع سور المصحف أو صفحات منه قليلة على عدة رجال ينسخون نقلا بأنظارهم . ولعل هذا مما جعل بعض السور في بعض المصاحف تتفرد بوجه معين من الرسم دون سائره أحيانا .
الإمام مالك أفتى بعدم جواز كتابة المصاحف بالرسم الجديد، بل الكتبة الأولى. فلماذا يصر رضي الله عنه على الرسم العثماني على الرغم من أن الكتابة كالصناعة كما يُصر الأخ حسين.
هذا يدل على أن فضيلتكم لم يرجع إلى ما أحلته إليه غير مرة من مراجع ، وهذه مشكلة لا يمكن معها استمرار النقاش . وقد لاحظت هذا من كثير من المغالطات في كلامكم ، والتي كان يجب أن يظهر فيه أنكم حتى كلفتم أنفسكم بالرجوع إليها ، وإلا كان ظهر ذلك ، سواء بقبوله والمصير إليه أو مناقشته والرد عليه .
ومجرد قولكم ( بالرسم
الجديد ) ، وقولهم لمالك رحمه الله من قبلكم : ( على ما
أحدثه الناس ) = يدل دلالة قوية على أن سائر كتاباتهم قديما كانت توافق رسم المصحف ، لمن تأمل .
أما كتابة غير المصاحف فهذا ليس محل خلاف، لأن سؤالنا محدد: هل يجوز كتابة المصاحف بالرسم الجديد الأقرب إلى اللفظ القرآني المجمع على أنه وحي من الله تعالى؟!
أيضا هذا السؤال يؤكد لي أنكم لم ترجعوا إلى ما أحلتكم إليه في مشاركة سابقة . إذ ما زالت كثير من الحقائق غائبة عنكم .
قلت مرارا : رُسمت المصاحف على ما عرفوا من نظام الكتابة في زمانهم ، ولم يكن أحدهم يجد مشكلة بين ما ينطق وما يكتب ، في المصاحف وغيرها ، إنما المشكلة عند بعضنا الآن ممن لا يدرك ذلك .
حتى إذا تغيرت كتابات الناس وتطورت ، بدأ بعضهم يلاحظ اختلافا - ولو يسيرا - بين ما أحدثوا من الرسم ، وما يجدوه في المصاحف الأولى = سئل عن ذلك مالك رحمه الله وغيره ، فأفتوا بما علمتم ، لتعلق
بعض الرسم بالقراءة ، لا لاعتقادهم بتوقيفه كما ظننتم .
وقلتُم وقلنا مرارا أن ليس كل ظواهر الرسم تتعلق بالقراءة والأداء ، إنما بعضها . وحديثكم هنا عن المصحف كله ، وليس عن كلمة واحدة أو كلمتين لا يختلف الأداء بتغير وجه رسمهما !
النقط والشكل لا علاقة له بموطن الخلاف لأنها إضِافات لم تذهب الرسم العثماني. وتشدد السلف واحتياطهم عند إدخال النقط والشكل يدل على أنهم يلتزمون الرسم العثماني بشدة. ولو كان علمهم أن الرسم منهم لما تشددوا فيه.
ما ثبت من تشدد بعضهم في ذلك أول أمره ، لأمور منها خشية تغير ما قد يؤثر في القراءة ويحيلها ، فهو حرص على القراءة أولا وأخيرا كما قلت . وخشية تأثرها بذلك إذ بدأ اللحن يفشو في الناس ويكثر ، فلما تبين مصلحة ذلك رجعوا إليه وعدوه خيرا .
لا قيمة لإجماع الصحابة إلا أن يكون من قبيل الإجماع على أمر شرعي. فتمسك البعض بالرسم مع الزعم بأنه من اصطلاح الكتبة يوقعنا في تناقض.
مَن ظن أني أعتقد باصطلاح الرسم بمعنى أنه من اختراع الصحابة أو اتفاقهم على ظواهره ووجوه رسمه ( كالمجامع اللغوية الآن مثلا ، أو لجان مراجعة المصاحف ) ، أو اتفاقهم على حذف كلمة من مصحف معين وإثباتها في آخر لمصحلة ما ، أو بمعنى أنهم اصطلحوا على زيادة حرف في كلمة كذا ونقصانه في أخرى لسبب ما رأوه = من ظن ذلك من كلامي فقط أخطأ ، ولم يدرك ما أردت بيانه !
اعتقادي في الرسم - الذي لم أجد ما ينقضه إلى الآن ، ويظهر لي كل يوم ما يؤكده - أنهم نسخوا المصاحف وِفق ما عرفوا وألفوا ونشأوا عليه وشبوا من نظام الكتابة وأساليبها وقواعدها في زمانهم - كما نحن الآن وغيرنا من الأمم في سائر كتاباتها - ، ووفق ما علموه وانتقل إليهم من صنعة الكتابة ممن سبقهم من العرب أو الأمم القريبة منهم . ولم يجدوا في ذلك اختلافا بين ما يكتبونه في مصاحفهم وفي غيرها . كل ذلك وقع منهم دون اتفاق أو توقيف .
ورغم تطور الكتابة كل يوم وبُعد زمانهم عنا ، ما زالت تحتفظ كتاباتنا بكثير من الظواهر الكتابية التي نجد آثارها جلية في رسم المصحف وغيره من النقوش القديمة التي بلغنا صفة رسمها . كمثل حذفنا الألف في ( هذا ، لكن ، هؤلاء ) وغيرها ، وكمثل إثبات الواو في ( أولئك ، عمرو ) وغير ذلك كثير جدا . ولم يبق منه إلا القليل الذي بقي أثره في رسم المصاحف وتغيرت كتابة الناس فيه ، مثل كلمة ( الصلوة ) ، حتى وقت قريب جدا كان كثير من الناس يكتبها كذلك بالواو !
حتى أخذت تطرد كثير من ظواهر الرسم مع الأيام ، ولم يشذ إلا اليسير ، ثم حُفظ الأمر بالرواية وبقي على ذلك في بعض المصاحف إلى يومنا ( كما مثلنا بكلمة لأاذبحنه ) ، كل ذلك بقدر الله عز وجل .
فليس لأحد بعد ذلك أن يطالب بتغيير رسم المصاحف لمجرد اختلافاته اليسيرة هذي مع ما أحدث الناس . بل الأولى أن تُعلَّم لمن يقدر .
فإن هممتُ بنسخ مصحف أو طباعته - وقد صار ذلك ميسورا في زماننا بفضل الله - ، وتحريتُ في ضبطه قراءة أهل مصر من الأمصار ، فما يجرمني بعد ذلك على ترك ما بلغني من رسم المصاحف القديمة ، على ما بين رسمها ورسمنا من اختلافات يسيرة ؟!
ثم إن الاكتفاء بما رواه علماء الرسم يسد باب الاختلاف على رسم موحد جديد يكون نموذجا يُرجع إليه في نسخ المصاحف !
وإلا رأينا العجائب في المصاحف ، بعدما فشا الفساد في الناس كما نعلم !
لكن الأهم من ذلك كله أن (بعض) الرسم يتعلق بحروف القراءة . غير ما هنالك من مصالح عدّها العلماء يطول الحديث هنا بتتبعها .
ومع ذلك كله لم يمنع العلماء من كتابة القرآن أو بعضه على ما أحدث الناس ، ولا نجد دليلا يمنع من ذلك . ما دام الرسم محفوظا يرجع إليه القراء والباحثون . ثم إن كلام مالك وأحمد لا يُفهم منه حُرمة ذلك أو كُفر فاعله أبدا ، إنما كرهوه لما ذكرنا . ولو كان القول بالتوقيف ظاهرا في الناس جليا مسلما به معمولا عليه الإجماع كما ظننتم = ما استفتى الناسُ مالكا والأئمةَ في ذلك ، ولروى الأئمة دلائله في كتبهم وفتاويهم واستشهدوا به على أقوالهم ، ولما رأينا مصاحف كثيرة في خزانات العالم مما يرجع إلى القرون الأولى - لا تكاد تجد تطابقا تاما بين ثلاثة منها في ظواهر الرسم التي لا يختلف الأداء بتغير وجوهها ، وإن كُتبت جميعا وفق ما صح ولاقى القبول من قراءات أئمة الأمصار .