أثر تعلُّم القرآن في الملكة اللسانية عند ابن خلدون

إنضم
24 يونيو 2007
المشاركات
90
مستوى التفاعل
0
النقاط
6
أثر تعلُّم القرآن في الملكة اللسانية عند ابن خلدون :

يرى ابن خلدون رحمه الله أن تعلّم القرآن وحده لا يكفي للحصول على الملكة اللسانية " الفصاحة والبلاغة " ، يقول : ( فأما اهل إفريقية والمغرب فأفادهم الاقتصار على القرآن القصور عن ملكة اللسان جملة ، وذلك لأن القرآن لا ينشأ عنه في الغالب ملكة لما أن البشر مصروفون عن الإتيان بمثله ، فهم مصروفون عن الاستعمال على أساليبه والاحتذاء بها ، وليس لهم ملكة في غير أساليبه ، فلا يحصل لصاحبه ملكة في اللسان العربي ، وحظه الجمود في العبارات وقلة التصرف في الكلام )

في حين يقول عنأهل الأندلس : ( وأما أهل الأندلس فأفادهم التفنن في التعليم وكثرة رواية الشعر والترسل ومدارسة العربية من أول العمر ، حصول ملكة صاروا بها أعرف في اللسان العربي ،....)

وأيّد كلامه بكلام القاضي ابن العربي ، يقول ابن خلدون : ( ولقد ذهب القاضي أبو بكر بن العربي في كتاب رحلته إلى طريقة غريبة في وجه التعليم وأعاد في ذلك وأبدأ وقدم تعليم العربية والشعر على سائر العلوم كما هو مذهب أهل الأندلس . قال : لأن الشعر ديوان العرب ويدعو على تقديمه وتعليم العربية في التعليم ضرورة فساد اللغة ثم ينتقل منه إلى الحساب فيتمرن فيه حتى يرى القوانين ثم ينتقل إلى درس القرآن فإنه يتيسر عليك بهذه المقدمة ) .

ثم يذكر ابن خلدون سببين لاكتساب الملكة اللسانية وحصولها :
السبب الأول : كثرة الحفظ .
يقول : ( حصول ملكة اللسان العربي إنما هو بكثرة الحفظ من كلام العرب ، حتى يرتسم في خياله المنوال الذي نسجوا عليه تراكيبهم ....... وعلى مقدار جودة المحفوظ أو المسموع ، تكون جودة الاستعمال من بعده ، ثم إجادة الملكة من بعدهما )

السبب الثاني : تعلّم القرآن الكريم والحديث النبوي ! !
يقول : ( ويظهر لك من هذا الفصل وما تقرر فيه سر آخر ، وهو إعطاء السبب في أن كلام الإسلاميين من العرب أعلى طبقة في البلاغة وأذواقها من كلام الجاهلية ، في منثورهم ومنظومهم . فإنا نجد شعر حسان بن ثابت وعمر بن أبي ربيعة والحطيئة وجرير والفرزدق ونصيب وغيلان ذي الرمة والأحوص وبشار ، ثم كلام السلف من العرب في الدولة الأموية وصدرا من الدولة العباسية ، في خطبهم وترسيلهم ومحاوراتهم للملوك أرفع طبقة في البلاغة بكثير من شعر النابغة وعنترة وابن كلثوم وزهير وعلقمة بن عبدة وطرفة بن العبد ، ومن كلام الجاهلية في منثورهم ومحاوراتهم .والطبع السليم والذوق الصحيح شاهدان بذلك للناقد البصير بالبلاغة .
والسبب في ذلك أنّ هؤلاء الذين أدركوا الإسلام سمعوا الطبقة العالية من الكلام في القرآن والحديث ، اللذين عجز البشر عن الإتيان بمثليهما ، لكونها ولجت في قلوبهم ونشأت على أساليبها نفوسهم ، فنهضت طباعهم وارتقت ملكاتهم في البلاغة على ملكات من قبلهم من أهل الجاهلية ، ممن لم يسمع هذه الطبقة ولا نشأ عليها ، فكان كلامهم في نظمهم ونثرهم أحسن ديباجة وأصفى رونقا من أولئك ، وأرصف مبنى وأعدل تثقيفا بما استفادوه من الكلام العالي الطبقة .وتأمل ذلك يشهد لك به ذوقك إن كنت من أهل الذوق والتبصر بالبلاغة )
سؤالي أيها الأفاضل :

1- ألا يشمُّ من كلام ابن خلدون رائحة مذهب الصرفة في قوله : ( أن البشر مصروفون عن الإتيان بمثله ... ) ؟

2- أليس ابن خلدون متناقضا ، إذ إنه يرى أن الاقتصار على القرآن وحده يقصر عن حصول الملكة اللسانية ولكنه في مقام آخر يرى أن السبب الثاني في حصول الملكة هو سماع القرآن والحديث النبوي ؟

3- ذهب بعض الباحثين في رسالته العلمية التي هي بعنوان " مفهوم السليقة اللغوية في التراث النحوي عند العرب " ذهب إلى أنه لا تناقض في كلام ابن خلدون السابق ، فابن خلدون يقصد أن من توقف جهده على ما حصله في صغره من قراءة القرآن وحفظه دون فهم معانيه ومقاصده فإن الملكة اللسانية تقصر عنه ، وهذا يؤيده الواقع المعيشي ، أما من طال به الزمن ، فتدبر معاني القرآن ودرس تفسيره ، وفهم ألفاظه وجمله وأسلوبه فإن ملكته اللسانية تقوى به ..
فهل توافقون هذا الباحث ؟ !
 
مرحبا بك أخي العزيز أحمد وبصاحبك ابن خلدون .
تأملتُ كلام ابن خلدون الذي قاله في مقدمته 3/1252 وقوله :( فأما اهل إفريقية والمغرب فأفادهم الاقتصار على القرآن القصور عن ملكة اللسان جملة ، وذلك لأن القرآن لا ينشأ عنه في الغالب مَلَكة لما أن البشر مصروفون عن الإتيان بمثله ، فهم مصروفون عن الاستعمال على أساليبه والاحتذاء بها ، وليس لهم ملكة في غير أساليبه ، فلا يحصل لصاحبه ملكة في اللسان العربي ، وحظه الجمود في العبارات وقلة التصرف في الكلام ) ويبدو لي أنه اجتهاد من ابن خلدون لا يمكن الحكم عليه بالصواب أو الخطأ إلا إذا تم حصر الفئة المقصودة والتحقق من مطابقة اجتهاده للواقع . فثمة أسئلة لا بد من الإجابة عنها قبل الوصول لحكم على كلامه :
1- هل أهل أفريقية (تونس) والمغرب يقتصرون في تعليم أبنائهم على القرآن فقط في أول تعليمهم ؟
2- فإن كان الجواب بنعم ، فهل الغالب عليهم القصور في الملكة اللسانيَّة ؟ وكيف يمكن قياس ذلك ؟
3- وإن كان الجواب بنعم ، فهل علة قصورهم في تلك الملكة هو ما ذكره ابن خلدون فقط ؟
هذه أسئلة يترتب على جوابها الحكم الصحيح على مقولة ابن خلدون .

وأما قوله :(وذلك لأن القرآن لا ينشأ عنه في الغالب مَلَكة لما أن البشر مصروفون عن الإتيان بمثله، فهم مصروفون عن الاستعمال على أساليبه والاحتذاء بها) فقد يدل على قوله بالصرفة كنظرية في الإعجاز لدلالة ظاهر اللفظ ، وإن أردنا التماس التوجيه لكلامه بعيداً عن نظرية الصرفة فقد يكون مقصوده بصرف الناس عن الإتيان بمثله عجزهم رغم محاولتهم ، فيشبه قول الشريف المرتضى في الصرفة فهو انصراف عن عجز أشبه منه بالصرفة مع القدرة كما هو مقصود القائلين بالصرفة كالنظام . ويكون عجزهم الذي أيقنوا به بعد محاولتهم أو بعد إيمانهم بالعجز والاعتراف بإعجاز القرآن كما هو حال كل المؤمنين بالقرآن الكريم مع تعظيمهم للقرآن قادهم إلى عدم النسج على منواله في الأساليب ، والاستفادة منه في الارتقاء بالملكة اللسانية كما دعا إلى ذلك ابن الأثير في كتبه (المثل السائر) وكتابه (الجامع) وغيرهما والله أعلم .

وأما التناقض بين تهوينه من قوة إكساب القرآن الكريم لمتعلمه في أول أمره الملكة اللسانية والبلاغية وبين إرجاع الفضل في ارتفاع مستوى بلاغة طبقة الإسلاميين ومن بعدهم لتدربهم وتربيتهم على أسلوب القرآن والسنة فهو ظاهرٌ واضح ، مع عدم حصول الاتفاق بين أصحاب البيان على ذلك ، فأكثر علماء الشعر وطبقاته لا يفضلون الإسلاميين فضلاً عن من بعدهم على الشعراء الجاهليين بحال ، بل العكس هو الصحيح ، وكلام أبي عمرو بن العلاء وهو إمام أهل الرواية ومعرفة الشعر كان لا يروي للإسلاميين إلا لماماً ، وسائر روايته للجاهليين ، ويفضل شعرهم تفضيلاً مطلقاً ، ومعظم من جاء بعده من طبقة تلاميذه ومن بعدهم يوافقونه في ذلك ، بل إنني على قلة بضاعتي لمستُ ها ظاهراً في شعر أهل الجاهلية وشعر من بعدهم ، فالشعر الجاهلي نسيج وحده في البلاغة والبيان . والأصمعي له كلام متفرق في نزول شعر حسان بن ثابت بعد إسلامه ، وهذا موضوع طويل ليس هذا موضعه .
ثم إن رأي ابن خلدون في هذه المسائل ليس بذاك الرأي المعتبر عند أهل البيان والبلاغة مع جودة عبارته ، وحسن بيانه ، ولكنه ليس في أهل العلم بالبلاغة والبيان وطبقات أهله كعبدالقاهر الجرجاني مثلاً أو كمحمد بن سلام الجمحي قبله ، وهم وأضرابهم يخالفون ما ذهب إليه ابن خلدون رحمهم الله جميعاً .

ورأي الأخ الباحث الذي سعى إلى توجيه قولي ابن خلدون مشكور على فعله ، ورأيه جدير بالقبول أيضاً ، ومثل هذه القضايا يتسع فيها مجال النظر والاجتهاد ، وأحسبنا لو طبقنا النظريتين لخرجنا بنتائج جيدة في تكوين الملكة اللسانية ، وأجزم أنه ليس لتكونها طرق محدودة لا تتعدد بتعدد طبائع المتعلمين وقبولهم للتربية والحفظ والدربة ، فبعضهم يستقيم لسانه ويعذب بيانه بأيسر سبيل ، وبعضهم لا تزيده المحفوظات إلا فهاهة وعجمة ، ولله في خلقه شؤون سبحانه وتعالى .
 
أشكرك يا دكتور على إجابتك على ما أشكل علي جزاك ربي الجنة .....

ولكن لي يا شيخنا العزير وقفات يسيرة فيما ذكرت أرجو أن يتسع لها صدرك ، فأنت الحليم الرشيد ....
وهي على النحو الآتي :

أولا : فرقت حفظك الله بين القول بالصرفة في إعجاز القرآن وبين قول الرضي في معنى الصرفة عنده .
فقلت حفظك الله : ( قوله :(وذلك لأن القرآن لا ينشأ عنه في الغالب مَلَكة لما أن البشر مصروفون عن الإتيان بمثله، فهم مصروفون عن الاستعمال على أساليبه والاحتذاء بها) فقد يدل على قوله بالصرفة كنظرية في الإعجاز لدلالة ظاهر اللفظ ، وإن أردنا التماس التوجيه لكلامه بعيداً عن نظرية الصرفة فقد يكون مقصوده بصرف الناس عن الإتيان بمثله عجزهم رغم محاولتهم ، فيشبه قول الشريف المرتضى في الصرفة فهو انصراف عن عجز أشبه منه بالصرفة مع القدرة كما هو مقصود القائلين بالصرفة كالنظام . ويكون عجزهم الذي أيقنوا به بعد محاولتهم أو بعد إيمانهم بالعجز والاعتراف بإعجاز القرآن كما هو حال كل المؤمنين بالقرآن الكريم مع تعظيمهم للقرآن قادهم إلى عدم النسج على منواله في الأساليب ، والاستفادة منه في الارتقاء بالملكة اللسانية كما دعا إلى ذلك ابن الأثير في كتبه (المثل السائر) وكتابه (الجامع) وغيرهما والله أعلم )

وقول الرضي هو عينه القول بمذهب الصرفة في الإعجاز ! !

ثانيا : استشهادك شيخنا بكلام أبي عمرو بن العلاء فيه نظر .
حيث تقول : ( وكلام أبي عمرو بن العلاء وهو إمام أهل الرواية ومعرفة الشعر كان لا يروي للإسلاميين إلا لماماً ، وسائر روايته للجاهليين ، ويفضل شعرهم تفضيلاً مطلقاً ، ومعظم من جاء بعده من طبقة تلاميذه ومن بعدهم يوافقونه في ذلك ، بل إنني على قلة بضاعتي لمستُ ها ظاهراً في شعر أهل الجاهلية وشعر من بعدهم ، فالشعر الجاهلي نسيج وحده في البلاغة والبيان . والأصمعي له كلام متفرق في نزول شعر حسان بن ثابت بعد إسلامه ، وهذا موضوع طويل ليس هذا موضعه ) .
وهناك شيخنا فرق في مسألة الاحتجاج في اللغة ومسألة البلاغة . فأبو عمرو لا يحتج بشعر المحدثين في اللغة في حين حديث ابن خلدون عن البلاغة والفصاحة

ثالثا : أن ابن خلدون غير متخصص في هذا الشأن .
فقلت : (ثم إن رأي ابن خلدون في هذه المسائل ليس بذاك الرأي المعتبر عند أهل البيان والبلاغة مع جودة عبارته ، وحسن بيانه ، ولكنه ليس في أهل العلم بالبلاغة والبيان وطبقات أهله كعبدالقاهر الجرجاني مثلاً أو كمحمد بن سلام الجمحي قبله ، وهم وأضرابهم يخالفون ما ذهب إليه ابن خلدون جميعاً . )

وهذه يا شيخنا حقائق علمية ، لذا ناقشها ابن خلدون .

رابعا : فهمت من كلامك أنك تؤيد ابن خلدون في أن الاقتصار على القرآن لا تنشأ عنه ملكة ، ولعلي أسأت الفهم .
فقلت حفظك الله : ( ورأي الأخ الباحث الذي سعى إلى توجيه قولي ابن خلدون مشكور على فعله ، ورأيه جدير بالقبول أيضاً ، ومثل هذه القضايا يتسع فيها مجال النظر والاجتهاد ، وأحسبنا لو طبقنا النظريتين لخرجنا بنتائج جيدة في تكوين الملكة اللسانية ، وأجزم أنه ليس لتكونها طرق محدودة لا تتعدد بتعدد طبائع المتعلمين وقبولهم للتربية والحفظ والدربة ، فبعضهم يستقيم لسانه ويعذب بيانه بأيسر سبيل ، وبعضهم لا تزيده المحفوظات إلا فهاهة وعجمة ، ولله في خلقه شؤون . )
وكلام العلماء يفهم منه أن الاقتصار على لغة القرآن يلحق صاحبها بركب البلغاء والفصحاء .
يقول ابن خالويه : ( أجمع الناس جميعا أن اللغة إذا وردت في القرآن فهي أفصح مما في غير القرآن ، لا خلاف في ذلك ) ، ويقول ابن جني : ( ولغته أفصح اللغات) ، لذلك عد كلام الله عز وجل هو المعيار الدقيق للبلاغة والفصاحة ، يقول المبرد : ( يقال بني فلان أفصح من بني فلان ، أي أشبه لغة بلغة القرآن ولغة قريش ) .
 
عودة
أعلى