- بمناسبة الإحالة على ما ذكره أبو بكر ابن العربي - أنقل ما أورده عند ذكره للمسائل التي اشتملت عليها هذه الآية في كتابه أحكام القرآن :
( إن قيل : فكيف شاء عمل الصور المنهي عنها ؟ قلنا : لم يرد أنه كان منهيا عنها في شرعه , بل ورد على ألسنة أهل الكتاب أنه كان أمرا مأذونا فيه , والذي أوجب النهي عنه في شرعنا والله أعلم ما كانت العرب عليه من عبادة الأوثان والأصنام , فكانوا يصورون ويعبدون , فقطع الله الذريعة وحمى الباب . فإن قيل : فقد قال حين ذم الصور وعملها من الصحيح قول النبي عليه السلام : { من صور صورة عذبه الله حتى ينفخ فيها الروح , وليس بنافخ } . وفي رواية : { الذين يشبهون بخلق الله } ; فعلل بغير ما زعمتم . قلنا : نهي عن الصورة , وذكر علة التشبيه بخلق الله , وفيها زيادة علة عبادتها من دون الله , فنبه على أن نفس عملها معصية , فما ظنك بعبادتها , وقد ورد في كتب التفسير شأن يغوث ويعوق ونسرا , وأنهم كانوا أناسا , ثم صوروا بعد موتهم وعبدوا . وقد شاهدت بثغر الإسكندرية إذا مات منهم ميت صوروه من خشب في أحسن صورة , وأجلسوه في موضعه من بيته وكسوه بزته إن كان رجلا وحليتها إن كانت امرأة , وأغلقوا عليه الباب . فإذا أصاب أحدا منهم كرب أو تجدد له مكروه فتح الباب [ عليه ] وجلس عنده يبكي ويناجيه بكان وكان حتى يكسر سورة حزنه بإهراق دموعه , ثم يغلق الباب عليه وينصرف عنه , وإن تمادى بهم الزمان يعبدوها من جملة الأصنام والأوثان , فعلى هذا التأويل إن قلنا : إن شريعة من قبلنا لا تلزمنا فليس ينقل عن ذلك حكم . وإن قلنا : إن شرع من قبلنا شرع لنا فيكون نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الصور نسخا ...
وإن قلنا : إن الذي كان يصنع له الصور المباحة من غير الحيوان وصورته فشرعنا وشرعه واحد .
وإن قلنا : إن الذي حرم عليه ما كان شخصا لا ما كان رقما في ثوب فقد اختلفت الأحاديث في ذلك اختلافا متباينا بيناه في شرح الحديث , لبابه أن أمهات الأحاديث خمس أمهات :
الأم الأولى: ما روي عن ابن مسعود وابن عباس أن أصحاب الصور يعذبون , أو هم أشد الناس عذابا . وهذا عام في كل صورة .
الأم الثانية : روي عن أبي طلحة عن النبي صلى الله عليه وسلم : { لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة } زاد زيد بن خالد الجهني : { إلا ما كان رقما في ثوب } وفي رواية عن أبي طلحة نحوه , فقلت لعائشة : هل سمعت هذا ؟ فقالت : لا ; وسأحدثكم ; { خرج النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة فأخذت نمطا فنشرته على الباب , فلما قدم ورأى النمط عرفت الكراهة في وجهه , فجذبه حتى هتكه , وقال : إن الله لم يأمرنا أن نكسو الحجارة والطين . قالت : فقطعت منه وسادتين وحشوتهما ليفا فلم يعب ذلك علي } .
الأم الثالثة : قالت عائشة : { كان لنا ستر فيه تمثال طائر , وكان الداخل إذا دخل استقبله , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : حولي هذا فإني كلما رأيته ذكرت الدنيا } .
الأم الرابعة: روي عن عائشة قالت : { دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا متسترة بقرام فيه صورة فتلون وجهه ثم تناول الستر فهتكه , ثم قال : إن من أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يشبهون خلق الله . قالت عائشة : فقطعته , فجعلت منه وسادتين } .
الأم الخامسة: قالت عائشة : { كان لنا ثوب ممدود على سهوة فيها تصاوير , فكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي إليه , ثم قال : أخريه عني , فجعلت منه وسادتين ; فكان النبي صلى الله عليه وسلم يرتفق بهما } . وفي رواية في حديث النمرقة قالت : { اشتريتها لك لتقعد عليها وتتوسدها ; فقال : إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة , وإن الملائكة لا يدخلون بيتا فيه صورة } .
قال القاضي : فتبين بهذه الأحاديث أن الصور ممنوعة على العموم , ثم جاء : إلا ما كان رقما في ثوب , فخص من جملة الصور , ثم بقول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة في الثوب المصور : أخريه عني ; فإني كلما رأيته ذكرت الدنيا فثبتت الكراهة فيه . ثم بهتك النبي صلى الله عليه وسلم الثوب المصور على عائشة منع منه , ثم بقطعها لها وسادتين حتى تغيرت الصورة وخرجت عن هيئتها بأن جواز ذلك إذا لم تكن الصورة فيه متصلة الهيئة , ولو كانت متصلة الهيئة لم يجز لقولها في النمرقة المصورة : اشتريتها لك لتقعد عليها وتتوسدها , فمنع منه وتوعد عليه , وتبين بحديث الصلاة إلى الصورة أن ذلك كان جائزا [ في الرقم ] في الثوب , ثم نسخه المنع , فهكذا استقر فيه الأمر . والله أعلم . ) انتهى كلامه
تذييل : جاء في الموسوعة الفقهية : ( التصوير في الديانات السابقة :
قال مجاهد : قوله تعالى في حق سليمان عليه السلام وطاعة الجن له : { يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب } قال : كانت صوراً من نحاس . أخرجه الطبري .
وقال قتادة : كانت من الزجاج والخشب أخرجه عبد الرزاق .
قال ابن حجر : كان ذلك جائزا في شريعتهم , وكانوا يعملون أشكال الأنبياء والصالحين منهم على هيئتهم في العبادة ليتعبدوا كعبادتهم . وقال أبو العالية : لم يكن ذلك في شريعتهم حراما . وقال مثل ذلك الجصاص . قال ابن حجر : ولكن ثبت في الصحيحين { أن أم حبيبة وأم سلمة رضي الله عنهما ذكرتا للنبي صلى الله عليه وسلم كنيسة رأينها بأرض الحبشة , فذكرتا من حسنها وتصاوير فيها , فقال النبي صلى الله عليه وسلم أولئك قوم كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا , وصوروا فيه تلك الصور . أولئك شرار الخلق عند الله } . قال : فإن ذلك يشعر بأنه لو كان جائزا في شريعتهم ما أطلق على الذي فعله أنه شر الخلق , هكذا قال . لكن الأظهر أنه ذمهم لبناء المساجد على القبور , ولجعلهم الصور في المساجد , لا لمطلق التصوير , ليوافق الآية , والله أعلم . )