كثيرا ما قرأت قوله تعالى في سورة يوسف : الآية ( 21 ) : { وَقَالَ ٱلَّذِي ٱشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَآ أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي ٱلأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ ٱلأَحَادِيثِ وَٱللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } .
و كنت أفهم المعنى الإجمالي العام لقوله عزَ و جلَ : { و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون } : أنه تعالى ذكره لا راد لقضائه ، و لا معقب لحكمه ، و إذ1 أراد شيئا فإنما يقول له كن فيكون .
سبحانه جلَ شأنه .
- و لكني عندما تأملت القول الكريم و دققت النظر فيه : استوقفني لفظ : " غالب على أمره " ، إذ معناه الحرفي و التفصيلي أن ( الله غالب على أمر نفسه ) ،
و لما رجعت إلى كتب التفسير وجدت أن هذا المعنى هو أحد القولين فيها ،
و أن الضمير عائد إلى الله تعالى أو إلى يوسف عليه السلام ،
فأشكل عليَ القول بجواز عوده إلى الله تعالى ، و أنه غالب على أمر نفسه ؟
**********************
- و المعنى الإجمالي العام الذي لا خلاف فيه :
{ وَٱللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ } أي: ( إذا أراد شيئاً، فلا يرد ولا يمانع ولا يخالف، بل هو الغالب لما سواه. قال سعيد بن جبير في قوله: { وَٱللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ }: أي: فعال لما يشاء. وقوله: { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } يقول: لا يدرون حكمته في خلقه وتلطفه وفعله لما يريد ) . [ تفسير القران الكريم ، لابن كثير ] .
- و جاء قولان في تفسيرها :
2 - في تفسير " انوار التنزيل واسرار التأويل " ، للبيضاوي (ت 685 هـ) :
{ وَٱللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ } لا يرده شيء ولا ينازعه فيما يشاء ، أو على أمر يوسف أراد به إخوته شيئاً وأراد الله غيره فلم يكن إلا ما أراده. { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } أن الأمر كله بيده، أو لطائف صنعه وخفايا لطفه ) .
3 - و كذا في تفسير " مفاتيح الغيب " ، التفسير الكبير ، للرازي (ت 606 هـ) ،
و ذكر فيها أن ( غالب على أمر نفسه ) ، قال :
( ثم قال تعالى: { وَٱللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ } وفيه وجهان: الأول: غالب على أمر نفسه لأنه فعال لما يريد لا دافع لقضائه ولا مانع عن حكمه في أرضه وسمائه، والثاني: والله غالب على أمر يوسف، يعني أن انتظام أموره كان إلهياً، وما كان بسعيه وإخوته أرادوا به كل سوء ومكروه والله أراد به الخير، فكان كما أراد الله تعالى ودبر، ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن الأمر كله بيد الله. واعلم أن من تأمل في أحوال الدنيا وعجائب أحوالها عرف وتيقن أن الأمر كله لله، وأن قضاء الله غالب ) .
4 - و كذا فعل القرطبي في تفسيره " الجامع لأحكام القرآن " ، قال :
( { وَٱللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ } الهاء راجعة إلى الله تعالى؛ أي لا يغلب الله شيء، بل هو الغالب على أمر نفسه فيما يريده أن يقول له: كُنْ فَيَكُونُ. وقيل: ترجع إلى يوسف؛ أي الله غالب على أمر يوسف يدبّره ويحوطه ولا يكِله إلى غيره، حتى لا يصل إليه كيْدُ كائد. { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } أي لا يطلعون على غيبهِ. وقيل: المراد بالأكثر الجميع؛ لأن أحداً لا يعلم الغيب. وقيل: هو مجرى على ظاهره؛ إذ قد يُطلِع من يريد على بعض غيبه. وقيل: المعنى «وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ» أن الله غالب على أمره، وهم المشركون ومن لا يؤمن بالقَدَر. وقالت الحكماء في هذه الآية: { وَٱللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ } حيث أمره يعقوب ألاّ يقصّ رؤياه على إخوته فغلب أمر الله حتى قَصّ، ثم أراد إخوته قتله فغلب أمر الله حتى صار ملِكاً وسجدوا بين يديه، ثم أراد الإخوة أن يخلو لهم وجه أبيهم فغلب أمر الله حتى ضاق عليهم قلب أبيهم، وٱفتكره بعد سبعين سنة أو ثمانين سنة، فقال:
{ يٰأَسَفَا عَلَى يُوسُفَ }
[يوسف: 84] ثم تدبّروا أن يكونوا من بعده قوماً صالحين، أي تائبين فغلب أمر الله حتى نسوا الذنب وأصروّا عليه حتى أقرّوا بين يدي يوسف في آخر الأمر بعد سبعين سنة، وقالوا لأبيهم: «إنَّا كُنَّا خَاطِئِين» ثم أرادوا أن يخدعوا أباهم بالبكاء والقميص (فغلب أمر الله) فلم ينخدع، وقال: «بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً» ثم ٱحتالوا في أن تزول محبته من قلب أبيهم فغلب أمر الله فازدادت المحبة والشوق في قلبه، ثم دَبَّرت ٱمرأة العزيز أنها إن ٱبتدرتْه بالكلام غلبته، فغلب أمر الله حتى قال العزيز:
{ وَٱسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ ٱلْخَاطِئِين }
[يوسف: 29]، ثم دَبَّر يوسف أن يتخلّص من السجن بذكر الساقي فغلب أمر الله فنسي الساقي، ولبِث يوسف في السجن بِضع سنين ) .
****************
- هذا ما أشكل عليَ ظاهره ، و جوازه في حق الله تعالى ،
*** و قد استراحت نفسي لاقتصار الإمام الطبري رحمه الله على القول بعودة الضمير- في قوله تعالى : { و الله غالب على أمره } - إلى يوسف عليه السلام ،
5 - قال في تفسيره " جامع البيان في تفسير القران " :
( وقوله: { وَاللَّهُ غالِبٌ علـى أمْرِهِ } يقول تعالـى ذكره: والله مستولٍ علـى أمر يوسف يَسُوسُه ويدبره ويحوطه. والهاء فـي قوله: علـى أمْرِهِ عائدة علـى يوسف.
ورُوى عن سعيد بن جبـير فـي معنى «غالب»، ما:
حدثنـي الـحارث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا إسرائيـل، عن أبـي حصين، عن سعيد بن جبـير: { وَاللَّهُ غالِبٌ } علـى أمْرِهِ قال: فعال.
وقوله: { وَلَكِنَّ أكْثَرَ الناسِ لا يَعْلَـمُونَ } يقول: ولكن أكثر الناس الذين زهدوا فـي يوسف فبـاعوه بثمن خسيس، والذي صار بـين أظهرهم من أهل مصر حين بـيع فـيهم، لا يعلـمون ما الله بـيوسف صانع وإلـيه يوسف من أمره صائر ) . انتهى
- فأحسب أن هذا هو الأرجح ، و الأليق بذات الله عزَ و جلَ .
(وجملة { والله غالب على أمره } معترضة في آخر الكلام، وتذييل، لأن مفهومها عامّ يشمل غَلَب الله إخوةَ يوسف ـــ عليه السّلام ـــ بإبطال كيدهم، وضمير { أمره } عائد لاسم الجلالة.
وحرف { على } بعد مادة الغلب ونحوها يدخل على الشيء الذي يتوقع فيه النزاع، كقولهم: غلبناهم على الماء.)
أرجو منك دراسة قوله والتمعن فيه عسى أن تستخرج شيئا منه----
لا أدري عندي ميل بأنّ عودة الضمير إلى غير اسم الجلالة مرجوح بلاغة
الظاهر أن الضمير في قوله تعالى:﴿ وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ ﴾(يوسف:21 ). عائد على لفظ الجلالة. وهذا قول سعيد بن جبير رضي الله عنه. وقيل في معناه: لا يُمنَع عمَّا يشاء، ولا يُنازَع فيما يريد.
ويؤيده:
أولاً- أن حمل الآية على العموم أولى من حملها على الخصوص، وحصرها في يوسف عليه السلام.
ثانيًا- كتب الشيخ الجنيد إلى الشيخ علي بن سهل الأصبهاني: سلْ شيخك أبا عبد الله محمد بن يوسف البناء: ما الغالب على أمره؟ فسأله، فقال: اكتب إليه:( وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ ). انظر( الكشكول ) لبهاء الدين العاملي، و( طبقات الأولياء ) لابن الملقي.
ثالثًا- من أمثال العرب:( الدهر أرْوَدُ مُسَبَّدٌ ).
والأرود هو الذي يعمل عمله في سكون، لا يشعر به أحد. والمسبَّدُ هو الماضي في أمره، لا يرجع عنه. وقيل في معناه: ليِّنُ المعاملة غالبٌ على أمره.
رابعًا- الغالب في اللغة هو القاهر، وهو من الغلبة، وهي القهر، وهو على صيغة اسم الفاعل، ومفعوله محذوف، تقديره: والله قاهرٌ أعداءَه على أمره. أي: خاضعهم لأمره. أي: يجعلهم خاضعين لحكمه، وقضائه، وسلطانه.. والله تعالى أعلم.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى في تفسير الآية:
{قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ} وهم أمراؤهم ..... والظاهر أنهم فعلوا؛ لأن القائل هم الأمراء الذين لهم الغلبة.
رابعًا- الغالب في اللغة هو القاهر، وهو من الغلبة، وهي القهر، وهو على صيغة اسم الفاعل، ومفعوله محذوف، تقديره: والله قاهرٌ أعداءَه على أمره. أي: خاضعهم لأمره. أي: يجعلهم خاضعين لحكمه، وقضائه، وسلطانه.. والله تعالى أعلم.
لا نزاع في المعنى العام لتلك الآية ،
و عليه فأمر الله غالب في كل حال و على كل مخلوق ، لا ريب في هذا بحال ،
و مفهوم الآية عام ، و لا يحتاج إلى استدلال ،
هذا من ناحية ،
و إنما كان السؤال عن أحد قولي المفسرين فيها إنها : " و الله غالب على أمر نفسه " - و هو المعنى التتبعى لكلمات الآية ، على قول القائل إن الضمير عائد إلى الله تعالى - كيف يكون الله غالب على أمر نفسه ، أو ما هو توجيهه ؟
- و قد أعجبني في توجيهه ما نقلته اقتباسا من قولكم المذكور أعلاه ، و هو : ( ومفعوله محذوف، تقديره: والله قاهرٌ أعداءَه على أمره. أي: خاضعهم لأمره. أي: يجعلهم خاضعين لحكمه، وقضائه، وسلطانه ) .
- و هو المعنى العام للآية ،
و لكن يبقى محل السؤال شاغرا بغير جواب ،
و هو قول المفسرين : " و الله غالب على أمر نفسه "
فيكون معناه على قولكم : والله غالب أو قاهرٌ أعداءَه على أمرنفسه . [ ؟ ]
د. أبو بكر! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. أما بعد.
أولاً- فأنت تقول: إنك كنت تفهم المعنى العام للآية.. وأنك لما تأملت القول الكريم، ودققت النظر فيه: استوقفك لفظ : " غالب على أمره " ، إذ معناه الحرفي والتفصيلي: أن( الله غالب على أمر نفسه ( ،
ولما رجعت إلى كتب التفسير، وجدت أن هذا المعنى هو أحد القولين فيها، وأن الضمير عائد إلى الله تعالى، أو إلى يوسف عليه السلام، فأشكل عليك القول بجواز عوده إلى الله تعالى، وأنه غالب على أمر نفسه..
ثم قلت: وقد استراحت نفسك لاقتصار الإمام الطبري رحمه الله على القول بعود الضمير إلى يوسف عليه السلام. ثم انتهيت إلى القول: فأحسب أن هذا هو الأرجح، والأليق بذات الله عزَ و جلَ .والله تعالى أعلم بمراده.
ثانيًا- أنت لم تسأل: أي التفسيرين هو الأرجح، ولم تسأل عن توجيه التفسير الأول؛ لأنك استحسنت تفسير الطبري على أنه الأرجح، والأليق بذات الله جل وعلا. وبهذا زال ما كان مشكلاً عندك.
ثالثًا- ثم تقول: لا نزاع في المعنى العام لتلك الآية، وعليه فأمر الله غالب في كل حال وعلى كل مخلوق، لا ريب في هذا بحال، ومفهوم الآية عام، ولا يحتاج إلى استدلال.
تقول هذا مع أن النزاع حاصل بينهم في هذا المعنى العام للآية؛ لأن عود الضمير على الله جل وعلا أمر مشكل عندهم؛ ولهذا تأولوا الآية بقولهم:( على أمر نفسه ).. وهذا ما أشكل عليك. والغرض منه عندهم واضح، وهو تنزيه لفظ الجلالة بتقدير لفظ النفس بين المضاف والمضاف إليه.. فبدلاً من أن يقولوا:( على أمره ). أي:( على أمر الله )، قالوا:( على أمر نفسه ). وهو تكلف لا داعي له، سببه بعدهم عن التوجيه الصحيح لمعنى الآية الكريمة.
وللتخلص من هذا التكلف، الذي لا مبرر له، هرب منه بعضهم إلى القول بعود هذا الضمير على يوسف عليه السلام، فكان كالمستجير من الرمضاء بالنار.
ومعنى الآية باختصار:( الله غالب كل مخلوق على أمره ). والغالب هو القاهر. ﴿ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ﴾(الأنعام :18). والقهر يتطلب الخضوع.. والكل مقهور خاضع لحكم الله جل وعلا، و ولسلطانه، مستسلم لقضائه، طوعًا، أو كرهًا، ﴿ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ﴾، ﴿ وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً ﴾؛ لأن له سبحانه:﴿ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ ﴾،﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ ﴾. سبحانه وتعالى!!!
قولك أخي (و كنت أفهم المعنى الإجمالي العام لقوله عزَ و جلَ : { و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون } : أنه تعالى ذكره لا راد لقضائه ، و لا معقب لحكمه ، و إذ1 أراد شيئا فإنما يقول له كن فيكون .
سبحانه جلَ شأنه .)
هو توجه عام لدى معظم علماء المسلمين---ويسمّى مذهب التفويض---وهو مذهب يهتم بآيراد المعنى الإجمالي للآية دون المعنى التفصيلي لجزئيّاتها وذلك في التعامل مع المتشابهات من الآيات
في هذه الآية الكريمة يخبر الله عز وجل أن القوم الذين أعثرهم على أصحاب الكهف تنازعوا فيهم، وأنهم انقسموا في ذلك النزاع إلى قسمين: أحدهما مغلوب على أمره، وهم القائلون:﴿ ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَاناً رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ ﴾، والآخر غالب على أمره، وهم القائلون:﴿ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِداً ﴾.. والظاهر من ذلك أن غرض القسمين هو تعظيم أصحاب الكهف، وإجلالهم..
وليس في قول القسم الثاني ما يشعر بأنهم كانوا مسلمين، وأن القسم الأول كانوا كافرين؛ لأن المراد بالمسجد- هنا- ليس ما يطلق عليه اليوم من مصلى المسلمين؛ وإنما المراد به معبد المؤمنين من تلك الأمة، وقد كانوا من النصارى الموحدين.
ولعل الأولين الذين طلبوا بناء البنيان عليهم، لم يتحققوا من حالهم، وأنهم ناموا تلك المدة، ثم بعثوا؛ فلهذا طلبوا هذا الطلب، وأحالوا أمرهم إلى ربهم سبحانه.. وهذا ما رفضه الآخرون، الذين كان لهم الغلبة في هذا الأمر، وقالوا:﴿ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِداً ﴾.
وقرأ الحسن وعيسى الثقفي:﴿ غُلِبُوْا عَلَى أَمْرِهِمْ ﴾، بضم الغين وكسر اللام، على أن الفعل مبني للمفعول. أي: غلبوا على أمرهم من قبل القسم الأول.. وكأنهم قالوا: إن لم يكن بدٌّ من البناء، فليكن ذلك البناء مسجدًا.. والله تعالى أعلم بمراده.
وفي كلا القراءتين توكيد للمعنى، الذي فسرت به قول الله تعالى:﴿ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ ﴾ من آية يوسف عليه السلام..
الله غالب على أمره أي أن أمره تعالى بيده لا بيد غيره ، بخلاف المغلوب على أمره الذي أمره بيد غيره .
وليس الأمر أن هناك نزاعًا أو صراعًا بين الله وأمره انتهى بغلبة الله على الأمر ! بل المقصود أن أمر الله تعالى بيده ينفذ في الخلق كما يشاء لا يرده ولا يغلبه أحد ؛ لأنه لا يغلب على أمره إلا هو .
الأخ الكريم د . هشام عزمي
أكرمكم الله ، و بارك فيكم و في علمكم
ما تفضلتم بذكره هو من أحسن ما قرأت في تفصيل ألفاظ الآية الكريمة ، و يتفق مع المعنى الإجمالي لها .
- و لتسمح لي أخي بالتعقيب على خاتمة كلامك : ( لا يغلب على أمره إلا هو ) : ألا تراه عين ما نفيتموه بقولكم : ( وليس الأمر أن هناك نزاعًا أو صراعًا بين الله وأمره انتهى بغلبة الله على الأمر ! ) ؟
* فأرى حذف تلك الخاتمة أوفق ؟
و تقبل سلامي و تحيتي
روى البخاري في صحيحه:
حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا مغيرة بن عبد الرحمن القرشي عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال
: قال رسول اله صلى الله عليه وسلم ( لما قضى الله الخلق كتب في كتابه فهو عنده فوق العرش إن رحمتي غلبت غضبي )
فعلى رأي أهل الحديث الرحمة والغضب من صفات الله الفعلية.
على رأي الأشعرية الرحمة والغضب من وجوه تعلق الإرادة :إرادة المثوبة وإرادة العقوبة....
وعلى رأي الفريقين- وفاقا -يجوز أن أمرا من الله يغلب أمرا آخر منه.....
وهذا ما يستفاد من الحديث ومن أحاديث أخرى مثل الدعاء الصحيح :أعوذ بك منك.
ومثل الأثر المعروف عن الفاروق رضي الله عنه:نفر من قدر الله إلى قدر الله...
فيكون معنى الآية :لا يغلب أمرا من الله إلا أمر آخر من الله.....
وما نفاه أخونا عزمي هو أن يتبادر إلى الذهن أن أمر الله قد استقل بنفسه حتى أصبح ندا لله فيؤول الصراع إلى غالب هو الله تعالى ومغلوب هو أمره...
فإضافة الأخ عزمي-في رأيي- مجرد احتراس ودفع لفهم خاطيء ممكن .
الأخ الفاضل ( أبو عبد المعز )
سلام الله عليكم
لقد زاد الحديث الذي أوردتم معناه الأمر إشكالا بقولكم : ( وعلى رأي الفريقين- وفاقا -يجوز أن أمرا من الله يغلب أمرا آخر منه.....) ،
فهل لذلك الحديث من تأويل غير ما ذكرتموه ؟
الأخ المكرم د.أبو بكر.
وعليكم السلام ورحمة:
لقد انطلقت من موضوعك الرئيس حيث ذكرت : فأشكل عليَ القول بجواز عوده إلى الله تعالى ، و أنه غالب على أمر نفسه ؟
ثم نقلت من تفاسير جلها لفضلاء من الأشاعرة....
فأردت أن أبين أنه لا إشكال في عودة الضمير على الله عز وجل.....ليس من وجهة نظر الأشعرية فحسب بل من وجهة نظر اهل الحديث أيضا.فجئت بحديث البخاري حيث ذكر صريحا أن رحمة الله تغلب غضبه......
نعم ،تأويل الحديث مختلف فيه بين الفريقين فالاشاعرة ينكرون صفات الرحمة والغضب ولا يثبتونها لله ويرجعونها إلى الإرادة عملا بقاعدتهم في نكران مباديء الصفات وحملها على غاياتها أو حملا على المجاز المرسل أي إطلاق الصفة وإرادة آثارها....
بيد أن أهل الحديث يذهبون إلى أنها صفات قائمة بالرب فالرب يغضب حقيقة ويرحم حقيقة ....
وهذا لا يعنينا هنا كثيرا.....لأن المقصود التأكيد على أن غلبة صفة لصفة مما يعتقده أهل الحديث كما جاء به حديث البخاري وأحاديث اخرى.......والأشاعرة أنفسهم لا ينكرون أن متعلقين للإرادة قد يكون بينهما تدافع...فيأمر الله بأمر ويأمر بآخر يغلب الأول....وهذا مقبول عند اهل الحديث ايضا بصرف النظر عن تأويل الصفات.....وهذا القدر من الاتفاق يكفينا هنا.
فلا بعد إذن في عودة الضمير في الآية على الله تعالى:الله غالب على أمر الله أو أمر نفسه...
وبطبيعة الحال فهم الآية يتعين على ما تقدم بعيدا عن السؤال الإحراجي الذي يرد في مناظرات المتكلمين:هل الله قادر على نفسه؟
" إن رحمتي غلبت غضبي " مفسّر بالحديث : " إن رحمتي سبقت غضبي " .
" إن رحمتي غلبت غضبي " مفسّر بالحديث : " إن رحمتي سبقت غضبي " .
أبو عبد المعز قال:
روى البخاري في صحيحه:
حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا مغيرة بن عبد الرحمن القرشي عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال
: قال رسول اله صلى الله عليه وسلم ( لما قضى الله الخلق كتب في كتابه فهو عنده فوق العرش إن رحمتي غلبت غضبي )
.................................
................................
وعلى رأي الفريقين- وفاقا -يجوز أن أمرا من الله يغلب أمرا آخر منه.....
وهذا ما يستفاد من الحديث ............
........................
فهو حديث مفسَر ، و " المفسَر " لا يحتمل التأويل ، على ما هو مقرر في علم الأصول .
و عليه ، فالفقول إن : ( يجوز أن أمرا من الله يغلب أمرا آخر منه ) ، ( وهذا ما يستفاد من الحديث ) : قول غير صحيح
والله إن معنى الآية لأوضح بكثير مما يتفضل به السادة العلماء، ولا تحتاج الآية إلى كل هذه التأويلات.. إنني- كطالب علم- أرى أنهم يعقدون الأمور بدلاً من أن يبسطوها، وأنهم يجعلون أمثالي من الطلبة يتيهون في خضم هذه الأقوال.. أما كفتنا أقوال السلف رحمهم الله، حتى يضيفوا إليها كل هذه الأقوال في معنى الآية !!! فليتهم ترفقوا بنا، وأشفقوا علينا.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل هناك أوضح وأبسط وأصدق من هذا القول الذي يفسر القرآن بالقرآن، ويقوم على الحجة والبرهان:
(( ومعنى الآية باختصار:( الله غالب كل مخلوق على أمره ). والغالب هو القاهر. ﴿ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ﴾(الأنعام :18). والقهر يتطلب الخضوع.. والكل مقهور خاضع لحكم الله جل وعلا، ولسلطانه، مستسلم لقضائه، طوعًا، أو كرهًا، ﴿ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ﴾، ﴿ وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً ﴾؛ لأن له سبحانه:﴿ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ ﴾،﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ ﴾. سبحانه وتعالى!!! )) ؟؟؟
والغالب كما يقول الراغب الأصفهاني من الغلبة. والغلبة هي القهر. والقهر هو الغلبة. والأمر هو الشأن.. وهو لفظ عام للأفعال والأقوال كلها، وعلى ذلك قوله تعالى:( وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ ).. وقوله تعالى:( ) إشارة إلى يوم القيامة، فذكره بأعم الألفاظ.. هذا ما يقوله الراغب.
وغالب على وزن اسم الفاعل. واسم الفاعل، إذا كان منوناً نصب المفعول به؛ كقوله تعالى:) وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ) (الكهف : 18 ). وقوله تعالى:( وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) (الصف : 8 ). أضيف ( مُتِمُّ ) إلى مفعوله. وفي قراءة:( مُتِمٌّ نُورَهُ ).. و( على ) حرف جر يفيد الاستعلاء... لا خلاف في ذلك بين علماء النحو.
وكذلك قوله تعالى:( غَالِبٌ عّلَى أَمْرِهِ ). وحذف مفعوله، تقديره:( خلقه )، أو(عباده ). وحذف؛ لأن المراد به العموم، بخلاف:( بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ)، و( مُتِمٌّ نُورَهُ )؛ إذ يراد بذكرهما الخصوص.
فأي كلام أوضح من هذا الكلام ؟؟؟ وأي تفسير أصدق من هذا التفسير ؟؟؟ وأي حجة أقوى من هذه الحجج ؟؟؟ وإن كان السادة العلماء يرون خلاف ذلك، فليبينوا لنا وجه الخطأ، أو النقص في هذا التفسير.. وعندئذ يمكن التسليم بأقوالهم، ورفض هذا القول.
و معنى الآية باختصار الذي ذكرته أنت أخي خالد هو ما قلنا به و نعتقده حقا و صدقا ،
و لكنه حب الاستفاضة في فهم دقائق الألفاظ الكريمة و مدلولاتها ،
و إنما الملام لو كنا خالفنا المعنى العام للآية ،
و إلا لاكتفى أئمتنا بالاختصار في مصنفاتهم ، و لم يتعمقوا في الشرح و العرض ،
و لكل مقام مقال ،
و أحسب أن هذا الملتقى و أهله أهل للتوسع في تناول مواضع التفسير و مواضيعه ،
و قد يكون لك حق فيما قلته لو طرح سؤال فأجيب عنه بغير مقتضى الحاجة و الحال ،
فراجع المشاركات إن رغبت ، و إلا فدع الاعتراض بغير استدلال .
الرجاء من الدكتور أبو بكر أن يوضح ماذا يريد بقوله( بغير استدلال ). وأحب أن تعلم أنني
لم أعترض عليكم ، وحاشاي أن أسخر كما يقول الأستاذ أبو المعز سامحه الله، وهل يسخر الطالب من أستاذه، وما هو إلا خطأ في التعبير.. ولكن أبدي عجبي من كثرة الأقوال، ولطالما هناك قول واحد متفق عليه، كما تقول ، فما فائدة الحوار؟؟؟
وأرجو أن تقدروا أن أكثر رواد الملتقى من طلبة العلم الذين يبحثون عن المعلومة الصحيحة.
الاخ ابو المعز في بعض كلامك ما يحتاج لتوضيح . كقولك:".......والأشاعرة أنفسهم لا ينكرون أن متعلقين للإرادة قد يكون بينهما تدافع...فيأمر الله بأمر ويأمر بآخر يغلب الأول....وهذا مقبول عند اهل الحديث ايضا بصرف النظر عن تأويل الصفات.....وهذا القدر من الاتفاق يكفينا هنا."
أظن ان الكلام بحاجة للتوضيح.
اخص موضوع تدافع الارادة .
الأخ الكريم د . هشام عزمي
أكرمكم الله ، و بارك فيكم و في علمكم
ما تفضلتم بذكره هو من أحسن ما قرأت في تفصيل ألفاظ الآية الكريمة ، و يتفق مع المعنى الإجمالي لها .
- و لتسمح لي أخي بالتعقيب على خاتمة كلامك : ( لا يغلب على أمره إلا هو ) : ألا تراه عين ما نفيتموه بقولكم : ( وليس الأمر أن هناك نزاعًا أو صراعًا بين الله وأمره انتهى بغلبة الله على الأمر ! ) ؟
* فأرى حذف تلك الخاتمة أوفق ؟
و تقبل سلامي و تحيتي
جزاك الله خيرًا يا فضيلة الدكتور أبا بكر على كلماتك الطيبة .
ما قصدته بالضبط أن كون الله غالب على أمره لا يعني أن المغلوب هو الأمر لأنه لو أراد ذلك لقال - والله أعلم - : الله غالب أمره ، أما الاسم الذي يلي حرف الجر (على) فهو يشير عادة لموضع نزاع بين غالب ومغلوب كما يقال : غلب المسلمون الروم على مصر والشام .. فالغالب هو المسلمون والمغلوب هو الروم .
فقوله تعالى (والله غالب على أمره) يعني أن أمره عز شأنه بيده وحده لا ينازعه فيه أحد .
وقد استعمل فعل (غلب) للإشارة إلى غالب ومغلوب في فاتحة سورة الروم دون حرف الجر (على) ، أما هنا فقد استعمل مع (على) للإشارة إلى أمره تعالى الذي هو بيده وحده وهو المسيطر المهيمن عليه بلا منازع .
وأظن هذا كان واضحًا بينًا للمفسرين الأوائل لهذا لم يستشكل أحدهم هذا التعبير .. والله أعلم .
هذا هو رأيي فإن كان فيه صوابًا فمن الله ، وما كان خطأ فمن نفسي ومن الشيطان .
( و الله غالب على أمر نفسه ) : و الله غالب - لا يغلبه أحد - على أمره [ أمر نفسه ]
( و الله غالب على أمر نفسه ) : و الله غالب - لا يغلبه أحد - على أمره [ أمر نفسه ]
الأخ العزيز الدكتور هشام
سلام الله عليكم
ما ذكرته صحيح ،
و حقا قولكم : ( وأظن هذا كان واضحًا بينًا للمفسرين الأوائل لهذا لم يستشكل أحدهم هذا التعبير .. ) ،
و محل هذا قوله تعالى : { و الله غالب على أمره } ،
و إنما أشكل عليّ قول بعض المفسرين المعتبرين إن معناه : ( و الله غالب على أمر نفسه ) ،
و قد شارك الإخوة في بيان محذوفه ، بما يتماشى مع معناه العام المفهوم ،
*** و قد بان لي فيه وجه أحسبه متماشيا مع المعنى العام للآية كذلك ، و مؤيدا لعمومها ، وعودة الضمير إلى الله تعالى في قوله جلِ ذكره : { و الله غالب على أمره } ، و مبينا كلام أولئك المفسرين : ( و الله غالب على أمر نفسه ) ، و هو :
1 – و الله غالب – لا يغلب – على أمره ( على أمر نفسه )
2 – أو : و الله غالب – لا يغلبه أحد – على أمره ( على أمر نفسه )
و كلاهما بمعنى واحد ،
• و بهذا التقدير - المذكور - للكلام المحذوف يزول الإشكال عن قول المفسرين ،
• أو بهذا زال عني ،
• و الله تعالى الموفق للصواب