أخي الكريم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اعتقد بارك الله فيك بأن علمائنا الأجلاء أدركوا أن العطف يقتضي المغايرة وبأن الكتاب المذكور في الآية لا يمكن أن يكون هو التوراة أو الانجيل فلا يصح عطف الشيء على نفسه ، فلم يجدوا مخرجاً من هذا الاشكال إلا نسبة الكتاب إلى الكتابة والتدوين والذي اعتقد أنه وجه بعيد وهناك ماهو أوجه منه.
وقد قمت ببحث دلالات الكتاب في بحث طويل سأقتطف منه وريقات لتوضيح دلالات مفردة "الكتاب" في القرآن الكريم ، وطبقاً لما تم التوصل إليه فقوله تعالى : {
وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ } [آل عمران:48] يشيرالكتاب هنا إلى الشريعة وآيات الأحكام تحديداً ، فالتوراة والقرآن يشتملان على مجموعة من التصنيفات فنجد القصص والامثال والخلق وكذلك الشرائع ، والكتاب هو الشرائع وتلك الشرائع ليست مقتصرة على القرآن والتوراة ، فالحديث الشريف يشتمل على كتب (شرائع) تفصل المجمل وتبين الكتاب المتضمن في القرآن الكريم وكذلك في التوراة ، فليست كل الشرائع واردة في التوراة فهناك منها ما أتى على لسان موسى عليه السلام ومنها ما هو في التوراة ، فكانت الآية تخص الشرائع وتقدمها في تعليم عيسى عليه السلام .
أنواع الكتب في القرآن الكريم
عند إحصاء جذر "كتب"نجده يبلغ (319) مرة في القرآن الكريم ومن خلال استقراء وتتبع المفردة في القرآن الكريم تبين أن مفردة (كتاب، الكتاب) في التعبير القرآني أتت ذات اربع دلالات تتنوع حسب السياق فتشير في كل موضع إلى واحدٍ من الدلالات الأربع فالسياق هو الذي يصنف استعمال المفردة ويحدد المراد منها ، وهذه الدلالات في القرآن الكريم على النحو التالي:
أولاً: الكتاب المبين:
وهو موضع البحث الرئيسي وأكثر ما جاء ذكره في التنزيل الحكيم ويقصد به: كل ما نزل من الشرائع والفرائض التي كتبها وافترضها الله على الخلق سواءً في التوراة أو القرآن او السنة النبوية والحديث الشريف.وسياتي بيان ذلك وإثباته في ثنايا هذا البحث الذي يدور حول هذا المفهوم ويثبته بإذن الله ، ولذلك المفهوم شواهد كثيرة جداً منها قوله تعالى :
{ ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } [البقرة:2] ،
كذلك قوله جل وعلا : { وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } [البقرة:53]
وقوله جل شأنه : { قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَىٰ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَىٰ طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ }[الأحقاف:30]
وقوله جل وعلا : { الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ } [يونس:1]
وكل ما يتضمن سياقه التنزيل من الشرائع الموحى بها من الله تعالى إلى انبياءه وهذا كتاب الله تعالى وهو موضع التبيان والبحث.
وسمي كتاباً ليس لكتابته ورسم حروفه علي ورق المصحف ، بل لتدوينه في اللوح المحفوظ الذي لا يمسه إلا المطهرون ، وتحديد اتجاه الاشارة للكتاب الحكيم وتمييزه عن انواع الكتاب الأخرى منوط بالسياق الذي اتت الكلمة في ثناياه.
ثانياً: الكتاب المعلوم:
وهو كتاب أعمال الأمم التي يدون فيها ما يكون منهم وماهو كائن إلى يوم القيامة وهو كتاب كل الخلق وشاهد ذلك قوله تعالى:
{ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ } [الأنعام:38]
ويقول جلت قدرته : { وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ } [الحجر:4]
ويقول جل شانه : { وَتَرَىٰ كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَىٰ إِلَىٰ كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَٰذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) } [الجاثية]
فكان كتاب الأمم مشتملاً على أخبارهم وقصصهم وأفعالهم ومآلاتهم فهذا موسى عليه السلام حين أتى فرعون داعياً حاملاً الآيات البينات يساله عن الأمم الأولى فيقول تعالى :
{ قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَىٰ (51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52) } طه
فهو كتاب الأمم الذي يذكره تعالى فيقول جل شأنه :
{ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا } [مريم:41]
{ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَىٰ إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا } [مريم:51]
{ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا } [مريم:54]
{ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا } [مريم:56]
فكان هذا الكتاب الذي يوثق كل صغيرة وكبيرة مدونة مكتوبة لا يقصد به الكتاب الحكيم المشتمل على الفرض والأمر بل التدوين بصورة أدق.
وفي سبيل التفريق بين الكتاب المراد به الشريعة ، وبين كتاب الأعمال فإن كتاب الأعمال دونته وكتبته الملائكة لتوثيق ما اجترحه الإنسان من السيئات وما عمل به من الطاعات ، وهو كتاب يترافق مع العمل ويتلوه ويأتي بعده ، إلا أنه لا ينفي علم الله السابق الأزلي بما سيكون ولكن الله ليس هو المسبب لفعل الكفر والعصيان بمجرد علمه تعالى بما سيكون.
بينما كتاب الفرض والشريعة يسبق الخلق فهو مفروض مكتوب من الأزل ينزله الله إلى أنبيائه لا يتغير ولا يتبدل منه شيء في أم الكتاب ، ولكنه يمحو ويثبت ما يشاء تبعاً لحاجة الناس وأحوالهم ومصالح العباد التي تناسب أزمانهم ، ولكن تلك الشرائع لا تناقض بعضها البعض ولا تتضارب في محتواها البتة.
وفي سبيل آخر يظهر معنا فيه الفرق في المواضع التي أشار فيها الشارع الحكيم في التنزيل إلى كتاب الأمم وما دون من أعمالها وأحوالها ، فقد سبق معنا معرفة كيف أن الكتاب في سياق معين يعني ما كُتب على الإنسان ودونته الملائكة من أعمال وكذلك في مواضع أخرى ما دون من أحوال الأمم ما كان من حال أنبياء الله في أزمانهم.
ثالثاً: الكتاب المنشور:
وهو(كتاب اعمال المكلفين) ما دوِّن على المكلفين من الخلق من أعمالهم إن كانت خيراً فخير وإن كانت شراً فشر والذي كان قد دونه الملائكة الحافظين فينشر أمام الناس كلُّ وكتابه يقرأه ويرى أعماله كلها.
وفي ذلك يقول تعالى :
{ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا } [الإسراء:14]
وقال سبحانه وتعالى:
{ يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَٰئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا } [الإسراء:71]
ويقول جل جلاله
{ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } [الكهف:49]
ويقول جل شأنه :
{ يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَٰئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا } [الإسراء:71]
يقول الحق تبارك اسمه:
{ وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ } [المؤمنون:62]
ويقوله سبحانه وتعالى:
{ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ } [الحاقة:19]
ويقول تعالى :
{ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ } [الحاقة:25]
يقول تعالى :
{ كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ } [المطففين:7]
{ كِتَابٌ مَرْقُومٌ } [المطففين:9]
{ كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ } [المطففين:18]
{ كِتَابٌ مَرْقُومٌ } [المطففين:20]
{ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ } [الانشقاق:7]
{ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ } [الانشقاق:10]
فكانت دلالته في هذا السياق للإشارة لكتاب الأعمال التي دونت على الخلق طيلة فترة التكليف ليكون حجة لهم أو حجة عليهم فأسمي كتاباً للدلالة على الكتابة والتدوين وليس الأمر والفرض.
رابعا: الكتاب المدون بالقلم:
وهو كل ما يجري كتابته وخطه بالقلم على الورق ونحوه بغض النظر عن محتواه ودلالته ، فالمراد من الكتاب (رسم الكلمات على ألواح أو صحف أو جلد أو كاغد) بالمداد وهو كل ما خطه البشر ودونوه من مؤلفات والمراسلات ،كرسالة سليمان عليه السلام إلى بلقيس ورسالتها إليه كذلك الكتب الشرعية كمكاتبات الدين والوصية وما جرى توثيقه بالقلم والورق كتابةً وكما اسلفنا فالسياق كفيل بتبيان نوع الكتاب ،ومن الدلالات على هذا النوع من الكتب الذي هو التدوين بالقلم وشواهد ذلك ما يقوله الله تعالى :
{ وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَٰكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىٰ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ } [البقرة:235]
أي كتاب النكاح وما جرى تدوينه من آجال لعقد النكاح موثقاً مكتوباً شرعاً ، فهذه الكتابة والخط تدعى (الكتاب) وهذه متعلقة بصنف من الدلالات الأربع التي ذكرناها وهي دلالة التدوين بالقلم ، .
وقوله جل شأنه:
{ وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّىٰ يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [النور:33]
يبتغون الكتاب أي يريدون النكاح الشرعي الموثق كتابة وتدويناً بصورته الشرعية ، وهو تدوين عقد النكاح وإثباته نصاً على ورق بصيغة معلومة ، ولا يكفي فيه الإيجاب والقبول بل ينبغي كتابة العقد وتدوينه.
وقوله جلت قدرته في شأن سليمان عليه السلام وملكة سبأ:
(اذْهَبْ بِكِتَابِي هَٰذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ (30) النمل
وهنا يظهر جلياً مفهوم الكتاب بأنه الرسالة المكتوبة المدونة على الورق أو الجلد ونحوه من الصحف أياً كان محتواها ، وأيا كان كاتبها ، وتشمل الرسم القرآني لكلمات القرآن الكريم ، فتسمى كتابا من حيث كونها مدونة بالقلم إلا أن السياق هو ما يشير لمعنى الكتابة إذا اريد به ذلك أو معني الفرض والشريعة اذا ناسب السياق ذلك.
ويقول جل شأنه في آية الدين :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَىٰ وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَىٰ أَجَلِهِ ذَٰلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَىٰ أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [البقرة:282]
وهذه الآية تدل على أهمية وفرض تدوين العقود والاتفاق والشهود ، ونلحظ قوله تعالى (وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَىٰ أَجَلِهِ ذَٰلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَىٰ أَلَّا تَرْتَابُوا) فكيف ببقية المعاملات الشرعية المالية وسواها ؟ كعقود النكاح ونحوه ، فلا شك أنه يقاس على ذلك في بقية المعاملات.
يقول ربنا جل وعلا :
{ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } [الزمر:23]
وهنا أيضاً تدل مفردة الكتاب على التدوين والكتابة وليس إشارة للكتاب بمعنى آخر ، ويحسن بنا أن نفصل قليلاً ليتضح المراد واتساقه مع المعنى في هذا الباب فنقول:كما أن للكتاب دلالات حسب السياق الذي يقع فيه فإن التشابه والمثاني لهما مدلول مختلف حسب ما يكون موضعه في القرآن الكريم ، فمدلول الكتاب هنا هو الرسم القرآني ، فيقول تعالى : (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا) فيقال : (زيد اقتنى احسن الخيل لونا ) أو (عمروٌ أنشد أبلغ الشعر بيانا ) فالقرآن هو أحسن الحديث كتاباً ، فهو أحسن ما دون وكتب من كل حديث منطوق ، فللقرآن كتابة مخصوصة وطريقة فريدة لا يشابهه فيها كتاب ولا يدانيه فيها رسم ، ومن هذا نستنبط أمراً لافتاً هو أن الخط القرآني ورسم المصحف توقيفي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم بوحي إلهي ، وهذا القول برغم أنه أحدث ما قيل في رسم القرآن إلا أنه معتبر ووجيه عند طائفة من أهل العلم ولهم عليه أدلة وألفوا في ذلك كتب عديدة.
وبناء على ما تقدم فالله علم عيسى الكتاب أي الشرائع المكتوبة على المؤمنين من صلاة وزكاة وصوم ونحو ذلك ، وعلمه الحكمة والتوراة والانجيل .
والله أعلم