على الهامش:
جاء في التسهيل لابن جزي رحمه الله عند قول الله تعالى: (واتقوا الله ويعلمكم الله) مانصه:
(...وقيل معناه الوعد بأن من اتقى عَلَّمَه الله وألهمه وهذا المعنى صحيح ولكن لفظ الآية لا يعطيه لأنه لو كان كذلك لجزم يعلمكم في جواب اتقوا)
مداخلة دقيقة لطيفة يا أبا عبد العزيز جزيت الجنة عليها وأقول:
فبالرغم من أن " ويعلمكم الله " ليست مرتبطة بـ " واتقوا الله " ارتباط الشرط بالجواب فإن أجلة العلماء ربطوا بينهما ربطا كاد يفوق الجزاء للشرط بل اسشهدوا بآيات من قبيل ما نحن فيه ارتبط فيها الشرط بالجزاء ، ودونكم سردا لما تيسر من أقوال العلماء:
قال المفسر اللغوي البلاغي ابن عاشور: { واتقوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } .
أمر بالتّقوى لأنّها مِلاك الخير ، وبها يكون ترك الفسوق . وقوله : { ويعلمكم الله } تذكير بنعمة الإسلام ، الذي أخرجهم من الجهالة إلى العلم بالشريعة ، ونظام العالم ، وهو أكبر العلوم وأنفعها ، ووعدٌ بدوام ذلك لأنّه جيء فيه بالمضارع ،
وفي عطفه على الأمر بالتقوى إيماء إلى أنّ التقوى سبب إفاضة العلوم ، حتى قيل : إنّ الواو فيه للتعليل أي ليعلّمكم . وجعله بعضهم من معاني الواو ، وليس بصحيح .
وقال ابن كثير:" وقوله: { وَاتَّقُوا اللَّهَ } أي: خافوه وراقبوه، واتبعوا أمره
{ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ } كقوله { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا } [الأنفال : 29] ، وكقوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ } [الحديد : 28] .وقال
وقال القرطبي : قوله تعالى: (واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شئ عليم)
وعد من الله تعالى بأن من أتقاه علمه، أي: يجعل في قلبه نورا يفهم به ما يلقى إليه، وقد يجعل الله في قلبه ابتداء فرقانا، أي فيصلا يفصل به بين الحق والباطل، ومنه قوله تعالى: "
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا..... وقد قال صلى الله عليه وسلم: " من عمل بما علم علمه الله ما لم يعلم " .
وقال عمر بن عبد العزيز: إنما قصر بنا عن علم ما جهلنا تقصيرنا في العمل بما علمنا، ولو عملنا ببعض ما علمنا لأورثنا علما لا تقوم به أبداننا، قال الله تعالى: " واتقوا الله ويعلمكم الله ".
يقول البقاعي في تفسيره لقوله تعالى: فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ:" { وكنا } أي مع العلم الذي هيأنا الله له بما جعل في غرائزنا من النورانية { مسلمين} أي خاضعين لله تعالى عريقين في ذلك مقبلين على جميع أوامره بالفعل على حسب أمره
كما أشار إليه قوله تعالى : { واتقوا الله ويعلمكم الله } [ البقرة : 282 ] ، { يهديهم ربهم بإيمانهم } [ يونس : 9 ] .
ويقول البقاعي في تفسير قوله تعالى :{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ}
{ وأقم الصلاة } أي: التي هي أحق العبادات ، ثم علل ذلك بقوله دالاً بالتأكيد على فخامة أمرها، وأنه مما يخفى على غالب الناس : { إن الصلاة تنهى } أي توجد النهي وتجدده للمواظب على إقامتها بجميع حدودها { عن الفحشاء } أي الخصال التي بلغ قبحها { والمنكر } أي الذي فيه نوع قبح وإن دق ، وأقل ما فيها من النهي النهي عن تركها الذي هو كفر، ومن انتهى عن ذلك انشرح صدره، واتسع فكره ،
فعلم من أسرار القرآن ما لا يعلمه غيره { واتقوا الله ويعلمكم الله } [ البقرة : 282 ] .
وقال الشنقيطي:
وربما عمل الإنسان بما علم فعلمه ما لم يكن يعلم ، كما يشير له قوله تعالى : { واتقوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله والله بِكُلِّ } [ البقرة : 282 ] وقوله تعالى : { يِا أَيُّهَا الذين آمنوا إَن تَتَّقُواْ الله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً } [ الأنفال : 29 ] على القول بأن الفرقان هو العلم النافع الذي يفرق به بين الحق والباطل .
وقوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَآمِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ } [ الحديد : 28 ] الآية .
وهذه التقوى ، التي دلت الآيات ، على أن الله يعلم صاحبها ، بسببها ما لم يكن يعلم ، لا تزيد على عمله بما علم ، من أمر الله وعليه فهي عمل ببعض ما علم زاده الله به علم ما لم يكن يعلم .
وقد بينت آيات عديدة آثار التقوى في العاجل والآجل .
منها في العاجل قوله تعالى : { وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً } [ الطلاق : 4 ] ، وقوله : { وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } [ الطلاق : 2 - 3 ] ، وقوله : { واتقوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله } [ البقرة : 282 ] ، وقوله { إِنَّ الله مَعَ الذين اتقوا والذين هُم مُّحْسِنُونَ } [ النحل : 128 ] .
أما في الآجل وفي الآخرة ، فإنها تصحب صاحبها ابتداء إلى أبواب الجنة كما في قوله تعالى : { وَسِيقَ الذين اتقوا رَبَّهُمْ إِلَى الجنة زُمَراً حتى إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فادخلوها خَالِدِينَ } [ الزمر : 73 ] ، فإذا ما دخلوها آخت بينهم وجددت روابطهم فيما بينهم وآنستهم من كل خوف ، كما في قوله تعالى { الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين } [ الزخرف : 67 ] ، { ياعباد لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ اليوم وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ الذين آمَنُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ ادخلوا الجنة أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ } [ الزخرف : 68 - 70 ] إلى قوله : { لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِّنْهَا تَأْكُلُونَ } [ الزخرف : 73 ] إلى أن تنتهي بهم إلى أعلى عليين ، وتحلهم مقعد صدق ، كما في قوله تعالى : { إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ } [ القمر : 54 - 55 ] .
فتبين بهذا كله منزلة التقوى من التشريع الإسلامي وفي كل شريعة سماوية ، وأنها هنا في معرض الحث عليها وتكرارها ، وقد جعلها الشاعر الساعادة كل السعادة كما في قول لجرير :
ولست أرى السعادة جمع مال ... ولكن التقي هو السعيد
فتقوى الله خير الزاد ذخرا ... وعند الله للأتقى مزيد
والتقوى دائماً هي الدافع على كل خير ، الرادع عن كل شر
...
يدعو المؤمنين إلى تقوى الله في النهاية؛ ويذكرهم بأن الله هو المتفضل عليهم ، وهو الذي يعلمهم ويرشدهم ، وأن تقواه تفتح قلوبهم للمعرفة وتهيىء أرواحهم للتعليم ، ليقوموا بحق هذا الإنعام بالطاعة والرضى والإذعان :
وقل صاحب الوسيط: قال : { واتقوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } .
أي :
واتقوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه ، فهو - سبحانه - الذي يعلمكم ما يصلح لكم أمر دنياكم وما يصلح لكم أمر دينكم متى اتقيتموه واستجبتم له ، وهو - سبحانه - بكل شيء عليم لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء .
قال السعدي:
واستدل بقوله تعالى: { وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ } أن تقوى الله، وسيلة إلى حصول العلم، وأوضح من هذا قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا } أي: علما تفرقون به بين الحقائق، والحق والباطل.إن لم تكن جوابا فهي ظل للمعنى
ذكر السيوطي في الدر المنثور:"
عن سفيان قال : من عمل بما يعلم وفق لما لا يعلم .
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم » .
وأخرج الترمذي عن يزيد بن سلمة الجعفي أنه قال « يا رسول الله إني سمعت منك حديثاً كثيراً أخاف أن ينسيني أوّله آخره ، فحدثني بكلمة تكون جماعاً قال : اتق الله فيما تعلم » .
وأخرج الطبراني في الأوسط عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «
من معادن التقوى تعلمك إلى ما علمت ما لم تعلم والنقص والتقصير فيما علمت قلة الزيادة فيه ، وإنما يزهّد الرجل في علم ما لم يعلم قلة الانتفاع بما قد علم » .وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب التقوى عن زياد بن جدير قال
: ما فقه قوم لم يبلغوا التقى .
وأخرج أبو الشيخ من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « العلم حياة الإِسلام وعماد الإِيمان ، ومن علم علماً أنمى الله له أجره إلى يوم القيامة ،
ومن تعلم علماً فعمل به فإن حقاً على الله أن يعلمه ما لم يكن يعلم » .
كل هذه مأثورات تعضد بعضها بعضا في ربط العلم بالتقوى
وعلى هذا أقول: ما تم تحريره يؤكد أن التقوى سبب رئيس لفيوضات علم الله على العبد التقي الصالح وإن كان ابن جزي ـ رحمه الله رفض ما تقدم صناعة ، فإن غيره قبل عين ما رُفض من ناحية المضمون والمعنى .
ولا يفوتني أن اتقدم بشكرى للأخوة الفضلاء حسب الترتيب " عمارة وحجازي و متبعة ".
والموفق من وفقه الله تعالى.