اياد هادي
New member
بسم الله الرحمن الرحيم
{{ وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا" جنيا" }}سورة مريم/25
قال تعالى : (( فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة , قالت ياليتني مت قبل هذا وكنت نسيا"(23) منسيا فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا"(24) وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا" جنيا"(25) فكلي واشربي وقري عينا" )) سورة مريم .
لطالما راود قراء القران وهم يقرؤون الآيات في بداية سورة مريم تساؤلا" عن سبب أمر الله عز وجل لمريم (عليها السلام) بهز جذع النخلة , فيجد الباحث منهم في كتب التفسير أو السامع من أفواه أهل العلم من يقول ان مرد ذلك سنة الله في الأخذ بالأسباب في طلب الرزق ولكن احدنا عندما يذكر انه قد مرَ في سورة آل عمران على آيات تفيد أن مريم عليها السلام كان رزقها يأتيها رغدا" وهي جالسة عابدة متبتلة في محرابها : قال تعالى (( كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا" , قال يامريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب )) سورة آل عمران /37.
سيتبادر إلى ذهنه أن هذا الوضع أجدر كي يؤخذ فيه بالأسباب فليس من صحيح الاعتقاد ترك طلب الرزق والجلوس عالة على الآخرين لا بل أن طلب الرزق بالأساس عمل مقدم على القعود على العبادة حيث ورد عنه ((صلى الله عليه وسلم)) إن قوما قدموا عليه (( صلى الله عليه وسلم)) وتحدثوا عن احدهم فقالوا يصوم النهار ويقوم الليل ويكثر الذكر , فقال ((صلى الله عليه وسلم)) أيكم يكفيه طعامه وشرابه فقالوا: كلنا فقال : كلكم خير منه(1) وكذلك قوله((صلى الله عليه وسلم) :( ما أكل احد طعاما خير من أن يأكل من عمل يده وان نبي الله داؤد عليه السلام كان يأكل من عمل يده)(2) , فهذان الحديثان على سبيل المثال لا الحصر يؤكدان ما ذهبنا إليه فيما تقدم خاصة إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار أن مريم عليها السلام عندما جاءها الأمر بهز النخلة كانت امرأة نفساء واهنة الجسد ضعيفة القوة لا بل أنها في نفسية سيئة للغاية(3) دفعتها لان تقول " ياليتني مت قبل هذا وكنت نسيا" منسيا"(4) " كل هذا يؤكد حاجتها لان تمنح العون والراحة والتكريم والتسرية منحا" وعطاءا" لا أخذا بالأسباب .
وقد من الله علينا بجواب لذلك التساؤل , وجدنا في أمهات التفاسير –والحمد لله- ما يؤيده, وقبل الشروع ببيانه وذكره نرى ضرورة تثبيت جملة من الأمور وهي :-
1. أن جذع النخلة كان جذعا" معروفا" بدليل قوله تعالى : (( أجاءها المخاض إلى جذع النخلة )) فلفظة جذع نكرة مضافة إلى معرف بأل معروف(5) مثل قولك (باب المدرسة) .
2. أن الجذع كان ميتا" بلا رأس يابسا" نخرا" . (6)
3. أن هز الجذع كان في أيام الشتاء حيث لا يثمر النخيل(7)
4. أن الغاية من أن يكون تحت مريم عليها السلام سريا"(8) وان يتساقط عليها الرطب جنيا" هو ((فكلي واشربي وقري عينا")) أي تقر عينها وتطيب نفسا وترفض الحزن ولا تقلق ولا تخاف بل تطمئن وتأمن وتفرح .
5. أن الأخذ بالأسباب يفترض أن يشمل النهر الذي جرى تحتها (( قد جعل ربك تحتك سريا(9))) كأن تؤمر بضرب الارض برجلها مثلا" كي يتفجر الماء كما فعل أيوب عليه السلام ,وليس فقط الرطب الجني تهز جذع نخلته كي يتساقط .
معلوم أن النخل هو الشجر الوحيد على الأرض الذي لا يثمر إلا بالتلقيح بالواسطة (التأبير) فتؤخذ حبوب الطلع من الشجرة الذكر فتلقح بها الشجرة الأنثى ولقد ورد في الأثر عنه صلى الله عليه وسلم : عن علي بن ابي طالب (كرم الله وجهه) :( أكرموا عمتكم النخلة فإنها خلقت من فضلة طينة أبيكم ادم)
" وليس من الشجر شجرة تلقح غيرها وليس من الشجر شجرة أكرم على الله من شجرة ولدت (نزلت) تحتها مريم بنت عمران ’ فاطعموا نسائكم الوُلًد الرطب فان لم يكن الرطب فالتمر " (10)
وبرغم الضعف في سند هذا الحديث إلا انه يذكر حقيقتين ثابتتين لا تقبلان الرد وهي انه ليس غير النخلة من الشجر يُلقح , وان مريم بنت عمران ولدت تحتها وبينهما قصة وعلاقة ومثل ,ولعل من هاتين الحقيقتين جاء قول العلامة إسماعيل حقي (ت 1127 هـ) في تفسيره روح البيان في تفسير القران : " وأما سر كون الآية في النخلة فلأنها خلقت من طينة ادم وفيها نسبة معنوية لحقيقة الإنسانية دون غيرها" .
لقد تعجبت مريم فطرحت سؤالا" " أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر ولم أكن بغيا" فجاءها جوابين " الأول: " كذلك قال ربك هو علي هين " أما الثاني فكان فعلا" ربانيا" معجزا" تشهده مريم بام عينها يثبت لها الجواب الأول وهو أن الله عندما يقول للشيء كن فانه يكون, فما أن هزت مريم عليها السلام جذع النخلة اليابس الميت حتى اخرج منه شجرة حية ( يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي )(11) فأنبت السعف على جذع نخلة أنثى لابد من تلقيحها كي تثمر الرطب , لكنها في الحال أثمرت و حملت الرطب دون تلقيح (تأبير) ،
نعم كان هز جذع النخلة إجابة لسؤال مريم عليها السلام (أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشرا" ولم أكن بغيا"), وكأن المولى يقول لها : يامريم من جعل النخلة تثمر دون تلقيح جعلك تحملين دون أن يمسسك بشر فاثبتي (12) .وكلي الرطب المتساقط عليك واشربي من النهر الجاري تحتك وقرًي عينا" , فامتثلت فارتاحت وهدأت واطمأن قلبها أن الله معها يؤيدها وما كانت أبدا لتشك أن الله لم يكن معها ولكن المعجزات تطمئن القلوب . قال تعالى مخاطبا" إبراهيم عليه السلام : (( أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي ))(13)
هذا الاطمئنان والأمان أن الله معها يؤيدها وضّحه القران ووثقه عندما قال (( فأتت به قومها تحمله )) فالفعل (أتى) معروف في التعبير ألقراني أن فيه قوة القدوم, والجار والمجرور(به) المتعلق بالفعل (أتت) جاء لتوكيد وتوثيق إتيان مريم بعيسى إلى قومها بقوة واطمئنان, فلقد جاءتهم تحمله إعلانا جهارا نهارا لا إسرارا ولا خوفا ولا خفاءا وما كل ذلك الثبات إلا نتيجة لشهادتها المعجزات .
ولقد ورد عن ابن عطاء وكذلك حكا القرطبي في تفسيره عن بعض العلماء انه (لما كان قلبها –أي مريم- فارغا" فرغ الله جارحتها عن النصب ، فلما ولدت عيسى وتعلق قلبها بحبه ، واشتغل سرها بحديثه وأمره وكّلها إلى كسبه وردها إلى العادة بالتعلق بالأسباب في عباده)(14) ونقول إزاء ذلك أن مريم عليها السلام لم تسع للولد ولم يكن الولد مطلبها بل فرض عليها فرضا" وامتثلت طاعة وحملته كرها" ووضعته كرها" وسنة الله في خلقه أن تهتم الأم بولدها وتحبه فلماذا تؤاخذ بشيء فرض عليها (الحمل) وبشيء لم تبتدعه (محبة الولد)
كما ذكر العلامة إسماعيل حقي في تفسيره (روح البيان في تفسير القران ) أنها –مريم- في حالة الطفولية كانت بلا علاقة أو جبت العناء والمشقة ونقول إزاء ذلك فان الطفولية والحمل والمخاض والنفاس أحوال وأشكال متفاوتة من الضعف لا بل أن المخاض هو حال الضعف الأكبر بينها, فان كان رزقها يأتيها وهي طفلة رحمة بحالة ضعفها الطفولي فمن الأولى أن يأتيها أسهل في حالة مخاضها لأنها في حالة الضعف الأنثوي الأكبر , وأما العلاقة التي أوجبت العناء والمشقة لها فكما تقدم فإنها فرضت عليها ولم تطلبها كي تتحمل أوزارها وتبعاتها .
الخاتمة :
حاولنا في الأسطر السالفة أن نجمع ما قيل في المسالة مما وقع تحت أيدينا من مصادر والتوفيق بينها والاستنباط أو الرد حيث ماكان ذلك مطلوبا . فما كان من صواب فمن توفيق الله وفضله وماكان من خلل أو نقص فمن نفسي المقصرة .
نسال الله أن ينفعنا وغيرنا بما علمنا ويعلمنا.. انه على ذلك قدير ...
وأخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
الهوامش
(1) حديث مرسل : عن أيوب عن أبي قلابة عن النبي (صلى الله عليه وسلم) , جاء من طرق صحيحة كما في مراسيل أبو داؤد وسنن سعيد بن منصور وغيرهما .. موقع أهل الحديث
(2) رواه البخاري
(3) تفسير البحر المحيط/ أبو حيان
(4) ذكر الشوكاني في تفسيره (فتح القدير) ما قاله الفراء في معنى نسيا منسيا وهو الاتي : ( النسي ما تلقيه المرأة من خرق اعتلالها فتقول مريم: نسيا منسيا اي حيضة ملقاة)
(5) ذكر ذلك الشوكاني في تفسيره فتح القدير نقلا عن الفراء
(6) وردت هذه المعاني في التفاسير : بحر العلوم للسمرقندي , الجلالين , الطبري , البيضاوي
(7) وردت هذه المعاني في التفاسير : بحر العلوم للسمرقندي , الجلالين , الطبري , البيضاوي
(8) السري : النهر الصغير
(9) يقول الشوكاني في (فتح القدير) , والمعنى : قد جعل ربك تحت قدمك نهرا وقيل كان نهرا قد انقطع عنه الماء فارسل الله فيه الماء لمريم واحيا فيه ذلك الجذع اليابس الذي اعتمدت عليه حتا أورق وأثمر .
(10) رواه أبو نعيم وأبو يعلى والرامهرمزي وابن كثير في تفسيره .
(11) سورة الروم / 19.
(12) إلى هذا الفهم ذهب السلمي في تفسيره ( حقائق التفسير) والبيضاوي في تفسيره (انوار التنزيل وأسرار التأويل) ومثل ذلك في تفسير الجلالين .
(13) سورة البقرة /260 .
(14) تفسير (الجامع لاحكام القران) / القرطبي.
{{ وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا" جنيا" }}سورة مريم/25
قال تعالى : (( فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة , قالت ياليتني مت قبل هذا وكنت نسيا"(23) منسيا فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا"(24) وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا" جنيا"(25) فكلي واشربي وقري عينا" )) سورة مريم .
لطالما راود قراء القران وهم يقرؤون الآيات في بداية سورة مريم تساؤلا" عن سبب أمر الله عز وجل لمريم (عليها السلام) بهز جذع النخلة , فيجد الباحث منهم في كتب التفسير أو السامع من أفواه أهل العلم من يقول ان مرد ذلك سنة الله في الأخذ بالأسباب في طلب الرزق ولكن احدنا عندما يذكر انه قد مرَ في سورة آل عمران على آيات تفيد أن مريم عليها السلام كان رزقها يأتيها رغدا" وهي جالسة عابدة متبتلة في محرابها : قال تعالى (( كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا" , قال يامريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب )) سورة آل عمران /37.
سيتبادر إلى ذهنه أن هذا الوضع أجدر كي يؤخذ فيه بالأسباب فليس من صحيح الاعتقاد ترك طلب الرزق والجلوس عالة على الآخرين لا بل أن طلب الرزق بالأساس عمل مقدم على القعود على العبادة حيث ورد عنه ((صلى الله عليه وسلم)) إن قوما قدموا عليه (( صلى الله عليه وسلم)) وتحدثوا عن احدهم فقالوا يصوم النهار ويقوم الليل ويكثر الذكر , فقال ((صلى الله عليه وسلم)) أيكم يكفيه طعامه وشرابه فقالوا: كلنا فقال : كلكم خير منه(1) وكذلك قوله((صلى الله عليه وسلم) :( ما أكل احد طعاما خير من أن يأكل من عمل يده وان نبي الله داؤد عليه السلام كان يأكل من عمل يده)(2) , فهذان الحديثان على سبيل المثال لا الحصر يؤكدان ما ذهبنا إليه فيما تقدم خاصة إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار أن مريم عليها السلام عندما جاءها الأمر بهز النخلة كانت امرأة نفساء واهنة الجسد ضعيفة القوة لا بل أنها في نفسية سيئة للغاية(3) دفعتها لان تقول " ياليتني مت قبل هذا وكنت نسيا" منسيا"(4) " كل هذا يؤكد حاجتها لان تمنح العون والراحة والتكريم والتسرية منحا" وعطاءا" لا أخذا بالأسباب .
وقد من الله علينا بجواب لذلك التساؤل , وجدنا في أمهات التفاسير –والحمد لله- ما يؤيده, وقبل الشروع ببيانه وذكره نرى ضرورة تثبيت جملة من الأمور وهي :-
1. أن جذع النخلة كان جذعا" معروفا" بدليل قوله تعالى : (( أجاءها المخاض إلى جذع النخلة )) فلفظة جذع نكرة مضافة إلى معرف بأل معروف(5) مثل قولك (باب المدرسة) .
2. أن الجذع كان ميتا" بلا رأس يابسا" نخرا" . (6)
3. أن هز الجذع كان في أيام الشتاء حيث لا يثمر النخيل(7)
4. أن الغاية من أن يكون تحت مريم عليها السلام سريا"(8) وان يتساقط عليها الرطب جنيا" هو ((فكلي واشربي وقري عينا")) أي تقر عينها وتطيب نفسا وترفض الحزن ولا تقلق ولا تخاف بل تطمئن وتأمن وتفرح .
5. أن الأخذ بالأسباب يفترض أن يشمل النهر الذي جرى تحتها (( قد جعل ربك تحتك سريا(9))) كأن تؤمر بضرب الارض برجلها مثلا" كي يتفجر الماء كما فعل أيوب عليه السلام ,وليس فقط الرطب الجني تهز جذع نخلته كي يتساقط .
معلوم أن النخل هو الشجر الوحيد على الأرض الذي لا يثمر إلا بالتلقيح بالواسطة (التأبير) فتؤخذ حبوب الطلع من الشجرة الذكر فتلقح بها الشجرة الأنثى ولقد ورد في الأثر عنه صلى الله عليه وسلم : عن علي بن ابي طالب (كرم الله وجهه) :( أكرموا عمتكم النخلة فإنها خلقت من فضلة طينة أبيكم ادم)
" وليس من الشجر شجرة تلقح غيرها وليس من الشجر شجرة أكرم على الله من شجرة ولدت (نزلت) تحتها مريم بنت عمران ’ فاطعموا نسائكم الوُلًد الرطب فان لم يكن الرطب فالتمر " (10)
وبرغم الضعف في سند هذا الحديث إلا انه يذكر حقيقتين ثابتتين لا تقبلان الرد وهي انه ليس غير النخلة من الشجر يُلقح , وان مريم بنت عمران ولدت تحتها وبينهما قصة وعلاقة ومثل ,ولعل من هاتين الحقيقتين جاء قول العلامة إسماعيل حقي (ت 1127 هـ) في تفسيره روح البيان في تفسير القران : " وأما سر كون الآية في النخلة فلأنها خلقت من طينة ادم وفيها نسبة معنوية لحقيقة الإنسانية دون غيرها" .
لقد تعجبت مريم فطرحت سؤالا" " أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر ولم أكن بغيا" فجاءها جوابين " الأول: " كذلك قال ربك هو علي هين " أما الثاني فكان فعلا" ربانيا" معجزا" تشهده مريم بام عينها يثبت لها الجواب الأول وهو أن الله عندما يقول للشيء كن فانه يكون, فما أن هزت مريم عليها السلام جذع النخلة اليابس الميت حتى اخرج منه شجرة حية ( يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي )(11) فأنبت السعف على جذع نخلة أنثى لابد من تلقيحها كي تثمر الرطب , لكنها في الحال أثمرت و حملت الرطب دون تلقيح (تأبير) ،
نعم كان هز جذع النخلة إجابة لسؤال مريم عليها السلام (أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشرا" ولم أكن بغيا"), وكأن المولى يقول لها : يامريم من جعل النخلة تثمر دون تلقيح جعلك تحملين دون أن يمسسك بشر فاثبتي (12) .وكلي الرطب المتساقط عليك واشربي من النهر الجاري تحتك وقرًي عينا" , فامتثلت فارتاحت وهدأت واطمأن قلبها أن الله معها يؤيدها وما كانت أبدا لتشك أن الله لم يكن معها ولكن المعجزات تطمئن القلوب . قال تعالى مخاطبا" إبراهيم عليه السلام : (( أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي ))(13)
هذا الاطمئنان والأمان أن الله معها يؤيدها وضّحه القران ووثقه عندما قال (( فأتت به قومها تحمله )) فالفعل (أتى) معروف في التعبير ألقراني أن فيه قوة القدوم, والجار والمجرور(به) المتعلق بالفعل (أتت) جاء لتوكيد وتوثيق إتيان مريم بعيسى إلى قومها بقوة واطمئنان, فلقد جاءتهم تحمله إعلانا جهارا نهارا لا إسرارا ولا خوفا ولا خفاءا وما كل ذلك الثبات إلا نتيجة لشهادتها المعجزات .
ولقد ورد عن ابن عطاء وكذلك حكا القرطبي في تفسيره عن بعض العلماء انه (لما كان قلبها –أي مريم- فارغا" فرغ الله جارحتها عن النصب ، فلما ولدت عيسى وتعلق قلبها بحبه ، واشتغل سرها بحديثه وأمره وكّلها إلى كسبه وردها إلى العادة بالتعلق بالأسباب في عباده)(14) ونقول إزاء ذلك أن مريم عليها السلام لم تسع للولد ولم يكن الولد مطلبها بل فرض عليها فرضا" وامتثلت طاعة وحملته كرها" ووضعته كرها" وسنة الله في خلقه أن تهتم الأم بولدها وتحبه فلماذا تؤاخذ بشيء فرض عليها (الحمل) وبشيء لم تبتدعه (محبة الولد)
كما ذكر العلامة إسماعيل حقي في تفسيره (روح البيان في تفسير القران ) أنها –مريم- في حالة الطفولية كانت بلا علاقة أو جبت العناء والمشقة ونقول إزاء ذلك فان الطفولية والحمل والمخاض والنفاس أحوال وأشكال متفاوتة من الضعف لا بل أن المخاض هو حال الضعف الأكبر بينها, فان كان رزقها يأتيها وهي طفلة رحمة بحالة ضعفها الطفولي فمن الأولى أن يأتيها أسهل في حالة مخاضها لأنها في حالة الضعف الأنثوي الأكبر , وأما العلاقة التي أوجبت العناء والمشقة لها فكما تقدم فإنها فرضت عليها ولم تطلبها كي تتحمل أوزارها وتبعاتها .
الخاتمة :
حاولنا في الأسطر السالفة أن نجمع ما قيل في المسالة مما وقع تحت أيدينا من مصادر والتوفيق بينها والاستنباط أو الرد حيث ماكان ذلك مطلوبا . فما كان من صواب فمن توفيق الله وفضله وماكان من خلل أو نقص فمن نفسي المقصرة .
نسال الله أن ينفعنا وغيرنا بما علمنا ويعلمنا.. انه على ذلك قدير ...
وأخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
الهوامش
(1) حديث مرسل : عن أيوب عن أبي قلابة عن النبي (صلى الله عليه وسلم) , جاء من طرق صحيحة كما في مراسيل أبو داؤد وسنن سعيد بن منصور وغيرهما .. موقع أهل الحديث
(2) رواه البخاري
(3) تفسير البحر المحيط/ أبو حيان
(4) ذكر الشوكاني في تفسيره (فتح القدير) ما قاله الفراء في معنى نسيا منسيا وهو الاتي : ( النسي ما تلقيه المرأة من خرق اعتلالها فتقول مريم: نسيا منسيا اي حيضة ملقاة)
(5) ذكر ذلك الشوكاني في تفسيره فتح القدير نقلا عن الفراء
(6) وردت هذه المعاني في التفاسير : بحر العلوم للسمرقندي , الجلالين , الطبري , البيضاوي
(7) وردت هذه المعاني في التفاسير : بحر العلوم للسمرقندي , الجلالين , الطبري , البيضاوي
(8) السري : النهر الصغير
(9) يقول الشوكاني في (فتح القدير) , والمعنى : قد جعل ربك تحت قدمك نهرا وقيل كان نهرا قد انقطع عنه الماء فارسل الله فيه الماء لمريم واحيا فيه ذلك الجذع اليابس الذي اعتمدت عليه حتا أورق وأثمر .
(10) رواه أبو نعيم وأبو يعلى والرامهرمزي وابن كثير في تفسيره .
(11) سورة الروم / 19.
(12) إلى هذا الفهم ذهب السلمي في تفسيره ( حقائق التفسير) والبيضاوي في تفسيره (انوار التنزيل وأسرار التأويل) ومثل ذلك في تفسير الجلالين .
(13) سورة البقرة /260 .
(14) تفسير (الجامع لاحكام القران) / القرطبي.