( ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه )

إنضم
12/08/2005
المشاركات
84
مستوى التفاعل
0
النقاط
6
قال الشنقيطي - رحمه الله - في تفسير هذه الآية:
ظاهر هذه الآية الكريمة قد يفهم منه أن يوسف - عليه السلام - همّ بأن يفعل مع تلك المرأة مثل ما همت هي به منه.
ولكن القرآن الكريم بين براءته - عليه الصلاة والسلام - من الوقوع فيما لا ينبغي، حيث بين شهادة كل من له تعلق بالمسألة ببراءته وشهادة الله له بذلك واعتراف إبليس به.
أما الذين لهم تعلق بتلك الواقعة فهم: يوسف، والمرأة، وزوجها، والنسوة، والشهود.
- أما جزم يوسف بأنه بريء من تلك المعصية فقد ذكره الله - تعالى -في قوله: (هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي) وقوله: (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إلَيْهِ... ).
- أما اعتراف المرأة بذلك ففي قولها للنسوة: (ولَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ) وقولها: (الآنَ حَصْحَصَ الحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وإنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ).
- وأما اعتراف زوج المرأة ففي قوله: (قَالَ إنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ * يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا واسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إنَّكِ كُنتِ مِنَ الخَاطِئِينَ).
- وأما اعتراف الشهود بذلك ففي قوله: (وشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ.. ).
- وأما شهادة الله - جل وعلا - ببراءته ففي قوله: (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ والْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُخْلَصِينَ).
- وأما إقرار إبليس بطهارة يوسف ونزاهته ففي قوله - تعالى -: (فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ).
فأقر بأنه لا يمكنه إغواء المخلصين، ولا شك أن يوسف من المخلصين، كما صرح - تعالى -به في قوله: (إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُخْلَصِينَ) فظهرت دلالة القرآن من جهات متعددة على براءته مما لا ينبغي.
فإن قيل: قد بينتم دلالة القرآن على براءته - عليه السلام - مما لا ينبغي في الآيات المتقدمة.
ولكن ماذا تقولون في قوله - تعالى -: (وهَمَّ بِهَا)؟ فالجواب من وجهين: الأول: إن المراد بهمّ يوسف بها خاطر قلبي صرف عنه وازع التقوى.
وقال بعضهم: هو الميل الطبيعي والشهوة الغريزية المزمومة بالتقوى، وهذا لا معصية فيه لأنه أمر جبلي لا يتعلق به التكليف، كما في الحديث عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقسم بين نسائه فيعدل ثم يقول: « اللهم هذا قسمي فيما أملك » يعني ميل القلب الطبيعي.
ومثال هذا: ميل الصائم إلى الماء البارد، مع أن تقواه يمنعه من الشرب وهو صائم.
وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: « ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة كاملة ».
لأنه ترك ما تميل إليه نفسه بالطبع خوفاً من الله، و امتثالاً لأمره، كما قال - تعالى -(وأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ ونَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى * فَإنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأْوَى)..
الثاني: وهو اختيار أبي حيان: أن يوسف لم يقع منه هم أصلاً، بل هو منفي عنه لوجود البرهان.
ثم قال الشنقيطي - رحمه الله -: هذا الوجه الذي اختاره أبو حيان وغيره هو أجرى الأقوال على اللغة العربية، لأن الغالب في القرآن وكلام العرب: أن الجواب المحذوف يذكر قبله ما يدل عليه كقوله: (فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إن كُنتُم مُّسْلِمِينَ) أي إن كنتم مسلمين فتوكلوا عليه، فالأول دليل الجواب المحذوف لا نفس الجواب، لأن جواب الشرط وجواب لولا لا يتقدم، ولكن يكون المذكور قبله دليلاً عليه..
وكقوله: (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إن كُنتُمْ صَادِقِينَ) أي إن كنتم صادقين فهاتوا برهانكم.
وعلى هذا القول فمعنى الآية: - وهم بها لولا أن رأى برهان ربه.
أي لولا أن رأى برهان ربه لهم بها، فبهذين الجوابين تعلم أن يوسف - عليه السلام - بريء من الوقوع فيما لا ينبغي، وأنه إما أن يكون لم يقع منه همّ أصلاً، وإما أن يكون همه خاطراً قلبياً صرف عنه وازع التقوى، فبهذا يتضح لك أن قوله - تعالى - (وهَمَّ بِهَا) لا يعارض ما قدمنا من الآيات على براءة يوسف من الوقوع فيما لا ينبغي.
ثم يقول الشيخ - رحمه الله -: فإذا علمت مما بينا دلالة القرآن العظيم على براءته مما لا ينبغي، فما رواه صاحب (الدر المنثور) وابن جرير وأبو نعيم، من أن يوسف - عليه السلام - جلس منها مجلس الرجل من امرأته وأنه رأى صورة يعقوب عاضاً على إصبعه أو صاح به صائح...
هذه الروايات منقسمة إلى قسمين: - قسم لم يثبت نقله عمن نقل عنه بسند صحيح، وهذا لا إشكال في سقوطه.
- وقسم ثبت عن بعض من ذكر، ومن ثبت عنه منهم شيء من ذلك فالظاهر الغالب على الظن المزاحم لليقين أنه إنما تلقاه عن الإسرائيليات لأنه لا مجال للرأي فيه، ولم يرفع منه قليل ولا كثير إليه - صلى الله عليه وسلم -.
وبهذا تعلم أنه لا ينبغي التجرؤ على القول في نبي الله يوسف اعتماداً على مثل هذه الروايات.
[أضواء البيان 2/49-60] قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: وأما قوله: (ولَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ).
فالهّم اسم جنس، كما قال الإمام أحمد: الهم همّان همّ خطرات وهمّ إصرار.
وقد ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن العبد إذا همّ بسيئة لم تكتب عليه.
وإذا تركها لله كتبت له حسنة وإن عملها كتبت له سيئة واحدة، وإن تركها من غير أن يتركها لله لم تكتب له حسنة ولا تكتب عليه سيئة، ويوسف - عليه السلام - همّ همّا تركه لله، ولذلك صرف الله عنه السوء والفحشاء لإخلاصه، وذلك إنما يكون إذا قام المقتضى للذنب وهو الّهم، وعارضه الإخلاص الموجب لانصراف القلب عن الذنب لله، فيوسف - عليه السلام - لم يصدر منه إلا حسنة يثاب عليها وقال - تعالى -: (إنَّ الَذِينَ اتَّقَوْا إذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإذَا هُم مُّبْصِرُونَ).
وأما ما ينقل من أنه حل سراويله، وجلس مجلس الرجل من المرأة، وأنه رأى صورة يعقوب عاضاً على يده، وأمثال ذلك فكله مما لم يخبر الله به ولا رسوله، وما لم يكن كذلك، فإنما هو مأخوذ عن اليهود الذين هم من أعظم الناس كذباً على الأنبياء، وقدحاً فيهم، وكل من نقله من المسلمين فعنهم نقله، لم ينقل من ذلك أحد عن نبينا - صلى الله عليه وسلم - حرفاً واحداً..[دقائق التفسير 3/272 - 273]

http://www.albayan-magazine.com

http://www.tafsir.org/vb/showthread.php?t=8954&highlight=%E5%E3%CA

http://www.tafsir.org/vb/showthread.php?t=2005&highlight=%E5%E3%CA
 
هذا الكلام الذي لا ينبغي المصير إلى غيره، فإن الهم لم يقع بدليل قوله : (لولا أن رأى برهان ربه) ..
ولماذا لم يقل: (لولا أن رأى برهان ربه لهم بها) ؟ أرى والله أعلم أن تقديم الهم للإشارة إلى أن كل دواعي الفعل كانت متوافرة، وأن شدة الحاجة إليه موجودة، فقدم الهم بها ليشير إلى أن الابتلاء كان شديدا وأن الصبر عليه كان عسيرًا، ومؤدى ذلك الإشارة إلى عظمة يوسف عليه السلام.

والله تعالى أعلم.
 
أخوي مهند
فيما يبدو لي إنك ما أنت صاير أحرص من ابن عباس ولا أعلم منه
ليتك تراجع قوله في تفسير الطبري وابن أبي حاتم
ويبدو لي إنه يعرف العربية أحسن منا ، ولا قال إن الهم لم يقع ، فهل سنكون أعلم منه؟!
 
لست أعلم منه ولا أحرص.
لكن ليس قول ابن عباس رضي الله عنهما وحيًا، والأمر خلافي، وقد اخترت قولا قيل به ولم أبتدع.
 
ولقد سقط عمرو على الأرض لولا أن أمسك بيد أخيه.

فهل سقط عمرو أم لم يسقط؟

هذه لغة عربية واضحة
 
ماذكرته يادكتور انمار عربية صحيحة
وما يفهم من كلام ابن عباس من وقوع الهم عربية صحيحة ، ويبدو لي أنه عربي يحتج به قبل أن يكون حبر الأمة وترجمان القرآن .
وأنا ما قلت إن كلام ابن عباس وحي ، لكن أنا أحب إلي أن أتبع ابن عباس مادام المروي عنه صحيح .
وإذا كانت المسألة خلاف فمتى بدأ الخلاف .
أنا ما وجدت هالخلاف عند الصحابة .
وهذا ما يعني الذي يقول به الأصوليون ( الإجماع السكوتي) .
وأشكر أخوي العبادي على رسالته الخاصة .
 
(( كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء))

الفحشاء الفاحشة.
والسوء مقدماتها.

وهل حل الزنار ونحوه من مقدمات الفاحشة إلا سوء ؟؟
 
أخوي مهند
أنا أتكلم عن وقوع الهم ، ويبدو من كلام ابن عباس أن الهم ما دون فعل الفاحشة ، وهو هكذا فهم ، وأنا أقول لك إنه يرى وقوع الهم ، وإن لم أرض ذلك التحديد الذي قاله ؛ لأنه يحتاج إلى كلام المعصوم ، لكن وقوع الخاطر ليس معصومًا منه .
قال ابن الجوزي : قوله تعالى : { ولقد همَّت به } الهم بالشيء في كلام العرب : حديث المرء نفسه بمواقعته مالم يواقع . فأما همّ أزليخا ، فقال المفسرون : دعته إِلى نفسها واستلقت له . واختلفوا في همِّه بها على خمسة أقوال :
أحدها : أنه كان من جنس همِّها ، فلولا أن الله تعالى عصمه لفعل ، وإِلى هذا المعنى ذهب الحسن ، وسعيد بن جبير ، والضحاك ، والسدي ، وهو قول عامة المفسرين المتقدمين ، واختاره من المتأخرين جماعة منهم ابن جرير ، وابن الأنباري . وقال ابن قتيبة : لا يجوز في اللغة : هممت بفلان ، وهمّ بي ، وأنت تريد : اختلاف الهمَّين . واحتجَ منْ نصر هذا القول بأنه مذهب الأكثرين من السلف والعلماء الأكابر ، ويدل عليه ما سنذكره من أمر البرهان الذي رآه . قالوا : ورجوعه عما همّ به من ذلك خوفاً من الله تعالى يمحو عنه سيء الهمِّ ، ويوجب له علوَّ المنازل ، ويدل على هذا الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن ثلاثة خرجوا فلجؤوا إِلى غار ، فانطبقت عليهم صخرة ، فقالوا : ليذكر كل واحد منكم أفضل عمله . فقال أحدهم : اللهم إِنك تعلم أنه كانت لي بنت عم فراودتها عن نفسها فأبت إِلا بمائة دينار ، فلما أتيتها بها وجلست منها مجلس الرجل من المرأة ، أُرعدتْ وقالت : إِن هذا لعملٌ ما عملته قطُّ ، فقمت عنها وأعطيتها المائة الدينار ، فإن كنتَ تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرِج عنا ، فزال ثلث الحجر . والحديث معروف ، وقد ذكرته في «الحدائق» فعلى هذا نقول : إِنما همت ، فترقَّت همَّتها إِلى العزيمة ، فصارت مصرَّة على الزنا . فأما هو ، فعارضه ما يعارض البشر من خَطَرَاتِ القلب ، وحديث النفس ، من غير عزم ، فلم يلزمه هذا الهمُّ ذنباً ، فإن الرجل الصالح قد يخطر بقلبه وهو صائم شرب الماء البارد ، فإذا لم يشرب لم يؤاخذ بما هجس في نفسه ، وقد قال صلى الله عليه وسلم " عفي لأمتي عما حدثت به أنفسها مالم تتكلم أو تعمل " وقال صلى الله عليه وسلم " هلك المصرّون " ، وليس الإِصرار إِلا عزم القلب ، فقد فرَّق بين حديث النفس وعزم القلب . وسئل سفيان الثوري : أيؤاخذ العبد بالهمة؟ فقال : إِذا كانت عزماً ، ويؤيده الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " يقول الله تعالى : إِذا همّ عبدي بسيئة ولم يعملها لم أكتبها عليه ، فإن عملها كتبتها عليه سيئة " واحتج القاضي أبو يعلى على أن همته لم تكن من جهة العزيمة ، وإِنما كانت من جهة دواعي الشهوة بقوله : «قال معاذ الله إِنه ربي» وقولِه : «كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء» وكل ذلك إِخبار ببراءة ساحته من العزيمة على المعصية .
فإن قيل : فقد سوّى القرآن بين الهمتين ، فلم فرقتم؟
فالجواب : أن الاستواء وقع في بداية الهمة ، ثم ترقت همتها إِلى العزيمة ، بدليل مراودتها واستلقائها بين يديه ، ولم تتعد همته مقامها ، بل نزلت عن رتبتها ، وانحل معقودها ، بدليل هربه منها ، وقولِه : «معاذ الله» ، وعلى هذا تكون همته مجرد خاطر لم يخرج إِلى العزم . ولا يصح ما يروى عن المفسرين أنه حلّ السراويل وقعد منها مقعد الرجل ، فإنه لو كان هذا ، دل على العزم ، والأنبياء معصومون من العزم على الزنا .
والقول الثاني : أنها همت به أن يفترشها ، وهمّ بها ، أي : تمنَّاها أن تكون له زوجة ، رواه الضحاك عن ابن عباس .
والقول الثالث : أن في الكلام تقديماً وتأخيراً ، تقديره : ولقد همت به ، ولولا أن رأى برهان ربه لهمّ بها ، فلما رأى البرهان ، لم يقع منه الهم ، فقُدِّم جواب «لولا» عليها ، كما يقال : قد كنتَ من الهالكين ، لولا أن فلاناً خلَّصك ، لكنت من الهالكين ، ومنه قول الشاعر :
فَلا يَدْعُني قَوْمِي صَرِيْحاً لِحُرَّةٍ ... لئن كُنْتُ مَقْتُولاً وتَسْلَم عَامِرُ
أراد : لئن كنت مقتولاً وتسلم عامر ، فلا يدعني قومي ، فقدم الجواب . وإِلى هذا القول ذهب قطرب ، وأنكره قوم ، منهم ابن الأنباري ، وقالوا : تقديم جواب «لولا» عليها شاذ مستكره ، لا يوجد في فصيح كلام العرب ، فأما البيت المستشهَد به ، فمن اضطرار الشعراء ، لأن الشاعر يضيق الكلام به عند اهتمامه بتصحيح أجزاء شعره ، فيضع الكلمة في غير موضعها ، ويقدِّم ما حكمه التأخير ، ويؤخِّر ما حكمه التقديم ، ويعدل عن الاختيار إِلى المستقبح للضرورة ، قال الشاعر :
جَزَى ربُّه عَنِّي عَدِيَّ بنَ حَاتِمٍ ... بِتَرْكي وَخِذْلاَني جَزَاءً موفَّراً
تقديره : جزى عني عديَّ بن حاتم ربُّه ، فاضطر إِلى تقديم الرب ، وقال الآخر :
لَمَّا جْفَا إِخوانُه مُصْعَبَاً ... أدَّى بِذَاكَ البيَعَ صَاعاً بِصاعِ
أراد : لما جفا مصعباً إِخوانه ، وأنشد الفراء :
طَلَباً لعُرْفِكَ يابْنَ يحيى بَعْدَمَا ... تَتَقَطَّعَت بي دونَكَ الأَسْبَابُ
فزاد تاء على «تقطعت» لا أصل لها ليصلح وزن شعره ، وأنشد ثعلب :
إِنَّ شَكْلِي وَإِنَّ شَكْلَك شَتَّى ... فَالْزَمِي الخَفْضَ وانعمي تَبْيَضِّضي
فزاد ضاداً لا أصل لها لتكمل أجزاء البيت ، وقال الفرزدق :
هُمَا تَفَلا في فِيَّ مِن فَمَوَيْهِمَا ... عَلَى النَّابِحِ العَاوِي أشدُّ لِجَامِيا
فزاد واواً بعد الميم ليصلح شعره . ومثل هذه الأشياء لا يحمل عليها كتاب الله النازل بالفصاحة ، لأنها من ضرورات الشعراء .
ولعلك تراجع باقي الأقوال .
ويحفظك ربي .
 
جزلك الله خيرًا !

ما نقلته عن ابن الجوزي ذكر قريبًا منه الألوسي.

أما الخاطر العابر والشهوة الحيوانية فلا يؤاخذ بها النبي ولا يضير نسبته إليه. بل الأليق بعظمة يوسف وتقواه أن ننسبها إليه، وإلا فأي فضل يكون له على غيره إذا كان استنكافه من فعل الفاحشة ومقدماتها من غير شدة شهوة ونزوع إليها ؟!

وإنما الذي ينبغي نفيه هو ما نفاه القرآن نفسه بقوله: "لنصرف عنه السوء والفحشاء" ، فإن الوقوع في السوء لا يليق بالصالحين فضلا عن عن أن يليق بالأنبياء كما ذكر الألوسي، ثم لا يعقل أن يكون وقع في السوء ثم يثني عليه الله تعالى بتلك المحامد العظيمة، هذا كله معنى ما ذكره الألوسي.

وزاد أيضًا أن يوسف صلى الله عليه وسلم لو وقع في ما يؤاخذ عليه لاستغفر ربه وأناب كما فعل داود وسليمان وغيرهما، فلما لم يذكر في السورة إلا تصريحه بدرء التهمة عن نفسه كان ذلك كالشمس على أنه لم يقع في محظور.

وكلها لعمري أدلة باهرة على نقاء يوسف صلى الله عليه وسلم مما نسب إليه.

ومصدر الخطأ في كثير من التفسيرات عدم الاستعانة بالسياق والنصوص المحتفة بالسألة والنصوص المتعلقة بها، فمن ثم يقع خطأ كثير. كما ترى ههنا.

وبارك الله بكم.

لكن بقيت الفقرة الأولى من كلامكم لم أفهم ما ترمي إليه ! هل فيها تراجع عن بعض ما كنت تقوله ؟؟
 
أيها الفضلاء لقد كتبت بحثا في الآية الكريمة ، ودرست الروايات التي نقلت عن السلف ، وإليكم البحث ومعدرة حيث لم تنزل الحواشي ولعلي استطيع إعادة تنزيله مرة أخرى مع العلم أن البحث مطبوع وهو بعنوان " الإيضاح الأتم لاية ولقد همت به وهم " وهو بحث محكم .
المقدمة


الحمد الله الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم ، والصلاة والسلام على قدوتنا وإمامنا نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه أجمعين.
وبعد
يقول ربنا في كتابه { ولقد همت به وهم بها لولا أن رآى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين}( ).
آية تتحدث عن نبي الله يوسف عليه الصلاة والسلام ، يوسف بن يعقوب بن إسحاق ابن الخليل إبراهيم عليهم السلام.
تتحدث هذه الآية عن هذا النبي، إنها آية من سورة سميت باسمه تعرض لنا سيرته وتبين لنا محنته ،وتوضح لنا نزاهته وطهارته.سورة تشحن القارىء بأسئلة كثيرة ، أسئلة تدور في المخيلة تبحث عن إجابة لها { لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين}( ) .
يوسف نبي الله المبتلى في صغره وشبابه، محبوب والده ،الجميل في خلقته، الفاتن في صورته ، أحرقت محبته قلب سيدته فراودته ، وغلقت الأبواب وقالت:هيت لك، طلبت منه الكثير وما ظفرت منه بقطمير. رفض المؤدب الوديع المطيع أمر سيدته هذه المرة ، هيهات هيهات يا سيدتي فلن أطاوعك ،ولن أنفذ طلبك وإن كنت صاحبة الفضل ، معاذ الله يا سيدتي ومعذرة إن عصيتك فأنا عبد طاهر مستسلم لأمر ربي وربك ، معاذ الله يا سيدتي فلست ممن يسلك هذا الطريق ، فأنا نبي وأبي نبي وأجدادي أنبياء .معاذ الله أن أنفذ طلبك وأحقق رغبتك، فأوصدي الأبواب أو افتحيها
غلقي الأبواب بالقفل أحكميها واحلمي فيما تريدي واطربي( )
لن تنالي ما تريدي فاسمعيها إنني الصديق من نسل أبي
لن تحصلي مني على المراد ، فاستمري في تكريمي إن شئت أو اسجنيني، أبداً لن أنفذ الأمر فافعلي ما بدا لك.
عجيب أمرك سيدتي تطلبي مني عصيان خالقي وخيانة سيدي وتلطيخ عرضي ،اتركيني وشأني، اسجنيني فأرتاح وترتاحي ، السجن أحب إلي من حرية تحفها الشهوات وتحيط بها المغريات ، اسجنيني لأعيش منفردا بين الجدران ، وكيدي لي فقد كاد لي قبلك أخيار، حياتي يا سيدتي منذ الصغر عناء وشقاء، في غيابة الجب رميت ، وعن حنان الوالدين أبعدت، فلا السجن يخيفني يا عزيزتي ، ولا النفي والطرد يزعجني ، ولا مفارقة الأحباب تؤلمني ، إنما ألمي وعذابي أن أحقق رغبتك فأواقع الحرام معك ، نعم هذا هو الذي لا أحتمله وهذا هو الذي لن أفعله .
يا زليخا لن تنالي فافهميها ألف كلا اسمعيها واعقليها
أنا طاهر يا سيدتي ونظيف وابن كرام من كرام.
لا تظني يوسفا يبغي الخنى إنه الصديق قد أضحى نبي
قال عليه الصلاة والسلام (( الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام))( ).
أيها القارىء العزيز يوسف الطاهر العفيف ابتلي بسيدة مراودة ولإيقاعه في السوء قاصده ، همت بيوسف عليه السلام ، ولم يتحقق ذلك الهم، لكنه بقي محفوظا وفي القرآن مكتوبا فتناوله الناس بالكلام وأهل التفسير بالكشف والبيان، واختلفت عباراتهم وتباينت درجاتهم مع الإجماع منهم على طهارته ، فقد نص القرآن على براءته ، ولكن بقي لعبارة " الهم " المضافة إليه أثراً أوجدت في نفوس البعض شبهاً .
أيها القارىء الكريم حديثي معك في هذا البحث حول الآية الكريمة السابقة،والحديث فيها يحتاج إلى تأمل وأناة ، فظاهرها فيه شبهة لمن قد يطعن في نزاهة نبي الله يوسف عليه السلام ، فيطعن حينئذ في عصمة الأنبياء ، وهذا عين البلاء.
وتبيين الأمر وإبطال الشبهة في الآية من أهم الأسباب التي دعتني إلى الحديث عن هذا الموضوع، مضافاً إلى ذلك خفاء معناها على كثير من الناس حتى على بعض طلبة العلم.
ولذا قال الرازي: (اعلم أن هذه الآية من المهمات التي يجب الاعتناء بالبحث عنها)( ).
فأحببت أن أساهم في بيان وجه الحق فيها فتناولتها بهذا البحث " الإيضاح الأتم لقوله تعالى "ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه ... الآية".
وقد سرت في هذا البحث على وفق منهج يتلخص في الآتي:
1- اعتمدت بعد الله تعالى على ما قاله العلماء الأفاضل في تفسيرهم لهذه الآية.
2- رتبت مقالات العلماء وعزوتها إلى مصادرها.
3 - حاولت بيان الأدلة التي اعتمد عليها أصحاب كل قول إن وجد.
4 - بينت الراجح في نظري وذكرت أوجه الرجحان.
5 - أعرضت عن ذكر الروايات الإسرائيلية الكثيرة ، واكتفيت بالإشارة إلى طرف منها.
6 - حرصت قدر الإمكان على عزو الأقوال إلى أصحابها.
7 - عرفت بالأعلام عدا الصحابة وأهل المصنفات التي أنقل عنها.
8 - قربت محتوى البحث بعمل عدة فهارس.
وقد جعلت البحث في مقدمة وتمهيد وأربعة مباحث وخاتمة.
أما المقدمة فعرضت فيها أسباب اختيار الموضوع ومنهج البحث وخطته.
وأما التمهيد فتحدثت فيه عن الأخبار والروايات الإسرائيلية.
و المبحث الأول جعلته في : بيان معنى الهم في اللغة.
والمبحث الثاني في : المراد بهم امرأة العزيز بيوسف عليه السلام.
والمبحث الثالث في : المراد بهم يوسف عليه السلام بامرأة العزيز.
والمبحث الرابع في : بيان المراد بالبرهان.
والخاتمـــة : عرضت فيها نتائج البحث.
هذا وأسأل الله التوفيق والسداد وأن يجعل هذا العمل لوجهه خالصا فهو حسبي ونعم الوكيل.


تمهيد

لقد عرض القرآن الكريم لأخبار الأمم السالفة وأكثر من ذكر قصص الأنبياء ففصل في بعض وأجمل في بعض .
والقارىء لكتاب الله تعالى عند مروره بقصة أو خبر من تلك الأخبار يتبادر إلى ذهنه أسئلة كثيرة لا يجد لها جواباً.
ففي قوله تعالى{ فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون}( ) مثلاً قد يتساءل عن البعض الذي أمروا أن يضربوا به القتيل ، هل هو العنق، أم الذيل، أم الجنب وهكذا .
وفي قصة نبي الله يوسف عليه السلام يتساءل القارىء كم لبث عليه السلام في الجب ؟ وكيف كان يأكل ؟ وما نوع الدلو الذي أخرج به ؟ وما نوع الدراهم التي اشتري بها؟ وما اسم الذي اشتراه ؟ وما اسم امرأة العزيز ؟ وما اسمي السجينين معه ، وما أسماء اخوته ؟ وأسئلة كثيرة غيرها.
وفي قصة أصحاب الكهف تتبادر إلى ذهن القارىء أسئلة كثيرة جداً، ما أسماء أولئك الفتية ؟ وأين مكانهم ؟ وما اسم ملك زمانهم ؟ وبأي عملة كانوا يتعاملون ؟
وهكذا أسئلة كثيرة وكثيرة تقفز إلى الذهن عند قراءة القصص القرآني.
ويحاول القارىء للقرآن البحث عن أجوبة لتلك التساؤلات فلا يجد الجواب الصحيح إلا نادراً. وذلك أن معرفة كل التفاصيل عن القصة أو الخبر لا يفيد شيئاً إذ المقصود من إيرادها واضح وظاهر دون ذكر تلك الدقائق والتفاصيل. وإلى هذا أشار إمام المفسرين أبو جعفر الطبري رحمه الله عند تفسيره لقوله تعالى: { فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى }فبعد أن ذكر مقالات أهل التفسير في بيان المراد بالبعض الذي أمروا أن يضربوا به القتيل قال: ( والصواب أن يقال أمرهم الله جل ثناؤه أن يضربوا القتيل ببعض البقرة ليحيا المضروب ، ولا دلالة في الآية ، ولا خبر تقوم به حجة على أي أبعاضها التي أمر القوم أن يضربوا القتيل به... ولا يضر الجهل بأي ضربوا القتيل ولا ينفع العلم به)( ).
وكثير مما أبهمه الله تعالى في كتابه الكريم هو مما لا فائدة من تعيينه تعود على المكلفين لا في الدنيا ولا في الآخرة كما ذكر ذلك شيخ الإسلام رحمه الله( ). ومع ذلك فقد وجد من العلماء من جعل يبحث عن الإجابة على تلك الأسئلة ، فعكف على ما ورد عن أهل الكتاب مما جرى لهم مع أنبيائهم عليهم السلام - وفي كتبهم تفصيل لبعض ما أجمل في القرآن الكريم- فعند تفسيره للآية يفصل فيها على حسب ما وصل إليه من أخبار، ويحاول أن يعرف بكل مبهم حتى لقد كتب في ذلك مصنفات( ) وشحنت كتب التفسير بروايات وأخبار ، أبهمت أكثر مما فسرت وأغلقت أكثر مما وضحت ،وشككت في كثير من الأمور، وشوشت على كثير من العقول، ولم تف بالأجوبة بل خلقت آلاف الأسئلة ، وتلك الأخبار والروايات يطلق عليها الإسرائيليات( ).
وقد منع الإسلام رواية تلك الأخبار والتحديث عن أهلها بادىء الأمر حيث قال عليه الصلاة والسلام : (( يا معشر المسلمين كيف تسألون أهل الكتاب وكتابكم الذي أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم أحدث الأخبار بالله تقرءونه لم يشب وقد حدثكم الله أن أهل الكتاب بدلوا ما كتب الله وغيروا بأيديهم الكتاب فقالوا: هو من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا ، أفلا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مساءلتهم ولا والله ما رأينا منهم رجلا قط يسألكم عن الذي أنزل عليكم))( ). ثم جاء الإذن بالتحديث عنهم فقال عليه الصلاة والسلام:(( بلغوا عني ولو آية ، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ، ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار))( ).
ولأجل ذلك كثرت تلك الأخبار ودخلها الصحيح والسقيم ، وزاد انتشارها كانتشار النار في الهشيم ، فانبرى لها العلماء الأخيار فصنفوها ليتبين المقبول من المردود وجعلوها ثلاثة أقسام( ):
القسم الأول : ما علمنا صحته مما بأيدينا من القرآن والسنة فهذا صحيح مقبول تجوز روايته.
القسم الثاني : ما علمنا كذبه لوجود ما يخالفه مما عندنا وهذا قد ورد النهي عن روايته.
القسم الثالث : ما لا نعلم صدقه ولا نعلم كذبه وهذا لا نصدقه ولا نكذبه وتجوز روايته. وهذا القسم غالبه مما لا فائدة فيه ، وإليه أشار الحديث المروى عن النبي عليه الصلاة والسلام (( لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم ، وقولوا آمنا بالله وما أنزل))( ).
ومما يؤسف له أن كتب التفسير قد شحنت بتلك الروايات ، ولم يميز المصنفون رحمهم الله بين الصحيح من السقيم بل سطروها على علاتها مما جعلها مورداً يرتوي منه الطاعنون في كتاب الله، وباباًُ مشرعاً يلج منه الحاقدون على الإسلام، فشوهوا كثيراً من الحقائق وزادوا فيها ونقصوا.
وقد ظهر تأثير تلك الروايات على كثير من العامة والخطباء والكتاب،وأصبح البعض يردد ما جاء فيها ويأخذه على أنه عين الحقيقة.
وقصة نبي الله يوسف عليه السلام مع امرأة العزيز قد سطر فيها من الإسرائيليات ما يكدر الفؤاد ، ووصف فيها عليه الصلاة والسلام مع تلك المرأة بصفات لا تليق بنبي عصمه الله وطهره .
ولأجل ذلك قدمت بهذا التمهيد ليتبين للقارىء الكريم أن ليس كل خبر يقبل ولا كل رواية . بل لا بد من التثبت والتروي في نقل تلك الروايات ولا سيما إذا كانت في أمر عظيم كعصمة الأنبياء مثلاً، ولا بد أيضاً من استحضار أقسام الروايات الثلاث السابق ذكرها وتنزيل ما يمر به عليها، ليسلم من الزلل ويتجنب الوقوع في الغلط. والله سبحانه هو الموفق والهادي وهو حسبنا ونعم الوكيل.


المبحث الأول
بيان معنى الهم في اللغة

قال الله تعالى : { ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين }( ). في هذه الآية الكريمة بيان أن الهم وقع من امرأة العزيز ومن يوسف عليه السلام ، وأن الله قد أقام برهاناً عصم بسببه نبيه يوسف عليه السلام فصرف عن السوء والفحشاء وذلك من حفظ الله لعبده المخلص عليه السلام . هذا هو ظاهر الآية، ويرد على هذا الظاهر سؤال سمعناه من الناس كثيراً ينبىء عن إشكال في نفوسهم ، وكثيرا ما طرح على العلماء والمفسرين من العامة ومن طلبة العلم ، وذلك السؤال هو أنه كيف يهم نبي الله المعصوم بالفعلة الشنيعة؟
ولا شك أن هذا السؤال قائم والإشكال فيه وارد وسأحاول بتوفيق الله وتسديده أن أجلي معنى الآية وأوضح المراد منها لعل الله أن ينفعني وإخواني المسلمين بها وأن يبصرنا بالحق ويعيننا عليه . فأقول وبالله التوفيق:
الهم في اللغة:مصدر هممت. قال صاحب اللسان : تقول أهمني هذا الأمر.والهمة: ما هم به من أمر ليفعله( ).
وفي المفردات: الهم: ما هممت به في نفسك( ).
وقال الفيروزبادي :( الهمة : فعلة من الهم، وهو مبدأ الإرادة ،ولكن حصولها بنهاية الإرادة. والهم مبدؤها ، والهمة نهايتها( ).
وقال الطبري رحمه الله: ( ومعنى الهم بالشيء في كلام العرب حديث المرء نفسه بمواقعته ما لم يواقع)( ) وكذا قال ابن الجوزي( ).
وقال الماوردي : ( وأصل الهم حديث النفس حتى يظهر فيصير فعلاً، ومنه قول جميل( )
هممت بهم من بثينة لو بدا شفيت غليلات الهوى من فؤاديا)( ).
وفي الكشاف :هم بالأمر إذا قصده وعزم عليه، ومنه قولك:لا أفعل ذلك ولا كيداً ولا هماً أي: ولا أكاد أن أفعله كيداً ولا أهم بفعله هماً( ).
وقال البغوي رحمه الله: الهم :هو المقاربة من الفعل من غير دخول فيه( ).
والهم بالشيء قصده والعزم عليه ومنه الهمام وهو الذي إذا هم بالشيء أمضاه ذكره البيضاوي( ).
وفي فتح القدير ( هم بالأمر: إذا قصده وعزم عليه)( ).
وأشار الآلوسي رحمه الله إلى أن الهم قد يستعمل بمعنى القصد والإرادة مطلقا أو بمعنى القصد الجازم والعقد الثابت( ).
فالهم يكون بمعنى القصد والإرادة ، ويكون فوق الإرادة ودون العزم إذا أريد به اجتماع النفس على الأمر والإزماع عليه، ويكون بمعنى العزم وهو القصد إلى إمضائه فهو أول العزيمة .هكذا قال القاسمي رحمه الله( ).
ومما سبق يتضح أن الهم قسمان وهذا ما نص عليه شيخ الإسلام رحمه الله حيث قال: (الهم: اسم جنس تحته نوعان ... هم خطرات، وهم إصرار)( ).
ومعرفة ذلك يساعد على فهم الآية إذ مدار الإشكال حول هذا اللفظ، فنبي الله هم وامرأة العزيز همت، فمتى اتضح المراد وعلم المعنى زال الإشكال وانطرد الوسواس.



المبحث الثاني
المراد بهم امرأة العزيز بيوسف عليه السلام

لم يختلف أهل العلم رحمهم الله في هم امرأة العزيز أنه الهم بفعل الفاحشة. وهذا أمر واضح بدلالة النصوص وانتفاء المعارض الصارف للمعنى الظاهر. وإليك البيان:
قال الله تعالي{ وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون}( ).
ففى هذه الآية الكريمة بيان أن سيدة البيت طلبت من أجيرها الطاهر يوسف أن يواقع الفاحشة معها وغلقت الأبواب لتسترها وتستره عن أعين البشر، وليكون الشيطان ثالثهما، فراودته المرأة وطلبت منه ما يكون من الرجال مع النساء ، وقالت له: هيت لك ، تعال وأقبل فقد تهيأت لك، فامتنع عما دعي إليه مستعيذا بالله راغباً في حسن المثوى والفوز بما عنده. وفي قوله {لا يفلح الظالمون} ما يدل على أن ما تدعوه إليه ظلم.
وقال تعالى:{ واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر وألفيا سيدها لدا الباب قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً إلا أن يسجن أو عذاب أليم}( ).
هذه الآية جاءت بعد الآية المقصود بيانها وهي قوله { ولقد همت به} وفيها بيان أن يوسف عليه السلام فر هارباً فذهب يسابق سيدته نحو الباب، هو هارب منها وهي طالبة له ، هو هارب لطلب الطهارة والنزاهة، وهاربة هي لطلب الدنس والفحش ، هرب منها فأمسكت به من الخلف حتى انقد قميصه، وحضر السيد قرب الباب وشاهد الموقف ، فتغيرت بمشاهدته الأمور فانقلب العفيف متهما،والمراود حاكما، والسيد مصغيا ومنفذا.
هكذا تبين هذه الآية فلقد كانت تلك السيدة راغبة وحريصة على بقائه معها لعلها تحصل على مرادها. فلما رأت زوجها عند الباب وخافت الفضيحة عكست القضية وادعت مراودة يوسف لها.
‌‌‌‌‌‌‌‌ويدل على ذلك قوله تعالى{ فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم}( )
ففي تمزق قميص نبي الله يوسف من الدبر ما يدل على أن امرأة العزيز عازمة على الإمساك به وعدم تمكينه من الهروب .لعلها تحصل منه على تحقيق ما همت به .
ويدل عليه أيضاً قوله تعالى عنها { قالت فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكوناً من الصاغرين}( ).
فلا بد أن تظهر الحقيقة وإن طال الزمن، ولا بد أن تتكشف الأمور وإن حرص البعض على إخفائها، هاهي المرأة السيدة قد حاولت إخفاء فعلتها واستغلت قوتها وسلطانها، فألصقت التهمة بغيرها وعرضته للسجن سنين عديدة. إمرأة العزيز التي عملت ذلك كله هاهي الآن تفصح عن الحقيقة بجلاء وتصدع بها أمام الملأ،بعد أن هيأت من الأدلة ما يبرر فعلتها.
هاهي المرأة توبخ اللائمات لها من النساء كيف يلمنها على ما حصل منها، كيف يلمنها على مراودتها لهذا الشاب الحسن الجميل ،كيف يلمنها ولا يلمن أنفسهن، لقد حاولت هي تقطيع عرضها ولم يتحقق لها ذلك ،وكل اللائمات لها قطعن أيديهن.
لقد أذهل جمال يوسف النساء جميعا، فقلن حاشا لله ما هذا بشرا، قلن ذلك حين اطلع عليهن ورأينه، قلن ذلك وهذا ما تريده تلك المرأة المراودة، لقد وجدت لها عذرا عند الناس فصدعت بقول الحق وبينت براءة يوسف ، اعترفت بعملها ومراودتها، وبينت نزاهة يوسف وطهارته وبعده عن مواطن الريب. شهدت على نفسها وكفى بها شهادة . ولقد راودته عن نفسه فاستعصم .
وقال سبحانه وتعالى : { قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته وإنه لمن الصادقين }( ).
في هذه الآية اعتراف جماعي ببراءة يوسف عليه السلام وبعده عن مواقعة السوء، اعتراف من النسوة أولاً ، ثم من صاحبة الشأن ثانيا، لقد اعترفت تلك السيدة بفعلتها هنا بكل وضوح وصراحة كما اعترفت فيما سبق بذلك ،لقد اعترفت بفعلتها وأثبتت صدق يوسف عليه السلام وبراءته.
ففي هذه الآيات دلالة واضحة على أن امرأة العزيز همت بفعل الفاحشة مع يوسف عليه السلام وحرصت على الظفر بمرادها وهيأت الأسباب، ولم يمنعها من ذلك إلا حفظ الله لنبيه يوسف عليه السلام وتمنعه وهروبه.
قال الطاهر بن عاشور : تأكيد همها بقد ولا القسم يفيد أنها عزمت عزماً محققا( ).
ومما يدل أيضاً على أن هم امرأة العزيز كان هم عزم وإرادة أنه لا يوجد ما يصرف الهم منها لغير ذلك ، فيوسف أعطي من الحسن ما يبهر العقول،وكان شاباً عزباً أسيراً في بلاد العدو، حيث لم يكن هناك أقارب أو أصدقاء فيستحي منهم إذا فعل الفاحشة، فإن كثيراً من الناس يمنعه من مواقعة القبائح حياؤه ممن يعرف،فإذا تغرب فعل ما يشتهيه، وكان أيضاً خالياً لا يخاف مخلوقا ،وأجيراً عند المرأة، وهي امرأة منعمة لها سلطة ومكانة وليس لها دين يمنعها من ذلك.وزوجها في يدها قليل الغيرة، فما الذي يمنعها من تحقيق رغبتها و ولوعها بيوسف( ).
وذكر أهل التفسير رحمهم الله أن همها هم قصد واعتقاد. ففي تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة: أنها همت منه بالمعصية هم نية واعتقاد( ).
وذكر ابن الجوزي: أنها دعته إلى نفسها فترقت همتها إلى العزيمة فصارت مصرة على الزنا( ). وذكر البغوي( ) والنسفي ( ) وأبو السعود( ) والشنقيطي( ) أن همها هم عزم .وعند القرطبي: لا خلاف أن همها كان المعصية( ).
مما سبق يتضح أن هم امرأة العزيز هو الهم بفعل الفاحشة.


المبحث الثالث
المراد بهم يوسف عليه السلام بامرأة العزيز

عرفنا فيما سبق هم امرأة العزيز وأنه هم قصد وإرادة لفعل الفاحشة، وليس المهم ذلك ، ولكن المهم معرفة الهم الذي صدر من نبي الله يوسف عليه السلام وهو النبي المعصوم فهل همه كهمها أم لا؟
هذا ما سأحاول توضيحه بإذن الله فقد نثر الكلام فيه نثراً فحرصت على جمعه وترتيبه وتلمس الأدلة من سياق العبارات وتحديد الأقوال قدر المستطاع فأقول وبالله التوفيق: يمكن حصر الأقوال في هم يوسف عليه السلام بما يلي:
القول الأول: أن الهم الذي حصل من يوسف عليه السلام هو الهم بضربها أو أن ينالها بمكروه.
وأستدل من يقول بذلك بقوله تعالى{ كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء} ووجه الدلالة عندهم أن الله قد صرف عن نبيه السوء والفحشاء، قالوا : والفحشاء غير السوء بدلالة العطف ولنفي التكرار ، وبما أن الفاحشة هي الفعلة القبيحة كما هو ظاهر ومعلوم فالسوء هو الهم بفعل الأذى بها لمراودتها إياه ليصرفها ويبعدها، قالوا: والله قد صرفه عنه لأنه لو ضربها لجر التهمة إلى نفسه ولصدق الناس كل إدعاء قد تقوله.
وفي هذا قال ابن الجوزي: ( هم أن يضربها ويدفعها عن نفسه فكان البرهان الذي رآه من ربه أن الله أوقع في نفسه إن ضربها كان ضربه إياها حجة عليه لأنها تقول راودني فمنعته فضربني)( ) .وكذا قال القرطبي( )وابن كثير( ) أيضا.
وقد رد العلماء رحمهم الله هذا القول ولم يرتضوه ، فالطبري رحمه الله عند تفسيره للآية قال: ( وأما آخرون ممن خالف أقوال السلف، وتأولوا القرآن بآرائهم، فإنهم قالوا في ذلك أقوالا مختلفة، فقال بعضهم: معناه: ولقد همت المرأة بيوسف وهم بها يوسف أن يضربها ،أو ينالها بمكروه لهمها به مما أرادته من المكروه لولا أن يوسف رأى برهان ربه وكفه ذلك عما هم به من أذاها لا أنها ارتدعت من قبل نفسها)( ).
وفي التسهيل قال ابن جزي: إن من جعل همها به من حيث مرادها وهمه بها ليدفعها ، بعيد لاختلاف سياق الكلام( ).
وقال الشنقيطي: تأويل الهم بأنه هم بضربها، أو هم بدفعها عن نفسه كل ذلك غير ظاهر ، بل بعيد من الظاهر ولا دليل عليه( ).
ويمكن أن يقال لهم : إن الفحشاء معطوفة على السوء فاللفظان مشتركان في الحكم والهم الذي هم به يتعلق بهما جميعاً فإذا حملتم الهم بالسوء على أنه الهم بالأذى فما أنتم قائلون بالهم بالفحشاء ؟ وعليه فلا جواب وبهذا يتبين ضعف هذا القول.
القول الثاني:أنه هم بالدفاع عن نفسه.
والفرق بين هذا القول والقول الأول أن من قال هذا جعل الهم الصادر من امرأة العزيز هو الهم بالبطش بيوسف عليه السلام لامتناعه تنفيذ ما طلب منه ، ومن قال ذلك جعل هم يوسف بالضرب غيرة وإنكاراً لا دفاعاً ، فعلى القول الأول هو المبتدىء وعلى هذا القول هي المبتدئة.
وقد ذكر رشيد رضا: أن المرأة همت بالبطش به لعصيانه أمرها، لأنها في نظرها سيدته وهو عبدها( ).
وقال الآلوسي: (همت به عليه السلام لتقهره على ما أرادته منه وهم بها ليقهرها في الدفع عما أرادته منه ، فالاشتراك في طلب القهر منه ومنها والحكم مختلف)( ).
وهذا القول مردود بما رد به القول الأول ، مضافاً إلى ذلك أن هذا القول يجعل الهم الصادر من امرأة العزيز هو الهم بالضرب وهذا خلاف الصحيح كما مر معنا فيما مضى .ولذا استبعده ابن جزي كما في كتاب التسهيل( ).
القول الثالث: أن همه عليه السلام هم بالعفة( ).
وهذا القول ضعيف لأمرين:
أولاً : أنه يوهم أن يوسف عليه السلام قبل الهم بالعفة لم يكن عفيفاً وهذا باطل. وثانياً : لم أجد من ذكر هذا القول إلا الماوردي ولم يذكر دليلاً عليه لا عقلاً ولا نقلاً ولم يذكره أحد من المصنفين في التفسير غيره على حسب ما رأيت وكفى بإهمال العلماء له دليلاً على بطلانه.
القول الرابع : أنه هم بالمرأة أن يتزوجها( ).
وهذا القول نسبه ابن الجوزي لابن عباس رضي الله عنهما( ).
وهذا القول ضعيف أيضاً ، وقد بين البغوي رحمه الله ضعفه فقال: ( وقيل:همت بيوسف أن يفترشها، وهم بها يوسف أي: تمنى أن تكون له زوجة، وهذا التأويل وأمثاله غير مرضية لمخالفتها أقاويل القدماء من العلماء الذين أخذ عنهم الدين والعلم)( ).
ويضاف لما قاله البغوي أن يقال :كيف يهم يوسف بالزواج من امرأة معصومة بزوج يعلم أنها لا تحل له.
ويمكن أن يقال أيضا: إن الهم بالزواج لا يعتبر إثما بل التصريح به لا شيء فيه، والله قد بين أنه صرف عنه السوء والفحشاء والهم بالزواج لا يدخل في السوء ولا في الفحشاء.
وبهذا يتضح ضعف هذا القول والله أعلم.
القول الخامس : أنه هم بالفرار منها.
وهذا قول ضعيف كما ذكر ذلك ابن الجوزي حيث قال:( وهو قول مرذول أفتراه أراد الفرار منها فلما رأى البرهان أقام عندها)( ).
ثم هو عليه السلام لم يهم بالفرار بل فر حقيقة ، وكذلك الهم بالفرار من المعاصي مما يمدح عليه، والآية تشير إلى أن يوسف عليه السلام هم بأمر لا يمدح عليه وأن الله أراه البرهان الذي بسببه عصم عن ذلك الهم وأن الذي عصم عنه سوء وفحشاء ، وليس الفرار من المعاصي حقيقة داخلاً في السوء والفحشاء فكيف يدخل الهم بالفرار في ذلك.
القول السادس : أنه عليه السلام قارب الهم ولكن لم يصدر منه هم.
ومثلوا لذلك بقول العرب: قتلته لو لم أخف الله أي قاربت أن أقتله( ).
وهذا القول مردود فالآية صرحت بصدور الهم من يوسف وصرف اللفظ عن الظاهر يحتاج لدليل ولا دليل. ولذا لما أورد الشنقيطي هذا القول ذكر أنه غير ظاهر بل هو بعيد من الظاهر ولا دليل عليه( ).
القول السابع : همه عليه السلام كهمها وهو الهم بالمعصية( ).
ومن أدلة هذا القول ما يلي:
1 - قوله تعالى{ ولقد همت به وهم بها } قالوا فالله قد ذكر أن الهم صدر من امرأة العزيز ومن نبيه يوسف، وقد قامت القرائن والأدلة على أن هم امرأة العزيز كان الفاحشة وهم يوسف مشاكل له فهو مثله ومن جنسه.
قال ابن الجوزي: (لا يجوز في اللغة هممت بفلان وهم بي وأنت تريد اختلاف الهمين)( ).
2 - أن هذا القول قال به طائفة من السلف.
وقد ساق ابن جرير رحمه الله( ) روايات كثيرة عن السلف في بيان هم يوسف عليه السلام. وهي روايات غريبة ،ولولا أن المجال مجال بحث نحرص على جمع أطراف الموضوع لكي تتجلى الحقيقة، ولنا من العلماء الكبار والفضلاء الأخيار سلف حيث ذكروها. لولا ذلك لأعرضت عنها جملة وتفصيلا، ولكن سأذكر بعضاً منها على استحياء وأعرض عن روايات كثيرة تؤدي نفس المعنى إلا أن فيها من العبارات والتفاصيل ما يؤذي الأذن ويكدر الفؤاد خاصة وأنها تتعلق بنبي من أنبياء الله. فحسبنا الله ونعم الوكيل .ومن تلك الروايات ما يلي:
أن ابن عباس رضي الله عنهما سئل عن هم يوسف ما بلغ؟ قال :استلقت له وجلس بين رجليها وحل ثيابه أو ثيابها( ) .
وعن مجاهد( ). قال: حل السراويل حتى التبان واستلقت له( ).
وقال ابن الجوزي: كان همه من جنس همها فلولا أن الله تعالى عصمه لفعل ،وإلى هذا المعنى ذهب الحسن( ) وسعيد بن جبير( ) والضحاك( ). وهو قول عامة المفسرين المتقدمين ، واختاره من المتاخرين جماعة منهم ابن جرير( ) واحتج من نصر هذا القول بأنه مذهب الأكثرين من السلف والعلماء الأكابر( ).
وذكر الحافظ ابن كثير أن أقوال الناس وعباراتهم في هذا المقام مختلفة وأحال على ما ذكره الطبري من روايات عن السلف( ).
وقال الزجاج : (والذي عليه المفسرون أنه هم بها وأنه جلس منها مجلس الرجل من المرأة إلا أن الله تفضل بأن أراه البرهان)( ). وقريبا من ذلك قال النحاس في اعراب القرآن( ).
وفي فتح القدير قال الشوكاني: (والمعنى أنه هم بمخالطتها كما همت بمخالطته ومال كل واحد منهما إلى الآخر بمقتضى الطبيعة البشرية والجبلة الخلقية)( ).
وممن ذكر هذا القول الواحدي فقد قال :(طمعت فيه وطمع فيها)( ).
وقال البغوي: ( قال أبو عبيد القاسم بن سلام( ): قد أنكر قوم هذا القول وقالوا: هذا لا يليق بحال الأنبياء، والقول ما قال متقدموا هذه الأمة، وهم كانوا أعلم بالله أن يقولوا في الأنبياء من غير علم)( ).
وقال القرطبي: ( وقال أبو عبيد القاسم بن سلام وابن عباس ومن دونه لا يختلفون في أنه هم بها وهم أعلم بالله وبتأويل كتابه وأشد تعظيما للأنبياء من أن يتكلموا فيهم بغير علم)( ).
3 -قوله تعالى:{ وما أبري نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم}( ).
في هذه الآية دليل أن النفس أمارة بالسوء وأن نفس يوسف غير برئة من الأمر بالسوء.وما دام الأمر كذلك فغير بعيد أن يكون ما صدر منه من هم هو من السوء فيحمل على الهم بالفاحشة إذا الحديث عما جرى بينه وبينها يدور حول هذا.
وقد وردعن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال:لما قال{ ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب}( ). قال له جبريل ولا حين هممت بها يا يوسف؟ فقال عند ذلك: {وما أبريء نفسي}( ).
4 - في أثبات ذلك في حق يوسف عليه السلام مثلاً للمذنبين حتى لا يقنطوا من التوبة وعفو الله ، وليجدوا ويجتهدوا في العبادة كلما تذكروا ذلك.
روى عن الحسن رحمه الله أنه قال : إن الله عز وجل لم يذكر معاصي الأنبياء ليعيرهم بها ولكنه ذكر لكيلا تيئسوا من التوبة( ).
وذكر ابن جرير: أن من ابتلي من الأنبياء بخطيئة فإنما ابتلاه الله بها ليكون على وجل من الله إذا ذكرها ، فيجد في طاعته إشفاقا منها ولا يتكل على سعة عفو الله ورحمته( ).
وفي المحرر الوجيز قال ابن عطية : ( الحكمة في ذلك أن يكون مثلا للمذنبين ليروا أن توبتهم ترجع إلى عفو الله تعالى كما رجعت ممن هو خير منهم ولم يوبقه القرب من الذنب)( ).
وذكر القرطبي أن لزلة الأنبياء حكما منها زيادة الوجل، وشدة الحياء بالخجل، والتخلي عن عجب العمل، والتلذذ بنعمة العفو بعد الأمل، وكونهم أئمة رجاء أهل الزلل( ).
هذه هي الأدلة التي استدل بها أصحاب هذا القول وكل دليل منها لا يسلم من النقد
فاستدلالهم بأن الهم ورد في الآية وهو مقابل بهم امرأة العزيز فيكون من جنسه ونوعه هذا لا يسلم لهم لأننا قد عرفنا أن الهم قسمان هم قصد وعزم ، وهم خطرات ، واختيار أحد النوعين وجعله مراداً في الآية يحتاج لدليل، وقد قامت الأدلة على أن هم المرأة هو القصد والعزم ، وجعل هم يوسف من هذا النوع قادح في عصمة الأنبياء ولذا وقع الخلاف في الآية ولولا هذا المعارض القوي لما أطال الناس الكلام عليها ولسووا بين الهمين وانتهى الأمر هذا جانب. ومن جانب آخر في الرد على قولهم هذا أن يقال بناء على قولكم يمكن أن يجعل هم المرأة تبعاً لهم يوسف ،وينزل همه على القسم الثاني من الهم وهو هم الخطرات حتى لا يطعن بالأنبياء فتكون بذلك لم تقع فيما تلام عليه ، وأنتم وغيركم لا تقولون إلا أن هم المرأة هو العزم والأدلة قد قامت على ذلك . وبهذا ينخرم هذا الدليل.
وأما ما ورد عن السلف رحمهم الله فإن لكلامهم مهابة في النفس والتعامل معه يحتاج إلى روية، فهم أزكى قلوباً ،وأعمق فهما ،وأشد غيرة على مقام الأنبياء عليهم السلام، ولذا سأكتفي بإيراد ما قيل حول تلك الروايات المنقولة عنهم عليهم رحمة الله .
قال ابن الجوزي: (ولا يصح ما يروى عن المفسرين أنه حل السراويل وقعد منها مقعد الرجل ،فإنه لو كان هذا دل على العزم ،والأنبياء معصومون من العزم على الزنا)( ).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : (ما ينقل من أنه حل سراويله ،وجلس مجلس الرجل من المرأة ،وأنه رأى صورة يعقوب عاضا على يده ،وأمثال ذلك فكله مما لم يخبر الله به ولا رسوله، وما لم يكن كذلك فإنما هو مأخوذ عن اليهود الذين هم من أعظم الناس كذبا على الأنبياء ،وقدحا فيهم ،وكل من نقله من المسلمين فعنهم نقله، لم ينقل من ذلك أحد عن نبينا صلى الله عليه وسلم حرفا واحدا)( ).
وقال أيضا: ( وقد اتفق الناس على أنه لم تقع منه الفاحشة،ولكن بعض الناس يذكر أنه وقع منه بعض مقدماتها ،مثل ما يذكرون أنه حل السراويل، وقعد منها مقعد الخاتن ونحو هذا، وما ينقلونه في ذلك ليس هو عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا مستند لهم فيه إلا النقل عن بعض أهل الكتاب وقد عرف كلام اليهود في الأنبياء وغضهم منهم، كما قالوا في سليمان [ عليه السلام] ما قالوا، وفي داود [ عليه السلام] ما قالوا، فلو لم يكن معنا ما يرد نقلهم لم نصدقهم فيما لم نعلم صدقهم فيه فكيف نصدقهم فيما قد دل القرآن على خلافه)( ).
وقال الألوسي: وأما أقوال السلف فالذي نعتقده أنه لم يصح منها شيء عنهم لأنها أقوال متكاذبة يناقض بعضها بعضا مع كونها قادحة في بعض فساق المسلمين فكيف بالمقطوع لهم بالعصمة( ).
وقال ابن جزي: (من جعل هم المرأة وهم يوسف من حيث الفعل الذي أرادته ذكروا في ذلك روايات من جلوسه بين رجليها وحله التكة وغير ذلك مما لا ينبغي أن يقال به لضعف نقله ، ولنزاهة الأنبياء عن مثله)( ).
وأورد الشنقيطي كثيرا من الروايات المنقولة عن السلف ثم بين أنها منقسمة إلى قسمين .قسم لم يثبت نقله عمن نقل عنه بسند صحيح - وهذا لا إشكال في سقوطه - وقسم ثبت عن بعض من ذكر عنه، ومن ثبت عنه منهم شيء من ذلك فالظاهر الغالب على الظن المزاحم لليقين أنه إنما تلقاه عن الإسرائيليات لأنه لا مجال للرأي فيه ،ولم يرفع منه قليل ولا كثير إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وبهذا تعلم أنه لا ينبغي التجرؤ على القول في نبي الله يوسف عليه السلام بأنه جلس بين رجلي كافرة أجنبية يريد أن يزني بها، اعتمادا على مثل هذه الروايات( ).
وأما استدلالهم بقوله { وما أبرى ءنفسي } فهذا مردود أيضاً فإن سياق الآيات يدل على أن ذلك من كلام امرأة العزيز وليس من قول يوسف.
وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أن قوله تعالى {وما أبرىء نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي} من كلام امرأة العزيز كما يدل القرآن على ذلك دلالة بينة لا يرتاب فيها من تدبر القرآن حيث قال تعالى {وقال الملك ائتوني به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم . قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين. ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين. وما أبريء نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم }( ) فهذا كله كلام امرأة العزيز ويوسف عليه السلام إذ ذاك في السجن لم يحضر لمقابلة الملك ، ولا سمع كلامه ولا رآه. ولكن لما ظهرت براءته في غيبته كما قالت امرأة العزيز:{ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب} أي لم أخنه في حال مغيبه عني وإن كنت في حال شهوده راودته، فحينئذ قال الملك {ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين}. وقد قال كثير من المفسرين: إن هذا من كلام يوسف ،ومنهم من لم يذكر إلا هذا القول ، وهو قول في غاية الفساد ولا دليل عليه بل الأدلة تدل على نقيضه( ).
وقال رحمه الله : (ما ذكر من قوله{ إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي} إنما يناسب حال امرأة العزيز لا يناسب حال يوسف ، فإضافة الذنوب إلى يوسف في هذه القضية فرية على الكتاب والرسول، وفيه تحريف للكلم عن مواضعه، وفيه الاغتياب لنبي كريم، وقول الباطل فيه بلا دليل، ونسبته إلى ما نزهه الله منه، وغير مستبعد أن يكون أصل هذا من اليهود أهل البهت، الذين كانوا يرمون موسى بما برأه الله منه ، فكيف بغيره من الأنبياء؟ وقد تلقى نقلهم من أحسن به الظن وجعل تفسير القرآن تابعا لهذا الاعتقاد)( ).
وذكر رحمه الله أيضاً : أن الذي ابتلى به يوسف عليه السلام كان من أعظم الأمور، وإن تقواه وصبره عن المعصية حتى - لا يفعلها مع ظلم الظالمين له، حتى لا يجيبهم - كان من أعظم الحسنات وأكبر الطاعات وإن نفس يوسف عليه الصلاة والسلام كانت من أزكى الأنفس ، فكيف أن يقول {وما أبرىء نفسي إن النفس لأمارة بالسوء} والله سبحانه وتعالى يعلم أن نفسه بريئة ليست أمارة بالسوء ، بل نفس زكية من أعظم النفوس زكاء ، والهم الذي وقع كان زيادة في زكاء نفسه وتقواها ، وبحصوله مع تركه لتثبت له به حسنة من أعظم الحسنات التى تزكي نفسه( ).
مما سبق يتبين لنا ضعف هذا القول.
القول الثامن : لم يقع هم من يوسف عليه السلام.
واستدل قائلوا هذا القول بما يلي:
1 - أن هم يوسف عليه السلام الوارد في الآية جاء من باب المشاكلة فقط.
قال الآلوسي: إن التعبير عنه بالهم لمجرد وقوعه في صحبة همها في الذكر بطريق المشاكلة لا لشبهه به( ).
2 - أن في الآية تقديماُ وتأخيراً فيكون المعنى:{ولقد همت به} ثم ينتهي الإخبار عنها ويبدأ الخبر عن يوسف بقوله:{وهم بها لولا أن رأى برهان ربه} فلولا رؤيته برهان ربه لهم بها ولكنه رأى البرهان فلم يهم بها. وهو كقول الله تعالى:{ ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا}( ).
قال الزجاج : (والمعنى لولا أن رأى برهان ربه لأمضى ما هم به)( ).
وجاء في التبيان : أن جواب لولا محذوف تقديره لهم بها ، والوقف على {ولقد همت به} والمعنى أنه لم يهم بها، وقيل التقدير لولا أن رأى البرهان لواقع المعصية( ).
قال صاحب اللسان:( سئل ثعلب( ) عن قوله عز وجل:{ ولقد همت به و هم بها لولا أن رأى برهان ربه}قال: همت زليخا بالمعصية مصرة على ذلك وهم يوسف عليه السلام بالمعصية ولم يأتها ولم يصر عليها فبين الهمتين فرق... قال أبو عبيدة: هذا على التقديم والتأخير كأنه أراد ولقد همت به ولولا أن رأى برهان ربه لهم بها)( ).
وقد أشار الطبري والبغوي( )وابن كثير( ) إلى ضعف هذا القول،وذلك أن العرب لا تقدم جواب لولا قبلها لا تقول لقد قمت لولا زيد وهي تريد لولا زيد لقد قمت.
وذكر النحاس أن قوماً قالوا في الآية على التقديم والتأخير ثم قال:وهذا القول عندي محال ولا يجوز في اللغة ولا في كلام من كلام العرب.لا يقال: قام فلان إن شاء الله ولا قام فلان لولا فلان ( ).
وأورد ابن الجوزي هذا القول ثم نقل عن أهل العربية أنهم قالوا: تقديم جواب لولا عليها شاذ مستكره لا يوجد في فصيح كلام العرب ( ).
وقال القرطبي: (وأما يوسف[ عليه السلام ] فهم بها لولا أن رأى برهان ربه ولكن لما رأى البرهان ما هم وهذا لوجوب العصمة للأنبياء قال الله تعالى{كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين} فإذا في الكلام تقديم وتأخير أي لولا أن رأى برهان ربه هم بها)( ).
وأشار الآلوسي إلى أن ما روي لا يساعد عليه كلام العرب لأنه يقتضي كون الجواب محذوفا لغير دليل لأنهم لم يقدروا بناءا على ذلك الهم بها وكلام العرب لا يدل إلا على أن يكون المحذوف من معنى ما قبل الشرط لأنه الدليل عليه( ).
وقال النسفي: (جواب لولا لا يتقدم عليها لأنه في حكم الشرط وله صدر الكلام)( ).
وذهب أبو حيان إلى أن الهم لم يقع من يوسف عليه السلام ولكنه لم يجعل جواب لولا متقدما بل جعله محذوفاً فقال : والذي أختاره أن يوسف عليه السلام لم يقع منه هم بها البتة، بل هو منفي لوجود رؤية البرهان، كما تقول: لقد قارفت لولا أن عصمك الله، ولا نقول إن جواب لولا متقدم عليها وإن كان لا يوجد دليل على امتناع ذلك بل صريح أدوات الشرط العاملة مختلف في جواز تقديم أجوبتها عليها بل نقول إن جواب لولا محذوف لدلالة ما قبله عليه( ).
واختار الشنقيطي رحمه الله هذا الوجه الذي اختاره أبو حيان وذكر أنه أجرى الأقوال على قواعد اللغة العربية لأن الغالب في القرآن وفي كلام العرب أن الجواب المحذوف يذكر قبله ما يدل عليه ، وعلى هذا القول فمعنى الآية : وهم بها لولا أن رأى برهان ربه ،أي لولا أن رآه هم بها .فما قبل لولا هو دليل الجواب المحذوف( ).
مما سبق يتضح أن هذا القول قد تباينت فيه أقوال أهل اللغة فبينما يجيزه البعض يرفضه آخرون .
القول التاسع : وقع هم من يوسف عليه السلام ولكنه هم خطرات لا عزم.
ومن أدلة هذا القول:
1 – قوله تعالى { قال معاذ الله إنه ربي}.
2 - قوله تعالى{كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء}.
قال ابن الجوزي: واحتج على أن همته لم تكن من جهة العزيمة وإنما كانت من جهة دواعي الشهوة بقوله{ قال معاذ الله إنه ربي} وقوله {كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء} وكل ذلك إخبار ببراءة ساحته من العزيمة على المعصية( ).
3 - أن هذا فيه إثبات للهم دون القدح بعصمة نبي الله يوسف عليه الصلاة والسلام ، والهم كما مر قسمان: هم العزم وهم الخطرات.وهو هنا هم خطرات وهذا لا يؤاخذ عليه العبد.
قال ابن الجوزي: إن يوسف عليه الصلاة والسلام عارضه ما يعارض البشر من خطرات القلب وحديث النفس من غير عزم ، فلم يلزمه هذا الهم ذنبا فإن الرجل الصالح قد يخطر بقلبه وهو صائم شرب الماء البارد فإذا لم يشرب لم يؤاخذ بما هجس في نفسه، وقد سئل سفيان الثوري( ) أيؤاخذ العبد بالهمة فقال إذا كانت عزما( ).
قال الشنقيطي: المراد بهم يوسف بها خاطر قلبي صرف عنه وازع التقوى، وقال بعضهم: هو الميل الطبيعي والشهوة الغريزية المزمومة بالتقوى، وهذا لا معصية فيه لأنه أمر جبلي لا يتعلق به التكليف كما في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقسم بين نسائه فيعدل ثم يقول: ((اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما لا أملك))( ) يعني ميل القلب الطبيعي...وهم بني حارثة وبني سلمة بالفرار يوم أحد( ) كهم يوسف هذا ، بدليل قوله { إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما}( ) لأن قوله { والله وليهما} يدل على أن ذلك الهم ليس معصية لأن اتباع المعصية بولاية الله لذلك العاصي إغراء على المعصية( ).
4 - هذا القول يظهر رفعة نبي الله يوسف عليه السلام ، وما سبق من الأقوال تسعى لنفي قدح قد يرمى به ، وفرق كبير بين الأمرين.فنبي الله عليه السلام هم ولكن لم تتجاوز همته إلى المحظور فهو مثاب على ذلك ومأجور.يشهد لذلك الحديث الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه عز وجل قال(( إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة فإن هو هم بها فعملها كتبها الله له عنده عشر حسنات إلى سبع مائة ضعف إلى أضعاف كثيرة ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة فإن هو هم بها فعملها كتبها الله له سيئة واحدة))( ).
قال الرازي: ومن نظر في قوله سبحانه {إنه من عبادنا المخلصين} رآه أفصح شاهد على براءته عليه السلام ومن ضم إليه قول إبليس {قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين . إلا عبادك منهم المخلصين}( ) وجد إبليس مقرا بأنه لم يغوه ولم يضله عن سبيل الهدى كيف وهو عليه السلام من عباد الله تعالى المخلصين بشهادة الله تعالى وقد استثناهم من عموم لأغوينهم أجمعين.
وذكر ابن تيمية ( ) أن يوسف صلى الله عليه وسلم هم هما تركه لله ولذلك صرف الله عنه السوء والفحشاء لإخلاصه فلم يصدر منه إلا حسنة يثاب عليها، وقال تعالى:{ إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون}( ).
وقال رحمه الله : الهم الذي وقع منه عليه السلام فيه زيادة في زكاء نفسه وتقواها، وبحصوله مع تركه لله لتثبت له به حسنة من أعظم الحسنات التي تزكي نفسه( ).
5 - هذا القول سالم من المعارضات بعكس غيره مما سبق بيانه من الأقوال فكل قول منها لم يسلم من اعتراض كما مر بيان ذلك.
6 - أن الله لم يعنف نبيه يوسف عليه السلام ، ولم يذكر عنه توبة وإنابة مما يدل على أن همه هم خطرات.
قال شيخ الإسلام : إن الله لم يذكر في كتابه عن نبي من الأنبياء ذنبا إلا ذكر توبته منه كما ذكر في قصة آدم وموسى وداود وغيرهم من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، ويوسف عليه الصلاة والسلام لم يذكر الله تعالى عنه في القرآن أنه فعل مع المرأة ما يتوب منه، أو يستغفر منه أصلا . وقد اتفق الناس على أنه لم تقع منه الفاحشة ، والقرآن قد أخبر عن يوسف عليه السلام من الاستعصام والتقوى والصبر في هذه القضية ما لم يذكر عن أحد نظيره ، فلو كان يوسف عليه السلام قد أذنب لكان إما مصرا وإما تائبا والإصرار من الأنبياء منتف فتعين أن يكون تائباً. والله لم يذكر عنه توبة في هذا ولا استغفارا كما ذكر عن غيره من الأنبياء فدل ذلك على أن ما فعله يوسف عليه السلام كان من الحسنات المبرورة والمساعي المشكورة كما أخبر الله عنه بقوله تعالى{ إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين}( ).
وقال عليه رحمة الله: يوسف عليه السلام لم يفعل ذنباً ذكره الله عنه . وهو سبحانه وتعالى لا يذكر عن أحد من أنبيائه ذنباً إلا ذكر استغفاره من ذلك الذنب ولم يذكر عن يوسف عليه السلام استغفاراً من هذه الكلمة ، كما لم يذكر عنه استغفاراً من مقدمات الفاحشة ، فعلم أنه لم يفعل ذنباً في هذا ولا هذا ، بل هم هماً تركه لله فأثيب عليه حسنة( ).
وقال الرازي: إن الأكابر كالأنبياء متى صدرت عنهم زلة أو هفوة استعظموا ذلك واتبعوه بإظهار الندامة والتوبة والتخضع والتنصل، فلو كان يوسف عليه السلام أقدم على هذه الفاحشة المنكرة لكان من المحال أن لا يتبعها بذلك، ولو كان قد أتبعها لحكى ، وحيث لم يكن علمنا أنه ما صدر عنه في هذه الواقعة ذنب أصلا( ).
7 - أن من نفى الهم عن نبي الله يوسف ليه الصلاة والسلام خالف النص الصريح في الآية، وما وجه به الآية لم يسلم له كما مر سالفاً.ومن أثبته على غير هذا المعنى وقع في المحذور الشرعي، وقدح في عصمة النبي .وعلى هذا القول يستقيم ظاهر الآية وينتفي المحذور وهذا هو المطلوب . 8 - في هذا القول تفريق بين الهمين. والإشكال الوارد على الآية نتيجته عدم التفريق بينهما فلما فرق بين معنييهما زال الإشكال.
قال ابن الجوزي. (فإن قيل فقد سوى القرآن بين الهمتين فلم فرقتم؟ فالجواب أن الاستواء وقع في بداية الهمة ثم ترقت همتها إلى العزيمة بدليل مراودتها واستلقائها بين يديه، ولم تتعد همته مقامها بل نزلت عن رتبتها وانحل معقودها بدليل هربه منها ، وقوله{معاذ الله} وعلى هذا تكون همته مجرد خاطر لم يخرج إلى العزم)( ).
9 - أن هذا القول اختيار أكثر أهل التفسير والمحققين من العلماء.
قال البغوي:(قال بعض أهل الحقائق : الهم همان. هم ثابت إذا كان معه عزم وعقد ورضى ، مثل هم امرأة العزيز، والعبد مأخوذ به. وهم عارض وهو: الخطرة وحديث النفس من غير اختيار ولا عزم ، مثل هم يوسف عليه السلام. والعبد غير مأخوذ به ما لم يتكلم أو يعمل)( ).
وكذا قال أبو السعود( )،وابن عطية( )، والقرطبي( )و ابن جزي ( )، وابن كثير( ) والنسفي( ) ، والآلوسي( ) ،والبيضاوي( ) والشوكاني( ) رحمهم الله.
وقال ابن العربي: إنما بين لله به حال يوسف من حين بلوغه بأنه آتاه العلم، وأتاه العمل بما علم، وخبر الله صادق،ووصفه صحيح ، وكلامه حق، فقد عمل يوسف عليه السلام بما علمه الله من تحريم الزنا وتحريم خيانة السيد أو الجار أو الأجنبي في أهله، فما تعرض لامرأة العزيز ولا أناب إلى المراودة بل أدبر عنها وفر منها حكمة خص بها وعملاً بمقتضى ما علمه الله سبحانه ، وهذا يطمس وجوه الجهلة من الناس والغفلة من العلماء في نسبتهم إليه ما لا يليق وأقل ما اقتحموا من ذلك أنه هتك السراويل، وهم بالفتك فيما رأوه من تأويل وحاشا لله ما علمت عليه من سوء بل أبرئه مما برأه الله منه. وإنما الذي كان منه الهم وهو فعل القلب، فما لهؤلاء المفسرين لا يكادون يفقهون حديثا، ويقولون: فعل فعل والله إنما قال هم بها( ).
بهذا يتضح لنا أن هم يوسف عليه السلام هم خطرات ، وهذا لا يقدح في عصمته عليه السلام - كما مر معنا بيانه - بل يزيده رفعة وشرفاً صلى الله عليه وسلم وهذا القول أرجح الأقوال في نظري والله أعلم.
وهو الموفق سبحانه للصواب فإن أصبت فيما رجحته فبتوفيقه وتسديده ،وإن كان الأمر على خلاف ما ذكرت فهو الكريم العفو الغفور نسأله الصفح والتجاوز وهو حسبنا ونعم الوكيل.


المبحث الرابع
بيان المراد بالبرهان

تناولنا فيما مضى من مباحث هذا الموضوع بيان الهم وما المراد به في الآية الكريمة ، وفي هذا المبحث سنختم الحديث عن الآية بما ختمت به وهو " البرهان" فإن الله ذكر أنه أطلع نبيه يوسف عليه السلام على برهان من عنده كان سببا في عصمته من الوقوع في السوء والفحشاء { لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين} فما هو ذلك البرهان ؟
البرهان في لغة العرب هو الحجة والبيان( ).
والبرهان الذي رآه يوسف عليه السلام فترك من أجله مواقعة الخطيئة تناوله أهل التفسير بالبيان( ) معولين في ذلك على روايات وأخبار إسرائيلية تكلم عليها العلماء كما مر معنا سابقاً - عند قول من قال إن هم يوسف كهم المرأة - وتتلخص الأقوال فيما يلي:
1 – أنه سمع نداء ينهاه عن مواقعة الخطيئة.
وقد ورد ذلك منسوباً إلى طائفة من السلف عليهم رحمة الله. والروايات في ذلك كثيرة منها:
ما نقل عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال :نودي :يا يوسف أتزني فتكون كالطير وقع ريشه فذهب يطير فلا ريش له( ) . وعن قتادة قال:نودي يوسف فقيل أنت مكتوب في الأنبياء وتعمل عمل السفهاء ( ).
2 – أنه رأى صورة يعقوب عليهما السلام يتوعده.
قال ابن عباس: رأى صورة أو تمثال وجه يعقوب عاضاً على أصبعه فخرجت شهوته من أنامله( ).
وعن سعيد بن جبير قال: رأى صورة فيها وجه يعقوب عاضاً على أصابعه فدفع في صدره فخرجت شهوته من أنامله فكل ولد يعقوب ولد له اثنا عشر رجلاً إلا يوسف فإنه نقص بتلك الشهوة ولم يولد له غير أحد عشر( ).
3 – انه رأى عقوبة الزنا مكتوبة.
قال محمد بن كعب القرظي( ): البرهان الذي رأى يوسف ثلاث آيات من كتاب الله {إن عليكم لحافظين}( ) وقوله {وما تكون في شأن}( ) وقوله { أ فمن هو قائم على كل نفس بما كسبت}( ) وقيل وقوله {ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا}( )
4 - أنه رأى خيال سيده ( ).
والصواب إن شاء الله أن يقال : إن الله تعالى ذكر في كتابه أن نبي الله يوسف عليه السلام قد رآى برهاناً من ربه ، وكان ذلك البرهان سببا في صرف السوء والفحشاء عنه ، ولم يذكر في الآية الكريمة ما هو ذلك البرهان، ولم ينقل فيه خبر عن الصادق عليه الصلاة والسلام ، وكلما قيل فيه مما تناوله العلماء بالنقل عن السلف رحمهم الله هو من قبيل الروايات الإسرائيلية وهي مصدر لا بد في التعامل معها من استحضار الأقسام الثلاثة السابق ذكرها في تمهيد هذا البحث.
والآية الكريمة ذكرت البرهان فجائز أن يكون واحداً مما قيل ،وجائز أن يكون غيرها ، ولا يقطع بواحد منها ولا من غيرها ،لأن ما نقل عن السلف من روايات في بيان البرهان هو من القسم الذي لا نعلم صدقه ولا نعلم كذبه, والذي يجب القطع به أن يوسف عليه السلام رأى برهانا من ربه حال بينه وبين ما هم به كما نصت عليه الآية وكفى. والله أعلم

الخاتمة

في ختام هذا البحث الذي تناولت فيه بيان معنى قوله تعالى{ ولقد همت به وهم بها ...} الآية أحب أن ألخص ما توصلت إليه بما يلي:
1- أن هذه الآية الكريمة قد كثر كلام الناس فيها وتعددت أقوالهم لأن ظاهرها قد يفهم منه ما ينافي عصمة نبي الله يوسف عليه السلام .
2 – الإشكال الوارد على الآية ناتج عن إضافة الهم إلي يوسف عليه السلام.
3 – أن الهم ينقسم إلى قسمين : هم قصد وذلك هو هم امرأة العزيز ، وهم خطرات وذلك هم يوسف عليه السلام .
4 – للروايات والأخبار الإسرائيلية دور بارز في تشويه كثير من الحقائق فلا بد من معرفة أنواعها وتمييز المقبول من المردود منها.
هذا وقبل أن أضع القلم فكم بودي لو قام بعض الباحثين بتتبع بعض الآيات التي يرد عليها إشكال لدى كثير من الناس فيبينوا معناها ويزيلوا ذلك الإشكال فكم في ذلك من الخير . أسأل الله أن يوفقني وغيري لنقدم خدمة لكتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه . وهو حسبي ونعم الوكيل والحمد لله رب العالمين.
 
ويضاف على ما سبق ما ذكره ابن القيم بأن قصة حل التكة مما افتراه اليهود
فأدخله تحت فصل "ومن تلاعب الشيطان بهم"
فقال:
ونسبوا يوسف عليه السلام إلى أنه حل تكة سراويله وتكة سراويل سيدته وأنه قعد منها مقعد الرجل من امرأته وأن الحائط انشق له فرأى أباه يعقوب عليه السلام عاضا على أنامله فلم يقم حتى نزل جبريل عليه السلام فقال : يا يوسف تكون من الزناة وأنت معدود عند الله تعالى من الأنبياء فقام حينئذ
ومعلوم أن ترك الفاحشة عن هذا لا مدح فيه فإن أفسق الناس لو رأى هذا لولى هاربا وترك الفاحشة

إغاثة اللهفان ج 2 ص 345

فليكف من يظن بأنبياء الله أنهم يبلغون من الإنجراف وراء الهوى والشيطان هذا الحد والعياذ بالله.
 
بوركتم يا د. (أنمار) !

هذا الذي يطمئن إليه العقل السليم بالاعتماد عى الشرع القويم بعيدا عن الخرص الأثيم.
 
وبارك الله تعالى بكم (أبا حذيفة) على هذا المجهود الطيب المؤازر للحق والخير.
 
عودة
أعلى