سالم عامر الشهري
New member
- إنضم
- 24/05/2010
- المشاركات
- 34
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 6
وقفات مع سورة البروج إنَّ في القرآن -يا عباد الله- شفاء لما في الصدورِ، تسليةً للمؤمنين، وتهديداً ووعيداً للكافرين، ومن وقفَ مع آياتِهِ وسورِهِ تبينَ لهُ كيفَ واسى اللهُ -عزَّ وجلَّ- نبيَهُ محمداً -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- فيما مرَّ بهِ من الشدةِ والبلاءِ، وكيفَ كانَ ينزلُ هذا القرآنُ العظيمُ تسليةً وتثبيتاً لقلبِهِ ولقلوبِ المؤمنين (كذلك لنثبت به فؤادك).
لما يكونُ النبيُّ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- في الشدةِ والضيقِ والحصارِ الشديدِ، يأتيهِ جبريلُ –عليهِ السلامُ- بتلكَ الآياتِ من ربِّ الأرضِ والسماءِ، فتكونُ بلسماً لجروحِهِ، وماءً زلالاً يروي عطشَهُ،وبشارةً في وقتِ شدتِهِ وعسرِهِ. يأتيهِ هذا القرآنُ في مواقفٍ يشتدُ فيها ضيقُهُ وحزنُهُ، وتضيقُ فيها صدورُ أصحابِهِ وحزبِهِ، فيأتيهمُ القرآنُ شفاءً ورحمةً وبشارةً وتسليةً، فيهِ الوعدُ لهم وفيهِ الوعيدُ لأعدائهم، وفيهِ التذكيرُ بحالِ من سبقهم، ليزولَ بهِ الألمُ، ويذهبَ بهِ الهمُ والغمُ، ويتفاءلَ المؤمنونَ بنصرِ اللهِ جلَّ وعلا.
وفي هذا الزمنِ العصيبِ، والضنكِ الشديدِ معَ ما يحصلُ لإخوانِنا المسلمينَ في كثيرٍ من بقاعِ العالمِ -وبالأخصِّ على أرضِ فلسطين- ما أحوجنا أن نرجعَ إلى تلكَ الآياتِ، ونتأملَ تلكَ السورَ الباهراتِ، وما جاءَ فيها للنبيِّ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- ولأصحابِهِ من التسليةِ فنسلى بهِ، ومن البشارةِ فنستبشرُ بهِ، ومن الوعيدِ للكفارِ فنثقُ بهِ، ومن الوعدِ للمؤمنينَ فنتفاءلُ بهِ.
ودعونا نقفُ مع سورةٍ من سورهِ العظامِ،التي صورَّ اللهُ فيها حالَ الظالمينَ مع عبادِهِ المؤمنينَ، وما حصلَ لعبادِهِ من البلاءِ العظيمِ، وما وعدَهم من النصرِ، وتوعدَ أعداءَهم بالهلاكِ، في سورةِ البروجِ في الجزءِ الثلاثين.
هذهِ السورةُ مكيةٌ نزلتْ على النبيِّ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- وهو في مكةَ قبلَ هجرتِهِ إلى المدينةِ، في تلكَ الظروفِ القاسيةِ، والأحوالِ العصيبةِ، والشدةِ المؤلمةِ، نزلت في وقتٍ كان فيه أعداءُ الدينِ يكيلونَ للنبيِّ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- والمؤمنينَ العذابَ كيلاً، ويظهرونَ لهم من الشدةِ والبلاءِ ألواناً، يتلذذونَ بتعذيبِ المؤمنينَ، ويفتخرونَ بتفننهم في السخرية بالنبيِّ -صلى اللهُ عليهِ وسلم- والمسلمينَ.
تنزلُ هذهِ السورةُ لترويَ قصةً حصلت لعبادِ اللهِ الموحدينَ، الذينَ كانوا بدينِ ربهم مستمسكينَ، وعلى هديهِ وصراطهِ سائرينَ، فيقفُ لهم أعداؤُهم بالمرصادِ، يكيلونَ لهم العذابَ، ويضرمونَ لهم النيرانَ.
فدعونا نبحرُ مع هذهِ السورةِ العظيمةِ المسليةِ لنا، والمبشرةِ بنصرٍ قادمٍ، ووعيدٍ للكفارِ مؤلمٍ، إما في الدنيا وإما في الآخرة. يقول عز وجل {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3)} افتتحَ عزَّ وجلَّ هذهِ السورةَ بهذا القسمِ، وما يقولُهُ عزَّ وجلَّ حقٌ بلا قسمٍ، لكنهُ تأكيدٌ وجزمٌ بما أقسمَ عليهِ -عز وجل- أنهُ حاصلٌ لا محالةَ، وكائنٌ بلا هوادةَ.
فأقسمَ -عز وجل- بالسماءِ وما لها من البروجِ، التي تتنقلُ فيها الأفلاكُ والنجومُ.
و أقسمَ باليومِ الموعودِ الذي ينتظرُ أولئك الكافرينَ، وينتظرُهُ أولئكَ المؤمنونَ، ذلك اليومُ الذي فيهِ الجزاءُ وفيهِ الحسابُ، اليومُ الذي يلقى فيه كلُّ كافرٍ وكلُّ ظالمٍ ما قدم، ويجدُ فيهِ المؤمنونَ الصابرونَ جزاءَ صبرهم {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}، فويلٌ للكافرينَ من ذلكَ اليومِ وشدتِهِ، وانتظروا أيها المؤمنونَ المكافئةَ في ذلك اليومِ وفرحتَه.
ثم أقسمَ اللهُ بكلِّ شاهدٍ ومشهودٍ في الدنيا وفي الآخرةِ، ومن ذلكَ شاهدةُ أعضاءِ بني آدمَ عليهم بما جَنَتْهُ أيديهم.
فكيفَ بكم -أيها الظالمونَ المعتدونَ الغاصبونَ-يومَ تشهدُ عليكم أيديكم التي عذبتم بها المؤمنين، وحرقتم بها عباد الله الموحدين، وحاصرتم بها عباد الله الصادقين.
ثم يقول عز وجل { قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} قيل أن هذا جواب القسم وهو الدعاء عليهم بالقتل واللعن والطرد من رحمة أرحم الراحمين، أي لعن أولئك الذين حفروا الأخاديد، وأوقدوا فيها النيران، ثم قعدوا على شفيرها، يتلذذون بتعذيب المؤمنين، ويتشفون بصراخ أولئك المعذبين، ويسخرون من أولئك المحاصرين، قد نزعت من قلوبهم الرحمة، وملأت ظلمة وقسوة، فهم شاهدون مشاهدون لتلك الأفعال الإجرامية المؤلمة، التي لا تصدر إلا ممن مسخ الله قلبه، ونزع الرحمة من فؤاده، وتمكن الظلم والكبر والجبروت منه، فأين الإنسانية من هؤلاء وهم ينظرون إلى عباد الله يتعذبون في النار، ويحترقون في اللهب، ويصرخون من شدة الألم؟ أين الرحمة؟ وأين الإنسانية من أولئك الذي ينظرون إلى بشر مثلهم يتضورون جوعاً، ويبكون دماً، ويموتون عطشاً، خلف ذلك الحصار الشديد، والبلاء العظيم؟
وكم في هذه القصة من التسلية للمؤمنين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وفي هذا الزمن فأولئك قوم عادوا أولياء الله وتسلطوا على عباد الله فأرادوا أن يصدوهم عن دين الله فأبوا إلا الثبات على هذا الدين والالتزام بهذا الطريق القويم {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} لم يكن لهم ذنب إلا الإيمان بالله عز وجل، ولم يكن لهم خطيئة إلا الالتزام بهذا الدين العظيم، وهكذا كان حال المؤمنين الموحدين منذ عهد نوح عليه السلام أن يَنْصِبَ لهم الكفارُ العداء إذا رأوا منهم التوحيد الصادق، والثبات والتمسك، فإن من سلك هذا الطريق المستقيم وجب عليه الصبر والثبات، فإنه لا بد أن يمتحن، ولا بد أن يختبر، ولا بد أن يلقى من أعداء الله عز وجل ما يقلى، ولا بد أن يجد منهم ما يجد{الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}.
فلما رأوا منهم الإصرار والثبات على هذا الدين، وعدم التأثر بما يدعونهم إليه من الانحراف عنه، والخروج إلى ما هم عليه من الكفر والشرك والظلم، حفروا لهم الأخاديد في الأرض، ثم أضرموا فيها النيران العظيمة، ليقذفوهم فيها بلا رحمة ولا هوادة ولا شفقة، يقذفونهم في تلك النار ليحترقوا أمامهم ويستمتعوا بصراخهم، ويتلذذوا بمنظر أكل النار لهم.
وهكذا هم على مر السنين، يتلذذون بتعذيب المؤمنين، فأولئك كفار قريش كانوا يكيلون للمؤمنين بمكة ألواناً من العذاب والسخرية والاستهزاء، وهم يتلذذون بذلك، ويستشفون به، ويستمتعون بصراخ المساكين، واحتراق الجلود والأبدان، فعجباً لمن نزع الله الرحمة من قلبه أنى تأتيه رحمة ربه، وعجباً لمن يتلذذ بعذاب المؤمنين كيف يكون حاله عندما يقف بين يدي العزيز الجبار المنتقم.
ولم يكن السبب لمثل هذه الأفعال إلا أنهم آمنوا بالله العزيز الحميد، الذي له العزة والمنعة والقوة، المحمود على كل حال.
ومنه يتبين أن دين الله غالب فهو العزيز صاحب العزة وسيعز من يشاء ويذل من يشاء، وهو المحمود على كل حال محمود في السراء، محمود في الضراء، فالمؤمن إذا أصابه البلاء قال: الحمد لله على كل حال، وإذا أصابته السراء قال: الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
فهو عز وجل محمود على كل حال، وفي كل مقام، فله الحمد على السراء، وله الحمد على الضراء، وله الحمد على البلاء، وله الحمد على العطاء.
وها هو السبب الذي من أجله عُذب المؤمنون، وتُسلط على الموحدين، إنه إيمانهم برب العالمين، وهل هذا جرم يعذب عليه! أو هو منقبة يحمد عليها المؤمن أن عرف طريق الحق وتمسك به! لكنها الفطر المنكوسة والظلم والجور والبعد عن الحق يفعل بالإنسان الأفاعيل ويمسخ منه الإنسانية والفطرة السليمة.
ثم قال سبحانه واصفاً ملكه وعظمته { الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} أي له الملك التام، والسلطان الكامل، فكل ما في السموات وما في الأرض ملك له سبحانه وتعالى، وهو شهيد على كل ما يحصل في ملكه، وما يكون في سلطانه، ومن جملة ذلك ما يفعل هؤلاء الكفار بعباده المؤمنين من العذاب والحصار والإذلال، كل ذلك يشاهده عز وجل ويعلمه، وسيجازي الصابرين أحسن الجزاء، وسيعذب المجرمين الظالمين أشد العذاب.
وكم في هذا من تسلية للمؤمنين الموحدين، أن ربهم وخالقهم ومليكهم الذي من أجل دينه يعذبون، ومن أجل توحيدهم له يسامون، ينظر إليهم ويراهم ولا يخفى عليه حالهم، فماذا ينتظرك من الجزاء إن كان من تُعذب فيه يراك وأنت تعذب! وكم فيه من التسلية والتصبير أن من تناضل من أجل دينه يراك ويرى ما يحل بك! ثم قال عز وجل {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} ها هو الوعيد الشديد، والتهديد العظيم، لألئك الكفار المعتدين الظالمين، الذين فتنوا المؤمنين في دينهم، وآذوهم في توحيدهم، وحرقوهم وعذبوهم، وكالوا لهم ألوانَ العذا،ب يدعوهم الله عز وجل إلى التوبة، ويعرض علهم العودة، وهذا من حلمه وسعة رحمته، ولهذا يقول الحسن البصري رحمه الله : انظر إلى حلم الله عز وجل يحرقون أولياءه ثم يدعوه إلى التوبة.
ثم توعدهم بالعذاب الحق الذي لا يساوي مع ما صنعوا بالمؤمنين في الدنيا شيئاً، ولا يعادله في شيء، عذاب جنهم التي فضلت على تلك النار التي أوقدتموها للمؤمنين في الدنيا فضلت عليها بتسعة وستين جزاء، فانتظروا ذلك العذاب.
ووالله إنه العذاب الذي ليس بعده عذاب، ولا أشد منه عذاب، ذلك العذاب وذلك الحريق الذي ينتظركم جزاء ما صنعتم بأوليائه وما فعلتم بعباده.
قال الشيخ محمد العثيمين رحمه الله : في هذه الآيات من العبر: أن الله سبحانه وتعالى قد يسلط أعداءه على أوليائه، فلا تستغرب إذا سلط الله عز وجل الكفار على المؤمنين وقتلوهم وحرقوهم، وانتهكوا أعراضهم، لا تستغرب فلله تعالى في هذا حكمة، المصابون من المؤمنين أجرهم عند الله عظيم، وهؤلاء الكفار المعتدون أملى لهم الله سبحانه وتعالى ويستدرجهم من حيث لا يعلمون، والمسلمون الباقون لهم عبرة وعظة فيما حصل لإخوانهم، فمثلاً نحن نسمع ما يحصل من الانتهاكات العظيمة، انتهاك الأعراض، وإتلاف الأموال، وتجويع الصغار والعجائز، نسمع أشياء تبكي، فنقول: سبحان الله ما هذا التسليط الذي سلطه الله على هؤلاء المؤمنين؟ نقول يا أخي لا تستغرب فالله سبحانه وتعالى ضرب لنا أمثالاً فيمن سبق يحرقون المؤمنين بالنار، فهؤلاء الذين سلطوا على إخواننا في بلاد المسلمين هذا رفعة درجات للمصابين، وتكفير السيئات، وهو عبرة للباقين، وهو أيضاً إغراء لهؤلاء الكافرين حتى يتسلطوا فيأخذهم الله عز وجل أخذ عزيز مقتدر. أهـ.
ثم بشر المؤمنين الموحدين بأن ينسيهم ذلك الهوان، وذلك الذل وذلك العذاب، الذي لاقوه في سبيله، والذي صبروا عليه من أجله، فقال تعالى { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} يقول صلى الله عليه وسلم (يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيصبغ في النار صبغة ثم يقال يا ابن آدم هل رأيت خيرا قط ؟ هل مر بك نعيم قط ؟ فيقول لا والله يا رب ويؤتى بأشد الناس بؤسا في الدنيا من أهل الجنة فيصبغ صبغة في الجنة فيقال له يا ابن آدم هل رأيت بؤسا قط ؟ هل مر بك شدة قط ؟ فيقول لا والله يا رب ما مر بي بؤس قط ولا رأيت شدة قط).
فهنيئاً لكم تلك الجنان، وهنئاً لكم ذلك الفوز الكبير في تلك الدار، التي لا تزول ولا تتحول ولا تتغير، أنتم في نعيم مقيم، وفوز كبير، ستنسون ذلك العذاب، وستنسون تلك المرارة، وستبقون في هذا النعيم بقاء لا زوال بعده ولا تحول عنه.
ثم جاء الوعيد الشديد، والتخويف الرهيب، للكفار والظالمين، والبشارة للمؤمنين بالركن الشديد، والناصر الحق المبين، فقال تعالى ذاكراً بعضاً من صفاته العليا وأسمائه الحسنى {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} فهو سبحانه إذا أخذ الظالم لم يفلته يقول صلى الله عليه وسلم : (إن الله عز و جل يملي للظالم فإذا أخذه لم يفلته ثم قرأ {كَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}).
فمهما ظلم الظالمون، ومهما كاد الكافرون، ومهما مكر الماكرون، فإن الله وراءهم بالمرصاد، وهو ذو البطش الشديد، وهو الذي يبدئ كل شيء ثم يعيده، وكل شيء منه وإليه، فهو الذي خلق الخلق وإليه سيعودون، وسيجازي المحسنين بالحسنى والكافرين بالعذاب الشديد.
ثم بين لألئك المضطهدين المأسورين المظلومين أنه هو الغفور لجميع الذنوب، الساتر للعيوب، المتجاوز عن السيئات، وهو الودود الذي يُـحِب ويحَب، فهو عز وجل يحب الأعمال، ويحب الأشخاص، ويحب الأماكن، وكذلك يحبه عباده المؤمنون.
فهنيئاً لمن نال محبته، وتقرب إليه بحبه، ومن كانت محبة الله في قلبه متمكنة، هان عليه كل عذاب، وهانت عليه حتى نفسه، التي يقدمها في سبيل نيل محبته سبحانه ورضاه والثبات على دينه.
وفيه -والله أعلم - إشارة إلى أنه مهما حصل للعبد من الشدة والبلاء فإنه لا يسوي شيئاً مع مغفرة الله لذنوبه، وتستر الله لعيوبه. فيا أيها المؤمنون إذا حصلت لكم مغفرة الذنوب وستر العيوب، فلا تبالوا بما يصيبكم من البلاء والشدة والمرارة، وتقربوا إلى الله بما يحبه لتنالوا محبته، فمن نال محبة الله فلا يضره ما يصيبه من البلاء مهما بلغ.
ثم ذكر أعظم مخلوقاته وأعلاها، وهو عرشه عز وجل الذي وسع السموات والأرض والكرسي، وهو الفعال لما يريد لا يعجزه شيء ولا يخشى شيئاً يفعل ما يشاء ويصنع ما يريد فإن شاء أهلك هؤلاء ولا راد لحكمه بل {وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا} فلا يعجزه فعل شيء ولا يمنعه مما يشاء فعله شيء.
قال عز وجل{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} ثم ذكّر سبحانه بحال أولئك الكفار الأوائل، الذي عتوا في الأرض وبغوا، وأفسدوا وتمادوا أين هم؟ وماذا حل بهم؟ لقد أخذهم الله عز وجل أخذ عزيز مقتدر، فهاهو فرعون الذي ظلم عباد الله، وبغى في أرض الله، وتكبر وتجبر، كيف أهلكه الله عز وجل بماء البحر ثم نجّى الله بدنه ليكون عبرة لمن يعتبر فاعتبروا يا أولي الأبصار.
ثم بيّن سبحانه أن هؤلاء الكافرين لا يزالون في تكذيبهم، وفي غيهم، وفي ظلمهم، ومن ظن أنهم تاركوا ذلك فقد ساء ظنه، فإن اليهود مهما تعاقبت الأزمنة، وتتابعت العصور، لا يزالون في ظلمهم، وفي غيهم، وفي كفرهم، وفي حقدهم، وهذا هو حالهم وحال من مثلهم. وثم بيّن سبحانه إحاطته بهم، وكونهم تحت تصرفه، وتحت تدبيره، فأين المهرب والله من ورائهم محيط؟ وأين المفر والله بما يعملون خبير؟ وأين النجاة والله على ما يفعلون شهيد؟
ثم أيها الأخوة في الله يختم ربنا عز وجل هذه السورة بذكر هذا القرآن العظيم، وما حواه من الآيات البينات، والوعيد الشديد والوعد المحقق، لمن تدبره واستفاد منه وكان له قبل أو ألقى السمع وهو شهيد. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
لما يكونُ النبيُّ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- في الشدةِ والضيقِ والحصارِ الشديدِ، يأتيهِ جبريلُ –عليهِ السلامُ- بتلكَ الآياتِ من ربِّ الأرضِ والسماءِ، فتكونُ بلسماً لجروحِهِ، وماءً زلالاً يروي عطشَهُ،وبشارةً في وقتِ شدتِهِ وعسرِهِ. يأتيهِ هذا القرآنُ في مواقفٍ يشتدُ فيها ضيقُهُ وحزنُهُ، وتضيقُ فيها صدورُ أصحابِهِ وحزبِهِ، فيأتيهمُ القرآنُ شفاءً ورحمةً وبشارةً وتسليةً، فيهِ الوعدُ لهم وفيهِ الوعيدُ لأعدائهم، وفيهِ التذكيرُ بحالِ من سبقهم، ليزولَ بهِ الألمُ، ويذهبَ بهِ الهمُ والغمُ، ويتفاءلَ المؤمنونَ بنصرِ اللهِ جلَّ وعلا.
وفي هذا الزمنِ العصيبِ، والضنكِ الشديدِ معَ ما يحصلُ لإخوانِنا المسلمينَ في كثيرٍ من بقاعِ العالمِ -وبالأخصِّ على أرضِ فلسطين- ما أحوجنا أن نرجعَ إلى تلكَ الآياتِ، ونتأملَ تلكَ السورَ الباهراتِ، وما جاءَ فيها للنبيِّ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- ولأصحابِهِ من التسليةِ فنسلى بهِ، ومن البشارةِ فنستبشرُ بهِ، ومن الوعيدِ للكفارِ فنثقُ بهِ، ومن الوعدِ للمؤمنينَ فنتفاءلُ بهِ.
ودعونا نقفُ مع سورةٍ من سورهِ العظامِ،التي صورَّ اللهُ فيها حالَ الظالمينَ مع عبادِهِ المؤمنينَ، وما حصلَ لعبادِهِ من البلاءِ العظيمِ، وما وعدَهم من النصرِ، وتوعدَ أعداءَهم بالهلاكِ، في سورةِ البروجِ في الجزءِ الثلاثين.
هذهِ السورةُ مكيةٌ نزلتْ على النبيِّ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- وهو في مكةَ قبلَ هجرتِهِ إلى المدينةِ، في تلكَ الظروفِ القاسيةِ، والأحوالِ العصيبةِ، والشدةِ المؤلمةِ، نزلت في وقتٍ كان فيه أعداءُ الدينِ يكيلونَ للنبيِّ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- والمؤمنينَ العذابَ كيلاً، ويظهرونَ لهم من الشدةِ والبلاءِ ألواناً، يتلذذونَ بتعذيبِ المؤمنينَ، ويفتخرونَ بتفننهم في السخرية بالنبيِّ -صلى اللهُ عليهِ وسلم- والمسلمينَ.
تنزلُ هذهِ السورةُ لترويَ قصةً حصلت لعبادِ اللهِ الموحدينَ، الذينَ كانوا بدينِ ربهم مستمسكينَ، وعلى هديهِ وصراطهِ سائرينَ، فيقفُ لهم أعداؤُهم بالمرصادِ، يكيلونَ لهم العذابَ، ويضرمونَ لهم النيرانَ.
فدعونا نبحرُ مع هذهِ السورةِ العظيمةِ المسليةِ لنا، والمبشرةِ بنصرٍ قادمٍ، ووعيدٍ للكفارِ مؤلمٍ، إما في الدنيا وإما في الآخرة. يقول عز وجل {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3)} افتتحَ عزَّ وجلَّ هذهِ السورةَ بهذا القسمِ، وما يقولُهُ عزَّ وجلَّ حقٌ بلا قسمٍ، لكنهُ تأكيدٌ وجزمٌ بما أقسمَ عليهِ -عز وجل- أنهُ حاصلٌ لا محالةَ، وكائنٌ بلا هوادةَ.
فأقسمَ -عز وجل- بالسماءِ وما لها من البروجِ، التي تتنقلُ فيها الأفلاكُ والنجومُ.
و أقسمَ باليومِ الموعودِ الذي ينتظرُ أولئك الكافرينَ، وينتظرُهُ أولئكَ المؤمنونَ، ذلك اليومُ الذي فيهِ الجزاءُ وفيهِ الحسابُ، اليومُ الذي يلقى فيه كلُّ كافرٍ وكلُّ ظالمٍ ما قدم، ويجدُ فيهِ المؤمنونَ الصابرونَ جزاءَ صبرهم {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}، فويلٌ للكافرينَ من ذلكَ اليومِ وشدتِهِ، وانتظروا أيها المؤمنونَ المكافئةَ في ذلك اليومِ وفرحتَه.
ثم أقسمَ اللهُ بكلِّ شاهدٍ ومشهودٍ في الدنيا وفي الآخرةِ، ومن ذلكَ شاهدةُ أعضاءِ بني آدمَ عليهم بما جَنَتْهُ أيديهم.
فكيفَ بكم -أيها الظالمونَ المعتدونَ الغاصبونَ-يومَ تشهدُ عليكم أيديكم التي عذبتم بها المؤمنين، وحرقتم بها عباد الله الموحدين، وحاصرتم بها عباد الله الصادقين.
ثم يقول عز وجل { قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} قيل أن هذا جواب القسم وهو الدعاء عليهم بالقتل واللعن والطرد من رحمة أرحم الراحمين، أي لعن أولئك الذين حفروا الأخاديد، وأوقدوا فيها النيران، ثم قعدوا على شفيرها، يتلذذون بتعذيب المؤمنين، ويتشفون بصراخ أولئك المعذبين، ويسخرون من أولئك المحاصرين، قد نزعت من قلوبهم الرحمة، وملأت ظلمة وقسوة، فهم شاهدون مشاهدون لتلك الأفعال الإجرامية المؤلمة، التي لا تصدر إلا ممن مسخ الله قلبه، ونزع الرحمة من فؤاده، وتمكن الظلم والكبر والجبروت منه، فأين الإنسانية من هؤلاء وهم ينظرون إلى عباد الله يتعذبون في النار، ويحترقون في اللهب، ويصرخون من شدة الألم؟ أين الرحمة؟ وأين الإنسانية من أولئك الذي ينظرون إلى بشر مثلهم يتضورون جوعاً، ويبكون دماً، ويموتون عطشاً، خلف ذلك الحصار الشديد، والبلاء العظيم؟
وكم في هذه القصة من التسلية للمؤمنين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وفي هذا الزمن فأولئك قوم عادوا أولياء الله وتسلطوا على عباد الله فأرادوا أن يصدوهم عن دين الله فأبوا إلا الثبات على هذا الدين والالتزام بهذا الطريق القويم {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} لم يكن لهم ذنب إلا الإيمان بالله عز وجل، ولم يكن لهم خطيئة إلا الالتزام بهذا الدين العظيم، وهكذا كان حال المؤمنين الموحدين منذ عهد نوح عليه السلام أن يَنْصِبَ لهم الكفارُ العداء إذا رأوا منهم التوحيد الصادق، والثبات والتمسك، فإن من سلك هذا الطريق المستقيم وجب عليه الصبر والثبات، فإنه لا بد أن يمتحن، ولا بد أن يختبر، ولا بد أن يلقى من أعداء الله عز وجل ما يقلى، ولا بد أن يجد منهم ما يجد{الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}.
فلما رأوا منهم الإصرار والثبات على هذا الدين، وعدم التأثر بما يدعونهم إليه من الانحراف عنه، والخروج إلى ما هم عليه من الكفر والشرك والظلم، حفروا لهم الأخاديد في الأرض، ثم أضرموا فيها النيران العظيمة، ليقذفوهم فيها بلا رحمة ولا هوادة ولا شفقة، يقذفونهم في تلك النار ليحترقوا أمامهم ويستمتعوا بصراخهم، ويتلذذوا بمنظر أكل النار لهم.
وهكذا هم على مر السنين، يتلذذون بتعذيب المؤمنين، فأولئك كفار قريش كانوا يكيلون للمؤمنين بمكة ألواناً من العذاب والسخرية والاستهزاء، وهم يتلذذون بذلك، ويستشفون به، ويستمتعون بصراخ المساكين، واحتراق الجلود والأبدان، فعجباً لمن نزع الله الرحمة من قلبه أنى تأتيه رحمة ربه، وعجباً لمن يتلذذ بعذاب المؤمنين كيف يكون حاله عندما يقف بين يدي العزيز الجبار المنتقم.
ولم يكن السبب لمثل هذه الأفعال إلا أنهم آمنوا بالله العزيز الحميد، الذي له العزة والمنعة والقوة، المحمود على كل حال.
ومنه يتبين أن دين الله غالب فهو العزيز صاحب العزة وسيعز من يشاء ويذل من يشاء، وهو المحمود على كل حال محمود في السراء، محمود في الضراء، فالمؤمن إذا أصابه البلاء قال: الحمد لله على كل حال، وإذا أصابته السراء قال: الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
فهو عز وجل محمود على كل حال، وفي كل مقام، فله الحمد على السراء، وله الحمد على الضراء، وله الحمد على البلاء، وله الحمد على العطاء.
وها هو السبب الذي من أجله عُذب المؤمنون، وتُسلط على الموحدين، إنه إيمانهم برب العالمين، وهل هذا جرم يعذب عليه! أو هو منقبة يحمد عليها المؤمن أن عرف طريق الحق وتمسك به! لكنها الفطر المنكوسة والظلم والجور والبعد عن الحق يفعل بالإنسان الأفاعيل ويمسخ منه الإنسانية والفطرة السليمة.
ثم قال سبحانه واصفاً ملكه وعظمته { الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} أي له الملك التام، والسلطان الكامل، فكل ما في السموات وما في الأرض ملك له سبحانه وتعالى، وهو شهيد على كل ما يحصل في ملكه، وما يكون في سلطانه، ومن جملة ذلك ما يفعل هؤلاء الكفار بعباده المؤمنين من العذاب والحصار والإذلال، كل ذلك يشاهده عز وجل ويعلمه، وسيجازي الصابرين أحسن الجزاء، وسيعذب المجرمين الظالمين أشد العذاب.
وكم في هذا من تسلية للمؤمنين الموحدين، أن ربهم وخالقهم ومليكهم الذي من أجل دينه يعذبون، ومن أجل توحيدهم له يسامون، ينظر إليهم ويراهم ولا يخفى عليه حالهم، فماذا ينتظرك من الجزاء إن كان من تُعذب فيه يراك وأنت تعذب! وكم فيه من التسلية والتصبير أن من تناضل من أجل دينه يراك ويرى ما يحل بك! ثم قال عز وجل {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} ها هو الوعيد الشديد، والتهديد العظيم، لألئك الكفار المعتدين الظالمين، الذين فتنوا المؤمنين في دينهم، وآذوهم في توحيدهم، وحرقوهم وعذبوهم، وكالوا لهم ألوانَ العذا،ب يدعوهم الله عز وجل إلى التوبة، ويعرض علهم العودة، وهذا من حلمه وسعة رحمته، ولهذا يقول الحسن البصري رحمه الله : انظر إلى حلم الله عز وجل يحرقون أولياءه ثم يدعوه إلى التوبة.
ثم توعدهم بالعذاب الحق الذي لا يساوي مع ما صنعوا بالمؤمنين في الدنيا شيئاً، ولا يعادله في شيء، عذاب جنهم التي فضلت على تلك النار التي أوقدتموها للمؤمنين في الدنيا فضلت عليها بتسعة وستين جزاء، فانتظروا ذلك العذاب.
ووالله إنه العذاب الذي ليس بعده عذاب، ولا أشد منه عذاب، ذلك العذاب وذلك الحريق الذي ينتظركم جزاء ما صنعتم بأوليائه وما فعلتم بعباده.
قال الشيخ محمد العثيمين رحمه الله : في هذه الآيات من العبر: أن الله سبحانه وتعالى قد يسلط أعداءه على أوليائه، فلا تستغرب إذا سلط الله عز وجل الكفار على المؤمنين وقتلوهم وحرقوهم، وانتهكوا أعراضهم، لا تستغرب فلله تعالى في هذا حكمة، المصابون من المؤمنين أجرهم عند الله عظيم، وهؤلاء الكفار المعتدون أملى لهم الله سبحانه وتعالى ويستدرجهم من حيث لا يعلمون، والمسلمون الباقون لهم عبرة وعظة فيما حصل لإخوانهم، فمثلاً نحن نسمع ما يحصل من الانتهاكات العظيمة، انتهاك الأعراض، وإتلاف الأموال، وتجويع الصغار والعجائز، نسمع أشياء تبكي، فنقول: سبحان الله ما هذا التسليط الذي سلطه الله على هؤلاء المؤمنين؟ نقول يا أخي لا تستغرب فالله سبحانه وتعالى ضرب لنا أمثالاً فيمن سبق يحرقون المؤمنين بالنار، فهؤلاء الذين سلطوا على إخواننا في بلاد المسلمين هذا رفعة درجات للمصابين، وتكفير السيئات، وهو عبرة للباقين، وهو أيضاً إغراء لهؤلاء الكافرين حتى يتسلطوا فيأخذهم الله عز وجل أخذ عزيز مقتدر. أهـ.
ثم بشر المؤمنين الموحدين بأن ينسيهم ذلك الهوان، وذلك الذل وذلك العذاب، الذي لاقوه في سبيله، والذي صبروا عليه من أجله، فقال تعالى { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} يقول صلى الله عليه وسلم (يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيصبغ في النار صبغة ثم يقال يا ابن آدم هل رأيت خيرا قط ؟ هل مر بك نعيم قط ؟ فيقول لا والله يا رب ويؤتى بأشد الناس بؤسا في الدنيا من أهل الجنة فيصبغ صبغة في الجنة فيقال له يا ابن آدم هل رأيت بؤسا قط ؟ هل مر بك شدة قط ؟ فيقول لا والله يا رب ما مر بي بؤس قط ولا رأيت شدة قط).
فهنيئاً لكم تلك الجنان، وهنئاً لكم ذلك الفوز الكبير في تلك الدار، التي لا تزول ولا تتحول ولا تتغير، أنتم في نعيم مقيم، وفوز كبير، ستنسون ذلك العذاب، وستنسون تلك المرارة، وستبقون في هذا النعيم بقاء لا زوال بعده ولا تحول عنه.
ثم جاء الوعيد الشديد، والتخويف الرهيب، للكفار والظالمين، والبشارة للمؤمنين بالركن الشديد، والناصر الحق المبين، فقال تعالى ذاكراً بعضاً من صفاته العليا وأسمائه الحسنى {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} فهو سبحانه إذا أخذ الظالم لم يفلته يقول صلى الله عليه وسلم : (إن الله عز و جل يملي للظالم فإذا أخذه لم يفلته ثم قرأ {كَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}).
فمهما ظلم الظالمون، ومهما كاد الكافرون، ومهما مكر الماكرون، فإن الله وراءهم بالمرصاد، وهو ذو البطش الشديد، وهو الذي يبدئ كل شيء ثم يعيده، وكل شيء منه وإليه، فهو الذي خلق الخلق وإليه سيعودون، وسيجازي المحسنين بالحسنى والكافرين بالعذاب الشديد.
ثم بين لألئك المضطهدين المأسورين المظلومين أنه هو الغفور لجميع الذنوب، الساتر للعيوب، المتجاوز عن السيئات، وهو الودود الذي يُـحِب ويحَب، فهو عز وجل يحب الأعمال، ويحب الأشخاص، ويحب الأماكن، وكذلك يحبه عباده المؤمنون.
فهنيئاً لمن نال محبته، وتقرب إليه بحبه، ومن كانت محبة الله في قلبه متمكنة، هان عليه كل عذاب، وهانت عليه حتى نفسه، التي يقدمها في سبيل نيل محبته سبحانه ورضاه والثبات على دينه.
وفيه -والله أعلم - إشارة إلى أنه مهما حصل للعبد من الشدة والبلاء فإنه لا يسوي شيئاً مع مغفرة الله لذنوبه، وتستر الله لعيوبه. فيا أيها المؤمنون إذا حصلت لكم مغفرة الذنوب وستر العيوب، فلا تبالوا بما يصيبكم من البلاء والشدة والمرارة، وتقربوا إلى الله بما يحبه لتنالوا محبته، فمن نال محبة الله فلا يضره ما يصيبه من البلاء مهما بلغ.
ثم ذكر أعظم مخلوقاته وأعلاها، وهو عرشه عز وجل الذي وسع السموات والأرض والكرسي، وهو الفعال لما يريد لا يعجزه شيء ولا يخشى شيئاً يفعل ما يشاء ويصنع ما يريد فإن شاء أهلك هؤلاء ولا راد لحكمه بل {وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا} فلا يعجزه فعل شيء ولا يمنعه مما يشاء فعله شيء.
قال عز وجل{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} ثم ذكّر سبحانه بحال أولئك الكفار الأوائل، الذي عتوا في الأرض وبغوا، وأفسدوا وتمادوا أين هم؟ وماذا حل بهم؟ لقد أخذهم الله عز وجل أخذ عزيز مقتدر، فهاهو فرعون الذي ظلم عباد الله، وبغى في أرض الله، وتكبر وتجبر، كيف أهلكه الله عز وجل بماء البحر ثم نجّى الله بدنه ليكون عبرة لمن يعتبر فاعتبروا يا أولي الأبصار.
ثم بيّن سبحانه أن هؤلاء الكافرين لا يزالون في تكذيبهم، وفي غيهم، وفي ظلمهم، ومن ظن أنهم تاركوا ذلك فقد ساء ظنه، فإن اليهود مهما تعاقبت الأزمنة، وتتابعت العصور، لا يزالون في ظلمهم، وفي غيهم، وفي كفرهم، وفي حقدهم، وهذا هو حالهم وحال من مثلهم. وثم بيّن سبحانه إحاطته بهم، وكونهم تحت تصرفه، وتحت تدبيره، فأين المهرب والله من ورائهم محيط؟ وأين المفر والله بما يعملون خبير؟ وأين النجاة والله على ما يفعلون شهيد؟
ثم أيها الأخوة في الله يختم ربنا عز وجل هذه السورة بذكر هذا القرآن العظيم، وما حواه من الآيات البينات، والوعيد الشديد والوعد المحقق، لمن تدبره واستفاد منه وكان له قبل أو ألقى السمع وهو شهيد. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.