بنت اسكندراني
New member
ورقة عمل:"مشروع تقعيد التلاوات التدبرية المجودة لدى النشء عوضا عن تعلم المقامات الموسيقية"
كتابٌ "لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه"(1), عميقُ المعاني, عذبُ الإيقاع, بليغُ المقاطع, وجيزُ العبارة, له في السّمع حلاوة تستدعي الإنصات له, وله في القلب وقعٌ يستدعي الإيمان به.
فيه جوامع الكلم, وجوامع الأخبار, وجوامع الإعجاز, وجوامع الأخلاق, وجوامع كل رقيّ وفلاح.
ما يمسّ قلب امرئ إلا وتهتزّ أعماقه, وتنبت أرضه, ويتفتح زهره, فتعانق روحه سمواً وجمالا وروعة لا يُعرف لها مثيل ولا تشبيه.
فالحمد لله أولاً وآخرًا, وظاهراً وباطناً كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه, ثم الصلاة والسلام على سيد المرسلين, محمد الصادق الأمين, المبعوث رحمة للعالمين, وعلى آله وصحبه.
أما بعد.. أتقدم بهذه الورقة كمقترح مشروع أرجو أن ينفع الله به شريحة الأجيال الناشئة من حفظة كتاب الله, لاسيما الذين يمتلكون منهم أصوتا شجية, وإني ـ يعلم الله ـ لـم أتجرأ على الكتابة في هذا الموضوع إلا بعد أن تعمقتُ قليلا في علم المقامات, فاستمعتُ إلى الكثير من دروسها, وقرأتُ في أصولها وفروعها, وتتبعتُ آراء كبار العلماء ومشاهير القراء فيها, وقد قضيتُ في بحثي هذا شهوراً, واطلعتُ على آراء بعض طلاب العلم من جيل الشباب المهتمين بعلم المقامات, ودارت نقاشات بيني وبين أحد المتخصصين في علم المقامات على صفحات ملتقى أهل التفسير, وأعتقد أن ذلك قد أضاف إليّ كثيرا, وفي مشواري هذا كنتُ أتبنى أفكاراً أميل فيها إلى ضرورة تعليم النشء لعلم المقامات مع تغيير مسمياتها وتعريب الأعجمي منها؛ ثم رأيتُ التراجع عن ذلك الرأي لـمّـا تراءى لي ما هو خير منه, ولم أكن أفعل ذلك لهدف معين بقدر ما كان رغبة مني في استيعاب هذا الجانب والتعمق فيه للخروج بتصور واضح عن ماهيته, خاصة مع كوني معلمة قرآن أُدَرِّس معلمات القرآن الكريم وأُعِدُّهُنَّ لمهمة تعليم كتاب الله, وكم تردني أسئلة منهن تدور حول هذا الموضوع, لذا رأيت ضرورة الخوض فيه.
ولقد اقتضت طبيعة البحث أن أقسمه إلى مقدمة, وتمهيد, ومبحثين, وخاتمة, وذلك على النحو الآتي:
*المقدمة.
*التمهيد.
* المبحث الأول: تأثير الترتيل المتقن على تدبر القارئ والمستمع.
* المبحث الثاني: مشروع تقعيدُ التلاواتِ التدبريّةِ المجوَّدةِ لدى النشءِ, عوضا عن تعلِّم علمِ المقاماتِ الموسيقيِّة.
*المطلب الأول: بواعث فكرة المشروع.
* المطلب الثاني: فكرة المشروع, وآليات تنفيذه.
* المطلب الثالث: مميزات المشروع وأهدافه.
* الخاتمة: وفيها أهم النتائج والتوصيات.
والله أسأل أن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل, وأن يكلل أعمالنا بالقبول وعظيم الأجر والمثوبة.
ولقد سرتُ خطوات في هذا الطريق الخطر لأكتشفه, ولألقي الضوء على بعض خفاياه وزواياه, بل وملتُ أول الأمر إلى رفض رأي القائلين بالتحريم جملة وتفصيلا, ثم حاولتُ التروي والتأمل, والانغماس والتعمق بتجرد لأجل الحكم بإنصاف ودقة على واقعنا, ولأجل البحث عن طريق آمن بين الفريقين ـ من أباح, ومن حرم ـ طريق يأخذ بيد شبابنا إلى الهدف المنشود دون المخاطرة بفعل محرم ـ على رأي المحرمين ـ ودون العبث والتساهل الذي يقع فيه فريق المبيحين لدراسة علم المقامات.
ولا يخفى على أحد مطّلعٍ منصفٍ ما للأصوات الشّجيّة من أثر في دفع السامع إلى تدبر آيات الله, بل إن هذه الأصوات الخاشعة قادرة على جذب الانتباه إلى معاني الآيات ومقاصدها؛ وما فيها من قصص وأحداث؛ وما ورائها من أسباب نزول, ليس هذا فحسب؛ بل إن أعين الأعاجم قد تذرف دموعَ خشيةٍ من مجرد سماع ترتيل شجيّ آسِر لآيات الله.
إن القارئ حسن الصوت المتقن للأداء الصوتي لا يتلو الآيات مجرد تلاوة؛ وإنما يعيش داخل الآيات فتلامس قلبه وإحساسه, وينصهر وجدانه معها كلمة كلمة, ومعنى معنى, فتأتي تلاوته عذبة متدبرة, يقف المنصت لتلاوته مبهوراً, ويكاد يجزم أنه يسمع الآيات لأول مرة.
عَنْ أَبِى موسى الأشعري قال : قال لي رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "لَوْ رَأَيتني وَأنا أَسمع قراءتك الْبارحة لقد أُوتِيتَ مزماراً منْ مزاميرِ آلِ داودَ" قال: "لَوْ علِّمتُ لحَبَّرْتُهُ لك تَحْبِيرا"(4).
قال الإمام ابن حجر رحمه الله: "ولا شك أن النفوس تميل إلى سماع القراءة بالترنم أكثر من ميلها لمن لا يترنم, لأن للتطريب تأثيراً في رقة القلب وإجراء الدمع, وكان بين السلف اختلاف في جواز القراءة بالألحان, أما تحسين الصوت وتقديم حسن الصوت على غيره؛ فلا نزاع في ذلك" (5)
ولعلنا لو تأملنا نماذج من أشهر قرائنا المعاصرين في العالم الإسلامي فسنجد أنهم امتلكوا ثلاث مقومات مكنتهم من التأثير القوي الذي يزداد يوما بعد يوم رغم وفاة بعضهم, هذه المقومات ـ من وجهة نظري ـ هي:
1. خامة الصوت الجيدة.
2. ومهارة استخدام الصوت.
3. والعيش مع الآيات والتأثر والتفكر بها.
واجتماع هذه المقومات في تلاوة يضفي عليها رونقاً وتأثيراً عميقاً بمعانيها.
ولو أن قارئاً لا يملك خامة صوت جيدة فإنه لن يحسن مهارة الأداء الصوتي, وبالتالي لن يتمكن من التأثير على المستمع بسهولة, وكذلك القارئ الذي يمتلك خامة صوت جيدة مع مهارات في تأدية وإخراج هذا الصوت؛ لكنه لا يعيش مع الآيات ولا تلامس قلبه وفكره بل همه مُنصَب على التركيز في استعراض مهارته الصوتية؛ فإن تلاوته وإن كانت جميلة إلا أنها تظل ينقصها أحد المقومات الأساسية وهو الإحساس العالي بمعاني الآيات, فترى السامع منشغل هو الآخر بالمهارات الأدائية أكثر من إنصاته للكلمات والمعاني, لذا لابد من توفر الثلاثة مقومات لأجل الحصول على تلاوة نموذجية مؤثرة.
ويمكن القول بأن من امتلك خامة الصوت الجيدة؛ وأتى بالثالثة فعاش مع الآيات وتدبرها وأحسن التفكر بها؛ لكنه لم يتقن مهارات مميزة في استخدام صوته؛ فإنني أزعم أن له تأثيرا عجيباً أيضا في آذان وقلوب المنصتين له وإن قرأ على وتيرة واحدة.
وفي زمننا الحاضر تفشت ظاهرة تعلم المقامات بين قراء القرآن بشكل لم نعهده من قبل في عالمنا العربي والإسلامي, وانتشرت برامج تعليم المقامات في الإذاعات والفضائيات وغيرها, كما كَثُرَت مقاطع الفديو على موقع (اليوتيوب) التي تعرض نماذج لتلاوات القرآن الكريم بمقامات مختلفة, وكذلك دروس تعليم المقامات.
ولقد شاهدنا الكثير من المقاطع على (اليوتيوب) لأطفال مبدعين في قراءتهم للقرآن لكنهم للأسف يتعلمون بين يدي من يقول لهم: إإتني بالدرجة الرابعة من مقام السيكا!
هات الآية التالية بمقام السوزنار!
أو ابدأ الآية بيات ثم اقفل عجم!إن هذا الواقع المزري يدفعنا للبحث عن حلول, ربما البعض لا يعني لهم ولا يؤلمهم أن يتحول طفل أو شاب متدبر وخاشع في تلاوته لكتاب الله إلى مؤدي ألحان همه الطرب والأوزان, وعد وإحصاء تفريعات كل مقام؛ لكننا نتألم من ذلك, وإغلاق الباب أمام الطاقات الصوتية الناشئة ليس حلا فاعلا, فهناك نوافذ أخرى مشرعة لهم, وخلفها فضاء رحب يرحب بهم ويتلقفهم ليحتضن إبداعاتهم!, وهذا الواقع يثير غيرتنا على كتاب الله, ولابد أن تكون هذه الغيرة موزونة عاقلة مستبصرة بالواقع ومدركة لأبعاد المشكلة دون إفراط ولا تفريط, وعلينا في الوقت ذاته أن نلاحظ ونرقب بقلق كمية الأسئلة التي أصبحت ترد في هذا الموضوع بإلحاح من عامة الناس في صفحات الإنترنت ومواقع التواصل أو برامج الاستفتاء وغيرها, ومن يسعى لتحسين صوته في القرآن لا يلام, فعن البراء بن عازب رضي الله عنه, عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "زينوا القرآن بأصواتكم"(6) وقال الإمام ابن حجر رحمه الله: "والذي يتحصل من الأدلة: أن حسن الصوت بالقرآن مطلوب, فإن لم يكن حسنا فليحسنه ما استطاع"(7).
فهؤلاء الذين يسألون عن كيفية تحسين أصواتهم في تلاوة القرآن؛ وعن أسهل الطرق وأيسر دروس تعليم المقامات؛ سيُدفع بهم قسرا إلى أروقة المقامات الموسيقية مالم يجدوا المناخ الملائم الذي ينتشلهم عن لججها وأوحالها, فمن المسئول عن ذلك حينئذ؟؟, وما هو البديل الآمن الذي وفره العاقلون لهم؟؟.
إننا بحاجة إلى منهجية سليمة لأجل توظيف الأصوات المميزة من شبابنا (حفظة كتاب الله) حتى يكونوا قراء وأئمة مساجد مدربين تدريبا جيدا على أجود ترتيل وأحسن أداء لا يخل بقواعد التجويد, ويعين في الوقت ذاته على الخشوع والإنصات والتفكر والتدبر فيما يُتلى, وقد ألف الإمام ابن الكيال (ت929ﻫ) رحمه الله كتاباً سماه: الأنجم الزواهر في تحريم القراءة بلحون أهل الفسق والكبائر؛ وقال في سبب تأليفه "وبعد فهذا كتاب مختصر مفيد في تحريم قراءة القرآن المجيد بلحون أهل الفسق والكبائر الداخلين في الوعيد, واستحباب قراءته وفضلها بلحون العرب وأصواتها, بالترتيل والتجويد"(8)
ويقول د. أيمن رشدي سويد في كتابه: البيان لحكم قراءة القرآن الكريم بالألحان والذي درس فيه باستفاضة جميع ما ورده من نصوص وآثار في هذا الموضوع وخلص في نهاية بحثه إلى قوله: "فالنتيجة التي انتهينا إليها من بحثنا هي أن قراءة القرآن الكريم بالأنغام المستفادة من علم الموسيقى حُكمها دائر بين الكراهة والحُرمة، فلا يرضينّ امرؤ لنفسه في قراءة كتاب الله تعالى إلا بأعلى الأمور، متّبعا غيرَ مبتدع، والحق أحق أن يُتبع"(9)
ويقول شيخ القراء في سورية الشيخ حسين خطاب: "خير ما يُسمَع من فم القراء ما يقال عنه: المصحف المرتل, المنسجم مع الطبيعة, والتي توجد معه هيبة القرآن" (10)
غير أن المشكلة التي تقف عقبة أمام تحقيق هذا الهدف هي عدم وجود طريق واضح آمن يسلكه حافظ كتاب الله لكي يساعده على توظيف إمكانياته الصوتية دون الاضطرار إلى دخول مستنقع علم المقامات الموسيقية, الذي لا يُؤمن على الداخل فيه أن يخرج منه بقلب سليم, فبالاستقراء والتتبع نجد أن أغلب محاولات تعليم التغني بالقرآن بواسطة علم المقامات تبدأ حذرة منضبطة إلى حد بعيد, لكنها تتحرر من الحذر كلما أبحرت بالطالب نحو عمق هذا العلم, فيجد المتعلم نفسه هو وقارئ النوتة الموسيقية سواء!.
إن الأحاديث والفتاوى الكثيرة التي تؤكد على تحريم قراءة القرآن بلحون أهل الفسق ـ ولا مجال لذكرها هنا اختصارا ـ وتحذر في الوقت ذاته من التساهل في ذلك؛ لابد أن تؤخذ بجدية, ولابد أن تكون مصدر قلق لمن يرغب في تعلم المقامات, فالذي يحرص على تحسين صوته في القرآن ثم يجد نفسه مضطراً إلى تعلم المقامات من أجل تحقيق هدفه؛ عليه أن يحذر, والوصول إلى غاية ما لا يبرر سلوك طريق يرى الأغلبية حرمته, والقليل هم من يرون جوازه, وبما أنه كذلك فهو في أحسن أحواله طريق مشتبه فيه, وحري بالعاقل الذي يرجو الوصول إلى رضا الله ألا يسلك دربَ شبهاتٍ, فلربما زلت قدمه فهوى.
ومن خلال تتبعي لهذا الموضوع لفت نظري ازدواجية عجيبة! فبالرغم من وجود عدد من المشايخ المعتبرين الذين يفتون بحرمة تعلم المقامات نجد أن بعضهم يمتدح في الوقت ذاته قراءة القراء الكبار كالشيخ عبد الباسط عبد الصمد والشيخ المنشاوي والشيخ الطبلاوي وغيرهم, وينعتونهم بالكبار!, وهؤلاء لم يولدوا كبارا دون أن يتعلموا, بل قد اشتهر عن بعض المشايخ القدامى أنهم كانوا يتعلمون قراءة القرآن بالمقامات الموسيقية, فهل يحسن بنا التغافل عن هذه المعلومة؟, وهل المقصود بالتحريم هي فترة التعليم ثم إذا ما أتقن القارئ وتناهى إلى أسماعنا إبداعه في التلاوة مُدح واستُعذب صوته وكان في حكم الحلال؟!.
ومن هنا كانت بواعث الفكرة ...
هذه التجربة وهذا النموذج التطبيقي هو ما شجعني وحمسني لدراسة هذه الفكرة ومن ثمّ طرحها للاستفادة منها, لسهولة تطبيقها وسرعة إنجازها وعظيم أثرها ونتائجها.
(1) فكرة المشروع:
على ضوء الواقع الذي فصلتُ الحديث فيه فإننا بحاجة إلى مشروع أوّليٍّ لحمايةِ التلاواتِ القرآنيةِ الشَّجيَّةِ المنضبطةِ تجويديًا من عبث علم المقامات الموسيقيّ الذي يشغلُ السَّامعَ عن التفكُّرِ والتَّدبُّرِ في الآيات, بحيث يقوم هذا المشروع على:
• جمع أجمل التلاوات التدبرية المنضبطة تجويديا من تسجيلات القراء المشاهير, ذلك الكنز الصوتي الذي نمتلكه, ولا يلزم حصرها وإنما جمع نماذج مختلفة ومتميزة منها.
• التعرّف على المقامات التي قُرأت بها تلك التلاوات من قبل المتخصصين ليسهل عليهم تصنيفها والتعامل معها, ومن ثمّ ..
• تغيير بعض مسمياتها ـ إن تيسر ذلك ـ بمسميات يغلب عليها الوصف أكثر من كونها أعلاما, كإطلاق وصف التحزين أو الحزن على مقام الصبا, والتعظيم على النهاوند وهكذا, وإلا فالأساس تركها بلا مسميات, فهدفنا ليس تغيير أسماء المقامات بقدر ما هو انتقاء التلاوات المنضبطة تجويديا لتكون نموذجا يحتذى به؛ أيا كان نوع ومسمى المقام الذي قُرأت به.
• عرض هذه الدراسة ـ بعد الانتهاء من إعداد ما سبق ـ على أهل العلم والقراء والمفتين المعنيين, لأخذ رأييهم وموافقتهم على صلاح هذه النماذج لتكون مادة مشروع يعين الشباب حفظة كتاب الله وأئمة المساجد على تحسين أصواتهم.
يأتي بعد مرحلة الإعداد السابق ذكرها مرحلة التنفيذ, وفيها يتم:
ترتيب النماذج التي تم انتقاؤها من الأسهل إلى الأصعب, ولنفترض أنها بلغت عشرين مقطعا, فنجعلها كبرنامج يأخذه الطالب ويتدرب عليه وحده دون معلم, فإذا ما أتقنه توجه إلى الجمعيات القرآنية التي تتبنى مثل هذا المشروع فيُجرى له اختبار فيها, ويكون الاختبار بتسميع نفس المقاطع الموجودة بالبرنامج مرتبة وبدرجة عالية من الإتقان, وحين يجيد المتعلم ذلك يُطلب منه القراءة بالتحزين مثلا, أو بنفس نغمة الشيخ فلان في النموذج العاشر, فيطبق المتعلم ذلك على آيات أخرى تختارها اللجنة غير تلك الموجودة في النماذج التي تدرب عليها, وفي حالة تميز الطالب في كل ذلك يُمنح شهادة في تحسين الصوت, هذه الشهادة ستزداد قيمتها يوما بعد يوم كلما أثبت المشروع نجاحه, وهذا ما أتوقعه له بإذن الله.
ومما سبق يتضح أن إعداد المشروع سيتطلب وقتا وجهدا, غير أن النتائج العظيمة المترتبة على تنفيذه تستحق ذلك الوقت وذلك الجهد, والجميل فيه أن تنفيذه سهل جدا, فهو لا يحتاج إلى دروس ومدرسين, وإنما يحتاج إلى جهد فردي مستند إلى خامة وإمكانيات صوت المتعلم.
(2) آليات تنفيذ المشروع:
• تكوين لجنة أو فريق عمل من أميز قراء القرآن الكريم وحفظته المهرة.
• توفر تسجيلات لأشهر قراء عالمنا العربي والإسلامي, وحبذا التركيز على تلاوات المتقدمين.
• الاستعانة بأكثر من متخصص في علم الصوتيات وعلم المقامات.
• توفر تقنيات حديثة لاقتصاص النماذج المختارة من تسجيلاتها.
قد يقف أمام تنفيذ هذا المشروع بعض العوائق وأهمها عدم وجود من يتبنى الفكرة ويؤمن بها, وكذلك صعوبة الاطلاع على جل التسجيلات القرآنية, والحرج من أخذ تلاوات لبعض القراء الأحياء دون غيرهم, والحرج أيضا من ترك تلاوات لبعض القراء الذين لا يتقنون التطبيق.
ميزة تعلم تحسين الصوت من تسجيلات القراء لا من أساتذة المقامات الموسيقية أنها تدرب الشباب وتعلمهم علوما بسيطة ونافعة لا تؤخذ إلا من المشايخ المقرئين, وهي رغم بساطتها تزين التلاوة وتبرز معانيها على أي مقام كانت, ولعل منها على سبيل المثال:
*الإتيان بالاستفهام في القراءة وهو بديلا لما يسمى في علم المقامات بالجواب, فلا يمر القارئ بسؤال ولا استفهام إلا وأشعرك به, فيحرك الفؤاد لقوة وقعه وتأثيره, ويدفع المستمع دفعا إلى التدبر في الآيات ومراد الله من الاستفهامات الواردة فيها.
*إعطاء فعل الأمر صوت الآمر الجازم, فتراه يحدّث المستمع كما لو أنه هو المقصود, مثال: "وكلوا واشربوا ولا تسرفوا"(11).
*الاعتناء بعلم الوقف والابتداء.
*تحقيق معنى الاستثناء صوتيا عند قراءة الآيات التي فيها استثناء, مثال: "ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم"(12).
*بث روح المعنى كما لو كان مصورا في بعض الكلمات مثل: "على"(13) "في" (14).
إلى آخر هذه الأمثلة التي يعتني بها كبار القراء, فنراهم بإتقانهم لفن خفض الصوت ورفعه يظهروا الشوق الصادق ـ وليس المفتعل ـ في آيات وصف النعيم, والوجل في آيات العذاب, ويبرزوا مواضع الخبر والاستفهام والعجب والاستنكار, ويحركوا القلوب بالوعد والوعيد, ويحسنوا تأدية الحوارات القصصية بتجسيدها, لذلك أرى أن إتقان خفض الصوت ورفعه فن يجدر الالتفات إليه والعناية به, فهو ليس مقصورا على مقام دون آخر, ولا يلزم لمن يريد تعلمه أن يتعلم علم المقامات, بل هو فن صوتي قائم بذاته.
وقد نقل الدكتور غانم قدوري الحمد في كتابه الدراسات الصوتية عند علماء التجويد قولا للدركزلي من كتابه المخطوط (خلاصة العجالة) يقول فيه: "قال بعض المحققين ينبغي أن يقرأ القرآن على سبعة نغمات: فما جاء من أسمائه تعالى وصفاته فبالتعظيم والتوقير, وما جاء من المفتريات عليه فبالإخفاء والترقيق, وما جاء من ذكر الجنة فبالشوق والطرب, وما جاء من ذكر النار والعذاب فبالخوف والرهب, وما جاء من الأوامر والنواهي فبالطاعة والرغبة, وما جاء من ذكر المناهي فبالإبانة والرهبة"(15).
ومن خلال إنصاتي لكثير من التلاوات المسجلة لعدد من القراء أثار انتباهي أن أي قارئ ذا صوت حسن أو مقبول؛ يستطيع أن يجبر المنصت له على التأثر بتلاوته تأثرا شديدا, بينما قارئ آخر صوته أجمل من القارئ الأول لا يحدث هذا التأثير فيمن ينصت له؛ رغم أن كلاهما يقرأ بنفس المقام.
بل إن قراءة الشيخ الواحد كالشيخ عبد الباسط عبد الصمد ـ رحمه الله ـ في سورة يوسف في تسجيلٍ عادي تختلف تماما عن تلاوته لها في الحفلات, والسبب هو عنايته بتجسيد الحوارات بواسطة (خفض الصوت ورفعه) في تلك الجلسات الهادئة بشكل عجيب, وفي أثناء إعداد بحثي هذا قرأت كلاما يوافق هذه النقطة تحديدا, حيث قال الدكتور إبراهيم الدوسري في كتابه إبراز المعاني بالأداء القرآني: "ولا جرم أن القراء يتباينون في تلاوتهم تبعا لتباين أصواتهم جودة وعذوبة, بيد أن حسن الأداء لا يتوقف من جهة الصوت على الخلق والتكوين, فكم من قارئ يقع صوته في النفوس أكثر ممن هو أندى منه صوتا, وما ذاك إلا لتوفر عوامل أخرى عند القارئ استدعت الاستماع والإصغاء إليه, ومن أهمها موافقة الكيفيات الصوتية قواعد التجويد ومعاني الألفاظ ومشاعر الوجدان, إذ التجويد هو الضابط لتفخيم حروفه وترقيقها وانحباس الصوت وجريانه, وأيضا المعاني وما تحدثه من انفعال وجداني هما العاملان في ارتفاع الصوت وانخفاضه وسرعته وبطئه"(16).
• أهداف المشروع .
هدف المشروع الأساسي: وضع منهجٍ تعليمي لتوظيفِ الأصواتِ الشجيَّةِ في محاكاةِ التلاوات المتقنة التي تم انتقاؤها بعناية من تسجيلات مشاهير القراء, حتى لا يضطر هؤلاء إلى دراسة علم الموسيقى, وتأسيا ببعض الأحاديث والآثار التي وردت عن السلف والتي تحث على تعلم القرآن من أهل القرآن وليس من غيرهم, فمن ذلك: قال علي رضي الله عنه: "إن رسول الله يأمركم أن تقرؤا كما علمتم"(17), وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: "اتبعوا ولا تبتدعوا, فقد كفيتم"(18), وعن همام بن الحارث قال: أتانا حذيفة في المسجد فقال: "يا معشر القراء ، اسلكوا الطريق؛ فوالله لئن سلكتموه لقد سبقتم سبقا بعيدا، ولئن أخذتم يمينا وشمالا لقد ضللتم ضلالا بعيدا"(19).
ويمكن جعل أهداف المشروع في النقاط التالية:
1. جذب شريحة من حفظة كتاب الله إلى تحسين أصواتهم في تلاوة كتاب الله.
2. حماية شريحة عريضة من شبابنا الغض الذين يضطرون من أجل تحسين تلاواتهم إلى تعلم المقامات الموسيقية والولوج في دروبها.
3. احترام الفتاوى المحرمة لتلاوة القرآن بالمقامات الموسيقية.
4. تحسن مستوى التطبيق التجويدي لدى المتعلم مع طول الاستماع إلى نماذج أصيلة لقراء مهرة متمكنين من تطبيق التجويد. وقد قال د. غانم الحمد في الدراسات الصوتية "وطريق تحسين الصوت في القراءة هو مراعاة أحكام التجويد لا مراعاة ما تقتضيه الألحان, وتزيين القراءة هو بإعطاء الحروف حقوقها من المخارج والصفات"(20).
5. ترسيخ مبدأ أن تطبيق التجويد هو المقدم على أي نغم في التلاوة, قال أبو عمرو الداني رحمه الله: "واعلموا أن كل حرف من حروف القرآن يجب أن يمكن لفظه, ويوفى حقه من المنزلة التي هو مخصوص بها, على ما حددناه ونحدده, ولا يبخس منه شيئا من ذلك, فيتحول عن صورته, ويزول عن صيغته, وذلك عند علمائنا في الكراهة والقبح كلحن الإعراب الذي يتغير فيه الحركات, وتنقلب به المعاني"(21)
وقد علق د.أحمد السديس على ذلك بقوله: "ومثل هذا يفوت على من يراعي جودة اللحن وحسن تناسقه, ولا يكون من أهل هذا الفن, فربما أفضى به هذا الأمر إلى المبالغة في مد الحروف, أو مد ما لا يمكن مده منها, لأن الغالب على من راعى الأنغام أن لا يراعي الأداء"(22)
6. الحفاظ على أسماع وقلوب حفظة كتاب الله من الاستماع إلى أنغام الموسيقى بحجة التعلم.
7. العمل بأصل معتبر في تعلم القرآن عن طريق أخذ المتأخر عن المتقدم وهكذا.
8. تخريج دفعات مميزة من الأئمة والقراء قادرين على أسر المستمع بتلاوتهم والتحليق به إلى آفاق التدبر والتأمل والتفكر.
9. سيتعلم المتعلم كيف يعيش مع معاني الآيات, وكذلك بعض الوقفات التفسيرية التدبرية من تلاوات كبار القراء, وهذا مما لا يمكن أن يتعلمه من أهل المقامات.
10. لاشك أن التعلم من أهل القرآن وطول الاستماع إلى تلاواتهم المتدبرة سيورث المتعلم خشية وخشوعا, وستعلمه مالا يمكن أن يعلمه إياه أهل الموسيقى.
يقول الإمام الآجري -رحمه الله-: " ينبغي لمن رزقه الله حسن الصوت بالقرآن أن يعلم أن الله قد خصَّه بخير عظيم فليعرف قدر ما خصه الله به ، وليقرأ لله لا للمخلوقين وليحذر من الميل إلى أن يستمع منه ليحظى به عند السامعين رغبة في الدنيا والميل إلى حسن الثناء والجاه عند أبناء الدنيا، والصلاة بالملوك دون الصلاة بعوام الناس، فمن مالت نفسه إلى ما نهيته عنه خفته أن يكون حسن صوته فتنة عليه ، وإنما ينفعه حسن صوته إذا خشي الله عز وجل في السر والعلانية وكان مراده أن يُستمع منه القرآن؛ لينتبه أهلُ الغفلة عن غفلتهم، فيرغبوا فيما رغبهم الله عز وجل وينتهوا عما نهاهم، فمن كانت هذه صفته انتفع بحسن صوته، وانتفع به الناس"(23)
وكم من مرة صليتَ خلف إمام لا يحسن نغمة تكبيراته, فيوحي لك طلوعه بالصوت بأنه قائم بينما هو جالس أو ساجد! وكم من إمام نبهتك تكبيرته ونبهت الأعجمي الذي بجوارك أنه ينوي السجود لا الركوع ليأتي بسجدة تلاوة.
إن حاجتنا لوضع سياج آمنة في طريق شبابنا من حفظة كتاب الله وأئمة المساجد الساعين إلى تحسين أصواتهم في كتاب الله لهي حاجة ماسة, وضرورة ملحة, خاصة في زمن كثرت فيه الفتن, واستحل فيه طائفة من الناس الغناء والمعازف, وتفنن أعداء الأمة في تلقف شبابنا الغض (فتيان وفتيات) من بيئاتهم وعاداتهم وتقاليدهم ومبادئ دينهم ودفعهم إلى بيئات منحطة في طريقهم إلى عالم النجومية والاحتراف لمجرد أنهم يمتلكون أصواتا ندية!
فما الذي يمنعنا من أن نَهِبَّ لنسخر هذه الأصوات المميزة بأيدينا لكي تتزين بالقرآن وتتغنى به؟ ولأجل أن تهتز بها محاريب المساجد وتخشع بها قلوب القائمين الراكعين الساجدين؟.
ومن خلال بحثي في هذا الموضوع أدون أبرز النتائج والتوصيات:
• القارئ حسن الصوت المتقن للأداء الصوتي والتجويدي يدفع المستمع دفعا لتدبر آيات الله, خاصة فيما لو تفكر فيها القارئ وعاش في معانيها بكل أحاسيسه.
• إن قراءنا المهرة خاصة وأهل القرآن عامة هم خير من يؤخذ عنهم التلاوة الصحيحة التي تدفع السامع إلى التدبر, وهم خير من يتعلم منهم تحسين الأصوات في تلاوة القرآن.
• إدراك أن ثمة إقبال متزايد من حفظة كتاب الله على البحث والاستفسار عن وسائل تحسين أصواتهم في تلاوة القرآن, وإدراك أن السواد الأعظم من هؤلاء يجدون حاجتهم عند أساتذة المقامات الموسيقية الذين يحسنون تلقفهم.
• واقع تعلم المقامات الموسيقية واقع يحتاج إلى وقفة, ويجب الحذر منه فقد يودي المهالك.
• الحذر من الانسياق خلف أهل المقامات الموسيقية في أعماق وسراديب علمهم بمبرر الحاجة إلى تحسين الصوت في تلاوة القرآن تعبدا لله!
• ضرورة قيام الجهات والمؤسسات القرآنية التي تسعى لخدمة القرآن وأهله بتبني مشاريع تحمي حفظة كتاب الله من الوقوع بين يدي الموسيقيين.
• كما أوصي بالاستفادة من فكرة هذا المشروع ومحاولة تطبيقه لما له من احتياج يفرضه الواقع, وأنا لا أدعي أن مشروعا كهذا هو كاف لتحقيق الهدف العظيم الذي أصبو إليه؛ وإنما هو فكرة تنتظر من يفعلها وينقلها إلى أرض الواقع, ثم يكمل ما تراءى له فيها من جوانب نقص, ثم يبتكر ليلحق بها أفكارا أخرى كلها تصب في نفس الهدف, غيرة لكتاب الله وغيرة على أهل القرآن من الانصراف عن تدبره وتلاوته تلاوة تجويدية صحيحة إلى عالم المقامات الموسيقية وعالم الطرب.
أسأل الله أن يتقبل منا صالح أعمالنا, ويجعلها خالصة لوجهه, وينفع بها الأمة, ويجعلها ذخرا لنا يوم نلقاه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
(2): أخرجه البخاري في كتاب التوحيد, برقم/7527
(3):أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن (44ظ ـ 45و), وقال المنذري في الترغيب والترهيب (3/180): رواه أحمد وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والحاكم والبيهقي.
(4):واه البيهقي في " سننه " ( 3 / 12 ) وقال الألباني – في " صحيح أبي داود " ( 5 / 232 ) - : سنده جيد على شرط مسلم.
(5):فتح الباري 9/72
(6): أخرجه البخاري في خلق أفعال العباد برقم (84 ـ ص82 )
(7): فتح الباري 8/690
(8): الأنجم الزواهر في تحريم القراءة بلحون أهل الفسق والكبائر, ص25
(9): البيان لحكم قراءة القرآن الكريم بالألحان, د. أيمن سويد , ص47 (10):
(10):نقله عنه الدكتور أيمن رشدي سويد في كتابه: البيان لحكم قراءة القرآن الكريم بالألحان, ص49
(11): الأعراف: ٣١
(12): آل عمران: 73
(13): البقرة: ٥
(14): البقرة: 10
(15): الدراسات الصوتية عند علماء التجويد-غانم قدوري الحمد, ص480
(16): إبراز المعاني بالأداء القرآني, د.إبراهيم الدوسري, ص45
(17): أخرجه الإمام أحمد في مسنده (ج 2 حديث رقم 6815)
(18): أورده السخاوي في المقاصد الحسنة, حديث رقم (16)
(19): أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة, باب الاقتداء بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم, رقم: (7282), وأورده ابن مجاهد في السبعة: (ص46)
(20): الدراسات الصوتية قدوري الحمد ص477
(21): التحديد في الإتقان والتجويد / 118
(22): التغني بالقرآن د.أحمد السديس ص42
(23): أخلاق حملة القرآن, لأبي يكر محمد الآجري ص 109
2. إبراز المعاني بالأداء القرآني, أ.د. إبراهيم بن سعيد الدوسري, ط1, 1428هـ ـ 2007م, دار الحضارة للنشر والتوزيع, الرياض.
3. أخلاق حملة القرآن, أبي بكر محمد بن الحسين الآجري (360هـ) تحقيق الدكتور غانم قدوري الحمد, ط1,1429هـ ـ 2008م , دار عمار للنشر والتوزيع, الأردن.
4. الأنجم الزواهر في تحريم القراءة بلحون أهل الفسق والكبائر, زين الدين أبي البركات محمد بن أحمد بن محمد المعروف بأبي الكيال الشافعي, دراسة وتحقيق الدكتور عيسى بن ناصر الدريبي, ط1,1433هـ ـ 2012م , دار الحضارة للنشر والتوزيع. الرياض.
5. البيان لحكم قراءة القرآن الكريم بالألحان, د. أيمن سويد, ط1, 1412هـ ـ 1991م, الجماعة الخيرية لتحفيظ القرآن بجدة.
6. التحديد في الإتقان والتجويد, الإمام عمرو الداني, تحقيق د.غانم قدوري الحمد, ط1, 1407هـ , مكتبة دار الأنبار.
7. الترغيب والترهيب من الحديث الشريف, للمنذري عبد العظيم بن عبد القوي, تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد, ط2, 1393هـ ـ 1973م.
8. التغني بالقرآن, دراسة تأصيلية حول صفة التغني الواردة في السنة, د. أحمد بن علي السديس, ط1, آيات للنشر والتوزيع.
9. الدراسات الصوتية عند علماء التجويد, د. غانم قدوري الحمد, ط1, 1424هـ ـ 2003م , دار عمار للنشر والتوزيع, الأردن.
10. السنن الكبرى للبيهقي أحمد بن الحسين (ت458هـ) تحقيق محمد عبد القادر عطا, طبع سنة: 1414هـ, مكتبة دار الباز, مكة.
11. صحيح البخاري, أبو عبدالله بن اسماعيل البخاري, تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي ومحب الدين الخطيب, المطبعة السلفية.
12. صحيح سنن أبي داود، للشيخ محمد ناصر الدين الألباني (ت1420ه)، ط:1، 1423ه, دار غراس، الكويت.
13. فتح الباري بشرح صحيح البخاري, للإمام أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (773 ـ 852هـ ), دار المعرفة, بيروت.
14. فضائل القرآن ومعالمه وآدابه ؛ للعلامة أبي عبيد القاسم بن سلام الهروي (157 ـ 224 هـ) حققه وشرحه وعلق عليه: مروان العطية, محسن خرابة, وفاء تقي الدين, دار ابن كثير, دمشق ـ بيروت.
15. كتاب السبعة في القراءات, لأبي بكر أحمد بن موسى بن مجاهد البغدادي, تحقيق: د.شوقي ضيف, ط3, دار المعارف.
16. مسند الإمام أحمد, حققه شعيب الأرناؤوط وعادل مرشد, ط1, 1416هـ, مؤسسة الرسالة, بيروت.
17. المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على السنة، لأبي الخير محمد بن عبد الرحمن السخاوي (ت902ه)، تحقيق: عبد الله الصديق، (ط:1)، 1399ه دار الكتب العلمية، بيروت.
ورقة عمل في المحور الثالث من محاور المؤتمر العالمي الأول لتدبر القرآن الكريم: محور تدبر القرآن وأثره في حياتنا الجانب العملي)
((مشروعُ تقعيد التلاواتِ التدبريّةِ المجوَّدَةِ لدى النشءِ, عوضًا عن تعلِّم علمِ المقاماتِ الموسيقيِّة))
إعـــداد: أ.حفصة محمد سعد اسكندراني
((مشروعُ تقعيد التلاواتِ التدبريّةِ المجوَّدَةِ لدى النشءِ, عوضًا عن تعلِّم علمِ المقاماتِ الموسيقيِّة))
إعـــداد: أ.حفصة محمد سعد اسكندراني
بسم1
المقدمة
الحمد لله الذي أنزل علينا القرآن خير كتبه, وجعله آية ومعجزة بين يدي خير رسله, كتاب عزيز حكيم, هدى وموعظة للمتقين, يجذب النَّفوس ويبهرها, ويغذّي الأرواحَ ويأسرها, ويطلقُ العقول بالتأمّل والتفكّر, والتّروي والتّدبر, ويحرّرها من أغلال الجهل والخرافات.كتابٌ "لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه"(1), عميقُ المعاني, عذبُ الإيقاع, بليغُ المقاطع, وجيزُ العبارة, له في السّمع حلاوة تستدعي الإنصات له, وله في القلب وقعٌ يستدعي الإيمان به.
فيه جوامع الكلم, وجوامع الأخبار, وجوامع الإعجاز, وجوامع الأخلاق, وجوامع كل رقيّ وفلاح.
ما يمسّ قلب امرئ إلا وتهتزّ أعماقه, وتنبت أرضه, ويتفتح زهره, فتعانق روحه سمواً وجمالا وروعة لا يُعرف لها مثيل ولا تشبيه.
فالحمد لله أولاً وآخرًا, وظاهراً وباطناً كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه, ثم الصلاة والسلام على سيد المرسلين, محمد الصادق الأمين, المبعوث رحمة للعالمين, وعلى آله وصحبه.
أما بعد.. أتقدم بهذه الورقة كمقترح مشروع أرجو أن ينفع الله به شريحة الأجيال الناشئة من حفظة كتاب الله, لاسيما الذين يمتلكون منهم أصوتا شجية, وإني ـ يعلم الله ـ لـم أتجرأ على الكتابة في هذا الموضوع إلا بعد أن تعمقتُ قليلا في علم المقامات, فاستمعتُ إلى الكثير من دروسها, وقرأتُ في أصولها وفروعها, وتتبعتُ آراء كبار العلماء ومشاهير القراء فيها, وقد قضيتُ في بحثي هذا شهوراً, واطلعتُ على آراء بعض طلاب العلم من جيل الشباب المهتمين بعلم المقامات, ودارت نقاشات بيني وبين أحد المتخصصين في علم المقامات على صفحات ملتقى أهل التفسير, وأعتقد أن ذلك قد أضاف إليّ كثيرا, وفي مشواري هذا كنتُ أتبنى أفكاراً أميل فيها إلى ضرورة تعليم النشء لعلم المقامات مع تغيير مسمياتها وتعريب الأعجمي منها؛ ثم رأيتُ التراجع عن ذلك الرأي لـمّـا تراءى لي ما هو خير منه, ولم أكن أفعل ذلك لهدف معين بقدر ما كان رغبة مني في استيعاب هذا الجانب والتعمق فيه للخروج بتصور واضح عن ماهيته, خاصة مع كوني معلمة قرآن أُدَرِّس معلمات القرآن الكريم وأُعِدُّهُنَّ لمهمة تعليم كتاب الله, وكم تردني أسئلة منهن تدور حول هذا الموضوع, لذا رأيت ضرورة الخوض فيه.
ولقد اقتضت طبيعة البحث أن أقسمه إلى مقدمة, وتمهيد, ومبحثين, وخاتمة, وذلك على النحو الآتي:
*المقدمة.
*التمهيد.
* المبحث الأول: تأثير الترتيل المتقن على تدبر القارئ والمستمع.
* المبحث الثاني: مشروع تقعيدُ التلاواتِ التدبريّةِ المجوَّدةِ لدى النشءِ, عوضا عن تعلِّم علمِ المقاماتِ الموسيقيِّة.
*المطلب الأول: بواعث فكرة المشروع.
* المطلب الثاني: فكرة المشروع, وآليات تنفيذه.
* المطلب الثالث: مميزات المشروع وأهدافه.
* الخاتمة: وفيها أهم النتائج والتوصيات.
والله أسأل أن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل, وأن يكلل أعمالنا بالقبول وعظيم الأجر والمثوبة.
التمهيد
قبل البدء يهمني أن أوضح للقارئ أن موقفي من حكم القراءة بالمقامات هو أنني أميل لمن يحرّمها, وفي الوقت ذاته أدرك وأعي أن لا أحد يقرأ القرآن ولا يصدر صوتا منغما إلا وهو موافق لمقام من المقامات, عرف ذلك أم لم يعرف, وأقر به أم لم يقر, غير أني أوافق القائلين بالتحريم في غيرتهم على كتاب الله, وأؤمن أن تعلم المقامات مشغل عن التدبر, وبه الكثير من العبث الذي لا يليق بآيات الله, فبالرغم من أن الثمرة الآجلة المترتبة على تعلم المقامات قد تكون ثمرة نافعة وذات أثر قوي مبهر تدفع بالمستمع دفعا إلى التدبر؛ لكنني أظن أن الوصول إلى التدبر أيسر من سلوك ذلك الدرب, فمخاطر الولوج في هذا الطريق ليست بالهينة, والأعمار أقصر من أن نضيعها في طريق طويل محفوف بالمخاطر لأجل الوصول إلى هدف التدبر؛ رغم أن الخط المستقيم إليه أقرب وأيسر.ولقد سرتُ خطوات في هذا الطريق الخطر لأكتشفه, ولألقي الضوء على بعض خفاياه وزواياه, بل وملتُ أول الأمر إلى رفض رأي القائلين بالتحريم جملة وتفصيلا, ثم حاولتُ التروي والتأمل, والانغماس والتعمق بتجرد لأجل الحكم بإنصاف ودقة على واقعنا, ولأجل البحث عن طريق آمن بين الفريقين ـ من أباح, ومن حرم ـ طريق يأخذ بيد شبابنا إلى الهدف المنشود دون المخاطرة بفعل محرم ـ على رأي المحرمين ـ ودون العبث والتساهل الذي يقع فيه فريق المبيحين لدراسة علم المقامات.
المبحث الأول: تأثير الترتيل المتقن على تدبر القارئ والمستمع
لقد اعتنت الأمة الإسلامية في كل عصورها ـ ولا تزال ـ بانتقاء أئمة المساجد وأئمة التراويح من ذوي الأصوات الشجية العذبة المميزة, لما لهم من تأثير بالغ في خشوع قلوب المصلين, وتدبر عقولهم لما يُتلى عليهم, ومضاعفة إقبالهم على الإنصات والطاعة, وقد أخرج البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى اللله عليه وسلم: "ليس منا من لم يتغن بالقرآن"(2) وقال عليه السلام: "لله أشد أذانا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى القينة"(3).ولا يخفى على أحد مطّلعٍ منصفٍ ما للأصوات الشّجيّة من أثر في دفع السامع إلى تدبر آيات الله, بل إن هذه الأصوات الخاشعة قادرة على جذب الانتباه إلى معاني الآيات ومقاصدها؛ وما فيها من قصص وأحداث؛ وما ورائها من أسباب نزول, ليس هذا فحسب؛ بل إن أعين الأعاجم قد تذرف دموعَ خشيةٍ من مجرد سماع ترتيل شجيّ آسِر لآيات الله.
إن القارئ حسن الصوت المتقن للأداء الصوتي لا يتلو الآيات مجرد تلاوة؛ وإنما يعيش داخل الآيات فتلامس قلبه وإحساسه, وينصهر وجدانه معها كلمة كلمة, ومعنى معنى, فتأتي تلاوته عذبة متدبرة, يقف المنصت لتلاوته مبهوراً, ويكاد يجزم أنه يسمع الآيات لأول مرة.
عَنْ أَبِى موسى الأشعري قال : قال لي رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "لَوْ رَأَيتني وَأنا أَسمع قراءتك الْبارحة لقد أُوتِيتَ مزماراً منْ مزاميرِ آلِ داودَ" قال: "لَوْ علِّمتُ لحَبَّرْتُهُ لك تَحْبِيرا"(4).
قال الإمام ابن حجر رحمه الله: "ولا شك أن النفوس تميل إلى سماع القراءة بالترنم أكثر من ميلها لمن لا يترنم, لأن للتطريب تأثيراً في رقة القلب وإجراء الدمع, وكان بين السلف اختلاف في جواز القراءة بالألحان, أما تحسين الصوت وتقديم حسن الصوت على غيره؛ فلا نزاع في ذلك" (5)
ولعلنا لو تأملنا نماذج من أشهر قرائنا المعاصرين في العالم الإسلامي فسنجد أنهم امتلكوا ثلاث مقومات مكنتهم من التأثير القوي الذي يزداد يوما بعد يوم رغم وفاة بعضهم, هذه المقومات ـ من وجهة نظري ـ هي:
1. خامة الصوت الجيدة.
2. ومهارة استخدام الصوت.
3. والعيش مع الآيات والتأثر والتفكر بها.
واجتماع هذه المقومات في تلاوة يضفي عليها رونقاً وتأثيراً عميقاً بمعانيها.
ولو أن قارئاً لا يملك خامة صوت جيدة فإنه لن يحسن مهارة الأداء الصوتي, وبالتالي لن يتمكن من التأثير على المستمع بسهولة, وكذلك القارئ الذي يمتلك خامة صوت جيدة مع مهارات في تأدية وإخراج هذا الصوت؛ لكنه لا يعيش مع الآيات ولا تلامس قلبه وفكره بل همه مُنصَب على التركيز في استعراض مهارته الصوتية؛ فإن تلاوته وإن كانت جميلة إلا أنها تظل ينقصها أحد المقومات الأساسية وهو الإحساس العالي بمعاني الآيات, فترى السامع منشغل هو الآخر بالمهارات الأدائية أكثر من إنصاته للكلمات والمعاني, لذا لابد من توفر الثلاثة مقومات لأجل الحصول على تلاوة نموذجية مؤثرة.
ويمكن القول بأن من امتلك خامة الصوت الجيدة؛ وأتى بالثالثة فعاش مع الآيات وتدبرها وأحسن التفكر بها؛ لكنه لم يتقن مهارات مميزة في استخدام صوته؛ فإنني أزعم أن له تأثيرا عجيباً أيضا في آذان وقلوب المنصتين له وإن قرأ على وتيرة واحدة.
المبحث الثاني: مشروع تقعيدُ التلاواتِ التدبريّةِ المجوَّدةِ لدى النشءِ, عوضا عن تعلِّم علمِ المقاماتِ الموسيقيِّة.
وفيه:
*المطلب الأول: بواعث فكرة المشروع.
* المطلب الثاني: فكرة المشروع, وآليات تنفيذه.
* المطلب الثالث: مميزات المشروع وأهدافه
وفيه:
*المطلب الأول: بواعث فكرة المشروع.
* المطلب الثاني: فكرة المشروع, وآليات تنفيذه.
* المطلب الثالث: مميزات المشروع وأهدافه
المطلب الأول: بواعث فكرة المشروع
إن المتأمل لواقعنا سيجد أن الكثير من الإمكانيات الصوتية المبهرة متوفرة لدينا في شبابنا الناشئ من حفظة كتاب الله, غير أن هذه الحناجر الذهبية إما أن تندثر, وإما أن تنصرف عن القرآن إلى الإنشاد, ومن استمر منهم على توظيف حنجرته في تلاوة كتاب الله فهو لا يخلو من حالتين: إما أن يعتمد على تنميته لمهاراته الصوتية ذاتيا, أو يكون عرضة لأن تتلقفه أيدي أساتذة المقامات, وقد يحجم البعض منهم عن ذلك احتراماً للنهي الصريح ولفتاوى التحريم, والبعض الآخر ينجرف مع هؤلاء في هاوية المحظور, فنرى القارئ الفتيَّ يتدرب بين يدي مايسترو حقيقي يقرأ القرآن طلوعاً ونزولا كما تُتلى النوتة الموسيقية!, وتراه ينصرف تماما عن الآيات التي يقرأها وعن التطبيق وسائر التجويد, ويجعل جل اهتمامه منصب على اللحن, وعلى سلاسة التحول من مقام إلى مقام, والإتيان بالقرار والجواب وما إلى ذلك, وهذا بلا شك واقع مؤسف ومؤلم لا بد له من وقفة حاسمة لتداركه.وفي زمننا الحاضر تفشت ظاهرة تعلم المقامات بين قراء القرآن بشكل لم نعهده من قبل في عالمنا العربي والإسلامي, وانتشرت برامج تعليم المقامات في الإذاعات والفضائيات وغيرها, كما كَثُرَت مقاطع الفديو على موقع (اليوتيوب) التي تعرض نماذج لتلاوات القرآن الكريم بمقامات مختلفة, وكذلك دروس تعليم المقامات.
ولقد شاهدنا الكثير من المقاطع على (اليوتيوب) لأطفال مبدعين في قراءتهم للقرآن لكنهم للأسف يتعلمون بين يدي من يقول لهم: إإتني بالدرجة الرابعة من مقام السيكا!
هات الآية التالية بمقام السوزنار!
أو ابدأ الآية بيات ثم اقفل عجم!إن هذا الواقع المزري يدفعنا للبحث عن حلول, ربما البعض لا يعني لهم ولا يؤلمهم أن يتحول طفل أو شاب متدبر وخاشع في تلاوته لكتاب الله إلى مؤدي ألحان همه الطرب والأوزان, وعد وإحصاء تفريعات كل مقام؛ لكننا نتألم من ذلك, وإغلاق الباب أمام الطاقات الصوتية الناشئة ليس حلا فاعلا, فهناك نوافذ أخرى مشرعة لهم, وخلفها فضاء رحب يرحب بهم ويتلقفهم ليحتضن إبداعاتهم!, وهذا الواقع يثير غيرتنا على كتاب الله, ولابد أن تكون هذه الغيرة موزونة عاقلة مستبصرة بالواقع ومدركة لأبعاد المشكلة دون إفراط ولا تفريط, وعلينا في الوقت ذاته أن نلاحظ ونرقب بقلق كمية الأسئلة التي أصبحت ترد في هذا الموضوع بإلحاح من عامة الناس في صفحات الإنترنت ومواقع التواصل أو برامج الاستفتاء وغيرها, ومن يسعى لتحسين صوته في القرآن لا يلام, فعن البراء بن عازب رضي الله عنه, عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "زينوا القرآن بأصواتكم"(6) وقال الإمام ابن حجر رحمه الله: "والذي يتحصل من الأدلة: أن حسن الصوت بالقرآن مطلوب, فإن لم يكن حسنا فليحسنه ما استطاع"(7).
فهؤلاء الذين يسألون عن كيفية تحسين أصواتهم في تلاوة القرآن؛ وعن أسهل الطرق وأيسر دروس تعليم المقامات؛ سيُدفع بهم قسرا إلى أروقة المقامات الموسيقية مالم يجدوا المناخ الملائم الذي ينتشلهم عن لججها وأوحالها, فمن المسئول عن ذلك حينئذ؟؟, وما هو البديل الآمن الذي وفره العاقلون لهم؟؟.
إننا بحاجة إلى منهجية سليمة لأجل توظيف الأصوات المميزة من شبابنا (حفظة كتاب الله) حتى يكونوا قراء وأئمة مساجد مدربين تدريبا جيدا على أجود ترتيل وأحسن أداء لا يخل بقواعد التجويد, ويعين في الوقت ذاته على الخشوع والإنصات والتفكر والتدبر فيما يُتلى, وقد ألف الإمام ابن الكيال (ت929ﻫ) رحمه الله كتاباً سماه: الأنجم الزواهر في تحريم القراءة بلحون أهل الفسق والكبائر؛ وقال في سبب تأليفه "وبعد فهذا كتاب مختصر مفيد في تحريم قراءة القرآن المجيد بلحون أهل الفسق والكبائر الداخلين في الوعيد, واستحباب قراءته وفضلها بلحون العرب وأصواتها, بالترتيل والتجويد"(8)
ويقول د. أيمن رشدي سويد في كتابه: البيان لحكم قراءة القرآن الكريم بالألحان والذي درس فيه باستفاضة جميع ما ورده من نصوص وآثار في هذا الموضوع وخلص في نهاية بحثه إلى قوله: "فالنتيجة التي انتهينا إليها من بحثنا هي أن قراءة القرآن الكريم بالأنغام المستفادة من علم الموسيقى حُكمها دائر بين الكراهة والحُرمة، فلا يرضينّ امرؤ لنفسه في قراءة كتاب الله تعالى إلا بأعلى الأمور، متّبعا غيرَ مبتدع، والحق أحق أن يُتبع"(9)
ويقول شيخ القراء في سورية الشيخ حسين خطاب: "خير ما يُسمَع من فم القراء ما يقال عنه: المصحف المرتل, المنسجم مع الطبيعة, والتي توجد معه هيبة القرآن" (10)
غير أن المشكلة التي تقف عقبة أمام تحقيق هذا الهدف هي عدم وجود طريق واضح آمن يسلكه حافظ كتاب الله لكي يساعده على توظيف إمكانياته الصوتية دون الاضطرار إلى دخول مستنقع علم المقامات الموسيقية, الذي لا يُؤمن على الداخل فيه أن يخرج منه بقلب سليم, فبالاستقراء والتتبع نجد أن أغلب محاولات تعليم التغني بالقرآن بواسطة علم المقامات تبدأ حذرة منضبطة إلى حد بعيد, لكنها تتحرر من الحذر كلما أبحرت بالطالب نحو عمق هذا العلم, فيجد المتعلم نفسه هو وقارئ النوتة الموسيقية سواء!.
إن الأحاديث والفتاوى الكثيرة التي تؤكد على تحريم قراءة القرآن بلحون أهل الفسق ـ ولا مجال لذكرها هنا اختصارا ـ وتحذر في الوقت ذاته من التساهل في ذلك؛ لابد أن تؤخذ بجدية, ولابد أن تكون مصدر قلق لمن يرغب في تعلم المقامات, فالذي يحرص على تحسين صوته في القرآن ثم يجد نفسه مضطراً إلى تعلم المقامات من أجل تحقيق هدفه؛ عليه أن يحذر, والوصول إلى غاية ما لا يبرر سلوك طريق يرى الأغلبية حرمته, والقليل هم من يرون جوازه, وبما أنه كذلك فهو في أحسن أحواله طريق مشتبه فيه, وحري بالعاقل الذي يرجو الوصول إلى رضا الله ألا يسلك دربَ شبهاتٍ, فلربما زلت قدمه فهوى.
ومن خلال تتبعي لهذا الموضوع لفت نظري ازدواجية عجيبة! فبالرغم من وجود عدد من المشايخ المعتبرين الذين يفتون بحرمة تعلم المقامات نجد أن بعضهم يمتدح في الوقت ذاته قراءة القراء الكبار كالشيخ عبد الباسط عبد الصمد والشيخ المنشاوي والشيخ الطبلاوي وغيرهم, وينعتونهم بالكبار!, وهؤلاء لم يولدوا كبارا دون أن يتعلموا, بل قد اشتهر عن بعض المشايخ القدامى أنهم كانوا يتعلمون قراءة القرآن بالمقامات الموسيقية, فهل يحسن بنا التغافل عن هذه المعلومة؟, وهل المقصود بالتحريم هي فترة التعليم ثم إذا ما أتقن القارئ وتناهى إلى أسماعنا إبداعه في التلاوة مُدح واستُعذب صوته وكان في حكم الحلال؟!.
ومن هنا كانت بواعث الفكرة ...
المطلب الثاني: فكرة المشروع وآليات تنفيذه
قبل أن أعرج على فكرة المشروع أود أن أعرض تجربة متميزة قمتُ بها بنفسي, ومن خلالها تبلورت فكرة المشروع في ذهني, فلقد قمتُ باختيار عدة مقاطع قرآنية مميزة من ناحية الأداء الصوتي والتطبيقي, ثم أعطيتها لشقيقتي التي لاحظتُ امتلاكها لخامة صوت جيدة, لكنها لا تحسن توظيفها في كتاب الله, فطلبتُ منها التدرب على تقليد تلك المقاطع تدريبا مكثفا, وبالفعل أتقنتْ تقليدها دون الحاجة إلى معرفة أسماء مقاماتها أو السلم الموسيقي لكل مقام, واكتسب صوتها ثقة لم تكن فيه من قبل, فأبهرتْ بحسن صوتها وسلاسة أدائها معلماتها فأصبحتْ تقرأ في أغلب الحفلات التي تقام في مدرستها, بل وتم اختيارها لتتلو القرآن في بعض حفلات وزارة التربية والتعليم. هذه التجربة وهذا النموذج التطبيقي هو ما شجعني وحمسني لدراسة هذه الفكرة ومن ثمّ طرحها للاستفادة منها, لسهولة تطبيقها وسرعة إنجازها وعظيم أثرها ونتائجها.
(1) فكرة المشروع:
على ضوء الواقع الذي فصلتُ الحديث فيه فإننا بحاجة إلى مشروع أوّليٍّ لحمايةِ التلاواتِ القرآنيةِ الشَّجيَّةِ المنضبطةِ تجويديًا من عبث علم المقامات الموسيقيّ الذي يشغلُ السَّامعَ عن التفكُّرِ والتَّدبُّرِ في الآيات, بحيث يقوم هذا المشروع على:
• جمع أجمل التلاوات التدبرية المنضبطة تجويديا من تسجيلات القراء المشاهير, ذلك الكنز الصوتي الذي نمتلكه, ولا يلزم حصرها وإنما جمع نماذج مختلفة ومتميزة منها.
• التعرّف على المقامات التي قُرأت بها تلك التلاوات من قبل المتخصصين ليسهل عليهم تصنيفها والتعامل معها, ومن ثمّ ..
• تغيير بعض مسمياتها ـ إن تيسر ذلك ـ بمسميات يغلب عليها الوصف أكثر من كونها أعلاما, كإطلاق وصف التحزين أو الحزن على مقام الصبا, والتعظيم على النهاوند وهكذا, وإلا فالأساس تركها بلا مسميات, فهدفنا ليس تغيير أسماء المقامات بقدر ما هو انتقاء التلاوات المنضبطة تجويديا لتكون نموذجا يحتذى به؛ أيا كان نوع ومسمى المقام الذي قُرأت به.
• عرض هذه الدراسة ـ بعد الانتهاء من إعداد ما سبق ـ على أهل العلم والقراء والمفتين المعنيين, لأخذ رأييهم وموافقتهم على صلاح هذه النماذج لتكون مادة مشروع يعين الشباب حفظة كتاب الله وأئمة المساجد على تحسين أصواتهم.
يأتي بعد مرحلة الإعداد السابق ذكرها مرحلة التنفيذ, وفيها يتم:
ترتيب النماذج التي تم انتقاؤها من الأسهل إلى الأصعب, ولنفترض أنها بلغت عشرين مقطعا, فنجعلها كبرنامج يأخذه الطالب ويتدرب عليه وحده دون معلم, فإذا ما أتقنه توجه إلى الجمعيات القرآنية التي تتبنى مثل هذا المشروع فيُجرى له اختبار فيها, ويكون الاختبار بتسميع نفس المقاطع الموجودة بالبرنامج مرتبة وبدرجة عالية من الإتقان, وحين يجيد المتعلم ذلك يُطلب منه القراءة بالتحزين مثلا, أو بنفس نغمة الشيخ فلان في النموذج العاشر, فيطبق المتعلم ذلك على آيات أخرى تختارها اللجنة غير تلك الموجودة في النماذج التي تدرب عليها, وفي حالة تميز الطالب في كل ذلك يُمنح شهادة في تحسين الصوت, هذه الشهادة ستزداد قيمتها يوما بعد يوم كلما أثبت المشروع نجاحه, وهذا ما أتوقعه له بإذن الله.
ومما سبق يتضح أن إعداد المشروع سيتطلب وقتا وجهدا, غير أن النتائج العظيمة المترتبة على تنفيذه تستحق ذلك الوقت وذلك الجهد, والجميل فيه أن تنفيذه سهل جدا, فهو لا يحتاج إلى دروس ومدرسين, وإنما يحتاج إلى جهد فردي مستند إلى خامة وإمكانيات صوت المتعلم.
(2) آليات تنفيذ المشروع:
• تكوين لجنة أو فريق عمل من أميز قراء القرآن الكريم وحفظته المهرة.
• توفر تسجيلات لأشهر قراء عالمنا العربي والإسلامي, وحبذا التركيز على تلاوات المتقدمين.
• الاستعانة بأكثر من متخصص في علم الصوتيات وعلم المقامات.
• توفر تقنيات حديثة لاقتصاص النماذج المختارة من تسجيلاتها.
قد يقف أمام تنفيذ هذا المشروع بعض العوائق وأهمها عدم وجود من يتبنى الفكرة ويؤمن بها, وكذلك صعوبة الاطلاع على جل التسجيلات القرآنية, والحرج من أخذ تلاوات لبعض القراء الأحياء دون غيرهم, والحرج أيضا من ترك تلاوات لبعض القراء الذين لا يتقنون التطبيق.
المطلب الثالث: مميزات المشروع وأهدافه.
• مميزات المشروعميزة تعلم تحسين الصوت من تسجيلات القراء لا من أساتذة المقامات الموسيقية أنها تدرب الشباب وتعلمهم علوما بسيطة ونافعة لا تؤخذ إلا من المشايخ المقرئين, وهي رغم بساطتها تزين التلاوة وتبرز معانيها على أي مقام كانت, ولعل منها على سبيل المثال:
*الإتيان بالاستفهام في القراءة وهو بديلا لما يسمى في علم المقامات بالجواب, فلا يمر القارئ بسؤال ولا استفهام إلا وأشعرك به, فيحرك الفؤاد لقوة وقعه وتأثيره, ويدفع المستمع دفعا إلى التدبر في الآيات ومراد الله من الاستفهامات الواردة فيها.
*إعطاء فعل الأمر صوت الآمر الجازم, فتراه يحدّث المستمع كما لو أنه هو المقصود, مثال: "وكلوا واشربوا ولا تسرفوا"(11).
*الاعتناء بعلم الوقف والابتداء.
*تحقيق معنى الاستثناء صوتيا عند قراءة الآيات التي فيها استثناء, مثال: "ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم"(12).
*بث روح المعنى كما لو كان مصورا في بعض الكلمات مثل: "على"(13) "في" (14).
إلى آخر هذه الأمثلة التي يعتني بها كبار القراء, فنراهم بإتقانهم لفن خفض الصوت ورفعه يظهروا الشوق الصادق ـ وليس المفتعل ـ في آيات وصف النعيم, والوجل في آيات العذاب, ويبرزوا مواضع الخبر والاستفهام والعجب والاستنكار, ويحركوا القلوب بالوعد والوعيد, ويحسنوا تأدية الحوارات القصصية بتجسيدها, لذلك أرى أن إتقان خفض الصوت ورفعه فن يجدر الالتفات إليه والعناية به, فهو ليس مقصورا على مقام دون آخر, ولا يلزم لمن يريد تعلمه أن يتعلم علم المقامات, بل هو فن صوتي قائم بذاته.
وقد نقل الدكتور غانم قدوري الحمد في كتابه الدراسات الصوتية عند علماء التجويد قولا للدركزلي من كتابه المخطوط (خلاصة العجالة) يقول فيه: "قال بعض المحققين ينبغي أن يقرأ القرآن على سبعة نغمات: فما جاء من أسمائه تعالى وصفاته فبالتعظيم والتوقير, وما جاء من المفتريات عليه فبالإخفاء والترقيق, وما جاء من ذكر الجنة فبالشوق والطرب, وما جاء من ذكر النار والعذاب فبالخوف والرهب, وما جاء من الأوامر والنواهي فبالطاعة والرغبة, وما جاء من ذكر المناهي فبالإبانة والرهبة"(15).
ومن خلال إنصاتي لكثير من التلاوات المسجلة لعدد من القراء أثار انتباهي أن أي قارئ ذا صوت حسن أو مقبول؛ يستطيع أن يجبر المنصت له على التأثر بتلاوته تأثرا شديدا, بينما قارئ آخر صوته أجمل من القارئ الأول لا يحدث هذا التأثير فيمن ينصت له؛ رغم أن كلاهما يقرأ بنفس المقام.
بل إن قراءة الشيخ الواحد كالشيخ عبد الباسط عبد الصمد ـ رحمه الله ـ في سورة يوسف في تسجيلٍ عادي تختلف تماما عن تلاوته لها في الحفلات, والسبب هو عنايته بتجسيد الحوارات بواسطة (خفض الصوت ورفعه) في تلك الجلسات الهادئة بشكل عجيب, وفي أثناء إعداد بحثي هذا قرأت كلاما يوافق هذه النقطة تحديدا, حيث قال الدكتور إبراهيم الدوسري في كتابه إبراز المعاني بالأداء القرآني: "ولا جرم أن القراء يتباينون في تلاوتهم تبعا لتباين أصواتهم جودة وعذوبة, بيد أن حسن الأداء لا يتوقف من جهة الصوت على الخلق والتكوين, فكم من قارئ يقع صوته في النفوس أكثر ممن هو أندى منه صوتا, وما ذاك إلا لتوفر عوامل أخرى عند القارئ استدعت الاستماع والإصغاء إليه, ومن أهمها موافقة الكيفيات الصوتية قواعد التجويد ومعاني الألفاظ ومشاعر الوجدان, إذ التجويد هو الضابط لتفخيم حروفه وترقيقها وانحباس الصوت وجريانه, وأيضا المعاني وما تحدثه من انفعال وجداني هما العاملان في ارتفاع الصوت وانخفاضه وسرعته وبطئه"(16).
• أهداف المشروع .
هدف المشروع الأساسي: وضع منهجٍ تعليمي لتوظيفِ الأصواتِ الشجيَّةِ في محاكاةِ التلاوات المتقنة التي تم انتقاؤها بعناية من تسجيلات مشاهير القراء, حتى لا يضطر هؤلاء إلى دراسة علم الموسيقى, وتأسيا ببعض الأحاديث والآثار التي وردت عن السلف والتي تحث على تعلم القرآن من أهل القرآن وليس من غيرهم, فمن ذلك: قال علي رضي الله عنه: "إن رسول الله يأمركم أن تقرؤا كما علمتم"(17), وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: "اتبعوا ولا تبتدعوا, فقد كفيتم"(18), وعن همام بن الحارث قال: أتانا حذيفة في المسجد فقال: "يا معشر القراء ، اسلكوا الطريق؛ فوالله لئن سلكتموه لقد سبقتم سبقا بعيدا، ولئن أخذتم يمينا وشمالا لقد ضللتم ضلالا بعيدا"(19).
ويمكن جعل أهداف المشروع في النقاط التالية:
1. جذب شريحة من حفظة كتاب الله إلى تحسين أصواتهم في تلاوة كتاب الله.
2. حماية شريحة عريضة من شبابنا الغض الذين يضطرون من أجل تحسين تلاواتهم إلى تعلم المقامات الموسيقية والولوج في دروبها.
3. احترام الفتاوى المحرمة لتلاوة القرآن بالمقامات الموسيقية.
4. تحسن مستوى التطبيق التجويدي لدى المتعلم مع طول الاستماع إلى نماذج أصيلة لقراء مهرة متمكنين من تطبيق التجويد. وقد قال د. غانم الحمد في الدراسات الصوتية "وطريق تحسين الصوت في القراءة هو مراعاة أحكام التجويد لا مراعاة ما تقتضيه الألحان, وتزيين القراءة هو بإعطاء الحروف حقوقها من المخارج والصفات"(20).
5. ترسيخ مبدأ أن تطبيق التجويد هو المقدم على أي نغم في التلاوة, قال أبو عمرو الداني رحمه الله: "واعلموا أن كل حرف من حروف القرآن يجب أن يمكن لفظه, ويوفى حقه من المنزلة التي هو مخصوص بها, على ما حددناه ونحدده, ولا يبخس منه شيئا من ذلك, فيتحول عن صورته, ويزول عن صيغته, وذلك عند علمائنا في الكراهة والقبح كلحن الإعراب الذي يتغير فيه الحركات, وتنقلب به المعاني"(21)
وقد علق د.أحمد السديس على ذلك بقوله: "ومثل هذا يفوت على من يراعي جودة اللحن وحسن تناسقه, ولا يكون من أهل هذا الفن, فربما أفضى به هذا الأمر إلى المبالغة في مد الحروف, أو مد ما لا يمكن مده منها, لأن الغالب على من راعى الأنغام أن لا يراعي الأداء"(22)
6. الحفاظ على أسماع وقلوب حفظة كتاب الله من الاستماع إلى أنغام الموسيقى بحجة التعلم.
7. العمل بأصل معتبر في تعلم القرآن عن طريق أخذ المتأخر عن المتقدم وهكذا.
8. تخريج دفعات مميزة من الأئمة والقراء قادرين على أسر المستمع بتلاوتهم والتحليق به إلى آفاق التدبر والتأمل والتفكر.
9. سيتعلم المتعلم كيف يعيش مع معاني الآيات, وكذلك بعض الوقفات التفسيرية التدبرية من تلاوات كبار القراء, وهذا مما لا يمكن أن يتعلمه من أهل المقامات.
10. لاشك أن التعلم من أهل القرآن وطول الاستماع إلى تلاواتهم المتدبرة سيورث المتعلم خشية وخشوعا, وستعلمه مالا يمكن أن يعلمه إياه أهل الموسيقى.
يقول الإمام الآجري -رحمه الله-: " ينبغي لمن رزقه الله حسن الصوت بالقرآن أن يعلم أن الله قد خصَّه بخير عظيم فليعرف قدر ما خصه الله به ، وليقرأ لله لا للمخلوقين وليحذر من الميل إلى أن يستمع منه ليحظى به عند السامعين رغبة في الدنيا والميل إلى حسن الثناء والجاه عند أبناء الدنيا، والصلاة بالملوك دون الصلاة بعوام الناس، فمن مالت نفسه إلى ما نهيته عنه خفته أن يكون حسن صوته فتنة عليه ، وإنما ينفعه حسن صوته إذا خشي الله عز وجل في السر والعلانية وكان مراده أن يُستمع منه القرآن؛ لينتبه أهلُ الغفلة عن غفلتهم، فيرغبوا فيما رغبهم الله عز وجل وينتهوا عما نهاهم، فمن كانت هذه صفته انتفع بحسن صوته، وانتفع به الناس"(23)
الخاتمة
بعد حمد الله الذي وفق وأعان على تفصيل فكرة هذا المشروع القرآني في هذه الورقات؛ أرى أن ادعاءنا عدم الحاجة لتدريب القراء على القراءة السلسة المريحة ليس بالأمر الصحيح, فكم مرة صليتَ خلف إمام ذا صوت عذب لكنك لم تشعر بالراحة خلفه فقررتَ ألا تصلي خلفه مرة أخرى, ولا تدري لماذا؟؟ ولو أنك سألتَ من يعرف في المقامات لأفادك بأن ذاك القارئ يتنقل في المقام الواحد طلوعا ونزولا دون تدرج؛ أو بين المقامات دون مهارة فيصيبك صوته (النشاز) بعدم الراحة, ولرب إمام قراءته على وتيرة واحدة خير لك من ذاك الذي ينوع مقاماته دون إجادة.وكم من مرة صليتَ خلف إمام لا يحسن نغمة تكبيراته, فيوحي لك طلوعه بالصوت بأنه قائم بينما هو جالس أو ساجد! وكم من إمام نبهتك تكبيرته ونبهت الأعجمي الذي بجوارك أنه ينوي السجود لا الركوع ليأتي بسجدة تلاوة.
إن حاجتنا لوضع سياج آمنة في طريق شبابنا من حفظة كتاب الله وأئمة المساجد الساعين إلى تحسين أصواتهم في كتاب الله لهي حاجة ماسة, وضرورة ملحة, خاصة في زمن كثرت فيه الفتن, واستحل فيه طائفة من الناس الغناء والمعازف, وتفنن أعداء الأمة في تلقف شبابنا الغض (فتيان وفتيات) من بيئاتهم وعاداتهم وتقاليدهم ومبادئ دينهم ودفعهم إلى بيئات منحطة في طريقهم إلى عالم النجومية والاحتراف لمجرد أنهم يمتلكون أصواتا ندية!
فما الذي يمنعنا من أن نَهِبَّ لنسخر هذه الأصوات المميزة بأيدينا لكي تتزين بالقرآن وتتغنى به؟ ولأجل أن تهتز بها محاريب المساجد وتخشع بها قلوب القائمين الراكعين الساجدين؟.
ومن خلال بحثي في هذا الموضوع أدون أبرز النتائج والتوصيات:
النتائج:
• القارئ حسن الصوت المتقن للأداء الصوتي والتجويدي يدفع المستمع دفعا لتدبر آيات الله, خاصة فيما لو تفكر فيها القارئ وعاش في معانيها بكل أحاسيسه.
• إن قراءنا المهرة خاصة وأهل القرآن عامة هم خير من يؤخذ عنهم التلاوة الصحيحة التي تدفع السامع إلى التدبر, وهم خير من يتعلم منهم تحسين الأصوات في تلاوة القرآن.
• إدراك أن ثمة إقبال متزايد من حفظة كتاب الله على البحث والاستفسار عن وسائل تحسين أصواتهم في تلاوة القرآن, وإدراك أن السواد الأعظم من هؤلاء يجدون حاجتهم عند أساتذة المقامات الموسيقية الذين يحسنون تلقفهم.
• واقع تعلم المقامات الموسيقية واقع يحتاج إلى وقفة, ويجب الحذر منه فقد يودي المهالك.
التوصيات:
• ضرورة الالتفات والعناية بالتسجيلات الصوتية لقرائنا المعروفين بإتقانهم للتجويد, وضرورة الاستفادة من هذا الكنز الصوتي.• الحذر من الانسياق خلف أهل المقامات الموسيقية في أعماق وسراديب علمهم بمبرر الحاجة إلى تحسين الصوت في تلاوة القرآن تعبدا لله!
• ضرورة قيام الجهات والمؤسسات القرآنية التي تسعى لخدمة القرآن وأهله بتبني مشاريع تحمي حفظة كتاب الله من الوقوع بين يدي الموسيقيين.
• كما أوصي بالاستفادة من فكرة هذا المشروع ومحاولة تطبيقه لما له من احتياج يفرضه الواقع, وأنا لا أدعي أن مشروعا كهذا هو كاف لتحقيق الهدف العظيم الذي أصبو إليه؛ وإنما هو فكرة تنتظر من يفعلها وينقلها إلى أرض الواقع, ثم يكمل ما تراءى له فيها من جوانب نقص, ثم يبتكر ليلحق بها أفكارا أخرى كلها تصب في نفس الهدف, غيرة لكتاب الله وغيرة على أهل القرآن من الانصراف عن تدبره وتلاوته تلاوة تجويدية صحيحة إلى عالم المقامات الموسيقية وعالم الطرب.
أسأل الله أن يتقبل منا صالح أعمالنا, ويجعلها خالصة لوجهه, وينفع بها الأمة, ويجعلها ذخرا لنا يوم نلقاه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
الهوامش
(1):سورة فصلت: 42(2): أخرجه البخاري في كتاب التوحيد, برقم/7527
(3):أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن (44ظ ـ 45و), وقال المنذري في الترغيب والترهيب (3/180): رواه أحمد وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والحاكم والبيهقي.
(4):واه البيهقي في " سننه " ( 3 / 12 ) وقال الألباني – في " صحيح أبي داود " ( 5 / 232 ) - : سنده جيد على شرط مسلم.
(5):فتح الباري 9/72
(6): أخرجه البخاري في خلق أفعال العباد برقم (84 ـ ص82 )
(7): فتح الباري 8/690
(8): الأنجم الزواهر في تحريم القراءة بلحون أهل الفسق والكبائر, ص25
(9): البيان لحكم قراءة القرآن الكريم بالألحان, د. أيمن سويد , ص47 (10):
(10):نقله عنه الدكتور أيمن رشدي سويد في كتابه: البيان لحكم قراءة القرآن الكريم بالألحان, ص49
(11): الأعراف: ٣١
(12): آل عمران: 73
(13): البقرة: ٥
(14): البقرة: 10
(15): الدراسات الصوتية عند علماء التجويد-غانم قدوري الحمد, ص480
(16): إبراز المعاني بالأداء القرآني, د.إبراهيم الدوسري, ص45
(17): أخرجه الإمام أحمد في مسنده (ج 2 حديث رقم 6815)
(18): أورده السخاوي في المقاصد الحسنة, حديث رقم (16)
(19): أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة, باب الاقتداء بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم, رقم: (7282), وأورده ابن مجاهد في السبعة: (ص46)
(20): الدراسات الصوتية قدوري الحمد ص477
(21): التحديد في الإتقان والتجويد / 118
(22): التغني بالقرآن د.أحمد السديس ص42
(23): أخلاق حملة القرآن, لأبي يكر محمد الآجري ص 109
المراجع
1. القرآن الكريم.2. إبراز المعاني بالأداء القرآني, أ.د. إبراهيم بن سعيد الدوسري, ط1, 1428هـ ـ 2007م, دار الحضارة للنشر والتوزيع, الرياض.
3. أخلاق حملة القرآن, أبي بكر محمد بن الحسين الآجري (360هـ) تحقيق الدكتور غانم قدوري الحمد, ط1,1429هـ ـ 2008م , دار عمار للنشر والتوزيع, الأردن.
4. الأنجم الزواهر في تحريم القراءة بلحون أهل الفسق والكبائر, زين الدين أبي البركات محمد بن أحمد بن محمد المعروف بأبي الكيال الشافعي, دراسة وتحقيق الدكتور عيسى بن ناصر الدريبي, ط1,1433هـ ـ 2012م , دار الحضارة للنشر والتوزيع. الرياض.
5. البيان لحكم قراءة القرآن الكريم بالألحان, د. أيمن سويد, ط1, 1412هـ ـ 1991م, الجماعة الخيرية لتحفيظ القرآن بجدة.
6. التحديد في الإتقان والتجويد, الإمام عمرو الداني, تحقيق د.غانم قدوري الحمد, ط1, 1407هـ , مكتبة دار الأنبار.
7. الترغيب والترهيب من الحديث الشريف, للمنذري عبد العظيم بن عبد القوي, تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد, ط2, 1393هـ ـ 1973م.
8. التغني بالقرآن, دراسة تأصيلية حول صفة التغني الواردة في السنة, د. أحمد بن علي السديس, ط1, آيات للنشر والتوزيع.
9. الدراسات الصوتية عند علماء التجويد, د. غانم قدوري الحمد, ط1, 1424هـ ـ 2003م , دار عمار للنشر والتوزيع, الأردن.
10. السنن الكبرى للبيهقي أحمد بن الحسين (ت458هـ) تحقيق محمد عبد القادر عطا, طبع سنة: 1414هـ, مكتبة دار الباز, مكة.
11. صحيح البخاري, أبو عبدالله بن اسماعيل البخاري, تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي ومحب الدين الخطيب, المطبعة السلفية.
12. صحيح سنن أبي داود، للشيخ محمد ناصر الدين الألباني (ت1420ه)، ط:1، 1423ه, دار غراس، الكويت.
13. فتح الباري بشرح صحيح البخاري, للإمام أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (773 ـ 852هـ ), دار المعرفة, بيروت.
14. فضائل القرآن ومعالمه وآدابه ؛ للعلامة أبي عبيد القاسم بن سلام الهروي (157 ـ 224 هـ) حققه وشرحه وعلق عليه: مروان العطية, محسن خرابة, وفاء تقي الدين, دار ابن كثير, دمشق ـ بيروت.
15. كتاب السبعة في القراءات, لأبي بكر أحمد بن موسى بن مجاهد البغدادي, تحقيق: د.شوقي ضيف, ط3, دار المعارف.
16. مسند الإمام أحمد, حققه شعيب الأرناؤوط وعادل مرشد, ط1, 1416هـ, مؤسسة الرسالة, بيروت.
17. المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على السنة، لأبي الخير محمد بن عبد الرحمن السخاوي (ت902ه)، تحقيق: عبد الله الصديق، (ط:1)، 1399ه دار الكتب العلمية، بيروت.