نايف الزهراني
New member
تُطلَقُ المَدرَسَةُ ويُرادُ بِها لُغةً: مكانُ الدَّرسِ والتعليمِ([1]). ثُمَّ تُوُسِّعَ في معناها حديثاً, فصار يُراد بِها في عُرف الاستعمال: (جماعةٌ من الفلاسفة أو المفكرين أو الباحثين, تعتنقُ مذهباً مُعَيَّناً, أو تقولُ برأيٍ مُشتَرَك. ويُقالُ هو من مدرسة فلانٍ: على رأيِهِ ومذْهَبِه)([2]).
وعلى هذا دَرَجَ جماعةٌ من المعاصرين([3])؛ فاستعملوا مصطلح «مدارس التفسير» في هذا المعنى([4]), وقَسَّموا هذه المدارس بحسب أمصار أعلام المفسرين من الصحابة والتابعين([5]), ومَيَّزوا كُلَّ مدرسةٍ بخصائص تنفرد بِها عن غيرها.
وقد انحصرت بِهذا مدارسُ التفسيرِ في ثلاثِ مدارس([6]):
الأولى: مدرسة ابن عباس رضي الله عنه بِمَكَّة, وأشهر تلاميذها سعيد بن جبير(ت:95), ومجاهد(ت:104), وعكرمة(ت:105), وطاووس(ت:106), وعطاء بن أبي رباح(ت:114).
الثانية: مدرسةُ أُبَيّ بن كعبٍ رضي الله عنه بالمدينة, وأشهر تلاميذها أبو العالية(ت:93), ومحمد بن كعب القرظي(ت:108), وزيد بن أسلم(ت:136).([7])
الثالثة: مدرسةُ ابن مسعود رضي الله عنه في العراق, وأشهر تلاميذها علقمة بن قيس(ت:62), ومسروق بن الأجدع(ت:63), والشعبي(ت:104), والحسن(ت:110), وقتادة(ت:117).
وقد احتوت استدراكات السلف في التفسير عِدَّةَ نماذجَ من استدراكات أصحابِ كُلِّ مدرسةٍ على غيرها من المدارس([8]), وهذه الجُملة الوافرة من الاستدراكات أوضحت بعض المسائل في هذا الجانب, وهي:
أولاً: مع أن الاستدراكات هي مَظِنَّة بروز التمايز والتنوع بين هذه المدارس لطبيعة اختلاف الأقوال فيها- على ما سبق وصفه-, ومع كثرة هذا التداخل في الاستدراكات بين مختلف المدارس المذكورة = إلا أنه لا أثر في الاستدراكات يشير إلى وجود هذه المدارس أو تَمَايُزها, لا من جهة الإشارة إلى بلد المفسِّر, ولا من جهة الإشارة إلى شيوخه.
ثانياً: كما أنه لا أثرَ أيضاً لتنوُّع المدارس- المذكور- على وجود الاستدراكات, أو قِلَّتها وكثرتِها, بل احتوت الاستدراكات نماذِجَ عديدةً من استدراكات أصحاب المدرسة الواحدة على بعضهم([9]), وهذا يشير إلى أمرين:
أولهما: ضعف الوحدة الفكرية الواجبِ توفُّرها في المدارس التفسيرية, والتي تقتضي قِلَّة هذا الاختلاف داخل المدرسة الواحدة.([10])
ثانيهما: لا فرق عند المستَدرِك في استدراكه بين قائلٍ وآخر, بل ربما وقع الاستدراك من الطالب على شيخه([11])؛ فإنهم لا يلتزمون آراء شيوخهم في كل موضع في التفسير, بل يجتهدون ثم يوافقون أو يخالفون عن عِلمٍ وعَدلٍ, ولم يكن تنوُّع الأمصار وتعدد الشيوخ مثيراً لأحدهم في اعتراضه واستدراكه على غيره.
ثالثاً: إن كان المُرادُ باختلاف المدارس وتنوعها اختلافاً فكرياً منهجيَّاً يَمَسُّ أصول التفسير وقواعده فهذا غير موجود بين السلف كما سيأتي, وإن كان المُراد بهذا التنوع اختلافاً وتمايُزاً فرعياً جُزئِيَّاً فهو موجود- وبشكلٍ ظاهرٍ كما سبق- في داخل كُلِّ مدرسةٍ تفسيرية, فعلى كِلا المعنيين لا يَصِحُّ إطلاقُ هذا المصطلح على تراجمةِ القرآن([12])وأمصارهم؛ لعدم مطابقته للواقع.
رابعاً: أكَّدت جمهرةُ الاستدراكات اتِّحادَ منهج وأصول التفسير عند السلف بجميع طبقاتهم, وهذا من أظهر نتائج دراسة الاستدراكات في الباب الأول, فجميعُ مفسري السلف معتمدون في تفاسيرهم على القرآن, والسنة, ولسان العرب, وأسباب النُّزول, وقصص الآي, ونحوها ممَّا يلزمُ للتفسير, , لا يخرجون عن ذلك, ولا يختلفون عليه, وتفاوُتُ علماءِ هذه المدارس في الإلمام بكامل هذه الجوانب, لا يعني اختلاف مناهجهم وتعدد مدارسهم, فاعتماد أحدهم في تفسيره على القراءات أو الشِّعْر لا يعني عدم اعتماد الآخر عليها, أو رَدِّه لها, وإنما هو تفاوت في الإقلال أو الإكثار من هذا المصدر أو ذاك.
هذه أبرز المسائل المتعلقة بالمدارس التفسيرية, والتي برزت من خلال استدراكات السلف في التفسير, وهي في مجملها -في الاستدراكات المدروسة وغيرها- لا تحتوي أيَّ إشارةٍ تَدُلُّ على وجود هذه المدارس في عصر السلف, بحسب المعنى اللغوي المتعارف عليه لهذه الكلمة.
فإذا انضاف إلى هذه المسائل:
- عدمُ وجودِ تعريفٍ واضحٍ لهذا المصطلح عند من استعمله .
- وعدمُ الاتفاقِ على تقسيمٍ واحدٍ مستوعِبٍ لهذه المدارس .
- وعدمُ صحةِ نسبةِ عددٍ من أعلام مفسري التابعين إلى هذه المدارس؛ لا بحسب الشيوخ, ولا بحسب الأمصار .
- وعدمُ شمولِ هذا المصطلح ليستوعبَ كُلَّ من له مشاركة في علم التفسير من أعلام التابعين .
- وحيث إن كلمة «مدرسة» في عُرف الاستعمال تتضَمَّن نوعاً من الاختلاف أكبرُ وأعمقُ من الاختلاف الموجود بين السلف في علم التفسير, وفي غيره من العلوم = اقتضى ذلك كُلُّه إعادةَ النظرِ في هذا الاصطلاح؛ وتجاوزه إلى التعبير بما هو أصَحُّ وأدقُّ في الدلالة على المُراد منه؛ سواءً في بيان أئمة المفسرين من الصحابة ومن لهم جمهرةٌ من الطلاب اختَصُّوا بهذا العلم, أو بيان أشهر الأمصار التي تميزت ببثِّ علم التفسير بصورة واضحة.
ومِمَّا يَصِحُّ أن يُعَبَّر به في هذا المقام, قول ابن تيمية(ت:728) رحمه الله: (وأما التفسير فإن أعلمُ الناس به أهلَ مكةَ؛ لأنهم أصحاب ابن عباس, كمجاهد, وعطاء بن أبى رباح, وعكرمة مولى ابن عباس, وغيرهم من أصحاب ابن عباس, كطاووس, وأبي الشعثاء, وسعيد بن جبير, وأمثالهم, وكذلك أهل الكوفة من أصحاب ابن مسعود, ومن ذلك ما تميزوا به على غيرهم, وعلماء أهل المدينة في التفسير, مثل زيد بن أسلم الذي أخذ عنه مالك التفسير, وأخذه عنه أيضاً ابنه عبد الرحمن, وأخذه عن عبد الرحمن عبد الله بن وهب)([13]).
- - - - - - -
([1]) ينظر: تهذيب اللغة 12/250, والقاموس المحيط (ص:490).
([2]) المعجم الوسيط (ص:280), وأشار الدكتور إبراهيم السامرائي إلى أن استعمال لفظة «المدرسة» بهذا المعنى إنَّما جاء تقليداً للاستعمال الغربي لَهَا؛ والذي يريدون به ما يُقابِل كلمة «مذاهب» في الاستعمال العربي. ينظر: المدارس النحوية (ص:139- 141), ومقال: الدرس النحوي في بغداد أم مدرسة بغداد النحوية, للدكتور محمد قاسم, مجلة التراث العربي, عدد:64, 1417, و مقالاتٌ في علوم القرآن وأصول التفسير, للدكتور مساعد الطيار (ص:295).
([3]) من أوائل من استعمل هذا المصطلح في تأريخه لعلم التفسير: الدكتور محمد حسين الذهبي, في كتابه التفسير والمفسرون 1/110, وتبعهُ عليه عددٌ من الباحثين. ينظر: عبد الله بن عباس ومدرسته في التفسير, لعبد الله محمد سلقيني, ومناهج المفسرين- التفسير في عصر الصحابة, لمصطفى مسلم (ص:45), وفي علوم القرآن, لأحمد حسن فرحات (ص:242), وتفسير التابعين, لمحمد الخضيري 1/ 365, والمدرسةُ القرآنيةُ في المغرب, لعبد السلام الكنُّوني, ومدرسة التفسير في الأندلس, لمصطفى المشيني, ومنهج المدرسة الأندلسية في التفسير, لفهد الرومي, ومدرسة الكوفة في تفسير القرآن العظيم, لمحمد حسين الصغير, مجلة المورد العراقية, مجلد 17/ عدد 4, 1988م.
([4]) لم أجد تحديداً لمصطلح «مدارس التفسير» عند أحدٍ ممَّن استعمله, وقد أشار إلى ذلك صاحب تفسير التابعين 1/369, ثم لم يُبيِّن أيضاً مراده به!.
([5]) ينظر: التفسير والمفسرون 1/110. وقَسَّم بعضهم مدارس التفسير- باعتبار مصدر التفسير- إلى: مدرسة التفسير بالأثر, ومدرسة التفسير بالرأي. ينظر: أثر التطور الفكري في التفسير في العصر العباسي (ص:63), وتفسير التابعين 2/1169. والتقسيم بحسب الأمصار هو الأشهر.
([6]) ينظر: التفسير والمفسرون 1/110. ووسَّعها بعضُهم وزاد: مدرسة التفسير في البصرة, والشام, واليمن, ومصر. ينظر: تفسير التابعين 1/525. كما قابل بعضُهم بين مدرسة المغاربة والأندلسيين, ومدرسة المشارقة في التفسير. ينظر: المدرسةُ القرآنيةُ في المغرب (ص:120, 293), ومنهج المدرسة الأندلسية في التفسير (ص:8).
([7]) نَسَبَ الخضيريُّ مدرسةَ المدينةِ إلى زيد بن ثابت رضي الله عنه , وذكر من تلاميذها عروة بن الزبير(ت:94), وسعيد بن المسيب(ت:94), وسليمان بن يسار(ت:107), ولم يُشِر فيها إلى أُبَيّ بن كعب أو أحد تلامذته. ينظر: تفسير التابعين 1/505.
وهذا يشير إلى ضعف الأصل الذي بُنِيَ عليه تقسيم المدارس وتحديد علمائها وطلابها, ويؤكد ذلك التنازعُ الظاهرُ في تحديد مدرسة عدد من التابعين مِمَّن أقام بأكثر من مصرٍ, وأخذَ عن أكثر من شيخ من شيوخ هذه المدارس, كمجاهد, والحسن, وأبي العالية, وأبي مالك الغفاري, وأبي الشعثاء جابر بن زيد, وغيرهم. وينظر في إيضاح عدد من الملاحظات على هذا المصطلح مقالٌ بعنوان: حول مصطلح «مدارس التفسير», للدكتور مساعد الطيار, ضمن كتابه: مقالاتٌ في علوم القرآن وأصول التفسير (ص:295).
([8]) كما في الاستدراكات (17, 20, 59), ولولا صعوبة تحديد مدارس عدد من التابعين لأُلحِقَ بها عددٌ غير قليل من الاستدراكات نحو (37, 39, 46, 47, 50, 52, 56, 57, 59, 60, 62, 65, 73, 74), وينظر: بيان إعجاز القرآن, للخطابي (ص:30) عن أبي الشعثاء وابن مسعود, وتفسير عبد الرزاق 3/464 عن أبي العالية والحسن.
([9]) كما في الاستدراكات (36, 46, 51, 55, 61, 62, 65, 75), وينظر: جامع البيان 2/742 عن سعيد بن جبير ومجاهد وطاووس, وسنن سعيد بن منصور 3/984 عن إبراهيم النخعي والربيع بن خثيم, وفيه أيضاً 4/1633 عن عكرمة ومجاهد, والدر 4/265 عن السُّدِّي وإبراهيم النخعي.
([10]) وأشار إلى نحو هذا الدكتور فضل حسن عباس في كتابه إتقان البرهان في علوم القرآن 2/234, حيث عَدَل عن استعمال لفظ «مدارس التفسير في عهد التابعين», إلى التعبير بـ: أشهر المفسرين في عهد التابعين. وقال: (لأن المدرسة في لغة العصر: ما كانت لها ممَيِّزات وأُسس). وينظر: تفسير التابعين 2/1168.
([11]) ينظر: الدر 3/533 عن عكرمة وابن عباس رضي الله عنه , وجامع البيان 12/67 عن سعيد بن جبير وابن عباس رضي الله عنه , وجامع البيان 1/164 عن ابن جريج ومجاهد, وجامع البيان 12/66 عن قتادة والحسن.
([12]) أي أئمة المفسرين, كما يسميهم ابن جرير. ينظر: جامع البيان 1/110.
([13]) مجموع الفتاوى 13/347.
هذا المبحث من ضمن مباحث رسالة (استدراكات السلف في التفسير) , بعنوان :
اختلاف مدارس التفسير وعلاقته بالاستدراكات فيه .
وعلى هذا دَرَجَ جماعةٌ من المعاصرين([3])؛ فاستعملوا مصطلح «مدارس التفسير» في هذا المعنى([4]), وقَسَّموا هذه المدارس بحسب أمصار أعلام المفسرين من الصحابة والتابعين([5]), ومَيَّزوا كُلَّ مدرسةٍ بخصائص تنفرد بِها عن غيرها.
وقد انحصرت بِهذا مدارسُ التفسيرِ في ثلاثِ مدارس([6]):
الأولى: مدرسة ابن عباس رضي الله عنه بِمَكَّة, وأشهر تلاميذها سعيد بن جبير(ت:95), ومجاهد(ت:104), وعكرمة(ت:105), وطاووس(ت:106), وعطاء بن أبي رباح(ت:114).
الثانية: مدرسةُ أُبَيّ بن كعبٍ رضي الله عنه بالمدينة, وأشهر تلاميذها أبو العالية(ت:93), ومحمد بن كعب القرظي(ت:108), وزيد بن أسلم(ت:136).([7])
الثالثة: مدرسةُ ابن مسعود رضي الله عنه في العراق, وأشهر تلاميذها علقمة بن قيس(ت:62), ومسروق بن الأجدع(ت:63), والشعبي(ت:104), والحسن(ت:110), وقتادة(ت:117).
وقد احتوت استدراكات السلف في التفسير عِدَّةَ نماذجَ من استدراكات أصحابِ كُلِّ مدرسةٍ على غيرها من المدارس([8]), وهذه الجُملة الوافرة من الاستدراكات أوضحت بعض المسائل في هذا الجانب, وهي:
أولاً: مع أن الاستدراكات هي مَظِنَّة بروز التمايز والتنوع بين هذه المدارس لطبيعة اختلاف الأقوال فيها- على ما سبق وصفه-, ومع كثرة هذا التداخل في الاستدراكات بين مختلف المدارس المذكورة = إلا أنه لا أثر في الاستدراكات يشير إلى وجود هذه المدارس أو تَمَايُزها, لا من جهة الإشارة إلى بلد المفسِّر, ولا من جهة الإشارة إلى شيوخه.
ثانياً: كما أنه لا أثرَ أيضاً لتنوُّع المدارس- المذكور- على وجود الاستدراكات, أو قِلَّتها وكثرتِها, بل احتوت الاستدراكات نماذِجَ عديدةً من استدراكات أصحاب المدرسة الواحدة على بعضهم([9]), وهذا يشير إلى أمرين:
أولهما: ضعف الوحدة الفكرية الواجبِ توفُّرها في المدارس التفسيرية, والتي تقتضي قِلَّة هذا الاختلاف داخل المدرسة الواحدة.([10])
ثانيهما: لا فرق عند المستَدرِك في استدراكه بين قائلٍ وآخر, بل ربما وقع الاستدراك من الطالب على شيخه([11])؛ فإنهم لا يلتزمون آراء شيوخهم في كل موضع في التفسير, بل يجتهدون ثم يوافقون أو يخالفون عن عِلمٍ وعَدلٍ, ولم يكن تنوُّع الأمصار وتعدد الشيوخ مثيراً لأحدهم في اعتراضه واستدراكه على غيره.
ثالثاً: إن كان المُرادُ باختلاف المدارس وتنوعها اختلافاً فكرياً منهجيَّاً يَمَسُّ أصول التفسير وقواعده فهذا غير موجود بين السلف كما سيأتي, وإن كان المُراد بهذا التنوع اختلافاً وتمايُزاً فرعياً جُزئِيَّاً فهو موجود- وبشكلٍ ظاهرٍ كما سبق- في داخل كُلِّ مدرسةٍ تفسيرية, فعلى كِلا المعنيين لا يَصِحُّ إطلاقُ هذا المصطلح على تراجمةِ القرآن([12])وأمصارهم؛ لعدم مطابقته للواقع.
رابعاً: أكَّدت جمهرةُ الاستدراكات اتِّحادَ منهج وأصول التفسير عند السلف بجميع طبقاتهم, وهذا من أظهر نتائج دراسة الاستدراكات في الباب الأول, فجميعُ مفسري السلف معتمدون في تفاسيرهم على القرآن, والسنة, ولسان العرب, وأسباب النُّزول, وقصص الآي, ونحوها ممَّا يلزمُ للتفسير, , لا يخرجون عن ذلك, ولا يختلفون عليه, وتفاوُتُ علماءِ هذه المدارس في الإلمام بكامل هذه الجوانب, لا يعني اختلاف مناهجهم وتعدد مدارسهم, فاعتماد أحدهم في تفسيره على القراءات أو الشِّعْر لا يعني عدم اعتماد الآخر عليها, أو رَدِّه لها, وإنما هو تفاوت في الإقلال أو الإكثار من هذا المصدر أو ذاك.
هذه أبرز المسائل المتعلقة بالمدارس التفسيرية, والتي برزت من خلال استدراكات السلف في التفسير, وهي في مجملها -في الاستدراكات المدروسة وغيرها- لا تحتوي أيَّ إشارةٍ تَدُلُّ على وجود هذه المدارس في عصر السلف, بحسب المعنى اللغوي المتعارف عليه لهذه الكلمة.
فإذا انضاف إلى هذه المسائل:
- عدمُ وجودِ تعريفٍ واضحٍ لهذا المصطلح عند من استعمله .
- وعدمُ الاتفاقِ على تقسيمٍ واحدٍ مستوعِبٍ لهذه المدارس .
- وعدمُ صحةِ نسبةِ عددٍ من أعلام مفسري التابعين إلى هذه المدارس؛ لا بحسب الشيوخ, ولا بحسب الأمصار .
- وعدمُ شمولِ هذا المصطلح ليستوعبَ كُلَّ من له مشاركة في علم التفسير من أعلام التابعين .
- وحيث إن كلمة «مدرسة» في عُرف الاستعمال تتضَمَّن نوعاً من الاختلاف أكبرُ وأعمقُ من الاختلاف الموجود بين السلف في علم التفسير, وفي غيره من العلوم = اقتضى ذلك كُلُّه إعادةَ النظرِ في هذا الاصطلاح؛ وتجاوزه إلى التعبير بما هو أصَحُّ وأدقُّ في الدلالة على المُراد منه؛ سواءً في بيان أئمة المفسرين من الصحابة ومن لهم جمهرةٌ من الطلاب اختَصُّوا بهذا العلم, أو بيان أشهر الأمصار التي تميزت ببثِّ علم التفسير بصورة واضحة.
ومِمَّا يَصِحُّ أن يُعَبَّر به في هذا المقام, قول ابن تيمية(ت:728) رحمه الله: (وأما التفسير فإن أعلمُ الناس به أهلَ مكةَ؛ لأنهم أصحاب ابن عباس, كمجاهد, وعطاء بن أبى رباح, وعكرمة مولى ابن عباس, وغيرهم من أصحاب ابن عباس, كطاووس, وأبي الشعثاء, وسعيد بن جبير, وأمثالهم, وكذلك أهل الكوفة من أصحاب ابن مسعود, ومن ذلك ما تميزوا به على غيرهم, وعلماء أهل المدينة في التفسير, مثل زيد بن أسلم الذي أخذ عنه مالك التفسير, وأخذه عنه أيضاً ابنه عبد الرحمن, وأخذه عن عبد الرحمن عبد الله بن وهب)([13]).
- - - - - - -
([1]) ينظر: تهذيب اللغة 12/250, والقاموس المحيط (ص:490).
([2]) المعجم الوسيط (ص:280), وأشار الدكتور إبراهيم السامرائي إلى أن استعمال لفظة «المدرسة» بهذا المعنى إنَّما جاء تقليداً للاستعمال الغربي لَهَا؛ والذي يريدون به ما يُقابِل كلمة «مذاهب» في الاستعمال العربي. ينظر: المدارس النحوية (ص:139- 141), ومقال: الدرس النحوي في بغداد أم مدرسة بغداد النحوية, للدكتور محمد قاسم, مجلة التراث العربي, عدد:64, 1417, و مقالاتٌ في علوم القرآن وأصول التفسير, للدكتور مساعد الطيار (ص:295).
([3]) من أوائل من استعمل هذا المصطلح في تأريخه لعلم التفسير: الدكتور محمد حسين الذهبي, في كتابه التفسير والمفسرون 1/110, وتبعهُ عليه عددٌ من الباحثين. ينظر: عبد الله بن عباس ومدرسته في التفسير, لعبد الله محمد سلقيني, ومناهج المفسرين- التفسير في عصر الصحابة, لمصطفى مسلم (ص:45), وفي علوم القرآن, لأحمد حسن فرحات (ص:242), وتفسير التابعين, لمحمد الخضيري 1/ 365, والمدرسةُ القرآنيةُ في المغرب, لعبد السلام الكنُّوني, ومدرسة التفسير في الأندلس, لمصطفى المشيني, ومنهج المدرسة الأندلسية في التفسير, لفهد الرومي, ومدرسة الكوفة في تفسير القرآن العظيم, لمحمد حسين الصغير, مجلة المورد العراقية, مجلد 17/ عدد 4, 1988م.
([4]) لم أجد تحديداً لمصطلح «مدارس التفسير» عند أحدٍ ممَّن استعمله, وقد أشار إلى ذلك صاحب تفسير التابعين 1/369, ثم لم يُبيِّن أيضاً مراده به!.
([5]) ينظر: التفسير والمفسرون 1/110. وقَسَّم بعضهم مدارس التفسير- باعتبار مصدر التفسير- إلى: مدرسة التفسير بالأثر, ومدرسة التفسير بالرأي. ينظر: أثر التطور الفكري في التفسير في العصر العباسي (ص:63), وتفسير التابعين 2/1169. والتقسيم بحسب الأمصار هو الأشهر.
([6]) ينظر: التفسير والمفسرون 1/110. ووسَّعها بعضُهم وزاد: مدرسة التفسير في البصرة, والشام, واليمن, ومصر. ينظر: تفسير التابعين 1/525. كما قابل بعضُهم بين مدرسة المغاربة والأندلسيين, ومدرسة المشارقة في التفسير. ينظر: المدرسةُ القرآنيةُ في المغرب (ص:120, 293), ومنهج المدرسة الأندلسية في التفسير (ص:8).
([7]) نَسَبَ الخضيريُّ مدرسةَ المدينةِ إلى زيد بن ثابت رضي الله عنه , وذكر من تلاميذها عروة بن الزبير(ت:94), وسعيد بن المسيب(ت:94), وسليمان بن يسار(ت:107), ولم يُشِر فيها إلى أُبَيّ بن كعب أو أحد تلامذته. ينظر: تفسير التابعين 1/505.
وهذا يشير إلى ضعف الأصل الذي بُنِيَ عليه تقسيم المدارس وتحديد علمائها وطلابها, ويؤكد ذلك التنازعُ الظاهرُ في تحديد مدرسة عدد من التابعين مِمَّن أقام بأكثر من مصرٍ, وأخذَ عن أكثر من شيخ من شيوخ هذه المدارس, كمجاهد, والحسن, وأبي العالية, وأبي مالك الغفاري, وأبي الشعثاء جابر بن زيد, وغيرهم. وينظر في إيضاح عدد من الملاحظات على هذا المصطلح مقالٌ بعنوان: حول مصطلح «مدارس التفسير», للدكتور مساعد الطيار, ضمن كتابه: مقالاتٌ في علوم القرآن وأصول التفسير (ص:295).
([8]) كما في الاستدراكات (17, 20, 59), ولولا صعوبة تحديد مدارس عدد من التابعين لأُلحِقَ بها عددٌ غير قليل من الاستدراكات نحو (37, 39, 46, 47, 50, 52, 56, 57, 59, 60, 62, 65, 73, 74), وينظر: بيان إعجاز القرآن, للخطابي (ص:30) عن أبي الشعثاء وابن مسعود, وتفسير عبد الرزاق 3/464 عن أبي العالية والحسن.
([9]) كما في الاستدراكات (36, 46, 51, 55, 61, 62, 65, 75), وينظر: جامع البيان 2/742 عن سعيد بن جبير ومجاهد وطاووس, وسنن سعيد بن منصور 3/984 عن إبراهيم النخعي والربيع بن خثيم, وفيه أيضاً 4/1633 عن عكرمة ومجاهد, والدر 4/265 عن السُّدِّي وإبراهيم النخعي.
([10]) وأشار إلى نحو هذا الدكتور فضل حسن عباس في كتابه إتقان البرهان في علوم القرآن 2/234, حيث عَدَل عن استعمال لفظ «مدارس التفسير في عهد التابعين», إلى التعبير بـ: أشهر المفسرين في عهد التابعين. وقال: (لأن المدرسة في لغة العصر: ما كانت لها ممَيِّزات وأُسس). وينظر: تفسير التابعين 2/1168.
([11]) ينظر: الدر 3/533 عن عكرمة وابن عباس رضي الله عنه , وجامع البيان 12/67 عن سعيد بن جبير وابن عباس رضي الله عنه , وجامع البيان 1/164 عن ابن جريج ومجاهد, وجامع البيان 12/66 عن قتادة والحسن.
([12]) أي أئمة المفسرين, كما يسميهم ابن جرير. ينظر: جامع البيان 1/110.
([13]) مجموع الفتاوى 13/347.
- - - - -
هذا المبحث من ضمن مباحث رسالة (استدراكات السلف في التفسير) , بعنوان :
اختلاف مدارس التفسير وعلاقته بالاستدراكات فيه .