أحببت منذ بداية نقاشاتكم المفيدة هذه أن أعقب وأشارك لكن الدنيا تأخذنا بمشاغلها التي لا تنتهي (شغلنا الله وإياكم بطاعته ونفعنا بالعلم النافع), وإني لأستسمحكم ـ أيها الكرام ـ في مشاركتكم برأيي المتواضع في هذا الموضوع بعد انصرافكم عنه, فأقول مستعينة بالله:
إن معلم القرآنِ الماهر المتقن سليم الحواسِ ـ أي ليس بكفيف ولا ثقيل سمعٍ ـ يصعب أن يظل مع النظر إلى فم الطالب وعدم النظر إليه = على حال واحد, وأظن من الصعب بمكان أن يدعيَّ معلمٌ ثباته على حال واحد إلا إذا خرج عن كونه سليم الحواس, أو انتفت عنه المهارة والإتقان.
ذلك أن المعلم المبتدئ حين يجلس لتعليم كتاب الله؛ غالبا ما تكون مهاراته في تصويب الأخطاء غضّة طريّة, حاله كحال أيّ معلمٍ مبتدئٍ في أي فن من الفنون, ثم هو إلى جانب ذلك يدرك بينه وبين نفسه جملةً من أخطاءه التي لم يتمكن من تصويبها بعد, وهو حريص أشد الحرص على ألا ينقلها لطالب في حلقته, فتراه منصتا لتلاوة الطالب, ومدققا في مراقبة شفتيه, وفي ملاحقة مخارجه, يحاول أن يقتنص من تلاوته نفس الأخطاء التي كان يقتنصها فيه معلمه, لأنها حاضرة في ذهنه, ثم إذا ما أجاد استخراجها وتصويبها؛ انطلق يفتش عن غيرها, ويُعمل خبرته الوليدة في معالجتها.
وكم من خطأ تلتقطه أذنا المعلم ثم لا تنجح عيناه على تبرير سببه, وكم من خطأ تلتقطه عيناه ثم لا يسعفه سمعه على تبرير ماهيته, لذا فلا عجب أن يحتاج المعلم الماهر المبتدئ؛ إلى تنمية مهاراته البصرية كما ينمّي مهاراته السمعية في التقاط الأخطاء.
وكم من معلم حريص عاد إلى بيته وقد حمل معه أخطاءً استعصى عليه تصويبها حين سمعها من طالبه؛ فتراه يردد الخطأ بينه وبين نفسه حتى يحلَله, ويضعَ يده على موضع الخلل منه تحديدا, فمعرفة المعلم بكيفية حدوث الخطأ هو أسرع طريق لسرعة تصويبه للطالب.
ثم لا يزال المعلم يراوح بين متابعة الطالب بأذنه؛ ومتابعته ببصره حتى يتعالى بنيان خبرته يوما بعد يوم, فيصل إلى مرحلة جديدة يجد المعلم نفسه أمام تحد واستنفار لمهاراته كلها من أجل أن يعتمد على التقاط الأخطاء بحاسة السمع دون النظر.
وبعد كر وفر وجهد ومجاهدة ـ لا يطلع عليها ولا يعلم بها إلا المعلم نفسه ـ سيجتاز المعلم هذه المرحلة الدقيقة, التي قد تطول عليه وقد تقصر, كل معلم على حسب دقته وعزيمته.
وفي المرحلة المنشودة (مرحلة جني الثمار) سيجد المعلم نفسه على درجةٍ عالية من الدقة السمعية التي تمكِّنه من إدراك: تراخٍ في ضمِ حرفٍ خرجَ من مخرجه دون مشاركةٍ من الشفتين, وإدراك انبساطٍ في الشفتين عند نطق الحرف لم يصل بعدُ إلى درجةِ التقليل, ويمكِّنه أيضا من تحديد موضعِ اللسانِ بدقةٍ من فم الطالب حين خروج الحرف من غير مخرجه الصحيح, وقد تلتقط أذناه انطباق الشفتين العجلى بعد الوقوف على نونٍ بعد مدٍ, وقد يلحظ تحرك موضع أطراف الثنيتين العلويتين من المنطقة الرطبة في باطن الشفة السفلى مع الفاء إلى منطقةٍ جافةٍ خارجها دونما نظر, كما أنه سيدرك من مجرد السماع مشاركة الشفتين وارتفاعهما في مخرج حرف لا علاقة له بهما, وربما كان من المهارة بمكان يجعله يدرك إشماما في الشفتين لم يصحبه صوتٌ بيِّنٌ, إلى غير ذلك من الملاحظة الخفية التي كان يلتقطها زمنا ببصره.
وعلى هذا أعود فأجمل ما فصلتُ فيه فأقول: إن معلم القرآنِ الماهر المتقن سليم الحواسِ ـ أي ليس بكفيف ولا ثقيل سمعٍ ـ يصعب أن يظل مع النظر إلى فم الطالب وعدم النظر إليه = على حال واحد, بل لا يزال المعلم يراوح بين متابعة الطالب بأذنه؛ ومتابعته ببصره؛ حتى يتعالى بنيان خبرته يوما بعد يوم؛ فيتمكن من التقاط الأخطاء اعتمادا على حاسة السمع وحدها دون النظر.
هذا والله أعلم