هل نحن نفهم ما نقرأ، أو نقرأ ما نفهم؟

أبو مالك العوضي

فريق إشراف الملتقى المفتوح
إنضم
12/08/2006
المشاركات
737
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
الإقامة
الرياض
[align=center]هل نحن نفهم ما نقرأ، أو نقرأ ما نفهم؟[/align]


عندما كنا صغارا كانوا أحيانا يضحكون من أقوالنا الخاطئة، ويتعجبون من فهومنا الغريبة،
وعندما صرنا كبارا رأينا ذلك من أبنائنا، فصرنا نبتسم حينما نسمع الجمل الساذجة من الصغار، أو نرى الفهم العجيب منهم.

ولكن المتأمل في واقعنا يجد أننا في حقيقة الأمر نرتكب أشياء أكثر غرابة وأبعد فهما من هؤلاء الصغار! ويتضح ذلك بالسؤال التالي:

هل أنت تفهم ما تقرؤه؟ هل أنت حقا على يقين أنك تفهم ما تقرؤه؟

إن فهم الكلام على حقيقته يعتمد على مقدمات، منها ما هو خاص بالكلام نفسه من حيث الإفراد والتركيب، ومنها ما هو خاص بقرائن الحال التي يتنزل عليها الكلام إن كان محتملا لجهات.

ونحن نستعمل القرائن في حياتنا كثيرا جدا، بل نستعملها بغير شعور في معظم الأحيان، فالعقل اعتاد أن يستدرك ما يسقُط عن السمع من الأحرف القليلة التي تفهم من سياق الكلام، والعقل اعتاد كذلك أن يعرف ضبط الكلمة اعتمادا على سياقها فتعرف مثلا أن (ذهب) في هذه العبارة (ذهب أحمد إلى المدرسة) مفتوحة الذال والهاء، مع أنها تحتمل غير ذلك مفردة.

إن أهل العلم يختلفون في كثرة اطلاعهم ومعرفتهم وحفظهم وفهمهم، وهذا المقدار من الاطلاع والمعرفة والحفظ والفهم يؤثر تأثيرا واضحا في المقدرة على فهم الكلام المقروء ومعرفة القرائن المحتفة به، ولذلك كان الصحابة أفهم لكلام النبي صلى الله عليه وسلم ممن بعدهم؛ بل كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه أفهم لكلام النبي صلى الله عليه وسلم من غيره من الصحابة كما في الحديث المشهور (إن عبدا خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عنده فاختار ما عنده) فبكى أبو بكر وقال (فديناك بآبائنا وأمهاتنا)، فكان هو الوحيد الذي فهم المقصود، وهذا لشدة ملاصقته للنبي صلى الله عليه وسلم وقوة علمه بأحواله.

الأستاذ عبد السلام هارون المحقق المشهور، عرف بتحقيق كتب الجاحظ، فصار أخبر الناس بأسلوبه، وصار يستطيع أن يميز بين كلامه وكلام غيره، وما تحتمله العبارة وما لا تحتمله، وهذا لو أمكن أن يتأتى لغيره فلا يمكن أن يكون بمثل درجته لأنه تبحر في كتب الجاحظ.

وأنت عندما تقرأ في كتب أهل العلم، تجد نفسك مع الوقت تتذوق أسلوبهم، وتعرف أن هذا أسلوب فلان، وهذا نمط فلان، وهذه طريقة فلان، وهذا مهيع فلان.

والمتقدمون من المحدثين يفعلون ذلك كثيرا؛ وذلك لأنهم لكثرة ممارستهم وطول خبرتهم، وسعة محفوظهم، صارت معرفتهم بأحوال الرواة أحيانا كمعرفتهم بآبائهم وأمهاتهم، فيستطيع أن يجزم بأن هذا الكلام لم يصدر من فلان، أو أن هذا القول لم يقله فلان، كما جاء عن يحيى بن معين عندما أقسم أن عبد الله بن المبارك لم يقل هذا الكلام!

فهذه مرتبة عالية شريفة تستطيع فهمها عندما تستنكر أنت قولا نسب لأبيك خطأ.

ونحن نعرف مثلا الشيخين (ابن باز) و(الألباني) حق المعرفة، فإذا جاءنا من يقول: إن الشيخ ابن باز رحمه الله كان يعرف اللغة الصينية، وإن الشيخ الألباني رحمه الله مكث سنين في البرازيل!! فإننا نقطع بأنه كاذب أو مخطئ، فإذا جاء من لا يعرف الألباني فقد يقول: ما لهؤلاء كيف يزعمون علم الغيب؟!

والمقصود أن القرائن من أقوى السبل إن لم تكن أقوى السبل على الإطلاق لفهم الكلام، واختلاف درجات أهل العلم في علمهم يؤدي إلى اختلافهم في مقدرتهم على فهم كلام غيرهم.
وانحطاط درجاتنا عن درجات أهل العلم قد يحملنا في كثير من الأحيان على أن نستنكر فهمهم لبعض النصوص، ونقول: هذا فهم خاطئ! أو هذا خلاف الظاهر! أو هذا تخرص بالغيب! أو نحو ذلك من العبارات التي لو صدرت ممن هو في مثل علمهم لكانت مقبولة، أما صدورها ممن لم يبلغ عشر معشارهم فهذا شأن آخر.

قال تعالى: { قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى }، فالمادة واحدة وهي القرآن، ولكن استقى منه المؤمنون الهدى والشفاء، وانقلب الكافرون فقط بالوقر والعمى!

وفي الحديث (( إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا منها وسقوا وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به ))
فالمادة واحدة وهي الحكمة النبوية، واختلف قبول المادة باختلاف المعادن.

إنك عندما تقرأ كلام أهل العلم فالحقيقة أنك تقرأ ما تريد أن تفهمه بناء على ما عندك من مقدمات ومعلومات.
والقليل منا من يفهم ما يقرأ، لماذا؟
لأن هذا يحتاج إلى تجرد وإنصاف شديدين، وعدم الوقوع في أسر الخاطر الأول وبادئ الرأي، ويحتاج إلى علم واسع بالقرائن، ويحتاج إلى معرفة كبيرة باللغة وخاصة لغة من تقرأ له، ويحتاج في بعض الأحيان إلى معرفة حقبة هذا العالم وتاريخه.

قد يقول قائل: (إن كلامَك خطأ؛ لأن هذه المعرفة التي تَشترِط وجودَها إنما يتحصل عليها المرءُ أصلا من القراءة والمطالعة، وهذه القراءةُ والمطالعة تحتاج إلى مثل هذه المعرفة أيضا، وهذا دور أو تسلسل، وهو باطل).

فالجواب: أن هذا الاعتراض صحيح وهو يفيد التسلسل حقا، ولكن قطع السلسلة يحل الإشكال، وبيان ذلك بما يلي:
نفترض أن العالم في ابتداء طلبه للعلم اليوم، وهذا أول شيء يسمعه من أول شيخ يتلقى عنه، فحينئذ تأتي المعلومة إلى القلب بسهولة، فتدخل إليه بغير استئذان، فلا تجد لها معارضا ولا مناوئا، ولكن هل هذه المعلومة صحيحة أو خاطئة؟ محل نظر.
ثم تأتي معلومة أخرى فإما أن تؤيد المعلومةَ السابقة، أو تخالفها، أو لا تؤيدها ولا تخالفها.
ثم تأتي معلومة ثالثة فتُعرض على كلٍّ من المعلومات السابقة فتزيد بعضها قوة وتزيد بعضها ضعفا، وتترك بعضها كما هو.
ومع تكاثر هذه المعلومات وتواترها على القلب يحصُل لديه يقينٌ ببعض هذه المعلومات بحيث لا يمكن أن يداخله فيها شك، كمثل اليقين الذي يدخل إلى قلب الإمام مالك أن ابن عمر رضي الله عنه كان موجودا، وكان من الصحابة، لكثرة ما سمع من النقول عنه والقرائن التي تفيد ذلك.
وهذا القدر من المعلومات يكون هو الأساس الذي يبني عليه العالمُ صحةَ المعلومات الأخرى أو خطأها، وهذا يشبه ما يفعله المحدثون حينما يحكمون على خطأ هذا أو ذاك بناء على الرواة الأثبات الذين تدور عليهم الرواية؛ لأن هؤلاء الرواة صاروا بالمحل الموثوق.

ومع الوقت والممارسة والمرانة والبحث والفحص والتمرس، يصير الأمر المشكوكُ فيه عندك أمرًا يقينيا عند هذا العالم، ويصير الحكمُ الذي تستغرقُ أنت ساعةً في فهمِه أمرا بَدَهِيًّا عند هذا العالم، بل تصيرُ له أحيانا ملكةٌ يميز بها بين صحيح العلم وسقيمه بغير أن يقدِر على التعبير عن حجته !! كالأعرابي الذي يتكلم ولا يلحن، بل لا يستطيع أن يلحن!

ولذلك ورد في الأثر (أن أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس) فعبر عن العلم بالبصيرة، وهذه البصيرة هي الملكة أو السليقة أو النور الذي يعلَق بالقلب من كثرة ممارسة العلم والدربة عليه، مع صدق القصد وإخلاص النية.


[align=center]أسأل الله أن يوفقنا للفهم والعلم والعمل، وأن يستعملنا في طاعته.
إنه على كل شيء قدير.

أخوكم ومحبكم/ أبو مالك العوضي[/align]
 
مقال رائع وماتع بحق.
فتح الله لك من أبواب علمه وفضله، وزادنا علما وفهما وإيمانا ويقينا صادقا.
 
سلمت يمينك -مقال متميز-
و لن نفهم ما نقرأ إلا إذا تجردنا.
يقول ابن خلدون-رحمه الله- : ( إن النفس إذا كانت على حال الاعتدال في قبول الخبر أعطته حقه من التمحيص و النظر حتى تتبين صدق من كذبه، وإذا خامرها تعصب لرأي أو نحلة قبلت ما يوافقها من الأخبار لأول وهلة، و كان ذلك الميل غطاء على عين بصيرتها عن الانتقاد و التمحيص، فتقع في قبول الكذب و نقله ).
 
وفقكم الله وسدد خطاكم، وجزاكم خير الجزاء.

وكلام ابن خلدون رحمه الله يتعرض للأهواء التي تعتري النفس في فهم الخبر، وهذا الأمر نفترض عادة أنه غير موجود في أهل العلم، وليس هو بأخطر الأمور، لأن الحق أبلج والباطل لجلج، والضال يظهر من بين أسنانه، كما قال تعالى: {ولتعرفنهم في لحن القول}.

وهذه تتمة للموضوع كتبتها من قبل في أهل الحديث:
-------------------------------------------------------------------
الأمر ليس سهلا، بل هو في غاية الصعوبة، وأخوكم الضعيف ليس استثناء في هذا الأمر.

ولكن الموفق من وفقه الله، والمهدي من هداه الله، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

وجماع الأمر - فيما أحسب والله تعالى أعلم - أن ننظر إلى الاختلافات بين أهل العلم، فأنا أزعم أن أكثر هذه الاختلافات هي اختلافات في الفهم، وليست اختلافات في الجهل ببعض النصوص.

ومن الأدلة على ذلك أن الخلاف المبني على الجهل بنص معين ينبغي أن يزول عند استحضار هذا النص، ومع ذلك لا نرى هذا موجودا في معظم الخلافات.

وهذا ليس قصرا على الخلافات الفقهية، بل هو عام في الخلافات الاعتقادية، والخلافات الأصولية وغير ذلك أيضا.

ولكي تعرف عظم الخطر في هذا الباب انظر لنفسك ومعلوماتك وما اطلعت عليه من الكتب وما حصلته من معارف.

هل الكتب التي قرأتها أكثرها للمتقدمين أو للمتأخرين؟
هل خبرتك بعبارات المعاصرين وفهم المراد من كلامهم مثل خبرتك بكلام الصحابة والتابعين وفهم المراد منها؟ فضلا عن كلام العرب الأقحاح والشعراء الجاهليين؟!

أنا أحسب - والله أعلم - أن الواحد منا إذا قرأ للشيخ الألباني مثلا فلن يصعب عليه فهم شيء من مراده، في حين إنه إذا قرأ للحافظ ابن حجر فقد يخفى عليه شيء مما يريده الحافظ، أما إذا قرأ مثلا للخطيب البغدادي فربما يغيب عن فهمه ما هو أكثر من كلام الحافظ ابن حجر، ثم إذا قرأ مثلا كلام الصحابة والتابعين فالمتوقع أن فهمه لها سيكون أقل من فهمه لكلام الخطيب.
ثم إذا قرأ كلاما لبعض الجاهليين فسيكون فهمه أقل من كل ما سبق.

والسبب في ذلك - والله أعلم- أنه كلما بعد العصر اختلفت القرائن والألفاظ والاستعمالات، وتغيرت الأمور الواضحات، وصار بعض المشهور غريبا وبعض الغريب مشهورا.

ولذلك تجد مثلا في القاموس المحيط عن بعض الألفاظ ( معروف ) مع أنه من غريب اللغة الذي لا يكاد يعرفه أحد من المعاصرين، مع أن صاحب القاموس من أهل القرن الثامن ثم التاسع الهجري!
فما بالك بكلام علماء القرن الثاني؟! لا شك أنه أبعد
فما بالك بكلام أهل الجاهلية، لا شك أنه أبعد وأبعد

وليس من سبيل - من وجهة نظري والله أعلم - لحل هذا الإشكال إلا بأن يحاول المرء أن يغير ثقافته، وذلك بأن يجعل اطلاعه على كلام أهل عصر معين أكثر من اطلاعه على غيره من العصور، فهذا هو السبيل الوحيد لاكتساب هذه السليقة، أو هذه الملكة التي تجعله يفهم الفهم الصحيح لأول وهلة أو بادي الرأي.

ولذلك كان أهل الحديث هم أقرب الناس لفهم المراد من الأحاديث.
وكان النحويون أقرب الناس لفهم مراد سيبويه.
وكان اللغويون أقرب الناس لفهم كلام العرب.

ولذلك كثيرا ما يقول أهل العلم: إن العبرة في كل فن إنما هي بكلام أهله المتقنين له، بخلاف غيرهم، فلا يعتد بكلام غير النحويين في النحو، ولا بكلام غير الفقهاء في الفقه، كما أنه لا يعتد بكلام غير الأطباء في الطب.

ولا شك أن الطبيب الذي ليس خبيرا بعلوم العربية أكثر فهما لكلام الطبيب مثله من فهم عالم العربية، حتى لو كان الكلام مكتوبا باللغة العربية الفصيحة.

وسبب هذه الإشكالات جميعها أن الكلام المنطوق أو المكتوب لا يمكن أن يعبر عن مراد المتكلم تعبيرا مطابقا لما في النفس تماما بحيث لا يزيد ولا ينقص، وتأمل ذلك من نفسك تجده صحيحا إن شاء الله.

ولذلك يُغفل كثير منا حال الكلام كثيرا من الأمور التي يراها هو واضحة لا تشكل على أحد، ولو لم يفعل ذلك لاحتاج في كل جملة أو عبارة من عباراته أن يملأها بالاحترازات والتقييدات التي تخل بنظام الكلام وتضيع الوقت في غير فائدة.
ولولا أن القرائن المعتادة تقوم مقام التصريح في هذه الأمور لما صلح حال الناس ولما استطاع بعضهم أن يفهم مراد بعض، كما لو قلت لولدك مثلا: (ماء)، فإنه يفهم بحسب القرائن أنك تريد كوبا من الماء لكي تشربه، أما إذا كنت تسير معه في الطريق مثلا وقلت: (ماء) وأمسكت به بسرعة وجذبته للخلف، فإنه يفهم بحسب القرائن أنك تريد منه الاحتراز من وقوعه في الماء أو وقوع الماء عليه.
وهذه القرائن والأحوال إنما فهمت بحسب العادة والعرف، وهذه الأمور تختلف من عصر لعصر، فقد يكون مثلا في بلد من البلدان أن قول بعضهم لبعض: (ماء) معناه مشروب معين يصنع بطريقة معينة.
ولذلك تجد أكثر أخطاء المحققين لكتب أهل العلم سببها أنهم يجرون أعرافنا المعاصرة على كلام هؤلاء، فيجعلون البعيد قريبا والمحال واجبا واللازم محالا !!

وأنصح إخواني في الله أن يجربوا هذا الأمر، وذلك بأن تقصر نفسك على قراءة كتب أحد أهل العلم مدة معينة من الزمن، حتى تحيط بجملة وافرة منها، ثم انظر بعد ذلك هل يكون استيعابك للكلام أكبر وفهمك لما بين السطور أكثر حتى تكاد في بعض الأحيان تعرف ماذا سيقول في السطر القادم قبل أن تقرأه !!

وقد سمعنا عن كثير من العلماء والشعراء والأدباء كان أحدهم يسمع شطر البيت فيذكر الشطر الثاني من غير أن يكون قد سبق له سماعه!! فإذا سئل: من أين عرفته؟ قال: هذا ما ينبغي أن يقال، أو نحو ذلك.

وكثيرا ما كنت أحضر بعض المناقشات فأجد كلا من الطرفين يدعي أن فهمه هو المتبادر!! وأن الصواب حمل الكلام على الفهم المتبادر!!
فنقول: هذا صحيح، ولكن المتبادر عند من؟! ليس عندي ولا عندك، وإنما عند أهل اللسان، عند السلف الذين عاينوا الأحوال وتشربوا القرائن التي هي الأساس في هذا الذي تدعي أنه (المتبادر).
فإذا كنت قد نظرت وقرأت وأكثرت من الاطلاع على كلام هؤلاء حتى صارت لك فيه ملكة، فحينئذ يكون المتبادر عندك قريبا من المتبادر عندهم، أما بخلاف ذلك فلا وألف لا !!

ولذلك نجد أبعد الناس عن صحة الفهم - فهم كلام السلف - من يقصر علمه ويقضي عمره في النظر في كتب بعض المتأخرين حتى يكون كلام السلف عنده أشبه باللغة الأعجمية !

أسأل الله سبحانه أن يمدنا بمدد من عنده، وأن يرزقنا حسن الفهم، وصحة العلم، وصواب العمل.
إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.
 
جزاك الله خيرا ..
وسددك ..
وزادك علما وحكمة ..
وثبت قلبك على دينه.

قرأت مقالاتك وانتفعت بها ..
فأسأل الله أن يغفر لك ويتوب عليك.
 
آمين وإياك يا أخي الكريم

ومن هذا الباب ما تسمعه كثيرا من طلبة العلم : (ما الدليل؟) (أعطني دليلا) (هذا ليس بدليل) ... إلخ في أمور مفروغ منها عند العلماء.
ويظن المسكين أن مثل هذا الكلام يصلح حجة لإبطال الدليل.
والحقيقة التي تظهر بأدنى تأمل أن هذا الدليل لا إشكال فيه على الإطلاق، وإنما الإشكال في عقله الذي لم يقدر على استيعاب دلالة الدليل؛ فيكون مثله كمثل رجل اشترى ثوبا فوجده واسعا فقال: هذا الثوب غير يصلح.
نعم هو غير صالح لك أنت، لكنه يصلح لغيرك ممن يقدر على فهمه.
 
مقال مفيد
كلام سديد
رأي فريد
جزيتم خيرا
ووفقكم الله إلى كل خير
فإن قيل :ما بالنا تأخرنا عن غيرنا مع أننا كنا نحن المتقدمون؟
فالجواب: لأننا أصبحنا لا نقرأ
وإذا قرأنا لا نفهم
وإذا فهمنا لا نعمل
وإذا عملنا لا نتقن
ولا حول ولا قوة إلا بالله
 
مقالة رائعة حقاً، ولعل مما يضاف هنا -ولعله ذُكر ضمن الكلام ولم أتنبه له- أن غياب التأصيل العلمي الصحيح هو من أكبر اسباب سوء فهم كلام العلماء ، وكلما اقتربت أكثر من معارف الإمام والعلوم التي تشربها كلما فهمته أكثر، أما إذا كنت بعيدا عن العلوم التي ينطلق منها العالم وكان يوظف تلك العلوم دون تنصيص فإنك لن تفهمه أبداً ، وستظن في الوقت نفسه أنك فهمته جيداً لأنه لم ينص على أي مصطلح تجهله، وسأضرب بعض الأمثلة لأهميتها في ظني - وأرجو أن يأخذها الإخوة دون حساسية إذا الهدف التناصح -:
المثال الأول: كان البقاعي رحمه الله في تفسيره " نظم الدرر " يوظف القواعد البلاغية بإشارات سريعة دون أن ينص على أكثرها، ويكون كلامه مفهوماً جداً لكل من لا يعرف البلاغة أصلاً وهو في حقيقة الأمر لم يفهم مراد البقاعي أبدأ، وقد مرت بي مواقف مع هذا السفر النفيس عجز فيها بعض طلاب العلم عن فهم كلامه دون أن يشعروا بعجزهم وكانوا يظنون أنه كلام عادي مفهوم ولم يتنبهوا لأي إشارة بلاغية فيه رغم كثرتها، وكان ذلك لأحد سببين:
أ/ شخص لا يعرف البلاغة، وهذا السبب أكثر انتشاراً.
ب/ شخص لم يعتد على أسلوب البقاعي، وهذا لا يحتاج إلا لتنبيه يسير.
المثال الثاني: كان ابن تيمية رحمه الله في بعض كتبه في الرد على الفلاسفة ونحوهم يبني كلامه على المنطق وعلم الكلام ، ويقرأ كلامه فئام من الناس -ما بين علماء وطلاب علم ومثقفين - لا معرفة لهم بالمنطق أصلاً ، ويظنون أنهم فهموا كلامه، لأنه -كما قلت من قبل - لم ينص على المصطلحات.
المثال الثالث: انطلق ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين من منطلقات صوفية ، فصار من يقرأ الكتاب ممن لا يعرف مصطلحات القوم - وهم كثيرون - أحد رجلين:
1/ يعجبه الكتاب دون أن يفهم بعده الصوفي.
2/ ينقد الكتاب ويقول : "ليت ابن القيم لم يكتبه" رغم أنه كصاحبه لم يفهمه.
هذا وإن فهم كلام أهل العلم -على وجهه - من أعظم السبل لعذرهم في اجتهادهم والتأدب معهم، وأخيراً فإن التجرد للحق في فهم كلام العلماء لا يكفي بدون ما أشرت إليه من التأصيل العلمي الذي يعد غيابه من أكبر ما ابتلينا به في هذا الزمان .
 
موضوع في غاية النفاسة ، وفي التفسير أقوال كثيرة للسلف ردها المتأخرون بسبب عدم فهم المقصود أو العجلة في الرد ، وأبرز ما تلمس فيه ذلك من المسائل المشتهرة : الحروف المقطعة
وما أجمل كلام عبد القاهر الجرجاني في تأمل الكلام والتغلغل فيه إذ يقول " واعلم أنك لا تشفي الغلة، ولا تنتهي إلى ثلج اليقين حتى تتجاوز حد العلم بالشيء مجملاً إلى العلم به مفصلاً، وحتى لا يقنعك إلا النظر في زواياه والتغلغل في مكامنه، وحتى تكون كمن تتبع الماء حتى عرف منبعه، وانتهى في البحث عن جوهر العود الذي يصنع فيه إلى أن يعرف منبته، ومجرى عروق الشجر الذي هو منه." دلائل الإعجاز ص: 76
ومن أنفس ما يطالع في صعوبة فهم كلام أهل العلم : مدخل إلى كتابي عبد القاهر للعلامة محمد محمد أبو موسى
مع اعتذاري لعمي الشيخ محمد نصيف لدخولي فيما ليس من بابي
 
شكر الله لكم يا أخي الفاضل , ونرجوا أن تتوالى علينا كتاباتكم الرائعة هنا لتجعل من هذا الملتقى "ألوكة"أخرى
icon7.gif
.
وطول الصحبة لعصر أو مؤلف ما تجعل المرء على دراية به ولا أدل على ذلك من قول بعض الحفاظ : " علمنا بهذا -يعني علل الحديث- كهانة عند الجاهل" ,وهذا يدل على أن بعض الناس صار يعرف "نكهة" عالم أو عصر معين ومن ذلك أن الشيخ محمد بن قاسم سأل الشيخ حماد الأنصاري عن كلام لشيخ الإسلام "رحم الله الجميع" فقال له الشيخ حماد : " اسأل والدك -يعني الشيخ عبدالرحمن بن قاسم جامع الفتاوى- فلو تنفس شيخ الإسلام لعرف والدك نفسه"
لاحرمنا فوائدك يا أبا مالك .
 
التعديل الأخير بواسطة المشرف:
مقال مفيد
كلام سديد
رأي فريد
جزيتم خيرا
ووفقكم الله إلى كل خير
جزاك الله خيرا وبارك فيك

فإن قيل :ما بالنا تأخرنا عن غيرنا مع أننا كنا نحن المتقدمون؟
فالجواب: لأننا أصبحنا لا نقرأ
هذه ظاهرة واضحة مع الأسف؛ لكن العجب العجاب أن بعض من لا يقرأ يحسب أن هذا مدح له !

وإذا قرأنا لا نفهم
إذا لم نفهم فهذا خطبه يسير، إذ يمكن أن نسأل، لكن الإشكال الكبير هو أن نظن أننا قد فهمنا ونحن في الحقيقة لم نفهم !
وهذا هو المقصود بالمقال.

وإذا فهمنا لا نعمل
موعظة حسنة، فجزيت خيرا
فاعمل ولو بالعشر كالزكاةِ ........ تخرج بنور العلم من ظلْماتِ

وإذا عملنا لا نتقن
ولا حول ولا قوة إلا بالله
إتقان العمل خطبه أيسر؛ ولعله يتحسن مع الوقت، والله المستعان.
 
مقالة رائعة حقاً
جزيت خيرا وبورك فيك.

المثال الأول: كان البقاعي رحمه الله في تفسيره " نظم الدرر " يوظف القواعد البلاغية بإشارات سريعة دون أن ينص على أكثرها، ويكون كلامه مفهوماً جداً لكل من لا يعرف البلاغة أصلاً وهو في حقيقة الأمر لم يفهم مراد البقاعي أبدأ، وقد مرت بي مواقف مع هذا السفر النفيس عجز فيها بعض طلاب العلم عن فهم كلامه دون أن يشعروا بعجزهم وكانوا يظنون أنه كلام عادي مفهوم ولم يتنبهوا لأي إشارة بلاغية فيه رغم كثرتها
لعلك تمثل ولو بمثال واحد على ذلك يا شيخنا الفاضل، فالأمثلة كالصور توضح المقصود أكثر من الكلمات.

المثال الثاني: كان ابن تيمية رحمه الله في بعض كتبه في الرد على الفلاسفة ونحوهم يبني كلامه على المنطق وعلم الكلام ، ويقرأ كلامه فئام من الناس -ما بين علماء وطلاب علم ومثقفين - لا معرفة لهم بالمنطق أصلاً ، ويظنون أنهم فهموا كلامه، لأنه -كما قلت من قبل - لم ينص على المصطلحات.
هذا صحيح، وأعجب منه أن بعض أهل العلم المشار إليهم بالبنان يعترض على شيخ الإسلام لمجرد أن كلامه فيه غموض عنده!

هذا وإن فهم كلام أهل العلم -على وجهه - من أعظم السبل لعذرهم في اجتهادهم والتأدب معهم، وأخيراً فإن التجرد للحق في فهم كلام العلماء لا يكفي بدون ما أشرت إليه من التأصيل العلمي الذي يعد غيابه من أكبر ما ابتلينا به في هذا الزمان .
نعم، ويدل على هذا أن كثيرا جدا من مواطن الاعتراض على العلماء التي وقفت عليها في المنتديات وغيرها يكون السبب فيها سوء فهم الطالب لكلام العالم، وسوء ظنه أيضا بالعالم!!
فيأتي مثلا لمثل الإمام أحمد ويعترض عليه بحديث لا يخفى على طلبة الابتدائي ويقول: لعله لم يبلغ الإمام أحمد!
ويأتي لمثل ابن تيمية ويعترض عليه بقاعدة أصولية موجودة في الورقات مثلا ويحسب أن مثل هذا يخفى على ابن تيمية!
أنا لا أزعم أن العلماء لا يخطئون، ولكن الذي يريد أن يخطئ العلماء ينبغي أن يخطئهم فيما يمكن أن يخطئوا فيه.
وقد وقفت على موضع نفيس من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية نقل فيه كلاما منسوبا لأحد العلماء المبتدعين ثم قال: وهذا الكلام لا يمكن أن يصح عنه؛ لأنه وإن كان مبتدعا إلا أنه كان عالما وهذا الخطأ لا يقع مثله لصغار الطلبة.

وأعجب من كل ما سبق أن يأتي بعض المعاصرين فلا يكفيه أن يخطئ واحدا من العلماء، بل يتخطى ذلك إلى تخطئة جميع العلماء على مر العصور في مسألة اتفقت كلمتهم فيها على قول واحد تواردوا عليه من غير أن يستنكره أقلهم علما فضلا عن أكثرهم؛ كمثل صاحب (جناية سيبويه) و(جناية البخاري) و(جناية الشافعي)!!
وإلى مثل هذا أشرت بهذا المقال:
http://www.alukah.net/Culture/0/22963/
 
موضوع في غاية النفاسة
جزيت خيرا وبورك فيك.

وفي التفسير أقوال كثيرة للسلف ردها المتأخرون بسبب عدم فهم المقصود أو العجلة في الرد ، وأبرز ما تلمس فيه ذلك من المسائل المشتهرة : الحروف المقطعة
أكثر الاعتراضات على أهل العلم قديما وحديثا فيما أزعم سببها حمل كلام العالم على غير مراده.

وما أجمل كلام عبد القاهر الجرجاني في تأمل الكلام والتغلغل فيه إذ يقول " واعلم أنك لا تشفي الغلة، ولا تنتهي إلى ثلج اليقين حتى تتجاوز حد العلم بالشيء مجملاً إلى العلم به مفصلاً، وحتى لا يقنعك إلا النظر في زواياه والتغلغل في مكامنه، وحتى تكون كمن تتبع الماء حتى عرف منبعه، وانتهى في البحث عن جوهر العود الذي يصنع فيه إلى أن يعرف منبته، ومجرى عروق الشجر الذي هو منه." دلائل الإعجاز ص: 76
شجعتني على وضع الفوائد المنتقاة من كتابي عبد القاهر، وهي مستخرجة عندي منذ مدة طويلة، إلا أني أضن بها على الاعتراض !
مثلها في ذلك مثل موافقات الشاطبي وفروق القرافي.

ومن أنفس ما يطالع في صعوبة فهم كلام أهل العلم : مدخل إلى كتابي عبد القاهر للعلامة محمد محمد أبو موسى
كتاب رائع؛ تعلمت منه : التعلم ، والتفكر ، والتأدب ، والتريث .
 
شكر الله لكم يا أخي الفاضل , ونرجوا أن تتوالى علينا كتاباتكم الرائعة هنا لتجعل من هذا الملتقى "ألوكة"أخرى
icon7.gif
.
آمين وإياكم يا أخي الكريم، وإن شاء الله ترى ما يسرك.

وطول الصحبة لعصر أو مؤلف ما تجعل المرء على دراية به ولا أدل على ذلك من قول بعض الحفاظ : " علمنا بهذا -يعني علل الحديث- كهانة عند الجاهل" ,وهذا يدل على أن بعض الناس صار يعرف "نكهة" عالم أو عصر معين ومن ذلك أن الشيخ محمد بن قاسم سأل الشيخ حماد الأنصاري عن كلام لشيخ الإسلام "رحم الله الجميع" فقال له الشيخ حماد : " اسأل والدك -يعني الشيخ عبدالرحمن بن قاسم جامع الفتاوى- فلو تنفس شيخ الإسلام لعرف والدك نفسه"
نعم، ولهذا كان بعض المتقدمين يجعلون شدة تبحر الشخص في علم من العلوم سببا لترجيح قوله على قول غيره، وهذا معروف من قول أبي حنيفة وأصحابه، ولاحظته أيضا في بعض مسالك الإمام أحمد.
ويمكن أن يستأنس لذلك بمثل قول أبي موسى الأشعري: لا تسألوني عن شيء ما دام هذا الحبر [يعني ابن مسعود] بين أظهركم.

لاحرمنا فوائدك يا أبا مالك .
آمين وإياك.
 
هذا صحيح، وأعجب منه أن بعض أهل العلم المشار إليهم بالبنان يعترض على شيخ الإسلام لمجرد أن كلامه فيه غموض عنده!

وأعجب منه أن أحد العلماء المعاصرين-وقد رددتُ عليه قريباً- جعل صعوبة كلام الشيخ دليلاً على ضعف استيلاء الشيخ على المادة!!
وهذا كلام يُستحى من حكايته فضلاً عن قوله..
 
للتذكير

المثال الأول: كان البقاعي رحمه الله في تفسيره " نظم الدرر " يوظف القواعد البلاغية بإشارات سريعة دون أن ينص على أكثرها، ويكون كلامه مفهوماً جداً لكل من لا يعرف البلاغة أصلاً وهو في حقيقة الأمر لم يفهم مراد البقاعي أبدأ، وقد مرت بي مواقف مع هذا السفر النفيس عجز فيها بعض طلاب العلم عن فهم كلامه دون أن يشعروا بعجزهم وكانوا يظنون أنه كلام عادي مفهوم ولم يتنبهوا لأي إشارة بلاغية فيه رغم كثرتها

لعلك تمثل ولو بمثال واحد على ذلك يا شيخنا الفاضل، فالأمثلة كالصور توضح المقصود أكثر من الكلمات.
 
مقالة نفيسة ، وتعليقات فيها إضافات رائعة، أسأل الله للجميع التوفيق والسداد.
 
الأستاذ الفاضل :أبو مالك ،جزاك الله خيرا....ومن هذا الذي أصلته يظهر حجم الجرأة عند المتعالمين الذين ينقدون منحى بعض أهل العلم في بعض المسائل، ولم يبلغوا معشار ماأوتوا من الخبرة والممارسة،فالله المستعان.
ملاحظة: استهجن بعض أهل العلم إطلاق لفظة "مادة" على القرآن الكريم، وهو ملحظ وجيه،لأن لفظ "مادة" يطلق على ماهو مخلوق، والقرآن كلام الله غير مخلوق.
 
جزاك الله خيرا على هذا المقال "الثاني" الرائع، وعلى تشبيهك البليغ الذي ذكرني بأيام خلت، لم يستمع فيها الشباب الجزائري لنصائح علمائنا الأفذاذ، وقد رسموا لهم المسار الصحيح للإصلاح والدعوة إليه، فكان الشيخ الألباني رحمه الله لما يكثر عليه الشباب في وصف الواقع ولسان حالهم يقول:"أنت لا تفهم واقعنا ياشيخ"،فيرد عليهم بكل ثقة:"الأيام بيننا".....وحقيقة أبدت لنا الأيام المستور وندم الكثير فلم ينفعهم الندم، وكان المآل إلى فتنة جعلت الحليم حيرانا، وكان الشيخ ابن عثيمين رحمه الله لما لجؤوا إليه يسألهم:"هل يتركونكم تعظون الناس وتدعون إلى الله في المساجد وغيرها؟ "فيجيبونه: "نعم"، فيقول رحمه الله: "دعوكم من الحزب والعمل السياسي،وامضوا في هذا الطريق"، فينظرون إليه نظر المغشي عليه من الموت،ثم يتولون عنه وهم معرضون.
والآن وقد اكتملت الصورة، الجميع أدرك أن العلماء ليسوا كأحد من الناس،رحمهم الله جميعا ورضي عنهم.
 
عودة
أعلى