كتب أحمد الدبش في كتابه (موسى وفرعون في جزيرة العرب) في الفصل السادس صفحة (51 ـ 64) تحت عنوان (مصر، المشكلة، والحل!) يقول:
يتفق ثلاثة من ثقاة الباحثين العرب في مجالات الدراسات التوراتية، أن مصر التوراتية هي غير مصر - وادي النيل، وأنها، أي مصر التوراتية، ليست إلا إقليما في الجزيرة العربية. فيذهب العلامة د. كما الصليبي إلى أن المقصود بمصراييم في التوراة هو: أل مصرمة، بين أبها وخميس مشيط، وقرية مصر في وادي بيشة في إقليم عسير. أما تفسير د. زياد منى فهو: مصراييم في هذا التقسيم الإثني يقصد بها مصر في جزيرة العرب (أي إقليم مصر). أما الباحث فرج الله صالح الديب فله رأي يخالف ذلك، وهو أن مصر التوراتية ما هي إلا منطقة السحول اليمنية والمسماة سرة اليمن أو مصر اليمن.
هكذا أصبحت مصر إقليما في جزيرة العرب، ولكن؛ هل يوجد في النقوش العربية ما يؤكد هذا الطرح؟ هناك نقش معيني يرجع إلى عهد الملك معين (أبيدع يثع) وابنه (معد كرب إل يفع) من النقوش التي عثر عليها في مدينة براقش (يثل في النقوش)، وهو في مدونة النقوش الفرنسية (ربرتورا/3022) وصاحباه هما:
عم صدق / بن / حم عثت / ذ يفعن / وسعدم / بن / علج / ذ ضفجن أي: (عمي صدق بن حمى عثت ذي يفعن) و(سعد بن علج ذي صفجين) يصفان نفسيهما بأنهما: كبرى / مصرن / ومعن / مصرن أي: (كبرى مصرن ومعين مصرن). وهذه إشارة إلى إقليم أو منطقة تعرف حتى النصف الثاني من القرن الأول قبل الميلاد بـ: مصرن أو المصر، إذا اعتبرنا النون هي لاحقة التعريف العربية الجنوبية، وبهذا فقبيلة معين (معن) هي جزء من إقليم مصرن / المصر.
ويعلق على ذلك د. عبد العزيز صالح قائلا: ثمة قضية قديمة جديرة بالاعتبار، لا بأس من ذكر مناقشتها في هذا المقام، لاحتمال صلتها بمصر ... وهي أن بعض النصوص العربية الجنوبية ذكرت اسم "معن مصرن"، وعنت به منطقة ما في شمال شبه الجزيرة العربية، كان يقيم بها أو يشرف عليها كبير أي وال من دولة معين اليمنية الجنوبية. وفي تعيين منطقة "معن مصرن" هذه وتحليل اسمها رأى عدد من باحثي الجيل الماضي، ولا يزال يأخذ برأيهم الأستاذ أدولف جروهمان في كتابه (Arabien) الذي أصدره 1963، أن الاسم يعني واحة العلا أو عاصمة ددان بعد أن ظهر فيها النفوذ التجاري والسياسي لدولة معين الجنوبية، وجعلها أكبر مراكز التجارة المعينية في مال شبه الجزيرة، وترتب على ذلك أن عرفت الواحة باسم عميلتها الكبرى "معن" أي معين الجنوبية، ولكن؛ مع تخصيصها بصيغة "مصرن" التي قد تعني معنى الحد أو الحاجز. على انه ثمة افتراضا آخر نشير إليه على سبيل التحوط وتقليب المشكلة التاريخية على كل وجوهها، وهو احتمال دلالة اسم "معن مصرن" على معان المصرية، في أقصى شمال الحجاز لدى الحدود الأردنية، وقد ورد اسمها في بعض المصادر الإسلامية فعلا مرادفا لاسم معان الحجازية، وفي مقابل معان المالية، لكنه افتراض فيه بعض الضعف، بسبب ما ذكرته النصوص المعينية الجنوبية عن إقامة كبير معين أو والي معين في "معن مصرن"، وليس ن بينة معروفة على امتداد نفوذ دولة معين اليمنية إلى قرب الحدود الأردنية، وإنما هو نفوذ اقتصر مداه الشمالي القديم على واحة لحيان في حدود ما نعلمه من المصادر حتى الآن.
وقد أثارت (معن مصرن) أو (معين مصرن)، جلا شديدا بين العلماء، ولاسيما علماء التوراة، فذهب بعضهم هوغو ونكلر (Hugo Winckler) إلى أن مصر أو مصرايم (Mizraim) الواردة في التوراة ليست المعروفة التي يرويها نهر النيل، بل أريد بها (معين مصران)، وهو موضع تمثله (معان) في الأردن في الزمن الحاضر. وإن لفظ (PERO) التي ترد في التوراة أيضا لقبا لملوك مصر، والتي تقابلها لفظة فرعون في العربية، لا يراد بها فراعنة مصر، بل حكام (معين مصران)، وأن عبارة هاكرهم مصريت HAGAR HAM _ MISRITH)، بمعنى هاجر المصرية، لا تعني هاجر ن مصر المعروفة، بل من مصر العربية، أي ن هذه المقاطعة التي تحدث عنها (معن مصرن) وإن القصص الواردة في التوراة عن مصر وعن فرعون، هي قصص تخص هذه المقاطعة العربية، وملكها العربي.
لكن من الأمور المثيرة للدهشة اكتشاف لقى أثرية عراقية مسجل عليها، بالأحرف المسمارية كلمة (مصر)، ويعلق على ذلك العالم الأثري المصري عبد العزيز صالح قائلا: أضافت النصوص الآشورية اسمين أثارا مشكلة عويصة، فروت أن ملكها جزي برءو (برعو) ملك مصرو، كما روت أنه تلقى اثني عشر جوادا كبيرا لا مثيل لها، هدية من شليخيني (أو شلكاني) وهو ملك مصري، وأشارت معها إلى ما سمته باسم مدينة نخل مصر. ويبدو أن هذه الأسماء لم تكن لها صلة بمصر بمعناها المعروف؛ حيث ذكرت النصوص الاشورية اسم برءو (برعو) ملك مصر ومع رؤساء البادية مثل سمسي ملكة أريبي، ويثع أمير السّبئ، وذلك مما قد يعني أن منطقة مصرو كانت من مناطق البادية أيضا، ويغلب الظن أنها كانت قريبة من البحر الأحمر ومن الحدود المصرية، وأنها المنطقة نفسها التي روى "شلمانصر" من قبل أنه عين عليها الشيخ البدوي إديبئيل. أما برءو، فقد يكون تحريفا لاسم شيخها البدوي في عهده. أو تكون تبعيتها القديمة لمصر قد أغرت الكتبة الآشوريين على اعتبار جزاها من جزئ الفرعون المصري نفسه، وكان لقبه في اللغة المصرية برعو فعلا. أما شليخيني أو شلكاني ملك مصري، فقد يكون تحريفا لاسم عربي مثل سلحان، كما رأى الباحث "ريكمان". وليس اسما لفرعون مصري، كما ظن "فيدنر"، يضاف إلى ذلك، أن مصر لم تشتهر بتربية الخيول الكبيرة التي أشارت إليها نصوص سرجون، وإنما كانت جيادها صغيرة الحجم نسبيا، على الرغم من تهجينها بسلالة ليبية في العصور المتأخرة. بقي اسم نخل مصر، وهذا قد يترجم بمعناه الآشوري بمعنى قناة مصر، أو سيل مصر، ويدل بذلك على جزء من وادي العريش، أو جزء من خليج السويس. كما رأى بعض الباحثين، أو يدل على واد قريب من رفح، كما نم عن ذلك نص آخر، أو يكون له بعض الصلة باسم قرية نخل الحالية في شبه جزيرة سيناء.
وهكذا ظهر أن النصوص الاشورية لا تتحدث عن وادي النيل، فذهب بعض العلماء إلى أن ما ورد في النصوص الاشورية من ذكر لـ Musri لا يعني أيضا مصر المعروفة، بل مصر العربية، وأن ما جاء في نص تغلاتبسر الثالث الذي يعود عهده إلى حوالي سنة 734 قبل الميلاد، من أنه عين عربيا Arubu واسمه ادبئيل (اد ب ال) (ادب ايل) Idibail حاكما على (Musri)، لا يعني أنه عين حاكما على مصر الأفريقية المعروفة، بل على هذه المقاطعة العربية التي تقع شمال نخل مصري أي وادي مصر. ويرى "وينكر"، أن سبعة (Sibe) الذي عينه تغلا تبسر سنة 725 ق.م على مصري، والذي عينه سرجون قائدا على هذه المقاطعة، إنما عين على أرض مصر العربية، ولم يعين على مصر الأفريقية. وقد ورد في أخبار سرجون أن من جملة من دفع الجزية إليه برعو (Piru) وقد نعت في نص سرجون بـ "برعو شاروت مصري"، أي "برعو ملك أرض مصري". وورد ذكر برعو هذا في ثورة أشدود التي قامت سنة 711 ق.م وورد ذكر مصري في أخبار سنحاريب ملك آشور، وكان ملك مصري، وملك ملوخا، قد ساعد اليهود ضد سنجاريب.
ويرى "وينكلر" إنا كل ما ورد في النصوص الآشورية عن مصري مثل: "شراني مت مصري" (SHARRANI MAT MUSRI)، أي ملوك أرض مصر إنما قصد به هذه المقاطعة العربية.
علاوة على ذلك، فقد عثر سنة 1956 في حرن على كتابة مهمة جدا في بحثنا هذا دونها الملك "نبونيئد"، وكانت مدفونة في خرائب جامع حران الكبير، تتحدث عن تأريخ أعمال ذلك الملك، ومما جاء فبها: أنه لما ترك بابل وجاء تيماء، أخضع أهلها، ثم ذهب إلى ددانو (ديدان) وبداكو (فدك) وخبرا (خيبر) وإيديخو (؟) حتى بلغ أتريبو (يثرب) ... ثم تحدث بعد ذلك عن عقدة صلحا مع مصر وميديا ومادا ومع العرب.
عند قراءة هذا النقش بتمعن يتضح منه انه يجب ان تكون مصر هذه المذكورة في النقش قريبة جدا من باقي البلاد، ليمكن ربط الأحداث مع بعضها. كما لا يوجد في كل ما اكتشف في مصر _ واي النيل ما يشير إلى هذا الصلح.
إن النقوش آنفة الذكر لم تكن الإثبات الوحيد على وجود إقليم في جزيرة العرب باسم مصر، فعلى سبيل المثال نقرأ أن الكاتب الإغريقي "أبولودور" (Appollodorus) كان على علم بهذه المسألة وسجلها في مؤلفه المكتبة (Bibliotica)، الذي يعتقد بأنه صدر في القرن الأول أو الثاني قبل الميلاد، وفي ذلك المؤلف الذي يحوي الخرافات والأساطير الإغريقية، أشار الكاتب لـ "مصر في جزيرة العرب" هذه الإشارة العابرة لإقليم مصر، تؤكد أنه وجد في ذاكرة العالم القديم وحتى القرن الثاني أو الأول قبل الميلاد، معلومة، أو بقايا معلومة، عن بلاد باسم مصر في جزيرة العرب.
بناء على ما تقدم يستخلص أنه وجدت في الماضي منطقة في جزيرة العرب عرفت باسم مصر. ولكن؛ أين موقعها الجغرافي؟ يرى بعض الباحثين أن الاسم "مصر" يشير إلى نطقة من مناطق البادية، ويغلب الظن أنها كانت قريبة من البحر الأحمر ومن الحدود المصرية (د. عبد العزيز صالح)، ولكن هذا التحديد أقرب إلى النفي منه إلى أي شيء آخر، لأنه لا يعتمد على أدلة أو حجج علمية. برأينا أن "مصر" أرض تقع في جنوب شبه الجزيرة العربية. وللبرهان على ذلك علينا استشارة التوراة وما قاله المؤرخون القدامى وإعادة قراءة النقوش الأثرية التي ورد فيها اسم "مصر" قراءة موضوعية. تقول التوراة واصفة تنقلات إبراهيم: "وانتقل إبراهيم من هنالك إلى أرض الجنوب وسكن بين قادش وشور" _ سفر التكوين (20 _ 1)، وتكرر التوراة الإشارة إلى الموضع (شور) عدة مرات، كموضع أو مدسنة شهيرة في تلك البلاد الجنوبية التي ارتحل إليها إبراهيم. وتحدد التوراة في موضع آخر مكان بلاد (شور) قائلة: "شور التي أمام مصر" _ سفر التكوين (25 _ 18)، وقد افترض مؤخرا الأشاوس على الفور أن المقصود من (شور) هو بلاد أشور الرافدين، بينما بلاد آشور لا تقع أمام مصر وادي النيل ولا خلفها. فأين موضع شور هذه؟ إن تحديد موضع شور هذه، سوف يؤكد فرضيتنا بأن هناك مقاطعة في شبه الجزيرة العربية وتحديدا في اليمن أطلق عليها اسم مصر، وفي ذلك يقول "هوغو ونكلر" (Hugo Winckler): إن أشوريم عشيرة عربية من قبائل قطورة بإجماع علماء التوراة، ولا صلة لها بـ (أشور) أي ألشوريين، وقد ورد في الترجوم أن أشوريم مضرب لخيام أشور، وقد ورد اسم أشور في نصوص معينية مقرونا باسم موضع عبر نهرن، ونقع هذهالمنطقة من طور سيناء إلى بئر السبع وحبرون وتحاذي مصر في جزيرة العرب ... .
لكن ماذا كانت تعني النصوص المعينية بـ "ااشور / ااشر" المقرونة بـ "عبر نهرين"؟ السادة مؤرخونا الأفاضل أصحاب وحراس الفكر العربي الآسن، ممن تربوا على أيدي الأثريين التوراتيين، كان لهم تفسير غاية في الغرابة، فذهبوا إلى أن "ااشور / ااشر" هي آشور، عبر النهرين هي بلاد ما بين النهرين!؟.
لكننا بالبحث عن هذه الأمانكن، نفاجأ بأنها موجودة في إطار جغرافية اليمن، لا في بلاد أخرى يفترض وجودها فيها.
فالمؤرخ "د. جواد علي" يذكر في كتابه الموسوعي (المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) "إن أهم المدن القديمة فيها (يقصد دولة قتبان)، كانت شور وحريب".
علاوة على ذلك يوجد "واد السر" على بعد 23كم إلى الشمال الشرقي من صنعاء، يطل عليه حصن (ذي مرمر) وحصن ضباب وجبل صرع. وقد وصفه لسان اليمن المؤرخ "الهمداني"، في سفره الرائع صفة (جزيرة العرب): "هو من عيون أودية اليمن وبه قرى كثيرة ومنازل لآل الروية للضيافة ولمن سبل الطريق، وفيها من جبال مراد جبل برجام في السر، ومنازل آل الروية باعفاف وحذان من السر ... والسر مبتدأ المحجة إلى البصرة من صنعاء ووادي سعوان .." .
أما فيما يخص"عبر النهرين" فهناك في الراضي اليمنية واد يدعى وادي ميتم يتفرع عن جبل التعكر إلى فرعين، وبينهما أسست مدينة "جبلة" وقد وصفها "ياقوت الحموي" قائلا: "جبلة بالكسر ثم السكون ذو جبلة مدينة باليمن تحت جبل صبر وتسمى ذات النهرين وهي من أحسن مدن اليمن وأنزهها وأطيبها ... وكان أول من اختطها عبد الله بن محمد الصلحي المقتول في سنة 374، وكان أخوه علي ولاه حصن التعكر وهذا الحصن على الجبل المطل على ذي جبلة، وهي في سفحه، وهي مدينة بين نهرين جاريين في الصيف والشتاء".
وفي ذلك يقول "ابن المجاور" في مؤلفه (تاريخ المستبصر) قائلا: "ذي جبلة من مخلاف جعفر، وجبلة كان رجلا يهوديا يبيع الفخار في الموضع الذي بنيت فيه دار العز، وبه سميت المدينة، وأول من اختط ذي جبلة "عبد الله بن محمد الصليحي" "... وهي مدينة بين نهرين جاريين في الصيف والشتاء" ويستطرد "اين المجاور" عند الحديث عن صفة بناء ذي جبلة فيقول: "بنى بذاك الصليحي في مخلاف جعفر وحدودها بالطبول من نقيل صيد إلى مصابح، وبالعرض من سوق وصفات على حصن الطريمة إلى ذي الأسود من حدود مخلاف حب. وتسمى قلعة النهرين لأن جبل التعكر ما بين أيمن البلد وشماله ومجمع النهرين في آخر البلد عن موضع يقال له وادي ميتم، كما قال "المازني" في بعض قصائده؛ حيث يقول:
ما مصر ما بغداد ما طبرية ـــــ كمدينة قد حازها النهران
حدود لها شأم وحب مشرق ـــــ وكذلك تعكرها المنيف ماني
هناك نقش معيني (جلاسر 1155) أثار ضجة بين الدارسين واختلفوا في تقدير زمنه. وكان ذلك النقش يتحدث عن غارة سبئيين وخولانيين على قافلة معينية في موضع بين معين ورجمة التي يعتقد أنها مدينة نجران نفسها. ويذكر حربا كانت دائرة وقتها بين مذي وبين مصر في وسط مصر.
واختلف الباحثون في تعيين زمن وقوع الحرب، كما اختلفوا في تثبيت هوية المتحاربين.
فذهب كثيرون، ومنهم صاحب النقسش "جلاسر"، إلى البحث عن معارك وحروب في مصر _ وادي النيل. ولم يثر الشك لديهم في أن مصر المقصودة هنا تقع في اليمن قرب سبأ ومعين، أن موقع المعركة يمكن أن يكون داخل اليمن، وضمن نزاعات الممالك القديمة المسلحة التي كانت تعصف بالبلاد. فبمطلق الأحوال، "معين" صاحبة حضارة شهيرة، ولا داع لذكرها. في حين أن "رجمة" هي برجام: بكسر الباء الموحدة، يسمى اليوم رجام: بكسر الراء، وهي من أودية السر ذات أعناب كثيرة وتنمو فيها شجر القات، وهكذا فمن المحتمل أن يكون وادي السر هو المقصود بـ "ااشور / ااشر"، التي وردت في بداية النقش.
أما الحرب بين مذي ومصر في وسط مصر، فقد تكون حربا قامت بين (مذي اليمانية) و(مصر اليمانية)، فقد أشارت "مذي" المذكورة في النقش إلى موقع ما هو "ميدي"، ضمن المناطق السهلية، وميدي مركز القضاء ومدينة شهيرة على البحر الأحمر، ومن الموانئ التي تستقبل السفن الشراعية للاستيراد والتصدير، وتقه بالقرب من أقصى الحدود الشمالية لليمن، وتتبع إداريا لواء حجة، كما أن ميدي تعتبر عاصمة لقضاء ميدي، إحدى أقضية هذا اللواء قضاء" ميدي على العموم منطقة تهامية.
أما عن مصر، فربما يكون المقصود بها منطقة السحول التي يطلق عليها مثر اليمن. كما سنرى بعد قليل علاوة على ذلك لدينا العديد من النقوش التي انفردت بذكر اسم "مصر" وقد ورد هذا الاسم (مصر) في مجموعة النقوش المسندية المنشورة في كتاب "مطهر الإرياني" الموسوم (في تاريخ اليمن: نقوش مسندية وتعليقات) وقد وردت في المسند رقم (5): ملك سبأ / وذريدن / وكل / مصر / ... مصر / يدع إل / ملك حضرموت ... وكل / مصر .. .
وفي المسند رقم (21) على هذا النحو:
... بعلى / مصر / حضرموت ... .
ويشير نقش (جام 612) إلى حرب شنها الملك عل حضرموت، وهو نقش قصير تركه لنا أحمد ينعم بن نشاي مقتوي الملك بمناسبة عودته من تلك الحرب التي رافق فيها الاقبال والحبشة بأرض حضرموت (س 8_ 10)، وقتل خلالها رجلين كما يقول (ك 12)؛ حيث يقول أحد أصحاب ذلك النقش، واسمه كرب عثت أراد، إنه هرج رجلا وأخذ فرسه خلال اشتراكه في الحرب التي شنها الملك على "مصر" حضرموت.
ولكن ؛ ماذا يعني اسم مصر في النقوش اليمنية؟
هذا ما أجاب عليه الأستاذ "حمزة علي لقمان" في كتابه (معارك حاسمة في تاريخ اليمن) بأن اسم مصر في النقوش اليمنية، يعني القلعة، وهو المعنى نفسه تقريبا في المعجم العربي
بالنظر إلى الخارطة اليمانية الجغرافية، يجد الباحث العديد من المواقع والمستوطنات التي تحمل اسم مصر، ومنها "منطقة السحول" التي طالما ذكرها لسان اليمن "الهمداني" على أنها "مصر اليمن" فماذا قصد بمنطقة السحول أو مخلاف السحول؟ مخلاف السحول ذكرها "الهمداني" في كتابه (الإكليل) ـ الجزء الثامن، و(صفة جزيرة العرب) قائلا: ويتصل بمخلاف (خولان) مخلاف (آل ذي جرة) ... ومخلاف ذي جرة وخولان يسمى (خزانة اليمن) وذمار ورعين والسحول مصر اليمن.
ويعلق محقق كتاب الهمداني العلامة محمد بن علي الأكوع على ذلك قائلا: السحول سرة اليمن ومصر اليمن، والشائع لدى عامة الناس في عوم اليمن، أن من يهرب من الجوع فعليه السحول، وفيه يقول حكيم المزارعين اليمنيين "علي بن زايد" في أحد مهاجل البذار:
إن كنت هاربا من الموت ـــــ ما حد من الموت ناجي
وإن كنت هاربا من الجوع ـــــ أهرب سحول بن ناجي
وفيه يقول "طرفة بن العبد":_
وبالسفح آيات كان رسومها ـــــ يمان وشتة ريدة وسحول
ويدخل في السحول قسم من يحصب يعرف بذي قينان، وتعد يحصب من المناطق الخصبة زراعيا، ولذلك تعددت السدود التي أقامها اليمنيون القدماء في هذه المنطقة، حتى قيل إنها وصلت ثمانين سدا، وإلى ذلك أشار "أسعد تبع" في قوله: _
وفي البقعة الخضراء من أرض يحصب ـــــ ثمانون سدا تقذف الماء سائلا
لدينا علاوة على ذلك نقش جدير بالتنويه له، فقد ذكر "ابن هشام" أنه وجد باليمن مقبرة مفتوحة نتيجة للطوفان أخرجت منها رفاة امرأة لفت حول عنقها أشرطة من اللؤلؤ، خواتم مرصعة بالأحجار الكريمة ووضعت، كما وجدت لوحة عليها نقوش ترجمها "جون فوستر" كما يلي:
"باسم الله، إله حمير:
أنا تاجة (Tajah) ابنة ذو شنار (DHU SHEFAR) أرسلت وكيلي إلى يوسف.
ولما تأخر في العودة إلي أرسلت إليه وصيفتي.
ومعها مكيال من الفضة ليرده إلى مكيال من دقيق.
ولما عجزت عن الحصول عليه أسلتها بمكيال من الذهب.
ولما عجزت عن الحصول أرسلتها بمكيال من لؤلؤ
ولما عجزت عن الحصول عليه أصدرت أمرا بطحنها.
ولما لم أجد أي فائدة منها كان مصيري الدفن هنا.
فإلى كل من يسمع عني، هلا رثى لمصيري
وإلى أي امرأة تفكر في التحلي بحلية من زينتي.
أن تلقى الميتة نفسها التي لقيتها.
هذه النقوش السالفة تنتمي إلى زمن يوسف، وهي تؤيد تماما ما جاء في القرآن من القحط الذي أهلك عددا من الأمم في تلك العصور.
إن الاهتداء الصحيح لموقع مصر، سيؤدي بنا لمناقشة مسألة خطيرة، وهي هل ينحدر العرب حقا من أم مصرية (هاجر)، وماذا كان يقصد بها؟
من الأمور الجديرة بالملاحظة، إشارة التوراة إلى انحدار العرب من أم مصرية (هاجر) فهل المقصود بذلك مصر _وادي النيل أم مصر العربية، كما ذكر "ونكلر" فيما سبق؟ يبدو أن المقصود هنا ليس مصر وادي النيل، وإنما هو مصر جزيرة العرب.
إن قضية اسم أم إسماعيل بأنه كان "هاجر"، أمر سهل التفسير، لأن أهل اليمن يطلقون على المدينة اسم "هجر" والمتتبع للتاريخ اليمني القديم يعرف عمق الـ "الهجر"، فلفظ "هجر" قد عرف قبل انتشار الإسلام في اللغة اليمنية القديمة.
فيقال "هـ ج ر ن / ص ن ع و " كما في (CIH 314 /1, GL 452 A / 4,1)، أي مدينة صنعاء، و"هـ ج ر ن / م ر ب" ويرد الاسم أيضا (بالياء) أي "هـ ج ر ن / م ر ي ب" كما في (CIH 19/16, CIH 389/41 RES 3197/4) أي مدينة مأرب، و"هـ ج ر ن / ت م ن ع" كما في (RES 3566/4.8 RES 3691/8) أي مدينة تمنع، و"هـ ج ر ن / ش ب م" كما في (S H 32/17, JR 32/25.26) أي مدينة شبام في حضرموت.
ويذكر "محمد بن علي الأكوع الحوالي محقق كتاب (صفة جزيرة العرب) للهمداني أن "الهجر بالتحريك في لغة حمير، القرية الكبيرة".
وذكر "ياقوت الحموي" في (معجم البلدان) أن الهجر بلغة حمير والعرب العاربة: القرية، فمنها هجر البحرين، وهجر نجران، وهجر جازان".
وقد ذكر لسان اليمن "الهمداني" لفظة "الهجر" في كتابه المعروف (صفة جزيرة العرب)، بقوله: "والهجر هي القرية الحديثة ..."، وقد أيدت النقوش ما سجله "الهمداني" ، فقد نشر "د. يوسف عبد الله" نقشا يمنيا جاء فيه: "هجرهو"، وترجمتها بأن "هجر": المدينة، وأن هو: الضمير، فيصبح المعنى: "مدينته". أما الكلمة التالية فكانت: نأت، وجنأ، وهي لفظة شائعة في النقوش اليمنية القديمة، وتعني سور، وجمعها: جنات. وانتهى بذلك إلى أن: "هجرهو جنأت" تعني مدينته ذات الأسوار، أي المدينة المسورة.
وكان "د. محمود الغول" قد أكد هذا المعنى في مقالة بعنوان (مكانة نقوش اليمن في تراث اللغة العربية الفصحى)، فقال: "أما الهجرة، وهي قضية كبرى في الإسلام، فقد اشتقها الناس من هجر المكان بمعنى تركه، وإن هجرة النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه كان تركه "مكة" إلى "المدينة"، وهذا ليس صحيحا على علاته، فالهجرة في حقيقتها مأخوذة من (الهجر)، وهي بلغة النقوش ولغة حمير: القرية أو المدينة التي فيها سلطان أو من ينوب نيابة، ومعنى هاجر لذلك هو اتخاذ الهجر دارا للإقامة والتقييد بطاعة صاحب الأمر فيها".
واللغة الشمالية تعرف لفظ "هجر" ضمن الألفاظ الجغرافية المتخصصة، وذلك في الدلالات المرتبطة بأسماء الأعلام، وكذلك في أسماء العلم المركبة والتي تعرف بالإضافة. وقد اشتق منها فعل بمعنى (هاجر).
فـ "هاجر" على هذا، امرأة هجرية، والارتباط بمصر، هو ارتباط بمصر العربية اليمنية. ا.هـ