بسم الله الرحمن الرحيم
إثبات جَديدٌ وَمُهِمُّ وإجمال الرد على رُدُودِ الْقُرَّاء الْكِرَام
الحمد لله والصلاة والسلام على خير الأنام محمد بن عبد الله عليه أتم الصلاة وأفضل السلام, أما بعد:
بادئ ذي بدء اعتذر عن التأخير في الرد, وذلك لظروف قد حالت دون ذلك, ثم بعد ذلك جاء شهر رمضان, وما يقتضي ذلك من تفرغ للعبادة.
أود أيضا أن اشكر كل الإخوة الكرام الذين قد علقوا (بأدب) على البحث, وأود أن أجمل ردي على ما ورد من تعليقات عليه:
لكن أولا هذا تنويه مهم: عزيزي القارئ أرجو أَلاَ تغادر قبل ان تقرأ ما كُتبَ تحت العنوان ذو اللون الأحمر: (
إثبات جديد ومهم).
بعد الاطلاع على كافة التعليقات والردود على البحث وجدت ان أي من الإثباتات والبراهين المهمة في البحث لم يُمس بأي نقد لاذع, وهذا مما يبعث الطمأنينة في النفس ان البحث بعون الله في مساره الصحيح.
في الواقع إن التساؤلات كانت بسيطة, وقد تم الإجابة على اغلبها من خلال البحث لمن تأَمّلْ.
والان دعونا نستعرض نقاشاً بشأن البحث نوضح من خلاله بعض الأمور الملتبسة:
أولا: هل قصة أصحاب الكهف هي من علم الغيب الذي يجب عدم الحديث فيه؟ كأن تكون كعلم الساعة مثلا؟ قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34) لقمان)؟
كلا, فالقصة قد قَصَّها الله على الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ومن ثم علينا - أي في القرآن الكريم - في ثمانية عشرة أية, وفيها كل التفاصيل بشأن أمر أولئك الفتية, لمن يتدبر هذه الآيات. ولو انها من علم الغيب الذي لا يجوز النقاش فيه ما تطرق المفسرون لتفسيرها من قبل, حتى ان بعضهم ذكر أسماء الفتية واسم كلبهم, أم تراها غيب على بعض الناس, وليست كذلك على البعض الأخر؟.
ثانيا: ما هو المصدر الذي يجب ان نستقي منه الأخبار الصحيحة بشأن هذه القصة؟
الإجابة بكل تأكيد هو كتاب الله, وما صح روايته عن الرسول الكريم من حديث بشأنهم.
وحيث انه لم نطّلع إلى أي حديث صحيح للرسول بشأن الفتية أصحاب الكهف, فلا يبقى لدينا إلا مصدر وحيد وهو القرآن الكريم, والذي يجب ان نتمعن ونحلل ما ورد فيه بشان أمر أولئك الفتية. أما ما سوى ذلك فما هو إلا قول بشر يحتمل الصواب والخطأ, وخاصة إذا اقتبس من مصادر أهل الكتاب ورواياتهم.
ثالثا: هل أصحاب الكهف هم من البشر, أو بصيغة اشمل من الإنس, أم هم خلق أخر؟
حيث ان أصحاب الكهف وكما هو واضح من قصتهم هم خلق عاقل مُكلف, ولهم قوم كافرون فهذا, ينفي ان يكونوا من الملائكة, لكن يبقى لدينا احتمالان: إما إنهم انس أو جن؟ وهذا ما يتطلب البحث فيه لترجيح أي من الاحتمالين؟
هل يوجد نص واضح يشير إلى انهم من الإنس؟ كلا, وعلى عكس كثير من القصص القرآني مثال الرجلين المذكورين في سورة الكهف, والذي جعل الله لأحدهما جنتين, قال تعالى: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً (32) الكهف), فقد نتساءل عن ما هي طبيعة الرجلين المذكورين في الآية, هل هما من الإنس أم الجن؟ وهنا نتوقف لتوضيح أمر مهم, فقد قال احد الإخوة في تعليقه إن أصحاب الكهف هم من البشر, بدليل وصف القرآن لهم بأنهم فتية, فهل هذا دليل؟.
كلمة فتى تعني شاب, أي في الفترة العمرية ما بعد البلوغ إلى سن الرجولة, ومعلوم ان القرآن الكريم قد وصف الجن بأنهم رجال, قال تعالى:( وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً (6) الجن), وكذلك كلمة قوم ونساء وغيرها يمكن استعمالها حين الحديث عن عالم الجن, إذاً كلمة فتى وفتية أيضا يجوز استعمالها مع عالم الجن, لأنها تصف المرحلة العمرية ما قبل الرجولة, ولا تشير لطبيعة خلق, مثلها مثل رجل, ولا تعد دليلا يدحض ان يكون أصحاب الكهف من الجن.
نعود للسؤال بشأن الرجلين؟ فمن أين نجد الإجابة؟ من القرآن الكريم, قال تعالى في نفس القصة: (قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي
خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (37) الكهف), من الواضح انه انسي, لأنه خُلق من تراب.
مثال أخر أصحاب القرية في سورة يس, وللوهلة الأولى نتساءل من أي خلق هم؟ فتأتي الإجابة في قوله تعالى: (قَالُوا مَا أَنْتُمْ
إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (15) يس), أي إنهم من البشر, وغير ذلك من الأمثلة كثير. حتى في قصة يأجوج ومأجوج وجدنا ما يدلنا على انهم من معشر الإنس, وان لم يكونوا من البشر.
ملاحظة: قد يظن البعض ان القرآن الكريم هو رسالة للبشر فقط, لكن هذا غير صحيح, فهو رسالة شاملة لكل الخلق العاقل المكلف من انس وجن, ولقد قرأ الرسول بعض سور القرآن الكريم على الجن قبل ان يقرأها على البشر.
وعلى هذا القياس أين الدليل الواضح في قصة أصحاب الكهف على انهم من البشر؟ لا يوجد دليل واضح, ويبقى الاحتمال ان يكونوا إنسا أو جنا, وهذا ما نحن بصدد البحث فيه.
قال تعالى: (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ
لَوْ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (18) الكهف).
لعل هذه الآية هي أهم ركيزة في إثبات ان أصحاب الكهف ليسوا بشرا, غير ان هناك وكما وضحنا في البحث المزيد من الإثباتات المقنعة.
لو: حرف شرط غير جازم يفيد امتناع الجواب لامتناع الشرط, لكن هل حدث ان اطّلعَ عليهم أي من قومهم وقتئذ, أي وقت نومهم في كهفهم؟ لو حدث هذا فانه يكون قد حقق العثور عليهم, وهو يتناقض مع قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ), (كذلك): أي حينما بُعثوا, وذهب احدهم متلطفا للمدينة, وليس قبل ذلك.
كذلك لو ان قومهم قد اطلعوا عليهم أثناء نومهم لقص القرآن علينا ذلك, كأن: وتراهم كلما اطلع عليهم احد ولى فارا وامتلاء رعبا.
ثم هل الله جل وعلا في حاجة ان يحفظهم بهذه الطريقة؟ أي بأن يكون منظرهم مرعباً؟ فالله جل جلاله هو الحافظ, وسيصرف عنهم كل عين, ولن يطلع عليهم احد إلا بأمره إذا شاء, لنتأمل كيف حفظ نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الغار, فهل ألبسهم لباس الرعب, بحيث حين اطلع المشركون عليهم ولوا فارين مرعوبين؟ كلا, لقد وصلوا للمكان وضلل الله أبصارهم, وهذا ما نرجح انه قد حدث مع الفتية أصحاب الكهف, لذلك فان التفسير بلباس الهيبة والرعب غير مقنع البتة في حفظهم, فالمنطق انه حين يرى الإنسان شيئا يفزعه ويرعبه ان يتحدث عنه ويخبر عنه ويتقصى أمره, لأنه سوف يترك اثر في نفسه لن يزول وينسى, وكذلك ما يتحرك في الإنسان من فضول ونوازع في استطلاع مثل هذه المواقف. والمهم كذلك انه يكون قد حقق العثور على الفتية وان اعتراه ما اعتراه من خوف ورعب منهم, وهذا ما يخالف نص القرآن الكريم.
قال احد الإخوة المعلقين: ربما انه في الآية تقديم وتأخير, وان الواو تفيد الجمع فقط, نقول انه معلوم في الأصول ان الترتيب يُتمسك به ما لم يُؤتى بقرينة, كذلك يتمسك بالعموم مقابل الخصوص, والبقاء في مقابل النسخ وغير ذلك. كذلك لو ان الرعب حدث أولاً لدى الاطلاع عليهم فقد يتَسَمْر ويثبت المطلع في مكانه من شدة الرعب, ولا يستطيع الفرار, وهذا بالفعل ما يحدث في بعض المواقف المرعبة.
ثم تأمل السرد القرآني المحكم: (لَوْ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً), لاحظ: لم يقلْ لارتعبت منهم, بل لملئت: والمَلْءُ هو عملية تراكمية تحتاج إلى بعض الوقت, أي ان المشهد كالتالي: الرائي للفتية حين رؤيته لهم سوف يولي فاراً منهم, وبينما هو فَارٌّ يبدأ الرعب يتراكم في قلبه, حيث انه يستعيد المشهد المروع في عقله أثناء فراره فيزداد رعبا, حتى يملأ الرعب قلبه, أما لو حدث العكس فانه لن يستطيع الفرار.
إذاً لا يستقيم ان يُقال: لملئت منهم رعبا وفررت منهم, ذلك ان الامتلاء رعبا يحتاج إلى وقت, فكيف يمكث الرائي متسمرا كل هذا الوقت وفي النهاية يقرر الفرار؟ وهل بعد ذلك يستطيع الفرار؟
النص القرآني دقيق جدا في اختيار الترتيب, ولا يجب لي أعناق الآيات ليوافق تفسير بعينه.
كذلك قال البعض: إن كلمة اطلعت عليهم, لا تفيد الاطلاع المباشر, بل ربما استشراف الكهف من الخارج فقط, نقول إن الآية صريحة في ان الاطلاع على الفتية والفرار والامتلاء رعبا هو منهم أنفسهم, ولم يقل لو اطلعت على كهفهم لوليت منه فرارا, إذاً الرعب من منظر الفتية لا من استشراف الكهف.
اذاً التحدي الكبير لمن يقول ان اولئك الفتية هم من البشر ان يفسر لنا بصورة مقنعة لماذا هذا الرعب والفرار الغريزي حال الاطلاع عليهم, بعيداً عن القول بلباس الهيبة والخوف والذي يتناقض مع النص القرآني, لأنه لو كان الامر هكذا وقد اطلع عليهم كثيرون وفروا من منظرهم, فهذا يعني انهم قد عثروا عليهم, فلا معنى لقوله تعالى وكذلك اعثرنا عليهم, أي في توقيت معين في نهاية المطاف لا قبل ذلك.
قال أخر: إن البحث هو تَقْوّل من غير دليل من الكتاب والسنة, وهذا عكس ما فعلناه تماماً, فالبحث ما هو إلا مناقشة الآيات القرآنية مُستندين إلى تفسير القرآن بالقرآن (قصة موسى عليه السلام والعصا كمثال), وكذلك التفسير بالسنة الصحيحة في وصف الجن بالحيات, وغير ذلك, واستشهدنا كذلك ببعض أقوال مشاهير المفسرين, ولم نأخذ من قصص أهل الكتاب, وهو المنهي عنه في آيات سورة الكهف (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ), (وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً). إذاً لا ينبغي ان نكون في موضع اتهام كهذا.
تساءل الأخ عدنان الغامدي في معرض تعليقه: هل يكون الجن مهرة, ولديهم مجتمعهم ومعاملاتهم ونقودهم؟ كذلك تساءل كيف يدفن انسي جني؟
لنبدأ بالسؤال الثاني: والذي يبدو لي ان أخي عدنان قد اختلط عليه الأمر, وظن ان قوم الفتية هم من الإنس والفتية من الجن, وهم بعد ان عثروا عليهم دفنوهم, وأقاموا عليهم مسجدا. أقول لك كلا ليس كذلك, فالمدينة وسكانها وحاكمها وقوم الفتية والفتية كلهم من الجن, ولا يبدو ان الحادثة قد حدثت على كرتنا الأرضية هذه, بل في ارض أخرى من ارض الله الواسعة والله اعلم.
أما ما يتعلق بالسؤال الأول: فاعتقد ان ما نمتلكه من معلومات عن عالم الجن هو ضئيل جداً, وتصورنا انهم يعيشون كلهم معنا في هذه الأرض, رغم ان عددهم يفوق عدد الإنس بمراحل, وانهم يسكنون الكهوف والفلوات, ويأكلون من العظام والمزابل, أي انهم فيما يبدو اقل انحطاطا من البهائم الغير عاقلة, فربما ان بعض البهائم أحسن عيشا منهم, فهل هذا ما يخبرنا القرآن عنه؟. وسوف نسترض بعون الله جل وعلا في نهاية المشاركة بعض الحقائق عن عالم الجن كما وردت في القرآن الكريم والسنة, لإزالة ما علق في أذهاننا من معلومات مشوشة عن عالم الجن.
والان دعونا من فضلكم نعود إلى الآيات من سورة الكهف التي تخص أصحاب الكهف, ونتأملها أية أية وكلمة كلمة لنرجح هل أصحاب الكهف من الإنس أم الجن؟ ونستعين بالله في ذلك:(سوف نكتب فقط الكلمات المهمة من الآيات لتقليص مساحة الكتابة):
· الآية رقم (9): (أصحاب الكهف): قد يكونون إنسا أو جنا , ومعلوم ان الجن يسكنون الكهوف وربما أكثر من الإنس. كلمة (الكهف) جاءت معرفة في قوله تعالى (إذ أوى الفتية إلى الكهف), ولم يقل إلى كهف, فهل هذا يدل على انه كهف مميز, وليس كباقي الكهوف المعروفة لنا, وقد رأينا انه يحمل صفات لا تتوفر في أي كهف على كرتنا الأرضية, حيث تميل الشمس عنه ولا تقربه طلوعا وغروبا؟ فأين ما يشبهه من كهوف أرضنا؟.
كلمة ( الرقيم): أيضا غير معروفة, ولم يستدل على معنى شافي لها, ولا مكان محدد على وجه الأرض, فكلها تخمينات كالجبل, والوادي, ولوح رصاص كتبت فيه أسمائهم, فأين الحقيقة؟ وقد تفضي في المعنى إلى الأرقم, وهو ذكر الحيات.
كلمة (عجبا): ما هو العجب في قصة أصحاب الكهف؟ هل ذلك لأنهم بشر؟ أم لأنهم ناموا نوما طويلا ثم بعثوا؟ ألم يقص القرآن الكريم على الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ما هو أعجب من ذلك؟ كموت احدهم مائة عام ثم بعثه, ونقول موت وليس نوم؟ وموت أناس كثيرون وأعاده إحيائهم, مثل بعض من قوم موسى عليه السلام, وما كان يفعله عيسى عليه السلام من إحياء للموتى. إذاً هل نوم بشر مثلنا وبعثهم يدعو للعجب, ومعلوم قدرة الله على إحياء الموتى, والموت أعظم من النوم؟. لكن لو نظرنا إلى ان الفتية خلق أخر, كأن يكونوا مثل الحيات والكلاب شكلاً, غير انهم ينطقون ويعقلون ويتكلمون, وهم مكلفون, فهذا قد يكون مدعاة للتعجب والله اعلم, لاحظ انه في أخر الزمان يُخرج الله دابة تكلم الناس, وهي قد ذُكرت من آيات الله التي وعد انها ستتحقق, قال تعالى: (خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (37) الأنبياء), فسبحان الله الخالق العظيم.
· الآية رقم (10): كلمة ( الفتية): وقد قلنا إنها مرحلة عمرية تسبق مرحلة الرجولة, ولا تدل على طبيعة الخلق, مثلها مثل رجال, ومعلوم ان كلمة رجال تستعمل لوصف عالم الجن, وكذلك قوم وغيرها.
· الآية رقم (11): (على أذانهم): معلوم ان للجن أذان وسمع, فمازلنا لا نستطيع ترجيح أي الاحتمالين, انس ام جن والميل الى انهم جن وليس بشر.
· الآية رقم (13) قوله تعالى: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ): نتأمل هذه الآية جيدا, معلوم ان القصة معروفة لدى أهل الكتاب, وقد ذُكرت في رواياتهم, وتعرف بقصة النيام السبعة, حيث اضطهد إمبراطور روماني سبعة فتية لإيمانهم بدين المسيح, ففروا أووا إلى كهف, وناموا مئات السنين. فإذا كان أصحاب الكهف فعلا من البشر, وحدث لهم ما حدث, وقصتهم معروفة قبل نزول القرآن بما لا يخالف كثيرا ما جاء في القرآن, فكيف نفهم قوله تعالى (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ)؟ وهذا بالفعل ما يجادل به من يطعن في القرآن من مسيحيين وملحدين. لكن لو تأملنا القصة بمنظور أخر, من ان هؤلاء الفتية لم يكونوا كما قال الآخرون عنهم, وان ما قالوا عنهم إنما هو رجم بالغيب, وان أمرهم مختلف تماما عما قالوا, أي انه لا مستند لأي من الإخباريين فيما اخبر عنهم, وان خبرهم الصحيح مغاير لما اخبر الناس عنهم من قبل. ويجدر بنا ان نتذكر ان الله تعالى قد نهانا ان نأخذ عن أهل الكتاب أو غيرهم شيئا من أخبار أصحاب الكهف, لأنها أخبار غير صحيحة, قال تعالى: (وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً).
· الآية رقم (14): كلمة (قلوبهم): للجن قلوب أيضا, (إِذْ قَامُوا فَقَالُوا): وهنا كانت لنا وقفة في لماذا القيام قبل القول, يمكن الرجوع إليها من خلال البحث وتأملها, ولم يفلح المفسرون في إيجاد تفسير مقنع لماذا القيام قبل القول.
وكذلك قولهم (شططا) وهو نفس قول نفر الجن.
· الآية رقم (15): (قومنا), كلمة قوم تستعمل في عالم الجن أيضا, إذاً لا شيء ينفي إنهم جن ولا يثبت إنهم انس حتى ألان, أي حتى الآية رقم (15), والكفة تميل لترجيح انهم من الجن.
· الآية رقم (17): (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَّزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ), حركة الشمس التي لا تصيب الكهف بل تبتعد عنه, وهذا الأمر يسترعي الانتباه, إذ انه لا مثيل له على كرتنا الأرضية, فطبيعي ان يغطي نور الشمس وشعاعها كل أماكن الأرض كالجبال والكهوف والهضاب والسهول والوديان. وما أُدعي من كهوف في مختلف دول العالم ومنها الدول العربية بعيد كل البعد عن الوصف القرآني, فكلها مخالفة للوصف القرآني.
(وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ), لماذا تقوقعوا في فجوة من الكهف؟ اذا كانوا بشرا, وعددهم كثير, فان الفجوة قد لا تكفي لهم, ولمد أجسادهم على طولها للنوم, لكن لو كانوا خلقا مختلفا, كأن يكونوا كالحيات ذات الأجساد اللينة المنطوية, فالفجوة مناسبة لذلك.
(ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ), وهذا في وصف الفتية بطبيعتهم غير المعهودة لنا, وهم في الفجوة, أي لا تعجب فالله قادر ان يخلق أعظم من هذا.
· الآية رقم (18): (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ), أي ان عيونهم مفتوحة أثناء نومهم, وليس هذا من طبيعة نوم البشر, لكن الأفاعي والحيات والتي لا تمتلك عيونها جفونا معلوم انها تنام طيلة الوقت بينما عيونها مفتوحة, إذاً هذه الآية ترجح انهم يشبهون الحيات أو الثعابين في خلقهم وتستبعد ان يكونوا بشراَ.
(وَنُقَلِّبُهُمْ), ولم يقل يتقلبون, هذا لو كان التقلب من طبيعة نومهم كالبشر, وهذا يطرح سؤال: ما الحكمة من التقليب؟
ملاحظة: قد يقول البعض ان الحيات والثعابين المعهودة لنا ليس لها يمين وشمال, أي ليس لها اطراف, فكيف تشبههم بأصحاب الكهف؟ والاجابة المفصلة قد استعرضناها في البحث, وقلنا ان الجن الذين يشبهون الحيات في خلقتهم لا يعني ذلك انهم لا يمتلكون اطراف, بل ان العجيب ان الحيات المعهودة لنا كانت في غابر الازمان تمتلك اربعة اطراف تتحرك بها ثم مسخت, ومازال يُرى اثرها في اطراف الثعبان, وقد اطلعت الى حديث صحيح ان الحيات هي مسخ الجن خلقة؟؟؟. نرجو الرجوع لما ورد في اخر البحث عن هذا الموضوع والمدعم بالصور.
(لَوْ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً), وقد فصلنا فيها ما يغني عن تكراره هنا, وفيها دلالة كبيرة على انهم خلق مختلف عن البشر, وانهم من الكائنات التي جُبل الإنسان على الخوف منها والتوجس من شرها, ولذلك يكون الاندفاع للفرار منها بصورة غريزية قبل الامتلاء رعبا وخوفا, ومن يقول انهم من البشر عليه ان يجد تفسيراً مقنعاً بعيداً عن لباس الخوف والهيبة غير المقنع والمتعارض مع النص القرآني.
· الآية رقم (19): (قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ), وفيها دلالة انه لم يعتري أجسادهم أي تغير مع مرور الزمن, ولم ينكروا على أنفسهم أي تغير في أشكالهم.
(فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ), وقد يسأل سائل وهل للجن مدن وقرى, وهل يستطيعون البناء, وهل لديهم أسواقهم ومعاملاتهم؟ سنترك الإجابة على هذا السؤال إلى أخر فقرة حين الحديث عن عالم الجن.
· الآية رقم (20): (يَرْجُمُوكُمْ), وهل يستعمل الرجم مع الجن والشياطين؟ بكل تأكيد نعم فقد ورد في أكثر من موضع في القرآن الكريم عن رجم الشياطين.
· الآية (21): (فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً), وهل الجن يستطيعون بناء الأبنية؟ أيضا سوف نجيب عنه لاحقا في هذه المشاركة. (لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً), وهل الجن يعرفون المساجد؟ نعم فهم خلق عاقل مكلف مثلنا, قال تعالى في سورة الجن: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (18) الجن).
· الآية (22): (سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ), نلاحظ ان الكلب قد عُد مع الفتية رغم اعتقادنا انه شيء مغاير لهم خلقاً, وهذا الأمر يسترعي الانتباه, فلماذا عُد الكلب معهم؟ نعتقد والله اعلم ان الكلب هو أيضا خلق عاقل ومكلف مثلهم, أي من عالم الجن, وفر معهم بدينه, ومعلوم من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ان الجن قد يكونوا حيات وكلاب, لكن لا يفهم المرء انها الحيات والكلاب المعهودة لنا.
وقد أثار عَدُّ الكلبِ مع الفتية حيرة واستغراب بعض المفسرين لدرجة ان البعض قد قال إن القراءة هي ليست (كلبهم) بل (كالئهم) أي طباخهم وهو غريب.
(قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ), وقد فصلنا فيها في البحث بما يكفي, لكن اختصاراً نقول إن الضمير في (مَا يَعْلَمُهُمْ) لا يعود إلى العدة وإلا لقال ما يعلمها أي العدة, لكن الضمير في (مَا يَعْلَمُهُمْ) يعود إلى الفتية أنفسهم, وما يندرج تحته من طبيعة خلقهم الغير معهودة لنا كبشر. وقد تسابق الكثيرون لإحصاء عددهم, وزعموا ان قلة من يعرفون ان عددهم هو سبعة, مع انه معلوم لدى أهل الكتاب من قبل نزول القرآن ان عددهم سبعة.
(وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً): وفيها نهي عن الانجرار وراء ما ذُكر عن القصة من قِبَلِ أهل الكتاب ورواياتهم, والذين زعموا أنهم فتية من البشر وعدهم سبعة, وقد اضطهدهم حاكمهم وقومهم الكافرون لإيمانهم بالله, ففروا والتجئوا إلى كهف, وناموا مئات السنين ثم بُعثوا, وسموا بالنيام السبعة. وهذا لا يختلف كثيرا عما تناوله المفسرون في هذه القصة, فهم قالوا مثلما قال من قبلهم من أهل الكتاب من ان الفتية سبعة ومن البشر والى أخر مما قيل عنهم, لكن القرآن الكريم أعطانا إشارات واضحة من ان ما يُقال عنهم هو خبر غير صحيح, وان معرفتهم الحقيقية لا يعلمها إلا قليل, وان قَصَصهَم الحق هو في القرآن, وهو بالطبع مخالف لما رواه أهل الكتاب, ومن تَبعَ أخبارهم من المفسرين. تأمل قوله تعالى: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ),( مَا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ),( وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً). فإذا كان الجميع يقولون إنهم فتية من البشر وعددهم سبعة, وفروا إلى كهف هروبا بدينهم, وناموا مئات السنين, فكيف نفهم ان القلة هم من يعلمون قصتهم على حقيقتها؟ وما هو وجه الاختلاف عن روايات أهل الكتاب؟
التوافقات العددية واللفظية بين سورتي الكهف والجن الواردة في البحث:
لقد رصدنا العديد من التوافقات اللفظية والعددية بين السورتين, وهي مثار العجب والتفكر والتأمل:
اولاً: التوافقات العددية: يمكن الرجوع الى البحث للاطلاع على مجمل ذلك, لكن نتأمل بتعجب رقم الآية (18) والتي يحسن ان نسميها بالآية المفتاح, لأنها الآية التي قادتنا للتأمل والتعمق في فهم القصة وطبيعة الفتية, فرقمها (18) في سورة الكهف التي ترتيبها في المصحف هو كذلك (18) وعدد الآيات الذي يخص ذكر أصحاب الكهف هو ايضاً (18), انه امر يسترعي الانتباه والتدبر, وليس محض صدفة فحاشى ان يكون في كتاب الله صدفة.
وهنا نرد على تعليق احد الاخوة الكرام والذي رد بمثال من حساب الجمل, فنقول نحن هنا لسنا بصدد حساب الجمل, وما عليه من مأخذ كبير في خلط الاوراق, وما فيه من مغالطات, لكننا بصدد جمع ارقام بسيطة يستطيع القيام بها طفل في المرحلة الابتدائية, وهذه الارقام تفضي الى نتائج عجيبة, وربط بين سورتي الكهف والجن. اضف لذلك التوافق العجيب في فواصل الآيات في مواضع عدة بين السورتين.
وها قد وجدنا هذا التوافق فلا بد من ان هذا له معنى, وليس محض صدفة, ولو ربطنا ذلك بما توصلنا له من اثباتات عديدة من خلال البحث عن طبيعة الفتية أصحاب الكهف, فهذا لا شك يصب في نفس الاتجاه ويشير بعون الله العظيم انهم من معشر الجن لا الانس والله اعلم.
ثانياً: التوافقات اللفظية: وقد وضعنا جدولا في البحث يوضح توافق العديد من فواصل الآيات بين السورتين يمكن الرجوع له في البحث وتأمله.
اثبات جديد ومهم
قال تعالى: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (25) قُلْ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (26) الكهف.
تعن ثلاث مسائل مهمة في هاتين الآيتين الكريمتين:
المسألة الأولى: لِما عقب الله جل وعلا بعد ذكره بالتحديد مدة لبث الفتية في كهفهم وهي (309) سنوات بقوله عز وجل: (
قُلْ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا)؟
المسألة الثانية: معلوم في قواعد اللغة العربية أن تمييز العدد بعد المائة يأتي مفرد ومضاف إليه, مثل قوله تعالى: (قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ), فلم يقل مائة أعوام, فلماذا قال تعالى: (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ
سِنِينَ), ولم يقل سنة؟
المسألة الثالثة: ما مغزى التنوين في (
مِائَةٍ)؟
وسوف ندرس ونناقش هذه المسائل مسألة مسألة مستعينين بالله العلي العظيم, وسنرى كيف أنها تثبت أن أصحاب الكهف ليسوا بشرا, ولم يكونوا من عالمنا هذا.
المسألة الأولى
لِما عقبَ الله جل وعلا بعد ذكره بالتحديد مدة لبث الفتية في كهفهم وهي(309) سنوات بقوله عز وجل: (قُلْ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا)؟
هذه المسألة هي مسألة صعبة جداً, وقد اختلف فيها المفسرون اختلافا كبيرا, وتعددت فيها أقوالهم, وقد أبطل بعضهم قول بعض, واستنكر بعضهم على بعض أقوالهم فيها.
وسوف نستعرض هنا أقوال أشهر مُفسْرَين لدى أهل السنة والجماعة, وهما الإمام ابن جرير الطبري وابن كثير رحمهما الله, وسنرى مدى صعوبة تفسير هذه المسألة, ونرى أن أقوال المفسرين فيها ضعيفة وغير مقنعة, ثم بعد ذلك سوف نعرض رؤيتنا في تفسير هذه المسألة, والتي تتوافق مع ما توصلنا إليه من ان أصحاب الكهف ليسوا مخلوقات بشرية, بل هم من عالم أخر وهو عالم الجن.
(قُلْ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا), ورد في تفسير الإمام الطبري قوله: (وقالوا: لو كان ذلك خبرا من الله عن قدر لبثهم فـي الكهف، لـم يكن لقوله تعالى { قُلِ اللّهُ أعْلَـمُ بِـمَا لَبِثُوا } وجه مفهوم، وقد أعلـم الله خـلقه مبلغ لبثهم فـيه وقدره) انتهى للطبري. وهذا يدل على صعوبة فهم هذه الآية.
كذلك ورد في تفسير الشوكاني رواية منسوبة لابن عباس رضي الله عنه قوله بعد أن تلا (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ) الآية, قال: كم لبث القوم؟ قالوا: ثلاثمائة وتسع سنين, قال: لو كانوا لبثوا كذلك لم يقل الله (قُلِ اللّهُ أعْلَـمُ بِـمَا لَبِثُوا). انتهى من فتح القدير للشوكاني.
وهذا الأمر اضطر بعض المفسرين للأخذ برواية شاذة في محاولة لفهم هذه المسألة فقالوا إن قوله تعالى: (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً), هي ليست خبر من الله عن مدة لبث الفتية في كهفهم, بل هي حكاية من الله جل وعلا عن قول ناس قالوا ذلك, فنقل الله قولهم.
وقد دحض الإمام ابن جرير الطبري هذا التفسير واستنكره في مقال طويل في تفسيره يمكن الاطلاع عليه, وكذلك فعل ابن كثير, وقال الإمام الطبري إن الآية (25) الكهف لابد وان تكون خبر من الله جل وعلا عن مدة لبث الفتية في كهفهم, وليست حكاية عن قوم قد قالوه.
نقول تعليقاً منا: ظاهر النص وظاهر الكلام أن في قوله تعالى:(قُلِ اللّهُ أعْلَـمُ بِـمَا لَبِثُوا), إشارة إلى البث الذي لبثه الفتية في كهفهم مضروباً على أذانهم منذ أووا إليه إلى أن بعثهم الله بقدرته سبحانه وتعالى, وهذا ما قاله ابن حيان في البحر المحيط: (والظاهر أن قوله { بما لبثوا } إشارة إلى المدة السابق ذكرها), انتهى لابن حيان.
وتتبع سياق الآيات في سورة الكهف يدل على ذلك: (فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً), (ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً), (قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ), (قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ), (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ), (قُلْ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا), فكل ذلك يشير بلا شك إلى لبث الفتية في كهفهم حتى بعثهم الله جل وعلا ليتساءلوا بينهم, وليس هنالك ما يدل على لبث غير ذلك, كأن يقال لبثهم بعد بعثهم فموتهم, وهو بعيد كل البعد عن ظاهر النص الصريح.
لكن لماذا اضطر المفسرون للخروج عن ظاهر النص والتفسير بتفسيرات أخرى؟ سوف نستعرض بعض أقوال مشاهير المفسرين, ونرى أنهم قد احتاروا في تفسير لماذا عقب الله جل وعلا بعد ذكره لمدة لبث الفتية بالتحديد بقوله تعالى: (قُلْ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا).
v أولا قول ابن كثير رحمه الله: (هذا خبر من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بمقدار ما لبث أصحاب الكهف في كهفهم، منذ أرقدهم، إلى أن بعثهم الله وأعثر عليهم أهل ذلك الزمان، وأنه كان مقداره ثلاثمائة سنة تزيد تسع سنين بالهلالية، وهي ثلاثمائة سنة بالشمسية، فإن تفاوت ما بين كل مائة سنة بالقمرية إلى الشمسية ثلاث سنين، فلهذا قال بعد الثلاثمائة { وازدادوا تسعاً }.
وقوله { قُلِ ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ } أي إذا سئلت عن لبثهم، وليس عندك علم في ذلك، وتوقيف من الله تعالى، فلا تتقدم فيه بشيء، بل قل في مثل هذا { ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ لَهُ غَيْبُ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي لا يعلم ذلك إلا هو، ومن أطلعه عليه من خلقه، وهذا الذي قلناه عليه غير واحد من علماء التفسير كمجاهد وغير واحد من السلف والخلف. وقال قتادة في قوله { وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ } الآية، هذا قول أهل الكتاب، وقد ردّه الله تعالى بقوله { قُلِ ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ } قال وفي قراءة عبد الله (وقالوا ولبثوا)، يعني أنه قاله الناس، وهكذا قال قتادة ومطرف ابن عبد الله، وفي هذا الذي زعمه قتادة نظر، فإن الذي بأيدي أهل الكتاب أنهم لبثوا ثلاثمائة سنة، من غير تسع، يعنون بالشمسية، ولو كان الله قد حكى قولهم، لما قال وازدادوا تسعاً،
والظاهر من الآية إنما هو إخبار من الله، لا حكاية عنهم، وهذا اختيار ابن جرير رحمه الله، ورواية قتادة قراءة ابن مسعود منقطعة، ثم هي شاذة بالنسبة إلى قراءة الجمهور، فلا يحتج بها، والله أعلم) انتهى لابن كثير.
نقول تعليقاً منا: نلاحظ في قول ابن كثير رحمه الله ما يلي:
· إن المدة المذكورة في الآية (25) الكهف والمقدرة ب (309) سنوات هي خبر من الله جل وعلا لرسوله الكريم وللمسلمين عن مدة لبث الفتية في كهفهم منذ أووا إليه حتى بعثهم الله ليتساءلوا بينهم.
· انه لا اختلاف بين ما قاله أهل الكتاب عن مدة لبثهم وهي (300) سنة شمسية وعن ما ذُكر في القرآن الكريم وهو(309) سنوات هلالية وذلك أن كل 100 سنة شمسية تزيد بمقدار 3 سنوات عن القمرية, وهذا يدحض أن يكون في قوله تعالى (قُلْ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا), رد وتعقيب على ما قاله أهل الكتاب عن مدة لبثهم, كما قال بعض المفسرين, وذلك لتساوي المدتين.
·
نرد على تفسير ابن كثير في تفسير قوله تعالى: (قُلْ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا), (أي إذا سئلت يا محمد عن لبثهم، وليس عندك علم في ذلك، وتوقيف من الله تعالى، فلا تتقدم فيه بشيء، بل قل في مثل هذا الله اعلم, أي لا يعلم ذلك إلا هو، ومن أطلعه عليه من خلقه), بقولنا: حيث إن الله عز وجل قد اخبر واطلع الرسول صلى الله عليه وسلم بالتحديد عن مدة لبث الفتية في الآية (25) الكهف, فكيف يعقب على ذلك بأنه إن سئلت وليس عندك علم وتوقيف فقل الله اعلم؟ إن في هذا تناقض واضح, فالله حيث اخبره بالمدة بكل وضوح فمن الأولى إذا سُئل الرسول عن مدة لبث الفتية أن يجيب بما اخبره الله تعالى من انهم لبثوا بالتمام والكمال 309 سنوات.
ويناقض ابن كثير نفسه في تفسيره إذ يقول: (أي لا يعلم ذلك إلا هو، ومن أطلعه عليه من خلقه), ومعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم ممن أطلعه الله على مدة لبث الفتية, فكيف يقول له بعد ذلك قل لمن يسألك الله اعلم؟
وهذا يوضح أن المفسرين قد احتاروا في تفسير قوله تعالى :(قُلْ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا), كتعقيب على المدة المذكورة, ونرى أن ما فسر به ابن كثير رحمه الله لا يشفي الغليل في هذه المسالة.
v ثانياً قول الإمام الطبري رحمه الله: (اختلف أهل التأويـل فـي معنى قوله { وَلَبَثُوا فِـي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِـينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً } فقال بعضهم: ذلك خبر من الله تعالـى ذكره عن أهل الكتاب أنهم يقولون ذلك كذلك، واستشهدوا علـى صحة قولهم ذلك بقوله: { قُلِ اللّهُ أعْلَـمُ بِـمَا لَبِثُوا } وقالوا: لو كان ذلك خبرا من الله عن قدر لبثهم فـي الكهف، لـم يكن لقوله { قُلِ اللّهُ أعْلَـمُ بِـمَا لَبِثُوا } وجه مفهوم، وقد أعلـم الله خـلقه مبلغ لبثهم فـيه وقدره) انتهى للطبري.
وهنا يستعرض الطبري قول بعض المفسرين, والذين احتاروا في كيف يعقب الله جل وعلا بعد ذكره مدة لبث الفتية بالتحديد بقوله قل الله اعلم بما لبثوا, فعزوا أن المدة المذكورة في الآية (25) الكهف هي حكاية من الله عن قول أهل الكتاب, وليست خبراً منه جل وعلا, وقد دحض الإمام الطبري هذا القول في مقال طويل في تفسيره يمكن الرجوع إليه ومما قاله: (وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب أن يقال كما قال الله عزّ ذكره: ولبث أصحاب الكهف فـي كهفهم رقوداً إلـى أن بعثهم الله، لـيتساءلوا بـينهم، وإلـى أن أعثر علـيهم من أعثر، ثلاث مئة سنـين وتسع سنـين، وذلك أن الله بذلك أخبر فـي كتابه). انتهى للطبري.
لكن السؤال المهم: كيف فسر الطبري قوله تعالى: (قُلِ اللّهُ أعْلَـمُ بِـمَا لَبِثُوا)؟
اختار الطبري تفسيراً مختلفاً عما قاله ابن كثير والمفسرين الآخرين حيث قال: (قال جلّ ثناؤه لنبـيه صلى الله عليه وسلم: قل يا مـحمد: الله أعلـم بـما لبثوا بعد أن قبض أرواحهم، من بعد أن بعثهم من رقدتهم إلـى يومهم هذا, أي يقصد نزول القرآن فيهم) انتهى للطبري.
ما قاله الإمام الطبري إن المدة المجهولة هي مدة لبث الفتية منذ بُعثوا من رقدتهم واطّلَعَ عليهم أهل ذلك الزمان, فقبض الله أرواحهم فلبثوا في قبورهم حتى نزلت سورة الكهف لتخبر الرسول عنهم, فهذه هي المدة على حد قول الطبري الغير معلومة.
نرد ونقول: لكن هل في قوله تعالى (قل الله اعلم بما لبثوا), إشارة إلى لبث قوم قد قضوا, وأصبحوا في عداد الأموات؟ وما فائدة تنازع المتنازعين في هذه المدة على وجه الخصوص؟ أي منذ ماتوا إلى نزول القرآن فيهم؟ هذا بعيد كل البعد عن ظاهر النص الصريح, والأرجح ومن خلال تتبع الآيات في سورة الكهف ان الحديث عن لبثهم في كهفهم, ليس غير ذلك, تأمل: (فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً), (ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً), (كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ), (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ), (قُلْ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا), وكلها دالة على ان مدة اللبث يُقصد بها لبثهم مضروبا على أذانهم في الكهف, وليس غير ذلك. وقد رأينا أن ابن كثير لم يأخذ في تفسيره برواية الطبري في هذا الشأن, وذلك لبعدها عن ظاهر النص.
وفسر آخرون قوله تعالى: (قُلْ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا), أي أنه أعلم من الذين اختلفوا فيهم بمدّة لبثهم ( الكشاف للزمخشري), ونرد على ذلك فنقول: انه لم يرد في الآيات التي تخص ذكر الفتية اصحاب الكهف ما يدل على تنازع المتنازعين في مدة لبث الفتية في كهفهم, على غرار ما ذُكر عن تنازعهم في عدتهم, قال تعالى: (سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ), وعليه فالتفسير بان ذلك تعقيب من الله جل وعلا على قول المتنازعين من أهل الكتاب هو وجه ضعيف. أيضا وكما ورد في تفسير ابن كثير أن ما قاله أهل الكتاب عن مدة لبث الفتية وهو ثلاثمائة سنة شمسية هو مساوي لما ورد في القرآن وهو ثلاثمائة وتسع سنين هلالية, فلا تناقض.
شيء أخر: : هل الرسول صلى الله عليه وسلم في حاجة بعد أن اخبره الله جل وعلا عن مدة لبث الفتية بالتحديد إلى ان يُؤمر إذا جادله او حَاجّه احد ان يقول له: الله اعلم بما لبثوا؟ أو هل هو صلى الله عليه وسلم بعد ان جاءه القرآن بمدة لبث الفتية بالتحديد في حاجة ان يفاضل بين ما قاله الله وما يقوله البشر, فيقول الله اعلم مما تقولون؟ لا شك انه صلى الله عليه وسلم إذ عَلمَ بمدة لبثهم من القرآن, فلو جادله احد من أهل الكتاب, وقال غير ما قال الله, فسيكذبه الرسول, لأنه قد حَصّلَ العلم الأكيد عن مدة لبث الفتية في كهفهم.
بمعنى أخر: كيف ان الله جل وعلا وقد ذكر بالتفصيل والتحديد مدة لبث الفتية في كهفهم وهي ثلاثمائة وتسع سنين ثم بعد ذلك حين يسأل الرسول أو يحاجه احد في مدة لبث الفتية, يقول له الرسول الله اعلم بما لبثوا؟ لقد جلى الله لنا هذا العلم الغيبي, فمن الطبيعي ان يجيب الرسول صلى الله عليه وسلم بما قاله الله عز وجل من إنهم لبثوا بالتمام والكمال ثلاثمائة وتسع سنين, أي انه لا شك ان للآية (26) الكهف معنا وتفسيرا أخر.
المسألة الثانية والثالثة
معلوم في قواعد اللغة العربية ان تمييز العدد بعد المائة يأتي مفرد ومضاف إليه, مثل قوله تعالى: (قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ), فلم يقل مائة أعوام, فلماذا قال تعالى: (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ
سِنِينَ), ولم يقل سنة؟
كلمة سنين هنا لا تأتي تمييز بل بدل, قَالَ الْأَخْفَشُ: لَا تَكَادُ الْعَرَبُ تَقُولُ مائة سنين (الشوكاني), وقال الدكتور فاضل السامرائي: (سنين هنا بدل (ثلاثمائة سنين), جاءت هذه بعد تمام الكلام, (ولبثوا في كهفهم ثلاث مائةٍ سنينَ), والتنوين تنوين قطع لأن الجملة انتهت، ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة، ثم يبين سنين, هذا إيضاح بعد الكلام,
هذا يكون في الأشياء المراد لفت النظر إليها. إما يقال ثلاثمائةِ سنة، البدل يمكن إحلاله محل الأول المُبدل منه, يمكن أن نقول ولبثوا في كهفهم سنين, سنين: هي بدل من العدد منصوب (ملحق جمع مذكر سالم).). انتهى للسامرائي.
لكن السؤال المهم: لماذا عدول القرآن الكريم عن القياس المألوف وهو ان يأتي بالتمييز مفرد ومضاف إليه (سنة), فجاء بالبدل (سنين), وهذا أمر عجيب, ويسترعي الانتباه والبحث, فالقرآن نزل بأفصح لغة العرب؟ وهذا ما سوف نوضحه بعون الله, وكذلك مغزى التنوين في (ثلاث مائةٍ).
رؤيتنا في حل الإشكال في فهم المسائل الثلاثة سابقة الذكر
بعد استعراض ما قاله المفسرون في هذه المسائل الثلاثة, وقد رأينا تناقض أقوالهم فيها, والارتباك في تفسيرها, سنعرض بعون الله رؤيتنا في تفسير هذه المسائل فنقول:
إن ذلك يثبت أن أصحاب الكهف هم ليسوا بشرا, وليسوا من عالمنا هذا, بل هم من عالم الجن, وهم على شاكلة الحيات, وهم مجنونون عنا في أرضهم, أي في كرتهم الأرضية البعيدة عن كرتنا الأرضية هذه, وهذا ما استقناه من طبيعة كهفهم, والذي لا يشبه أي من كهوف أرضنا بالنظر لوصف القرآن الكريم لحركة الشمس التي لا تصيبه, وهو وصف لا ينطبق على أي من كهوف كرتنا الأرضية, أضف لذلك ان لهؤلاء الفتية قوم يشبهون خلقهم, ولهم مدينة وعمران ومجتمع وحياة, وهو أمر لم نجد أثره هنا في أرضنا هذه.
وما نراه والله اعلم ان حركة كرتهم الأرضية حول نفسها وشمسها هي مختلفة عما هو الحال عليه في حركة كرتنا الأرضية حول نفسها وشمسها (أي شمسنا), ومن ثم اختلاف يومهم فاختلاف سنتهم. أي ان طول السنة لديهم سوف يكون مختلف عن طول سنتنا هنا, فأقتضى الأمر أن تأتي الآية (26) الكهف لدفع التوهم ان الثلاثمائة وتسع سنين هي من حساب وتقدير سنين كرتنا الأرضية هذه, وهو ليس كذلك, فقال الله تعالى بعد ذكر المدة بالتمام والكمال (قُلِ اللّهُ أعْلَـمُ بِـمَا لَبِثُوا), إشارة إلى ان عدة السنين التي لبثوها في كهفهم ليست كما هي سنيننا هنا, وان كان مصطلح سنة مستعمل, لكنها سنين بحساب أخر, لاختلاف المكان ونقصد الكرة الأرضية الأخرى.
ونرى أن التنوين في (مِائَةٍ) هو تنوين عوض لمحذوف تقديره (سنة من سنينهم) أي ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنة من سنينهم, وجيء ب ( سنين وهي نكرة) بدل التمييز (سنة) وذلك لدفع التوهم انها سنتنا المعتادة, والإشارة إلى أنها سنين مختلفة الحساب.
إذاً كلمة (سنين) والتي هي بدل وعدولا عن المألوف من ان يأتي تمييز العدد بعد المائة مفرد ومضاف إليه (سنة) فقد جيء ب كلمة (سنين), وهذا أمر يسترعي الانتباه, وقد قال عنه علماء اللغة انه يأتي في الأشياء التي يود القائل ان يلفت الانتباه إليها, أو لإيضاح أمر ما في نفس القائل.
أي انه في الآية, بدل الإضافة وتمييز العدد فقد جيء بالتنوين, فانتهت الجملة, ثم جيء بسنين بدل, وذلك للإيضاح بعد الإبهام, وهو أمر عجيب وملفت, وذلك للفت انتباهنا للبحث في طبيعة هذه السنين, فلو كانت كتعداد سنيننا لجئ بالمألوف هو التمييز(سنة), والقرآن نزل بأفصح لغة العرب, هذا والله اعلم.
نبذة مختصرة عن عالم الجن
الحديث عن عالم الجن هو حديث طويل ومتشعب, ولا يمكن الإلمام به في هذا الموضع, ونأمل أن يوفقنا الله جل جلاله لإعداد بحث مفصل عن عالم الجن في المستقبل.
لكن اختصارا نقول ان عالم الجن ذلك العالم الكبير والذي لم ينل حظه من البحث والدراسة, وعام النظرة عنه لدينا انه عالم معاد لنا, وانهم معشر الشياطين, وانهم أهل النار.
نقول إن هذه نظرة مجحفة بحق عالم الجن, حتى ان بعض المفسرين من حرم محسني الجن من دخول الجنة, وقال إن محسنيهم ينحون فقط من دخول النار, ولا يدخلون الجنة, وهو حكم لا شك يناقض ما ورد في القرآن الكريم.
ولنعلم ان الرسول صلى الله عليه وسلم قد امتدح الجن, وقال عن وفدهم نعم الجن هم, وقال في حديث أخر ان إخوان لكم من الجن قد اسلموا ... الحديث.
كذلك قرأ صلى الله عليه وسلم سورة الرحمن أول مرة على الجن قبل ان يقرأها على المسلمين, بل وامتدح رد الجن عليها, وقال انه خير من رد المسلمين عليها: (لقدْ قرأْتُها (يعني سورةَ الرحمنِ) علَى الجنِّ ليلَةَ الجنِّ ، فكانوا أحسَنَ مردودًا منكُمْ ، كنتُ كلَّما أتيتُ على قوله تعالى فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ قالوا : ولَا بشيءٍ مِّنْ نعَمِكَ ربَّنا نُكَذِّبُ فلَكَ الحمْدُ), حديث حسن في صحيح الجامع.
وسوف نستعرض في السطور التالية بعض المعلومات المختصرة عن عالم الجن, مستندين الى نصوص القرآن الكريم, والأحاديث النبوية, ولتسهيل الأمر سوف نعرضها في صورة سؤال وجواب:
- السؤال: لماذا سمي الجن بهذا الاسم؟
-
الجواب: الجن من جَنَّ أي ستر وخفي, وسميت الجنة بهذا الاسم نظرا لتشابك أغصانها بطريقة انها تستر وتخفي من بداخلها, وكذلك نسمي الطفل في بطن أمه بالجنين بسبب انه مستور عنا, ومجنون عنا, ولا نستطيع الوصول إليه لنراه, ولكن لنطرح سؤال: إذا كنا لا نستطيع رؤية الجنين في بطن أمه, فهل نستطيع ان نرى أثره ؟ بمعنى اصح ألا ندرك حين ازدياد بطن أمه مع تقدم شهور الحمل ان الجنين ينمو, وانه موجود وحي, رغم اننا لا نستطيع رؤيته عيانا؟
- السؤال:
هل الجن كلهم صنف واحد, وهذا الصنف يتشكل ويتحول إلى إشكال مختلفة, كما درج الفهم على ذلك؟
-
الجواب: كلا, فهذا مفهوم خاطئ, والصحيح وحسب حديث الرسول الصحيح والذي أوردناه في البحث ان الجن خُلقوا على ثلاثة أصناف, ومن هذه الأصناف ما يشبه خلق الحيات, ومنهم أصحاب الكهف, ومنهم من يشبه الكلاب, ولا يتغيرون من شكل إلى أخر, وربما ان الشياطين وهم من نرجح انهم من الصنف الذين يطيرون في الهواء, أو الصنف الذين يحلون ويظعنون, ربما انهم أي الشياطين هم من لديهم القدرة على التشكل, وربما ان التشكل من الخداع البصري, وليس تغيير الخلقة التي خلقه الله عليها, ( لمزيد من التفاصيل راجع البحث في المشاركة رقم 1).
- السؤال: هل الجن هم الشياطين, أي بمعنى اخر: هل الشياطين هم كل عالم الجن؟
-
الجواب: الإجابة المفصلة على هذا السؤال موجودة في أخر البحث, يمكن الرجوع إليها لمن لم يقرأ البحث كاملا, يستطيع ان يحمله من المشاركة الأولى, ويقرأه على مكث. لكن اختصارا نقول ان هذا من المعتقدات الخاطئة عن عالم الجن, وهو الاعتقاد انهم هم معشر الشياطين, وقد امتدح الرسول في غير موضع الجن, بينما ذم القرآن الكريم الشياطين, وأمرنا باتخاذهم أعداء. لكن نستطيع القول إن كل الشياطين من الجن وليس العكس.
- السؤال: هل ثَم فرق بين الجن والشياطين؟
-
الجواب: الشياطين هم جزء من معشر الجن, وعلمنا من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ان للجن أصناف. ومن القرآن الكريم نعلم انه لا يمكن رؤية الشياطين قوله تعالى: (إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ), وفيها دلالة على عدم استطاعة البشر رؤية الشياطين, ولو قيل إن أحدا رأى الشيطان أو أي من قبيله فهذا مخالف لنص الآية الكريمة (إلا أن يتشكل وهو قد يكون من ضرب الخداع البصري).
لكن علمنا من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ان من أصناف الجن حيات ويمكن رؤيتها, وقد حث المسلمون ان رأى احد منهم مثل هذه الحيات ان لا يسارع في قتلها, خوفا ان يكون احد مسلمي الجن. إذاً نستدل من ذلك كله ان الجن يمكن ان يُروا, أو على الأقل بعض أصنافهم, وقد أَرى الرسول المسلمين اثأر وفد الجن واثأر نارهم, ما يدل على انهم أجسام كثيفة وتحدث اثر, وليس مثل الشياطين.
الشيطان والشياطين لم يُذكروا في القرآن الكريم إلا مذمومين, وحذرنا منهم, وأمرنا ان نتخذهم أعداء, بينما امتدح الرسول الكريم الجن, وقال نعم الجن هم.
في قوله تعالى: (وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) الحجر), وقوله تعالى: (وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) الصافات), نرى ان المذكورين هم الشياطين, ولم يقل وحفظا من الجن, وهذا فيه دلالة على ان صنف معين من الجن وهم الشياطين هم من يستطيع الوصول للسماء لاستراق السمع, لكن ليس كل الجن يستطيعون فعل ذلك.
- السؤال: هل من الجن مسلمون؟
-
الجواب: بكل تأكيد نعم, وهذا وفق نصوص القرآن والسنة النبوية.
- السؤال: هل الجن من دواب الأرض؟
-
الجواب: نعم هم من الدابة العاقلة, والتي تشمل الإنس والجن, وهذا ما أثبتناه وفصلناه باستفاضة في البحث تحت نفس العنوان, وننصح بالرجوع إليه وتأمله.
-
السؤال: هل من الجن مهرة ويستطيعون البناء؟
-
الجواب: بكل تأكيد, إذاً من بنى صروح ومحاريب وتماثيل سليمان عليه السلام, أليس الجن؟ مع كل ما يقتضي ذلك من هندسة عبقرية في بناء تلك المملكة, والتي لم يُرى لها مثيل, فقد علمنا ان أمر البناء قد أنيط بعالم الجن وحدهم, وليس الإنس. إذاً بلا شك ان في هذا إثبات واضح من ان الجن يستطيعون البناء وإنشاء الصروح والمباني والمدن والقرى, وهذا ليس غريب فنحن نتحدث عن خلق عاقل, ولديه القوة الجسدية, ولسنا بصدد كائنات غير عاقلة, وهذا التصور المشوش لدينا جعل البعض يعتقد ان الجن اقل انحطاطا وتقدما وتفكيرا من أدنى الحيوانات والدواب الغير عاقلة, وهو مخالف لما ورد في القرآن الكريم, ومخالف للمنطق العقلي السليم حتى.
- السؤال:
هل للجن قراهم ومدنهم ومجتمعاتهم؟
-
الجواب: نعم وكما قلنا إن الجن هم من الأمم التي تحدث القرآن عنها, منهم من استعمر في الأرض, وخلا بعد هلاكهم, ومنهم من هو قائم. ونستطيع من تتبع آيات القرآن الكريم ان نفهم ان الجن هم أيضا لهم قراهم ومدنهم ومجتمعاتهم, لنتأمل ما يلي:
قال تعالى: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130) ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132) الأنعام.
الخطاب في الآية الكريمة (130) من سورة الأنعام موجه لا شك للثقلين ونقصد الجن والإنس, ويبدو الاتصال في المعنى بين الآية (130) والآيتين الكريمتين التاليتين لها, ففي الآية (131) نستشف ان للجن كذلك قرى, ومرت عليهم قرون كما الإنس, وقد حدث الهلاك لتلك القرى بعد أعراضها عن رسالة الله, ويبدو الثواب مطروحا للأنس والجن, لمن اتبع رسالة الله منهم, كما هو موضح في الآية (132) والله اعلم.
- السؤال: هل الجن يأكلون الطعام ويشربون الشراب, ويتمتعون بخيرات الأرض, وزروعها وثمارها ونخيلها وما إلى ذلك؟
-
الجواب: هذا السؤال مهم جدا لان الإجابة عليه يترتب عليها فهم كبير لعالم الجن, وهل هم يشاركونا نفس الكرة الأرضية أم لا. ما هو الاعتقاد السائد حين طرح مثل هذا السؤال بخصوص طعام عالم الجن؟ لا شك ان الإجابة لدى علماء التفسير هي ان طعام الجن هو العظام والمزابل, وهذا فهم خاطئ لما ورد من ان وفد الجن الذي زار الرسول وسأله الزاد (الطعام) فدعا الله لهم ان كل عظم يمرون به يعود أوفر ما كان لحما, فيتغذون عليه. لكن لنطرح سؤال مهم: إذا كان هذا هو طعام الجن وليس غيره, فماذا كانوا يأكلون قبل دعوة النبي لهم بذلك؟ علما انهم كانوا يَعْمِرون الأرض ربما ملايين السنين قبل ظهور البشر؟ لا شك ان هذا الطعام هو خاص بوفد الجن, والذي ربما أتى من ارض بعيدة, وبعدت به السبل عن أرضهم وطعامهم وشرابهم, فسألوا الرسول الطعام وقت مكوثهم للتلقي عن الرسول, وليس هذا عام لكل عالم أو قل عوالم الجن.
إذاً لنعود لمناقشة السؤال عن طعام الجن كما استقنا ذلك من تدبر آيات القرآن الكريم:
لا شك أن سورة الرحمن فيها معلومات جزيلة عن عالم الجن, وعن طعامهم وشرابهم, وعما سيؤول إليه مصريهم وحالهم بعد الموت لمن تدبر.
قال تعالى: (وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13) الرحمن).
الأرض وضعها وهيأها للأنام, قيل للخلق, وقيل للثقلين أي الإنس والجن, وهنا ذكر سبحانه وتعالى الفاكهة والنخل والحب وكلها نعم نتمتع بها ونعيش عليها نحن بني آدم, لكن أليس السؤال موجه للجن أيضا؟ وهذا دليل على انهم يأكلون كما نحن هذه النعم ؟
حين قرأ الرسول صلى الله عليه وسلم سورة الرحمن على المسلمين أول مرة ولدى فراغه من قراءتها لم يسمع أي رد منهم, قال لهم ما كان رد الجن هكذا, لقد قرأتها عليهم البارحة, وكانوا حين اقرأ قوله تعالى:(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) يقولون لا شيء من ألائك ربنا نكذب فلك الحمد, وفي هذا دليل على انهم يعلمون هذه النعم, ويستمتعون بها, ويشكرون عليها.
تأمل قوله تعالى: (وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10)
رِزْقاً لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11) ق).
وصفت ثمار النخل أنها رزقا للعباد فمن هم العباد؟ إنهم الإنس والجن, مسلمهم وكافرهم, حتى الكافر الله يجعل له رزقاً, فهو الرزاق ذو القوة المتين, قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) الذاريات ).
من الآيات الكريمة السابقة يتضح لنا بجلاء ان الجن يرزقون من ثمرات الأرض وخيراتها كما نحن, وان ثمار النخيل هي رزق لهم أيضا. وحيث إنهم يأكلون كما نأكل الثمار والحبوب والفاكهة والتمر والبلح فلماذا لا نجد اثر تنافسهم معنا على خيرات الأرض, علماً انهم خلق كثير العدد, بل يفوق عدد الإنس بمراحل؟
إن كل ذلك يطرح الشكوك في القول القائل إن سائر الجن يعيشون معنا على هذه الكرة الأرضية, والأرجح انهم مجنونون عنا في أراضين بعيدة في الفضاء الواسع, قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29) الشورى), أي ان هناك دابة مبثوثة في السموات أي في الاراضين التي في تلك السموات, ولعل منها بعض أصناف الجن والله اعلم.
- هل كل الجن يعيشون معنا في هذه الكرة الأرضية؟
- الجواب: بالنظر إلى ان عالم الجن هو عالم كبير جدا, وان لهم كذلك أصناف مختلفة من الخلق, ولهم مدنهم وقراهم ودوابهم وأنعامهم, وانهم يأكلون ثمار الأرض وفاكهتها ونخيلها وزروعها كما نحن, فهذا يطرح الشكوك في القول القائل إنهم يشاركونا نفس الكرة الأرضية, ذلك اننا لم نجد أثار تنافسهم معنا على ثمار الأرض وزروعها وخيراتها, وبالنظر لعددهم المهول بالنسبة للبشر. وحتى ان قيل إنهم أجسام شفافة, فلو استهلكوا الثمار سوف نرى اثر نقصها, أي الثمار, وكذلك سنشاهد تلك الثمار وهي مواد كثيفة بينما تتحرك في أمعائهم, إن هذا شيء يدعو للضحك, فلا يمكن تخيل ان هذا العالم الكبير يعيش في هذه القطعة متناهية الصغر من قطع الأرض التي خلقها الله جل وعلا. وهذا يذكرنا أيضا بخلق أخر كثير العدد, لكنهم من عالم الإنس, وليس بشرا, انهم يأجوج ومأجوج, والذي أثبتنا استحالة ان يكونوا على كرتنا الأرضية هذه, لكنهم سيحلون عليها نزولا, كما جاء في الحديث, وذلك في أخر الزمان.
فمن الأولى أن يكون عالم الجن أيضا مجنوناً عنا في أراضين بعيدة, وان كان بعضهم يعيش معنا ( كالشياطين).
- السؤال: هل الجن يدخلون الجنة؟
- الجواب: بكل تأكيد يدخل مؤمني الجن الجنة كما هم مؤمني الإنس, وهذا وارد في آيات كثيرة في القرآن الكريم لا مجال لحصرها هنا. ومعلوم من القرآن ان الله جل وعلا سيحشر الإنس والجن جميعاً إليه يوم القيامة, ويكون الخلق كلهم على ثلاثة أزواج, والزوج ليس كما فُسر على انه صنف أو نوع, بل هو شيئين متناظرين, فيقال زوج نعال, أي فردتين. إذاً عموم الخلق يوم القيامة كما ورد في سورة الواقعة على ثلاثة أزواج, زوج من المقربين - جعلنا الله منهم, وزوج من أصحاب اليمين, وزوج من أصحاب الشمال وهم الكفار وأهل جهنم, والعياذ بالله, فالزوج من المقربين وهم من يدخلون الجنة بلا حساب وهم المتقون, وهم الذين امنوا وعملوا الصالحات, وهؤلاء نوعين, انس وأزواجهم من الجن, أي نظرائهم من الجن, وهؤلاء هم من وعدوا في سورة الرحمن ان لهم جنتين, قال تعالى: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) الرحمن)
, فمن خاف مقام ربه هم المتقون, لكن لماذا جنتان؟ هذا سؤال مهم جدا ولن نتطرق للإجابة عليه الان, لأنه مرتبط ببحث مهم لنا عن تفاصيل الساعة واليوم الأخر, سننشره بعون الله لاحقاً.
لكن الملفت للنظر قوله تعالى عن تلك الجنتين للخائف مقام ربه: (فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) الرحمن), أي ماذا يعني ذلك؟ يعني ان كل جنة فيها من كل فاكهة زوج, وفي كلتي الجنتين يكون زوجان. لكن أيضا ما المقصود ان يكون في كل جنة زوج من كل فاكهة؟ قيل في التفسير نوع واحد او صنف واحد, وهذا بالطبع تفسير يقصر نعيم الجنة على نوع واحد, وهو ليس بصحيح, فالجنة اكبر من ان يكون فيها صنف واحد, لكن ما نقوله ان من كل صنف من أصناف الفاكهة والتي لا حصر لها هناك زوج أي نوعين متناظرين, احدهما يخص مؤمني الإنس والأخر يخص مؤمني الجن. ولدينا الكثير لقوله في هذا النقاش, مع إثباتات يطمئن لها القلب, لكن لا يتسع المقام هنا. وقد يشير ذلك إلى اختلاف في طبيعة فاكهة الإنس وفاكهة الجن لاختلاف خلقهما والله اعلم.
أيضا مما يثبت ما قلناه أنفا قوله تعالى: (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا
وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) الصافات),
أزواجهم, وهذا يثبت ما ذهبنا إليه من ان الخلق يكونون ثلاثة أزواج, كل زوج منهم انس وجن, فالذين كفروا من الإنس كما ورد في الصافات يحشرون مع نظرائهم من الجن والشياطين إلى جهنم, وهم بلا شك زوج أصحاب المشئمة أو أهل الشمال المذكورين في الواقعة. ونرجو ان لا يعتقد البعض ان أزواجهم هنا تعني زوجاتهم فهذا غير صحيح البتة.
- السؤال: هل يمكن رؤية الجن؟
-
الجواب: يصعب الإجابة على هذا السؤال, لكن بالمجمل ليس هناك نص قراني قاطع في استحالة رؤية الجن, ولو رجعنا لمعنى كلمة جن فهي من جنَّ أي ستر, ومنها الجنين لأنه مستور عنا في بطن أمه, لكن لو استطعنا الوصول إليه فسوف نراه, وكذلك الجنة لأنها تجن من بداخلها, والمجن أي الترس لأنه يستر ويحمي من خلفه, والمجنون لأنه سُتر عقله.
وفي الأحاديث النبوية دلالة على رؤية بعض أصناف الجن كالحيات, لان الرسول صلى الله عليه وسلم أوصى المسلمين إذا ما رأوا مثلها أن لا يسارعوا في قتلها, لعلّها تكون احد أفراد مسلمي الجن. كذلك حين التقى صلى الله عليه وسلم بوفد الجن وبعد رحيلهم لأرضهم أرى المسلمين أثارهم واثأر نارهم, وهذا هو بيت القصيد, فهو يدل على ان لهذا الصنف من الجن ثقل على الأرض, وجسم كثيف, بحيث انه ترك أثراً عليها. وعليه نعتقد والله اعلم ان بعض عوالم الجن هم مجنونون عنا في كرات أرضية بعيدة, لا يمكن الوصول إليها, وان كان بالإمكان رؤية أجسامهم لو تسنى الوصول اليهم, ومنهم أصحاب الكهف وقومهم.
وأما ما يستشهد به في القرآن في قوله تعالى: (إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ), فهذا في حق الشياطين, وليس كل الجن شياطين. وحتى عدم رؤية الشياطين كما هو موضح في الآية تختلف عن عدم رؤية الملائكة في معركة بدر, وقد فصلنا ذلك بمثال في البحث, ولا مانع من إعادته هنا:
قال تعالى:(إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ), هذه الآية الوحيدة التي يستدل بها في القرآن الكريم بعدم إمكانية رؤية الشياطين, لنتأمل قوله تعالى (
من حيث لا ترونهم) ومقارنة عدم رؤية الشياطين بعدم رؤية جنود الملائكة المحاربين في موقعة بدر مساندة للمسلمين, أولاً لنتأمل: (من حيث لا ترونهم), لو افترضنا ان شخصا ما في مقر الاستخبارات الأمريكية يراقب بواسطة قمر صناعي مزود بتقنيات تصوير ورصد عالية الدقة تحركات شخص ما يقيم في اليمن, ويستطيع اقتفاء تحركه بسيارته بكل دقة من مكان لأخر, هنا نستطيع القول ان هذا العنصر ألاستخباراتي الأمريكي وهو في وسط واشنطن يستطيع رؤية ذاك الشخص اليمني في اليمن
من حيث لا يراه اليمني, لكن لو افترضنا ان اليمني استطاع الوصول إلى حيث يقيم الأمريكي فهو بلا شك يستطيع رؤيته.
قياسا على ما سبق, وانطلاقا من ان كل كلمة في القرآن الكريم لها دلالتها, فنظن ان عدم رؤية بني آدم للشياطين هي مختلفة عن عدم رؤيتهم للملائكة, قال تعالى: (وَأَنزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا), أي ان الجنود من الملائكة كانوا يحاربون جنبا إلى جنب مع المسلمين, ولم يستطيع المسلمون رؤيتهم, بينما عند الحديث عن عدم رؤية الشياطين نرى قوله تعالى: (مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ), ولو ان الشياطين يكونون طوال الوقت بجانبنا وأمامنا لقيل انه يراكم هو وقبيله
وانتم لا ترونهم.
وعليه نعتقد والله اعلم أن الشياطين قد يكونون في مكان بعيد, ولكن لديهم القدرة على رؤية البشر, وإرسال رسائل الوسوسة إلى عقولهم في صورة طيف لإغوائهم, (إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ). نقول هذا ولا نقطع به فهو في محل تساءل لا أكثر, والأمر يحتاج لمزيد من البحث والتحري, والله الهادي إلى سواء السبيل.
- السؤال: ارتبط اسم الجن والشياطين بمملكة سليمان عليه السلام, فأين هي اثأر هذه المملكة العظيمة, والتي لن يكون مثلها ممالك إلى يوم الدين؟
-
الجواب: هذا سؤال كبير, ويصعب الإجابة عليه في هذا الموضع, لكن نبشركم أن لنا بحثا طور الإعداد عنوانه يحمل هذا السؤال: أين مملكة سليمان وأين بني إسرائيل؟ لكن اختصارا نقول انه إلى حتى ألان لم يعثر التنقيب التاريخي أو الأثري (الاركيولوجي) على أي اثر ولو ضئيل لهذه المملكة العظيمة, رغم العثور على أثار لحضارات سبقتها, وسنترك الإجابة على هذا السؤال إلى حين إتمام البحث بعون الله العلي الكريم.
ما كان من صواب فمن الله وله الحمد والمنة وما كان من خطأ فمن الشيطان ومني والله اسأل العفو والمغفرة.