هل في القرآن شيء أفضل من شيء ؟ [تعقيب على رأي الحافظ ابن عبد البر في هذه المسألة ]

إنضم
02/04/2003
المشاركات
1,760
مستوى التفاعل
0
النقاط
36
الإقامة
السعودية
الموقع الالكتروني
www.tafsir.org
بسم الله - عليه توكلت وبه أستعين

هل في القرآن شيء أفضل من شيء ؟
اختلف الناس في هذه المسألة مع أنه لاينبغي الخلاف فيها ؛ وذلك لورود النصوص التي تدل بوضوح على أن بعضه أفضل من بعض .
وقد ذكر خلاف الناس في هذه المسألة كل من الزركشي في البرهان( 1) ، والسيوطي في الإتقان(2 ) .
وسوف أذكر ملخص ما ذكراه بعد ذكر رأي الإمام ابن عبدالبر - إن شاء الله - ثُمَّ أذكر القول الصواب في هذه المسألة مستمداً من الله العون والسداد .
يرى ابن عبدالبر - رحمه الله - أنه لاينبغي أن نفضل بعض القرآن على بعض ؛ لأن القرآن كلام الله ، وصفة من صفاته ؛ ولو قلنا بأن بعضه أفضل من بعض للزم من ذلك دخول النقص في المفضول منه .
فبعد أن ذكر أقوال العلماء في معنى الحديث الوارد في فضل سورة { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } وأنها تعدل ثلث القرآن ، وبيّن أن المعنى الذي يشهد له ظاهر الحديث أنها تعدل في الثواب لمن تلاها ثلث القرآن ، قال : ( وهذا هو الذي يشهد له ظاهر الحديث ، وهو الذي يفر منه من خاف واقعة تفصيل القرآن بعض على بعض ، وليس فيما يعطي الله عبده من الثواب على عمل يعمله ما يدل على فضل ذلك العمل في نفسه ، بل هو فضله عزوجل يؤتيه من يشاء من عباده على ما يشاء من عباداته تفضلاً منه على من يشاء منهم ، وقد قال الله عزوجل : { مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مّـِنْهَآ أَوْ مِثْلِهَآ) } [ البقرة : 106 ] .
ولم يختلف العلماء بتأويل القرآن أنها خير لعباده المؤمنين التالين لها والعاملين بها إمَّا بتخفيف عنهم وإمَّا بشفاء صدورهم بالقتال لعدوهم لا أنها في ذاتها أفضل من غيرها .
فكذلك { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } خيرٌ لنا ، لأن الله يتفضل على تاليها من الثواب بما شاء ، ولسنا نقول [ هي ] في ذاتها أفضل من غيرها لأن القرآن عندنا كلام الله وصفة من صفاته ، ولايدخل التفاضل في صفاته لدخول النقص في المفضول منها )(3 ) ا هـ .
وهذا القول الذي اختاره ابن عبدالبر - رحمه الله - هو القول الأول في هذه المسألة ، وهو الذي ذكره الزركشي بقوله : ( فذهب الشيخ أبو الحسن الأشعري ، والقاضي أبو بكر ، وأبو حاتم ابن حبان وغيرهم إلى أنه لا فضل لبعضه على بعض ؛ لأن الكل كلام الله ، وكذلك أسماؤه تعالى لا تفاضل بينها ، وروى معناه عن مالك ، قال يحيى بن يحيى : تفضيل بعض القرآن على بعض خطأ ، وكذلك كره مالك أن تعاد سورة أو تردد دون غيرها ، واحتجوا بأن الأفضل يشعر بنقص المفضول ، وكلام الله حقيقة واحدة لا نقص فيه .
قال ابن حبان في حديث أبيّ بن كعب - رضي الله عنه - : { ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل مثل أم القرآن } : إن الله لايعطي لقارئ التوارة والإنجيل من الثواب مثل ما يعطي لقارئ أم القرآن ، إذ الله بفضله فضّل هذه الأمة على غيرها من الأمم وأعطاها من الفضل على قراءة كلامه أكثر مِمَّا أعطى غيرها من الفضل على قراءة كلامه ... قال : وقوله : { أعظم سورة } أراد به في الأجر ، لا أن بعض القرآن أفضل من بعض )(4 ) ا هـ .
وأمَّا القول الثاني في هذه المسألة فهو القول بالتفضيل ، أي أن بعض القرآن أفضل من بعض ، وهو القول المأثور عن السلف ، وهو الذي عليه أئمة الفقهاء من الطوائف الأربعة وغيرهم ، كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - .
قال السيوطي في الإتقان : ( وذهب آخرون إلى التفضيل لظواهر الأحاديث ، منهم : إسحاق بن راهويه ، وأبو بكر بن العربي ، والغزالي .
وقال القرطبي : إنه الحق ، ونقله عن جماعة من العلماء والمتكلمين(5 ) .
وقال ابن الحصّار : العجب ممن يذكر الاختلاف في ذلك ، مع النصوص الواردة بالتفضيل )(6 ) ا هـ .
وأقول أنا أيضاً : إنه لعجيب أن يرد مثل هذا الخلاف في هذه المسألة مع أن النصوص والأدلة الكثيرة تدل على التفضيل بل إن العقل يدل على ذلك مع دلالة الشرع .
وتقرير ذلك أن يقال : إن القرآن كلام الله ، ( وكلام الله لا نهاية له كما قال سبحانه : { قُل لَّوْ كَانَ ا؟لْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَــاـتِ رَبِّي لَنَفِدَ ا؟لْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَــ!ــتُ رَبِّي وَلَوْ جِـئــْنَا بِمِثْلِهِ÷ مَدَدًا } [ الكهف : 109 ] .
ومن كلماته تعالى : كتبه المنزلة ، كالتوراة ، والإنجيل ، والقرآن ، وكلماته التي يخلق بها الخلق ، وكلماته التي كلّم بها آدم ، والتي كلّم بها موسى ، والتي كلّم بها محمداً صلى الله عليه وسلم وكلماته التي يكلم بها عباده في المحشر وفي الجَنَّة ، وكلماته التي يخاطب بها أهل النَّار توبيخاً وتقريعاً ، وغيرُ ذلك من كلامه تبارك وتعالى .
فكلامه تعالى متبعّضٌ متجزي ، فالتوراة بعض كلامه وجزء منه ، والإنجيل كذلك والقرآن كذلك ، والقرآنُ أبعاضٌ وأجزاءٌ وسورٌ وآياتٌ وكلماتٌ .
وجميع هذا من المسلَّمات المعلومة لدى الكافة ، دلّ عليها الحس ، والعقل ، والشرع ، وهي أجلى من أن تحتاج إلى ضرب الأمثلة ، وسياق البراهين .
فكلامه تعالى الذي هو أجزاءٌ وأبعاضٌ ، بعضه أفضل من بعض ، وليس ذلك من جهة المتكلم به وهو الله تعالى ، وإنَّما هو من جهة ما تضمن من المعاني العظيمة ، فإن كلام الله المتضمن للتوحيد والدعوة إليه ، أفضل من كلامه المتضمن ذكر الحدود والقصاص ونحو ذلك ، وما يخبر به عن نفسه وصفاته أعظمُ مِمَّا يخبر به عن بعض خلقه ، وذلك لشرف الأول على الثاني .
وقد ورد في السنة الصحيحة ما يثبت ذلك ويوضحه ويُجلِّيه ، فمن ذلك :
1 - حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم في ميسر له فنزل ونزل رجلٌ إلى جانبه ، فالتفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال : { ألا أخبرك بأفضل القرآن ؟ } قال : فتلا عليه { الحمد لله رب العالمين }( 7) .
2 - حديث أبي سعيد بن المعلّى - رضي الله عنه - قال : كنتُ أصلي في المسجد ، فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبْه ، فقلتُ : يا رسول الله ! إني كنت أصلي فقال : { ألم يقل الله : { ا؟سْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ } [ الأنفال : 24 ] ثُمَّ قال لي : { لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن ، قبل أن تخرج من المسجد } . ثُمَّ أخذ بيدي ، فلما أراد أن يخرج قلتُ له : ألم تقل : { لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن ؟ } قال : { الحمد لله رب العالمين ، هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته }( 8) .
3 - عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { يا أبا المنذر ، أتدري أيّ آية من كتاب الله معك أعظم ؟ } قال : قلتُ : الله ورسوله أعلم . قال : { يا أبا المنذر : أتدري : أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم ؟ } قال : قلتُ : { ا؟للَّهُ لاَ إِلَـ!ــهَ إِلاَّ هُوَ ا؟لْحَيُّ ا؟لْقَيُّومُ ... } [ البقرة : 255 ] ، قال : فضرب في صدري ، وقال : { والله ، لِيَهْنِكَ العلمُ أبا المنذر } .
4 - وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رجلاً سمع رجلاً يقرأ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } يرددها ، فلما أصبح جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر ذلك له - وكأنّ الرجل يتقالُّها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن }(9 ) .
فدلت هذه النصوص ، وغيرها على تفضيل كلام الله بعضه على بعض ، وذلك حسب ما يدل عليه من المعاني ، وهو مذهب جمهور السلف وأهل السنة )( 10) .
وقد فصّل شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - الكلام في هذه المسألة في رسالة له بعنوان : ( جواب أهل العلم والإيمان بتحقيق ما أخبر به رسول الرحمن من أن { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تعدل ثلث القرآن )(11 ) ، وذكر أقوال العلماء في ذلك وأدلة كل قول مع المناقشة والترجيح ، والتوجيه والتعليل بما يغني الناظر فيه عن الرجوع إلى غيره .
وقد قرر أن النصوص النبوية والآثار السلفية والأحكام الشرعية والحجج العقليَّة تدل على أن كلام الله بعضه أفضل من بعض . وقال : ( ومعلوم أنه ليس في الكتاب والسنة نص يمنع تفضيل بعض كلام الله على بعض ، بل ولايمنع تفاضل صفاته تعالى ، بل ولا نقل هذا النفي عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ، ولا عن أئمة المسلمين الذين لهم لسان صدق في الأمة ، بحيث جعلوا أعلاماً للسنة وأئمة للأمة )( 12) .

وإذا تقرّر أن القول بالتفضيل هو القول الصواب الذي لاينبغي القول بخلافه ؛ فإن من نافلة القول أن أذكر الشبه التي احتج بها - ابن عبدالبر - على قوله المخالف للصواب ، مع الرد عليها والاعتذار له - إن أمكن - .
الشبهة الأولى : اشتبه عليه المراد بقوله تعالى : { مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مّـِنْهَآ أَوْ مِثْلِهَآ) } [ البقرة : 106 ] ، وذكر أن العلماء بتأويل القرآن لم يختلفوا أن المراد بقوله : { بِخَيْرٍ مّـِنْهَآ } أنها خير لعباده المؤمنين التالين لها والعاملين بها إمَّا بتخفيف عنهم وإمَّا بشفاء صدورهم بالقتال لعدوهم لا أنها في ذاتها أفضل من غيرها .
قال - رحمه الله - : ( وأمَّا قول الله عزوجل { مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مّـِنْهَآ أَوْ مِثْلِهَآ) } فمعناه بخير منها لنا لا في نفسها )( 13) .
وما استدل به وذكره ابن عبدالبر وإن كان قاله أيضاً إمام المفسرين ابن جرير الطبري وغيره من المفسرين عند تفسيرهم لهذه الآية إلاَّ أنه في الحقيقة لايدل على المراد الذي أراده ابن عبدالبر من نفي وقوع التفاضل في كلام الله ؛ بل إن ظاهر الآية يدل على أن الآية التي يأتي بها الله بدل الآية المنسوخة أو المنسية خيرٌ منها أو مثلها .
ولهذا ( فقول القائل : إنه ليس بعض ذلك خيراً من بعض بل بعضه أكثر ثواباً ، ردٌّ لخبر الله الصريح ، فإن الله يقول : { نَأْتِ بِخَيْرٍ مّـِنْهَآ أَوْ مِثْلِهَآ) } [ البقرة : 106 ] فكيف يُقال : ليس بعضه خيراً من بعض ؟ .
وإذا كان الجميع متماثلاً في نفسه امتنع أن يكون فيه شيء خيراً من شيء .
وكون معنى الخير أكثر ثواباً مع كونه متماثلاً في نفسه أمر لايدل عليه اللفظ حقيقة ولا مجازاً ، فلايجوز حمله عليه ، فإنه لايُعرف قط أن يقال : هذا خير من هذا وأفضل من هذا ، مع تساوي الذاتين بصفاتهما من كل وجه ، بل لابُدّ مع إطلاق هذه العبارة من التفاضل ولو ببعض الصفات ، فأمَّا إذا قدر أن مختاراً جعل لأحدهما مع التماثل ما ليس للآخر مع استوائهما بصفاتهما من كل وجه ، فهذا لايعقل وجوده ، ولو عقل لم يقل إن هذا خير من هذا أو أفضل لأمر لايتصف به أحدهما البتة .
وأيضاً ففي الحديث الصحيح أنه قال في الفاتحة : { لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها } فقد صرح الرسول بأن الله لم ينزل لها مثلاً ، فمن قال إن كل ما نزل من كلام الله فهو مثلٌ لها من كل وجه فقد ناقض الرسول في خبره )(14 ) .
فالآية التي ذكرها ابن عبدالبر تدل على خلاف ما ذهب إليه ، كما قال ابن حجر : ( ويؤيد التفضيل قوله تعالى : { نَأْتِ بِخَيْرٍ مّـِنْهَآ أَوْ مِثْلِهَآ) } )( 15) ا هـ .
الشبهة الثانية : أن القرآن كلام الله ، وكلام الله صفة من صفاته ولايدخل التفاضل في صفاته لدخول النقص في المفضول - منها .
وهذا الذي ذكره ابن عبدالبر بعضه صحيح ، وبعضه غير صحيح .
فأمَّا الصحيح منه فهو أن القرآن كلام الله وكلام الله صفة من صفاته ، وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة .
وأمَّا غير الصحيح فهو أن التفاضل لايدخل في صفات الله لدخول النقص في المفضول منها ، والسبب الذي دعاهم إلى هذا القول ، هو أن صفات الله كلها فاضلة في غاية التمام والكمال ، وليس فيها نقص ، وإذا قلنا بأن بعضها أفضل من بعض كان ذلك وصفاً للمفضول بالنقص ، وهذا لايجوز .
والجواب على هذه الشبهة أن يقال : ( قول القائل : صفات الله كلها فاضلة في غاية التمام والكمال ليس فيها نقص ، كلام صحيح ، لكن توهمه أنه إذا كان بعضها أفضل من بعض كان المفضول معيباً منقوصاً خطأ منه فإن النصوص تدل على أن بعض أسمائه أفضل من بعض ، وبعض أفعاله أفضل من بعض .
ففي الآثار ، ذكر اسمه العظيم واسمه الأعظم ، واسمه الكبير واسمه الأكبر ، كما في السنن ورواه أحمد وابن حبان في صحيحه عن ابن بريدة ، عن أبيه قال : دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد ، فإذا رجلٌ يصلي يدعو : اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلاَّ أنت الأحد الصمد ، الذي لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفواً أحد ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : { والذي نفسي بيده ، لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى ، وإذا دُعي به أجاب }(16 ) .
وقد ثبت في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إن الله كتب في كتاب فهو موضوع عنده فوق العرش : إن رحمتي تغلب غضبي } وفي رواية : { سبقت رحمتي غضبي }(17 ) .
فوصف رحمته بأنها تغلب غضبه وتسبقه ، وهذا يدل على فضل رحمته على غضبه من جهة سبقها وغلبتها ، وقد ثبت في صحيح مسلم عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في سجوده : { اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك ، وبمعافاتك من عقوبتك ، وأعوذ بك منك }(18 ) ، ومعلوم أن المستعاذ به أفضل من المستعاذ منه ، فقد استعاذ برضاه من سخطه ، وبمعافاته من عقوبته .
وأمَّا استعاذته به منه فلابد أن يكون باعتبار جهتين : يستعيذ به باعتبار تلك الجهة ، ومنه باعتبار تلك الجهة ، ليتغاير المستعاذ به والمستعاذ منه ، إذ أن المستعاذ منه مخوف مرهوب منه ، والمستعاذ به مدعو مستجار به ملتجأ إليه ، والجهة الواحدة لاتكون مطلوبة مهروباً منها ، لكن باعتبار جهتين تصح )(19 ) أ هـ .
ويقال أيضاً في الجواب على هذه الشبهة ما سبق ذكره من أنه لايوجد في الكتاب والسنة نص يمنع تفضيل بعض كلام الله على بعض ، بل ولايمنع تفاضل صفاته تعالى ، بل ولا نقل هذا النفي عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولا عن أئمة المسلمين الذين لهم لسان صدق في الأمة بحيث جعلوا أعلاماً للسنة وأئمة للأمة .
بل النصوص الكثيرة من الكتاب والسنة تدل على تفضيل بعض كلام الله على بعض وعلى تفضيل بعض صفاته على بعض ، وقد سبق ذكر شيء منها في ثنايا هذا المبحث ، وبالله التوفيق .
ومِمَّا سبق يُعلم أن إمامنا ابن عبدالبر لم يوفق للصواب في هذه المسألة ، ويُمكن أن يُعتذر له بأنه - رحمه الله - ظن أن القول بتفضيل بعض كلام الله على بعض لايُمكن إلاَّ على قول الجهمية من المعتزلة وغيرهم القائلين بأن القرآن مخلوق ، فإنه إذا قيل : إنه مخلوق أمكن القول بتفضيل بعض المخلوقات على بعض ، فيجوز أن يكون بعضه أفضل من بعض ، وهذا الظن الذي ظنه - رحمه الله - قد ظنّه غيره من العلماء الذين هم من أهل السنة ووافقوه في هذه المسألة فيما ذهب إليه .
( قالوا : وأمَّا على قول أهل السنة والجماعة الذين أجمعوا على أن القرآن كلام الله غير مخلوق فيمتنع أن يقع التفاضل في صفات الله القائمة بذاته . ولأجل هذا الاعتقاد صار من يعتقده يذكر إجماع أهل السنة على امتناع التفضيل في القرآن كما قال أبو عبد الله ابن الدراج في مصنّف صنّفه في هذه المسألة ، قال : { أجمع أهل السنة على أن ما ورد في الشرع مِمَّا ظاهره المفاضلة بين آي القرآن وسوره ليس المراد به تفضيل ذوات بعضها على بعض ، إذ هو كلام الله وصفة من صفاته ، بل هو كله لله فاضل كسائر صفاته الواجب لها نعت الكمال } .
وهذا النقل للإجماع هو بحسب ما ظنه لازماً لأهل السنة ، فلما علم أنهم يقولون : القرآن كلام الله ليس بمخلوق ، وظن هو أن المفاضلة إنَّما تقع في المخلوقات في الصفات ، قال ما قال . وإلاَّ فلاينقل عن أحد من السلف والأئمة أنه أنكر فضل كلام الله بعضه على بعض ، لا في نفسه ، ولا في لوازمه ومتعلقاته ، فضلاً عن أن يكون هذا إجماعاً )( 20) .
وأخيراً نقول : إن ابن عبدالبر اجتهد في هذه المسألة فأخطأ ، ومن اجتهد بقصد طاعة الله ورسوله بحسب اجتهاده لم يكلفه الله ما يعجز عنه ، بل يثيبه على ما فعله من طاعته ويغفر له ما أخطأ فيه فعجز عن معرفته والوصول إليه .
وكلٌّ يؤخذ من قوله ويُرد إلاَّ المعصوم صلوات ربي وسلامه عليه .

الحواشي السفلية

(1 ) انظر : رهان في علوم القرآن للزركشي 2/67 - 73 النوع الثامن والعشرون : هل في القرآن شيء أفضل من شيء ؟ .
( 2) انظر : الإتقان في علوم القرآن للسيوطي 2/1131 - 1134 النوع الثالث والسبعون في أفضل القرآن وفاضله .
( 3) الاستذكار 8/116 ، 117 .
( 4) البرهان في علوم القرآن للزركشي 2/67 - 69 .
( 5) انظر كتاب القرطبي : التذكار في أفضل الأذكار من القرآن الكريم ص 40 - 44 ، وقد رجح أن القول الصحيح هو القول بالتفضيل .
( 6) الإتقان في علوم القرآن للسيوطي 2/1131 ، 1132 ، باختصار .
( 7) حديث صحيح أخرجه النسائي في فضائل القرآن رقم [36] ص 72 ، وقال محققه فاروق حماده : إسناده صحيح . وانظر : الترغيب والترهيب للمنذري 2/342 رقم [2151] .
( 8) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب فضائل القرآن ، باب : فضل فاتحة الكتاب رقم [5006] ص 995 .
( 9) أخرجه البخاري في كتاب فضائل القرآن ، باب : فضل { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } رقم [5013] ص 996 .
( 10) من كتاب العقيدة السلفية في كلام رب البرية وكشف أباطيل المبتدعة الردية ، تأليف : عبد الله بن يوسف الجديع ص 187 - 191 بتصرف يسير واختصار .
( 11) وهي مطبوعة بتحقيق فواز أحمد زمرلي وخالد السبع العلمي ، نشر دار الكتاب العربي ، وهي أيضاً مطبوعة ضمن مجموع الفتاوى 17/5 - 205 .
( 12) انظر : الرسالة السابقة ص 91 .
( 13) التمهيد 19/231 .
( 14) من كلال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في الرسالة السابقة ص 167 .
( 15) فتح الباري 8/8 .
( 16) رواه أبو داود في كتاب الصلاة ، باب : الدعاء رقم [1493] 2/166 ، 167] ، والترمذي في الدعوات ، باب : جامع الدعوات رقم [3475] 5/481 ، 482 ، وقال : هذا حديث حسن غريب . وغيرهما من أهل السنن ، وهو حديث صحيح كما في صحيح سنن أبي داود رقم [1324] 1/279 ، وصحيح سنن الترمذي رقم [2763] 3/163 .
( 17) رواه البخاري في كتاب التوحيد ، باب : قول الله تعالى : { وَيُحَذِّرُكُمُ ا؟للَّهُ نَفْسَهُ ,) } [ آل عمران : 28 ] رقم [7404] ص 1410 ، ومسلم في كتاب التوبة ، باب : في سعة رحمة الله تعالى ، وأنها سبقت غضبه رقم [2751] ص 1100 ، 1101 .
( 18) رواه مسلم في كتاب الصلاة رقم [486] ص 201 .
( 19) باختصار من رسالة ابن تيمية السابقة ص 101 - 104 .
( 20) من رسالة ابن تيمية السابقة ص 87 .
 
تتمة

تتمة

وجدت لابن عبدالبر رحمه الله كلاماً خالف فيه ما قرره سابقاً من عدم جواز التفضيل بين آيات القرآن وسوره
قال رحمه الله في شرحه لحديث فضل الفاتحة وأنه لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل مثلها : ( وأمَّا قوله - عليه السلام - لأبيّ : { حتى تعلمَ سورة ما أنزل الله في القرآن ، ولا في التوراة ولا في الإنجيل ، ولا في الزبور ، ولا في القرآن مثلها } فمعناه مثلها في جمعها لمعاني الخير ، لأن فيها الثناء على الله بما هو أهله ، وما يستحق من الحمد الذي هو له حقيقة لا لغيره ؛ لأن كلّ نعمة وخير فمنه ، لا من سواه ، فهو الخالق الرازق ، ولا مانع لما أعطى ، ولا معطي لما منع ، وهو المحمود على ذلك ، وإن حُمد غيره فإليه يعود الحمد .
وفيها التعظيم له ، وأنه رب العالم أجمع ، ومالك الدنيا والآخرة وهو المعبود المستعان .
وفيها تعليمُ الدعاء إلى الهدى ، ومجانبة طريق من ضلّ وغوى ، والدعاءُ لبابُ العبادة ، فهي أجمع سورة للخير ، وليس في الكتاب مثلها على هذه الوجوه ، والله أعلم .
وقد قيل : إن معنى ذلك لأنها لاتجزيء الصلاة إلاَّ بها دون غيرها ، ولايجزئ غيرها عنها ، وليس هذا بتأويل مجمع عليه )[ الاستذكار 4/186 - 187 . ] ا هـ .


قلت : فهذا كلام ابن عبدالبر - رحمه الله - في معنى كون الفاتحة أعظم سورة في القرآن ، وأن الله لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها ، وأن ذلك راجع إلى ما اشتملت عليه من المعاني العظيمة التي لاتوجد في غيرها من سور القرآن .
وابن عبدالبر إذ يقرر هذا فهو يخالف ما ذهب إليه من القول بعدم التفضيل لبعض القرآن على بعض ، إذ مقتضى كلامه هنا أنها أفضل من غيرها ، وأنه ليس هناك سورة مثلها ، وهذا هو الصحيح الذي تدل عليه الأحاديث .
ولو أنه قال هنا في معنى كونها أفضل سورة وأعظم سورة في القرآن بمقتضى ما ذهب إليه من عدم التفضيل لكان المعنى : أن ثوابها أعظم من غيرها ، كما قال بذلك ابن التين ، كما ذكر ذلك السيوطي في الإتقان .
وهذا يدل على أن القول بالتفضيل هو الذي لاتدل النصوص الصريحة الصحيحة إلاَّ عليه كما سبق تقريره .
 
السلام عليكم ورحمة الله

السلام عليكم ورحمة الله

وتأكيدا لما تفضل به أستاذنا العزيز أبو مجاهد العبيدي

أضيف
ان التوراة والانجيل والزبور
وصحف ابراهيم كلها من عند الله

فلماذا لانتعبد بها لو كانت بنفس المستوى؟؟؟

أن الحديث القدسي؟؟؟ أيضا هو كلام الله
ولايجوز التعبد به؟؟ كالقرآن

وأريد هنا أن أضرب مثلا ولله المثل الأعلى

هب أنك أرسلت رسالة الى شخص عزيز
سيكون وقعها أمر عادي؟؟؟

لكن لو أن هذه الرسالة كانت قصيدة شعرية بليغة
فمن المؤكد سيكون وقعها أعظم؟؟

فكيف اذا كانت برقيه ؟؟ عاجلة ؟؟ مختصرة؟؟ بليغة؟؟

من هنا نقول كما قال السلف

ان الله جمع الكتب السماوية كلها؟؟؟ في القرآن
ففيه خبر من كان قبلنا وفيه شريعتنا وفيه خبر مايكون الى أن يرث الله الأرض ومن عليها

على الرغم من أن الكتب السماوية السابقة كلها من عند الله
وفيها الموعظة والحكمة

وكذلك أم الكتاب هي مختصر للقرآن كله لما فيها من البلاغة والاعجاز والايجاز البليغ

من هنا جاءت أفضليتها وعظمتها وتفضيلها على سواها؟؟


والحديث يمكن أن يكون أطول ويكون له شواهد أكثر لكنني آثرت الايجاز وتأكيدا لما تفضل به الشيخ
العبيدي



والصلاة والسلام على سيدنا محمد


وآخر دعوانا

الحمد لله رب العالمين
 
وقد فصّل شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - الكلام في هذه المسألة في رسالة له بعنوان : ( جواب أهل العلم والإيمان بتحقيق ما أخبر به رسول الرحمن من أن { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تعدل ثلث القرآن )(11 ) ، وذكر أقوال العلماء في ذلك وأدلة كل قول مع المناقشة والترجيح ، والتوجيه والتعليل بما يغني الناظر فيه عن الرجوع إلى غيره .
وقد قرر أن النصوص النبوية والآثار السلفية والأحكام الشرعية والحجج العقليَّة تدل على أن كلام الله بعضه أفضل من بعض . وقال : ( ومعلوم أنه ليس في الكتاب والسنة نص يمنع تفضيل بعض كلام الله على بعض ، بل ولايمنع تفاضل صفاته تعالى ، بل ولا نقل هذا النفي عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ، ولا عن أئمة المسلمين الذين لهم لسان صدق في الأمة ، بحيث جعلوا أعلاماً للسنة وأئمة للأمة )( 12) .

انظر مسائل هذا الكتاب هنــــــــــــا
 
وجدت لابن عبدالبر رحمه الله كلاماً خالف فيه ما قرره سابقاً من عدم جواز التفضيل بين آيات القرآن وسوره
قال رحمه الله في شرحه لحديث فضل الفاتحة وأنه لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل مثلها : ( وأمَّا قوله - عليه السلام - لأبيّ : { حتى تعلمَ سورة ما أنزل الله في القرآن ، ولا في التوراة ولا في الإنجيل ، ولا في الزبور ، ولا في القرآن مثلها } فمعناه مثلها في جمعها لمعاني الخير ، لأن فيها الثناء على الله بما هو أهله ، وما يستحق من الحمد الذي هو له حقيقة لا لغيره ؛ لأن كلّ نعمة وخير فمنه ، لا من سواه ، فهو الخالق الرازق ، ولا مانع لما أعطى ، ولا معطي لما منع ، وهو المحمود على ذلك ، وإن حُمد غيره فإليه يعود الحمد .
وفيها التعظيم له ، وأنه رب العالم أجمع ، ومالك الدنيا والآخرة وهو المعبود المستعان .
وفيها تعليمُ الدعاء إلى الهدى ، ومجانبة طريق من ضلّ وغوى ، والدعاءُ لبابُ العبادة ، فهي أجمع سورة للخير ، وليس في الكتاب مثلها على هذه الوجوه ، والله أعلم .
وقد قيل : إن معنى ذلك لأنها لاتجزيء الصلاة إلاَّ بها دون غيرها ، ولايجزئ غيرها عنها ، وليس هذا بتأويل مجمع عليه )[ الاستذكار 4/186 - 187 . ] ا هـ .


قلت : فهذا كلام ابن عبدالبر - رحمه الله - في معنى كون الفاتحة أعظم سورة في القرآن ، وأن الله لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها ، وأن ذلك راجع إلى ما اشتملت عليه من المعاني العظيمة التي لاتوجد في غيرها من سور القرآن .
وابن عبدالبر إذ يقرر هذا فهو يخالف ما ذهب إليه من القول بعدم التفضيل لبعض القرآن على بعض ، إذ مقتضى كلامه هنا أنها أفضل من غيرها ، وأنه ليس هناك سورة مثلها ، وهذا هو الصحيح الذي تدل عليه الأحاديث .
ولو أنه قال هنا في معنى كونها أفضل سورة وأعظم سورة في القرآن بمقتضى ما ذهب إليه من عدم التفضيل لكان المعنى : أن ثوابها أعظم من غيرها ، كما قال بذلك ابن التين ، كما ذكر ذلك السيوطي في الإتقان .
وهذا يدل على أن القول بالتفضيل هو الذي لاتدل النصوص الصريحة الصحيحة إلاَّ عليه كما سبق تقريره .

[align=center]

جزاكم الله خيرًا على هذا الموضوع النافع

أخي أبا مجاهد :على حين أني معكم في الردّ على أبي عمر رحمه الله

-على حُبِّنا الشديد له-

إلا أني لا أرى

من حقّكم أن تعُدوا القول بالمقتضى قولا مستقلاّ

لأن وصف آية ما أو سورة بأنها أجمعُ لا يستلزم أنها أفضل

فلا يردّ على ابن عبدالبرّ إلا أن نجد في بعض ما كتب

تصريحا بالرجوع أو قولا آخر بالتفضيل

وما أظنّ رأيه هذا إلا من تأثيرات الأشعرية التي قام لها سوق

في القرن الخامس

ولست أدري هل أثَّروا في الحنابلة في أن يستبدِلوا المذهب الحقّ
في القرآن وهو أنه (كلامُ الله ، ولا يوصف بمخلوق لأنه وصف مبتدع ) بالقول بأنه
كلام الله غيرُ مخلوق). لأن تقرير أنه غير مخلوق
استلزام غير ملزِم ،من سكوت أئمة أهل السنة كأحمد بن نصر وأحمد
ابن حنبل عن قبول وصفه بمخلوق
وهذا من أعاجيب ما حصل في العقائد
وليس في قولهم أن الكلام صفة المتكلم إلا مقدمة منطقية لا تقتضي
ما ذهبوا إليه. وهي قضية تاريخية خارج الموضوع
لكني أتمنّى على الإخوة الذين لهم باع في الموضوع أن يبيِّنوا لنا
سبب انجرار أهل السنة -أشعرية وحنابلة- إلى القول بعدم خلق القرآن

وهي مسألة من خاصّ العلم إذا صحّ التعبير لكن لما كانت
متعلقة بحكم تاريخي على وصف للقرآن الكريم كان
من واجب أهل التفسير أن يُلقوا الضوء على هذه المسألة .
وأحسب أنّ الأستاذ الجابري بوصفه مختصًّا بتاريخ الأفكار
في الحضارة العربية الإسلامية قد استطاع أن ينير المسألة من الناحية التاريخية
وهذا رابط كتابه الذي أتمنى أن يُسْتفاد منه في الباب
محمد عابد الجابري..المثقفون في الحضارة العربية محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد

وكتاب ابن رشد
..الكشف عن مناهج الادله في عقائد المله،

محمد عابد الجابري..التراث و الحداثه..دراسات و مناقشات



وأستميح أخي أبا مجاهد العذر على هذا الاستطراد
ولكني استروحت في خيمة كريم
[/align]
 
وقد ذكر في (مرقاة المفاتيح شرح مشكات المصابيح في كتاب فضائل القرآن):

وقد ذكر في (مرقاة المفاتيح شرح مشكات المصابيح في كتاب فضائل القرآن):


( عموما وبعض سوره وآياته خصوصا ، والفضيلة ما يفضل به الشيء على غيره ، يقال : لفلان فضيلة ، أي خصلة حميدة ، قال الطيبي : أكثر ما يستعمل في الخصال المحمودة كما أن الفضول أكثر استعماله في المذموم اهـ وقد تستعمل الفضيلة في الصفة القاصرة والفاضلة في المتعدية كالكرم ، وقد تستعمل الفضيلة في العلوم والفاضلة في الأخلاق ، قال السيوطي في الإتقان : اختلف الناس هل في القرآن شيء أفضل من شيء ؟ فذهب الإمام أبو الحسن الأشعري والقاضي أبو بكر الباقلاني وابن حبان إلى المنع لأن الجميع كلام الله ولئلا يوهم التفضيل نقص المفضل عليه ، وروي هذا القول عن مالك ، وذهب آخرون وهم الجمهور إلى التفضيل لظواهر الأحاديث ، قال القرطبي : إنه الحق ، وقال ابن الحصار : العجب فمن يذكر الاختلاف في ذلك مع النصوص الواردة في التفضيل ، وقال الغزالي في جواهر القرآن : لعلك أن تقول : قد أشرت إلى تفضيل بعض آيات القرآن على بعض والكلام كلام الله فكيف يكون بعضها أشرف من بعض ؟ فاعلم أن نور البصيرة إن كان لا يرشدك إلى الفرق بين آية الكرسي وآية المداينة وبين سورة الإخلاص وسورة تبت ، وترتاع على اعتقاد الفرق نفسك الخوارة المستغرقة بالتقليد فقلد صاحب الرسالة - صلى الله عليه وسلم - فهو الذي أنزل عليه القرآن وقال : " يس " قلب القرآن ، وفاتحة الكتاب أفضل سور القرآن ، وآية الكرسي سيدة آي القرآن ، وقل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن ، وغير ذلك مما لا يحصى اهـ كلامه ثم قيل : الفضل راجع إلى عظم الأجر ومضاعفة الثواب بحسب انفعالات النفس وخشيتها وتدبرها وتفكرها عند ورود أوصاف العلي ، وقيل : بل يرجع إلى ذات اللفظ وأن ما تضمنه قوله - تعالى - وإلهكم إله واحد الآية وآية الكرسي وآخر سورة الحشر وسورة الإخلاص من الدلالات على وحدانيته وصفاته ليس موجودا مثلا في تبت يدا أبي لهب وما كان مثلها ، فالتفضيل إنما هو بالمعاني العجيبة وكثرتها ؛ والله أعلم . ثم القرآن يطلق على الكلام القديم النفسي القائم بالذات العلي ، وعلى الألفاظ الدالة على ذلك الكلام ، والمراد هنا الثاني ولا خلاف أنه بهذا المعنى حادث ، وإنما الخلاف بيننا وبين المعتزلة في النفسي فهم نفوه لقصور عقولهم الناقصة أنه لا يسمى كلاما إلا اللفظي وهو محال عليه - تعالى - وبنوا على هذا التعطيل قولهم معنى كونه - تعالى - متكلما أنه خالق للكلام في بعض الأجسام ونحن أثبتناه عملا بمدلول الأسماء الشرعية الواردة في الكتاب والسنة وبما هو المعلوم من لغة العرب أن الكلام حقيقة في النفي وحده أو بالاشتراك ، وقد جاء في القرآن إطلاق كل من المعنيين اللفظي والنفسي ، قال تعالى : ما يأتيهم منذر من ربهم محدث " وكلم الله موسى تكليما " واللفظ محال عليه - تعالى - وخلق الكلام في الشجرة مجاز لا ضرورة عليه ، ثم المعتمد أن القرآن بمعنى القراءة مصدر بمعنى المفعول أو فعلان من القراءة بمعنى الجمع لجمعه السور وأنواع العلوم وأنه مهموز ، وقراءة ابن كثير إنما هي بالنقل كما قال الشاطبي رحمه الله .

ونقل قرآن والقرآن دواؤنا ، خلافا لمن قال : إنه من قرنت الشيء بالشيء لقرن السور والآيات فيه ، وأغرب الشافعي حيث قال : القرآن اسم علم لكلام الله وليس بمهموز ولا مأخوذ من قرأت ، وذكر السيوطي أن المختار عندي في هذه المسألة ما نص عليه الإمام الشافعي ، وأما قول ابن حجر : ولعل كلام الشافعي في الأفصح والأشهر فمردود بأن الجمهور على الهمز وهو المشهور ، ونقل ابن كثير أيضا يرجع إلى الهمز المذكور ويدل عليه بقية المشتقات من قوله تعالى اقرأ وربك " فإذا قرأناه فاتبع قرآنه " وأمثال ذلك .
 
[align=center]هل تتفاضل الآيات ؟[/align]الفروق بين الآيات القرآنية:
إذا ثبت أنّ القرآن العظيم لا يضاهيه نظم ولا يدانيه كلام فقد اتضح بما لا يدع للشك مجالاً أنه نسيج وحده وهو القمة التي لا ترتقى والغاية التي لا تنال والشأو الذي لا يدرك ؛ فإذا كان القرآن بمجمله بمنأى عن مشابهة أي كلام آخر؛ فهل من الممكن أن يكون متفاضلاً في نفسه ؛ بحيث يفوق بعضه بعضاً حتى تختلف درجات الكلام القرآني الواحد ؟ لاشك أنّ هذا الأمر عند دراسته يحتاج إلى تدقيق وتصنيف حتى يمكن تقرير رأي متكامل فيه ، وهو ينقسم بطبيعته إلى الآتي:
الفروق المعنوية بين التعابير القرآنية:
إنّ المعاني المجردة ليست بأصل في الإعجاز القرآني؛ وإنما الأصل هو النظم الدال على هذه المعاني، ولما كان القرآن كله معجزاً لم يكن لتفضيل بعضه على بعض من معنى في مضمار البلاغة والإعجاز ؛ إلا أنّ التفاضل في المعاني المجردة - التي ليست أصلاً في الإعجاز- قد اختلف فيها العلماء اختلافاً واسعاً ، وقد ذكر ابن تيمية أنها مسألة كبيرة والناس متنازعون فيها تنازعاً منتشراً، وقد كان هؤلاء العلماء فيها على فريقين
الفريق الأول: ذكر أصحابه أنه لا فضل لبعض القرآن على بعض؛ لأنّ الكلّ كلام الله؛ وكلام الله لا نقص فيه والتفضيل يشعر بنقص المفضول؛ ولهذا امتنع هذا التفاضل واستحال. وروي عن الإمام مالك أنه قال: ( تفضيل بعض القرآن على بعض خطأ) وعلل هذا الفريق التفضيل والخيرية الواردة في القرآن والحديث بتفضيل الثواب والأجر لا غيره ، وهذا القول قد ناصره أكثر الأشاعرة. وقد ذهب ابن تيمية إلى أنّ الأشاعرة إنما ألجأتهم مناقضة المعتزلة إلى رد هذا التفضيل ؛ فقالوا بالتماثل لأنّ المعتزلة لما قالوا إنّ القرآن مخلوق فضلوا بعضه على بعض ؛ وتفاضل المخلوقين أمر لا ينكره أحد
الفريق الثاني: قالوا بالتفضيل ؛ وهذا التفضيل الذي ذهبوا إليه متعلّق بالمعاني التي تناولتها الآيات ولا يتعلّق عندهم بالصفة ، وقد استدل هؤلاء بقوله تعالى:
( ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها )
فدلت هذه الآية عندهم على الخيرية والتماثل بين الآيات، وإذا كانت المعاني القرآنية على قسمين هما :
- الإنشاء (الأوامر والنواهي) .
- الأخبار( الحقائق ).
فإنّ التفاضل في الأوامر أمر وارد ؛ فالله تعالى قد أمر بكتابة الدَّين (القرض) وتدوينه مثلاً وأمر فـي آيات أخـرى بالتوحيـد ؛ فـلا يمكن أن تكون كتـابة الدَّيـن مثلاً كالتوحيد، وكذلك الأمر في النواهي فإنّ الأمور المنهي عن بعضها شر من بعض فلا يمكن أن لا يتفاضل النهي فيها. أما الأخبار فإن من الآيات ما تحدث الله تعالى فيه عن نفسه ووصفه الذي يصف به نفسه ومنها ما تحدث فيه عن بعض خلقه ؛ وذلك كما في "سورة الإخلاص" و"سورة المسد" مثلاً ، فلا يمكن أن يكون وصفه لنفسه تعالى ووصفه لأبي لهب سواء
ولما كان الأمر على هذا الوجه الذي ذكرنا فقد قال البهوتي : ( بعض القرآن أفضل من بعض باعتبار متعلّقه من المعاني ، ولا يمنع من ذلك كون الجميع صفة الله تعالى لما ذكرنا من أن التفضيل باعتبار المتعلّق لا باعتبار الذات)
ولما كان هذا الأمر على ما ذكره العلماء أصحاب القول الثاني فإنّ التفاضل لا يقع في الآيات أنفسها ؛ وإنما يقع عليها من حيث نسبتها إلى المخبر عنه ؛ ولأجل ذلك جعل ابن تيمية للكلام نسبتان:
1- نسبة للمخبر.
2- نسبة للمخبرعنه.
فالنسبة الأولى لا يمكن أن يقع فيها التفاضل ، إذ أنّ الجميع كلام الله ونسبته إليه واحدة أما الثانية فيمكن أن يقع فيها التفاضل ، يقول ابن تيمية: ( من المستقرّ في فطر العقلاء أن كلاً من الخبر والأمر يلحقهما التفاضل من جهة المخبر عنه والمأمور به) إلا أنّ المخبر عنه والمأمور به والمنهي عنه أمور خارج النظوم؛ والنظوم دلالة عليها ، ولأجل ذلك لم تكن أصلاً في الإعجاز؛ ولا بها يقع التفاضل بين كلام وكلام ؛وإنما وجه تعلقها بالإعجاز من جهتين هما:
1- التحقّق منها وإدراك صدق المتكلّم بها.
2- كونها عمدة النظم التي ينشأ عنها ويدل عليها.
الفروق النظمية بين التعابير القرآنية :
سبق أنّ المعاني في أنفسها وإن كانت على درجات متفاوتة ومراتب مختلفة ليست بذات تأثير في البلاغة والإعجاز ؛ إذ أن شرط البلاغة إنما هي المطابقة بين حقيقة المخبر عنه- بغض النظر عن أهميته – وبين النظم الدال على ذلك ، فالمعنى مجرداً ليس له مزية وكذلك النظم المجرد ؛ بل الفضل كلّ الفضل في التطابق بين الأمرين؛ ولأجل ذلك يقول الجرجاني : ( ليس من فضل ومزيّة إلا بحسب الموضع "أي موضع الكلمات من النظم" وبحسب المعنى الذي تريد والغرض الذي تؤم)
ولما كان الأمر كذلك فإنّ مسألة التفاضل بين التعابير القرآنية المختلفة إنما هي نهاية مطاف كلّ من اعتد بالمعنى مجرداً أو باللفظ مجرداً ؛ ولهذا يقول ابن سنان الخفاجي المعتزلي الذي مال إلى اللفظ : ( وزيادة بعض القرآن على بعض في الفصاحة فالأمر فيه ظاهر لا يخفى على من علق بطرق من هذه الصناعة وشدا شيئاً يسيراً ، وما زال الناس يفردون مواضع من القرآن يعجبون منها في البلاغة وحسن التأليف …. فلو كانوا يذهبون إلى تساويه في الفصاحة لم يكن لإفرادهم المواقع المعنية المخصوصة - دون غيرها – معنى؛ وليت شعري أي فرق بين أن يخلق الله وجهين أحدهما أحسن وأصبح من الآخر وبين أن يحدث كلامين أحدهما أبلغ وأفصح من الآخر، ثم ليس لأحد ممن ينكر أن يكون بعض القرآن أفصح من بعض يمتنع من القطع على أنّ القرآن في لغته أفصح من التوراة في لغتها والإنجيل في لغته والزبور في لغته ، لأنّ تلك الكتب عنده لم تكن معجزة لخرقها العادة في الفصاحة وإن كان الجميع كلام الله تعالى . فما المانع أن يكون بعض كلامه الذي هو القرآن أفصح من بعض حتى تكون آية منه أفصح من آية - والجميع كلام الله - كما جاز عنده أن يكون القرآن أفصح من الإنجيل وإن كان الجميع كلام الله؛ وهذا لا يخفي على محصّل)
ورغم أن هذا الكلام يبدو متماسكاً منطقياً صحيح القياس إلا أنّ الأمر فيه بخلاف ما أوهم الظاهر ؛ إذ أنّ فيه كثيراً من الباطل والتلبيس ؛ حيث أنه بني على أمور ليس به بالصحيحة المتفق عليها ابتداء وهي :
أولاً: كانت النقطة التي منها انطلق ابن سنان وعليها بنى – هي قضيّة (خلق القرآن) الاعتزالية المشهورة ، وهذه القضيّة ينتج عنها- بطبيعة بنائها – أنّ الصورة اللفظية للقرآن غير صادرة من الله ولا هو الناطق بها؛ وإنما هي مخلوقة له في محل، ومن المعلوم بالضرورة أنّ التفاضل بين المخلوقات أمر لا ينكره أحد ولا يردّه أحد ، ولأجل ذلك ألفى ابن سنان القاعدة الفكرية العقدية حاضرة لديه فبنى عليها حتى فاضل بين آيات القرآن وجعل هذا التفاضل كتفاضل وجوه البشر.
ثانياً: إنّ الفصاحة التي جعلها ابن سنان المقياس الذي به يقيس إنما هي – عنده - أمور جمالية لفظية مستقاة من اللفظ المفرد- أو هي المشكلة التي جاهدها الجرجاني ، وهذه الفصاحة التي قرَّرها ابن سنان ينتج عنها الاعتداد بمفردات اللغة خارج السياق القرآني بل وغيره من السياقات العربية الأخرى؛ فيستحسن بعضها ويستبشع الآخر، وهذا الأمر يفضي إلى رفع الإعجاز جملة؛ إذ ينتج عنه في نهاية المطاف القول بأنّ بعض المفردات اللغوية التي لم ترد في القرآن لهي أفصح من مفردات القرآن نفسها كما أنّ القرآن –حسب زعمه- يقع فيه اللفظ الفصيح والأقل فصاحة وغير الفصيح، ولهذا تفاضلت التعابير القرآنية عنده دون أدنى ريب، وهذا المذهب واضح البطلان.
ثالثاً: بنى ابن سنان على أنّ القرآن أفصح من التوراة والإنجيل والزبور؛ وهو كمن زعم أنّ الماء أكثر زرقة من الشجر ؛ مع أنّ الشجر ليس بالأزرق إطلاقا ؛ ثم رجع فاعترف بأن هذه الكتب - وان كانت كلام الله - إلا أنها ليست بمعجزة كالقرآن لعدم خرقها العادة في الفصاحة ؛ فكيف بنى عليها إذا لم تكن معجزة في الفصاحة ، أو بمعنى آخر إذا لم يقل أحد بإعجاز هذه الكتب من حيث الفصاحة ؛ فلا يمكن لعاقل أن يجعل شيئاً غير مشترك بين أمرين علة للقياس في أمرين آخرين ، حيث جعل ابن سنان المقارنة بين القرآن البليغ وبين الكتب السماوية التي لم يقل ببلاغتها أحد – مقدمة يقرر بها التفاضل في الفصاحة بين آيات القرآن البليغة في أنفسها . وهذه مغالطة بيِّنة البطلان ؛ إذ أنّ العلّة في القياس غير مشتركة.
رابعاً : استدل ابن سنان بإفراد الناس لمواضع من القرآن ، ومن المعلوم – بادي الرأي – أنّ استحسان الناس ليس بأمر علمي منضبط ، والعلم لا يقوم على الانطباعات ؛ وإنما يقوم على الأدلة والبراهين ، فرب موضع استحسنه إنسان بحسب خلفياته الفكرية والعقدية والنفسية فعلّل استحسانه تعليلاً جيداً فشاع ؛ فباختلاف الخلفيات الفكرية والنفسية والثقافية للبشر تختلف مواضع استحسانهم ، وهذا أمر معلوم.
فالمعاني القرآنية لا تتزايد ولا تتفاضل إلا خارج النظوم ؛ أما من حيث دلالة النظوم عليها فلا تتفاضل؛ إذ أنّ شرط البلاغة هي التطابق المتميّز بين المعنى الدقيق والنظم الدقيق ، والقرآن كله قد تطابقت معانيه ونظومه تطابقاً شديداً حتى بلغ الغاية ، وإذا ما تأمل المرء بتفحص شديد هذا التطابق يجد أنه أصل البلاغة والموضع الذي يعظم فيه الفضل وتكثر المزية ويحدث التفاوت الشديد ويتقدم بعض الكلام بعضاً حتى ينتهي إلى حيث تنقطع الأطماع وتحسر الظنون وتستوي الأقدام في العجز ؛ وهذه هي الدرجة التي بلغها القرآن دون سواه.
ولكن إذا كان القرآن قد فاق كلّ كلام وإذا كان أيضاً غير متفاضل التعابير في نفسه وإنما هو على درجة واحدة وهي الدرجة التي ليست بعدها درجة فإنّ الاختلاف والتباين بين تعابيره أمر واضح ظاهر لا ينكره أحد، ولكن هذا الاختلاف إنما هو في حقيقة أمره موازاة للمعنى المراد ودقة في التطابق ، إذ أنّ النظم هو المرآة الدقيقة للمعنى ؛ فإذا ما اختلف المعنى اختلف باختلافه النظم وتغير ، ولأجل ذلك ترى الله تعالى يأتي بالتقدّيم في آية وبالتأخير في آية أخرى ويأتي بالتعريف في آية والتنكير في آية أخرى ؛ وكذلك الأمر في الحذف والذكر وفي الفعلية والاسمية وغير ذلك من الأمور المختلفة المعاني.
وكل تلك الفروق قد أصابت المعنى المراد وكانت في مكانها الأنسب الأليق ؛ ولو وضع غيرها لم يحسن، إذ أنّ لكل كلام مقام ؛ ولكل نظم وتركيب معنى ، وهذه الفروق كما هو واضح لا تعتبر في أنفسها؛ وإنما تعتبر من حيث نسبتها إلى المعاني والأغراض والنظوم ؛ يقول الجرجاني : ( اعلم أن الفروق والوجوه كثيرة ليس لها غاية تقف عندها … ثم اعلم أن ليس المزية بواجبة لها في أنفسها ومن حيث هي على الإطلاق ، ولكن تعرض المزية بحسب المعاني والأغراض التي يوضع لها الكلام ؛ ثم بحسب موقع بعضها من بعض واستعمال بعضها مع بعض)
ولما ثبت أن التعابير القرآنية في درجة متفقة من البلاغة وعلى قدر واحد من الإعجاز وفي سماء واحدة من الحسن والجمال ؛ إذ لكل آية ما لأختها من الفضل والمزية فإن هذه الفروق التعبيرية تصبح موضعاً للأسرار وبرهاناً تتكشف به خبايا البلاغة والإعجاز والمعاني .
خلاصة :
- القرآن في نفسه لا تتفاضل آياته من حيث إعجازها أو بلاغتها أو نسبتها إلى الله تعالى فكله كلامه الذي لا يدانيه كلام
- من الممكن أن تتفاضل المعاني الخارجية التي تناولتها الآيات وهي أمور خارج النص ولا يلزم عنها أن الآيات متفاضلة في أنفسها وإن كان ما تناولته هذه الآيات متفاضلا
- الإخلاص ثلث القرآن يعني أنها تناولت ثلث معاني القرآن ؛ إذ أن القرآن ثلاثة أثلاث : خبر عن الخالق "توحيد" وخبر عن المخلوق وأحكام " أوامر ونواه"
- من الممكن أن يقال إن قوله تعالى (مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) لا يشير إلى وقوع النسخ والتفضيل والإنساء في آيات القرآن ؛ إذ أن السياق كله كان في الحديث عن اليهود الذين كانوا يستفتحون على الذين كفروا برسالة جديدة ؛ فلما جاءت كفروا بها ، وقالوا نؤمن بما أنزل إلينا دون غيره فهو الحق الذي لا يتغير ، ولو كانت الرسالة الجديدة بأحكامها الجديدة موافقة لما عندنا فقد استغنينا بما عندنا عنها ، وإن كانت مخالفة - وهذا ما حدث – فهذا دليل على أنها ليست من المصدر الذي جاءت منه التوراة، وهو الله، وما هذه الأقوال إلا لحسدهم النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين ؛ قال تعالى في سياق ذلك : (مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ) فالآية تشير إلى تناسخ الرسالات وتفاضل أحكامها لا إلى تناسخ آيات القرآن في أنفسها وتفاضلها . يقول أبو الفضل الرازي في تفسير قوله تعالى : ( أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ ) : أي ما حسدتكم اليهود والنصارى على شيء كحفظ القرآن . ومعلوم أن القرآن ثابت لا يُمحى ومذكور لا ينُسى ومحفوظ لا يضيع ولهذا قال تعالى : (سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى) أما النسيان والإنساء " لا التأخير " المذكور في آية البقرة فهو ثابت لأهل التوراة والإنجيل الذي نسوا حظا مما ذكروا به ، وأحكام الله تعالى في التوراة والإنجيل منها ما ذكر في القرآن ومنها ما طوي في عالم النسيان ولهذا قال تعالى : (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ) ولهذا يمكن أن يقال إن التفضبل والخيرية والنسخ والإنساء أمور متعلقة بالتوراة والإنجيل لا القرآن .وبهذا فلا دليل قرآني على تفاضل الآيات القرآنية .
وسواء قلنا بوقوع التفاضل المذكور في الآية على القرآن أم لم نقل - فإن آيات القرآن في أنفسها لا تتفاضل وإن كانت معانيها الخارجية متفاضلة كما ذكر كثير من العلماء .

مراجع:
- جمال الدين عبد العزيز شريف : نظريات الإعجاز القرآني
- الجرجاني : دلائل الإعجاز
- ابن سنان الخفاجي : سر الفصاحة
-القرطبي : الجامع لأحكام القرآن
- مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية،
 
هل للخلاف في هذه المسألة من ثمرة؟

أرجو أن نجد إجابة شافية.
 
أخي محب القرآن زادك الله وإيانا للقرآن حباً
أخي مناقشة موضوع تفاضل الآيات ليست أمراً مهماً فحسب بل هو شديد الأهمية أيضاً ؛ وذلك لأمور منها :
1- توضيح ومعرفة معنى قوله تعالى : (مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) فهذه الآية قد أثبتت هذا التفاضل بين الآيات ، وبدون مناقشة هذا الموضوع لا يمكن معرفة تفسيرها ، وتفسير القرآن لا يجادل في أهميته أحد .
2- هذا الأمر متعلق بدراسة أهم الموضوعات وهو موضوع مقاصد القرآن ؛ فالآيات منها المباشر في بيان المقصد الأعلى ومنها غير المباشر ، وهذا الأمر يترتب حسب المعاني . والمقصد الأعلى من القرآن – كما هو معلوم - هو توحيد الله ومعرفته ، وهذا التوحيد هو الذي يصحّح العقائد والتصورات ، وهو ينقسم إلى ثلاثة أقسام هي : معرفة ذات الحق وصفاته وأفعاله ، وهذه الأقسام الثلاثة - كما ذكر الغزالي - هي زبدة القرآن وقلبه ولبابه وسره ، ثم تأتي المقاصد التبعية المتممة لذلك كتعريف الصراط المستقيم وتعريف الحال عند لقاء الله وذكر الحشر والنشر والحساب والميزان النعيم والعذاب وأحوال المؤمنين والجاحدين وحفظ النظام الدنيوي كحفظ النفس وجودا وعدما وحفظ النسل وجودا وعدما وحفظ المال وجودا وعدما وحفظ أسباب المعيشة وضبط السياسات الدينية .
3- حتى أقرّب الصورة فإن معرفة هذه الأمور كمعرفة الأحكام الفقهية وترتيبها ومعرفة الأولويات فيها، ولا يجادل في أهمية التفريق بين الواجب والمندوب والمباح والمكروه أحد
، ورغم أن هذا الترتيب مهم في معرفة مقاصد القرآن وأهدافه ورغم أن بعض الآيات مباشر في خدمة المقصد الأعلى كسورة الإخلاص التي تتناول لب التوحيد وبعضها غير مباشر كسورة المسد التي تبين حال من تنكب عن التوحيد - إلا أنني أرى أن لكل آية مهمة وثغرة تسدها ولا يغني غيرها عنها
لكل مكان لا يسد اختلالـــه مـكان أخيه من جزوع ومن جلد
هل العين بعد السمع تكفي مكانه أم السمع بعد العين يهدي كما تهدي
 
[align=center]
ولست أدري هل أثَّروا في الحنابلة في أن يستبدِلوا المذهب الحقّ
في القرآن وهو أنه (كلامُ الله ، ولا يوصف بمخلوق لأنه وصف مبتدع ) بالقول بأنه
كلام الله غيرُ مخلوق). لأن تقرير أنه غير مخلوق
استلزام غير ملزِم ،من سكوت أئمة أهل السنة كأحمد بن نصر وأحمد
ابن حنبل عن قبول وصفه بمخلوق
وهذا من أعاجيب ما حصل في العقائد
[/align]

بل العجيب حقا أن يقال مثل هذا الكلام، مع كونه خطأ محضا. وذلك من أوجه:
1- أئمة السلف الصالح مجمعون على أن القرآن كلام الله غير مخلوق. وقد نقل إجماعهم خلق من المعتنين بالمقالات والمصنفين في العقائد.

2- كلام الإمام أحمد في التنصيص على أن القرآن كلام الله غير مخلوق، مشهور جدا. فمن أعجب العجب أن يوصف الإمام أحمد بأنه لم يقرر كونه غير مخلوق.

3- كلام الإمام أحمد في تبديع بل تكفير الواقفة مشهور أيضا. والواقفة هم الذين يقولون (القرآن كلام الله) ويقفون، فلا بد عند الإمام أحمد وغيره من أئمة السلف أن تقول: (غير مخلوق).

4- هذا الكلام من أئمة السلف، ومناقشتهم المعتزلة فيه، كان قبل أن يوجد الأشاعرة بمدة طويلة.

5- الأشعري جاء بتثبيت مقالة السلف - والإمام أحمد - خاصة في القرآن. ولذلك قال بقولهم لفظا، وخالف المعتزلة القائلين بأنه مخلوق. ثم افترق المذهب الأشعري في المسألة عن صريح مذهب السلف، عند ابتداع مسألة الكلام النفسي.
فالقول بأن الحنابلة أخذوا هذا من الأشاعرة عجيب عجيب عجيب.

6- أعتذر عن الخروج على الموضوع الأصلي، لكن رأيت كلاما لا بد من تصويبه.
 
عودة
أعلى