أبومجاهدالعبيدي1
New member
- إنضم
- 02/04/2003
- المشاركات
- 1,760
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 36
- الإقامة
- السعودية
- الموقع الالكتروني
- www.tafsir.org
بسم الله - عليه توكلت وبه أستعين
هل في القرآن شيء أفضل من شيء ؟
اختلف الناس في هذه المسألة مع أنه لاينبغي الخلاف فيها ؛ وذلك لورود النصوص التي تدل بوضوح على أن بعضه أفضل من بعض .
وقد ذكر خلاف الناس في هذه المسألة كل من الزركشي في البرهان( 1) ، والسيوطي في الإتقان(2 ) .
وسوف أذكر ملخص ما ذكراه بعد ذكر رأي الإمام ابن عبدالبر - إن شاء الله - ثُمَّ أذكر القول الصواب في هذه المسألة مستمداً من الله العون والسداد .
يرى ابن عبدالبر - رحمه الله - أنه لاينبغي أن نفضل بعض القرآن على بعض ؛ لأن القرآن كلام الله ، وصفة من صفاته ؛ ولو قلنا بأن بعضه أفضل من بعض للزم من ذلك دخول النقص في المفضول منه .
فبعد أن ذكر أقوال العلماء في معنى الحديث الوارد في فضل سورة { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } وأنها تعدل ثلث القرآن ، وبيّن أن المعنى الذي يشهد له ظاهر الحديث أنها تعدل في الثواب لمن تلاها ثلث القرآن ، قال : ( وهذا هو الذي يشهد له ظاهر الحديث ، وهو الذي يفر منه من خاف واقعة تفصيل القرآن بعض على بعض ، وليس فيما يعطي الله عبده من الثواب على عمل يعمله ما يدل على فضل ذلك العمل في نفسه ، بل هو فضله عزوجل يؤتيه من يشاء من عباده على ما يشاء من عباداته تفضلاً منه على من يشاء منهم ، وقد قال الله عزوجل : { مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مّـِنْهَآ أَوْ مِثْلِهَآ) } [ البقرة : 106 ] .
ولم يختلف العلماء بتأويل القرآن أنها خير لعباده المؤمنين التالين لها والعاملين بها إمَّا بتخفيف عنهم وإمَّا بشفاء صدورهم بالقتال لعدوهم لا أنها في ذاتها أفضل من غيرها .
فكذلك { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } خيرٌ لنا ، لأن الله يتفضل على تاليها من الثواب بما شاء ، ولسنا نقول [ هي ] في ذاتها أفضل من غيرها لأن القرآن عندنا كلام الله وصفة من صفاته ، ولايدخل التفاضل في صفاته لدخول النقص في المفضول منها )(3 ) ا هـ .
وهذا القول الذي اختاره ابن عبدالبر - رحمه الله - هو القول الأول في هذه المسألة ، وهو الذي ذكره الزركشي بقوله : ( فذهب الشيخ أبو الحسن الأشعري ، والقاضي أبو بكر ، وأبو حاتم ابن حبان وغيرهم إلى أنه لا فضل لبعضه على بعض ؛ لأن الكل كلام الله ، وكذلك أسماؤه تعالى لا تفاضل بينها ، وروى معناه عن مالك ، قال يحيى بن يحيى : تفضيل بعض القرآن على بعض خطأ ، وكذلك كره مالك أن تعاد سورة أو تردد دون غيرها ، واحتجوا بأن الأفضل يشعر بنقص المفضول ، وكلام الله حقيقة واحدة لا نقص فيه .
قال ابن حبان في حديث أبيّ بن كعب - رضي الله عنه - : { ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل مثل أم القرآن } : إن الله لايعطي لقارئ التوارة والإنجيل من الثواب مثل ما يعطي لقارئ أم القرآن ، إذ الله بفضله فضّل هذه الأمة على غيرها من الأمم وأعطاها من الفضل على قراءة كلامه أكثر مِمَّا أعطى غيرها من الفضل على قراءة كلامه ... قال : وقوله : { أعظم سورة } أراد به في الأجر ، لا أن بعض القرآن أفضل من بعض )(4 ) ا هـ .
وأمَّا القول الثاني في هذه المسألة فهو القول بالتفضيل ، أي أن بعض القرآن أفضل من بعض ، وهو القول المأثور عن السلف ، وهو الذي عليه أئمة الفقهاء من الطوائف الأربعة وغيرهم ، كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - .
قال السيوطي في الإتقان : ( وذهب آخرون إلى التفضيل لظواهر الأحاديث ، منهم : إسحاق بن راهويه ، وأبو بكر بن العربي ، والغزالي .
وقال القرطبي : إنه الحق ، ونقله عن جماعة من العلماء والمتكلمين(5 ) .
وقال ابن الحصّار : العجب ممن يذكر الاختلاف في ذلك ، مع النصوص الواردة بالتفضيل )(6 ) ا هـ .
وأقول أنا أيضاً : إنه لعجيب أن يرد مثل هذا الخلاف في هذه المسألة مع أن النصوص والأدلة الكثيرة تدل على التفضيل بل إن العقل يدل على ذلك مع دلالة الشرع .
وتقرير ذلك أن يقال : إن القرآن كلام الله ، ( وكلام الله لا نهاية له كما قال سبحانه : { قُل لَّوْ كَانَ ا؟لْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَــاـتِ رَبِّي لَنَفِدَ ا؟لْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَــ!ــتُ رَبِّي وَلَوْ جِـئــْنَا بِمِثْلِهِ÷ مَدَدًا } [ الكهف : 109 ] .
ومن كلماته تعالى : كتبه المنزلة ، كالتوراة ، والإنجيل ، والقرآن ، وكلماته التي يخلق بها الخلق ، وكلماته التي كلّم بها آدم ، والتي كلّم بها موسى ، والتي كلّم بها محمداً صلى الله عليه وسلم وكلماته التي يكلم بها عباده في المحشر وفي الجَنَّة ، وكلماته التي يخاطب بها أهل النَّار توبيخاً وتقريعاً ، وغيرُ ذلك من كلامه تبارك وتعالى .
فكلامه تعالى متبعّضٌ متجزي ، فالتوراة بعض كلامه وجزء منه ، والإنجيل كذلك والقرآن كذلك ، والقرآنُ أبعاضٌ وأجزاءٌ وسورٌ وآياتٌ وكلماتٌ .
وجميع هذا من المسلَّمات المعلومة لدى الكافة ، دلّ عليها الحس ، والعقل ، والشرع ، وهي أجلى من أن تحتاج إلى ضرب الأمثلة ، وسياق البراهين .
فكلامه تعالى الذي هو أجزاءٌ وأبعاضٌ ، بعضه أفضل من بعض ، وليس ذلك من جهة المتكلم به وهو الله تعالى ، وإنَّما هو من جهة ما تضمن من المعاني العظيمة ، فإن كلام الله المتضمن للتوحيد والدعوة إليه ، أفضل من كلامه المتضمن ذكر الحدود والقصاص ونحو ذلك ، وما يخبر به عن نفسه وصفاته أعظمُ مِمَّا يخبر به عن بعض خلقه ، وذلك لشرف الأول على الثاني .
وقد ورد في السنة الصحيحة ما يثبت ذلك ويوضحه ويُجلِّيه ، فمن ذلك :
1 - حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم في ميسر له فنزل ونزل رجلٌ إلى جانبه ، فالتفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال : { ألا أخبرك بأفضل القرآن ؟ } قال : فتلا عليه { الحمد لله رب العالمين }( 7) .
2 - حديث أبي سعيد بن المعلّى - رضي الله عنه - قال : كنتُ أصلي في المسجد ، فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبْه ، فقلتُ : يا رسول الله ! إني كنت أصلي فقال : { ألم يقل الله : { ا؟سْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ } [ الأنفال : 24 ] ثُمَّ قال لي : { لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن ، قبل أن تخرج من المسجد } . ثُمَّ أخذ بيدي ، فلما أراد أن يخرج قلتُ له : ألم تقل : { لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن ؟ } قال : { الحمد لله رب العالمين ، هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته }( 8) .
3 - عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { يا أبا المنذر ، أتدري أيّ آية من كتاب الله معك أعظم ؟ } قال : قلتُ : الله ورسوله أعلم . قال : { يا أبا المنذر : أتدري : أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم ؟ } قال : قلتُ : { ا؟للَّهُ لاَ إِلَـ!ــهَ إِلاَّ هُوَ ا؟لْحَيُّ ا؟لْقَيُّومُ ... } [ البقرة : 255 ] ، قال : فضرب في صدري ، وقال : { والله ، لِيَهْنِكَ العلمُ أبا المنذر } .
4 - وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رجلاً سمع رجلاً يقرأ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } يرددها ، فلما أصبح جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر ذلك له - وكأنّ الرجل يتقالُّها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن }(9 ) .
فدلت هذه النصوص ، وغيرها على تفضيل كلام الله بعضه على بعض ، وذلك حسب ما يدل عليه من المعاني ، وهو مذهب جمهور السلف وأهل السنة )( 10) .
وقد فصّل شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - الكلام في هذه المسألة في رسالة له بعنوان : ( جواب أهل العلم والإيمان بتحقيق ما أخبر به رسول الرحمن من أن { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تعدل ثلث القرآن )(11 ) ، وذكر أقوال العلماء في ذلك وأدلة كل قول مع المناقشة والترجيح ، والتوجيه والتعليل بما يغني الناظر فيه عن الرجوع إلى غيره .
وقد قرر أن النصوص النبوية والآثار السلفية والأحكام الشرعية والحجج العقليَّة تدل على أن كلام الله بعضه أفضل من بعض . وقال : ( ومعلوم أنه ليس في الكتاب والسنة نص يمنع تفضيل بعض كلام الله على بعض ، بل ولايمنع تفاضل صفاته تعالى ، بل ولا نقل هذا النفي عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ، ولا عن أئمة المسلمين الذين لهم لسان صدق في الأمة ، بحيث جعلوا أعلاماً للسنة وأئمة للأمة )( 12) .
وإذا تقرّر أن القول بالتفضيل هو القول الصواب الذي لاينبغي القول بخلافه ؛ فإن من نافلة القول أن أذكر الشبه التي احتج بها - ابن عبدالبر - على قوله المخالف للصواب ، مع الرد عليها والاعتذار له - إن أمكن - .
الشبهة الأولى : اشتبه عليه المراد بقوله تعالى : { مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مّـِنْهَآ أَوْ مِثْلِهَآ) } [ البقرة : 106 ] ، وذكر أن العلماء بتأويل القرآن لم يختلفوا أن المراد بقوله : { بِخَيْرٍ مّـِنْهَآ } أنها خير لعباده المؤمنين التالين لها والعاملين بها إمَّا بتخفيف عنهم وإمَّا بشفاء صدورهم بالقتال لعدوهم لا أنها في ذاتها أفضل من غيرها .
قال - رحمه الله - : ( وأمَّا قول الله عزوجل { مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مّـِنْهَآ أَوْ مِثْلِهَآ) } فمعناه بخير منها لنا لا في نفسها )( 13) .
وما استدل به وذكره ابن عبدالبر وإن كان قاله أيضاً إمام المفسرين ابن جرير الطبري وغيره من المفسرين عند تفسيرهم لهذه الآية إلاَّ أنه في الحقيقة لايدل على المراد الذي أراده ابن عبدالبر من نفي وقوع التفاضل في كلام الله ؛ بل إن ظاهر الآية يدل على أن الآية التي يأتي بها الله بدل الآية المنسوخة أو المنسية خيرٌ منها أو مثلها .
ولهذا ( فقول القائل : إنه ليس بعض ذلك خيراً من بعض بل بعضه أكثر ثواباً ، ردٌّ لخبر الله الصريح ، فإن الله يقول : { نَأْتِ بِخَيْرٍ مّـِنْهَآ أَوْ مِثْلِهَآ) } [ البقرة : 106 ] فكيف يُقال : ليس بعضه خيراً من بعض ؟ .
وإذا كان الجميع متماثلاً في نفسه امتنع أن يكون فيه شيء خيراً من شيء .
وكون معنى الخير أكثر ثواباً مع كونه متماثلاً في نفسه أمر لايدل عليه اللفظ حقيقة ولا مجازاً ، فلايجوز حمله عليه ، فإنه لايُعرف قط أن يقال : هذا خير من هذا وأفضل من هذا ، مع تساوي الذاتين بصفاتهما من كل وجه ، بل لابُدّ مع إطلاق هذه العبارة من التفاضل ولو ببعض الصفات ، فأمَّا إذا قدر أن مختاراً جعل لأحدهما مع التماثل ما ليس للآخر مع استوائهما بصفاتهما من كل وجه ، فهذا لايعقل وجوده ، ولو عقل لم يقل إن هذا خير من هذا أو أفضل لأمر لايتصف به أحدهما البتة .
وأيضاً ففي الحديث الصحيح أنه قال في الفاتحة : { لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها } فقد صرح الرسول بأن الله لم ينزل لها مثلاً ، فمن قال إن كل ما نزل من كلام الله فهو مثلٌ لها من كل وجه فقد ناقض الرسول في خبره )(14 ) .
فالآية التي ذكرها ابن عبدالبر تدل على خلاف ما ذهب إليه ، كما قال ابن حجر : ( ويؤيد التفضيل قوله تعالى : { نَأْتِ بِخَيْرٍ مّـِنْهَآ أَوْ مِثْلِهَآ) } )( 15) ا هـ .
الشبهة الثانية : أن القرآن كلام الله ، وكلام الله صفة من صفاته ولايدخل التفاضل في صفاته لدخول النقص في المفضول - منها .
وهذا الذي ذكره ابن عبدالبر بعضه صحيح ، وبعضه غير صحيح .
فأمَّا الصحيح منه فهو أن القرآن كلام الله وكلام الله صفة من صفاته ، وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة .
وأمَّا غير الصحيح فهو أن التفاضل لايدخل في صفات الله لدخول النقص في المفضول منها ، والسبب الذي دعاهم إلى هذا القول ، هو أن صفات الله كلها فاضلة في غاية التمام والكمال ، وليس فيها نقص ، وإذا قلنا بأن بعضها أفضل من بعض كان ذلك وصفاً للمفضول بالنقص ، وهذا لايجوز .
والجواب على هذه الشبهة أن يقال : ( قول القائل : صفات الله كلها فاضلة في غاية التمام والكمال ليس فيها نقص ، كلام صحيح ، لكن توهمه أنه إذا كان بعضها أفضل من بعض كان المفضول معيباً منقوصاً خطأ منه فإن النصوص تدل على أن بعض أسمائه أفضل من بعض ، وبعض أفعاله أفضل من بعض .
ففي الآثار ، ذكر اسمه العظيم واسمه الأعظم ، واسمه الكبير واسمه الأكبر ، كما في السنن ورواه أحمد وابن حبان في صحيحه عن ابن بريدة ، عن أبيه قال : دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد ، فإذا رجلٌ يصلي يدعو : اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلاَّ أنت الأحد الصمد ، الذي لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفواً أحد ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : { والذي نفسي بيده ، لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى ، وإذا دُعي به أجاب }(16 ) .
وقد ثبت في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إن الله كتب في كتاب فهو موضوع عنده فوق العرش : إن رحمتي تغلب غضبي } وفي رواية : { سبقت رحمتي غضبي }(17 ) .
فوصف رحمته بأنها تغلب غضبه وتسبقه ، وهذا يدل على فضل رحمته على غضبه من جهة سبقها وغلبتها ، وقد ثبت في صحيح مسلم عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في سجوده : { اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك ، وبمعافاتك من عقوبتك ، وأعوذ بك منك }(18 ) ، ومعلوم أن المستعاذ به أفضل من المستعاذ منه ، فقد استعاذ برضاه من سخطه ، وبمعافاته من عقوبته .
وأمَّا استعاذته به منه فلابد أن يكون باعتبار جهتين : يستعيذ به باعتبار تلك الجهة ، ومنه باعتبار تلك الجهة ، ليتغاير المستعاذ به والمستعاذ منه ، إذ أن المستعاذ منه مخوف مرهوب منه ، والمستعاذ به مدعو مستجار به ملتجأ إليه ، والجهة الواحدة لاتكون مطلوبة مهروباً منها ، لكن باعتبار جهتين تصح )(19 ) أ هـ .
ويقال أيضاً في الجواب على هذه الشبهة ما سبق ذكره من أنه لايوجد في الكتاب والسنة نص يمنع تفضيل بعض كلام الله على بعض ، بل ولايمنع تفاضل صفاته تعالى ، بل ولا نقل هذا النفي عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولا عن أئمة المسلمين الذين لهم لسان صدق في الأمة بحيث جعلوا أعلاماً للسنة وأئمة للأمة .
بل النصوص الكثيرة من الكتاب والسنة تدل على تفضيل بعض كلام الله على بعض وعلى تفضيل بعض صفاته على بعض ، وقد سبق ذكر شيء منها في ثنايا هذا المبحث ، وبالله التوفيق .
ومِمَّا سبق يُعلم أن إمامنا ابن عبدالبر لم يوفق للصواب في هذه المسألة ، ويُمكن أن يُعتذر له بأنه - رحمه الله - ظن أن القول بتفضيل بعض كلام الله على بعض لايُمكن إلاَّ على قول الجهمية من المعتزلة وغيرهم القائلين بأن القرآن مخلوق ، فإنه إذا قيل : إنه مخلوق أمكن القول بتفضيل بعض المخلوقات على بعض ، فيجوز أن يكون بعضه أفضل من بعض ، وهذا الظن الذي ظنه - رحمه الله - قد ظنّه غيره من العلماء الذين هم من أهل السنة ووافقوه في هذه المسألة فيما ذهب إليه .
( قالوا : وأمَّا على قول أهل السنة والجماعة الذين أجمعوا على أن القرآن كلام الله غير مخلوق فيمتنع أن يقع التفاضل في صفات الله القائمة بذاته . ولأجل هذا الاعتقاد صار من يعتقده يذكر إجماع أهل السنة على امتناع التفضيل في القرآن كما قال أبو عبد الله ابن الدراج في مصنّف صنّفه في هذه المسألة ، قال : { أجمع أهل السنة على أن ما ورد في الشرع مِمَّا ظاهره المفاضلة بين آي القرآن وسوره ليس المراد به تفضيل ذوات بعضها على بعض ، إذ هو كلام الله وصفة من صفاته ، بل هو كله لله فاضل كسائر صفاته الواجب لها نعت الكمال } .
وهذا النقل للإجماع هو بحسب ما ظنه لازماً لأهل السنة ، فلما علم أنهم يقولون : القرآن كلام الله ليس بمخلوق ، وظن هو أن المفاضلة إنَّما تقع في المخلوقات في الصفات ، قال ما قال . وإلاَّ فلاينقل عن أحد من السلف والأئمة أنه أنكر فضل كلام الله بعضه على بعض ، لا في نفسه ، ولا في لوازمه ومتعلقاته ، فضلاً عن أن يكون هذا إجماعاً )( 20) .
وأخيراً نقول : إن ابن عبدالبر اجتهد في هذه المسألة فأخطأ ، ومن اجتهد بقصد طاعة الله ورسوله بحسب اجتهاده لم يكلفه الله ما يعجز عنه ، بل يثيبه على ما فعله من طاعته ويغفر له ما أخطأ فيه فعجز عن معرفته والوصول إليه .
وكلٌّ يؤخذ من قوله ويُرد إلاَّ المعصوم صلوات ربي وسلامه عليه .
الحواشي السفلية
(1 ) انظر : رهان في علوم القرآن للزركشي 2/67 - 73 النوع الثامن والعشرون : هل في القرآن شيء أفضل من شيء ؟ .
( 2) انظر : الإتقان في علوم القرآن للسيوطي 2/1131 - 1134 النوع الثالث والسبعون في أفضل القرآن وفاضله .
( 3) الاستذكار 8/116 ، 117 .
( 4) البرهان في علوم القرآن للزركشي 2/67 - 69 .
( 5) انظر كتاب القرطبي : التذكار في أفضل الأذكار من القرآن الكريم ص 40 - 44 ، وقد رجح أن القول الصحيح هو القول بالتفضيل .
( 6) الإتقان في علوم القرآن للسيوطي 2/1131 ، 1132 ، باختصار .
( 7) حديث صحيح أخرجه النسائي في فضائل القرآن رقم [36] ص 72 ، وقال محققه فاروق حماده : إسناده صحيح . وانظر : الترغيب والترهيب للمنذري 2/342 رقم [2151] .
( 8) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب فضائل القرآن ، باب : فضل فاتحة الكتاب رقم [5006] ص 995 .
( 9) أخرجه البخاري في كتاب فضائل القرآن ، باب : فضل { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } رقم [5013] ص 996 .
( 10) من كتاب العقيدة السلفية في كلام رب البرية وكشف أباطيل المبتدعة الردية ، تأليف : عبد الله بن يوسف الجديع ص 187 - 191 بتصرف يسير واختصار .
( 11) وهي مطبوعة بتحقيق فواز أحمد زمرلي وخالد السبع العلمي ، نشر دار الكتاب العربي ، وهي أيضاً مطبوعة ضمن مجموع الفتاوى 17/5 - 205 .
( 12) انظر : الرسالة السابقة ص 91 .
( 13) التمهيد 19/231 .
( 14) من كلال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في الرسالة السابقة ص 167 .
( 15) فتح الباري 8/8 .
( 16) رواه أبو داود في كتاب الصلاة ، باب : الدعاء رقم [1493] 2/166 ، 167] ، والترمذي في الدعوات ، باب : جامع الدعوات رقم [3475] 5/481 ، 482 ، وقال : هذا حديث حسن غريب . وغيرهما من أهل السنن ، وهو حديث صحيح كما في صحيح سنن أبي داود رقم [1324] 1/279 ، وصحيح سنن الترمذي رقم [2763] 3/163 .
( 17) رواه البخاري في كتاب التوحيد ، باب : قول الله تعالى : { وَيُحَذِّرُكُمُ ا؟للَّهُ نَفْسَهُ ,) } [ آل عمران : 28 ] رقم [7404] ص 1410 ، ومسلم في كتاب التوبة ، باب : في سعة رحمة الله تعالى ، وأنها سبقت غضبه رقم [2751] ص 1100 ، 1101 .
( 18) رواه مسلم في كتاب الصلاة رقم [486] ص 201 .
( 19) باختصار من رسالة ابن تيمية السابقة ص 101 - 104 .
( 20) من رسالة ابن تيمية السابقة ص 87 .
هل في القرآن شيء أفضل من شيء ؟
اختلف الناس في هذه المسألة مع أنه لاينبغي الخلاف فيها ؛ وذلك لورود النصوص التي تدل بوضوح على أن بعضه أفضل من بعض .
وقد ذكر خلاف الناس في هذه المسألة كل من الزركشي في البرهان( 1) ، والسيوطي في الإتقان(2 ) .
وسوف أذكر ملخص ما ذكراه بعد ذكر رأي الإمام ابن عبدالبر - إن شاء الله - ثُمَّ أذكر القول الصواب في هذه المسألة مستمداً من الله العون والسداد .
يرى ابن عبدالبر - رحمه الله - أنه لاينبغي أن نفضل بعض القرآن على بعض ؛ لأن القرآن كلام الله ، وصفة من صفاته ؛ ولو قلنا بأن بعضه أفضل من بعض للزم من ذلك دخول النقص في المفضول منه .
فبعد أن ذكر أقوال العلماء في معنى الحديث الوارد في فضل سورة { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } وأنها تعدل ثلث القرآن ، وبيّن أن المعنى الذي يشهد له ظاهر الحديث أنها تعدل في الثواب لمن تلاها ثلث القرآن ، قال : ( وهذا هو الذي يشهد له ظاهر الحديث ، وهو الذي يفر منه من خاف واقعة تفصيل القرآن بعض على بعض ، وليس فيما يعطي الله عبده من الثواب على عمل يعمله ما يدل على فضل ذلك العمل في نفسه ، بل هو فضله عزوجل يؤتيه من يشاء من عباده على ما يشاء من عباداته تفضلاً منه على من يشاء منهم ، وقد قال الله عزوجل : { مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مّـِنْهَآ أَوْ مِثْلِهَآ) } [ البقرة : 106 ] .
ولم يختلف العلماء بتأويل القرآن أنها خير لعباده المؤمنين التالين لها والعاملين بها إمَّا بتخفيف عنهم وإمَّا بشفاء صدورهم بالقتال لعدوهم لا أنها في ذاتها أفضل من غيرها .
فكذلك { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } خيرٌ لنا ، لأن الله يتفضل على تاليها من الثواب بما شاء ، ولسنا نقول [ هي ] في ذاتها أفضل من غيرها لأن القرآن عندنا كلام الله وصفة من صفاته ، ولايدخل التفاضل في صفاته لدخول النقص في المفضول منها )(3 ) ا هـ .
وهذا القول الذي اختاره ابن عبدالبر - رحمه الله - هو القول الأول في هذه المسألة ، وهو الذي ذكره الزركشي بقوله : ( فذهب الشيخ أبو الحسن الأشعري ، والقاضي أبو بكر ، وأبو حاتم ابن حبان وغيرهم إلى أنه لا فضل لبعضه على بعض ؛ لأن الكل كلام الله ، وكذلك أسماؤه تعالى لا تفاضل بينها ، وروى معناه عن مالك ، قال يحيى بن يحيى : تفضيل بعض القرآن على بعض خطأ ، وكذلك كره مالك أن تعاد سورة أو تردد دون غيرها ، واحتجوا بأن الأفضل يشعر بنقص المفضول ، وكلام الله حقيقة واحدة لا نقص فيه .
قال ابن حبان في حديث أبيّ بن كعب - رضي الله عنه - : { ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل مثل أم القرآن } : إن الله لايعطي لقارئ التوارة والإنجيل من الثواب مثل ما يعطي لقارئ أم القرآن ، إذ الله بفضله فضّل هذه الأمة على غيرها من الأمم وأعطاها من الفضل على قراءة كلامه أكثر مِمَّا أعطى غيرها من الفضل على قراءة كلامه ... قال : وقوله : { أعظم سورة } أراد به في الأجر ، لا أن بعض القرآن أفضل من بعض )(4 ) ا هـ .
وأمَّا القول الثاني في هذه المسألة فهو القول بالتفضيل ، أي أن بعض القرآن أفضل من بعض ، وهو القول المأثور عن السلف ، وهو الذي عليه أئمة الفقهاء من الطوائف الأربعة وغيرهم ، كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - .
قال السيوطي في الإتقان : ( وذهب آخرون إلى التفضيل لظواهر الأحاديث ، منهم : إسحاق بن راهويه ، وأبو بكر بن العربي ، والغزالي .
وقال القرطبي : إنه الحق ، ونقله عن جماعة من العلماء والمتكلمين(5 ) .
وقال ابن الحصّار : العجب ممن يذكر الاختلاف في ذلك ، مع النصوص الواردة بالتفضيل )(6 ) ا هـ .
وأقول أنا أيضاً : إنه لعجيب أن يرد مثل هذا الخلاف في هذه المسألة مع أن النصوص والأدلة الكثيرة تدل على التفضيل بل إن العقل يدل على ذلك مع دلالة الشرع .
وتقرير ذلك أن يقال : إن القرآن كلام الله ، ( وكلام الله لا نهاية له كما قال سبحانه : { قُل لَّوْ كَانَ ا؟لْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَــاـتِ رَبِّي لَنَفِدَ ا؟لْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَــ!ــتُ رَبِّي وَلَوْ جِـئــْنَا بِمِثْلِهِ÷ مَدَدًا } [ الكهف : 109 ] .
ومن كلماته تعالى : كتبه المنزلة ، كالتوراة ، والإنجيل ، والقرآن ، وكلماته التي يخلق بها الخلق ، وكلماته التي كلّم بها آدم ، والتي كلّم بها موسى ، والتي كلّم بها محمداً صلى الله عليه وسلم وكلماته التي يكلم بها عباده في المحشر وفي الجَنَّة ، وكلماته التي يخاطب بها أهل النَّار توبيخاً وتقريعاً ، وغيرُ ذلك من كلامه تبارك وتعالى .
فكلامه تعالى متبعّضٌ متجزي ، فالتوراة بعض كلامه وجزء منه ، والإنجيل كذلك والقرآن كذلك ، والقرآنُ أبعاضٌ وأجزاءٌ وسورٌ وآياتٌ وكلماتٌ .
وجميع هذا من المسلَّمات المعلومة لدى الكافة ، دلّ عليها الحس ، والعقل ، والشرع ، وهي أجلى من أن تحتاج إلى ضرب الأمثلة ، وسياق البراهين .
فكلامه تعالى الذي هو أجزاءٌ وأبعاضٌ ، بعضه أفضل من بعض ، وليس ذلك من جهة المتكلم به وهو الله تعالى ، وإنَّما هو من جهة ما تضمن من المعاني العظيمة ، فإن كلام الله المتضمن للتوحيد والدعوة إليه ، أفضل من كلامه المتضمن ذكر الحدود والقصاص ونحو ذلك ، وما يخبر به عن نفسه وصفاته أعظمُ مِمَّا يخبر به عن بعض خلقه ، وذلك لشرف الأول على الثاني .
وقد ورد في السنة الصحيحة ما يثبت ذلك ويوضحه ويُجلِّيه ، فمن ذلك :
1 - حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم في ميسر له فنزل ونزل رجلٌ إلى جانبه ، فالتفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال : { ألا أخبرك بأفضل القرآن ؟ } قال : فتلا عليه { الحمد لله رب العالمين }( 7) .
2 - حديث أبي سعيد بن المعلّى - رضي الله عنه - قال : كنتُ أصلي في المسجد ، فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبْه ، فقلتُ : يا رسول الله ! إني كنت أصلي فقال : { ألم يقل الله : { ا؟سْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ } [ الأنفال : 24 ] ثُمَّ قال لي : { لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن ، قبل أن تخرج من المسجد } . ثُمَّ أخذ بيدي ، فلما أراد أن يخرج قلتُ له : ألم تقل : { لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن ؟ } قال : { الحمد لله رب العالمين ، هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته }( 8) .
3 - عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { يا أبا المنذر ، أتدري أيّ آية من كتاب الله معك أعظم ؟ } قال : قلتُ : الله ورسوله أعلم . قال : { يا أبا المنذر : أتدري : أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم ؟ } قال : قلتُ : { ا؟للَّهُ لاَ إِلَـ!ــهَ إِلاَّ هُوَ ا؟لْحَيُّ ا؟لْقَيُّومُ ... } [ البقرة : 255 ] ، قال : فضرب في صدري ، وقال : { والله ، لِيَهْنِكَ العلمُ أبا المنذر } .
4 - وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رجلاً سمع رجلاً يقرأ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } يرددها ، فلما أصبح جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر ذلك له - وكأنّ الرجل يتقالُّها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن }(9 ) .
فدلت هذه النصوص ، وغيرها على تفضيل كلام الله بعضه على بعض ، وذلك حسب ما يدل عليه من المعاني ، وهو مذهب جمهور السلف وأهل السنة )( 10) .
وقد فصّل شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - الكلام في هذه المسألة في رسالة له بعنوان : ( جواب أهل العلم والإيمان بتحقيق ما أخبر به رسول الرحمن من أن { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تعدل ثلث القرآن )(11 ) ، وذكر أقوال العلماء في ذلك وأدلة كل قول مع المناقشة والترجيح ، والتوجيه والتعليل بما يغني الناظر فيه عن الرجوع إلى غيره .
وقد قرر أن النصوص النبوية والآثار السلفية والأحكام الشرعية والحجج العقليَّة تدل على أن كلام الله بعضه أفضل من بعض . وقال : ( ومعلوم أنه ليس في الكتاب والسنة نص يمنع تفضيل بعض كلام الله على بعض ، بل ولايمنع تفاضل صفاته تعالى ، بل ولا نقل هذا النفي عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ، ولا عن أئمة المسلمين الذين لهم لسان صدق في الأمة ، بحيث جعلوا أعلاماً للسنة وأئمة للأمة )( 12) .
وإذا تقرّر أن القول بالتفضيل هو القول الصواب الذي لاينبغي القول بخلافه ؛ فإن من نافلة القول أن أذكر الشبه التي احتج بها - ابن عبدالبر - على قوله المخالف للصواب ، مع الرد عليها والاعتذار له - إن أمكن - .
الشبهة الأولى : اشتبه عليه المراد بقوله تعالى : { مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مّـِنْهَآ أَوْ مِثْلِهَآ) } [ البقرة : 106 ] ، وذكر أن العلماء بتأويل القرآن لم يختلفوا أن المراد بقوله : { بِخَيْرٍ مّـِنْهَآ } أنها خير لعباده المؤمنين التالين لها والعاملين بها إمَّا بتخفيف عنهم وإمَّا بشفاء صدورهم بالقتال لعدوهم لا أنها في ذاتها أفضل من غيرها .
قال - رحمه الله - : ( وأمَّا قول الله عزوجل { مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مّـِنْهَآ أَوْ مِثْلِهَآ) } فمعناه بخير منها لنا لا في نفسها )( 13) .
وما استدل به وذكره ابن عبدالبر وإن كان قاله أيضاً إمام المفسرين ابن جرير الطبري وغيره من المفسرين عند تفسيرهم لهذه الآية إلاَّ أنه في الحقيقة لايدل على المراد الذي أراده ابن عبدالبر من نفي وقوع التفاضل في كلام الله ؛ بل إن ظاهر الآية يدل على أن الآية التي يأتي بها الله بدل الآية المنسوخة أو المنسية خيرٌ منها أو مثلها .
ولهذا ( فقول القائل : إنه ليس بعض ذلك خيراً من بعض بل بعضه أكثر ثواباً ، ردٌّ لخبر الله الصريح ، فإن الله يقول : { نَأْتِ بِخَيْرٍ مّـِنْهَآ أَوْ مِثْلِهَآ) } [ البقرة : 106 ] فكيف يُقال : ليس بعضه خيراً من بعض ؟ .
وإذا كان الجميع متماثلاً في نفسه امتنع أن يكون فيه شيء خيراً من شيء .
وكون معنى الخير أكثر ثواباً مع كونه متماثلاً في نفسه أمر لايدل عليه اللفظ حقيقة ولا مجازاً ، فلايجوز حمله عليه ، فإنه لايُعرف قط أن يقال : هذا خير من هذا وأفضل من هذا ، مع تساوي الذاتين بصفاتهما من كل وجه ، بل لابُدّ مع إطلاق هذه العبارة من التفاضل ولو ببعض الصفات ، فأمَّا إذا قدر أن مختاراً جعل لأحدهما مع التماثل ما ليس للآخر مع استوائهما بصفاتهما من كل وجه ، فهذا لايعقل وجوده ، ولو عقل لم يقل إن هذا خير من هذا أو أفضل لأمر لايتصف به أحدهما البتة .
وأيضاً ففي الحديث الصحيح أنه قال في الفاتحة : { لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها } فقد صرح الرسول بأن الله لم ينزل لها مثلاً ، فمن قال إن كل ما نزل من كلام الله فهو مثلٌ لها من كل وجه فقد ناقض الرسول في خبره )(14 ) .
فالآية التي ذكرها ابن عبدالبر تدل على خلاف ما ذهب إليه ، كما قال ابن حجر : ( ويؤيد التفضيل قوله تعالى : { نَأْتِ بِخَيْرٍ مّـِنْهَآ أَوْ مِثْلِهَآ) } )( 15) ا هـ .
الشبهة الثانية : أن القرآن كلام الله ، وكلام الله صفة من صفاته ولايدخل التفاضل في صفاته لدخول النقص في المفضول - منها .
وهذا الذي ذكره ابن عبدالبر بعضه صحيح ، وبعضه غير صحيح .
فأمَّا الصحيح منه فهو أن القرآن كلام الله وكلام الله صفة من صفاته ، وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة .
وأمَّا غير الصحيح فهو أن التفاضل لايدخل في صفات الله لدخول النقص في المفضول منها ، والسبب الذي دعاهم إلى هذا القول ، هو أن صفات الله كلها فاضلة في غاية التمام والكمال ، وليس فيها نقص ، وإذا قلنا بأن بعضها أفضل من بعض كان ذلك وصفاً للمفضول بالنقص ، وهذا لايجوز .
والجواب على هذه الشبهة أن يقال : ( قول القائل : صفات الله كلها فاضلة في غاية التمام والكمال ليس فيها نقص ، كلام صحيح ، لكن توهمه أنه إذا كان بعضها أفضل من بعض كان المفضول معيباً منقوصاً خطأ منه فإن النصوص تدل على أن بعض أسمائه أفضل من بعض ، وبعض أفعاله أفضل من بعض .
ففي الآثار ، ذكر اسمه العظيم واسمه الأعظم ، واسمه الكبير واسمه الأكبر ، كما في السنن ورواه أحمد وابن حبان في صحيحه عن ابن بريدة ، عن أبيه قال : دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد ، فإذا رجلٌ يصلي يدعو : اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلاَّ أنت الأحد الصمد ، الذي لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفواً أحد ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : { والذي نفسي بيده ، لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى ، وإذا دُعي به أجاب }(16 ) .
وقد ثبت في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إن الله كتب في كتاب فهو موضوع عنده فوق العرش : إن رحمتي تغلب غضبي } وفي رواية : { سبقت رحمتي غضبي }(17 ) .
فوصف رحمته بأنها تغلب غضبه وتسبقه ، وهذا يدل على فضل رحمته على غضبه من جهة سبقها وغلبتها ، وقد ثبت في صحيح مسلم عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في سجوده : { اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك ، وبمعافاتك من عقوبتك ، وأعوذ بك منك }(18 ) ، ومعلوم أن المستعاذ به أفضل من المستعاذ منه ، فقد استعاذ برضاه من سخطه ، وبمعافاته من عقوبته .
وأمَّا استعاذته به منه فلابد أن يكون باعتبار جهتين : يستعيذ به باعتبار تلك الجهة ، ومنه باعتبار تلك الجهة ، ليتغاير المستعاذ به والمستعاذ منه ، إذ أن المستعاذ منه مخوف مرهوب منه ، والمستعاذ به مدعو مستجار به ملتجأ إليه ، والجهة الواحدة لاتكون مطلوبة مهروباً منها ، لكن باعتبار جهتين تصح )(19 ) أ هـ .
ويقال أيضاً في الجواب على هذه الشبهة ما سبق ذكره من أنه لايوجد في الكتاب والسنة نص يمنع تفضيل بعض كلام الله على بعض ، بل ولايمنع تفاضل صفاته تعالى ، بل ولا نقل هذا النفي عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولا عن أئمة المسلمين الذين لهم لسان صدق في الأمة بحيث جعلوا أعلاماً للسنة وأئمة للأمة .
بل النصوص الكثيرة من الكتاب والسنة تدل على تفضيل بعض كلام الله على بعض وعلى تفضيل بعض صفاته على بعض ، وقد سبق ذكر شيء منها في ثنايا هذا المبحث ، وبالله التوفيق .
ومِمَّا سبق يُعلم أن إمامنا ابن عبدالبر لم يوفق للصواب في هذه المسألة ، ويُمكن أن يُعتذر له بأنه - رحمه الله - ظن أن القول بتفضيل بعض كلام الله على بعض لايُمكن إلاَّ على قول الجهمية من المعتزلة وغيرهم القائلين بأن القرآن مخلوق ، فإنه إذا قيل : إنه مخلوق أمكن القول بتفضيل بعض المخلوقات على بعض ، فيجوز أن يكون بعضه أفضل من بعض ، وهذا الظن الذي ظنه - رحمه الله - قد ظنّه غيره من العلماء الذين هم من أهل السنة ووافقوه في هذه المسألة فيما ذهب إليه .
( قالوا : وأمَّا على قول أهل السنة والجماعة الذين أجمعوا على أن القرآن كلام الله غير مخلوق فيمتنع أن يقع التفاضل في صفات الله القائمة بذاته . ولأجل هذا الاعتقاد صار من يعتقده يذكر إجماع أهل السنة على امتناع التفضيل في القرآن كما قال أبو عبد الله ابن الدراج في مصنّف صنّفه في هذه المسألة ، قال : { أجمع أهل السنة على أن ما ورد في الشرع مِمَّا ظاهره المفاضلة بين آي القرآن وسوره ليس المراد به تفضيل ذوات بعضها على بعض ، إذ هو كلام الله وصفة من صفاته ، بل هو كله لله فاضل كسائر صفاته الواجب لها نعت الكمال } .
وهذا النقل للإجماع هو بحسب ما ظنه لازماً لأهل السنة ، فلما علم أنهم يقولون : القرآن كلام الله ليس بمخلوق ، وظن هو أن المفاضلة إنَّما تقع في المخلوقات في الصفات ، قال ما قال . وإلاَّ فلاينقل عن أحد من السلف والأئمة أنه أنكر فضل كلام الله بعضه على بعض ، لا في نفسه ، ولا في لوازمه ومتعلقاته ، فضلاً عن أن يكون هذا إجماعاً )( 20) .
وأخيراً نقول : إن ابن عبدالبر اجتهد في هذه المسألة فأخطأ ، ومن اجتهد بقصد طاعة الله ورسوله بحسب اجتهاده لم يكلفه الله ما يعجز عنه ، بل يثيبه على ما فعله من طاعته ويغفر له ما أخطأ فيه فعجز عن معرفته والوصول إليه .
وكلٌّ يؤخذ من قوله ويُرد إلاَّ المعصوم صلوات ربي وسلامه عليه .
الحواشي السفلية
(1 ) انظر : رهان في علوم القرآن للزركشي 2/67 - 73 النوع الثامن والعشرون : هل في القرآن شيء أفضل من شيء ؟ .
( 2) انظر : الإتقان في علوم القرآن للسيوطي 2/1131 - 1134 النوع الثالث والسبعون في أفضل القرآن وفاضله .
( 3) الاستذكار 8/116 ، 117 .
( 4) البرهان في علوم القرآن للزركشي 2/67 - 69 .
( 5) انظر كتاب القرطبي : التذكار في أفضل الأذكار من القرآن الكريم ص 40 - 44 ، وقد رجح أن القول الصحيح هو القول بالتفضيل .
( 6) الإتقان في علوم القرآن للسيوطي 2/1131 ، 1132 ، باختصار .
( 7) حديث صحيح أخرجه النسائي في فضائل القرآن رقم [36] ص 72 ، وقال محققه فاروق حماده : إسناده صحيح . وانظر : الترغيب والترهيب للمنذري 2/342 رقم [2151] .
( 8) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب فضائل القرآن ، باب : فضل فاتحة الكتاب رقم [5006] ص 995 .
( 9) أخرجه البخاري في كتاب فضائل القرآن ، باب : فضل { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } رقم [5013] ص 996 .
( 10) من كتاب العقيدة السلفية في كلام رب البرية وكشف أباطيل المبتدعة الردية ، تأليف : عبد الله بن يوسف الجديع ص 187 - 191 بتصرف يسير واختصار .
( 11) وهي مطبوعة بتحقيق فواز أحمد زمرلي وخالد السبع العلمي ، نشر دار الكتاب العربي ، وهي أيضاً مطبوعة ضمن مجموع الفتاوى 17/5 - 205 .
( 12) انظر : الرسالة السابقة ص 91 .
( 13) التمهيد 19/231 .
( 14) من كلال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في الرسالة السابقة ص 167 .
( 15) فتح الباري 8/8 .
( 16) رواه أبو داود في كتاب الصلاة ، باب : الدعاء رقم [1493] 2/166 ، 167] ، والترمذي في الدعوات ، باب : جامع الدعوات رقم [3475] 5/481 ، 482 ، وقال : هذا حديث حسن غريب . وغيرهما من أهل السنن ، وهو حديث صحيح كما في صحيح سنن أبي داود رقم [1324] 1/279 ، وصحيح سنن الترمذي رقم [2763] 3/163 .
( 17) رواه البخاري في كتاب التوحيد ، باب : قول الله تعالى : { وَيُحَذِّرُكُمُ ا؟للَّهُ نَفْسَهُ ,) } [ آل عمران : 28 ] رقم [7404] ص 1410 ، ومسلم في كتاب التوبة ، باب : في سعة رحمة الله تعالى ، وأنها سبقت غضبه رقم [2751] ص 1100 ، 1101 .
( 18) رواه مسلم في كتاب الصلاة رقم [486] ص 201 .
( 19) باختصار من رسالة ابن تيمية السابقة ص 101 - 104 .
( 20) من رسالة ابن تيمية السابقة ص 87 .