وهذا بحثُ مُهم له ارتباط بموضوعنا ، احببت ان انقله للفائدة ..
للعلامة محمد بن صالح العُثيمين رحمه الله
قال فى (رسالة حول الوصول الى القمر) كما فى مجموع فتاواه ورسائله 5/319 :
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله رب العالمين ، ونُصلى ونُسلم على نبينا مُحمد ، وعلى آله واصحابه ، ومن تبعهم باحسان الى يوم الدين .. أما بعد :
فقد تواترت الأخبار بانزال مركبة فضائية على سطح القمر بعد المُحاولات العديدة التى استنفدت فيها الطاقات الفكرية والمادية والصناعية عدة سنوات وقد أثار هذا النبأ تساؤلات وأخذًا وردًا بين الناس
فمن قائل ان هذا باطل مُخالف للقرآن ، ومن قائل ان هذا ثابت والقُرآن يؤيده ، فالذين ظنوا أنه مُخالف للقُرآن
قالوا : ان الله أخبر أن القمر فى السماء فقال (تبارك الذى جعل فى السماء بروجًا وجعل فيها سراجًا وقمرًا مُنيرًا)
وقال (وجعل القمر فيهن نورًا وجعل الشمس سراجًا)
واذا كان القمر فى السماء فانه لا يُمكن الوصول اليه ، لأن الله جعل السماء سقفًا محفوظًا ، والنبى صلى الله عليه وسلم أشرف الخلق ومعه جبريل أشرف الملائكة وكان يستأذن ويستفتح عند كُل سماء ليلة المعراج ولا يحصل لهما دخول السماء الا بعد أن يفتح لهما فكيف يُمكن لمصنوعات البشر أن تنزل على سطح القمر وهو فى السماء المحفوظة
والذين ظنوا أن القُرآن يؤيده
قالوا : ان الله قال فى سورة الرحمن (يا معشر الجن والانس ان استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون الا بسُلطان)
والسُلطان العلم وهؤلاء استطاعوا أن ينفذوا من أقطار الأرض بالعلم فكان عملهم هذا مُطابقًا للقُرآن وتفسيرًا له
واذا صح ما تواترت به الأخبار من انزال مركبة فضائية على سطح القمر فان الذى يظهر لى أن القُرآن لا يُكذبه ولا يُصدقه فليس فى صريح القُرآن ما يُخالفه ، كما أنه ليس فى القُرآن ما يدُل عليه ويؤيده
1- أما كون القُرآن لا يُخالفه فلأن القُرآن كلام الله تعالى المُحيط بكل شئ علمًا فهو سُبحانه يعلم ما كان وما يكون من الأمور الماضية والحاضرة ، والمُستقبة ، سواء منها ما كان من فعله ، أو من خلقه فكل ما حدث أو يحدُث فى السماوات أو فى الأرض من أمور صغيرة ، أو كبيرة ظاهرة ، أو خفية فان الله تعالى عالم به ولم يحدُث الا بمشيئته وتدبيره لا جدال فى ذلك .
فاذا كان كذلك فالقُرآن كلامه وهو سُبحانه أصدق القائلين ومن أصدق من الله قيلًا ، وكلامه أحسن الكلام وابلغه فى البيان ، ومن أحسن من الله حديثًا فلا يُمكن أن يقع فى كلامه الصادر عن علمه ، والبالغ فى الصدق والبيان غايته لا يُمكن أن يقع فى كلام هذا شأنه ما يُخالف الواقع المحسوس أبدًأ ، ولا أن يقع فى المحسوس ما يُخالف صريحه أبدًا
ومن فهم أن فى القُرآن ما يُخالف الواقع ، أو أن من المحسوس ما يقع مُخالفًا للقُرآن ففهمه خطأ بلا ريب
والآيات التى يظُنها بعض الناس دالة على أن القمر فى السماء ليس فيها التصريح بأنه مُرصع فى السماء نفسها التى هى السقف المحفوظ نعم ظاهر اللفظ أن القمر فى السماء نفسها ، ولكن ان ثبت وصول السُفن الفضائية اليه ونزولها على سطحه فان ذلك دليل على أن القمر ليس فى السماء الدُنيا التى هى السقف المحفوظ وانما هو فى فلك بين السماء والأرض كما قال تعالى (وهو الذى خلق الليل والنهار والشمس والقمر كلُ فى فلكٍ يسبحون) وقال تعالى (لا الشمس ينبغى لها أن تُدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكلُ فى فلكٍ يسبحون)
قال بن عباس - رضى الله عنهما - : "يدورون كما يدور المغزل فى الفلكة" وذكر الثعلبى والماوردى عن الحسن البصرى انه قال :
"الشمس والقمر والنجوم فى فلك بين السماء والارض غير مُلصقة به ولو كانت مُلصقه به ما جرت"
ذكره عنهما القُرطبى فى تفسير سورة يس
والقول بأن الشمس والقمر فى فلك بين السماء والأرض لا يُنافى ما ذكر الله من كونهما فى السماء ، فان السماء يُطلق تارة على كل ما علا ..
قال ابن قُتيبة : "كُل ما علاك فهو سماء) فيكون معنى كونهما فى السماء أى فى العلو أو على تقدير مُضاف أى فى جهة السماء
وقد جاءت كلمة السماء فى القُرآن مرادًا بها العُلو كما فى قوله تعالى (ونزلنا من السماء ماءًا مُباركًا)
يعنى المطر ، والمطر ينزل من السحاب المُسخر بين السماء والأرض
واذا ثبت ما ذكروا عن سطحية القمر فان ذلك يزيدنا معرفة فى آيات الله العظيمة حيث كان هذا الجرم العظيم وما هو أكبر منه وأعظم يجرى بين السماء والأرض الى الأجل الذى عينه الله تعالى لا يتغير ولا يتقدم ولا يتأخر عن السير الذى قدره له العزيز العليم ، ومع ذلك فتارة يُضى كله فيكون بدرًا ، وتارة يُضى بعضه فيكون قمرًا أو هلالًا ذلك تقدير العزيز العليم
وأما ما اشتُهر من كون القمر فى السماء الدُنيا ، وعطارد فى الثانية ، والزُهرة فى الثالثة ، والشمس فى الرابعة ، والمريخ فى الخامسة ، والمُشترى فى السادسة ، وزُخل فى السابعة
فان هذا مما تُلقى عن علماء الفلك والهيئة وليس فيه حديث صحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم .
ويدل على ذلك ان ابن كثير رحمه الله مع سعة اطلاعه لما تكلم على أن الشمس فى الفلك الرابع قال :
"وليس فى الشرع ما ينفيه بل فى الحس وهو الكسوفات ما يدُل عليه ويقتضيه" أ.هـ
فقوله (وليس فى الشرع ما ينفيه) واستدلاله على ثبوته بالحس . دليل على أنه ليس فى الشرع ما يُثبه أى ما يُثبت ان الشمس فى الفلك الرابع والله أعلم
2- وأما كون القُرآن لا يدُل على وصول السُفن الفضائية الى القمر فلأن الذين ظنوا ذلك .
أستدلوا بقوله تعالى (يا معشر الجن والأنس ان استطعتم ان تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفُذوا لا تنفُذون الا بسُلطان)
وفسروا السُلطان بالعلم
وهذا الاستدلال مردود من وجوه :
الأول : أن سياق الآية يدُل على أن هذا التحدى يكون يوم القيامة ويظهر ذلك جليًا لمن قرأ هذه السورة من أولها فان الله ذكر فيها ابتداء خلق الانسان والجان ، وما سخر للعباد فى افاق السماوات والأرض ، ثم ذكر فناء من عليها ثم قال (سنفرُغ لكم ايُه الثقلان) . وهذا الحساب ثم تحدى الجن بأنه لا مفر لهم ولا مهرب من أقطار السماوات والأرض فيستطيعون الهروب ولا قُدرة لهم على التناصر فينصروا وينجوا من المرهوب ، ثم أعقب ذلك بذكر الجزاء لأهل الشر بما يستحقون ، ولأهل الخير بما يؤملون ويرجون
ولاشك ان السياق يُبين المعنى ويُعينه فُرب كلمة أو جُملة صالحة لمعنى فى موضع ولا تصلُح له فى موضعٍ آخر ، وأنت ترى أحيانًا كلمة واحدة لها معنيان مُتضادان يتعين المُراد منهُما بواسطة السياق كما هو معروف فى كلمات الاضداد فى اللُغة
فلو قُدر أن الأية الكريمة تصلُح أن تكون فى سياق ما خبرا لما سيكون فى الدُنيا فانها فى هذا الموضع لا تصلح له بل تتعين أن تكون للتهديد والتعجيز يوم القيامة وذلك لما سبقها ولحقها من السياق
الثانى : ان جميع المُفسرين ذكروا انها للتهديد والتعجيز وحمهورهم على أن ذلك يوم القيامة
وقد تكلم الشيخ محمد الأمين الشنقيطى على هذه الأية فى سورة الحجر عند قوله تعالى (ولقد جعلنا فى السماء بروجًا وزيناها للناظرين وحفظناها من كُل شيطانٍ رجيم) ووصف من زعم انها تُشير الى الوصول الى السماء وصفه بأنه لا علم عنده بكتاب الله
الثالث : انه لو كان معناها الخبر عما سيحدُث.لكان معناها يا معشر الجن والانس انكم لن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض الا بعلم وهذا تحصيل حاصل فان كُل شئٍ لا يُمكن ادراكه الا بعلم أسباب ادراكه والقُدرة على ذلك ، ثم ان هذا المعنى يسلُب الأية روعتها فى معناها وفى مكانها فان الاية سبقها الانذار البليغ بقوله تعالى (سنفرُغ لكم أيُها الثقلان)
وتلاها الوعيد الشديد فى قوله (يُرسَل عليكما شُواظُ من نار ونُحاس فلا تنتصران)
الرابع : ان دلالة الآية على التحدى ظاهرةً جدًا
1- لما سبقها ويتلوها من الأيات
2- أن ذكر معشر الجن والانس مُجتمعين معشرًا واحدًأ فهو قريب من مثل قوله تعالى (قُل لئن اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القُرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعضٍ ظهيرًا)
3- ان قوله (ان استطعتم) ظاهر فى التحدي خُصوصًا وقد أتى ب "ان" دون "اذا" لأن "اذا" تدُل على وقع الشرط بخلاف "ان"
4- انه لو كان معناها الخبر لكانت تتضمن التنويه بهؤلاء والمدح لهم حيث عملوا وبحثوا فيما سخر الله لهم حتى وصلوا الى النفوذ وفاتت النبى صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه الذين هم أسرع الناس امتثالًا لما دعا اليه القُرآن
5- ان الأية الكريمة علقت الحُكم بالجن والانس ومن المعلوم ان الجن حين نزول القُرآن كانوا يستطيعون النفوذ من أقطار الأرض الى أقطار السماء كما حكى الله عنهم (وأنا لمسنا السماء فوجدناها مُلئت حرسًا شديدًا وشُهبًا وأنا كُنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابًا رصدًا) فكيف يُعجزهم الله بشئ كانوا يستطيعونه ،
فان قيل : انهم كانوا لا يستطيعونه بعد بعثة النبى صلى الله عليه وسلم ، قُلنا : هذا أدل على أن المُراد بالآية التعجيز لا الخبر
6- ان الآية عقلت الحُكم بالنفوذ من أقطار السماوات والأرض ومن المعلوم انهم ما استطاعوا ولن يستطيعوا أن ينفذوا من أقطار السماوات مهما كانت قوتهم
7- أن الاية الكريمةأعقبت بقوله تعالى (يُرسل عليكما شواظُ من نارٍٍ ونُحاس فلا تنتصران)
ومعناها والله اعلم . انكم يا معشر الجن والانس لو حاولتما النفوذ من ذلك لكان يُرسل عليكما شواظُ من نارٍ ونُحاس والمعروف ان هذه الصواريخ لم يُرسل عليها شُواظ من نار ولا نحاس فكيف تكون هى المقصود بالآية
8- ان تفسيرهم السُلطان هُنا بالعلم فيه نظر فان السُلطان ما فيه سُلطة للواحد على ما يُريد السيطرة عليه والغلبة ويختلف باختلاف المقام فاذا كان فى مقام العمل ونحوه فالمُراد به القوة والقُدرة ومنه قوله تعالى عن ابليس (انه ليس له سُلطانُ على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون انما سُلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون)
فالسُلطان فى هذه الاية . بمعنى القُدرة ولا يصح أن يكون بمعنى العلم ، ومنه السُلطان المذكور فى الآية التى نحن بصددها فان النفوذ عمل يحتاج الى قوة وقدرة والعلم وحده لا يكفى وهؤلاء لم يتوصلوا الى ما ذُكر عنهم بمجرد العلم ولكن بالعلم والقُدرة والأسباب التى سخرها الله لهم ، واذا كان السُلطان فى مقام المحاجة والمُجادلة كان المُراد به البُرهان والحُجة التى يُخصم بها خصمه ومنه قوله تعالى (ان عندكم من سُلطان بهذا) .
أى من حُجة وبُرهانٍ ولم يات السُلطان فى القُرآن مُرادًا به مُجرد العلم والاشتقاق يدل على أن المُراد بالسُلطان ما به سُلطة للعبد وقُدرة وغلبة
فتبين بهذا أن الأية الكريمة لا يُراد بها الأشارة الى ما ذُكر من السُفن الفضائية وانزالها اللى القمر وهذه الوجوه التى ذكرناها منها ما هو ظاهر ومنها ما يحتاج الى تأمل وانما نبهنا على ذلك خوفًا من تفسير كلام الله بما لا يُراد به لأن ذلك يتضمن محذورين :
أحدهما : تحريف العلم عن مواضعه حيث أُخرج عن معناه المُراد به
الثانى : التقول على الله بلا علم حيث زعم أن الله أراد هذا المعنى مع مُخالفته للسياق وقد حرم الله على عباده أن يقولوا عليه مالا يعلمون
بقى أن يُقال : اذا صح ما ذُكر من انزال المركبة الفضائية على سطح القمر فهل بالامكان انزال انسان على سطحه ؟
فالجواب : ان ظاهر القُرآن عدم امكان ذلك وان بنى آدم لا يحيون الا فى الأرض يقول الله تعالى (فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تُخرجون) فحصر الحياة فى الأرض والموت فيها والأخراج منها ، وطريق الحصر فيها تقديم ما حقه التأخير .
ونحو هذه الاية قوله تعالى (منها خلقناكم وفيها نُعيدكم ومنها نُخرجكم تارةً اُخرى) حيث حصر ابتداء الخلق من الأرض ، وأنها هى نُعاد فيها بعد الموت ونخرُج منها يوم القيامة ، كما أن هُناك آيات تدُل على أن الأرض محل عيشة الانسان
(ولقد مكناكم فى الأرض وجعلنا لكم فيها معايش) فظاهر القُرآن بلا شك يدُل على أن لا حياة للانسان الا فى هذه الأرض التى منها خُلق ، واليها يُعاد ، ومنا يخرُج ، فالواجب أن نأخذ بهذا الظاهر وأن لا تبعد أوهامنا فى تعظيم صناعة المخلوق الى حد نُخالف به ظاهر القُرآن رجمًا بالغيب ، ولو فُرض أن أحد من بنى آدم تمكن من النزول على سطح القمر وثبت ذلك ثبوتًا قطعيًا أمكن حمل الآية عليه على أن المُراد بالحياة المذكورة الحياة المُستقرة الجماعية كحياة الناس على الأرض وهذا مُستحيل والله اعلم
وبعد فان البحث فى هذا الموضوع قد يكون من فضول العلم لولا ما دار حوله من البحث والمُناقشات حتى بالغ الناس فى رده وانكاره ، وغلا بعضهم فى قبوله واثباته ، فالأولون جعلوه مُخالفًا للقُرآن ، والآخرون جعلوه مؤيدًأ بالقُرآن فأحببت أن اكتب ما حررته هُنا على حسب ما فهمته بفهمى القاصر وعلمى المحدود
وأسأل الله أن يجعل ذلك خالصًا لوجهه نافعًا لعباده والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبينا مُحمد واله وصحبه أجمعين
---------
أ.هـ كلام بن عثيمين ، بكماله ، وهو كلام نفيس