هجوم فؤاد زكريا على عبد الحليم محمود بسبب رؤيا النصر فى حرب رمضان المجيد

إنضم
18/03/2005
المشاركات
203
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
هجوم فؤاد زكريا على عبد الحليم محمود بسبب رؤيا النصر فى حرب رمضان المجيد
(فصل من كتابى: "عبد الحليم محمود - صوفى من زماننا")
د. إبراهيم عوض

يذكر د. أحمد عمر هاشم أن فضيلة الدكتور عبد الحليم محمود كان مهتما بإسهام الأزهريين في معركة العاشر من رمضان، وأنه استعان في هذا الصدد بأساتذة جامعة الأزهر ورجال الدعوة لتعبئة الروح المعنوية لأبناء قواتنا المسلحة، وأنه عند لقاء العلماء بأبناء الجيش في شهر رمضان أثناء الحرب أفتى بعض الدعاة للجنود بأنه، نظرا لحرارة الجو وحاجة الحرب إلى كامل طاقتهم، من المستحب الأخذ برخصة الفطر لتكون عونا لهم فى الانتصار على العدو الصهيوني، بيد أن بعض الجنود أجابوا قائلين: لا نريد أن نفطر إلا في الجنة!
ويذكر د. هاشم أيضا أن الشيخ عبد الحليم محمود، قبيل حرب رمضان المجيدة، قد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام يعبر قناة السويس ومعه علماء المسلمين وقواتنا المسلحة، فاستبشر خيرا وأيقن بالنصر، وأخبر الرئيس السادات رحمه الله بتلك البشارة ، واقترح عليه أن يأخذ قرار الحرب مطمئنا إياه بالنصر. ثم لم يكتف بهذا، بل انطلق عقب اشتعال الحرب إلى منبر الأزهر الشريف، وألقى خطبة عصماء توجه فيها إلى الجماهير والحكام مبينا أن حربنا مع إسرائيل هى حرب في سبيل الله، وأن الذي يموت فيها شهيدٌ وله الجنة، أما من تخلف عنها ثم مات فإنه يموت على شعبة من شعب النفاق. وكانت نتيجة الإعداد الجيد الذى قام به الجيش المصرى، مضافا إليه طمأنة د. عبد الحليم محمود لرئيس البلاد وحَفْزه إياه على شن الحرب ضد قوات الصهاينة، التى تحتل جزءا غاليا من تراب مصر، هى ما أسفرت عنه الحرب الرمضانية المجيدة من نصر كبير . وقد تطرق إلى تلك الواقعة د. محمود جامع أيضا فى كتابه: "كيف عرفتُ السادات؟"، إذ كتب قائلا: "لا ننسى أنه بشرنا بالنصر في أكتوبر 73 عندما رأى حبيبه رسول الله عليه الصلاة والسلام في المنام، وهو يرفع راية "الله أكبر" للجنود ولقوات أكتوبر".
ولا شك أن ما طرأ بعد ذلك من تهاون عسكرى أدى إلى اختراق بعض قوات العدو لخطوط جيشنا فيما سمى بـ"الثغرة"، وكذلك رضا القيادة السياسية بشروط معاهدة كامب ديفيد المجحفة، يمثل خصما واضحا من التألق البطولى الذى أحرزه أبطال حرب رمضان، بَيْدَ أن هذه حكاية أخرى . لقد بذلت القوات المسلحة كل جهودها، وكان د. عبد الحليم محمود خير مؤازر لتلك الجهود. ولا ريب أن ما صرح به الرجل كان عاملا من عوامل الإقدام والنصر. ومن هنا كان ما كتبه د. فؤاد زكريا فى جريدة "الأهرام" فى 18 نوفمبر 1973م من مقال مفعم بالهجوم على الأستاذ الدكتور، الذى لم يأل جهدا فى سبيل رفع الروح المعنوية للضباط والجنود وتحميسهم لبذل أقصى ما عندهم من عزم وشجاعة وطمأنتهم إلى أن الله ناصرهم وآخذ بيدهم إلى النصر والكرامة، هو من الأمور المخزية التى من شأنها تفتيت الروح المعنوية بشبهة محاربة الخرافة ومؤازرة التفكير العلمى، وبخاصة أن العمليات العسكرية بيننا وبين الصهاينة فى تلك الحرب لم تكن قد انتهت بعد.
وكان أجدر بالدكتور فؤاد زكريا أن يوجه سنان قلمه مثلا لمحمد حسنين هيكل يوم كتب، قبل الحرب بسنة ونصف، مقالا فى "الأهرام" بعنوان "تحية للرجال" يبدو فى ظاهره وكأنه تقدير لجهود رجال القوات المسلحة وبطولاتهم، لكنه فى الحقيقة تعداد للعقبات الفظيعة التى تنتظرهم حين يحاولون عبور قناة السويس، والتى أبرزها إبرازا يوحى بأن مسألة العبور ضرب من الانتحار . وكان من ثمرته فى ذلك الحين انتشار الإحباط فى نفوس كثير من أفراد القوات المسلحة على ما قرأنا فى تلك الأيام، ذلك الإحباط الذى أتت بشرى د. عبد الحليم محمود معاكسة له تماما. لكن د. فؤاد زكريا لم ينبس ببنت شفة فى الرد على مقال هيكل المحبط، وحشد كل قوته فى تشويه صورة د. عبد الحليم وإظهاره بمظهر الرجل المتخلف الذى يطمس جهود القوات المسلحة والقيادة السياسية للبلاد، وكأن عبد الحليم محمود نادى بترك الاستعدادات السياسية والحربية والاستناد إلى ضرب الوَدْع وقراءة الفنجان، والتهور الانتحارى فى عبور القناة دون دراسة أو تدريب أو تخطيط.
لقد لفت انتباهى بقوةٍ ما قرأته فى المادة المخصصة للشيخ فى النسخة الإنجليزية من موسوعة "الويكبيديا"، إذ جاء فيها أنه معروف باجتهاده فى تحديث التعليم فى الأزهر وإلحاحه على أنّ تعلُّم العلوم الحديثة فرض دينى . فكيف يمكن أن يدور بالذهن أن الرجل، حين قال ما قال عن رؤياه، أيا كان منطلقه فيها، إنما كان يروج للخرافة؟ وفى الفصل الخاص بمناقشة آرائه وأفكاره من هذا الكتاب سوف يتضح لكل ذى عينين أن الرجل كان فعلا يرى أن دراسة العلوم الطبيعية وإحراز التقدم الثقافى والحضارى واجب دينى مقدس لا يمكن المسلم أن يتفلت منه ويبقى مسلما جيدا.
قال د. فؤاد زكريا ما نصه: "أستطيع أن أفهم، وإن لم أكن أستطيع أن أغتفر، انتشار ألوان من التفكير اللاعقلى بيننا بعد يونيه 1967. أستطيع أن أفهم ذلك لأن قسوة الهزيمة غير المتوقعة، والإحساس بالهوان والمذلة والعجز، والشعور بأن كل شئ يسير فى طريق مسدود، كل هذه كانت عوامل ساعدت على انتشار موجات من التفكير اللاعقلى، وجعلت الأذهان أكثر استعدادا لقبول تفسيرات غيبية للظواهر، وهيأت العقول لنوع من الاستسلام جعلها تفقد ملكاتها القديمة، وتركن إلى التصديق الساذج لكل بدعة وكل خرافة تجد فيها أى نوع من التعويض.
ومع ذلك فإنى لا أستطيع أن أغتفر انتشار هذا اللون من التفكير حتى فى ظروف الهزيمة، لا سيما وأن الكثيرين ممن عملوا على نشره كانوا يستطيعون، بقليل من الروية، أن يدركوا مدى الأضرار التى يعود بها مثل هذا التفكير على شعبنا أثناء تلك المحنة القاسية، فقد كنا فى حاجة إلى أن نستجمع كل قوانا المادية والذهنية لكى نهتدى إلى مخرج من المأزق الذى وجدنا أنفسنا فيه، وكنا فى حاجة إلى كل ذرة من عقلنا وعلمنا وفكرنا السليم حتى نحارب بها عدوا ماكرا يجيد استخدام كل أسلحة العصر فى المجال العسكرى والنفسى والعلمى من أجل تحقيق أهدافه فى وقف تقدمنا وإبقائنا فى حالة من التخلف الدائم. ومع ذلك فقد كان من أكثر التعليلات التى شاعت بصدد الهزيمة أنها قد حلت بنا لأننا ابتعدنا عن طريق التقوى مفهومةً بمعنى ساذج. ولم يكن ذلك بالتعليل الذى يمكن اغتفاره لأسباب عديدة أهمها أنه يعمى عيون الناس عن العوامل الأساسية التى كان لا بد أن يفهموا أنها شاركت كلها فى صنع هذه الهزيمة: كمؤامرات الصهيونية المتعاونة مع الإمبريالية، وكالأخطاء التى ارتكبناها نحن أنفسنا قبل حرب عام 1967 وأثناءها، والتى كان ينبغى أن نعيها جيدا إذا شئنا أن نمحو أثر الهزيمة.
وفضلا عن ذلك فإن نفس المنطق الذى كان ينطلق منه دعاة هذا التعليل يمكن أن يكون حجة عليهم لا لهم، لأننا إذا كنا قد ابتعدنا عن طريق التقوى فإن عدونا كان، طوال تاريخه، أشد منا ابتعادا عنه. فهذا العدو ذاته هو الذى شرد شعبا كاملا، وارتكب فى حقه أشد الفظائع والمظالم. فلماذا إذن يكتب النصر لعدو كهذا إذا كان مقياس النصر أو الهزيمة هو التقوى مفهومةً بهذا المعنى الساذج؟
على أنه إذا كان انتشار التفكير اللاعقلى أمرا مفهوما، بالرغم من أنه لا يغتفر، فى ظروف الهزيمة فإن الأمر الذى لا يمكن فهمه ولا اغتفاره هو أن تظهر ألوان جديدة من هذا التفكير بعد السادس من أكتوبر. فذلك لأننا كنا قد أعددنا العدة لكل شئ منذ زمن طويل، وحسبنا لكل عامل من العوامل حسابا، وأجرينا مئات التجارب علي العبور. وكان واضحا أن التدريب الشاق والحساب العلمى الدقيق والتوقيت الذكى والتضليل المخطط والمرسوم للعدو، وفوق ذلك كله حماسة الجندى المصرى وشجاعته، كل هذه كانت العوامل الرئيسية فى النجاح الباهر الذى أحرزناه فى العبور وفى معارك الضفة الشرقية. ومع ذلك فقد عادت التعليلات اللاعقلية تطل برأسها من جديد، وكان ما يثير الإشفاق فى هذه التعليلات هو أنها تهيب بقوى غير منظورة قيل إنها حاربت معنا. ولم يدرك مرددو هذه الأقاويل أن تصديقها معناه أن الذى انتزع النصر ليس هو الجندى المصرى الباسل بدمه وعرقه وشجاعته، ومعناه أن العلم والتخطيط والحساب الدقيق لم يكن له إلا دور ثانوى فى كل ما حدث. بل إن تصديق هذه الأقاويل يعنى ما هو أشد من ذلك وأخطر، إذ إن قائلها يفترض أن ما حدث كان "معجزة"، وأن الأمور لو تركت لكى تسير فى مجراها الطبيعى لما أمكن أن يحدث ما حدث. ولست أستطيع أن أتصور فى ظروف التضحية الهائلة التى مر بها جيشنا جحودا أشد من ذلك الذى ينطوى عليه هذا الافتراض الضمنى.
إن الوقفة الصامدة التى وقفها الإنسان المصرى فى سيناء فى أول مواجهة حقيقية له مع العدو كانت بالفعل ثمرة العلم والإيمان. أما العلم فنحن نعرفه جيدا: فهو يتمثل فى ذلك الإعداد الصامت الدءوب ليوم المعركة، وتلك التدريبات الشاقة العميقة، وتلك القدرة الفائقة على استخدام أحدث الأسلحة، وذلك التخطيط الذى أصبح من ذلك الحين موضوعا للدراسة فى المعاهد العسكرية والإستراتيجية. وأما الإيمان فكان يتمثل فى تلك الرغبة الجارفة التى ازدادت فى كل يوم إلحاحا طوال ست سنوات فى تحرير قطعة عزيزة من أرض الوطن، وفى تبديد خرافة "الجيش الإسرائيلي الذى لا يقهر" و"الجيوش العربية التى تفر من أول طلقة"، وفى مسح عار 1967. والأهم من ذلك كله الإيمان بأن هناك قضية عادلة تستحق أن يضحى المرء بحياته من أجلها. هؤلاء جميعا كانوا "جنود الخفاء" الذين وقفوا يحاربون معنا، والذين رفرفوا بأجنحتهم البيضاء الناصعة محلقين فى سماء المعركة، والذين تمكنا بفضلهم من تقديم أروع الأمثلة فى الشجاعة، وتحقيق نتائج عسكرية لم يكن يتوقعها أشد أنصارنا تفاؤلا.
على أننى لا أعتقد أن أضرار التفكير اللاعقلى تقتصر على ما يؤدى إليه من إقلال من شأن الجهود التى بُذِلَتْ فى مرحلة الإعداد للمعركة، والبطولات التى ظهرت أثناءها، بل إن هذا اللون من التفكير يؤدى، فى رأيى، إلى إضعاف موقفنا العام تجاه إسرائيل ويفوت علينا سلاحا من أشد الأسلحة فعالية فى معركتنا الحالية، والمقبلة بوجه خاص، مع هذا العدو الجديد.
ذلك لأن إسرائيل، بالرغم من كل ما أحرزته من تقدم علمى وتكنولوجى مساير لأحدث تطورات العصر، هى فى الأساس مجتمع يقوم على وهم خرافى. ومعظم الحجج المعنوية التى يستند إليها كتاب إسرائيل ومفكروها تتضمن خلطا بشعا بين وقائع التاريخ اليهودى القديم منذ ألفى عام بعد تشويه هذا التاريخ لكى يلائم أهدافهم وبين حقائق العصر الحاضر. وفكرة إقامة دولة إسرائيل نفسها فكرة مضادة لكل المسار الحضارى الذى سلكه العالم المتمدين منذ نهاية العصور الوسطى حتى اليوم لأن هذه دولة تقوم علي أساس دينى عنصرى، وتتجاهل الاتجاه إلى الفصل بين الدين والدولة، الذى كافحت من أجله المجتمعات الغربية وأصبح دعامة أساسية من دعامات الفكر السياسى والاجتماعى فيها.
إسرائيل إذن فكرة تقوم أصلا على خرافة. وفى وسعنا أن نستغل الميول العلمانية القوية التى تسود المجتمعات الغربية فى محاربة إسرائيل بسلاح لن يكلفنا شيئا. ولكنه، فى نظر العقول المستنيرة، سلاح فعال إلى أقصى الحدود. أما إذا التجأنا نحن بدورنا إلى اللامعقول فإننا نضيع بذلك على أنفسنا فرصة رائعة للتفوق المعنوى على العدو فى نظر العالم المتحضر.
إن الأهداف الحقيقية التى نحارب من أجلها أهداف يستطيع أن يفهمها ويقدرها أشد الناس تمسكا بالعقلانية. فليس هناك ما هو أقرب إلى العقل من الكفاح من أجل استعادة جزء مغتصب من أرض الوطن، واسترداد حقوق شعب شرده غزاة دخلاء. وفى مقابل ذلك لا يقدم عدونا إلا مجموعة من الأساطير الخرافية لكى يبرر بها احتلاله للأرض واغتصابه للحقوق الشرعية لأهلها.
لذلك أعتقد أن تمسكنا بالارتكاز على أرض العقل الراسخة يعطينا سلاحا هائلا فى معركتنا، على حين أن عودتنا إلى ضباب اللامعقول وإلى التعليلات الخرافية والأسطورية يجعلنا نقف معنويا على نفس الأرض الهشة التى يقف عليها أعداؤنا. وما دام هدفنا العام الطويل الأجل متمشيا مع العقل فمن الواجب أن تكون تصرفاتنا الجزئية القصيرة الأجل منسجمة مع هذا الهدف العام. ولو حدث غير ذلك لكانت الصورة النهائية منطوية على مفارقة غريبة، إذ يكون أحد طرفى النزاع مسايرا فى أهدافه العامة لاتجاه التاريخ والتطور والتقدم، ومع ذلك يسلك فى تصرفاته اليومية مسلكا مضادا للعقل، على حين أن الطرف الآخر يتخذ لنفسه أهدافا مضادة للعقل ولمسار التاريخ ولكل ما شيدته حضارة الإنسان الحديث من قيم، ولكنه يخدم هذه الأهداف عن طريق مسلك يومى عقلانى علمى يرد كل حادث إلى أسبابه الحقيقة، ويعلل الظواهر بقوانينها الفعلية.
ولو ألقينا نظرة على المستقبل لوجدنا أن الوقت، خاصة على المدى البعيد، سيكون حتما فى صالحنا لو عرفنا كيف نتخذ من العقل مرشدا لنا فى صراعنا العسكرى والحضارى مع إسرائيل. فاحترام العالم للعقل يتزايد يوما بعد يوم، والمسافة التى تفصله عن التفسيرات اللاعقلية تتسع باطراد. ولا بد أن يأتى اليوم الذى تصبح فيه الأسطورة التى ترتكز عليها أمانى الصهيونيين وآمالهم مكشوفة ومفضوحة حتى فى نظر أصحابها. وعندما يأتى ذلك اليوم سيكون أعظم انتصار نحققه هو أن يدرك العالم أننا كنا على الدوام منحازين إلي صف التقدم والاستنارة، وأننا أعطينا العقل حقه ولم نتجاهل الروح من حيث هى طاقة مؤيدة للعقل وحافزة له لا من حيث هى قوة مضادة للعقل ومعوقة للتقدم" .
وبعد أن أوردنا مقال د. فؤاد زكريا كاملا نشرع فى مناقشة ما جاء فيه. يقول الدكتور: "أستطيع أن أفهم، وإن لم أكن أستطيع أن أغتفر، انتشار ألوان من التفكير اللاعقلى بيننا بعد يونيه 1967. أستطيع أن أفهم ذلك لأن قسوة الهزيمة غير المتوقعة، والإحساس بالهوان والمذلة والعجز، والشعور بأن كل شئ يسير فى طريق مسدود، كل هذه كانت عوامل ساعدت علي انتشار موجات من التفكير اللاعقلى، وجعلت الأذهان أكثر استعدادا لقبول تفسيرات غيبية للظواهر، وهيأت العقول لنوع من الاستسلام جعلها تفقد ملكاتها القديمة، وتركن إلى التصديق الساذج لكل بدعة وكل خرافة تجد فيها أى نوع من التعويض". نعم هو يستطيع مثلا أن يفهم شيوع القول بظهور العذراء عليها السلام على قباب بعض الكنائس بالقاهرة واحتشاد الآلاف المؤلفة من أفراد الشعب حولها ومواصلتهم الليل بالنهار هناك فى مشهد يبعث على الشعور بالأسف البالغ وترك مصالحهم وانتشار الخرافات التى ليس لها أساس على الإطلاق فى مصر بُعَيْد هزيمة يونيه 1967م، وبالتالى إغلاق فمه تماما وعدم التطرق بكلمة واحدة إلى هذا الموضوع الذى يتنافى تمام التنافى مع أى تفكير علمى، إلا أنه لا يستطيع الصمت ولو للحظة واحدة على ما قاله د. عبد الحليم محمود فى طمأنة القيادة السياسية وأفراد القوات المسلحة وتبشيرهم بأن الله ناصرهم ومؤيدهم وغير خاذلهم أبدا ما داموا قد بذلوا كل ما يملكون من جهد، ومستعدين للتضحية بالغالى والرخيص فى سبيل الفوز، وجاهزين للاستشهاد فى سبيل الله دفاعا عن الوطن والدين والكرامة والعزة والحرية بعدما نجح النظام اليسارى الناصرى الاستبدادى الخانق للأنفاس والناشر للرعب، الذى لم يُضْبَط زكريا يوما وهو يكتب أو يقول كلمة فى نقده ولا حتى بعد الهزيمة اليونيوية القاصمة للظهر، فى تحقيق واحدة من أبشع الهزائم العسكرية والسياسية فى مصر طوال عصورها. وغريب أن يحاول فؤاد زكريا إيهامنا بأن هجومه على بشارة النصر هو محاربة للخرافة ودعم للفكر العلمى، مع أن ما عمله هو، بالعكس من هذا، تكريس للفكر غير العلمى على أشنع صورة يمكن تخيلها.
فمن المعروف أن الدول تحرص على رفع روح جيوشها المعنوية، وتلجأ فى هذا السبيل إلى كل الوسائل الممكنة والمتاحة بما فيها بث الشائعات وترديد الأكاذيب وشراء ذمم من يمكن شراء ذمته من أفراد الأعداء المؤثرين فى مسيرة المعارك. وفى الإسلام أن الحرب خدعة، وأن الكذب مباح فى عدة مواطن منها الحرب، إذ لا يعقل أن تذهب إلى الأعداء وتدلى بحقائق الأمور كما هى فى جيش وطنك بحجة أنك رجل صادق ولا يمكنك أن تقول غير الحقيقة، مثلما لا يعقل أن يصارح أى أسير مسلم آسريه بكل ما يسألونه عنه استنادا إلى أن المسلم رجل صادق وأن الكذب يؤدى فى النهاية إلى النار . وكان الرسول عليه السلام يُوَرِّى عن الموضع الذى ينوى الاتجاه إليه للحرب: فإذا كان ناويا الذهاب إلى الشرق أعلن أمام الناس أنه ذاهب إلى الغرب... وهكذا. وهذا كله معروف ومعتمد فى كل الدول والجيوش.
والآن فلنفترض أن د. عبد الحليم محمود، بالاتفاق مع قيادة الدولة والجيش، قد صرح بذلك دون أن تكون له حقيقة أصلا. فما وجه الخطر فى هذا؟ إن الجيوش جميعا تعلن أنها سوف تسحق عدوها سحقا وأنها قد أعدت له كذا وكذا دون أن تكون قد فعلت هذا حرفيا، كى تفت فى عضد جنود الأعداء وتدعم ثقة جنودها فى أنفسهم وتُحَمِّسهم وترفع طاقتهم على البذل والتضحية إلى أقصى درجة. أما إن جرت الأمور على غير ما يشتهى المبالغون فبالله عليك من يقف ساعتئذ عند هذه الأشياء؟ وذلك كله لو كان ما صرح به د. عبد الحليم محمود غير حقيقى، ومن باب رفع المعنويات القتالية عند الجندى المصرى ليس إلا. ذلك أننى لا أظن الرجل كاذبا أبدا، بل الذى أوقن به هو أنه رأى الرؤيا التى قصها علينا. ونحن بالخيار: إن شئنا عددنا ذلك بشارة، وإن شئنا قلنا إنها مجرد أحلام مما نحلمه جميعا فى مثل تلك الظروف التى تبعث على القلق وتذهب النفوس فيها تفتش عن بصيص من الأمل. وما ضرنا لو تمسكنا بهذا البصيص، وقد كان لا مناص لمصر فى تلك الأيام من خوض الحرب لا مخرج لها من ذلك، وبخاصة بعدما أكدت أمريكا أنه ليس من حق المهزوم أن يفتح فمه بكلمة مطالبا بالتفاوض؟
ومن هنا وجدنا محمد حسنين هيكل يكتب: "إننا لن نصل إلى حل لأزمة الشرق الأوسط حتى على أساس قرار مجلس الأمن إلا إذا خلعنا إسرائيل وبالقوة من المواقع التى تحتلها على أراضينا منذ سنة 1967، وبالتالى نكون قد غيرنا الأمر الواقع الذى فرضته إسرائيل علينا نتيجة لمعارك الأيام الستة، وفرضنا بدلاً منه وضعًا آخر أكثر ملاءمةً لحقوقنا" . لقد عملت القوات المسلحة كل ما فى وسعها، وكان لا يزال هناك قلق وخوف، وكان الشعب لا يكف عن مطالبة السادات بخوض المعركة. فهل يلام د. عبد الحليم محمود فى حكاية ما رآه فى منامه واتخاذه إياه دافعا إلى حسم قرار الحرب وطمأنة النفوس ورفع معنويات الجيش؟
أما الجعجعة بأن ذلك نشر للفكر الخرافى فإنى أحيل صاحبه إلى ما صنعه الاتحاد السوفييتى، ولا أظنه ينقد الاتحاد السوفييتى، فالرجل يسارى، والاتحاد السوفييتى هو قبلة اليساريين ومثلهم الأعلى. فماذا صنع الاتحاد السوفييتى فيما يتعلق بموضوعنا؟ لقد كان الاتحاد السوفييتى غارقا فى الحرب على أرضه مع ألمانيا، التى اكتسحت جيوشها دياره أثناء الحرب العالمية الثانية، فما كان منه، وهو الدولة القائمة على الكفر بالله واليوم الآخر والأديان، والتى تدرّس مادة الإلحاد كما ندرِّس نحن فى مدارسنا مادة الدين، والتى تعد الدين أفيونا للشعوب وتطارد الدين والمتدينين مطاردة لا هوادة فيها، والتى كانت قد أغلقت الكنائس منذ وقت طويل أو حولتها إلى مستودعات، ما كان منه إلا أن فتح الكنائس لجموع المؤمنين بالنصرانية من رعاياه لا لشىء إلا لكى يرفع معنويات الشعب السوفييتى، الذى يعرف أنه لا يزال يحن إلى الدين رغم كل ما فعله لقلع التدين من نفوس أفراده. ولما كان يريد من الناس أن يستبسلوا فى محاربتهم للنازيين، الذين يحتلون جزءا ضخما من أراضيه، ويعرف فى ذات الوقت أن طاقتهم على الكفاح والتضحية سوف ترتفع إلى مستويات عالية إذا ما أُطْلِقَتْ لهم حرية ممارسة الشعائر الدينية، فإنه قد اتخذ هذا القرار "المتخلف" (من وجهة نظر فؤاد زكريا وأمثاله) كى يكسب الحرب ويكسح القوات النازية من أراضيه. وهو ما كان، وهو أيضا ما تجاهله د. زكريا فلم ينبس بشأنه ببنت شفة، ولكنه رغم هذا نَبَسَ بكل بنات الشفاه إنكارا على شيخ الأزهر، الذى لم يفعل شيئا غير أن قال إنه شاهد فى المنام أن رسول الله قد عبر قناة السويس. فلا الشيخ قال: اتركوا التسليح والاستعدادات الحربية، ولا قال: انْدَفِعوا إلى محاربة الصهاينة اندفاعا أحمق لا يعرف التبصر ولا التخطيط، ولا يَأَّس المقاتلين وقنَّطهم من إحراز النصر كما فعل مقال هيكل الذى سلفت الإشارة إليه قبل قليل، والذى أخذ كاتبه يعدد فيه الموانع التى من شأنها أن تعرقل عبور الجيش المصرى لقناة السويس وخط بارليف، فضلا عن التوغل فى سيناء، وكذلك الخسائر الهائلة التى سوف نتكبدها كلما حاولنا التغلب على أى مانع من تلك الموانع المتتابعة مانعا وراء الآخر بحيث ساد الإحباط والسخط بين أفراد القوات المسلحة على خطوط النار عقب قراءتهم لذلك المقال.
ولعله من المناسب فى هذا السياق أن ننقل السطور التالية من كتاب "المتروبوليت إيليا كرم والروسيا" : "في أثناء الحرب العالمية الثانية، وعلى أثر حصار هتلر للمدن الروسية، وجه بطريرك روسيا ألكسـي الأول نداءً إلى العالم بضرورة إنقاذ روسيا من براثن النازية. بلغ النداء لبنان، فتأثر به المتروبوليت، خصوصا وأن علاقة مميزة كانت تربطه بروسيا من خلال اهتمامه بعائلات روسية من سلالة القيصر كانت تقطن في بيروت، وكان يشملها بعاطفته ويقدم لها المأوى والعمل. وقد ساعد على بناء عدة منازل لهذه العائلات على أرض في الحدث تابعة لأبرشيته. بلغه النداء أوائل عام 1942، فبكى واعتُصِر قلبُه غَمًّا، فلجأ إلى أمه السيدة العذراء في مغارة دير سيدة النورية في شمال لبنان حيث اعتكف ثلاثة أيام أمضاها في الصلاة والصوم والتضرع أمام السيدة العذراء لتُجَنِّب روسيا كأس الموت. وفي اليوم الثالث استجابت السيدة العذراء لتضرعاته، فظهرت أمامه وأودعته رسالة من شأنها تجنيب روسيا المخاطر المحدقة في حال الأخذ بها.
مُفَاد الرسالة أن على النظام الروسي الشيوعي، وكان يحكمه ستالين آنذاك، أن يعيد جزءا من الكنائس إلى البطريركية الروسية، ويفتح أبوابها أمام المصلين، وأن يحرر الإكليروس السجناء، وأن يسمح للإكليروس الذين يحاربون مع الجنود بممارسة الشعائر الدينية. على الفور استعان المتروبوليت بإحدى السيدات الروسيات، طالبا إليها ترجمة الرسالة إلى الروسية، ثم أرسلها إلى سـتالين وإلى القائمين على البطريركية الروسية آنذاك بواسطة الصليب الأحمر. وقد شاع أن ستالين تأثر كثيرا بالرسالة لدى استلامها، فأبلغها إلى السلطات العسكرية والكنسية، طالبا من الجنرال شباشنكوف، وكان رجلاً مؤمنًا، تطبيقها بحذافيرها، ولا سيما ضرورة الطواف بأيقونة "سيدة قازان" على كل الجبهات من أجل تبريكها. وبفضل هذه الرسالة السماوية اندحر الألمان على أبواب المدن الروسية، ولم يستطيعوا اختراق جبهاتها. وعندها ذاع صِيتُ المطران إيليا كرم في أرجاء البلاد، وسُمِّيَ على إثر ذلك: "منقذ روسيا". وفي عام 1947 زار المتروبوليت كرم روسيا بدعوة من ستالين ومن البطريرك أليكسي الأول حيث استقبل استقبال الملوك. وفي عام 1958 مُنِح أعلى وسام من الكنيسة الروسية مع البطريرك أليكسي الأول ومع الإمبراطور هيلاسيلاسى الأول، وهو وسام القديس فلاديمير من الدرجة الأولى".
وفى هذا الموضوع يكتب العقاد قائلا: "وجاء الامتحان الأول للعقيدة الراسخة الخالدة أيام الحرب العالمية الثانية، فنادى الكفار بالوطنية وبالدين أنها حرب الغيرة الوطنية، وأن المجاهدين أحرار فى العقيدة الدينية التى يُسِرّونها أو يعلنونها. ولم يكن جيل القيصرية هو الذى ألجأهم إلى التمسح بالوطنية أو بالحميّة الدينية فيقال إنه قديم شَبُّوا عليه وشَابُوا فلا مندوحة عنه فى إِبّان المحنة الداهمة، بل كان الجنود المقاتلون فى الصدمة الأولى من جيل بين العشرين والأربعين، أكبرهم لم يزد على الثالثة عشرة عند قيام الدولة الشيوعية، وتسعة أعشارهم على الأقل لم يتعلموا شيئا فى غير مدارسها، ولم يستمعوا كلمة من غير دعاتها. ولا تفسير لاستفزازهم إلا أنه إفلاس للمذهب المادى فى تكوين المجتمع وغرس الأخلاق فى نفوس لم يزاحمه عليها مزاحِمٌ من المهد إلى مُقْتَبَل الشباب" .
لقد لجأ د. فؤاد زكريا إلى الاتهامات الباطلة حين كتب يقول: "كان ما يثير الإشفاق فى هذه التعليلات هو أنها تهيب بقوى غير منظورة قيل إنها حاربت معنا. ولم يدرك مرددو هذه الأقاويل أن تصديقها معناه أن الذى انتزع النصر ليس هو الجندى المصري الباسل بدمه وعرقه وشجاعته، ومعناه أن العلم والتخطيط والحساب الدقيق لم يكن له إلا دور ثانوى فى كل ما حدث". ذلك أن الشيخ عبد الحليم محمود لم يَدْعُ يوما إلى إهمال الاستعدادات العسكرية أو غير العسكرية، بل المعروف أنه كان يحض الضباط والجنود على بذل أقصى طاقاتهم من أجل الفوز فى تلك المعركة، مبشرا الشهداء بأن مصيرهم الجنة، ومحذرا من يتقاعس بأنه من المنافقين. ومعروف أن المنافقين فى الدرك الأسفل من النار. وقد بذل الرجل جهودا كبيرة فى الطواف بمواقع القوات المسلحة المصرية المختلفة من طيران وبحرية وغيرها يحثهم على القتال ويرفع روحهم المعنوية ويحمسهم ويشحنهم بطاقة الإيمان والفداء، ويضع نصب أبصارهم الجنة التى وعد الله بها عباده المناضلين . ليس ذلك فحسب، بل إن د. فؤاد زكريا يحاسب الناس على نياتهم، التى يتهمها بما تشير كل الدلائل إلى أنها تمضى عكسه. ذلك أنه ينطلق كائلا التهم للدكتور عبد الحليم محمود كَيْلاً دون أن يتوقف لحظة ليفكر فى ضرر الخطة التى يتبعها فى اتهامه للرجل، فيقول إن "تصديق هذه الأقاويل يعنى ما هو أشد من ذلك وأخطر، إذ إن قائلها يفترض أن ما حدث كان "معجزة"، وأن الأمور لو تركت لكى تسير فى مجراها الطبيعى لما أمكن أن يحدث ما حدث".
أرأيت، أيها القارئ العزيز، كيف "يفترض" فؤاد زكريا أن د. عبد الحليم محمود "يفترض" كذا وكذا، ثم ينطلق كالإعصار يحطم فى طريقه كل شىء فى سمعة الرجل وتفكيره وعقيدته وشخصيته بناء على افتراضاتٍ مؤسَّسةٍ بدورها على افتراضات لا وجود لها إلا على سن قلمه الجامح، وإن كانت ثمرة كل ما قال لم تزد فى نهاية المطاف على الصفر. وفى فتاوى د. عبد الحليم محمود نقرأ ما يلى: "والنتيجة التى أريد أن أنتهى إليها... إنما هى العودة إلى الإسلام: 1- ملاحظةً وتجربةً ومنهجًا وقوةً مادية: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة". العودة إلى الإسلام من تسخير الأرض وتسخير السماء وتسخير ما بين الأرض والسماء وتسخير الكواكب وتسخير الشمس والقمر وتسخير البحار والأنهار. العودة إلى الإسلام أقوى ما تكون فى الجانب المادى 2- والعودة إلى الإسلام والاعتزاز بالإسلام أقوى ما تكون فى الجانب الثقافى، سواء اتصل ذلك بالعقيدة أو اتصل ذلك بالتشريع أو اتصل ذلك بالأخلاق" . وهو يلح بكل قواه على أن المسلمين آثمون أشد الإثم إن لم يتداركوا ما هم من تخلف علمى وصناعى بحيث يصبحون أقوى الشعوب والأمم . ويفيض، رحمه الله، فى الإلحاح على واجب الجهاد فى سبيل الدين والوطن والاستعداد التام لملاقاة أى عدوان فى أى وقت، ويحض الشباب على أن ينخرطوا فى الدفاع عن الوطن ويفدوه ويضحوا من أجله بكل ما لديهم من عزيز وغال، مؤكدا أن الجزاء هو الجنة، وأن مقام الشهيد عند الله سامق لا يلحقه مقام آخر، وأن للمرأة دورا فى الحرب يناسب طبيعتها، ولها عليه أجر كريم .
ثم هأنذا أستمع الآن إلى تسجيل حديث متلفز للدكتور عبد الحليم محمود فى أحد المساجد يتعرض فيه لما يسميه: "قانون النصر"، الذى ضرب المثل عليه بانتصارنا فى حرب رمضان المجيدة، فيلخصه فى الإيمان بالله والعمل الصالح، محددا العمل الصالح بأنه كل عمل نافع للمجتمع لا الصلاة فحسب، ومنه الإنفاق فى سبيل الله وعلى المحتاجين والفقراء، ومنه الاستعداد التام للمعركة قبل التفكير فى اقتحامها. ليس ذلك فقط، بل هناك دعوته الملتهبة إلى استغلال أرض مصر كلها بحيث نتمكن من زراعة عشرات الملايين من الأفدنة، ونحوّل صفرة الصحراء إلى خضرة، على الأقل بزراعة أشجار الزيتون، التى لا تحتاج، كما يقول، إلى رى إلا كل ثلاث سنوات، وهو ما نستطيعه بكل سهولة، إذ ليست هناك فى مصر بقعة لا ينزل فيها المطر لمدة تزيد عن ثلاث سنوات. على أن دعوته إلى التصنيع لا تقل التهابا عن دعوته إلى التوسع الزراعى، عازيا الرضا بالملايين الخمسة التى تقتصر الزراعة عليها فى بلادنا إلى التبعية للفكر الاستعمارى، الذى يريد بقاءنا ضعفاء اقتصاديا حتى نظل مضعضعين محتاجين، ومن ثم يسهل على الدول الغربية السيطرة علينا . وهو ما ينسف ما قاله د. فؤاد زكريا عن الشيخ نسفا.
وحين يتكلم الشيخ عن حروب الردة وتفاؤل أبى بكر ويقينه بالنصر فى تلك الحروب رغم كل الظروف الصعبة آنئذ، وانشراح صدر عمر لقرار أبى بكر بخوض الحرب وثقته فى أنه هو الحق وأن النصر آت بمشيئة الله رغم اعتراضه على الأمر فى البداية، نراه يقول: "مما لا مِرْيَة فيه أن هذا التفاؤل وهذه الثقة كان يصحبهما الاستقرار الكامل والتدبير المحكم والملاحظة الدقيقة لكل صغيرة وكبيرة. حتى إذا ما انتهت التدابير إلى غايتها، وأُعِدَّت العدة على أكملها، فوَّض المؤمن من بعد ذلك الأمرَ إلى الله سبحانه واعتمد عليه" . وهو يلح دائما على الأهمية البالغة للاستعدادات المادية والمعنوية للحرب ووجوبها التام، تستوى فى ذلك الدولة المواجهة للعدو مباشرة والدول العربية والإسلامية الأخرى مهما بعدت الديار، مع التركيز الشديد على دور الإيمان الحاسم فى المعارك وثماره المذهلة. وله فى ذلك لمحة ذكية، إذ يؤكد أن الطائرات لا تبعد عليها أية مسافة، وأن من ينكل عن الجهاد فقد نكل عن الدين، وأن الجهاد ألوان لا لون واحد: فقد يكون جهادا بالنفس، وقد يكون جهادا بالمال، وقد يكون جهادا بالوقت، وقد يكون جهادا باللسان، وقد يكون جهادا بالعمل والإنتاج .
وهو يقول فى هذا الصدد كلاما كبيرا لا يقوله إلا من يعرف قيمة الاستعداد للحرب، إذ بعد أن يستشهد بقوله سبحانه وتعالى فى سورة "التوبة": "لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ * إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ" يعقب قائلا فى شجاعة عاتية: "وأخرج الله سبحانه بهذه الآية الكريمة كل من تنكر للجهاد فردا كان أو دولة (يقصد أن الله أخرجهم من الإيمان). وتنكُّر الدول للجهاد إنما هو فى حقيقة الأمر تنكر من رؤسائها له. وإذا كانوا يبوؤون بالإثم قبل أن يبوء به شخص آخر فإن على شعوبهم أن تثور فى وجوههم ثورة تضطرهم إلى الدخول فى الجهاد بكل ما تملك الدولة من إمكانيات. فإذا لم يفعلوا فهم شركاء فى الإثم والخسران" . فكيف، بعد ذلك كله، يتهم د. فؤاد زكريا شيخَ الأزهر بأنه يعتمد على الخرافات؟
والآن هذه بعض كلمات من خطبة جمعة السادس عشر من رمضان 1393هـ الموافق الثانى عشر من أكتوبر 1973م ، وكانت خطبة ملتهبة الحماسة والإيمان تحرك الجماد ذاته وتدفعه دفعا إلى الحرب والتضحية والفداء. قال رحمه الله: "أيها الإخوة المؤمنون، لقد رأى أحد الصالحين رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاهبا إلى المعركة مع بعض علماء الإسلام، وكان مع هذا الرجل الصالح أحد الأصدقاء حين الرؤية، فقال له: أعلنها للملإ، بلغها للسيد الرئيس، وأعلنها لكل المسلمين... يا جنودنا البواسل، يا أمل الأمة ورجاءها، يا حماة كرامتها وشرفها، أنتم لا تواجهون العدو وحدكم، ولا تقاتلونه وحدكم. إنما يقاتل معكم ملائكة الله لأنكم تقاتلون فى سبيله وتنصرون دينه، وتردون المقدسات إلى أهلها. وكما قاتلت الملائكة مع صفوف المؤمنين يوم بدر فإنها اليوم تقاتل معكم، وتضرب أعداء الله معكم. وما يعلم جنودَ ربك إلا هو وحده سبحانه وتعالى. فإلى الأمام دائما، والله معكم موفقا ونصيرا" . فما الذى يمكن أن ينتقده أى منصف عاقل على الشيخ فى هذا الكلام حتى لو كان قد اخترعه اختراعا؟ أم تراه كان ينبغى أن يصنع صنيع القذافى المخبول حين خاطب، عبر الإذاعة المصرية، الجنود على خط النار فى بداية المعركة فأخذ يثبط من العزائم بحجج سخيفة سُخْفَ عقله، واصفا الحرب بأنها من أكبر خطايا السادات، ومشككا فى القيادة المصرية؟ ولا أدرى كيف أذن له المسؤولون المصريون آنئذ بمخاطبة الجيش على هذا النحو المتخلف الخبيث. وقد كتب د. يوسف إدريس مقالا عن القذافى بعنوان "ذلك الرجل المحيِّر للبَرِيَّة" جاء فيه أن "الخلاف بين السادات والقذافى ما لبث أن انفجر، وجاءت حرب 73 ليشكك القذافى فى أمرها ويعتبر أنها كارثة وأن مصر قد هُزِمَتْ" . ولعل السبب فى هذا الموقف الغريب والمريب من القذافى هو أن السادات لم يخطره بموعد بدء الحرب، فأرسل بعد بداية العمليات العسكرية بأيامٍ جِدِّ قليلةٍ يطلب سحب الطائرات الليبية التى كان قد سلمها بطياريها إلى مصر قبيل ذلك، وكأن الحرب لعب عيال فى الشارع! ولكن لماذا كان القذافى حريصا على معرفة ذلك الميعاد، وهو بعيد عنها، وليس متورطا فيها، ولا أرضه تحتلها إسرائيل؟
ولعل د. عبد الحليم محمود يشير إلى رأى هيكل وأمثاله من المثبطين حين قال فى مقال له بعد ذلك إننا "قد بدأنا معركتنا "باسم الله، والله أكبر"، وكان شعارنا فيها: "الله أكبر". وكان نداء "الله أكبر"، وما زال، يدوى فى سيناء أينما اتجه الإنسان فيها. ولقد أرانا الله سبحانه من آياته الكثير فى هذه المعركة: لقد وفقنا فى التوقيت، وكان التوقيت آية من لدنه. ولقد وفقنا فى العبور، وكان العبور آية ضخمة تفضل الله تعالى بها علينا. لقد كانت آية العبور آية عجيبة فاق توفيق الله فيها كل تقدير. لقد كان تقدير العقلاء الحاسبين فيما يتعلق بالاستشهاد فى العبور أن الاستشهاد يبلغ حوالَىْ ستين الفا، وأننا لو عبرنا مع هذه الآلاف من الشهداء نكون قد نجحنا نجاحا عظيما. وكان تقدير المتفائلين أن الاستشهاد حَوَالَىْ أربعين ألفا، وأننا لو عبرنا بهذا العدد من الشهداء كان ذلك نجاحا لا شك فيه. وكان تقدير الواهمين يقدر له خمسة عشر ألف شهيد، وكان هذا التقدير فى رأى الآخرين وهما من الأوهام. وهؤلاء وأولئك يَرَوْن بمنطقهم الحسابى أن العبور ضرورة ولو اسْتُشْهِد نصف الجيش. إنها معركة مصيرية، ولا بد أن نضحى فيها بكل ما تتطلبه من أجل العبور، والعبور نجاح على أى وضع من أوضاع الاستشهاد.
إن خط بارليف أحكمه مهندسو الأمريكان. لقد أحكم صنعه عباقرة اليهود الأمريكان الذين تربَّوْا فى أرقى الأوضاع العالمية، وفى أرقى البيئات حضارة ومدنية، ولم يبخل اليهود عليه بمال، ولم يَدَعُوا صغيرة ولا كبيرة إلا وتدبروها. إنهم لم يتركوا شيئا للمصادفة، وسلحوا الخط: سلحوه بالعتاد، وسلحوه بالنابالم، وسلحوه بالرجال، وظنوا كعادتهم "أنهم مانِعَتُهم حصونُهم من الله"، وأعلنوا ذلك. لقد أعلنوا أن حصنهم خالد، وأنهم من ورائه لا يُقْهَرون، وأن كل تفكير لمهاجمته، مجرد التفكير، ضرب من الجنون. وأعلن الغرب معهم ذلك، وظن ذلك معهم الشرقيون والعرب، بل أيقنوا بذلك! ثم "فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا"، وكان توفيق الله سبحانه مكذبا لتقدير العقلاء الحاسبين! وكان توفيق الله تعالى مكذبا لتقدير أصحاب الخيال المتفائلين! وكان توفيق الله سبحانه وتعالى مكذبا لوهم الواهمين. وعبرنا بتوفيق الله، وكان العبور آية من آيات الله، وكان عدد الشهداء أقل من مائتين!" .
ومن الطريف، بل من المضحك، أن يقول د. زكريا إن "فكرة إقامة دولة إسرائيل نفسها فكرة مضادة لكل المسار الحضاري الذى سلكه العالم المتمدين منذ نهاية العصور الوسطى حتى اليوم لأن هذه دولة تقوم علي أساس ديني عنصري، وتتجاهل الاتجاه إلى الفصل بين الدين والدولة، الذى كافحت من أجله المجتمعات الغربية وأصبح دعامة أساسية من دعامات الفكر السياسى والاجتماعى فيها"، وإن "إسرائيل فكرة تقوم أصلا على خرافة. وفى وسعنا أن نستغل الميول العلمانية القوية التى تسود المجتمعات الغربية فى محاربة إسرائيل بسلاح لن يكلفنا شيئا. ولكنه، فى نظر العقول المستنيرة، سلاح فعال إلى أقصى الحدود. أما إذا التجأنا نحن بدورنا إلى اللامعقول فإننا نضيع بذلك على أنفسنا فرصة رائعة للتفوق المعنوى على العدو فى نظر العالم المتحضر".
ووجه الطرافة، بل الإضحاك، فيه أن ذلك العالم المتقدم الذى يوهمنا د. فؤاد زكريا بأنه سوف يقف معنا (فى المشمش طبعا!) ضد إسرائيل متى ما بيَّنّا له أنها دولة تقوم على الأساطير والخرافات، هو نفسه العالم الذى خلق إسرائيل من العدم خلقا وساعدها على خلق أساطيرها وخرافاتها التى تدعم وجودها. فكيف بالله عليكم، أيها القراء، يحاول د. زكريا إقناعنا بأن هؤلاء القتلة الذين مَكَّنوا وما زالوا وسيظلون يمكِّنون إسرائيل من جَزْر رقابنا وبَقْر بطون نسائنا وهدم بيوتنا ومدارسنا ومستشفياتنا ومساجدنا وحقولنا وقتل شبابنا ورجالنا وأطفالنا هم أنفسهم الذين سيسارعون إلى نجدتنا والوقوف معنا ضد إسرائيل؟ هل يمكن أن يقف القاتل اللص ضد نفسه؟ الحق أن هذا كلام لا يمكن أن يصدقه إلا السُّذَّج الأغرار. والحمد لله ما نحن بسذج ولا أغرار. أما الفصل بين الدين والدولة فإنه كلام للتصدير لنا ولأمثالنا، وإلا فمن الذى يجيش جيوش التنصير فى بلاد المسلمين؟ أليست هى نفسها تلك الدول الغربية؟ ومن الذى يفرق فى التعامل بين دول العالم الثالث النصرانية ونظيرتها الإسلامية فيقف مع تلك ويقف ضد هذه؟ أليست هى نفسها تلك الدول الغربية؟ إن كلام د. زكريا ليذكرنى بالمثل الشعبى القائل: مُتْ يا حمار حتى يأتيك العَلِيق!
وأما محاولته اتهام الشيخ عبد الحليم محمود بأنه، بِقَصِّه رؤياه تلك، إنما يتجاهل جهود القوات المسلحة واستعداداتها للحرب ويعمل على نشر الفكر الخرافى اللامعقول فهى محاولة مقضى عليها بالفشل، إذ لم يقل أحد من القادة أو الضباط عن الشيخ ذلك ولا نظر إلى ما قاله هذه النظرة الزكرياوية. بل بالعكس رأينا بعض كبار القادة العسكريين المصريين يتحدثون عن الحرب فيذهبون إلى أبعد مما قاله. وهم، حين يؤكدون هذا، يستندون إلى أشياء يذكرون أنها حدثت لهم أثناء المعارك. ومن هؤلاء اللواء أركان حرب محمد الفاتح كريم، مساعد وزير الدفاع الأسبق وأحد قادة حرب أكتوبر، إذ سئل عن واقعة حدثت خلال إحدى المعارك التى دارت بين كتيبته وبين قوات العدو الصهيونى: ما قصة الرهط (الإسرائيلى) الذي هرب مذعورًا؟ فكان جوابه: هذا الرهط كان بالفعل متوجِّهًا إلينا، ولكنه وهو في طريقه لنا أحسَّ بأن هناك دعمًا مصريًّا، ففَرَّت الدبابات الصهيونية هاربةً! فعاد السائل يسأله: إذن هذا الدعم كان سببًا في نجاتكم واقتحام الجبل؟ فقال: لم يكن هناك دعم. هم ظنوا ذلك، وما حدث أن ما شاهدتْه دبابات العدو كانت بقايا الكتيبة اليمنى التي حاصرها العدو أثناء ذهابنا لاقتحام الجبل، وقد فَضَّل قائدها الاشتباك مع العدو عن الوقوع في الأسْر، فحدثت معركة حامية بينهم. وعندما جاء رهط دبابات العدو لم يشاهد إلا الدبابات المصرية التي كانت تحاول الاشتباك مع القوات التي كانت تحاصرها، فظنوا أنهم في طريقهم لدعمنا، ففروا هاربين. وهي آية من آيات هذه الحرب. فكان السؤال التالى: هل لهذا السبب أطلقت عليها: "حرب الملائكة"؟ فَرَدَّ قائلا: يحاسبني الله عز وجل على ما أقوله لك، فقد شاهدتُ بعيني قوات تحارب في صفنا، وأعدادًا غفيرةً ليست قليلةً، وكانت ترتدي ثيابًا بيضاء. ولست وحدي الذي شاهدهم، بل كان معي جنودي. وعندي الدليل على ذلك، فبعد أن قمنا بتعطيل رهط دبابات العدو حدثت اشتباكاتٌ مع قوات صهيونية أخرى. وكما أشرت فإن تسليحنا كان خفيفًا جدًّا: عبارة عن مسدسات ورشاشات متوسطة. ولأنه ليس باليد حيلة إلا الدفاع عن أنفسنا فكنا نضرب رصاصنا، ونحن نعلم أنه لن يصيب أحدًا، ولكنها المعجزة حيث كنا نشاهد جنود العدو يتساقطون قتلى وجرحى، ولا نعرف من الذي يضربهم. إنها الملائكة التي حاربت معنا كما حاربت مع نبينا صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر، وهو الموقف الذي تكرر بعد ذلك أثناء وجودنا في الجبل وقت الثغرة .
ومنهم اللواء يسرى عمارة، آسر عساف ياجورى، القائد الصهيونى الذى أحدث أسره ضجة فى العالم كله، إذ أبرز عمارة، فى لقائه بطلاب مدرسة ابن سينا الإعدادية ببور سعيد يوم الاثنين الموافق 25 أكتوبر 2010م، التدريبات القاسية التي كان الجنود يتدربون عليها وسط ظروف مناخية ونفسية صعبة، وخاصة بعد عودة الجنود من حرب اليمن وبعد حرب 1967م، والتدريبات على العبور ليل نهار، والروح المعنوية العالية للجنود بمجرد علمهم بالعبور، وكذلك القوة البشرية الخارقة التي يتمتع بها الجندي المصري، الذي كان يحمل مدفعا يفوق 120 كج بخلاف مهماته، التي تزن 50 كج ويصعد بها الساتر الترابي، الذي يفوق سبعة أدوار دون مساعدة من أحد. إلا أنه قد أضاف إلى ذلك كله البعد الإيمانى، إذ حين سئل: هل شاهد الملائكة تحارب مع الجنود وتعبر القناة؟ أجاب بأنه، عند بداية الحرب وأثناء عبورالجيش المصرى للقناة، شاهد جنودا يقفون وسط المعركة وقد أداروا ظهورهم للعدو ووجوههم إلى المقاتلين المصريين يهيبون بهم أن يتقدموا، كما كانوا يقرأون القرآن فوق التباب العالية والسواتر الترابية شرق القناة وسط زخات المدافع والطلقات، وكأنهم يصدون عن جنودنا هذه الطلقات بظهورهم دون أن يصابوا أو يقتلوا.
وكان اللواء عمارة واضحا فى تأكيده بأنه، إلى جانب الأبعاد العسكرية من تخطيط وإعداد وشحن معنوي وعسكري لجميع طوائف الشعب المصري، كان هناك أيضا بُعْد إيماني تجلى فيما ذكره الدكتور أحمد عمر هاشم فى خطبته يوم الجمعة الثامن من أكتوبر 2010م من مسجد السيد البدوي حين أشار إلى أن فضيلة الشيخ عبد الحليم محمود كان قد طلب قبل المعركة مقابلة الرئيس السادات، وأنه عند المقابلة دار الحوار كالتالي:
الرئيس السادات: فضيلتك طلبت مقابلتي لأمر هام. خير إن شاء الله؟
شيخ الازهر: يا سيادة الرئيس، الأمر خير إن شاء الله. وأنا أقول لك: اعبر قناة السويس علي بركة الله.
فدهش الرئيس السادات مما قاله شيخ الأزهر وسأله: ما الذي دفعك إلى أن تطلب مني عبور القناة، وبهذه الثقة؟
فرد عليه الشيخ قائلا : يا سيادة الرئيس، لقد رأيت في منامي هذه الليلة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم يعبر القناة، ومن خلفه الجيش المصري" .
فها هما ذان قائدان عسكريان كبيران من المحاربين الذين يؤكد د. فؤاد زكريا أن كلام د. عبد الحليم محمود من شأنه تحقير الجهود التى قاموا بها تدريبا واستعدادا وتضحية، يقولان بملء الفم شيئا قريبا جدا مما قاله الشيخ الجليل. والآن نحن أمام طريقين: إما أن نصدق أن ما قاله ذانك القائدان العسكريان الكبيران قد حدث فعلا فى الواقع الخارجى وأنه ليس هلاوس بصرية مثلا، وعندئذ فلا مشكلة، وإما أن نتهمهما بأنهما شخصان يهلوسان أو يؤمنان بالخرافات مثل عبد الحليم محمود، وفى هذه الحالة سيكون الرد بأن جيشنا إنما كان يتكون فى قمته من أمثال هذين القائدين، وهو الجيش الذى أنزل بإسرائيل هزيمة ساحقة، وكانت أولى هزائمها فى تاريخها، الذى نرجو أن يكون قصيرا بمشيئة الله. أى أن النصر المصرى قد تم على أيدى المهلوسين أو المؤمنين بالخرافات، ولم يتم فى عهد عبد الناصر على أيدى اليساريين المنكرين لتلك الخرافات، اليساريين الذين تتلمذوا على يد هنرى كورييل اليهودى وأشباهه. وفى ميدان الألعاب الرياضية مثل يقول: الذى تَغْلِب به العب به. وأتوقف هنا فلا أزيد.
وقد أشار د. فؤاد زكريا إلى القيمة العظيمة لحماسة الجندى المصرى فى إحراز النصر فى حرب رمضان المجيدة، وجاءت إشارته فى سياق اتهام الشيخ عبد الحليم محمود بأنه يعمل على طمس الجهود العسكرية التى بذلها ضباطنا وجنودنا استعدادا للحرب مع الصهاينة، وفاته أن مقدارا كبيرا من تلك الحماسة مبعثه إيمان الجندى المصرى بالله واليوم الآخر، واعتقاده فى الجنة والنار، واقتداؤه برسول الله ورغبته فى أن يحشر معه يوم القيامة، وسعادته بوقوف الملائكة إلى جواره فى هذه الحرب، واستبشاره أن يكون الرسول قد عبر قناة السويس فى الرؤيا التى رآها الشيخ الجليل، حتى وجدناه يهتف وهو يعبر القناة ويحطم خط بارليف: "الله أكبر"، وهو ما انعكس بدوره فى كلمات أغانى تلك الفترة المجيدة. أما فى العهد السابق فقد قرأنا أنهم كانوا يقولون للمعتقلين المتدينين، حينما يصرخون مبتهلين إلى الله أن ينقذهم مما يتعرضون له من تعذيب وحشى: إن الله محبوس فى الزنزانة التى بجواركم، فكيف يغيثكم، وهو لا يستطيع أن ينقذ نفسه؟
فذلك هو الإيمان الذى يعرفه ويقتنع به ذلك الجندى المظلوم على يد د. فؤاد زكريا، وهو أوسع وأعمق وأنجع كثيرا من الإيمان الذى لا يفهم سواه الأستاذ الدكتور، والذى "يتمثل فى تلك الرغبة الجارفة التى ازدادت فى كل يوم إلحاحا طوال ست سنوات فى تحرير قطعة عزيزة من أرض الوطن، وفى تبديد خرافة "الجيش الإسرائيلي الذى لا يقهر" و"الجيوش العربية التى تفر من أول طلقة"، وفى مسح عار 1967. والأهم من ذلك كله الإيمان بأن هناك قضية عادلة تستحق أن يضحى المرء بحياته من أجلها. هؤلاء جميعا كانوا "جنود الخفاء" الذين وقفوا يحاربون معنا، والذين رفرفوا بأجنحتهم البيضاء الناصعة محلقين فى سماء المعركة، والذين تمكنّا بفضلهم من تقديم أروع الأمثلة فى الشجاعة، وتحقيق نتائج عسكرية لم يكن يتوقعها أشد أنصارنا تفاؤلا" بنص عبارة الأستاذ الدكتور. وواضح تمام الوضح طبيعة ذلك الإيمان، فهو إيمان لا صلة له بالله والملائكة واليوم الآخر، ولا ريب فى أنه أضيق أفقا من الإيمان بالله واليوم الآخر. وكان هذا بالمناسبة هو نوع الإيمان الذى كان يروجه كهنة اليسار فى عهد عبد الناصر. وقد حقت الهزيمة على جيشنا آنذاك، وكانت فضيحة مخزية لم يخجل لها أولئك الكهنة.
وقد لخـَّصَتِ الأمرَ كلَّه السطورُ التالية التى نقلتُُها عن أحد المواقع المشباكية: "لعل من أسباب النصر أنه أعيد تشكيل القوات المسلحة على أسس علمية، وتم شحن الجنود بالثقة فى أنفسهم وثقتهم فى النصر لأنهم يحاربون من أجل قضية عادلة. وكان للفريق محمد فوزى الفضل بعد الله فى ترميم ما انكسر من القوات المسلحة، وصار الجندى أقوى عزيمة لأنه يطلب إحدى الحسنيين: إما النصر أو الشهادة، وكانت فترة البناء مقدمة لحرب الاستنزاف الموجهة للعدو، وكأن الجنود يمتثلون قول المولى تعالى: "إن تكونوا تَأْلَمُون فإنهم يَأْلَمُون كما تألمون"، ولكن الفارق بيننا وبينهم كما يحكى القرآن: "وتَرْجُون من الله ما لا يرجون". ولا نستطيع أن نغفل أن أهم وأعظم سبب فى النصر أن الله كان معنا بعونه وتأييده، فكان الله عز وجل أقدر من كل معوق للنصر. وكان من المبشرات أيضا أن العالم الجليل الشيخ عبدالحليم محمود رحمه الله قد رأى فى رؤيا أن سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم يتقدم صفوف الجند. وهذه البشرى تشبه تماما قتال الملائكة مع المؤمنين فى غزوة بدر".
وفى موقع "الحوار المتمدن"، الذى يكتب فيه من يجرون على سنة الإلحاد وإنكار الغيبيات ويرونها مظهرا من مظاهر التخلف والإيمان بالخرافات، قرأت لمن يسمى: أحمد القاضى أن "القرآن أكبر مخزن للخرافات، ولا يضاهيه في ذلك إلا التوراة. بعد غزوة بدر، التي حقق فيها محمد نصرا غير متوقع، كان يعلم بحكم الأعراف السائدة أن القرشيين سيأتون للثأر وأن معارك أخرى لا بد قادمة، فأراد أن يطمئن تابعيه ومصدِّقيه من المهاجرين والأنصار ويثبت قلوبهم بزعم أن ملائكة من السماء نزلت وحاربت معهم في بدر. وصاغ تلك الأكذوبة في آية من آياته بقوله: "إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ". ولعل من تمام الغيبوبة والانقياد الأعمى أن أحدا لم يسأله بعد ذلك: لماذا لم تنزل تلك الملائكة يوم غزوة أحد، التي هُزِم فيها محمد؟ هل منعها ربها أم راحت في غفوة ظهيرة؟ وإلى يومنا هذا تستخدم هذه الاكذوبة المحمدية لرفع الروح المعنوية للمقاتلين المسلمين حتى إن شيخ الازهر إبان حرب 1973 بين مصر وإسرائيل قال في تصريح مشهور نشر في الصحف الرسمية المصرية آنذاك بأن الملائكة حاربت مع الجنود الذين اقتحموا خط بارليف" .
والواقع أن هذه لو كانت، أستغفر الله، أكذوبة، فما أعظمها من أكذوبة! فكثيرا ما اعتمدت انتصارات الجيوش على الأكاذيب والشائعات والجواسيس والخداعات والبيانات التى تهدف إلى رفع الروح المعنوية لجنود الوطن وتحطيمها لدى جنود العدو دون أن يكون ما تتضمنه من أرقام ووقائع صحيحا البتة. ولكن ألا يلاحظ الكاتب المتمرد أن الإسلام ظل يشق طريقه صُعُدًا منذ سطعت أنواره إلى أن فتح البلاد شرقا وغربا وأنشأ حضارة عظيمة تحققت فى أقل وقت وبأبسط الوسائل، ودامت أطول زمن ممكن رغم هذا كله؟ وليقارن بين ذلك وبين الاتحاد السوفييتى، الذى يؤمن هو وأشباهه بأنه مثال على الدولة التى تعتمد على العلم، والعلم وحده، وتنبذ الخرافات والغيبيات، وتتخذ من الإلحاد أساسا لثقافتها، وليقل: أين الاتحاد السوفييتى الآن؟ وكيف يا ترى اختفى من الوجود فى بضع عشرات من السنين رغم علميته ونبذه للخرافات والأوهام؟ وكيف ثارت عليه الشعوب التى تخضع له حتى انهار تماما وصار فى خبر "كان"؟ أما غزوة "أحد"، التى يتظرف بأن الملائكة أثناءها كانت فى غفوة ظهيرة فلم تساند المسلمين، فقد فات ذهنَه المتعجِّلَ المتخبِّلَ أن النبى، فى بداية المعركة، كان قد نبه الجنود الذين كلفهم بحماية ظهر الجيش ألا يبارحوا موضعهم مهما كانت الأسباب والظروف، إلا أنهم للأسف اغتروا بالنصر الأولى الذى أحرزه المسلمون فى بداية الأمر، فلم يُصِيخُوا لأوامره واندفعوا مع سائر جنود الجيش المسلم لجمع الغنائم عند انكسار المشركين وفرار قواتهم، ظنا منهم أن المعركة قد انتهت بانتصار المسلمين انتصارا حاسما ساحقا، فما كان من خالد بن الوليد، الذى كان منسحبا بجنوده آنذاك وأبصر مؤخرة الجيش المسلم مكشوفة، إلا أن انقض على المسلمين من ورائهم، محولا بهذه الطريقة نتيجة الحرب بالنسبة للمشركين من هزيمة إلى نصر. فكان هذا درسا للمسلمين أن الله لا يقف معهم على طول الخط دون قيد أوشرط، بل لا بد لهم من الأخذ بالأسباب والالتزام الصارم بأوامر القيادة وعدم الاغترار بكونهم مسلمين، ونبذ الاعتقاد الساذج بأن النصر يسير دائما فى ركابهم مهما فعلوا. وأخيرا فلا بد من القول بأن من انهزم فى أحد ليس هو الرسول كما يقول الكاتب المتمرد، بل المسلمون بسبب إهمالهم لأوامره المشددة بعدم مبارحة أماكنهم خلف الجيش مهما كان الأمر.
لكنْ من الواضح أن المسمى: أحمد القاضى، فى تهوره واندفاعه وعدم تبصره فيما يكتب، لا يستطيع أن يدرك هذه الأبعاد، التى ألح عليها القرآن الكريم والحديث الشريف أيما إلحاح والتى أهملها المسلمون للأسف مع تطاول الزمن فحقت عليهم سنن الله فى الدنيا، فانحدرت أحوالهم ثمرةً لهذا الإهمال والتواكل وفقدان الطموح، والخنوع للقهر والاستبداد، والرضا بالمذلة والهوان، والتسرع الأحمق عند بعضهم إلى اتهام الإسلام بأنه هو سبب تخلفهم رغم ما هو معروف من أنه هو السبب الوحيد فى تقدمهم، وأن تخليهم عن مبادئه وقيمه وتمسكهم بدلا من ذلك بالقشور التافهة تفاهة عقولهم هو السبب فيما يقاسونه منذ قرون من التقهقر والانهيار. ولكن على من تغنى مزاميرك يا داود؟
وبعد، فإن موقف د. عبد الحليم محمود فى معركة رمضان المجيد يذكرنا بموقف مشابه لأبى الحسن الشاذلى حكاه الأستاذ الدكتور نفسه، إذ كتب أن ذلك الصوفى القديم كان حريصا، رغم كف بصره وشيخوخته، على أن يشترك فى معركة المنصورة التى خاضتها القوات المصرية ضد حملة لويس التاسع الصليبية، فكان يمر بين الجنود يشجعهم ويحثهم ويبشرهم بالنصر والجنة، ويقضى ليله مبتهلا إلى الله فى خشوع أن يُنْعِم على جيوش المسلمين بالفوز، إلى أن رأى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة من الليالى فى رؤيا طويلة، فلما أصبح الصباح هب يبشر الجنود بالنصر، وهو ما تحقق بفضل الله، وبفضل الصمود والكفاح والثبات والتضحيات الجسام والرغبة فى الاستشهاد لدى الجنود والقادة .
 
بارك الله فيك
سنفرد له وقتا للقراءة والاستفادة
وقد فعل صادق العظم في نقد الفكر الديني مثل فؤاد ذكريا ولكن بعد الهزيمة لعام67
 
لقد حيرنى هذا الكتاب كما لم يحيرنى كتاب ألفته من قبل نظرا إلى انقسام نفسى بين إجلال الدكتور عبد الحليم محمود لمواقفه النبيلة الشجاعة تجاه الحكام والمسؤولين فى مصر كما لم يصنع شيخ للأزهر من قبل أو من بعد وبين معارضته فى معظم ما كان يعتقده فى المتصوفة. بل لقد بكيت مرة وأنا فى منتصف الكتاب بسبب ما عانيته فى الكتابة عن الرجل، رحمه الله رحمة واسعة وبوأه الفردوس الأعلى. وشكرا للصديق العزيز الأستاذ منينة.
 
نتمنى ان تتحفنا يادكتور ابراهيم بمقالاتك دائما فهي تحفة العصر في وجه الكتلة السامة والمسمومة من الذين يريدون نشر العلمنة الفكرية المادية في ديار الاسلام
هاأنت استاذي ترى نبتهم في وسط الثوار يمتلئ غيظا من خروج دستور فيه نصوص عن المواطنة والتعددية المقررة اسلاميا من بداية التاريخ الاسلامي والى اليوم ، وقد كان اقطابهم قد شحنوا عقولهم ونفوسهم بحملة أكاذيب استمرت لعقود عن خلو الاسلام والاسلاميين من التسامح وانهم يرفضون المواطنة وغير ذلك من امور
ان هؤلاء الشباب اصبحوا زرعا ونبتا علمانيا طائشا اصابته صدمة وزلزالا عنيفا لانهم ماكانوا يتصورون ان اقطابهم خدعوهم الى هذه الدرجة غير انهم بدل ان يعترفوا بالتزوير الفكري وان حرب الاشاعات طالتهم وكونتهم وصنعت لهم خيالا كاذبا ضد الاسلام واهله راحوا يهتفون ضد من صنع لهم دستورا ارادوه ولكن تحت"شرف" العلمانية والليبرالية واذا به يخرج من الجانب الظلم من حياة هؤلاء الشباب ، اعني الجانب الذي اظلموه وظلموه، جانب حملة الاسلام، فكانت كرامة الاسلام وعلو اهله علما وعملا هي المنتجة ماظنوا انهم هم رواده وعماله فكان الشرف في الاسلام وكانت المفاجأة
والآن انت بكتاباتك تقوم بعمل في الثورة من الاهمية الكبرى بمكان لانه عمل ممهد للتغيير الذهني والثقافي، العلمي وكأنني ارى ابن عباس يحاور الخوارج في افكارهم الطائشة عن افضل جيل في التاريخ وهو جيل الصحابة
اننا ندافع عن نفس الجيل وماحملوه للعالم مما انتج حضارة رائعة يخفيها-غالبا- سحرة العلمانية والليبرالية في جعبتهم الرثة ويخرجون ثعابينهم لسحر اعين الناس
سيدي
انت تعلم ان صاحب كتاب ماهي النهضة وهو لويس عوض كتب في كتابه الشيء الكثير مما انتجته الحضارة الاسلامية ويظن القارئ للكتاب وهو يتنتقل في الصفحات الاولى او الوسطى ان الرجل منصف ولكن القارئ يفاجي بما لم يكن يتوقعه وكأن هناك ثقوب سوداء في بؤرة تفكيرهم، فإذا بك تجد الرجل يقول اننا يجب ان نلتحق باوروبا ونترك الشرق وعقائده الزراعية!
هناك خلل كبير في نفسية هؤلاء الاغراب
ولذلك فنتمنى ان تنتشر كتابات حضرتكم في كل مكان لبيان الحقيقة الغائبة
 
فى نيتى، إن شاء الله، أن أنشر فصلين آخرين من الكتاب المذكور، وأرجو أن يوفقنى الله إلى ذلك.
 
نتمنى ان تتحفنا يادكتور ابراهيم بمقالاتك دائما فهي تحفة العصر في وجه الكتلة السامة والمسمومة من الذين يريدون نشر العلمنة الفكرية المادية في ديار الاسلام
ولذلك فنتمنى ان تنتشر كتابات حضرتكم في كل مكان لبيان الحقيقة الغائبة
هل التفكير العقلاني الذي يرفض بصرامة وينتقد اي ايمان بهذه الخزعبلات والخرافة هو المتهم عندكم؟؟؟
هل يعتبر التفكير العقلاني هو الكتلة السامة والمسمومة بتعبير الأخ طارق؟؟؟
لكن لا مانع من الانتصار للتفكير اللاعقلاني والأيمان بالخزعبلات والخرافة وجعلها الحقيقة الغائبة عند طارق منينة والتي يؤمن بها صاحب هذا المقال بل ايضاً يدافع عنها ويريد أخ طارق منه بنشرها في كل مكان، هذه الخزعبلات والخرافة الموجودة في ثنايا المقال بل في المقال كله اللهم الا اقتباسات آراء فؤاد زكريا اذ ما فهمته من كلامه هو النقيض لمثل هذا التفكير اللاعقلاني والأيمان بهذه الخزعبلات والخرافة.
 
ما كان منه إلا أن فتح الكنائس لجموع المؤمنين بالنصرانية من رعاياه لا لشىء إلا لكى يرفع معنويات الشعب السوفييتى، الذى يعرف أنه لا يزال يحن إلى الدين رغم كل ما فعله لقلع التدين من نفوس أفراده.
 
مصدر القرآن ..دراسة لشبهات المستشرقين و المبشرين حول الوحي المحمدي.
المؤلف: الدكتور ابراهيم عوض

المحقق/المترجم:

4504alsh3er.jpg


http://www.al-maktabeh.com/ar/play.php?catsmktba=79
دائرة العارف الاسلامية الاستشراقية .. اضاليل و اباطيل
المؤلف: الدكتور ابراهيم عوض

المحقق/المترجم:

4506alsh3er.jpg



نصوص انجليزية استشراقية عن الاسلام
المؤلف: الدكتور ابراهيم عوض

المحقق/المترجم:

4505alsh3er.jpg


http://www.al-maktabeh.com/ar/play.php?catsmktba=124
المستشرقون و القرآن...دراسة لترجمات نفر من المستشرقين الفرنسيين للقرآن و ارائهم فيه
المؤلف: الدكتور ابراهيم عوض

المحقق/المترجم:

4507alsh3er.jpg



http://www.al-maktabeh.com/ar/play.php?catsmktba=330
عصمة القرآن الكريم و جهالات المبشرين...الرد على الكتاب الفاشل "هل القرآن معصوم؟ لعبدالله عبدالفادي الفاضي"
المؤلف: الدكتور ابراهيم عوض

المحقق/المترجم:

4508alsh3er.jpg


http://www.al-maktabeh.com/ar/play.php?catsmktba=82
اليسار الاسلامي و تطاولاته المفضوحة على الله و الرسول و الصحابة
المؤلف: الدكتور ابراهيم عوض

المحقق/المترجم:
4516alsh3er.jpg

http://www.al-maktabeh.com/ar/play.php?catsmktba=133
 
هتك الاستار عن خفايا كتاب "فترة التكوين في حياة الصادق الآمين.."لكن محمد لا بواكي له"..العار
المؤلف: الدكتور ابراهيم عوض

المحقق/المترجم:
4509alsh3er.jpg

http://www.al-maktabeh.com/ar/play.php?catsmktba=81
مع الجاحظ في الرد على النصارى
المؤلف: الدكتور ابراهيم عوض

المحقق/المترجم:
4510alsh3er.jpg

http://www.al-maktabeh.com/ar/play.php?catsmktba=62
سورة النورين - التي يزعم فريق من الشيعية انها من القرآن الكريم...دراسة تحليلية اسلوبية
المؤلف: الدكتور ابراهيم عوض

المحقق/المترجم:
4511alsh3er.jpg

http://www.al-maktabeh.com/ar/play.php?catsmktba=54
 
القرآن والحديث مقارنة أسلوبية
المؤلف: الدكتور ابراهيم عوض

المحقق/المترجم:

4514alsh3er.jpg


http://www.al-maktabeh.com/ar/play.php?catsmktba=182
سورة المائدة..دراسة اسلوبية فقهية مقارنة
المؤلف: الدكتور ابراهيم عوض

المحقق/المترجم:

4515alsh3er.jpg


http://www.al-maktabeh.com/ar/play.php?catsmktba=664
إفتراءات الكاتبة البنجلاديشية تسليمة نسرين على الاسلام و المسلمين
المؤلف: الدكتور ابراهيم عوض

المحقق/المترجم:

4517alsh3er.jpg



http://www.al-maktabeh.com/ar/play.php?catsmktba=660
النزعة النصرانية في قاموس المنجد
المؤلف: الدكتور ابراهيم عوض

المحقق/المترجم:

4518alsh3er.jpg


http://www.al-maktabeh.com/ar/play.php?catsmktba=1960
الكتاب الفضيحة: " مقدمة في فقه اللغة العربية" ام "في الجهل و الحقد و البهلوانية؟"
المؤلف: الدكتور ابراهيم عوض

المحقق/المترجم:

4519alsh3er.jpg



http://www.al-maktabeh.com/ar/play.php?catsmktba=155
ماذا بعد اعلان سلمان رشدي توبته؟ دراسة فنية وموضوعية للآيات الشيطانية
المؤلف: الدكتور ابراهيم عوض

المحقق/المترجم:
4520alsh3er.jpg

http://www.al-maktabeh.com/ar/play.php?catsmktba=1978
 
المستشرقون و القرآن...دراسة لترجمات نفر من المستشرقين الفرنسيين للقرآن و ارائهم فيه
المؤلف: الدكتور ابراهيم عوض

المحقق/المترجم:
4521alsh3er.jpg


المستشرقون و القرآن...دراسة لترجمات نفر من المستشرقين الفرنسيين للقرآن و ارائهم فيه - مكتبة المهتدين الاسلامية لمقارنة الاديان
سورة المائدة..دراسة اسلوبية فقهية مقارنة
المؤلف: الدكتور ابراهيم عوض

المحقق/المترجم:
4522alsh3er.jpg

سورة المائدة..دراسة اسلوبية فقهية مقارنة - مكتبة المهتدين الاسلامية لمقارنة الاديان
 
معركة عبد الحليم محمود وعبد الرحمن الشرقاوى حول الشيوعية

معركة عبد الحليم محمود وعبد الرحمن الشرقاوى حول الشيوعية

معركة عبد الحليم محمود مع عبد الرحمن الشرقاوى حول الشيوعية
فى أغسطس 1975م ثارت معركة بين د. عبد الحليم محمود شيخ الأزهر آنذاك والأستاذ عبد الرحمن الشرقاوى حول الشيوعية ، إذ كان شيخ الأزهر قد صرح فى ذلك الحين لبعض المجلات برأيه فى تلك النِّحْلة جوابا على بعض الأسئلة التى وُجِّهَتْ إليه، فكتب الشرقاوى فى مجلة "روز اليوسف"، التى كان يرأس مجلس إدارتها يومئذ، مقالا شديد اللهجة يعقب فيه على ما قاله الشيخ، ويعمل على تفنيده بكل سبيل، ثم أتبعه بكتابات أخرى. ولكن تعالَوْا أولا نقرأ ما كتبه د. عبد الحليم محمود، فى كتابه: "مقالات فى الإسلام والشيوعية"، عن هذا الموضوع وملابساته، ثم نتحول إلى ما كتبه الشرقاوى.
قال الشيخ رحمه الله: "في يوم من الأيام جاءني الأخ محمد عبدالرحمن، وهو يعمل في الصحافة، وأخذ يتحدث معي عن عديد من الأسئلة، وأخذتُ أجيبه، وذلك أمر عادي يحدث من حين لآخر. وكان من بين هذه الأسئلة سؤال عن الشيوعية، ونص السؤال، ونص الإجابة عليه ما يلي:
السؤال: هل يمكن أن أكون مسلما وأعتنق الشيوعية؟ ولماذا؟
الجواب: إن المسلم الصادق يكتفي بإسلامه عن أي مذهب آخر. إن الله سبحانه وتعالى يقول في وضوح لا لبس فيه: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا". لقد أكمل الله الدين في العقيدة، وإنه لمن المعروف أن الشيوعية تحارب الدين، تحاربه بكل وسيلة ممكنة، وقد أعلن ذلك كبار زعمائها. وإنه لمن المشهور ما قاله كارل ماركس. لقد قال أولا: يجب أن يزول الدين من المجتمع. فلما قيل له: إن الإنسان لا بد له من عقيدة، فما هو البديل للعقيدة في الله تعالى؟ قال: أَلْهُوهم بالمسرح، وأَكْثِرُوا من المسارح. وكلما أكثرتم من المسارح أخذ الناس يتحدثون عن نجاح المسرحية أو إخفاقها، وعن نجاح الممثلين والممثلات في أدوارهم أو إخفاقهم فيها، ويَنْسَوْن بذلك العقائد الدينية. وهو القائل: "الدين أفيون الشعوب". وزعماء الشيوعية لهم أقوال إن لم تكن هي ما ذكرناه نصا فإنها في معناه. وكلهم يتفقون في ذلك، وعملهم مؤيِّد لذلك كل التأييد: فأشدهم إلحادا أو أشدهم محاربة للدين هو الذي يترقى في الحزب ويسود. وصحفهم تدعو في إلحاح إلى التخلص من كل ما بقي من آثار الأديان. ولقد قرأنا عدة مرات في صحفنا نقلا عن الصحف الروسية، قرأنا أن الأديان ما زالت لها آثار يجب التخلص منها. وتأخذ على المسؤولين عدم ازدياد النشاط حتى ينتهي من البقية الباقية في أقرب زمن مستطاع. والمساجد في ألبانيا الشيوعية مغلقة، ومن أظهر ميولا دينية ينكَّل به بشدة قد تكون رميا بالرصاص. ولا يحتل مكانا مرموقا في أي قطر شيوعي من له ميول دينية.
وللشيوعيين منهج معين في الهجوم على الدين. والخطوة الأولى في الهجوم على الدين هي السخرية بعلمائه، والاستهزاء بهم ونقدهم، والهجوم عليهم بكل وسيلة: الصور الكاريكاتورية، التمثيليات، المسرحيات، الأفلام، النكت. إن خطتهم الأولى أن يضعفوا علماء الدين بكل وسيلة: الصغير يضخمونه، واللاموجود يوجدونه، والشائعات يكثرون منها. وينساق وراءهم في ذلك رجال سذج، والسذاجة في كل الشعوب. حتى إذا ما ضعف رجال الدين هاجموا الدين في بعض فروعه، وهذه هي الخطوة الثانية. فإذا ما تمت هاجموا الدين مباشرة. وخطتهم هذه درسوها في أناة، وعندهم في كل الخطوات رسم محدد، وأحاديث مكتوبة، وأشياء كثيرة معدة. هذا فيما يتعلق بالعقيدة.
وإذا كان الله تعالى قد أكمل الدين في العقيدة فإنه سبحانه قد أكمله في الاقتصاد. إن الإسلام شرَّع للمال: لقد شرَّع للتجارة وللملكية الزراعية وللإيجار، وشرَّع للبيع والشراء، ووصل به الأمر أن بيَّنَ في استفاضةٍ كيفية كتابة الدَّيْن، وحدد في استفاضة أيضا الميراث والزكاة ومصارفها. والأصل الأصيل في الإسلام هو حرية الفرد في المال، وذلك في إطار المبادئ الإسلامية العامة. ومن الأشياء التي تستدعي الكثير من التفكير أن عبدالرحمن بن عوف وعثمان والزبير وطلحة رضي الله عنهم كانوا من أصحاب الملايين، وكانوا مع ذلك من المبشرين بالجنة. ولم يكن أبو ذر أو بلال أو صُهَيْب من المبشرين بالجنة. وما من شك في أنهم كانوا سادة في الصلاح والتقوى، وأن الجنة بفضل الله مصير لهم، ولكنهم مع ذلك ليسوا من العشرة المبشرين بالجنة. وإذا كان الأصل في الإسلام هو حرية الفرد في المال في إطار المبادئ للإسلام فإن الشيوعية تعارض ذلك في شدة. لقد استولت على الثروات والملكيات في جبروت وقهر، ولم تسمح للفرد بالحرية في المال والثراء.
وإذا كان الإسلام والشيوعية في تعارض في العقيدة فإنهما في تعارض في الاقتصاد. ثم إن تشريع الشيوعية في الزواج وفي الأحوال الشخصية على العموم مخالف لتشريع الإسلام، والأخلاق التي تسود في الجو الشيوعي تختلف في كثير منها عن الأخلاق الإسلامية. وفي النهاية نقول: إن الإسلام وحي إلهي معصوم، وكل خارج عليه خارج على العصمة. أما الشيوعية فإنها اختراع بشري من اختراعات اليهود الذين دَيْدَنُهم وشعارُهم إفسادُ الإنسانية دينًا وتشريعًا وأخلاقًا، ونجح اليهود إلى حد كبير في نشر بدعتهم. ولكن يجب أن يكون مفهوما عند المسلم أنه ما دام الله سبحانه وتعالى قد أكمل الدين، وأتم النعمة، ورضي لنا الإسلام دينا، فإنه ليس لنا من طريق إلا طريق الإسلام.
هذا ما أجبت به. وكان من الممكن، بالنسبة لي، أن يقف الأمر عند هذا الحد، فما كنت أفكر في يوم من الأيام أن أقوم بدراسة الشيوعية، وإنما هو سؤال أجبت عليه كما أجاب عشرات من الكتاب عن أسئلة تتعلق بالشيوعية. كان من الممكن أن يُسْدَل ستار الصمت على الموضوع، إذ لست أول من أجاب على سؤال عن الشيوعية، ولا آخر من يجيب، ولكن المقادير شاءت غير ذلك، فقد ظهرت كلمات نقد موجزة في إحدى المجلات، ولما قرأتها لم أجد في نفسي ما يدعو للرد، وكان من الممكن أن ينتهي الموضوع عند هذا الحد أيضا، ولكن... ولكن ظهر في عددٍ تالٍ للمجلة نفسها مقال طويل ترك جوهر الموضوع، وهو الحديث عن الشيوعية، وأخذ يكيل لي الشتائم كيلا. وقرأت المقال فوجدتني بعد قراءته هادئا كل الهدوء. لم أجد في نفسي إلا طمأنينة، لم يتحرك شعوري بثورة، لم أَصُبَّ على الكاتب اللعنات، وإنما انغمست في تفكير عميق: إن هذا المقال تنبيه وتوجيه، وكأنه يقول: هذه هي الشيوعية. إنها كفر في الأساس، وفي البناء، وهي سفه وجاهلية في الجدل والنقاش. وهي تُسْكِت خصومها بالتنكيل والتعذيب والقتل والسجن إن استطاعتْ ومَلَكَتْ، فإن لم تستطع ولم تملك حاولت أن تسكتهم بالإقذاع في الشتائم. إن هذه هي الشيوعية!
وأخذت أسائل نفسي: لِمَ لَمْ تكتب عليها من قبلُ مبينًا للناس حقائقها؟ لم سكتَّ عليها للآن؟ ما عذرك أمام الله سبحانه وتعالى، وأمام رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إلى متى تترك المسلمين جاهلين بحقيقتها؟ إنها تُحَادُّ اللهَ ورسولَه، وتحارب الله ورسوله، وتسعى في الأرض فسادا، وذلك منذ عشرات السنين. أفما كان الأجدر بك أن تكرس جزءا من وقتك في بيان هذا الضلال؟ أوَما كان الأجدر أن تقوم بحملة توجِّه فيها أنظار مجمع البحوث الإسلامية وأنظار علماء الأزهر وأنظار المفكرين في العالم الإسلامي إلى الخطر الشيوعي، وتدعوهم إلى تنوير الناس في أمره؟
إن في العالم الإسلامي كثيرا من المفكرين الذين يزعمون حب الإسلام، ويزعمون أنهم من كبار أنصاره. أين أقلامهم؟ إنهم يشغلون أنفسهم بتفاهات من اختلاف الفقهاء، ويتركون الخطر يستشري بنشر المبادئ الشيوعية. إن آمالهم وقفت عند حد محدود لم تتجاوزه، ثم يزعمون أنهم كبار المصلحين! أين أقلامهم في مهاجمة الشيوعية؟ إن الشيوعية أخطر المبادئ الهدامة التي تفسد الشباب، وتفسد المجتمع، فأين جهادهم ضدها؟ إن بعضهم يناقش في القَدَر أو يتحدث عن زيارة القبور، أو... إنهم يعبثون.
وكنت يوم أن ظهر المقال الذي تناولني بالشتائم أستعدّ لحلقات في التليفزيون عن العشرة المبشرين بالجنة، ولم يكن في وقتي سعة للرد. وظهر عدد آخر من المجلة وتناولني أيضا بالشتائم، وظهر... وانتهيت من برنامج التليفزيون بعد مدة طالت، وبدأت أفكر: هل أرد؟ وعلام أرد؟ وهل ينزل كاتب كريم على نفسه إلى مستوى السِّبَاب ليرد بها على الشتائم والسباب؟ وإذا فعل، ولا يتأتى ذلك، فأي مجلة في المستوى الكريم تنشر له فتسقط في أعين الكرماء؟ على أنه أصبح معروفا أن التيار الشيوعي في العالم الإسلامي والعربي تيار عميل مأجور، وهذا التيار يسره أن يشتبك في معارك ليظهر لأسياده الولاء والإخلاص.
واستبعدتُ فكرة الرد منذ اللحظات الأولى للعزم على الكتابة، وحل محلها محاولة تلافي التقصير. أي حل محلها فكرة الكتابة عن الشيوعية نفسها. والكتابة عن الشيوعية الآن فرض على كل قادر. إنها فرض على كل مسلم يزعم إخلاصه لدينه، ويزعم حبه لرسوله. إن التيار الشيوعي المخرب يجب أن يُصَدّ بالفكرة، ويجب أن يُصَدّ إفساده وتخريبه بالقانون وبالردع، وإلا طغى الطوفان، طوفان الشر والفساد. وفي أثناء بحثي في المراجع عن العشرة المبشرين بالجنة كان الناس يتساءلون: لِمَ لَمْ يردّ؟ لم التزم الصمت؟ وكان شعورهم جياشا. وأتتني برقيات، وأتتني رسائل، وجاءتني وفود تقول: ماذا نفعل؟ وكنت، تجاه كل هذا الشعور الجياش، ملتزما الهدوء الكامل. لم أجد في نفسي ثورة ولا في شعوري ضيقا، وكنت أشكر الكثيرين على شعورهم الرقيق، وكنت آمر أمرا مؤكدا البعض الآخر بالتزام الهدوء الكامل عند من أجد فيهم رغبة في تحقيق ما قاله شوقي:
والشــرُّ إن تَلْقَــه بــالخير ضِقْـَـتَ بـه ذَرْعًـــا، وإن تلقـــه بالشــرّ يَنْحَسِــمِ"
هذا بعض ما قاله شيخ الأزهر عن ذلك الموضوع. وهو، كما نرى، يؤكد أن الشيوعية عقيدة شاملة تقوم على الإلحاد وتنكر الأديان، وأنها اختراع يهودى، ولها نظامها الاقتصادى والاجتماعى والأخلاقى الذى يناقض ما جاء به الإسلام تمام المخالفة. فمن غير المعقول إذن أن يكون الشخص شيوعيا ومسلما فى ذات الوقت. كما أكد الشيخ أنهم، فى البلاد الشيوعية، يحاربون الأديان، ويعلمون الطلاب والتلاميذ الإلحاد، ويضطهدون المتدينين ويَرَوْنَهم قطعة متلكئة من الماضى المتخلف لا بد من إزالتها انطلاقا إلى آفاق المستقبل.
ومما قاله شيخ الأزهر أيضا، ردا على الشيوعيين العرب فى تهجمهم على أصحاب الثروات وعنايتهم غير الطبيعية بصحابى كأبى ذر الغفارى فى مقابل محاولتهم التقليل من شأن صحابة آخرين يختلفون عن أبى ذر فى الظروف والمنزع، أن الإسلام لا يكره أصحاب الثروات لله فى لله، بل يتسع صدره لهم ما داموا يؤدون واجباتهم كما رسمها الدين، مستدلا على ذلك بأنه قد لاحظ أن عددا من العشرة المبشرين بالجنة كانوا من أصحاب الملايين، على حين لم تضم قائمة هؤلاء العشرة بلالا وأبا ذر وصهيبا، وهم من فقراء الصحابة، وإن كان قد استدرك بأنهم، رغم ذلك، سيدخلون الجنة أيضا بفضله تعالى لقاء إيمانهم وما قدمته أيديهم من عمل صالح.
كما تضمن كلامه هجوما على الأحزاب الشيوعية فى العالم الإسلامى واتهمها بالعمالة للقوى الأجنبية، قائلا إنها تحارب الإسلام وتعمل على قلعه ومحوه، ولكن على نحو تدريجى يبدأ بالأشياء البسيطة التى لا تلفت نظر أحد، حتى إذا ما تمكنت من الأمر أظهرت حقيقة مشاعرها تجاه دين الله. ومن ثم كان لا بد من الوقوف فى وجه النشاط الشيوعى فى بلاد المسلمين وفضحه قبل أن يبلغ غايته من تدمير الدين والتنكيل بالمؤمنين كما يفعل الشيوعيون فى البلاد الخاضعة لسلطانهم. وأشار الشيخ أيضا إلى أن هناك مَنْ كتب يهاجمه ويتطاول عليه لمجرد أنه أبدى رأيه فى الشيوعية فى محاولة من المهاجم لإرهابه وترويعه، وهو ما اتخذه دليلا على صدق ما قاله من أن سياسة الشيوعيين تجاه مخالفيهم تقوم على العسف والتشويه والتنكيل وتكميم الأفواه، ولا تريد لأحد لا يؤمن بالشيوعية أن يفتح فمه بأية كلمة ضدها.
هذا ما قاله الشيخ، أتينا به ملخصا، راجين من الله ألا نكون قد أخللنا بما قال فضيلته. وقد كتب الأستاذ عبد الرحمن الشرقاوى وقتئذ مقالا فى "روز اليوسف" بعنوان "هؤلاء السادة، متى ينتهون؟" هو فى الواقع رد على كلام شيخ الأزهر، وإن لم يسمه بالاسم. لكنْ من الواضح أنه هو المقصود بالمقال، إذ رد فيه الشرقاوى على ما قاله د. عبد الحليم محمود من أن الشيوعية تقوم على الإلحاد، وأنها صناعة يهودية، وأن عددا من العشرة المبشرين فى الجنة كانوا من المليونيرات، وإن كان الشرقاوى قد حور كلام الشيخ فقال إنه كتب أن "الفقراء المناضلين الأوائل من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يُبَشَّروا بالجنة، وبُشِّر بها الأغنياء"، وهو ما يفهم منه أن المبشرين بالجنة لم يكونوا من أوائل المسارعين إلى الإيمان ولم يكونوا من المناضلين، وأن الشيخ قال إن فقراء الصحابة لا مكان لهم فى التبشير بالجنة. كما نفى الشرقاوى فى مقاله أن يكون هناك اضطهاد لأى مسلم فى الاتحاد السوفييتى أو فى غيره من الدول الشيوعية، التى أنكر أن تكون شيوعية أصلا، بل اشتراكية ليس إلا. وكان من بين أدلته على ما يقول أنه هو نفسه قد صلى الجمعة فى موسكو وطشقند وغيرهما ، وأن المصاحف تطبع فى جمهوريات الاتحاد السوفييتى الإسلامية وفى الصين... إلخ.
كما حذر الشرقاوى من يقولون هذا الكلام من الانسياق وراء الدعاية المضادة لدول الكتلة الشرقية حتى لا يقعوا فى الفخ، منذرا إياهم بأن ذلك الفخ سوف يتعلق بأحشائهم، واصفا ما قيل فى هذا الموضوع بأنه ضلالة ينبغى أن يتجنبها الشرفاء، ودعوة متعصبة ضد إحدى قوى التحالف الشعبى ستثير حربا أهلية بلا مراء، وزحف همجى يتغيا نشر الاستبداد والفاشية والقهر والاستغلال والقضاء على الديمقراطية والحرية، ومتهما من قالوه بأنهم يعملون على عودة الاستغلال الإقطاعى والرأسمالى وتمزيق المجتمع وإقصاء فصيل شريف من فصائل اليسار، التى تمثل كل ما هو جميل وعظيم فى الكفاح الوطنى والعالمى، والتى تجتهد بكل ما أوتيت من قوة فى حفر طريق فى قلب الصخور والأشواك من أجل تحقيق أمل البشرية فى الاشتراكية والحرية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وساخرا ممن يتهم الشيوعيين بأنهم ملاحدة وأنهم ورثة دعوة يهودية لهدم الأديان، وداعيا من سماهم بـ"الشرفاء الوطنيين" إلى الوقوف فى وجه هذا كله بحسم ووعى بحركة التاريخ.
والمقال كله تمجيد لليسار وتغزُّل فى محاسنه وآلائه بصفته "جبهة عريضة عميقة تضم كل القوى التى تؤمن بالتقدم وتناضل من أجل العدالة الاجتماعية وتصوغ الزمن الذى يصبح فيه الإنسان بحقٍّ أخا للإنسان حيث لا الحاجة تسحق الإرادة، ولا الاستغلال يقهر الكبرياء، ولا الضيق يمتهن الشعور، وحيث لا يختنق الحب فى القلب، بل تَغْنَى الحياةُ بمعطياتها، وتُثْرِى الإنسانيةُ بالثقافة والحضارة والجمال، وتصبح القيم النبيلة هى دستور العلاقات". والمقال كذلك هجوم كاسح على أى شخص يقترب من الشيوعية بنقد أو عيب، مع تأكيد كاتبه فى ذات الوقت أنه ليس شيوعيا وأنه يصلى الفرائض، وأن "تجربة التاريخ تعلمنا أن أعداء الحرية يبدأون زحفهم الهمجى دائما بالتهجم على الشيوعيين والماركسيين ومحاولة عزلهم، ثم يضربون الاشتراكيين بمختلف فصائلهم، ثم الأحرار الوطنيين، ثم آخر الأمر يغتالون الحرية نفسها ليبسطوا سلطانهم المستبد على الشعب، سلطان القهر والاستغلال"، وناصحا أعداء الحرية "هؤلاء الذين يمشون إلى الهاوية وهم نيام أن يفيقوا قبل أن يسقطوا فى الهاوية".
ومما يلفت النظر أنه، فى الصفحة الأخيرة من المقال، يوجد رسم كاريكاتيرى يصور شيخا يلبس عمامة وجبة وقفطانا، ويفتح فمه الذى تحول كله أسنانا ضخمة حادة مرعبة تحيط بها لحية كثيفة شاملة منفرة، وهو يرفع رأسه إلى صورة على الجدار لقاسم أمين، قائلا له: "يا فاجر!". وليس للصورة أى موقع من الإعراب فى الموضوع، إلا أن الغرض منها ومن وضعها فى هذا المكان واضح حتى لمن ليس لهم عيون يَرَوْن بها.
وبعد ذلك بأسبوع نشر الشرقاوى مقاله الثانى بعنوان "لا يا صاحب الفضيلة" . وقد بدأه بعتاب لمجلة "آخر ساعة"، التى نشرت الحوار المشار إليه مع د. عبد الحليم عن الشيوعية، لأنها نشرت مع الحوار بعض صور للشيخ فى المسجد وهو يعلّم تلاميذه، وفى البيت وهو يقرأ أو يكتب وحوله أطفاله الصغار. وسبب العتاب أن المجلة، كما يقول الشرقاوى، قد صورت الشيخ، رغم أن التصوير، كما يقول، حرام فى رأى بعض علماء الإسلام. كما عتب عليها ثانية لأنها صورت الشيخ خلسة وهو عارى الرأس، أو أثناء القراءة وفى يده مسبحة... إلخ. وعبثا حاولت أن أفهم سر إثارة هذا الموضوع: ترى هل التصوير حرام، ومن يرض به يرتكبْ إثما مبينا؟ ترى أهو أمر لا يليق بالعلماء؟ لا هذا ولا ذاك. ثم سواء تم الأمر خلسة أو برضا الشيخ فإن الأمر لا يقدم ولا يؤخر فى شىء. ومعروف أن مثل تلك الحوارات، كأشياء أخرى فى الصحف والمجلات، تستلزم نشر بعض صور للشخص الذى تحاوره المجلة أو الصحيفة. ومعروف أيضا أن مثل تلك الصور لا تتم دون إعداد مسبق لاختيار اللقطة وزاويتها والانفعالات التى ينبغى أن تظهر على وجه الشخص، والجِلسة أو الوِقفة التى يتخذها... إلخ. وهذا معمول به فى كل المجلات والجرائد حتى مع رؤساء الدول وكبار رجالها. وهو نفسه ما يحدث عندما يظهر الواحد منا فى التلفاز، إذ ترى المخرج والمصور يوجهاننا إلى اتخاذ وضع معين ويحركان الكرسى الذى نجلس عليه بحيث يكون فى اتجاه مخصوص، وعلى بعد محدد من آلة التصوير، ويطلبان منا أن نراعى من حركات أيدينا أشياء معينة أثناء الحوار والكلام. وفى آخر مرة سجلت حلقة فى التلفاز، وكان ذلك منذ عدة أيام، غيرنا مكان الكرسى والمنضدة عدة مرات فى نادٍ على شاطئ النيل حتى رضى المخرج والمصور عن الوضع. ولكنهما لاحظا بعد قليل أننى لا أواجه المصوِّرة كعادتى، فطلبا منى أن أنظر إليها وأنا أتكلم حتى لا يظن المشاهد، فيما فهمت، أننى أتجاهله.
فهل كان على د. عبد الحليم محمود أن يخرج على هذه التقاليد التى لا تضر، ولكن قد تنفع، أو لا تضر ولا تنفع أصلا؟ لكن بأية حجة يا ترى؟ وإنى لواثق أنه لو كان فَعَلَ وعُرِف هذا الذى فعله لتعرض لانتقادات وسخريات، ووُصِف بأنه يحرم التصوير، وأنه يعيش فى عصور ما قبل التاريخ. والتهم فى كل الأحوال جاهزة. لقد قال الشرقاوى إن من علماء المسلمين من أفتى بتحريم التصوير التلفازى. ولكن ما جريرة الشيخ فى هذا؟ هل هو صاحب الفتوى؟ لا. وهل هؤلاء العلماء مصريون؟ لا. إذن فما سر هذا التساخف فى موضوع لا يحتمل شيئا من السخف ولا من التساخف؟ وما الضرر، بالله عليكم أيها القراء، فى أن يظهر الشيخ عارى الرأس، وأحد أولاده أو أحفاده يركب دراجة ذات ثلاث عجلات يدور بها فى الحجرة أثناء التصوير؟ بالعكس، أنا أرى أن هذه رسالة غير مباشرة للقارئ بأن المشايخ ناس طبيعيون يخلعون عمائمهم فى منازلهم، ويرتدون جلابيب مما يرتديها أى شخص آخر، ويلعب أولادهم حولهم كما يفعل الأطفال فى أى بيت طبيعى. ذلك أن كثيرا من الناس يظنون أن حياة المشايخ تختلف عن حياة الناس العاديين. وأذكر ما قرأته فى صباى من أن إحدى المعجبات بروائى رومانسى وسيم صُدِمَتْ عندما رأته يأكل الكوارع! لقد حسبتْ أن مثله لا يأكل أصلا، بله أن يأكل الكوارع! ولكن بالله كيف يمكن أن يعيش مثل ذلك الروائى إن لم يأكل ويشرب؟ وهل ينبغى أن يستشير أمثالُه القراءَ، وبخاصة من الجنس اللطيف، فى ألوان الطعام التى يصح أن يتناولوها، إن سمح لهم هذا الصنف من القراء أن يأكلوا كما يأكل الناس العاديون؟
صحيح أن الشيخ كان يمسك بمسبحة فى يده وهو يطالع كتابا على مكتبه (أقصد أنه كان يمسك كتابا وكأنه يطالع فيه)، وهو ما يبدو غريبا بعض الشىء لمن لا يمسكون بمسابح فى أيديهم، أو لا يمسكونها بالذات لدى القراءة. لكن هل هو إثم مبين؟ كلا ورب العالمين. وهذا لو كان الأمر تكلفا من الشيخ. أما الذين يعرفونه فيعرفون أنه يمسك مسبحة فى يده فى كل الأحوال تقريبا حتى لقد رأيته فى عدد من برامج التلفاز المسجلة على اليوتيوب وقد أمسك بسبحة فى يده، وأخذ يكر حباتها ببطء وهو يتكلم فى موضوع الحلقة التى يتحدث فيها. وواضح أنها عادة قد استحكمت فيه، وإلا فما جعل الله لرجل من قلبين فى جوفه. وهى عادة لا تقدم ولا تؤخر، فليس فيها ما يؤخَذ عليه لا من ناحية العقيدة ولا من ناحية التشريع ولا من ناحية الذوق والسلوك. أقول هذا، وأنا ممن لا يمسكون مسبحة، بل ليست عندى واحدة، إذ أكتفى فى حالة التسبيح أو الحمد بتكرير صيغة التمجيد لرب العالمين عدة مرات إلى أن أشعر أننى عبرت عما بداخلى نحو ربى، أو إلى أن أنشغل بأمر آخر من أمور الحياة التى لا تنتهى.
فما الداعى إذن لتهييج هذه القضية وكأن الشيخ قد ضُبِط وهو يرتكب أمرًا إِدًّا لا يُغْتَفَر أبدا؟ كنت أود أن يربأ الأستاذ الشرقاوى بنفسه عن مثل هذه السفاسف التى من شأنها أن تنفر الناس مما يكتبه ضد الشيخ. وأنا أكبر دليل على هذا، فرغم أننى لست من الموافقين للشيخ على بعض أشياء فى اتجاهه الصوفى أرانى فى هذه المسألة معه على طول الخط، وأرى أن الكلام عنها بهذه الطريقة هو نزول إلى مستوى لا يليق. وإذا كان الشرقاوى قد هاج وماج دفاعا عن الشيوعيين، ونزل تغزلا فيهم وفى محاسنهم التى لا تنتهى ولا يحيط بها محيط، فكيف ضاق منه العطن يا ترى وانفعل كل هذا الانفعال بسبب سُبْحَة لا راحت ولا جاءت، وجعل منها قضية ولا أبا حَسَنٍ لها، وصَيَّر حَبَّتَها قبة تملأ الفضاء، وتناطح الجوزاء؟ وقد انتهى العتاب بأن كتب الشرقاوى أنه "ما من أحد يتخيل هذا. وإذن فأنا أطلب من الزميلة "آخر ساعة" أن تستعتب الإمام الأكبر لما سببت له ولمريديه ومحبيه من حرج، وله العتبى حتى يرضى. أو فلتصدر لنا الزميلة العزيزة بيانا شافيا فى الأمر: لماذا صنعت هذا؟". وهو سخف ما بعده سخف كما يرى القراء، إذ لا أستطيع أن أدرى ما الذى فى ظهور صور الشيخ على هذا النحو فى مجلة من المجلات؟
وقد كانت عبارة "له العُتْبَى حتى يَرْضَى"، التى قالها الشرقاوى عن شيخ الأزهر، مثار تعليق من محمود أبو وافية عضو مجلس الشعب الأسبق وعديل الرئيس السادات، إذ استبشع توجيه تلك العبارة إلى د. عبد الحليم محمود لأنها ذات العبارة التى ابتهل بها النبى عليه الصلاة والسلام لربه حين ذهب إلى الطائف يدعو أهلها إلى الإسلام، فآذَوْه أذى شديدا ألجأه إلى بستان هناك حيث أخذ يدعو مولاه طالبا منه الرضا، فيقول له سبحانه: "لك العُتْبَى حتى تَرْضَى، ولا حول ولا قوة إلا بك". فكيف يتحدث الشرقاوى عن شيخ الأزهر بذات العبارة التى ابتهل بها النبى عليه السلام لربه؟ أيمكن تشبيه المخلوق بالخالق؟
ثم مرت الأيام، وإذا بالدكتور مصطفى الفقى يفسر تلك العبارة تفسيرا مختلفا تماما، إذ قال فى كلمة تعريفية بالشرقاوى فى إحدى الصحف منذ ما يقرب من ثلاث سنين إنه "صاحب الجدل الشهير مع الإمام الصوفى الراحل الدكتور عبدالحليم محمود، شيخ الأزهر الأسبق، حتى قال له الشرقاوى فى النهاية على صفحات مجلة "روز اليوسف": "لك العتبى حتى ترضى" توقيرًا للأزهر، واحترامًا لمقام الشيخ، ورغبةً منه فى توحيد كلمة المسلمين" . وهو تفسير لا أدرى لماذا يذكّرنى بمناداة بعض الحداثيين بموت المؤلف، إذ يرى بعضُ مَنْ لا يشاركون الحداثيين آراءهم أنهم قد رفعوا ذلك الشعار كى يعطوا لأنفسهم الحق فى تأويل أى نص على النحو الذى يريدون بحجة أن المؤلف قد مات، أو ينبغى النظر إليه على أنه قد مات. فالمؤلف، بعد كتابته ما كتب، لم يعد له الحق، طبقا لشعارهم هذا، فى الاعتراض على أى شىء يقوله الناقد عنه مهما كان شطحه وبعده عن مقصود النص. والآن هل من حق د. الفقى أن يفسر عبارة الشرقاوى، التى قالها فى أول مقاله لا فى آخره كما ذكر سيادته، على النحو الذى رأيناه؟ أما أنا فيبدو لى أن هذا التفسير لا يتمشى مع سياق المقال ولا ظروف كتابته ولا موقف الشرقاوى العدوانى الساخر من عبد الحليم محمود.
ثم انتقل الشرقاوى إلى التأكيد بأن محاورة أى إنسان للشيخ عبد الحليم محمود ليست كفرا ولا ينبغى أن تؤدى إلى اتهام صاحبها بالكفر، مضيفا دون أدنى مناسبة أنه مسلم حسن الإسلام، وإن كان قد ذيل هذه الإضافة بأن الله عليم بذات الصدور. ثم عرَّج على فتوى الشيخ القائلة بأن حق الله فى المال العربى (يقصد البترول) هو الخمس، إلى جانب الزكاة فى الأموال الأخرى، فحثه على مطالبة الدول النفطية بالمشاركة فى نفقات الجهاد لأن مصر قد أرهقت إرهاقا شديدا بسبب الحروب التى خاضتها مع إسرائيل، وأن يقول رأيه فى أثرياء العرب الذين يبعثرون أموالهم على القمار والنساء فى أوربا وأمريكا فى الوقت الذى تحتاج فيه الأمة الإسلامية لهذه الأموال المبعثرة على الحرام.
ومن بين ما تناوله الشرقاوى أيضا قول الشيخ عبد الحليم محمود إن الإسلام يغنى معتنقيه عن أى مذهب آخر، فيرد الشرقاوى بأن الإسلام عقيدة وشريعة، أما المذاهب فهى فلسفة واقتصاد وعلم اجتماع، فليس هناك تناقض بين الأمرين إذن، ومن حق المسلم أن يعتنق أى مذهب أدبى أو نقدى يقتنع به. كما أنكر أن يكون كارل ماركس قد قال بإلهاء الشعوب عن الدين بالمسرح، متسائلا: هل هى حرب جديدة على المسرح أيضا؟
ثم يعود مرة أخرى فيذكر أنه صلى فى موسكو، وأن عنده مصحفا من الصين، وأنه ليس صحيحا ما يقال من أن الشيوعية تحارب الأديان، مؤكدا أنه لا توجد دولة شيوعية واحدة على ظهر الأرض، وإنما هى دول اشتراكية بعضها يحكمها أحزاب شيوعية، وأن هذه الدول جميعا تكفل حرية العقيدة والعبادة، وليس فيها اضطهاد لأى دين أو متدين. وهو يتساءل: لماذا يا ترى يثير الشيخ هذه الاتهامات بعدما توقف عن ترديدها المعسكر الرأسمالى، الذى أنفق على نشرها ملايين الدولارات لإسقاط التجارب الاشتراكية؟ ثم يعود كرة رابعة إلى القول بأنه مسلم حسن الإسلام، وليس شيوعيا ولا ماركسيا، لكنها شهادة عدل وحق لا بد أن يقولها فى الشيوعية والماركسية . وفى رأيه أنه لا خطر على الإسلام من الاشتراكية، بل ممن يكنزون المال ويحرمون منه فقراء المسلمين أو ينفقونه على القمار والدعارة، وممن يفسدون الدين بتأويلاتهم الفاسدة وعقولهم المتحجرة.
وهو يتساءل أيضا: أين هؤلاء الشيوعيون وسخريتهم من علماء الدين، تلك السخرية التى يؤكد د. عبد الحليم محمود أنها مجرد خطوة أولية تمهد الطريق إلى الهجوم على الدين ذاته؟ يقول الشرقاوى هذا بغية التأكيد بأنه لم يحدث أن سخر أحد من أى عالم، اللهم إلا أن يكون عالما جاهلا أو منحرف الخلق أو منافقا. ثم يعود مرة أخرى إلى اتهام الشيخ بأنه يجعل من الجنة حكرا على الأغنياء. يشير إلى قول الشيخ إن عددا من العشرة المبشرين بالجنة كانوا من أغنياء الصحابة ذوى الملايين، وإن بعض الصحابة الفقراء لم يبشَّروا بها. وهنا يوجه الكلام إلى الشيخ قائلا: هل اشترى أصحاب الملايين قصورا فى الجنة، وعجز عن إبرام الصفقة فقراء الصحابة؟ كما يرد على ما قاله الشيخ من أن الأصل فى الإسلام هو حرية الفرد فى المال فى إطار المبادئ العامة للدين بأن هذا الكلام حق لا ريب فيه، إلا أن هذه المبادئ العامة نفسها تقيد حرية الفرد فى المال لمصلحة الأمة. ذلك أن الإسلام ليس دينا رأسماليا، إذ الرأسمالية إنما تقوم على استغلال الفقراء وسرقة حقوقهم، وهو ما لا يقره ديننا. وهنا يعود مرة أخرى إلى القول بأنه لا توجد دولة شيوعية فى الأرض، ومن ثم كان ما يقوله الشيخ عن مصادرة الشيوعية للأموال هو كلام فى غير محله، إذ إن هذا إنما تم فى الدول الاشتراكية، وهى لم تفعله عن قهر وعسف، بل أممت بعض أدوات الإنتاج لمصلحة الأمة كلها.
وهناك مقال آخر للشرقاوى نشرته "روز اليوسف" بعد المقال السابق بأسبوعين ، وفيه يشكو من أن خطباء الجمعة وبعض أنصار السنة المحمدية يهاجمونه ويحرضون على قتله، مما لا دخل له بموضوعه مع د.عبد الحليم محمود، وبخاصة أنه لا علاقة للدكتور بهذا الأمر إن كان صحيحا. ومع هذا فلا مناص من القول بأن الفكر لا ينبغى أن يواجه إلا بالفكر، أما التهديد بالقتل، إن صح أنه كان هناك تهديد بالقتل، فليس هو طريق المسلم الفاهم لدينه الواعى بجوانب عبقريته. وبالمثل لا شك أن للشرقاوى كل الحق فى القول بأنه لا قداسة فى الإسلام لأحد، وأن د. عبد الحليم إنسان يصيب ويخطئ، ومن حق من هو مؤهل لمناقشته أن يناقشه، إذ لا يعرف دين محمد عليه الصلاة والسلام العصمة لأحد، بل الكل يؤخَذ من كلامه ويُرَدّ ما عدا ما يبلغه النبى للناس من وحى السماء. ولقد كان الصحابة يراجعون النبى فى بعض ما يقول، فكان لا يغضبه ذلك أبدا ولا يضيق صدرا به، بل يوضح لهم ما أشكل عليهم، وقد يرجع عما اتخذه من قرارات ما دامت راجعة إلى الفكر البشرى، الذى قد يعتريه السهو أو النسيان من هنا أو من ههنا. إلا أن انتقاد من ينتقد شيخ الأزهر لا يمكن أن يكون بالضرورة صوابا، بل قد يكون خاطئا، وقد يكون مغرضا ذا هوى... إلخ. وفى كل الأحوال يجرى عليه ما يجرى على أى رأى يراه بشر، فيمكن انتقاده بدوره، وتخطئته إن كان مخطئا، وتبيين عواره إن كان عائرا... وهكذا.
ومن هنا أجدنى لا أفهم كيف يحاول الشرقاوى الحجر على د. رفعت المحجوب، الذى كان له رأى يختلف عما رآه كاتبنا ويتفق مع شيخ الأزهر، إذ أبدى الشرقاوى استنكاره المحموم لموقف المحجوب رغم أن المحجوب لم يهدد بحرق ولا بقتل، بل قال رأيه ليس غير. فلم اهتاج الأستاذ الشرقاوى من مجرد تعبير الرجل عن رأيه وموقفه؟ وأين إلحاحه المتكرر فى مقالاته على أنه لا قداسة ولا عصمة لأحد من البشر؟ أم تراه يرى نفسه فوق البشر؟ هذه نقطة منهجية أحببت أن أجليها هنا حتى لا تختلط علينا الأمور.
كذلك استنكر الشرقاوى على عبد الحليم محمود أن يستشهد بالكاتب الفرنسى أندريه جِيدْ على انحراف الشيوعية وعُوَارها، داخلاً له من مدخل عجيب، وهو أن جِيدْ رجل شاذ جنسيا، فكيف يلجأ الشيخ إلى رأيه للاستشهاد برأيه؟ يريد أن يقول إن شهادة رجل مثله مجرحة، وإن شيخ الأزهر لا يليق به أن يتخذ من شهادة مثله حجة يستند إليها فى انتقاد الشيوعية، وكأن الشيوعية تهتم بمثل تلك الأمور. فالمعروف أن الشيوعيين ينظرون إلى القيم الدينية على أنها قيم متخلفة رجعية، وكثير من الشيوعيين يمارسون الشذوذ الجنسى. إلا أنهم لا يفتحون عادةً مثل هذه الموضوعات فى بلادنا لما يعرفونه من أن الجماهير العربية والمسلمة تشمئز من هذا السلوك وتلك الأخلاق. ثم إن السوفييت هم الذين دَعَوْا جِيدْ لزيارة بلادهم والكتابة عن تجربتهم السياسية والاقتصادية ظنا منهم أنه سوف يمتشق قلمه فى الترويج لتلك التجربة. إلا أن جِيدْ خيب ظنهم، وكتب ما يفضح سياستهم ونظامهم، فهاجوا وماجوا وأثاروا مسألة شذوذه، وكأنهم لم يكونوا يعرفون تمام المعرفة قبلا أنه شاذ ولا يجدون فى شذوذه ما يمكن إنكاره. هذه حقيقة المسألة أردت أن أضعها أمام القراء حتى تكون كل الأمور مجلوَّة لهم فلا ينخدعوا بقول قائل قبل أن يَرُوزُوه ويحللوه كما ينبغى. فالشيخ، حين استشهد بأندريه جِيدْ، إنما أراد أن يستشهد بمن دعاه السوفييت أنفسهم للكتابة عن تجربتهم فى الحكم والاقتصاد والدعاية لهم. أى أنه أراد أن يرد عليهم بحجتهم ذاتها، وإلا فهو، كأى مسلم نظيف، ينفر من الشذوذ والشواذ ويشمئز منهم ومن سيرتهم، لكنه قصد إقامة الحجة على الشيوعيين من تصرفاتهم وأعمالهم ذاتها.
وكان أندريه جيد قد زار، فى منتصف ثلاثينات القرن المنصرم، الاتحاد السوفييتى بدعوة من مسؤوليه، الذين احتفَوْا به أيما احتفاء، واستضافوه الأسابيع الطوال ووفروا له معيشة كلها نعيم وبُلَهْيِنَة، واستقبله الديكتاتور المرعب جوزيف ستالين نفسه، وانتظروا بعد هذا كله أن يكتب تمجيدا للتجربة الاشتراكية هناك، إذ كان متعاطفا مع الشيوعية فى تلك الفترة. لكنه حين عاد من حيث أتى خيب ظنون المسؤولين السوفييت وأصدر كتابا بعنوان "Retour de L'U.R.S.S" فضح فيه أوضاع المواطنين السوفييت التعيسة، وكشف الفوارق المادية والأدبية الهائلة بين رجال الحزب الشيوعى وبين المواطن العادى، وتحدث عن الجو الشمولى الاستبدادى الخانق للحريات والدين.
وهناك كتاب آخر مشهور اشترك جيد فى تأليفه عنوانه: "الصنم الذى هوى" (The God That Failed). وهو كتاب يهتك الأستار عن الحقائق البشعة التى كان السوفييت يحرصون كل الحرص على تمويهها على الآخرين أو إخفائها عنهم اعتمادا على سياسة "الستار الحديدى"، التى لم تكن تسمح بنشر أى شىء من شأنه فضح الأوضاع الحقيقية فى البلاد الشيوعية. وكان جيد، قبل زيارته للاتحاد السوفيتى، قد كتب أنه يراهن بحياته دون أى تردد على أن الشيوعية مصيرها النجاح فى إنقاذ البشر وتحقيق السعادة لهم على الأرض، لكنه بعد الزيارة انتقد الأوضاع المنحطة التى آلت إليها الأمور فى الدول الشيوعية من استبداد مرعب وتضييق دينى خانق وغير ذلك .
كما ذهبت زوجة مكسيم جوركى الأديب والقصاص الروسى الماركسى المعروف ذات مرة إلى ألمانيا في حملة تبرعات لمواجهة مجاعة فى بلادها عام 1921م، والتقى بها الصحفى النمساوى ليوبولد فايس (محمد أسد فيما بعد)، الذى سجل فى كتابه: "The Road to Makka: الطريق إلى مكة" حكاية هذا اللقاء، وروى كيف فوجئ بزوجة أديب الكادحين ترتدى أفخم الملابس الأرستقراطية، فتساءل: أين تلك المرأة الأرستقراطية من الاتحاد السوفييتى والبروليتاريا، التى يُفْتَرَض أن زوجها يخدم قضيتها؟ ولا ينبغى أن ننسى أن جوركى كان فى الأصل فقيرا معدما آتيا من قاع المجتمع، فكان عليه أن يحس هو وزوجته بمعاناة الجماهير أفضل من ذلك. لكن الشعارات شىء، والسلوك شىء آخر.
وهناك أيضا الكاتب الأوكرانى فكتور كرافتشنكو، الذى وضع كتابا فى أكثر من سبعمائة صفحة بعنوان "آثرتُ الحرية" يصف فيه الاستبداد الخانق المرعب الذى كان يعيش فيه المواطنون السوفييت، وكذلك القسوة الفظة التى عاناها الفلاحون الأوكرانيون نتيجة للسياسة التجويعية الناشئة عن تجارب ستالين الزراعية الفاشلة. وهناك سولجينيستين، الروائى السوفييتى الحاصل على جائزة نوبل، والذى فضح سياسة العسف والتنكيل المتبعة فى الاتحاد السوفييتى، ومعسكرات السخرة الوحشية التى ظلت موجودة على مدار عقود طويلة بدءا من الثورة البلشفية إلى منتصف خمسينات القرن الماضى والتى قاسى العمل بها ثمانى سنوات بدءا من 1948م، فكان حديثه عنها حديثَ مجرِّبٍ ذاق الأَمَرَّيْنِ فيها، فلم تتحمل السلطات انتقاداته، ونفته إلى خارج البلاد عام 1974م إلى أن عاد إلى أرض الوطن عام 1994م بعد أن صار الاتحاد السوفييتى أثرا بعد عين، ليموت بعدها بأربع عشرة سنة .
ولمحمد حسين هيكل مقال كتبه عن زيارته للاتحاد السوفييتى مع جمال عبد الناصر، وقرأتُه فى أواخر الستينات وأنا طالب بالجامعة، فراعنى فيه وصفه، فى بداية حديثه عن الزيارة، للترف الذى يعيش فيه القادة السوفييت والذى وفروا بعضا منه لجمال عبدالناصر أثناء إقامته هناك، وكأنهم أباطرة وقياصرة لا زعماء دولة تزعم انحيازها للكادحين والمسحوقين .
وعُثِر فى خزانات زوجة الديكتاتور الرومانى نيقولاى تشاوشيسكو، الذى أعدم هو وزوجته بعد الثورة الشعبية فى تسعينات القرن المنصرم، على قباقيب وأحذية مطعمة بأسلاك الذهب والفضة، وهى امرأة الزعيم الشيوعى الذى تقول النظرية الشيوعية التى يعتنقها بوجوب تحقيق العدالة والمساواة لجماهير أمته.
والكتب والمقالات التى فضحت أوضاع المواطنين فى دول المعسكر الشرقى وما يقاسونه من استبداد ورعب وضيق عيش كثيرةٌ كثرة هائلة. والشرقاوى يعرفها أكثر من غيره. فلم التمحك فى شذوذ جيد، الذى كانوا فى الاتحاد السوفييتى يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، وإنهم ليكتمون الحق، وهم يعلمون؟ وهَبْ هؤلاء الكتاب جميعا وغيرهم كاذبين مخادعين، فهل نكذّب أيضا الجماهير التى كانت تعيش فى كنف الأنظمة الشيوعية وثارت على تلك الأوضاع، ولم تهدأ حتى أسقطتها تماما وانعتقت من قيودها وجبروتها ورعبها وضيق الحياة فى ظلها لتصبح فى خبر "كان"؟
على أن الشرقاوى قد ذكر فى نهاية المقال كلاما فى غاية الأهمية، إذ أكد أن "مبادئ الإسلام ترسم صورة رائعة للحياة الإنسانية، وأن المجتمعات التى خلقتها تعاليم الإسلام فى العصور الزاهرة لم يعرف لها التاريخ نظيرا من بعد. وأعرف أنه لو طبقت تعاليم الإسلام، ولو اهتم كل العلماء بعُشْر هذه التعاليم وإرسائها، لحققنا المجتمع المثالى الحر الفاضل الذى يسوده العدل والصدق والرخاء والرفاهية، ويختفى منه الفقر والبهتان. ثم إنى أزعم أن كارل ماركس وفريدريك إنجلز لو أتيح لهما أن يدرسا مبادئ الإسلام حق الدراسة لأسلما وحَسُنَ إسلامهما، ولَبَنَيَا تصورهما للمجتمع على أساس مبادئ الإسلام" . فإذا كان الأمر كذلك فلِمَ ينبرى الشرقاوى للدفاع عن الشيوعية ما دام عندنا ما هو أفضل من الشيوعية بإقراره واعترافه هو؟ ولماذا لم يوجه تحمسه للإسلام بدلا من الدخول فى معركة مع شيخ الأزهر دفاعا عن الشيوعية؟
وأغرب من ذلك نَفْى الشرقاوى بكل قوة أن تكون الماركسية مناهضة للدين. وهو نفى يدل على أن الرجل يتمتع بأعصاب باردة، ولا يبالى أين تقع كلماته، وعنده من المقدرة ما يؤكد به أبعد الأمور عن الحقيقة مع الزعم بأنها هى الحقيقة ذاتها. فلنستمع إلى أصحاب المذهب أنفسهم لنعرف ماذا يقولون فى هذه القضية. وها هو ذا فريدريك إنجلز، صديق ماركس وزميله فى جهوده من أجل نشر الشيوعية، يقول فى نهاية كُتَيِّبه: " The Principles of Communism" (مبادئ الشيوعية) عن موقف الشيوعيين من الأديان ما نَصُّه، وهو على هيئة سؤال وجواب: "س- ماذا سيكون موقفها من الديانات الموجودة؟ ج- كانت الأديان كلها حتى اليوم تعبيرا عن مراحل التطور التاريخية للشعوب ثُبَاتٍ أو جماعاتٍ. لكن الشيوعية هى مرحلة التطور التاريخى الذى يجعل كل الأديان الموجودة بلا قيمة، ويؤدى إلى اختفائها من الوجود" .
وفى كتابه: " Introduction to a Contribution to the Critique of Hegel’s Philosophy of Right." يؤكد ماركس أن المجتمعات هى التى تصنع دينها لا العكس، وأنه لا بد من شفاء الشعب من أوهامه السعيدة الناشئة عن اعتقاداته الدينية المضللة، كى يحصل على السعادة الحقيقية عن طريق تخليصه من الدين نفسه، الذى يعده مجرد أفيون للشعوب ، بمعنى أنه يخدر الشعب عن الظلم الذى يثقل كاهله ويبهظه، إذ يمنِّيه جنة سماوية فى العالم الآخر، على حين ينبغى أن يكافح لتحقيق الجنة الأرضية هنا فى الدنيا بدلا من انتظار جنة أخروية لا وجود لها إلا فى مخيلته ووهمه الزائف.
ونأتى الآن إلى فلاديمير لينين، الذى كتب، فى مجلة " Novaya Zhizn" فى الثالث من سبتمبر عام 1905م، أن الدين أحد أشكال الظلم الروحية التى ترزح تحت وطأتها جماهير الشعب، تلك الجماهير التى يَؤُودُها الكدح من أجل الآخرين، وأنّ عَجْز الشعوب عن الحصول على حقها قد خَيَّل لها أن هناك جنة أخروية، بالضبط مثلما خَيَّل العجز للإنسان البدائى أن هناك آلهة وشياطين وما إلى ذلك. ذلك أن الدين، فى نظر لينين، هو المسؤول عن خنوع الشعوب لظالميها ومستغليها، إذ يمنيهم جنة أخروية بدلا من مساعدتهم على خلق جنة الأرض، كما يشغلهم بالصدقات التافهة عن المطالبة بحقوقهم ممن يستغلونهم ويستحلون عرقهم لقاء مقابل تافه زهيد لا يغنى شيئا .
وفى مادة "History of Russia- تاريخ روسيا" فى كل من النسختين الإنجليزية والعربية من موسوعة "ويكيبيديا" نقرأ أن الحكومة السوفييتية قد شجعت الإلحاد والمادية، التي تشكل أساس الماركسية، وعارضت الدين المنظم بغية كسر شوكة الكنيسة الأرثوذكسية الروسية بوجه خاص بوصفها ركيزة للنظام القيصري القديم، وعائقا كبيرا أمام التغيير الاجتماعي. كما أن كثيرا من الزعماء الدينيين كانوا يُرْسَلون إلى المنافي فى داخل البلاد، مثلما كان أعضاء الحزب يُمْنَعون من حضور الشعائر الدينية. وفوق ذلك انفصل نظام التعليم عن الكنيسة. بل إن التعليم الديني كان محظورا إلا في المنازل، وكان هناك تشديد عنيف على تدريس الإلحاد في المدرسة .
وفى مقال "الدين فى الاتحاد السوفياتى" بالنسخة العربية من موسوعة "ويكيبيديا" نجد أنه، بعد نجاح الثورة الشيوعية، كان أول الأهداف الأيديولوجية للدولة هو القضاء على الدين والاستعاضة عنه بنشر الإلحاد فى المدارس وتعليمه للتلاميذ والطلاب، ومصادرة الممتلكات الدينية، والسخرية من المتدينين استنادا إلى الفكر الماركسى اللينينى. ومن أقوال لينين فى هذا الصدد أن الدين أفيون الشعوب طبقا لقول ماركس، الذى يمثل حجر الزاوية فى الفكر الشيوعى. وكانت الدولة تنظر إلى المنظمات الدينية على أنها أجهزة للرجعية والبرجوازية، وأداة لاستغلال الطبقة العاملة. وفى غضون عام تقريبا من قيام الثورة قامت الدولة بمصادرة ممتلكات الكنيسة كلها بما فى ذلك الكنائس نفسها. وخلال الفترة من 1922 إلى 1926م تم قتل 28 أسقفا، وأكثر من 1200 كاهن. كما تعرضت مفاهيم التوحيد الإسلامية للتشويه عبر عمليات متتابعة من غسل الأدمغة، ونجحت القبضة الحديدية في وأد أية محاولة لإنعاش الإسلام فى جمهوريات آسيا الوسطى مما أدى إلى انعدام المؤلفات الدينية الإسلامية فى العهد السوفييتى، وإن كانت السلطات قد سمحت ببعض النشاط الدينى المحدود. وقد ترتب على تلك السياسة أَنِ انخفض عدد المساجد فى المناطق الإسلامية من 25000 في 1917م إلى 500 فقط فى 1970م. فطبقا للسياسة الستالينية شنت السلطات السوفييتية حملة على علماء الدين المسلمين، وتم إغلاق الكثير من المساجد أو تحويلها إلى مستودعات. وقُبَيْل تفكك الاتحاد السوفييتى تم تسجيل عدد من الجمعيات الدينية الإسلامية، وأعيد افتتاح بعض المساجد المغلقة.
ولا أدرى كيف استباح الأستاذ الشرقاوى لنفسه إنكار ما هو معلوم للدنيا كلها بالضرورة من أن الشيوعية تحارب الأديان. أليست الشيوعية تقوم على المادية ورفض الغيبيات؟ أليس يقوم الدين على الإيمان بالله واليوم والآخر والملائكة والجن والوحى، وكل هذه غيبيات؟ أليس يعتقد المؤمنون بالجنة الأخروية فى حين لا تعترف الشيوعية إلا بجنة الأرض، التى تزعم أنها سوف تحققها عما قريب هنا فى الدنيا، فتُغْنِى البشر عن التطلع إلى أية جنة لا يَرَوْنَها ماثلة أمامهم عيانا بيانا فى حياتهم الدنيا؟ ولقد حارب الشيوعيون الأديان حربا عنيفة شعواء كما كتب العقاد صادقا، واستمروا على ذلك حتى الحرب العالمية الثانية، التى اضطرتهم إلى الإقرار بقوة الدين فى شحذ عزائم الكفاح ضد المحتل النازى، فصالحوا رجاله وعاهدوهم على تبادل المعونة، وخففوا حملتهم عليه، ولكن إلى حين، إذ لاحظوا أن الشعوب التى يحكمونها شرعت تثوب إلى التدين وتندفع إلى دُور العبادة، فعادوا إلى محاربة الدين كرة أخرى، وأخذوا ينفّرون الناس منه ومن مساوئه التى يختلقونها عليه اختلاقا، مع الاجتهاد الشديد فى نشر الإلحاد أيضا.
ويرى الأستاذ العقاد بحقٍّ أن الشيوعية قد تصبر على النصرانية، ولكنها لا تطيق الصبر على الإسلام، إذ النصرانية دين العدد الأكبر من رعاياهم من جهة، فضلا عن أنها تترك شؤون الدولة للحكام فلا تتدخل فيها من جهة أخرى، بخلاف الإسلام، الذى يجمع بين الدنيا والدين، وينظم الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية على نحو يختلف عن الشيوعية تماما، ومن ثم كان منافسا شرسا ومعارضا حاسما للشيوعية، ومن الصعب جدا على أتباعه أن يعتنقوها. وعلى هذا رأيناهم يصفونه فى "دائرة المعارف الشيوعية" بالرجعية وتأييد الاستغلال، ويحاربونه بكل وسيلة لإضعاف سلطانه الروحى، ويعملون على تشتيت المسلمين وتمزيق كل وحدة تجمعهم فى البلاد التى يحكمونها، ويهدمون المعالم الدينية، مع معاملة أى مسلم مخلص لدينه معاملة الجاسوس. ولا يبغض الشيوعيون بين أمم الشرق نفوذا روحيا أو فكريا مثلما يبغضون نفوذ الإسلام .
فكيف يتجاهل الأستاذ عبد الرحمن الشرقاوى هذا كله فيزعم أن الشيوعية لا تناهض الإسلام ولا تعمل على محوه؟ ولقد كان الشيخ عبد الحليم محمود موفقا غاية التوفيق حينما جبه الشرقاوى بكلمة لجمال عبد الناصر لا أى شخص آخر يقول فيها عن الشيوعيين إنهم "قد كفروا بالدين لأن الدين فى عرف الشيوعية خرافة" . ولا أظن الشرقاوى كان مستطيعا أن يرد على ذلك الكلام مع أنه هو نفسه ما قاله د. عبد الحليم.
كذلك ينفى عبد الرحمن الشرقاوى أن تكون الشيوعية صناعة يهودية. وهو نفى عجيبٌ جِدُّ عجيبٍ، إذ يكفى أن يكون صاحب المذهب الشيوعى هو كارل ماركس اليهودى. أم سوف يشكك فى هذه أيضا؟ على أن ماركس لم يكن من أسرة يهودية عادية، بل كانت أسرته تنتمى إلى طائفة الحاخامات والربانيين، وكان أبوه نفسه فقيها دينيا، وإن كان أبواه قد ارتأيا، جريا وراء بعض المصالح الدنيوية المادية، أن يتحولا إلى البروتستانتية تحولا ظاهريا كعادة كثير من اليهود الذين يعلنون التحول عن دينهم .
ومن المكتب السياسى الأول للحزب الشيوعيى الروسى كان لينين نصف يهودى، أو يهوديا كاملا، وكانت زوجته يهودية مثلما كانت زوجة ستالين يهودية. وبالمثل كان كل من تروتسكى وكامينيف وسوكولنكوف وينونيف يهوديا. ولم يكن هناك إلا شخص واحد غير يهودى هو يبنوف. وفى مجلس إدارة الحزب المكون من 14 عضوا كان هناك ستة من اليهود الخُلَّص، واثنان متزوجان من يهوديتين. وفى أول حكومة بعد الثورة كان هناك 17 يهوديا مقابل خمسة فقط من غير اليهود. أما فى إدارة الحزب والوزارات أو اللجان المختلفة فكان اليهود يشكلون الأغلبية الساحقة، وأحيانا لا يشاركهم فى اللجنة أحد من غيرهم بحيث كانت نسبتهم فى وظائف الدولة العليا نحو 80%. وقس على الاتحاد السوفييتى كل بلد وصلت فيه الشيوعية إلى الحكم .
ويمكن الرجوع أيضا إلى الفصل الحادى والستين من كتاب "March of the Titans: A History of the White Race"، وهو يوضح بتفصيلٍ أَشَدَّ علاقةَ اليهود بالشيوعية:
"Chapter 61: The Suppressed Link - Jews and Communism
The creation of the Soviet Union was to impact upon history for the greater part of the 20th Century - and an understanding of the sub-racial and ideological divisions it caused is crucial to understanding not only the events of that century, but also to understanding the flare up of anti-Jewish sentiment which culminated in the creation of the Third Reich in Germany.
For the Soviet Union's best kept secret was that the Bolshevik elite had one outstanding characteristic: it had an inordinately large number of Jews in its controlling body.
Virtually all of the important Bolshevik leaders were Jews: they included the "father of the revolution," Leon Trotsky (whose real name was Lev Bronstein: in an attempt to hide his Jewishness, he adopted the name Trotsky); Lev Kamenev, the early Bolshevik leader who later went on to become a leading member of the Politburo, was born with the surname Rosenfeld; Grigori Zinoviev, head of the Petrograd Soviet, was born with the surname Apfelbaum; and many other famous Communists of the time, such as Karl Radek, Lazar Kaganovich; and Moses Urtisky, (the head of the Cheka) who all changed their names for reasons similar to that of Trotsky. There is also strong evidence to suggest that Lenin himself was of Jewish ancestry through his mother's side of the family.
The Bolshevik's Party's Central Committee chairman, Yakov Sverdlov, was also Jewish - and it was he who gave the order to the Jewish Soviet secret policeman, Yurovsky, to murder the Tsar - Yurovsky personally carried out this order.
As if the Russian Revolution was not enough, the originator of the Communist ideology itself, Karl Marx, was also a Jew, with his family name in reality being Levi.
The large Jewish role in the Russian revolution, combined with the fact that Marx had been born a Jew, was manna from heaven for the European anti-Semitic movement, and the link between Jews and Communism was exploited to the hilt, particularly by Adolf Hitler and the National Socialist (Nazi) movement in Germany during the 1920s.
It was not only in Germany that the association of Jews with Communism was made: all over the world Jews became associated with radical political movements, sometimes justifiably so, other times not. Nonetheless, the presence of so many Jews in the creation of the Soviet Union played a massive role in justifying anti-Jewish sentiment in Europe prior to, and with, the rise of Adolf Hitler.
Directly after the First World War, there were another three specifically Jewish Communist revolutions in Europe itself:
• the German Jew, Kurt Eisner, led a short lived communist revolution in Munich, Bavaria from November 1918 to February 1919 (at the same time that Adolf Hitler was an unknown soldier in that city - the effect of being a first hand witness to a Jewish and Communist-led revolution helped to cement Hitler's anti-Communist and anti-Jewish feelings);
• the short lived Sparticus uprising in Berlin (September 1918 to January 1919) led by the German Jews, Karl Liebknecht and Rosa Luxemburg; and
• the short lived Communist tyranny in Hungary led by the Jew, Bela Kun (Cohen), from March to August 1919.
These incidents all helped to identify Jews with Communism in the public mind: in this light it becomes perfectly explicable why the Nazi Party was able to win support on an anti-Communist and open anti-Jewish platform.
JEWS IN THE LATER SOVIET UNION
Jews retained their leading roles in Soviet society until growing anti-Semitism within the Communist Party itself led to a change in policy. Trotsky was the first major Jewish casualty: he split with Stalin over the issue of international socialism and the need to spread the revolution: he was forced into exile in 1929. He was then assassinated in Mexico City in 1940, allegedly by a Stalinist agent.
By the middle 1930s, Stalin had started purging the Soviet Communist Party of other important Jews. The period immediately following the end of the Second World War and the creation of the state of Israel saw another rise in Soviet anti-Semitism: by 1953, Stalin had started purging all Jews in the Soviet hierarchy who were also Zionists.
The Communists, quite correctly, saw Zionism as Jewish nationalism and contrary to the interests of an international socialist brotherhood. Many leading Russian Jews were also fervent Zionists: and it was this group that was then targeted for persecution, and who became famous throughout the rest of the lifetime of the Soviet Union as the victims of Soviet anti-Semitism.
Zionism, as an expression of Jewish separatism was declared a crime against the Soviet state, and Zionist organizations were forced to close down their operations inside the Soviet Union.
East Germany, as an official Soviet satellite, was forbidden by Moscow to make any reparations payments to the Zionist created state of Israel for the treatment of Jews by the Nazi government.
Not all Russian Jews were Zionists: those who were not, were generally left alone and some did achieve prominent positions within the post Stalin Soviet Union.
Many thousands of Jews did however leave the Soviet Union - estimates putting the total number at over the one million mark, with most settling in Israel or the United States.
Chapter 61: Jews and Communism in the Soviet Union
Part Two: The Encyclopedia Judaica Confirms the Jewish Origin of Communism
The Encyclopedia Judaica, published in Jerusalem, Israel, by Jews, is available at most large public libraries and is in English. This reference book for all things Jewish is quite open about the Jewish role in Communism, particularly early Communism, and contains a large number of admissions in this regard.
Under the entry for "Communism": in Volume 5, page 792, the following appears:
"The Communist Movement and ideology played an important part In Jewish life, particularly in the 1920s, 1930s and during and after World War II."
On page 793, the same Encyclopedia Judaica then goes on to say that "Communist trends became widespread in virtually all Jewish communities. In some countries, Jews became the leading element in the legal and illegal Communist Parties."
The Encyclopedia Judaica on page 793 then goes on to reveal that the Communist International actually instructed Jews to change their names so as "not confirm right-wing propaganda that presented Communism as an alien, Jewish conspiracy."
JEWISH ROLE IN THE RUSSIAN COMMUNIST REVOLUTION
The Encyclopedia Judaica then goes on to describe the overwhelming role Jews played in creating the Soviet Union. On page 792 it says: "Individual Jews played an important role in the early stages of Bolshevism and the Soviet Regime."
On page 794 of the Encyclopedia Judaica, this Jewish reference book then goes to list the Jews prominent in the upper command of the Russian Communist party: these included Maxim Litvinov, (Later foreign minister of Soviet Russia); Grigori Zinoviev, Lwev Kamenev, Jacob Sverdlov, Lazar Kaganovich, and Karl Radek, amongst many others.
The organizer of the Revolution was Trotsky, who prepared a special committee to plan and prepare the coup which brought the Communists to power. according tot he Encyclopedia Judaica, this committee, called the Military Revolutionary Committee,, had five members - three of whom were Jews.
The Politburo - the supreme governing body of Russia immediately after the Communist Revolution - had four Jews amongst its seven members, according to page 797 of the Jewish Encyclopedia Judaica.
While many have alleged that Lenin was also Jewish, or at least of part Jewish origin, there is little concrete evidence of this. However, Lenin was ardently pro-Jewish, branding anti-Semitism (correctly) as "counter revolutionary" (Encyclopedia Judaica, page 798). A statement against anti-Semitism was made by Lenin in March 1919 and was "one of the rare occasions when his voice was put on a phonograph record to be used in a mass campaign against the counterrevolutionary incitement against the Jews," according to the Encyclopedia Judaica, page 798. One of the first laws passed by the new Soviet Communist government was to outlaw anti-Semitism (Encyclopedia Judaica, page 798).
Chapter 61: Jews and Communism in the Soviet Union
Part Three: Winston Churchill on the Jewish Role in Communism
The preponderance of Jews in the inner sanctum of the Communist revolution in Russia was in fact well known at the time that the revolution took place: it is only in the post Second World War II era that this fact has been suppressed. A good example of the contemporary awareness of the Jewish nature of early Russian Communism can be found in the writing of the young Winston Churchill, later to become prime minister of Great Britain, who, in 1920, was also working as journalist.
In 1920, Churchill wrote a full page article for the Illustrated Sunday Herald on 8 February 1920 detailing the Jewish involvement in the revolution. Churchill discusses in this article the split between Jews: some are Communists, he wrote, while others are Jewish nationalists. Churchill favored the Jewish nationalists, (and of course they indeed fall foul of the Jewish Communists, eventually becoming bitter enemies) and he appealed to what he called "loyal Jews" to ensure that the Communist Jews did not succeed. Churchill went even further and blamed the Jews for "every subversive movement during the Nineteenth Century", writing:
"This movement amongst the Jews (the Russian Revolution) is not new. From the days of Spartacus Weishaupt to those of Karl Marx, and down to Trotsky (Russia), Bela Kuhn (Hungary), Rosa Luxembourg (Germany) and Emma Goldman (United States), this world wide conspiracy for the overthrow of civilization and the reconstruction of society on the basis of arrested development, of envious malevolence, and impossible equality, has been steadily growing. It played, as a modern writer, Mrs. Nesta Webster, has so ably shown, a definitely recognizable part in the tragedy of the French Revolution. It has been the mainspring of every subversive movement during the Nineteenth Century; and now at last this band of extraordinary personalities has gripped the Russian people by the hair of their heads and have become practically the undisputed masters of that enormous empire. There is no need to exaggerate the part played in the creation of Bolshevism and in the actual bringing about of the Russian Revolution by these international and for the most part atheistic Jews. Moreover, the principal inspiration and driving power comes from Jewish leaders." (ibid)
Churchill also pointedly accused Leon Trotsky (Bronstein) of wanting to establish a "world wide Communistic state under Jewish domination" in this article.
Winston Churchill, later prime minister of Britain, pointed out the large Jewish involvement in the Communist revolution in an article published in the Illustrated Sunday Herald, 8 February 1920. See in particular under the heading "Terrorist Jews", enlarged below.
Churchill was not the only journalist to note the Jewish role in the Russian Revolution: Robert Wilton, the chief correspondent for the London Times, who was stationed in Russia at the time, wrote in his book The Last Days of the Romanovs (Hornton Butterworth, London, 1920, pages 147, 22-28, 81,118, 199, 127, 139-148) that "90 per cent" of the new Soviet government was composed of Jews. The correspondent for the London Morning Post, Victor Marsden, went further and actually compiled a list of names of the top 545 Bolshevik officials: of these, Marsden said, 454 were Jews and only 23 Non-Jewish Russians. (All These Things, A.N. Field, Appendix B pages 274-276).
Chapter 61: Jews and Communism in the Soviet Union
Part Four: The US Army's Telegrams on the Jewish role in Communism
The American Army Intelligence Service had its agents in Russia at the time of the Communist Revolution, and the Jewish nature of that revolution is accurately reflected in those reports.
An American Senate subcommittee investigation into the Russian Revolution heard evidence, put on congressional record, that "(I)n December 1919, under the presidency of a man named Apfelbaum (Zinovieff)... out of the 388 members of the Bolshevik central government, only 16 happened to be real Russians, and all the rest (with the exception of a Negro from the U.S.) were Jews" (U.S. Senate Document 62, 1919).
Below: Both these telegrams are from official US National Archives: the upper one, State Department document 861.00/1757 was sent on 2 May 1918, from Moscow by US Consul General Summers. The lower one, State Department document 861.00/2205, was sent from Vladivostok on 5 July 1918, by US Consul Caldwell. Both describe the domination of the Bolshevik Communists by Jews, using the words "Fifty per cent of Soviet Government in each town consists of Jews of the worst type..."
Copies of documents from the US National Archives are freely available to anyone from the Washington DC, USA, office.
US ARMY INTELLIGENCE REPORTS CONFIRM JEWISH ROLE IN SOVIET REVOLUTION, COMMUNISM
However, none of these authorities quoted above dared to use quite the language of a US Military Intelligence officer, one captain Montgomery Schuyler, who sent two reports to Washington in March and June 1919, describing in graphic detail the Jewish role in the Russian Revolution. Both these reports were only declassified in September 1957 and the originals are still held in the US National Archives in Washington, open for public inspection.
The first report, sent from Omsk on 1 March 1919, contains the following paragraph:
"it is probably unwise to say this loudly in the United States but the Bolshevik movement is and has been since its beginning, guided and controlled by Russian Jews of the greasiest type..."
The second report, dated 9 June 1919, and sent from Vladivostok, said that of the
"384 commissars there were 2 Negroes, 13 Russians, 15 Chinamen, 22 Armenians and more than 300 Jews. Of the latter number 264 had come to Russia from the United States since the downfall of the Imperial Government."
Both these American army military intelligence reports are freely available from the US National Archives in Washington DC. They were written by Captain Montgomery Schuyler, US Army. Schuyler made a point of the heavy Jewish involvement in the Communist revolution. Schuyler writes that "It is probably unwise to say this loudly in the United States but the Bolshevik movement is and has been since its beginning guided and controlled but Russians Jews of the greasiest type.." and goes on to point out that of the total 384 commissars running the Soviet Union, more than 300 were Jews."
The importance of this information does not need to be overemphasized in the light of the crucial governing role the commissars played in the running the early Soviet society.
It therefore came as no surprise when anti-Semitism was duly entered into the Soviet law books as a death penalty crime - although latent anti-Semitism simmered even in Communist Party circles, flaring up quite seriously when a Jewish woman, Fanny Kaplan, tried to assassinate Lenin by literally stabbing him in the back.
Eventually, as outlined earlier, the hardcore Communists were to part ways with the Jewish nationalists, or Zionists, and the two camps were to become bitter enemies, a situation which persisted right until the collapse of the Soviet Union late in the 20the Century.
AMERICAN COMMUNIST PARTY ALSO JEWISH
Jews were also behind the American Communist Party, which although politically unsuccessful, was very successful in its espionage and infiltration activities, eventually reaching right into the Civil Rights Movement and that group's leader, Martin Luther King.
According to the Encyclopedia Judaica, published in Jerusalem, Israel (1971), page 804 (extract below) "the list of Jews who played a prominent role in the leadership and factional infighting of the American Communist Party is a long one...Many American Jewish authors and intellectuals, some of whom later recanted, were active in editing Communist publications and spreading party propaganda.. among them Micheal Gold, Howard Fast and Bertram Wolfe."
AMERICAN JEWISH COMMUNIST SPIES GAVE SECRETS OF ATOM BOMB TO SOVIETS
Many of the Soviet spies arrested by the American government during the Cold War have been Jewish, and none have been more damaging than the group of spies who passed the secret of the Atom Bomb to the Soviet Union.
This group of Communist spies was all Jewish, from the ringleaders, Julius and Ethel Rosenberg, to the actual scientists working at the top secret Los Alamos laboratory, namely David Greenglass and Theodore Hallsberg. The latter actually passed the atomic secrets to the Rosenbergs, who then passed it onto their Soviet handlers, via their Jewish courier, Harry Gold.
Despite the overwhelming preponderance of Jews in Communist parties and movements world wide, it would however be incorrect to allege that all Jews were or are Communists, as the millions of Jewish capitalists and as the conflict between Zionist Jews and Communist Jews both attest.. It is however accurate to say that individual Jews, from Karl Marx onwards, have provided the mainspring for Communist activities".
هذه علاقة اليهود بالشيوعية فى بلادها، ومن الواضح أن الأستاذ عبد الرحمن الشرقاوى كان مجانبا للصواب تماما حين اعترض، وبكل جرأة، على ما قاله فى هذا الصدد د. عبد الحليم محمود، الذى كان معه كل الحق بخصوص هذه القضية. ولكن ماذا عن الشيوعية فى بلاد العرب؟ هل لليهود بها علاقة أيضا؟ الحق أن لليهود علاقة، وأى علاقة، بالحركة الشيوعية العربية. فالشيوعيون العرب هم تلاميذ مخلصون لليهود، الذى أتوا إلى بلادنا وأنشأوا الأحزاب الشيوعية بها متظاهرين بأنهم بصنيعهم هذا إنما يعملون لمصلحة الفقراء والمساكين. ولقد بلغ من تأثيرهم المدمر على أولئك الأتباع أنهم وقفوا مع دويلة إسرائيل، لَدُنْ قيامها ونشأتها من العدم، ضد العرب واتهموهم بالرجعية، فى حين أَثْنَوْا على الصهاينة وامتدحوهم بأنهم تقدميون. وكان من بين أساليبهم الترويج لمقولة أن العمال العرب ينبغى أن يتحدوا مع العمال اليهود ضد الرأسمالية العربية. فانظر، أيها القارئ، واعجب وتَسَلَّ كما يحلو لك. فشر البلية ما يضحك ويُسَلِّى!
يقول د. محمد آمحزون فى مقال له بعنوان "من تاريخ الأحزاب الشيوعية العربية" : "إن تاريخ الأحزاب الشـيـوعـية في البلاد العربية يشير إلى ظاهرة مهمة جدًّا في نشأة هذه الأحزاب، وفي مواقفها من الـنـزاع العربي الإسرائيلي، وفي تأثرها بالعناصر اليهودية التي حرّكتها الصهيونية العالمية لإقامة دولة إسرائيل. ويمكن القول، بكل يقين، بأن الحـركـة الشيوعية في العالم العربي إنما أنشأها اليهود الذين كانوا أنشط العناصر داخل هذه الحركـــة. وفي تلك الفترة بالذات من تاريخ قيام الأحزاب الشيوعية في العالم العربي أخذت بعض الـدعاوى تـنتشـر في الأجواء السياسية حول شرعية حق اليهود القومي في فلسطين لتلتقي هذه النظرة التي عـمــل الـشـيـوعـيـون على ترويجها مع النظرة الصهيونية والأهداف التي تعمل لها.
إن تأثـر الماركسيين العرب بالعناصر اليهودية على مستوى القيادة والتنظيم السياسي كان له بالغ الأثر في جعل الماركسيين يَعْمَوْنَ عن واقع وطنهم، ويتغاضَوْنَ عن تمزيق بلادهم، إذ كانوا لا يـفـكــرون من خــلال عقولهم، وإنما من خلال المخططات التي تضعها الشيوعية الدولية والصهيونية العالمية، ويعـمـلون هم على تنفيذها بشكل تلقائي دون أن يجهدوا أنفسهم في تحري المواقف ليَرَوْا ما إذا كـانـت تـلــك الـمـخططات الموضوعة تصلح للعالم العربي الإسلامي وتتفق مع حقه في الوجود أم لا.
كان الحزب الشيوعي الفلسطيني أول حزب شيوعي تأسس في المنطقة عام 1919م، وكان جـمـيــــع عناصره من اليهود الروس الذين حملوا بذور الفكرة الأولى إلى فلسطين. وفي عام 1924م تأسس الحزب الشيوعي في لبنان حيث ساهم بعض العناصر اليهودية الوافدة من فلسطين فـي إنـشـائه، وهي التي أُوكِلَتْ إليها مهمة نشر الفكرة الشيوعية والإشراف على تنظيم خلاياها في منطقة الشرق الأوسط(1). وفي نهاية عام 1925م كـانـون الأول (ديسمبر) انعقد الـمـؤتمر الوطني الأول للحزب الشيوعي، وانتخب لجنته المركزية من سبعة أعضاء، وظل تيبر اليهودي الروسي محتفظا بأمانة الحزب العامة، وكان يُعْرَف عادة باسم "شامي"، حيث درج معظم الأعضاء القياديين في الحركات الشيوعية على استعارة أسماء أخرى، وهو تقليد يهودي(2).
وقد ظل الصراع محتدما في الحزب منذ عام 1928م حتى عام 1932م حين تمكـن خالد بكداش من أن يبلغ مركز زعامة الحزب بترشيح جاكوب تيبر الـمـبـعـد إلـى فـلسطين وتزكيته، وتقدم معه وجوه ثلاثة جديدة هم نقولا شاوي وفرج الله الحلو ورفيق رضـــا، الذي قــدر لــه أن يـلـعـب، بـعـد ثـلاثـيـن عـامـــــا، دورًا كبيرًا في فضح أسرار الحزب واتصالاته(3). فـفـي عام 1959م خرج رفيق رضا على الحزب، وكان عضوًا في قيادته المركزية، ليروي بعض تاريخه، ويسلط الضوء على الجوانب المظلمة فيه. وقد كتب في ذلك الحين بيانًا نشرته جريدة "الجماهير" السورية جاء فيه: في عام 1932م وفد إلى بيروت عدة مندوبين شيوعيين يهود حملوا مبالغ وافرة من المال إلى قيادة الحزب الشيوعي في سورية ولبنان، وأذكر منهم أميل وأوسكا ومولر. وقد أبدلت لهم شخصيًّا قسمًا من الأموال التي حملوها بالعملة المحـلـيـــة آنذاك. وفي عام 1938م حملت إلى الحزب مبلغ خمسة وعشرين ألف فرنك كان الحـــــزب الشيوعي الفرنسي قد قرر آنذاك وضعها تحت تصرف الحزب الشيوعي السوري لتوسيع حملته مـــن أجل إقرار المعاهدة الفرنسية البغيضة، ومحاربة الاتجاه الوطني في ذلك التاريخ. هذا مع العلم أن خالد بكداش قد نقل بنفسه مبلغًا آخر حين كان في باريس مشتركًا في مؤتمر آرل الشيوعي الفرنسي(4). ولم يكتف الحزب الشيوعي الســـوري اللبناني بذلك، ولم يقف ارتباطه الفكري والمالي بالعناصر اليهودية عند هذا الحد، فقد استـعار أسماء صحفه التي أصدرها من أسماء الصحف التي أصدرتها الحركة الشيوعية اليهودية في فلسطين: فاسم "صوت الشعب"، وهي الصحيفة السرية للحزب الشيوعي في سورية ولبنان، ترجمة حرفية لاسم الجريدة العبرية للحزب الشيوعي اليهودي: "كول عاهام"، واسم "النور"، وهي الصحيفة العلنية للحزب التي أصدرها في دمشق عام 1956م، منقول حرفيًا عن اســم صـحـيـفــة الحـــزب الـشـيـوعـي الإسرائيلي التي أصدرها في فلسطين عام 1934م(5).
وقد سار الحزب الشيوعي العراقي في الخطة نفسها في تعريب الأسماء اليهودية في الصحف التي أصدرها، إذ حملت صحيفته السرية أيضًا عام 1959م اسم "صوت الشعب" أسوة بالصحيفة اليهودية: "كول عاهام"(6). ولذلك لم يـكـــن غـريـبـًا، حين جاءت القضية الفلسطينية، أن نجد الحزب الشيوعي السوري اللبناني وبقية الأحزاب الشيوعية في العالم العربي تتخذ موقفًا معاديًا للحق الفلسطيني المغتصب، مرتبطة في ذلـك وملتـقية بالاتحاد السوفييتي ومع الصهيونية العالمية. ولا غرابة في ذلك، إذ أحسنت العناصر الـيـهـودية تنشئتها وتوجيهها واصطفاء قياداتها. فـبـشـأن حقيقة موقف الحزب الشيوعي السوري اللبناني من قضية فلسطين يقول رفيق رضا عـضـو اللجنة المركزية المنشق: وكانت قيادة الحزب الشيوعي بمثل حماس بن جوريون عـلـــى بعث الدولة اليهودية في فلسطين، فإسرائيل في نظرها واحة من واحات الديموقراطية فـي الشرق الأدنى، والشعب الإسرائيلي المشرد لا بد وأن يلتقي في أرض الميعاد، وإن واجب الـتضـامن الأممي في عرف القيادة المذكورة هو من صلب المبادئ الماركسية. ولذا فوجود إسرائيل لــه، فـي عـرفـهــا، مبرراته الإنسانية التي تتخطى المبررات والوقائع القومية. ومنذ اليوم الأول لكارثة فلـسطين، أو منذ اليوم الأول لإعلان التقسيم ووقوف الدول الكبرى إلى جانب الصهيونية بمـا فيها الاتحاد السوفييتي، منذ ذلك اليوم المشؤوم انحازت قيادة الحزب الشيوعي إلى جانـب الرأي الاستعماري الصهيوني، ونادت بعدالة التقسيم، ودعت إليه كما لو كانت قيادة تجري في عروقها دماء إسرائيل. وهي قد التزمت جانب الاستعمار والصهيونية علنًا وصراحةً على لسان دُعَاتها، وفي بياناتها وصحفها. وقد قوبلت خيانتها هذه بسخط عربي عارم زلزل الأرض تحت أقدامها، وانهالت لعنات العرب عليها حتى لم يعد بوسع شيوعي في سورية ولبنان أن يعلن شيوعيته(7).
وقد تبنى الحزب، فيما بعد، دعوة الصلح مع إسرائيل صراحة، وكان يوزع في سورية سرًّا مقالات صموئيل مـيـكـونـيـس أمين عام الحزب الشيوعي الإسرائيلي المنشورة في جريدة "الكومنجورم": "في سبيل سلم دائم" الداعية إلى الصلح حلاًّ وحيدًا لمشكلة الخلاف. ولقيت مقالات ميكونيس تأييد قـيــادات الأحزاب الشيوعية في المنطقة العربية جميعًا، تلك التي ظلت تنظر إلى النزاع العربي الإسرائيلي من زاوية الحكام في إسرائيل لا من مبدإ وجودها(8). لقد ظلت الأحزاب الشيوعية العربية تتهم حكام إسرائيل اليمينيين بأنهم عملاء للاستعمار دون المساس بكيان إسرائيل أصل المشكلة ولا بموضوع الدولة اليهودية في فلسطين، وهو أصل الخلاف. ويعد هذا الموقف في حد ذاته تحريفًا للنظرة إلى القضية الفلسطينية، وإغراقها في المفهوم الشيوعي الجديد الذي يهاجم حكام تل أبيب ويسكت عن دولة إسرائيل. وذلك يعني أن ارتـبــاط إسرائيل بالغرب هو ما يغيظ الشيوعيين ولا يرضيهم. فإذا ارتبطت إسرائيل بموسكو غدت شيئًا آخر: "دولة صديقة محبة للسلام" يدعو لها الشيوعيون العرب بالسلامة وطول البقاء.
أين إذن جوهر المشكلة؟ أليس هو إسرائيل ذاتها الكيان الذي اغتصب حق الفلسطينيين وأرضهم ووجودهم، واضطهد شعبًا بأكمله بين أسير وقتيل وشريد؟ أين حمامات الدماء التي اقترفتها أيدي الإرهابيين الصهاينة في فلسطين، وراح ضحيتها آلاف النساء والشيوخ والأطفال والشباب؟ أين مذابح قطاع غزة والضفة الغربية، وصبرا وشاتيلا، ودير ياسين، التي كان على رأسها مثل السفاح بيجن الحائز على جائزة نوبل للسلام؟ فليست فلسطـيـن ولا القضية الفلسطينية ولا الحق العربي الإسلامي هو المهم بالنسبة للأحزاب الشيوعـية الـعـربية، بل كان المهم لديهم أن تتعاظم القوة السوفييتية الأم في المنطقة، وينمو نفوذها ويُبْسَط سـلـطـانـهـا ما دامت هذه القوة تجسد أحلامهم في الحكم وتطلُّعهم يومًا ما إلى ذروة السلطة، وما دامت هي التي تَرْفِدهم بالمال، وتوفر لهم في بلادها وفي البلاد الأخرى لذائذ الحياة فـي فـنـادقـهـــا ونواديـهـــا تحت غطاء عقد المؤتمرات والمهرجانات.
وعلى الرغم من أن قضية فلسطين كانت تطرحها الأحداث كل يوم، وبشكل أحدّ وأعنف مـع تـعـاظم الخطر الإسرائيلي، فقد ظل الشيوعيون على موقفهم الأول منها، وظلت سياستهم ومواقـفـهم تدفع بالقضية الفلسطينية إلى الجوانب والهوامش بالاعتراض على اتجاه الحـكـم الإسرائيلي دون المِسَاس بالجوهر الأصل، وهو أصــلا اغـتـصـاب أرض فلسطين. فدعوتهم كان هـدفـهــا ربط إسرائيل بالمعسكر الشيوعي كما هو هدفها ربط العرب إلى هذا المعسكر. وفي إطار التبعية هذه تجد المشكلة الفلسطينية حلها في الإخاء اليهودي العربي.
ومن الملاحظ أن الحزب الشيوعي الـسـوري اللبناني لم يكن وحده الحزب الذي أسسه اليهود ثم اختاروا لقيادته عناصر معاديـة لكل اتجاه عربي، فضلا عن الاتجاه الإسلامي. فالحزب الشيوعي المغربي قـد أسسه الـيـهـود أيضـًا تحـت قيادة ليون سلطان في عام 1943م، وهو يهودي مغربي كان يعمل في سلك المحاماة(9). وقد ظل الحزب الشيوعي المغربي (حزب "التقدم والاشتراكية" حاليًا) ذيلا للحزب الشيوعي الفرنسي، واستمر ذلك بعد الاستقلال مع التبعية المطلقة للاتحاد السوفييتي(10). ومن الملاحظ أن علي يعتة (زعيم الحزب حاليًّا) قد تسلم مهامّ الأمين العام للحزب المذكور بعد وفــاة ليون سلطان، وهو من أصل جزائري. وقبل مجيئه إلى المغرب واتصاله بـليون سلطان في الدار البيضاء كان عاملا في فرنسا. وهناك حصل على الجنسية الفرنسية(11). ولا يخفى الاتصال الوثيق بين علي يعتة والجالية اليهودية في المغرب، فقد ظهر بمناسبة عيد رأس السنة الميلادية لعام 1994م في معبد يهودي مرتديًا طاقية اليهود التقليدية، وهو يستمع إلى الحَبْر الكبير الحزّان داخل السنياغوغ(12).
ونسبة المنخرطين اليهود في الحزب الشيوعي المغربي لم تبلغها أي نسبة أخرى من انخراطاتهم في التكـتـلات اليسارية والتجمعات النقابية الأخرى كالاتحاد الوطني لطلبة المغرب والاتحاد الـمـغـربـي للشـغـــل رغم أنها كانت فيها نسبة غير قليلة من المسؤولين اليهود(13). كما أن الذين كانوا يشرفون على تعذيب المقاومين المغاربة في السجون في عهد الحماية كان من بينهم اليهود، وكانوا أكثر نشاطًا في التعذيب، وأشد حقدًا عليهم من غيرهم(14). بل إن مــن اليهود المغاربة من يعترف بذلك الموقف المشين. يقول إسحاق ليفي في مقال له في صـحـيـفـة "العلم" المغربية: إن الحقيقة التي لا تخفى على أحد هي أن الأقلية اليهودية بالمغرب عـُـزِلَتْ واعـتـزلـتْ كثيرًا عن الروح الوطنية، وذلك بفضل جهود الاستعمار من جهة، ومن جهة أخرى بواسـطـة التـعاليم الـمـعطاة لهم من طرف "الميثاق الإسرائيلي العالمي"(15). ومن بين الشيوعيين المغاربة اليهود البارزين إبراهام السرفاتي أبرز قيادات منظمة "إلى الأمام" الماركسية، والكاتب في مجلة "أنفاس" سابقًا.
كذلك نبتت الأحزاب الشيوعية العربية الأخرى بغـرس ورعاية اليهود في مصر والعراق. غير أن المهم في هذا المجال بالذات مواقف الشيوعيين العرب من القضية الفلسطينية، أي موقـفـهم من قضية الأمة الإسلامية في معركتها المصيرية. وإذا كــان يحـق للاتحاد السـوفـيـيتي أن يتصرف كدولة وأن يعمل وفق مصالحه، وإن خالفت مصالح الآخرين، فكيف يحق لمواطنين عرب أن يصروا على التعامل معه والتبعية له باعتبار أنه عقيدة لا دولة، وأنه يعمل وفق المبادئ لا المصالح، وأن يَتَبَنَّوْا بالتالي مواقف تلك الدولة التي لا تأبه إلا لمصالحها، ولا تعمل إلا لتنفيذ مخططاتها القريبة والبعيدة؟
وتجدر الإشارة إلـى أن الأحزاب الشيوعية العربية اشتركت في تأييد تقسيم فلسطين، وفي الدفاع عن مبدإ دولـة إسـرائيل، وفي الهجوم على الرجعية العربية بوصفها مُسَعِّرة نار الخصام بين الشعبين العربي واليهودي، وعدوة الحق اليهودي في إقامة وطن قومي لهم في فلسطين. وبلغ بالشيوعيين العرب التحدي لمشاعر الأمة العربية الإسلامية أن يطالبوا الحكومات في البلاد العربية بالاعتراف بدولــة إسرائيل، وأن ينظموا في كل من سورية والعراق وفلسطين ومصر مظاهرات شيوعية هزيلة تؤيد حق الشعب اليهودي في إقامة دولة إسرائيل بعد أن أقرت هيئة الأمم المتحدة في 29 تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1947م مشروع تقسيم فلسطين إلى دولتين: عربية ويهودية(16).
فهذا الحزب الشيوعي السوري اللبناني يعتبر حرب 1948 ضد إسرائيل مؤامرة رجعية دنيئة استعمارية هدفها بذر الخصومة والعداء بـيـن الشعبين: العربي واليهودي، ورَفَع شعار "إلى الاتحاد في سبيل سحب الجيوش من فلسطين"(17). ودعا الحزب الشيوعي العراقي الحكومات العربية الخائنة، عـلـى حـــد قــولـــه، إلى الاعتراف بإسرائيل مناديًا: فلتسقط الحرب بين الوطنيين والديموقراطيين العرب واليهود لإحباط خطط الاستعمار والرجعية، ولتحى الصداقة العربية اليهودية!(18). وكتب في صحيفته السرية: "القاعدة": إن الشعب العراقي يرفض بإباء أن يحارب الشعبَ الإسرائيليَّ الشقيق(19). أما الـشيوعيون العرب في فلسطين فقد وقفوا منذ اللحظة الأولى إلى جانب إخوانهم الشيوعيين اليهود مـطـالـبين بحق اليهود في إقامة دولة إسرائيل واستقلالها عن العرب، وطالبوا بإجراء مفاوضات مـبـاشرة ما بين إسرائيل والحكومات العربية، وشددوا على ضرورة سحب القوات العربية المعتدية من إسرائيل(20). على أن الحزب الشيوعي المصري قد بلغ نهاية المطاف انغماسًا في حمأة التآمر والخيانة الصريحة، فجاء في بيان له: لقد عانى الشعب اليهودي في فلسطين اضطهادًا لمدة طويلة. إن الشعب اليهودي يريد أن يحصل على استقلاله الذاتي، وإنّ فَرْض الوحدة مع العرب، تلك الوحدة التي يرفضها الشعب الـيهـودي، معناه أولا أننا نناقض مبدأ حق تقرير المصير(21). وعاد الحزب نفسه ليكتب في بيان آخر له: إن اليهـود يكوّنون اليوم شعبًا ديموقراطيًّا، وتزداد سيطرتهم على حكومتهم يومًا بعد يوم، في حين أن الحـكــومة العربية في فلسطين حكومة فاشية! وإن القضاء على الدولة اليهودية وإخضاع اليهـود لهذه الحكومة العربية معناه القضاء على واحة الديموقراطية التي يمكن أن تكون ذات تأثـير حسن على الجزء العربي في فلسطين، وتلعب دورًا إيجابيًّا في الشرق الأوسط(22).
أمــــا "المنظمة الشيوعية" فقد عالجت في أواخر عام 1948م النزاع العربي الإسرائيلي في مقال افتتاحي نشرته صحيفة "صوت البروليتاريا" في عددها الثالث، فقالت: في 15 مايو (أيار) 1948م غزت جيوش البلاد العربية فلسطين. هناك حرب قائمة في الشرق الأوسط مـنـذ سبـعة شهور، ولكننا إذا درسنا هذه الحرب بتعمق لوجدنا أنها ليست سوى حرب عنصرية. لقد أملى الاستعمار البريطاني هذه الحرب وأعد لها منذ سنين طويلة ليدافع عن مركزه في الشرق الأوسط. إن هذه الحرب هي واحدة من مصادر الحرائق الكثيرة التي تشعلها الرجعية الـعـالـمـيـة، وذلك بهدف خلق ترسانات من بعض المناطق التي يريدون استخدامها كنقط للهجوم ضد الاتحاد السوفييتي. وأخيرًا فإن هذه الحرب موجهة اليوم ضد الخطر الذي تمثله البروليتاريا الثورية في فلسطين (تعني إسرائيل)(23).
إن في هذه العبارات من التمويه والمغالطة ما لا يخفى، فالاستعمار البريطاني لم يتدخل في الشرق الأوسط إلا لمصلحة إسرائـيل. فهو الذي أصدر وعد بلفور، وفتح باب الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وخطط بكل ما يـمـلـك مـــن وسائل بتنسيق مع الصهيونية العالمية لإقامة الكيان اليهودي في فلسطين المحتلة. ولـسـنـا ندري أيَّ رجعية عالمية يعني هؤلاء، وقوى الغرب والشرق، اليمين واليسار، أمريكا والاتحاد السوفييتي وأوروبا جمعاء، كانت في صف إسرائيل في مؤامرة عالمية استهدفت الوجود العربي الإسلامي في فلسطين .
ذلك كان مجمل مواقف الأحزاب الشيوعية العربية مـن مـوضــوع فلسطين وإسرائيل. وقد حرصت هذه الأحزاب أن تظل منسجمة مع مواقف الاتحاد السـوفـيـيـتي في الأمم المتحدة وموافقته على قرار التقسيم. فكيف يُرْجَى أن تحرِّر هذه الأحزابُ المجتمعاتِ العربيةَ الإسلاميةَ من تـركــة الجهل والذلة اللذين ورثتهما من الاستعمار الصليبي، وكَرَّسَهما شِرْذِمَة من الحكام المستبدين الذين بذلوا ولاءهم ومنحوا تأييدهم للغرب؟ وكيف يؤمَّل أن تنهض هذه الأحزاب بالأمة، وهي التي ارتمت في أحضان يهود الشرق، وسلمت لهم مقاليد أمورها بتنفيذ تعليماتهم وخططهم الموجهة لمناصرة إسرائيل؟ وصدق الشاعر العربي في هذا الصنف من الناس:
ونشحذ من يهود الشرق عدلاً كمن تَخِــذَ الغـــرابَ له دليــلا
أليس من المخجل زرع استعمار جديد في قلب العالم الإسلامي، وهو الاستعمار الصهيوني الـعــدو الـلدود للـمـسـلـميـن، الذي ما فتئ يضع، بتنسيق مع الصليبيين، كل العراقيل والعقبات التي تحول دون تقدم البلاد الإسلامية ونهضتها؟ إن السياسة الشيوعية والسياسة الصهيـونـية في الساحة العربية، وما يحدث من تنسيق بينهما، تعتبران من أشد أنواع السياسات مكــرًا وتآمرًا، وإن الاتحاد السوفييتي بمنظومته الحزبية العربية كان طرفًا في تلك المؤامرة الدنـيئة التي أتاحـت للـمـتـاجرين بالقضية الفلسطينية أن يتقدموا للزعامة والقيادة. وفي الثورة الفلسطينية أوضح مثال عـلـى هـذا، فـعـنـدمـا تراجع المسلمون وتخاذلوا دُفِعَتْ بعض القيادات العلمانية إلى السطح، وانضوى تحت ألويتهم أبناء المسلمين المخدوعين، وتاجَرَ عرفات و جورج حبش ونايف حواتمه... وغيرهم بدمائهم، وبَنَوْا على جماجمهم مجدًا أثيلاً.
إن اليهود بدأوا منذ القرن التاسع عشر على الخصوص في التطلع والتخطيط لإقامة كيان صهـيـوني فـي فلسطين. وقد كانوا يعلمون جيدًا أنْ ليس بإمكانهم أن يطأوا أرض فلسطين بأقدامهم وأن يقر لهم قرار فيها إلا في حالة ضعف المسلمين وتخلفهم. كما كانوا يدركون أن الإسلام هو السر الحقيقي لقوة المسلمين ونهوضهم. ولذلك أقدموا، بما لديهم من مكر وخداع وهيمنة على وسائل الإعلام المختلفة، على نشر الفكر الشيوعي، وتمويل الأحزاب الشيوعية وتأسيسها في البلاد العربية، ونشر الإلحاد وغير ذلك من المفاهيم العلمانية المادية التي تدعو المسلمين إلى فصل الدين عن الدولة وعن الحياة، والتحلل من الأخلاق والقيم الإنسانية.
وقد كان ذلك تحت ستار الشعارات الخادعة المضللة، فتغلغلت تلك الأفكار في عقول كثير من الشباب المضللين الذين فقدوا التوجيه الصحيح والفهم العميق للإسلام لأسباب داخلية أهمها غياب الإسلام عن الساحة كنظام حضاري ومنهج حياة شامل، ولأسباب خارجية أهمها الغزو الشيوعي الصـهـيـوني والصليبي للعالم الإسلامي، واستيراد أساليب وأنظمة ظاهرها التقدم والتحرر، وباطنها الاستلاب والاحتواء والجمود. فقد جرب المنتسبون إلى الإسلام مختلف الأنظمة الوضـعـيـة من ليبرالية واشتراكية، فلم تزدهم إلا ذلة وجمودًا وتأخرًا وتبعية للغير، علمًا بأن الظروف التي مرّت بها أوروبا وجعلتها تكره الدين بمفهومه الكنسي المحرف الضيق هي ظروف ليست موجودة في الإسلام، ولله الحمد!
وقد استغل الشيوعيون اليهودُ، وعلى رأسهم ماركس، معركةَ الدين والعلم، والدين والدولة في أوروبا، للتمويه والمغالطة وتعميم الأحكام بالقول إن الدين أفيون الشعوب، أي الدين عامة، وإنه يتعارض مع النظر العقلي. وهي شبهة لها مجالها الحقـيـقـي في واقــع الكـنـيـسة والفـكـر الغربي، بينما لا نجد لها أي أثر في الإسلام والفكر الإسلامي. ومن الملاحظ إذن أن الحملات التي توجَّه ضد الدين الحق، وهو الإسلام، إنما تُوَجَّه من قِبَل دعاة الـمذاهب المـاديـة، وعلى رأسهم اليهود، ضمن مخطط رهيب يتبلور من خلال الغزو الفكري الــذي حاول بمـخـتـلـف الأساليب تهميش أثر الإسلام في عقر داره، وإيهام المخدوعين من أبناء هذه الأمة ألا سبيل للـتقـدم إلا بـإبعـاد الإسلام عن مجالات الحياة المختلفة. وهذا سلاح لتركيز السيطرة اليهودية والتمكين لهـا في البلاد العربية الإسلامية، إذ يدرك اليهود جيدًا أن الإسلام يـقــف ســدًّا مـنـيـعــًا في وجـه أي احتواء أو تبعية أو تنازلات، لا سيما إذا كان الأمر يتعلق بأرض إسلامية كـفـلـسـطـيـن، وتهجير شعب مسلم بأكمله وتشريده" .
نعم إن "اليهود هم الذين أدْخلوا الشيوعية في الدول العربية والعالَم الإسلامي: فقد جاء جوزيف برجر اليهودي البولوني إلى لبنان سنة 1920م عن طريق حيفا، وأخَذَ يدعو لوَحْدة الطبقة العاملة والإخاء الإنساني ومقاومة الاستعمار، وأسَّس حزبًا شيوعيًّا مرتبطًا بالحزب الشيوعي في فلسطين. ثم جاء بعدَه يهوديٌّ آخرُ من أصل ليتواني اسمه إلياهو تيبر، وكان قد تدرَّب على العمل في بلجيكا حيث اعتنَق الشيوعية، وجاء يدعو لها في سوريا مِن قِبل الكومنترن. وفي هذه الأثناء عمِل أرتين مادونيان وهيكازون بوياجيان زعيما حرَكة "سبارناكوس" الأرمينية اليسارية على تأسيسِ الحِزْب الشيوعي في سوريا في أوساط الأرْمن الأكراد. ثم جاءَ مِن أوديسا في روسيا اليهودي نخمان ليتفسكَى، ومعه زوجته، لاختيار الشباب العربي الذي يصلُح لتلقِّي التعاليم الماركسية في معهد الشيوعيِّين الشرقيِّين في موسكو، وكان في مقدِّمة المختارين الموفدين خالد بكداش سنة 1930، وكان في الخامسة والعشرين من عمره.
وظهرتِ الأهداف الخبيثة من نشْر اليهود للشيوعية في بلاد المسلمين عندما أُعْلن في سنة 1929م عن ارتباط الحِزْب الشيوعي اللبناني مع الحِزْب الشيوعي السوري مع الحِزْب الشيوعي اليهودي في تل أبيب تحتَ قيادة الحزب الشيوعي الفرنسي في باريس. ومن المعروف أن موسكو تستخدم الأحزابَ الشيوعية الأخرى للتدخُّل حتى تبدوَ بعيدةً عن الأحداث، مع أنها هي التي توجِّهها وتنميها: فقد كانتْ بلغاريا مثلاً تُشْرِف على الأحزاب الشيوعية في الشرق وتقوم برعايتها، كما تولَّت كوريا الشمالية بعضَ هذه المسؤولية بالنِّيابة عن موسكو...
وقد أسَّس الحزبَ الشيوعيَّ المصريَّ اليهوديُّ روزنتال سنة 1922، وهو بائع مجوهرات، وساعدته في ذلك ابنتُه شارلوت، وخلَفَه في العمل الخواجة فاسيليف تحت سِتار تجارة القطن، ثم اليهودي هنري كوريل، الذي كان يُلقَّب بـ"المليونير الأحمر" لكثرة ما يُنفِق بلا حساب من مساعداتِ موسكو . ومِن مشاهير اليهود الشيوعيِّين أيضًا في مصر إيلي شوارتز، ويوسف درويش، وريمون دويك، وأوديت وزوجها سلامون سدني...
أمَّا في العِراق فقدْ وَفَد الخياط الروسي بيتروف من الأمميَّة السوفيتية سنة 1929، وأقام في مدينة الناصرية. وقد أطلق الشيوعيُّون على بتروف اسمَ "بطرس أبو ناصر". وقد انتسب يوسف سلْمان إلى الحزب الشيوعي العراقي، وكان عميلاً للصهيونية في نفس الوقت. وأشهر قيادات الحِزب العراقي ناجي شميل، وكوهين وناجي شاؤول، وشالوم ميير، ويوسف ساسون، وناظِم يعقوب يونا، وداود دانيبل، وهارون زلحة، وكلهم يهود. وقد أسَّس الحزبَ الشيوعي في سوريا الأرمني أرتين مادونيان، وما لبث أن انتزعَ منه الزعامةَ خالد بكداش" .
ومرة أخرى هل كان عبد الرحمن الشرقاوى يجهل هذا كله؟ أما أنا فلا يمكن أن يكون جوابى إلا أنه من المستحيل أن يكون الشرقاوى بذلك من الجاهلين. ولكن لماذا انحاز إلى الشيوعيين بكل هذا العنفوان، وهو الذى يؤكد مرارا، ودون أن يطلب منه أحد ذلك، أنه مسلم حسن الإسلام؟ ألا إنه لأمر يتلفَّف بالأسرار! لكننى، فى ذات الوقت، لا أستطيع إلا أن أنظر فيما كتبه الرجل وأعرضه على عقلى. وقد فعلت ذلك، وهأنذا أقول بملء فمى إننى غير مقتنع أبدا بما قاله الشرقاوى عن الشيوعية والشيوعيين. فهو كاتب مشهور، وكان مقربا للمسؤولين فى مصر أيام عبد الناصر والسادات ومبارك، كما تولى منصب رئيس تحرير "روز اليوسف"، بالإضافة إلى عدد من المناصب الهامة الأخرى كسكرتير منظمة التضامن الآسيوى الأفريقى، وأمين المجلس الأعلى للفنون والآداب بمصر. وله اتصالات وثيقة بعالم السياسة ولاعبيه، وعلى رأسهم الشيوعيون، الذى ألفيناه يدافع عنهم بكل شراسة وعنفوان، ولا يطيق أن يمسهم أحد مجرد مس، بل لا يطيق أن يشير إليهم أحدٌ مِنْ على بُعْد سبعين خريفا. وها نحن أولاء، فى نهاية المطاف، يتبين لنا أن الشيخ عبد الحليم محمود فى قضية الشيوعية والشيوعيين كان على الحق، والشرقاوى على الباطل.
أما قوله مرارا وتكرارا إنه مسلم حسن الإسلام فأمرٌ مرده إلى الله لا إلينا، إذ نُهِينا نحن المسلمين من سيدنا رسول الله عن شق القلوب والتدسس إلى ما يستكنّ فيها. إلا أننا، فى الوقت نفسه، نستغرب كل هذا العنفوان فى دفاع الشرقاوى عن الشيوعية والشيوعيين، وبخاصة أنه قد "أكد" فى مقاله الأخير بـ"روز اليوسف" أنه لو أتيح لكارل ماركس وفردريك إنجلز دراسة مبادئ الإسلام حق الدراسة لأسلما وحَسُنَ إسلامهما، ولَبَنَيَا تصورهما للمجتمع على أساس من تلك المبادئ. وللأسف الشديد لم يتركنا الشرقاوى، بعد هذا الكلام الجميل عن ماركس وإنجلز وعظمة الإسلام، ننعم به قليلا، إذ سرعان ما انقلب على عقبيه قائلا إنه، مع هذا، يصر على الارتفاع بالإسلام عن صراع المذاهب. ألم تقل لتوك، يا أستاذ، إن ماركس وإنجلز لو كانا عرفا الإسلام على حقيقته لأسلما؟ أليس هذا كلاما فى الصراع بين الإسلام وأحد تلك المذاهب؟ أتأخذ منا باليمين ما وهبتَناه بالشمال؟ فلماذا؟
الحق أن موقف الشرقاوى هنا موقف غاية فى الغرابة والغموض. ذلك أنه يؤكد أن الإسلام من شأنه أن يغلب ماركس وإنجلز على عقليهما بما يحويه من مبادئ عظيمة تفوق ما فى الشيوعية. إذن فلماذا لا تدعو الشيوعيين إلى الإسلام وتبين لهم مبادئه العظيمة وتقول لهم: إن نبيكم نفسه كان مصيره أن يدخل الإسلام، ولم يمنعه من ذلك إلا أنه لم يطلع عليه كما ينبغى، وأنتم أبناء الإسلام وتعرفونه عن قرب، ولستم كماركس ورفيقه، اللذين لم يتح لهما أن يطلعا عليه الاطلاع السليم، فهيا دعوكم من الشيوعية، وتعالَوْا إلى الإسلام؟ أو فلنكتف منك بأقل من ذلك كثيرا، فتكفّ عن الدفاع عنهم هم الذين لم يفهموا الإسلام حق فهمه، على عكسك أنت يا من فهمته الفهم الصحيح وعرفت أنه أرقى من الشيوعية بما لا يقاس، وتنصرف إلى تبيان محاسن الإسلام والرد على كل شيوعى حقير يتطاول على الإسلام وينال منه ومن تاريخه ونبيه وكتابه وإلهه، وتحذر من اليهود الذين حملوا الشيوعية إلى بلادنا، وهم ينوون من وراء ذلك أمرا. أما أن تدع هذا كله وتستميت بكل عنفوانك فى الثناء على الشيوعيين و"اتهامهم" بالشرف فهو ما لا أفهمه، ولا أظننى مستطيعا أن أفهمه فى يوم من الأيام.
ألا ترى، أيها القارئ العزيز، أن الشرقاوى كان ينبغى أن يفرح بفتوى د. عبد الحليم محمود بأن "المسلم الصادق يكتفي بإسلامه عن أي مذهب آخر. إن الله سبحانه وتعالى يقول في وضوح لا لبس فيه: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا" ما دام الشرقاوى نفسه قد قال ذلك؟ وعَمَّنْ؟ عن ماركس وإنجلز أنفسهما لا عن أى شخص آخر. ثم ما معنى كل هذا الاحتشاد فى الثناء على الماركسيين فى الوقت الذى لم يسمع أحد صوتا للشرقاوى يدافع فيه بكلمة عن آلاف المعتقلين من المتدينين فى عهد عبد الناصر؟ لو أنه سكت فلم تأخذه الحمية للشيوعيين لقلنا إن الرجل عاجز عن الكلام. أما، وهو يتكلم ويرفع صوته بالثناء على الشيوعيين مع أن أحدا لم يمسهم بسوء، وإنما هى كلمة قالها عبد الحليم محمود فى موقف الإسلام من الشيوعية لا يمكنه أن يقول غيرها، وإلا ما صدقه أحد ولأدانه الإسلام ذاته، لقد كان ينبغى حينئذ أن يمتشق الشرقاوى قلمه هذا الحاد الباتر ويقول كلمة ولو مقنَّعة يشير فيها إلى أن من حق أولئك المعتقلين أن يخرجوا من أقبية السجون ويستريحوا من العذاب الوحشى الذى يُصَبّ فوقهم صَبًّا ليتبوأوا مكانهم مع الشيوعيين وغيرهم تحت الشمس.
كذلك ينكر الشرقاوى أن يكون أحد من الشيوعيين أو غيرهم قد داس طرفا لأى شيخ أو تطاول على الدين. ومرة أخرى لا أدرى كيف واتت الشرقاوىَّ نفسُه ليقول هذا الكلام الذى يعرف هو قبل غيره أنه غير صحيح. لقد رد عليه محمود أبو وافية فى صحيفة "الأخبار" فقال: "أرجو أن تتقبل مني هذا العتاب حول مقالك الأخير الذي جانبه التوفيق والمنشور بـ"روز اليوسف" بتاريخ 11/ 8/ 1975 بعنوان "لا يا صاحب الفضيلة". واسمح لي أن يكون عتابي قاسيا، فإن مقالك كان كذلك، وما عرفت عنك إلا سعة الأفق والروح الديموقراطية السليمة. ولأبدأ بالإجابة على سؤال ورد في الصفحة السابقة تحت عنوان "من الذي سخر من رجال الدين؟" حيث تقول: "ثم إنك تقول يا صاحب الفضيلة ما نصه: وللشيوعيين منهج معين في الهجوم على الدين. الخطوة الأولى هي السخرية بعلمائه بكل الوسائل... إلخ"، ثم تتساءل: في أي مكان من الأرض يحدث هذا؟ ومن هم العلماء الذين كانوا عرضة للسخرية؟ وإنني أجيبك على سؤالك هذا: فبالنسبة لمكان الهجوم فهو القاهرة، شارع قصر العيني، مجلة "روز اليوسف" بعددها الصادر يوم 11/ 8/ 1975م. وبالنسبة للجزء الثاني من سؤالك: من هم العلماء الذين كانوا عرضة للسخرية؟ فإنني أجيبك أنه هو فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر، والذي هاجمه هو الأستاذ عبدالرحمن الشرقاوي رئيس مجلس إدارة "روز اليوسف". إن الإمام الأكبر ليس مجرد فضيلة الشيخ عبدالحليم محمود المواطن المصري، ولكنه هو الرمز الحي للمسلمين. فأنت حينما تهاجمه بحجة أنه رجل يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، ومن ثم يجوز نقده، لا تكون موفقا لأنك تجاهلت مشاعر المسلمين، وكان الأجدر بك أن تعيد التفكير. ولَكَمْ آلمني حقا أن أراك تقول عن الإمام: "وله العُتْبَى حتى يرضى". ذلك أن هذا التعبير لم يستعمله إلا النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يخاطب به الله سبحانه وتعالى، ويشكو إليه كذلك. وقد جانبك التوفيق حينما شبهت بطريق غير مباشر فضيلة الإمام الأكبر بالنبي محمد عليه الصلاة والسلام، فوصفته بأنه رجل يأكل الطعام ويمشي في الأسواق. ومن المعروف أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي وُصِف بهذا التعبير.
هل تسمح لي أيها الصديق أن أسألك سؤالا: "بصفتك قد صليت في موسكو" من الذي قال: "الدين أفيون الشعوب"؟ كذلك فأنت تقول في الصفحة التاسعة من المجلة ما نصه: إنني أرجوك أن تعود إلى نصوص القرآن والأحاديث الشريفة في أمور المال وحق الفرد وحق الأمة لكي تخرج على الناس بكلام آخر تحق فيه الحق، وتمحو عن الإسلام عار أنه ينحاز لطبقة ضد طبقة، ووصمة الزعم بأنه يبارك الاستغلال. وأحب أن أسألك: من الذي يقول إن هناك عارا قد لحق بالإسلام؟ ومن الذي قال إن الإسلام ينحاز لطبقة ضد طبقة؟ ومن الذي زعم أنه يبارك الاستغلال؟ إن كنت تقصد أن الذي فعل ذلك هو فضيلة الإمام الأكبر بمقاله المنشور في "آخر ساعة" فقد أخطأت، لأنني وغيري لم نلمس ذلك. ومن ثم فإنك تكون قد تجنيت على الرجل، ومسست مشاعر المسلمين. وإن كنت لا تقصده فأرجو أن تخبرنا: من الذي فعل ذلك؟ حتى لو كان الذي فعل ذلك هو أنت نفسك رغم أنك قد صليت في موسكو. وأخيرا فما كنت أحب لك أن تتردى إلى قولك للإمام: "يجب ألا توظف الدين لتخدم الرأسمالية وتهاجم الاشتراكية"، فهذا اتهام غير صحيح" .
على أن الأمر لا ينحصر فيما كتبه الأستاذ الشرقاوى ضد الشيخ عبد الحليم محمود، بل هناك إساءات كثيرة للإسلام ورجاله من قِبَل اليساريين وغيرهم: فمعروف لكل أحد أن كثيرا من الأفلام تصور علماء الدين ومن يشبههم بصورة سيئة مضحكة تبعث على احتقارهم والاستهزاء بهم. وفى رواية "الأرض" نستغرب كيف لم يجد الشرقاوى مكانا يمارس فيه الأطفال لعبة "العريس والعروسة" بما فيها من عبث جنسى إلا المصلى على شط الترعة فى قريتهم . وهذا إن كانت أحداث الرواية وهدفها يستلزمان هذا الأمر. ترى أضاقت الدنيا بما رَحُبَتْ، فلم يجد الشرقاوى إلا المصلى يمارس فيه الصبيان هذه اللعبة الجنسية؟ أوقد اختار الشرقاوى ذلك المكان عبثا؟ لا أظن ذلك.
وحين جعل الشرقاوى عالم الدين فى الرواية المذكورة رجلا منافقا لا ذمة له ولا قلب، ويطوع الدين لأغراض المستغلين وضد الفقراء والمساكين ، أوقد فعل ذلك مصادفة؟ لا أظن. لقد ذكر فى مقال له من المقالات الثلاث أن رجال الدين فى الدول النصرانية يتعاونون مع الشيوعيين فى النضال ضد الرجعية والرأسمالية والاستغلال والاستعمار. فليكن. لكن لم يا ترى لم يجد فى علماء الدين المسلمين إلا هذا المنافق؟ أنا لست من أنصار محاباة علماء الدين، لكنى أتساءل: لماذا انسد الأفق أمام ناظريه فلم ير إلا هذا النموذج الفاسد من علماء الدين؟ لقد أفسحت "روز اليوسف"، لبعض العلماء، صدرها فى العدد السابق على العدد الذى كتب فيه الشرقاوى مقاله الثالث ردا على شيخ الأزهر، واحتفت بهم، واحتفى هو أيضا معها بهم بوصفهم علماء دين مستنيرين وتقدميين، فلماذا لم يختر واحدا يشبه هؤلاء لروايته؟ أم تراه لا يعترف بأن عالم الدين المسلم رجل مستقيم مناضل إلا إذا وقف ضد شيخ الأزهر؟ لا ينبغى أن يكون الرد أن هذا هو الواقع، فالواقع يضم هذا وذاك. واختيار المرء، كما قيل، دليل على عقله، فلم اختار الشرقاوى هذا، ولم يختر ذاك؟ إن الذى جعله يختار لروايته: "الفلاح" فلاحا واعيا مثقفا "على سنجة عشرة" يأتى إلى القاهرة ويرتاد جروبى ويناقش أى مسألة فى الدنيا ولا أجعص مفكر فى زمانه، حتى لقد ألقيتُ بالرواية جانبا، ولم أستطع أن أكملها وأنا طالب صغير فى الجامعة، جَرّاء ما فيها من تكلف لا يطاق، وتمويه متنطع فى رسم شخصية الفلاح جريا، فيما يبدو، وراء الواقعية الماركسية السيمونوفية التى أتحفنا د. محمد مندور بالحديث عنها فى كتابه: "الأدب ومذاهبه"، والتى تتغيا الدعوة الفِجَّة للشيوعية والشيوعيين، إن الذى جعله يختار هذا الفلاح المثقف "على سنجة عشرة" كان قادرا على أن يجعله يختار لرواية "الأرض" شيخا مسلما مستقيما.
كذلك عندما أضفى الشرقاوى هالة ساحرة على علوانى الشاب العرباوى الذى يسرق ما طالته يده من حقول القرية من أجل شراء السجائر، وجعل منه بطلا هماما فى تلك الرواية فى الوقت الذى مسح الأرض بعالم الدين، أكان ذلك منه عفوا؟ لا أظن! ألا يمكن أن يكون الإنسان متدينا وصالحا فى ذات الوقت يا ترى؟ أم ترى لا بد أن يكون الأبطال الذين تمجدهم الروايات لصوصا يسرقون الحقول ليشتروا لفافات التبغ الحرام، فيحرقوا صدورهم فى الدنيا، ويحرقوا أنفسهم فى النار يوم القيامة؟ ثم لماذا نذهب بعيدا، وها هو ذا الشرقاوى يصف نفسه بأنه مسلم صادق، وتقدمى أيضا، وفيه كل المواصفات المطلوبة للمسلم المثقف المتنور، فلماذا لم يختر واحدا مثله للرواية يكون مثلا صالحا للمسلم المثقف؟
ومن طائفة اليساريين الذين يسخرون من الإسلام سلامة موسى، الذى لم يترك شيئا نعتز به فى ديننا إلا وسفَّهه ووصمه بالرجعية. بل لقد كان يرفض أى شىء لم تأت به الحضارة الغربية. ولا أحد ينسى الهجوم الصاعق الذى قام به جمال عبد الناصر على علماء الدين المسلمين حين اتهمهم بأن الواحد منهم يبيع ذمته وضميره ويصدر ما يراد منه من فتاوَى لقاء أكلة. وكان ينبغى أن يسمو فوق تلك اللغة بوصفه، على الأقل، رئيسا للمصريين، والمصريون أمة مسلمة فى غالبيتها، إذ الرؤساء لا ينزلون إلى هذا المستوى، ولا يشنون حربا شعواء على علماء بلادهم مهما كان منهم من يتصف بهذه العيوب. وبالتأكيد هناك من يتصف منهم بهذه العيوب، وهو يعرفهم جيدا، واستغلهم جيدا لتمرير ما يريد من فتاوى وتفسيرات للدين تتمشى مع سياسته ونظامه. نعم، ينبغى أن يكون الحاكم أكبر من ذلك، إلا أن عبد الناصر، زعيم الاشتراكيين فى المنطقة، لم يراع هذا، وسخر من علماء الدين على رؤوس الدنيا كلها. فما رأى الشرقاوى فى هذا؟ أتراه ينكره ويقول إنه لم يحدث؟
ألم يصور صلاح جاهين الشيخ الغزالى ذات يوم فى كاريكاتير ساخر بصحيفة "الأهرام" يتهكم من خلاله بعلماء الدين، مما شاط أعصاب طلاب الأزهر فخرجوا فى مظاهرات صاخبة احتجاجا على تلك الإهانة؟ ألم يصور أحد رسامى الكاريكاتير ذات مرة أخرى ديكا وحوله تسع دجاجات، وكتب تحت الصورة أن هذا محمد أفندى وزوجاته التسع؟ بل ألم تدأب مجلة "روز اليوسف" ردحا من الزمن على نشر كاريكاتيرات تحت عنوان "الشيخ متلوف" تسخر فيها من علماء الإسلام بكل شكل، وعلى كل لون؟ ألم يصور صانعو فلم "الزوجة الثانية" عالم الدين الموجود بالقصة رجلا منافقا جبانا قاسى القلب كل همه التقرب من العمدة وإمداده بالفتوى اللازمة لتطليق الزوجة المسكينة من زوجها المغلوب على أمره وتزويجها بذلك العمدة؟ بل إن الأمر ليبدو وكأنه لا يوجد فلم مصرى يضم بين شخصياته عالم دين مسلما دون أن يظهره صانعو الفلم بمظهر المتخلف المتقعر أو المنافق عديم الإيمان؟
ولقد كان الكتاب الشيوعيون فى تلك الفترة يستخدمون مصطلح "التصوف" و"الصوفية" و"الرجعية" للإشارة إلى الإسلام والمتمسكين به حتى يكونوا على راحتهم فى النيل منه ومنهم دون أن يقول لهم أحد إنكم تقصدون الإسلام؟ ألا يحمل الشيوعيون دائما على الغيبيات ويعدون الإيمان بها من علامات التخلف والرجعية والفكر الخرافى؟ ألم يُسْقِط عبد الرحمن المنيف، فى روايته: "حين تركنا الجسر"، على لسان صيادِ طيورٍ تجديفاتٍ سفيهةً فى حق الله سبحانه لا يمكن صدورها من صياد، وفى سياق لا يستلزم البتة شيئا من هذا السفه والخروج على العقيدة؟ ألم يهاجم جلال العظم الإسلام واتهمه بأنه مملوء بالأساطير متمثلة فى الله والملائكة وقصة آدم وحواء؟ ألم يزعم أن الإسلام يناهض العلم؟ ألم يتمعَّر وجه بعض الكتاب المصريين اليساريين حين هاج المسلمون ضد سلمان رشدى وروايته، التى وجه فيها أبشع ألوان الأذى للرسول والصحابة والدين الحنيف، فأصدروا بيانا يدافعون عنه وعن فعلته الخبيثة؟ ألم تصدر بعض دور النشر كتبا تحمل اسم خليل عبد الكريم "اليسارى المستنير" وتنال من الدين والرسول، ومن كبار الصحابة وتتهمهم بكل ما يخطر على البال من انحرافات وشَبَق وزنا ونفاق؟
ألم يملأ حيدر حيدر روايته: "وليمة لأعشاب البحر" بالإساءات والبذاءات فى حق الدين والرسول والله نفسه، ثم عندما غضب المسلمون فى مصر طلع عليهم بعض الكتاب اليساريين وأشباههم، فى تحد صارخ للحقيقة والمشاعر، يدافعون عن الرواية زاعمين أنها لا تهاجم الدين بل تدافع عنه وتدعو إليه؟ وهناك رواية "مسافة فى عقل رجل"، التى تعجّ بالهجوم السفيه الكاسح على الدين والرسل فى لغة منحطة إملائيا ونحويا وأسلوبيا، وفى فن متهافت هابط لا صلة بينه وبين جنس الرواية مما تناولتُه بشىء من التفصيل فى برنامج تلفازى منذ عدة شهور. وكالعادة انبرى اليساريون ومن لف لفهم يدافعون عن حرية الإبداع. وهناك أيضا قصيدة حلمى سالم عن تزغيط البط، الذى يمارسه الله فيها دون أن يكون هناك سياق لهذا الكلام الفِجّ من بعيد أو قريب سوى الرغبة المريضة فى الإساءة إلى مشاعر المسلمين والتطاول على مقام الألوهية.
وهناك كذلك الرواية التى ظهرت منذ عدة سنوات وكانت، فيما يقول القائلون، سببا فى حصول صاحبها على جائزة شهية من مائة ألف جنيه لا لشىء إلا لأنها تشوه الإسلام والمسلمين وتتهمهم بكل نقيصة، رغم انحطاط مستواها الفنى انحطاطا فاق الحد. واسم الرواية "قسمة الغرماء". وفى السوق الآن رواية بعنوان "مولانا" تحمل بشراسة منقطعة النظير على الجماعات الإسلامية، التى لا نبرئ بعض المنتسبين إليها من سخف وضيق أفق، إلا أننا نلاحظ أن أمثال كاتب الرواية لا يذكرون عن الإسلام وأتباعه فى أعمالهم شيئا طيبا أبدا، فضلا عن أنهم لا يجرؤون، بل لا يفكرون أصلا فى تناول أى دين غير الإسلام أو رجاله بشىء من النقد. وثَمَّ رواية أخرى أسبق من هذه يَلْمِز فيها نفس الكاتب عالـِمَ دينٍ مسلمًا مشهورًا (دون أن يحدده بالاسم)، متهما إياه، تلميحا وعلى نحو مقزز وقح، بالشذوذ الجنسى. وكل إناء بما فيه ينضح! ومن قبل ذلك شكا عزيز أباظة، فى حوار صحفى له فى الستينات ، من أولئك الشعراء اليساريين الذين ينعتون أنفسهم دائما بـ"التقدميين"، وما هم بتقدميين إلا إلى الوراء، والذين يتطاولون على ذات الله ويقحمون التجديف عليه سبحانه وتعالى فى أشعارهم بلا أى معنى سوى الرغبة الحارقة فى التهجم على الذات العَلِيّة.
بل إن الشرقاوى ذاته فى كتابه: "محمد رسول الحرية" لم يخطئ مرة فينسب القرآن إلى الله، بل كان دائما ما يأتى بعبارة ملتوية يفهم منها أن رسول الله هو الذى يأتى بالقرآن من عند نفسه حسبما لاحظ الشيخ محمد أبو زهرة فى التقرير الذى دبجه عن الكتاب، والذى أشار فيه إلى أن الشرقاوى قد صَدَّر كتابه بعبارة "قل: إنما أنا بشر مثلكم"، وهى جزء من آية قرآنية حذف الشرقاوى تكملتها التى تحدد وضع محمد بين البشر بأنه نبى يوحَى إليه، إذ تجرى الآية قبل الحذف على النحو التالى: "قل: إنما أنا بشر مثلكم"يُوحَى إلىَّ أنما إلهكم إله واحد" ، وإن كان الشرقاوى قد ذكر فى مقدمة الكتاب أنه إنما يكتب لغير المسلمين ممن لا يؤمنون بنبوته، فأراد أن يبين لهم أن حياته، بعيدا عن النبوة، كانت مفعمة بالإباء والحب والرحمة والبساطة، والقدرة الخارقة على التنظيم والإبداع وكسب القلوب، والروعة والبطولة والإنسانية والخطر . إلا أن هناك سؤالا يمكن المعترضين على الشرقاوى أن يثيروه، وهو أنه إنما كتب ما كتب عن النبى بالعربية لا بلغة أجنبية، فقراؤه إذن عرب، ومصريون فى الأساس، وهم مسلمون لا يحتاجون أن يبين لهم أحد عظمة محمد بعيدا عن النبوة. ودعنا من العنوان، الذى يرى فيه الراؤون إنكارا لنبوة الرسول من خلال وصفه بأنه "رسول الحرية" لا "رسول الله".
كما أن الكتاب يركز على العوامل الاقتصادية فى صراع الإسلام مع المشركين واليهود. ومن ذلك أن الشرقاوى يعزو مثلا تحريم لحم الخنزير فى الإسلام إلى رغبة الرسول فى محاربة اليهود اقتصاديا كى يضعف شوكتهم فلا يستطيعوا أن يصمدوا أمامه، إذ كانوا يتاجرون فى لحوم الخنازير ولهم مراعٍ يربون فيها هذه الحيوانات كما يقول، فأراد تبوير بضاعتهم . يقول الشرقاوى ذلك رغم أن اليهود لا يمكن أن يتاجروا فى الخنزير لأن دينهم يحرمه عليهم تحريما قاطعا . كما أن لحم الخنزير محرم فى القرآن منذ العهد المكى كما نعرف جميعا، ولم يتأخر تحريمه حتى هجرة الرسول إلى المدينة وتعرضه صلى الله عليه وسلم لمؤامرات اليهود هناك، واشتباكه معهم فى خصومات ومعارك. لقد سبق تحريم الخنزير بقوله تعالى فى الآية 115 من سورة "النحل" المكية: "إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ"، وفى الآية 145 من سورة "الأنعام"، وهى مكية أيضا: "قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ". فماذا نقول فى هذا أيضا؟
وهذا مقطع من تقرير الشيخ أبو زهرة عن كتاب الشرقاوى: "إن الكتاب كان له اتجاه غير ديني في دراسته، فهو ما درس محمدا صلى الله عليه وسلم على أنه رسول يوحى إليه، بل على أنه رجل عظيم له آراء اجتماعية فسرها الكاتب على ما يريد. وقد تبين أنّ الكاتب يقطع النبي صلى الله عليه وسلم عن الوحي، فكل ما كان من النبي من مبادئ وجهاد في سبيلها إنما هي من عنده لا بوحي من الله تعالى، وهي بمقتضى بشريته لا بمقتضى رسالته. والعنوان: "إنما أنا بشر مثلكم" يعلن أن ما وصل إليه النبي صلى الله عليه وسلم من مبادئ جاهد من أجلها إنما هو صادر عن بشرية كاملة لا عن نبوة. وقد اقتطع هذه الجملة مما قبلها وما بعدها. ونصها الصحيح: "قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ". وهو بهذا الاقتطاع ينفي الوحي عن الحياة المحمدية. كذلك فهو ينفي الخطاب السماوي للرسول، ولا يذكر أنّ جبريل خاطب النبي صلى الله عليه وسلم في العِيَان. وتصويره للوحي بأنّه حلم في النوم يخالف ما أجمع عليه المسلمون من أن جبريل كان يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم بالعيان لا في المنام، الأمر الذي تردد ذكره في القرآن على أنه رسول الله إلى الذين يصطفيهم من الأنبياء ليبلغ الرسالة الإلهية لأهل الأرض. كذلك فهو يقطع الرسالة عن الرسول ويقطع الوحي عنه، ويتجه إلى القرآن فيذكر عباراته أحيانا منسوبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم على أنها من تفكيره ومن قوله لا أنها قرآن موحى بها قائله هو الله سبحانه. وإنّ ذلك مبثوث في الكتاب بكثرة. وهو ينسب بعض آي القرآن إلى النبي، وكذلك ينسب إبطال التبني إلى النبي، ولا ينسبه إلى الله تبارك وتعالى، وكذلك ينسب تحريم الخمر إلى النبي. كما أنه يذكر قصص القرآن على أنه نتيجة تجارب النبي صلى الله عليه وسلم. وما كانت قصص النبي إلا من القرآن، وما كانت له رحلات في بلاد العرب. بل إنه لم يخرج من الحجاز إلا مرتين: إحداهما في الثانية عشرة، والثانية في الخامسة والعشرين. ويرى الكاتب أنّ القرآن من كلام محمد، ولم يذكر قط على وجه التصريح أن الله تبارك وتعالى هو منزل القرآن وباعث محمد بالرسالة. بل إنّ ذكر الله تبارك وتعالى يندر في الكتاب، بل لا تجد له ذكرا قط. ولم يذكر القرآنَ إلا نادرا، بل لا تكاد تجد له ذكرا قط. وإذا ذكر آية ذكر أنها همهمة نفس النبي صلى الله عليه وسلم. وهو لا يذكر كلمة "القرآن" على أنه منسوب لله إلا في مقام يومئ بالتشكيك في صدقه، ويوهم بأنّ به تحريفا وتبديلا، ومحاولة التقاط من واحد ممن كانوا يشتركون مع العشرات في كتابة الوحي لإثارة هذه الشبهة" .
كما يشير منتقدو الشرقاوى إلى ما تَعِجّ به مسرحياته وكتبه الإسلامية من تَعَدٍّ على مقام الصحابة الكبار كما هو الحال فى مسرحيته: "الحسين شهيدا"، التى تصور المجتمع الإسلامى بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بفترة قصيرة بصورة بشعة، وكأنه قد أضحى مجتمعا للعربدة والشقاق والجبن والخيانة. وقد وَسَمَ علماءُ الأزهر المسرحيةَ بأنها تُشَهِّر بجماعةٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تراعِى فيهم إِلاًّ ولا ذمةً، ومنهم معاوية، الذى كان من كُتَّابِه عليه السلام، إذ جاء فيها أنه عَطَّل أصلاً من أصول القرآن، وزيَّفَ قاعدةَ الشورى، وأهدر أحكام السنة. كما تناثرت فيها عبارات مجتلَبة من خارج نطاق الإسلام كقوله على لسان الحسين رضى الله عنه: "‫أنا ما أتيتُ هنا لأُلْقِىَ بيننا سيفا ورمحا بل كلاما"... وهَلُمَّ جَرًّا. ليس ذلك فقط، بل منهم من يتهمه بالماركسية المقنَّعة التى تريد أن تتسلل خفيةً إلى النفوس متدثرةً بملابس إسلامية حتى لا يُكْتَشَف أمرُها ولا أمرُ صاحبها، وإن كان محمود أبو وافية، كما رأينا فيما سبق، قد نفى عنه أن يكون ماركسيا، مع الإيماء فى ذات الوقت إلى أن مجاورته للماركسيين فى"روز اليوسف" يمكن أن تحرقه بنارهم الحمراء.
وبالنسبة إلى ما قاله الشيخ عبد الحليم محمود عن المسرح واعتماد ماركس عليه فى إلهاء الشعوب عن الدين يسارع الشرقاوى منكرا أن يكون زعيم المذهب الشيوعى قد قال شيئا من هذا، ثم يتساءل عقب ذلك قائلا بلهجة مستفزة: هل هى حرب جديدة على المسرح أيضا؟ ومن يقرأ كلام د. عبد الحليم لا يجد الرجل قد تطرق إلى الهجوم على المسرح بتاتا، بل اكتفى بذكر ما تصور، صوابًا أو خطأً، أن ماركس قاله. ولقد حاولت أن أجد شيئا فى هذا الموضوع يجلى الحقيقة فيما نُسِب على لسان الشيخ إلى كارل ماركس، فعثرت على كلمة مهمة جدا كتبها العقاد فى كتابه: "الشيوعية والإنسانية فى شريعة الإسلام"، إذ أورد الكاتب العملاق كلمة قالها كالينين رئيس الاتحاد السوفييتى فى إحدى خطبه أواخر الثلاثينات ونشرتها صحيفة "Komsomolslaya Pravda" فى 13 يوليه 1939م مُفَادها "أن هدم الدين بغير نظرٍ فيما يَخْلُفه لا يجدى، وأن لينين كان يرى أن المسرح سوف يحل فى المجتمع المقبل محل الدين". وإذن فإن الشيخ بوجه عام لم يخطئ ولم يتجنَّ على الشيوعية ولا على الشيوعيين. أما إذا كان قد نسب ما قاله لينين إلى ماركس فهذا قد يكون نابعا من تلاعب الذاكرة أو قد يكون ماركس قال فعلا تلك الكلمة، لكننى لم أعثر عليها فيما وقع لى من كتاباته أو كتابات الآخرين عنه. والمعروف أن المسرح السياسى فى الاتحاد السوفيتى كان مسرحا دعائيا لا يهتم بالفن ولا بالإبداع بقدر ما يهتم بالوعظ والإرشاد. ومن هنا كانت شخصياته جامدة نمطية لا حيوية فيها، وهو ما يجعل كلمة الشيخ فى محلها تماما. تقول مادة " Political theatre" فى النسخة الإنجليزية من موسوعة "الويكبيديا":
"Often political theatre has been used to promote specific political theories or ideals, for example in the way agitprop theatre has been used to further Marxism and the development of communist sympathies. Russian agitprop theater was noted for its cardboard characters of perfect virtue and complete evil, and its coarse ridicule".
أما تصايح الشرقاوى عن تحريم الشيخ للمسرح فهو تربص بالشيخ لا مسوغ ولا معنى له، وتماحيكُ كنت أربأ به عن اللجوء إليها، إذ لم يقل الشيخ بشىء من هذا بتاتا، بل هى من اختراع الشرقاوى ليشوه صورة الرجل ويشغله ويُوقِع، فيما يتصور، الرعب فى قلبه، وهيهات، فقد كان الشيخ جريئا لا يبالى ولا تأخذه فى الحق لومة لائم ما دام يعتقد أنه الحق بصرف النظر عن موافقتنا أو مخالفتنا له فيما يرى، فتلك مسألة أخرى. وهذه التماحيك تذكّرنا بتماحيك الشرقاوى الأخرى عن صور الشيخ فى مجلة "آخر ساعة".
ولا تقف اتهامات الشرقاوى لعبد الحليم محمود عند هذا الحد، إذ اتهمه كذلك بأنه يجعل من الجنة حكرا على الأغنياء، فى إشارة منه إلى ما لاحظه الشيخ من أن عددا من العشرة المبشرين بالجنة كانوا من أغنياء الصحابة أصحاب الملايين، على حين لم يكن منهم بلال ولا أبو ذر ولا صهيب، وهم من الفقراء. وهنا نراه يوجه السؤال التالى إلى الشيخ: هل اشترى الصحابة أصحاب الملايين قصورا فى الجنة، فى حين عجز عن إبرام الصفقة الفقراء منهم؟ كما يرد على ما قاله د. عبد الحليم من أن الأصل فى الإسلام هو حرية الفرد فى المال فى إطار المبادئ العامة للإسلام بأن هذا الكلام حق لا ريب فيه، إلا أن هذه المبادئ العامة نفسها تقيد حرية الفرد فى المال لمصلحة الأمة. وعلى هذا فليس الإسلام دينا رأسماليا، إذ الرأسمالية إنما تقوم على استغلال الفقراء وسرقة حقوقهم، وهو ما لا يقره الإسلام. وهنا يعود مرة أخرى إلى القول بأنه لا توجد دولة شيوعية فى الأرض، ومن ثم فما يقوله الشيخ عن مصادرة الشيوعية للأموال هو كلام فى غير محله، إذ إن هذا إنما تم فى الدول الاشتراكية. ثم إن مصادرة أموال الأغنياء فى تلك الدول لم تتم عن قهر وعسف، بل الذى حدث هو أنها أممت بعض أدوات الإنتاج لمصلحة الأمة كلها.
وأول ما أقف عنده هو وصف بعض الصحابة بـ"أصحاب الملايين". ترى هل كان هناك حقا أصحاب ملايين من الصحابة رضوان الله عليهم؟ فكيف حصلوا على تلك الملايين يا ترى؟ ترى هل كان أبو بكر، بعد كل الذى أنفقه فى سبيل الله، من أصحاب الملايين؟ من المعروف أنه، غداة توليه الخلافة، رآه بعض الصحابة يغدو إلى عمله الذى يتعيش منه هو وأهل بيته، فأنكروا عليه ذلك، وانتهى الأمر بأن قرر الصحابة له مرتبا يعيش منه. فكيف يقال عنه إنه من أصحاب الملايين؟ وعمر، متى بالله كان منهم، وهو لم يكن غنيا لا قبل الإسلام ولا بعده؟ وأين كان يضع ملايينه هذه المفتراة يا ترى؟ هل كان يرسلها مثلا إلى مصارف سويسرا، التى تعيش على ما يسرقه كبار رجال الدول الشرقية من شعوبهم؟ لقد كان الرجل يحيا حياة كلها زهد وتمنع عن الدنيا، بل حرّم على كبار الصحابة ترك المدينة ولو للجهاد. فمن أين أتته أو أتتهم الملايين، وهم جميعا أسرى البقاء فى المدينة، فلا جهاد ولا تجارة خارجية مما يمكن أن يدر الثروات على ممارسيه، وإن كنت لا أزال أرى أن حكاية الملايين هذه هى مما لا يقبله العقل؟ وعثمان، أين يا ترى ذهبت ملايينه بعدما مات ميتته المأساوية؟ لم نسمع بتوزيع تركة مليونية بعد موته. وقل مثل ذلك فى على، الذى نعرف من فقره أيام النبى ما نعرف حتى لقد طلبت زوجته من أبيها رسول الله أن يعينها بخادمة تساعدها فى أعمال البيت، فلم يستجب لها، وأوصاها بتسبيح الله خيرا لها من ذلك، ونعرف كذلك أنه لم تطرأ عليه طارئة تنقله من الفقر إلى الغنى، فهو لم يكن تاجرا ولا حاكما من حكام المسلمين فى عصرنا الذين نعرف عن لصوصيتهم وجشعهم وتخلف عقولهم وانعدام وطنيتهم ودينهم وفراغة عيونهم الكثير.
نعم، لقد قرأنا كلاما عن تكسير الذهب بالفؤوس فى بيوت بعض الصحابة كعبد الرحمن بن عوف. إلا أن هذا كلام لا يدخل العقل، إذ متى كان الذهب يكسر بالفؤوس؟ إن كبار الجواهرجية فى عصرنا لا يفعلون ذلك لأن ما فى حوزتهم من الذهب لا يحوجهم إلى فؤوس. ولأمر ما يقول العرب: "ميزان الذهب"، يقصدون به الميزان الحساس الذى يزن الدقائق لا الميزان الجواميسى الخاص بوزن البصل والبطاطس وما أشبه. الحق أن هذه أول وآخر مرة أسمع فيها بذهب يكسَّر بالفؤوس! ترى هل يصدق عاقل ما يقوله اليزيدى فى "أماليه" من أنه "لما توفي عبد الرحمن بن عوف ترك أربع نسوة، فصولحت امرأة من نسائه، وأخرجت من الثمن بثمانين ألف درهم... وأن الرجال ضربوا بالفؤوس سبائك الذهب من ميراثه حتى مَجِلَتْ أيديهم"؟
هذا عن الملايين، والآن إلى حديث العشرة المبشرين بالجنة. وسؤالى هو: هل اخترع د. عبد الحليم هذا الحديث؟ أم هل هو على الأقل حديث ضعيف؟ لا، فقد روى سعيد بن زيد وعبد الرحمن بن عوف الحديث التالى: "أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، وسعد بن أبي وقاص في الجنة، وسعيد بن زيد في الجنة، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة". أم كان الأستاذ الشرقاوى يريد من الشيخ أن يسكت فلا يذكر هذا الحديث لأنه يوغر صدر البروليتاريا، أو "الشغيلة" برطانة الماركسيين؟
وهل يصح أن يقال إن هؤلاء العشرة قد اشتروا الجنة بملايينهم، وحُرِمَها الفقراء لعدم المال اللازم للشراء؟ هل يصح أن يقول هذا فى حق كلام قاله الرسول رجلٌ مسلمٌ حسنُ الإسلام كما يصف نفسه؟ ثم إن هناك أحاديث أخرى تتحدث عن فضل فلان أو فلان من الصحابة غير المبشرين وتبشرهم بالجنة صراحة أو ضمنا، ومن بين هؤلاء كثير من الفقراء كبلال وأبى ذر وعكاشة والصحابى الذى لم يكن يحمل ضغنا لأحد، فمتى وضع جنبه على فراشه أخذه النوم فى الحال لخلو قلبه من الاشتغال بالآخرين ... كما أن العشرة المبشرين بالجنة ليسوا كلهم أغنياء: لا من أصحاب الملايين ولا من أصحاب الألوف، ولا حتى من أصحاب المئات. ومن هؤلاء على وعمر. لكنْ مما هو معلوم من الحياة بالضرورة أن الناس تتفاوت فى اجتهاداتها وإنجازاتها، وأنه لا مناص من ترتيب أقدارهم حتى يزداد المتفوق تفوقا، ويتحمس من يقصر عنه قليلا أو كثيرا، ولا يقال إن هذه تفرقة طبقية، وبخاصة أن العشرة المبشرين ليسوا كلهم من ذوى الثروات كما رأينا، وكما لاحظ د. عبد الحليم أيضا، إذ ذكر أن فيهم الغنى والمتوسط الحال والفقير ، وأنه إذا كان بلال وصهيب وأبو ذر لم تأت أسماؤهم ضمن العشرة المبشرين فإنهم بمشيئة الله من أهل الجنة أيضا لصلاحهم وتقواهم .
وأنا أعتقد أن الشيخ قد فاتته الدقة فى التعبير فوقع فى هذا السهو بنية طيبة. ومقصوده أن الفقر فى ذاته لا يرفع من قدر الفقراء، وأن الغِنَى فى ذاته لا يهبط بالغَنِىّ فى ميزان النبل والشرف، على عكس ما يقوله الماركسيون، الذين ينظرون إلى كل ثراء على أنه ثمرة السرقة والاستغلال حتمًا لازبًا، ويظنون أن كل فقير أشرف وأطهر من كل غنى بالضرورة، مع أن واقع الدنيا لا يقول هذا دائما، إذ ليس قاعدة لا ينبغى أن تخرج عليها الحياة. ومع هذا فالرجل لم يترك قراءه فى عماية من الأمر، بل قال ما قلته هنا، ولكن بأسلوبه وطريقته.
يقول الشيخ فى كتابه: "الفُضَيْل بن عِيَاض" تعقيبا على قوله تعالى فى الآية رقم 32 من سورة "الأنعام": "وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ": "ولعل الأمر لا يلتبس على الناس فى ذلك، فكل ما كان فسادا أو حثا على الفساد فهو الدنيا، أما الثراء الطيب والكسب الحلال والضرب فى الأرض والسعى فيها بالصورة الكريمة التى لا مخالفة فيها للدين والتى أخلص الإنسان فيها وجهه لله فإنها مطلوبة. ولقد كان الصحابة، رضوان الله عليهم، يضربون فى الأرض ويكتسبون المال من حِلّه، وينفقون منه فى سبيل الله، ويتصدقون ويبنون المساجد ويساعدون الفقراء والمساكين، وكل ذلك جهاد فى سبيل الله. فليس معنى الزهد أن يكون الإنسان عالة على الآخرين أو أن يكون فقيرا. كلا، واليد العليا خير من اليد السفلى".
ترى بالله ماذا فى هذا الكلام مما يدفع الشرقاوى إلى مهاجمة قائله؟ إننى لا أرى للشيخ ولا لسواه عصمة ولا قداسة، وإن كنت أبجله لبعض الاعتبارات التى جَلَّيْتُها فى موضعها من هذا الكتاب رغم اختلافى معه فى بعض ما يعتقده أو يقوله فى التصوف، وإن كان الرجل بوجه عام من المعتدلين فى هذه الناحية حسبما قرأت من كتاباته، التى لا أعرف شيئا عنه إلا من خلالها. كما فصل القول فى كتابه: "أبو ذر الغفارى والشيوعية" موضحا أن هؤلاء العشرة ما استحقوا هذه البشارة ولا تلك المكانة إلا بتقواهم وتوظيف الأغنياء منهم أموالهم فى سبيل الله والمسلمين لا لمجرد غناهم وثرواتهم. ومع ذلك أخذ الشرقاوى فى مقالاته بـ"روز اليوسف" يتأستذ على د. عبد الحليم بهذه الفكرة، وكأنها كانت غائبة عن بال الشيخ!
وهذه طائفة من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فى تبشير صحابة آخرين غير العشرة بالجنة: "كنت جالسا في حلقة في مسجد المدينة. قال: وفيها شيخ حسن الهيئة، وهو عبدالله بن سلام. قال: فجعل يحدثهم حديثا حسنا. قال: فلما قام قال القوم: مَنْ سَرَّه أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا. قال: فقلت: والله لأتبعنه فلأعلمن مكان بيته. قال: فتبعتُه. فانطلق حتى كاد أن يخرج من المدينة، ثم دخل منزله. قال: فاستأذنت عليه، فأذن لي، فقال: ما حاجتك يا ابن أخي؟ قال: فقلت له: سمعت القوم يقولون لك لما قمت: "من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا"، فأعجبني أن أكون معك. قال: الله أعلم بأهل الجنة. وسأحدثك لم قالوا ذاك. إني بينما أنا نائم إذ أتاني رجل فقال لي: قم. فأخذ بيدي فانطلقت معه. قال: فإذا أنا بجَوَادَّ عن شمالي. قال: فأخذت لآخذ فيها. فقال لي: لا تأخذ فيها، فإنها طرق أصحاب الشِّمال. قال: فإذا جوادُّ مُنْهَجَةٌ على يميني. فقال لي: خذ ههنا. فأتى بي جبلا، فقال لي: اصعد. قال: فجعلتُ إذا أردت أن أصعد خررتُ على استي. قال: حتى فعلتُ ذلك مرارا. قال: ثم انطلق بي حتى أتى بي عمودا رأسه في السماء، وأسفله في الأرض، في أعلاه حلقة. فقال لي: اصعد فوق هذا. قال: قلت: كيف أصعد هذا، ورأسه في السماء؟ قال: فأخذ بيدي فزجل بي. قال: فإذا أنا متعلق بالحلقة. قال: ثم ضرب العمود فخَرَّ. قال: وبقيت متعلقا بالحلقة حتى أصبحتُ. قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقصصتُها عليه. فقال: أما الطرق التي رأيتَ عن يسارك فهي طرق أصحاب الشِّمال. قال: وأما الطرق التي رأيتَ عن يمينك فهي طرق أصحاب اليمين. وأما الجبل فهو منزل الشهداء، ولن تناله. وأما العمود فهو عمود الإسلام. وأما العروة فهي عروة الإسلام، ولن تزال متمسكا بها حتى تموت".
وعن أنس: "لما نزلت هذه الآية: "يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي" (الحجرات/ 2 إلى آخر الآية) جلس ثابت بن قيس في بيته وقال: أنا من أهل النار. واحتبس عن النبي صلى الله عليه وسلم. فسأل النبي سعد بن معاذ فقال: "يا أبا عمرو، ما شأن ثابت؟ أَشْتَكَى؟" قال سعد: إنه لَجَارِي، وما علمت له بشكوى. قال: فأتاه سعد، فذكر له قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ثابت: أنزلتْ هذه الآية؟ ولقد علمتم أني من أرفعكم صوتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنا من أهل النار. فذكر ذلك سعد للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل هو من أهل الجنة ".
"كنا جلوسا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يطلع الآن عليكم رجل من أهل الجنة، فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من وضوئه قد علَّق نعليه بيده الشمال. فلما كان الغد قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى. فلما كان اليوم الثالث قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل مقالته أيضا، فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأول. فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم تبعه عبد الله بن عمرو، فقال: إني لاحَيْتُ أبي، فأقسمت إني لا أدخل عليه ثلاثا. فإن رأيتَ أن تؤويني إليك حتى تمضي فعلتَ. قال: نعم. قال أنس: فكان عبد الله يحدّث أنه بات معه تلك الثلاث الليالي فلم يره يقوم من الليل شيئا، غير أنه إذا تَعَارَّ وتقلب على فراشه ذكر الله عز وجل وكبَّر حتى صلاة الفجر. قال عبد الله: غير أني لم أسمعه يقول إلا خيرا. فلما مضت الثلاث الليالي، وكدت أن أحتقر عمله، قلت: يا عبد الله، لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجرة، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لك ثلاث مرات: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة، فطلعتَ أنت الثلاث مرات، فأردتُ أن آوِيَ إليك فأنظر ما عملك، فأقتدي بك، فلم أرك عملت كبير عمل. فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: ما هو إلا ما رأيتَ. فلما وَلَّيْتُ دعاني: ما هو إلا ما رأيتَ، غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشا ولا أحسد أحدا على خير أعطاه الله إياه. فقال عبد الله: هذه التي بلغتْ بك".
"عُرِضَتْ عليَّ الأمم، فجعل النبي والنبيان يمرون معهم الرهط، والنبي ليس معه أحد، حتى رُفِعَ لي سواد عظيم. قلت: ما هذا؟ أُمَّتي هذه؟ قيل: هذا موسى وقومه. قيل: انظر إلى الأفق. فإذا سواد يملأ الأفق. ثم قيل لي: انظر هاهنا وهاهنا في آفاق السماء. فإذا سواد قد ملأ الأفق. قيل: هذه أمتك، ويدخل الجنة من هؤلاء سبعون ألفا بغير حساب. ثم دخل ولم يبين لهم، فأفاض القوم، وقالوا: نحن الذين آمنا بالله واتبعنا رسوله، فنحن هم، أو أولادنا الذين ولدوا في الإسلام، فإنا وُلِدْنا في الجاهلية. فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فخرج، فقال: هم الذين لا يَسْتَرْقُون ولا يتطيرون ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون. فقال عكاشة بن محصن: أَمِنْهُم أنا يا رسول الله؟ قال: نعم. فقام آخر فقال: أمنهم أنا؟ قال: سبقك بها عكاشة".
"إنه لما أصيب إخوانكم يوم أحد جعل الله أرواحهم في جوف طيرٍ خُضْرٍ تَرِدُ أنهار الجنة تأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش. فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم قالوا: من يبلّغ إخواننا عنا أننا أحياء في الجنة لئلا يزهدوا في الجنة ولا يَنْكِلوا عند الحرب؟ فقال الله تعالى: أنا أبلغهم عنكم. فأنزل الله تعالى: "ولا تحسبنَّ الذين قُتِلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء"... إلى آخر الآيات". وعن أبى قتادة: "أتى عمرو بن الجموح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أرأيتَ إن قاتلتُ في سبيل الله حتى أُقْتَل أمشي برجلي هذه صحيحة في الجنة؟ وكانت رجله عرجاء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم. فقتلوه يوم أحد هو وابن أخيه ومولى لهم، فمر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كأني أنظر إليه يمشي برجله هذه صحيحة في الجنة. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهما وبمولاهما، فجُعِلوا في قبر واحد". وعن أنس "أن أم الرُّبَيِّعِ بنتَ البراء، وهي أم حارثةَ بن سُراقَة، أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا نبي الله، ألا تحدِّثُني عن حارثَةَ (وكان قُتِلَ يوم بدر، أصابَهُ سهمٌ غَرْبٌ): فإن كان في الجنةِ صَبَرْتُ، وإن كان غيرَ ذلك اجتهدتُ عليه في البُكاءِ؟ قال: يا أُمَّ حارثَة، إنها جِنانٌ في الجنة، وإن ابنَكِ أصاب الفِرْدَوسَ الأعلى". وعن شهداء تبوك: جعفر بن أبى طالب وعبد الله بن رواحة وزيد بن حارثة قال صلى الله عليه وسلم: "لقد رُفِعوا إليَّ في الجنة فيما يرى النائم على سُرُرٍ من ذهب، فرأيت في سرير عبد الله بن رواحة ازورارا عن سريريْ صاحبيه، فقلت: بم هذا؟ فقيل لي: مَضَيَا، وتردد عبد الله بن رواحة بعض التردد، ومضى".
وعن على: "بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم والزبيرَ بنَ العوام وأبا مرثد الغنوي، وكُلُّنا فارس، فقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها امرأة من المشركين معها صحيفة من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين. قال: فأدركناها تسير على جمل لها حيث قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قلنا: أين الكتاب الذي معك؟ قالتْ: ما معي كتاب. فأَنَخْنا بها، فابتغينا في رحلها فما وجدنا شيئا. قال صاحباي: ما نرى كتابا. قال: قلت: لقد علمتُ ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم. والذي يُحْلَف به لتُخْرِجِنَّ الكتابَ أو لأُجَرِّدَنَّكِ. قال: فلما رأت الجِدَّ مني أهوت بيدها إلى حُجْزَتها، وهي محتجزة بكساء، فأخرجتِ الكتاب. قال: فانطلقنا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما حَمَلَكَ يا حاطب على ما صنعتَ؟ قال: ما بي إلا أن أكون مؤمنا بالله ورسوله، وما غيَّرْتُ ولا بدَّلْتُ. أردت أن تكون لي عِندَ القوم يدٌ يدفع الله بها عن أهلي ومالي، وليس من أصحابك هناك إلا وله من يدفع الله به عن أهله وماله. قال: صَدَقَ، فلا تقولوا له إلا خيرا. قال: فقال عُمَر بن الخطابِ: إنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين، فدَعْني فأضرب عنقه. قال: فقال: يا عمر، وما يدريك؟ لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم، فقد وجبتْ لكم الجنة. قال: فدَمِعَتْ عينا عمر، وقال: الله ورسوله أعلم".
"أُهْدِيَ لِرسول الله صلى الله عليه وسلم جُبَّةٌ مِنْ سُنْدُسٍ، وكان يَنْهَى عن الحرِيرِ، فَعَجِبَ النَّاس منها، فقال: والذي نَفْسُ محمد بِيَدِهِ إن مناديل سعدِ بن مُعَاذٍ فِي الجنَّة أحسن من هذا". "أتاني مَلَكٌ فسَلَّم عليَّ، نزل من السماء لم ينزل قبلها، فبشَّرني أن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وأن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة". "لما أُسْرِيَ بي في الجنة سمعت خشخشة، فقلت يا جبريل: ما هذه الخشخشة؟ قال: هذا بلال. قال أبو بكر: ليت أم بلال ولدتني وأبو بلال، وأنا مثل بلال". "أُرِيتُ الجنةَ، فرأيتُ امرأةَ أبي طلحةَ. ثم سمعتُ خَشْخَشَةً أمامي. فإذا بلالٌ". وعن أبى أمامة: "أنا سابق العرب إلى الجنة، وصهيب سابق الروم إلى الجنة، وبلال سابق الحبشة إلى الجنة، وسلمان سابق الفرس إلى الجنة". "عائشةُ زوجي في الجنةِ". "قال لى جبريل: بَشِّرْ خديجة ببيت في الجنة من قصب، لا صَخَب فيه و لا نَصَب". "سُئِل النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن أبي طالبٍ، قال: أُخْرِجَ إلى ضَحْضاحٍ من جهنَّمَ. وسُئِل عن خديجة، قال: أبصرتُها على نهرٍ من أنهارِ الجنَّةِ في بيتٍ من قصبٍ لا صخبَ فيه ولا نصبَ. وسُئِل عن ورقة بن نوفل، فقال: أبصرتُه في بُطْنَانِ الجنَّةِ عليه السُّنْدُس. وسُئِل عن زيدِ بنِ عمرِو بنِ نُفَيْلٍ، فقال: يُبْعَثُ يومَ القيامةِ أُمَّةً وحدَه".
 
نسيت أن أقول إن هذا هو الفصل الثانى من كتابى عن د. عبد الحليم محمود، ويبقى فصل ثالث (من مجمل ستة فصول) سوف أنشره هنا قريبا بمشيئة الله إن كان لنا بقية فى العمر. وشكرا
 
جزاكم الله خيرا استاذنا الدكتور ابراهيم عوض
ننتظر هداياكم الأدبية وتحفكم العلمية والفكرية
 
وكأن عبد الحليم محمود نادى بترك الاستعدادات السياسية والحربية والاستناد إلى ضرب الوَدْع وقراءة الفنجان، والتهور الانتحارى فى عبور القناة دون دراسة أو تدريب أو تخطيط.
نعم يادكتور ابراهيم، سلمت يمينك وسدد الله قلمك
وكأن... نعم وكأن.. هذا هو الجانب الذي يخفونه دائما ،ولايسطرونه!، ويوحون لضعفاء العقول ان عقلاء الأمة الذين يؤمنون بالغيب لايؤمنون بالأسباب(والخلاصة أو الإشاعة: أن من يؤمن بالغيب لايؤمن بالأسباب!) بل يوحون ان الرجل وغيره من العلماء يبطلون الأسباب بالرؤيا وبالأحلام!
مع أن الشيخ الكبير جاء بالرؤيا ، بعد أن استعدت الأمة واتخذت كافة الإستعدادات الحربية الضرورية لتحقيق النصر، فكانت الرؤيا تثبيتا معنويا وسندا نفسيا للتقدم بالأسباب لحيازة النصر.
من قبل ايضا أغفل صادق جلال العظم في كتابه نقد الفكر الديني كافة أسباب هزيمة67، وراح يبحث عن الأسباب في الإسلام، مع أنه يعلم أن الإسلام كان محجوبا-بالحجب الاشتراكي!- بعيدا عن السلطة ومن السلطة، ورجالاته كانوا اما في السجون واما في ضيق شديد.
لكنه يصر على إغفال كافة الأسباب الواقعية من خلل التدبير وفساد الناصريين والسلطة الحاكمة وقمع الحريات-التي يطالبوننا بها!- والتفرد بالسلطة مع إغفال الأسباب العلمية في ادارة الدولة الحرب
وفقط لتصفية الحسابات مع البعبع الذي بعبعوه في روسيا والغرب قام العظم برمي الغيب ومايتعلق به ،ومالايتعلق به على أساس أنه يتعلق به!، في دائرة اتهاماته ليتخلص منه اخلاصا للفكرة اللينينية او الماركسية او الاشتراكية بانتصارها الأبدي الحتمي، المستقبلي الخالد- بزعمهم-ضد الدين!
واليوم سقطت الفلسفات التي اعتمد عليها العظم وسقطت الدولة البوليسية الخالدة الفاشلة!، ولذلك ولتصفية الحسابات مرة أخرى راح العظم يكتب اكثر من ألف صفحة في ذهنية التحريم ومابعد ذهنية التحريم في التهكم المباشر على النبي وأهل بيته، ومن النبوة وذلك في انتصاره لرواية سلمان رشدي او مشروعه المكون من رواياته ومقالاته ومنهجه التهكمي!
وكأنهم فعلا يادكتور لايرون الحقيقة بل لايرون الواقع!
انهم كما بينت لنا يادكتور لايخفون حقائق تاريخنا فقط بل يخفون تاريخهم ايضا
ومن تاريحهم كما ورد في كتاب"المتروبوليت إيليا كرم والروسيا" ففيه ،كما نقلت حضرتكم لنا ، التالي: "في أثناء الحرب العالمية الثانية، وعلى أثر حصار هتلر للمدن الروسية، وجه بطريرك روسيا ألكسـي الأول نداءً إلى العالم بضرورة إنقاذ روسيا من براثن النازية. بلغ النداء لبنان، فتأثر به المتروبوليت، خصوصا وأن علاقة مميزة كانت تربطه بروسيا من خلال اهتمامه بعائلات روسية من سلالة القيصر كانت تقطن في بيروت، وكان يشملها بعاطفته ويقدم لها المأوى والعمل. وقد ساعد على بناء عدة منازل لهذه العائلات على أرض في الحدث تابعة لأبرشيته. بلغه النداء أوائل عام 1942، فبكى واعتُصِر قلبُه غَمًّا، فلجأ إلى أمه السيدة العذراء في مغارة دير سيدة النورية في شمال لبنان حيث اعتكف ثلاثة أيام أمضاها في الصلاة والصوم والتضرع أمام السيدة العذراء لتُجَنِّب روسيا كأس الموت. وفي اليوم الثالث استجابت السيدة العذراء لتضرعاته، فظهرت أمامه وأودعته رسالة من شأنها تجنيب روسيا المخاطر المحدقة في حال الأخذ بها.
مُفَاد الرسالة أن على النظام الروسي الشيوعي، وكان يحكمه ستالين آنذاك، أن يعيد جزءا من الكنائس إلى البطريركية الروسية، ويفتح أبوابها أمام المصلين، وأن يحرر الإكليروس السجناء، وأن يسمح للإكليروس الذين يحاربون مع الجنود بممارسة الشعائر الدينية. على الفور استعان المتروبوليت بإحدى السيدات الروسيات، طالبا إليها ترجمة الرسالة إلى الروسية، ثم أرسلها إلى سـتالين وإلى القائمين على البطريركية الروسية آنذاك بواسطة الصليب الأحمر. وقد شاع أن ستالين تأثر كثيرا بالرسالة لدى استلامها، فأبلغها إلى السلطات العسكرية والكنسية، طالبا من الجنرال شباشنكوف، وكان رجلاً مؤمنًا، تطبيقها بحذافيرها، ولا سيما ضرورة الطواف بأيقونة "سيدة قازان" على كل الجبهات من أجل تبريكها. وبفضل هذه الرسالة السماوية اندحر الألمان على أبواب المدن الروسية، ولم يستطيعوا اختراق جبهاتها. وعندها ذاع صِيتُ المطران إيليا كرم في أرجاء البلاد، وسُمِّيَ على إثر ذلك: "منقذ روسيا". وفي عام 1947 زار المتروبوليت كرم روسيا بدعوة من ستالين ومن البطريرك أليكسي الأول حيث استقبل استقبال الملوك. وفي عام 1958 مُنِح أعلى وسام من الكنيسة الروسية مع البطريرك أليكسي الأول ومع الإمبراطور هيلاسيلاسى الأول، وهو وسام القديس فلاديمير من الدرجة الأولى".
 
وانت لفت نظرنا استاذ ابراهيم الى نقطة خطيرة في المنهج العلمي الواجب اتباعه في الحكم على الأشخاص او المسائل الا وهي النظر الى كلام الشخص كله ورؤيته الكاملة وعدم انتزاع قول ما وتحميله ما لايحتمل خصوصا لو تعارض مع رؤية الشخص الكلية .
فمن المعلوم كما بينتم ان فؤاد ذكريا انتهزها فرصة لنقد الإيمان بالغيب ووصف ذلك باللاعقلانية اذ انه توسل من وراء إتخاذ رؤيا الشيخ غرضا، الى القدح في مااسماه بالمصدر الخارجي او الغيبي،فأعماه ذلك التسرع في الحكم عن النظر في موقف الرجل الكلي، فلم يكن اظهار الخلل (المتخيل أو المصطنع!) في موقف الشيخ ليتم لولا إغفال بقية موقفه من الغيب والشهادة من ناحية(وهو مايمكن أن نطلق عليه ب " الحجب والإزاحة!!)، ومن ناحية أخرى من خلال حجب توقيت القول وزمنه بحيث يتخيل القارئ ان القول تم لربط نتيجة الحدث(حدث اكتوبر العظيم)بحديث خرافة أُطلق بعده لتبريره لاعقلانيا كما يتصورون، مع ان الشيخ قدم النتيجة في رؤياه الخالصة على الحدث ولم يقم بعملية استغلال وتقديم مطالب
كما هو الحال في نص وموقف المتروبوليت، الذي استجاب لنداء بطريرك روسيا ألكسـي الأول إلى العالم بضرورة إنقاذ روسيا ، فلم يكن هناك أي غرض لشيخنا وكانت الرؤيا صادقة خالصة ، غير منزوعة الصلة بفكر الشيخ عن ارتباط الأسباب بالمسببات.
والذي دعاني الى ذلك التعليق هو قولكم(بيانا لموقف الشيخ من الأسباب، على الأقل هنا):" ثم هأنذا أستمع الآن إلى تسجيل حديث متلفز للدكتور عبد الحليم محمود فى أحد المساجد يتعرض فيه لما يسميه: "قانون النصر"، الذى ضرب المثل عليه بانتصارنا فى حرب رمضان المجيدة، فيلخصه فى الإيمان بالله والعمل الصالح، محددا العمل الصالح بأنه كل عمل نافع للمجتمع لا الصلاة فحسب، ومنه الإنفاق فى سبيل الله وعلى المحتاجين والفقراء، ومنه الاستعداد التام للمعركة قبل التفكير فى اقتحامها. ليس ذلك فقط، بل هناك دعوته الملتهبة إلى استغلال أرض مصر كلها بحيث نتمكن من زراعة عشرات الملايين من الأفدنة، ونحوّل صفرة الصحراء إلى خضرة، على الأقل بزراعة أشجار الزيتون، التى لا تحتاج، كما يقول، إلى رى إلا كل ثلاث سنوات، وهو ما نستطيعه بكل سهولة، إذ ليست هناك فى مصر بقعة لا ينزل فيها المطر لمدة تزيد عن ثلاث سنوات. على أن دعوته إلى التصنيع لا تقل التهابا عن دعوته إلى التوسع الزراعى، عازيا الرضا بالملايين الخمسة التى تقتصر الزراعة عليها فى بلادنا إلى التبعية للفكر الاستعمارى، الذى يريد بقاءنا ضعفاء اقتصاديا حتى نظل مضعضعين محتاجين، ومن ثم يسهل على الدول الغربية السيطرة علينا . وهو ما ينسف ما قاله د. فؤاد زكريا عن الشيخ نسفا"(مقتبس من مقالكم).

وهو مايدعونا إلى التساؤل عن حقيقة ادعاء العلماني بحيازة المنهج العلمي (العقلاني) في ظل استغلال الأقوال (بعد نزع وحجب وتلبيس) او المواقف من اجل اتمام عملية فضح فاشلة(تتم في عقل العلماني، بالتزييف!)، للغيب ،كما يتصوره العلماني نفسه، لا كما هو على الحقيقة!
 
الاستبداد الكامن فى ثقافة العرب وتاريخهم يكشفه كتاب "ثورات العرب"

الاستبداد الكامن فى ثقافة العرب وتاريخهم يكشفه كتاب "ثورات العرب"

محمد جاد الاستبداد الكامن فى ثقافة العرب وتاريخهم يكشفه كتاب "ثورات العرب"
«كان ذلك ليلة الاحتفال العارم بتنحى الرئيس مبارك، حيث توقف رجل فى منتصف كوبرى قصر النيل ـ المؤدى إلى ميدان التحرير ـ رافعا لوحة كتب عليها « الله وحده هو الذى اسقط النظام» فبادرته بالسؤال وماذا كان يفعل كل هؤلاء الناس على مدى الايام السبعة عشر الماضية؟ بهذا المشهد يرسم على مبروك، فى كتابه الصادر عن دار العين، بعنوان «ثورات العرب.. خطاب التأسيس» صورة تدلل على التحدى الكبير الذى كان ينتظر الشعب المصرى بعد إسقاط الديكتاتور، وهو بنية الاستبداد الكامنة فى ثقافة شائعة فى مصر والعالم العرب، تريد أن تسلب من الشعوب روح الارادة التى بزغت فى الربيع العربى، سواء تحت راية الخطاب الدينى أو الحداثى، وعلى مدار كتابه سعى الاستاذ المساعد بقسم الفلسفة بجامعة القاهرة إلى القاء الضوء على أوجه الفكر المعاون لاستبداد الأنظمة والمتوارث منذ زمن طويل، ليكون كتابه بمثابة جرس إنذار بأنه من دون تحرير العقل «سيظل الاستبداد يعيد انتاج نفسه فى الواقع ابدا»، قد يرى البعض فى عبارة «الله وحده هو الذى أسقط النظام» مجرد تعبير عن موقف ايمانى مخلص، كما يقول مبروك وهو يحلل موقفه مع صاحب اللافتة يوم تنحى مبارك، نافيا ذلك حيث تعبر تلك الجملة «وبامتياز عن موقف سياسى يجاوز فى الحقيقة ايمان الرجل وتقواه، فإنه حين يحاول البعض السطو على الدور الفاعل والمشهود للناس ليردوه إلى الله، فإن ذلك يكون من قبيل الرد إلى الله بالمجاز، وأما فى الحقيقة فإنهم يردونه إلى ذلك الذى ينطق باسمه ويتخفى وراء جلال سلطانه سواء كان فردا او جماعة، وهو الموقف الذى يسلب الجماهير الثائرة حقها فى أخذ زمام المبادرة، ويتسق مع رغبة الأنظمة المستبدة فى أن تضع شعوبها دائما فى «موقع الاداة» وليس «مقام الفاعل المؤثر ».
ولا يقتصر نقد مبروك على الخطاب الاستبدادى المتستر خلف الخطاب الدينى، ولكن أيضا للخطاب الحداثى العربى، حيث يظهر من تحليله للخطابين أنهما يسيران فى فلك واحد وهو مساعدة الدولة العربية المستبدة على الاستمرار، والتى هى «مجرد امتداد لدولة العرب التقليدية التى انشغل ابن خلدون بالتنظير لها.. (والتى) تنشأ حول العصبية.. (و) محكومة فى اصل نشأتها ودورة تحولاتها بفعالية طبيعية.. ولم تكن دولة مجتمع الفاعلين او التاريخ المفتوح».
لذا فإن مبروك على مايبدو غير مكترث بالجدال الدائر حاليا بين التيارين العلمانى والدينى بعد سقوط بعض الديكتاتوريات العربية « فلو أن احدا من المنخرطين فى اللجاج المستعر على فضائيات العرب، عن فضائل الدولة الدينية فى مقابل الدولة المدنية أو العكس، شغل نفسه بالتفكير فى الشروط المنتجة للدولة الراهنة.. لأدرك أن الخروج من المأزق العربى الراهن مشروط.. بالقدرة على الانفلات من أحابيل دولة العصبية والقهر، التى حكمت وستظل تحكم بالبؤس والعجز على دولتهم القائمة وذلك بصرف النظر عن نوعية البراقع التى تستتر خلفها تلك الدولة وأعنى سواء كانت براقع دينية أو مدنية «معتبرا أن « التحرر لايتعلق ابدا برفض أى من الدين والحداثة بقدر ما يتعلق بضرورة تجاوز خطاب القوة الذى استبد بهما إلى خطاب الحق الذى جرى تغييبه فيهما».
كيف اذن تمت صناعة الثقافة العربية التى خدمت استمرار دول الاستبداد فى مصر والعالم العربى على مدار العقود الماضية؟ يتتبع مبروك تطور الخطاب الثقافى العربى للإجابة على هذا السؤال، منذ ميلاد الدولة المصرية الحديثة، «دولة الباشا» محمد على.

حداثة قطف الثمار
وفى مستهل عرضه يقفز بنا صاحب الكتاب إلى مشهد تجمهر ثوار يناير تحت تمثال عمر مكرم، وهو مشهد ذو دلالة فى تحليل حالة الاستبداد فى الثقافة العربية، فهو الرجل الذى قدر له «أن يشهد من موقع المشارك حدث الخلع والتولية الذى أفضى عند مطالع القرن التاسع عشر إلى التأسيس الأول لما بات يعرف بالدولة العربية الحديثة.. (وأن يشهد أيضا ) من موقعه كمراقب يطل على الجماهير المحتشدة أسفل تمثاله فى ميدان التحرير خلع مبارك وتولية غيره منتظرا بالطبع أن يفلح أحفاده فى تأسيس دولة الحق التى أخفق ومعه أجدادهم فى تدشينها قبل قرنين».
ففى لحظة تأسيس الدولة المصرية الحديثة كانت إرادة الشعب فاعلة وفى يدها زمام المبادرة، وهو ما تمثل فى رفضهم لخورشيد باشا، ووصفهم له بالفاسد، وتمسكهم بتولية محمد على ممثلا للطموحات الشعبية آنذاك معبرين عن ذلك بقولهم « لا نرضى ألا بك تكون واليا علينا بشروطنا»، إلا أن تلك المعادلة تغيرت فيما بعد، مع سعى محمد على إلى تأسيس مشروع نهضوى يتبلور حول القوة الصلبة « وهو الذى أتاح للجيش هذا الدور الحاكم ولم يزل هو المشروع الغالب للآن».
وفى هذا السياق يفرق الكاتب بوضوح بين نموذج الحداثة الغربى، والنموذج العربى الذى طبقته دولة «القوة الصلبة»، حيث تم التحديث فى حالة النهضة الأوروبية بشكل متدرج فى مناخ من التحرر، وهو الوضع الذى يشبهه الكاتب بعملية «تقليب التربة»، وفى المقابل جاءت الحداثة العربية بشكل صدامى، حيث أخذت من الحداثة الغربية مظاهرها فقط، أو اكتفت بـ « قطف الثمار»، وهو العيب الكامن فى تجربة الحداثة العربية كما يتضح من تحليل الكاتب، والذى نشأ مع اصطدام العالم العربى بنموذج الحداثة الغربى والذى كان « مكتملا وجاهزا » لذا «لم تتح له الظروف أن يعرف سبيلا إلى انجاز النهضة الا عبر استعارة ».
كان فكر « قطف الثمار « ملائما لدولة الباشا، الذى لم يعنِه من الحداثة الا «منتجها الجاهز والنهائى»، وفى هذا السياق جاء دور رفاعة الطهطاوى والذى عمل على «تلبية الحاجات السياسية لدولة الباشا»، برأى المؤلف.
ويظهر من تحليل مبروك لنصوص الطهطاوى «عجزه شبه الكامل عن التفكير فى.. السياسة بما لا يتوافق مع تقاليد الدولة السلطانية»، فعندما يتحدث عن فرنسا يقول إن ملك فرنسا ليس مطلق التصرف وأن السياسة الفرنساوية هى قانون مقيد بحيث إن الحاكم هو الملك بشرط أن يعمل بما هو مذكور فى القوانين التى يرضى بها أهل الدواوين، وعندما يتحدث على المستوى المحلى يقول إن « للملوك فى ممالكهم حقوقا تسمى بالمزايا وعليهم واجبات فى حق الرعايا، فمن مزايا الملك أنه خليفة الله فى أرضه وأن حسابه على ربه، فليس عليه فى فعله مسئولية لأحد من رعاياه، وانما يذكر للحكم والحكمة من طرف أرباب الشرعيات او السياسات برفق ولين»، ويجد صاحب الكتاب أصداء للفكر الدينى الداعم لقيام الدولة على أساس القوة وليس المجتمع الفاعل، ضاربا مثلا على ذلك بقول «حجة الاسلام الغزالى بأن الامامة ( والسلطة عموما ) تنعقد عندنا بالشوكة أو القوة، وأن من اشتدت وطأته وجبت طاعته».

الاستبداد فى الخطاب العلمانى
الاستبداد لايقتصر على أن يكون باسم الدين، فهناك لون آخر من الاستبداد باسم العلمانية، رآه الكاتب فى تجربة الزعيم التركى كمال أتاتورك، والذى سعى لتطبيق مبدأ فصل الدين عن الدولة بشكل متطرف وبقوة القمع، غير مراع أن هذا المبدأ «قد تبلور فى السياق الاوروبى ليس فقط كخطوة أخيرة فى مسار تطور هادىء وطويل للأفكار والنظم المجتمعية.. بل وباعتباره مطلبا لكل من الدولة والمجتمع فى آن معا «ويفسر مبروك الحالة الكمالية تفسيرا مشابها لقراءته لدولة محمد على، حيث إن «نخبة العسكر التى دشنت هذه التجربة بزعامة أتاتورك لم تكن لتقدر أن تفكر الا بحسب منطق اجرائى عملى.. هو المنطق الذى يناسب فكر السياسى ورجل الدولة الذى لايعنيه الا مجرد قطف الثمرة».
لذا فإن الطريقة التى نشأت بها تجارب التحديث المبكرة فى العالم العربى والإسلامى، قد أورثت الشعوب العربية أفكارا ونظما استبدادية تتناقض مع روح الحداثة المبنية على فكرة التحرر، وهى «مفارقة الحداثة العربية التى تجعلها معمل انتاج لكل نقائض الحداثة الحقة من الوصاية والاستبداد والابوية وغيرها من مخلفات العالم القديم»، وتكون بذلك المؤسسات الديمقراطية العربية واجهات لاستمرار نفس النظم الاستبدادية طالما أن الشعوب لم تتحرر من تراث فكرها الاستبدادى، ويعبر عن تلك الفكرة ما ساقه مبروك على لسان جمال الدين الأفغانى عن الديمقراطية المصرية «سترون عما قريب اذا تشكل المجلس النيابى المصرى أنه سيكون ولا شك بهيكله الظاهرى مشابها للمجالس النيابية الاوروبية، بمعنى أن أقل ما سيوجد فيه من الاحزاب حزب للشمال (يسار) وحزب لليمين، ولسوف ترون اذا تشكل مجلسكم أن حزب الشمال لا اثر له فى ذلك المجلس، لأن أقل مبادئه أن يكون معارضة للحكومة وحزب اليمين أن يكون من أعوانها» تلك الحالة الزائفة التى قرأها الأفغانى فى البرلمان المصرى والتى جعلته يستنتج أن البرلمان «لايغنى عن الأمة فتيلا».
وبعد قراءة التحليل التاريخى لمؤلف حول تجدد النظم الاستبدادية مع تغير الشرعيات والأنظمة، بين الأوجه الحداثية والدينية، يصل بك الكاتب إلى أن التحرر لن يكون فى أى نموذج فكرى جاهز، ولكنه فى جوهره « فعل نفى ورفض.. بمثل ما هو الحال فى الاسلام الذى اشعل ثورته فى العالم من لا السالبة التى يبدأ منها الاقرار بالانتساب اليه وأعنى لا إله إلا الله».
 
أرأيت، أيها القارئ العزيز، كيف "يفترض" فؤاد زكريا أن د. عبد الحليم محمود "يفترض" كذا وكذا، ثم ينطلق كالإعصار يحطم فى طريقه كل شىء فى سمعة الرجل وتفكيره وعقيدته وشخصيته بناء على افتراضاتٍ مؤسَّسةٍ بدورها على افتراضات لا وجود لها إلا على سن قلمه الجامح، وإن كانت ثمرة كل ما قال لم تزد فى نهاية المطاف على الصفر
وهذه هي مشكلتهم مع الاسلام والمسلمين ، ولو طالوا لجعلوا الرسول راهبا ليسحبوا من الاسلام الدولة التي بناها ، فقد وجدوه عسكريا حاملا السلاح وفي الصفوف الأولى، ولو طالوا لجعلوه دكتاتوريا لكنهم وجدوه يستشير اصحابه في امور الامة المهمة.. وينزل على رأيهم ...إلخ
ولكنهم لايستطيعون فعل ذلك فالرسول كان سياسيا مع قريش والعرب وغيرهم وهذا يعرفه صبيان المسلمين كما ان موضوع الغزوات لايتساوق مع الرهبة!
ولا قيام الليل يمكنهم ان يتخذوه سبيلا في الاعراض عن الدنيا فالخبر المنتشر في المساجد: كانوا رهبانا بالليل فرسانا بالنهار
ومع ذلك فمن جرأة بعضهم ذهبوا يخترعون الأساطير فيكبرون صورة الغلام الرومي في مكة فيجعلونه مجموعة من القساوسة معينة على النبوة بل يجعله هشام جعيط لايخرح من مكة الى سوريا ليمكث فيها في مدرسة لاهوتية فترات تطول وتقصر الا ومعه لغات ، لاشك انه تعلمها من الغلام الرومي بحسب هشام جعيط طبعا!!،ليترجم بها كتب القديس افرائيم السرياني وكتب اليونان بالمرة ، لتنفعه في ماهو مقبل عليه!
ومن هذا كثير
وكله في غفلة من العقل!
ويسمون انفسهم عقلاء!
العقلانيون العرب
ويفتحون المواقع التي يضعون فيها هذا الهراء ويسمون واحدة منها شبكة او رايطة العقلانيين العرب!
ومادام هذا ديدنهم مع العقل ومع الرسول والتاريخ النبوي فكيف سيكون امرهم مع اتباع محمد صلى الله عليه وسلم
ويأتي شيخ العقلانية الاشتراكية(!) ويكتب وكل كتاباته ثغرات وثقوب وفجوات عقلانية رائعة المنظر
لكن كما تحكي لنا قصة العلمانية في ثمرتها المرة فانها وإن كانت ثمرة كل ما قال(ت) لم تزد فى نهاية المطاف على الصفر
 
والآن نحن أمام طريقين: إما أن نصدق أن ما قاله ذانك القائدان العسكريان الكبيران قد حدث فعلا فى الواقع الخارجى وأنه ليس هلاوس بصرية مثلا، وعندئذ فلا مشكلة، وإما أن نتهمهما بأنهما شخصان يهلوسان أو يؤمنان بالخرافات مثل عبد الحليم محمود، وفى هذه الحالة سيكون الرد بأن جيشنا إنما كان يتكون فى قمته من أمثال هذين القائدين، وهو الجيش الذى أنزل بإسرائيل هزيمة ساحقة، وكانت أولى هزائمها فى تاريخها، الذى نرجو أن يكون قصيرا بمشيئة الله. أى أن النصر المصرى قد تم على أيدى المهلوسين أو المؤمنين بالخرافات، ولم يتم فى عهد عبد الناصر على أيدى اليساريين المنكرين لتلك الخرافات، اليساريين الذين تتلمذوا على يد هنرى كورييل اليهودى وأشباهه. وفى ميدان الألعاب الرياضية مثل يقول: الذى تَغْلِب به العب به. وأتوقف هنا فلا أزيد.
لم يلاحظوا هذا يادكتور-الاشتراكية حاجب وساتر!- فقد رأوا النصر والسلام، لم يسمعوا تكبيرا ولاتهليلا ولاكانوا يريدون ان يسمعوه اصلا فليس هذا هو مطلب لينين في الثورة ولاماركس في الاقتصاد العسكري!، فالتكبير تبذير الرأس-إيمانيين!
وفي الثورات العربية لم يسمعوا تكبير السوريين وتهليل اليمنيين ولم يشاهدوا صلاة المصريين ولا تحميد التونسيين
لانهم هم الذين صنعوا الثورة
 
قال الدكتور ابراهيم عوض ردا على ملحد يتهكم:
ولكن ألا يلاحظ الكاتب المتمرد أن الإسلام ظل يشق طريقه صُعُدًا منذ سطعت أنواره إلى أن فتح البلاد شرقا وغربا وأنشأ حضارة عظيمة تحققت فى أقل وقت وبأبسط الوسائل، ودامت أطول زمن ممكن رغم هذا كله؟ وليقارن بين ذلك وبين الاتحاد السوفييتى، الذى يؤمن هو وأشباهه بأنه مثال على الدولة التى تعتمد على العلم، والعلم وحده، وتنبذ الخرافات والغيبيات، وتتخذ من الإلحاد أساسا لثقافتها، وليقل: أين الاتحاد السوفييتى الآن؟ وكيف يا ترى اختفى من الوجود فى بضع عشرات من السنين رغم علميته ونبذه
ونبذه للخرافات والأوهام؟ وكيف ثارت عليه الشعوب التى تخضع له حتى انهار تماما وصار فى خبر "كان"؟ أما غزوة "أحد"، التى يتظرف بأن الملائكة أثناءها كانت فى غفوة ظهيرة فلم تساند المسلمين، فقد فات ذهنَه المتعجِّلَ المتخبِّلَ أن النبى، فى بداية المعركة، كان قد نبه الجنود الذين كلفهم بحماية ظهر الجيش ألا يبارحوا موضعهم مهما كانت الأسباب والظروف، إلا أنهم للأسف اغتروا بالنصر الأولى الذى أحرزه المسلمون فى بداية الأمر، فلم يُصِيخُوا لأوامره واندفعوا مع سائر جنود الجيش المسلم لجمع الغنائم عند انكسار المشركين وفرار قواتهم، ظنا منهم أن المعركة قد انتهت بانتصار المسلمين انتصارا حاسما ساحقا، فما كان من خالد بن الوليد، الذى كان منسحبا بجنوده آنذاك وأبصر مؤخرة الجيش المسلم مكشوفة، إلا أن انقض على المسلمين من ورائهم، محولا بهذه الطريقة نتيجة الحرب بالنسبة للمشركين من هزيمة إلى نصر. فكان هذا درسا للمسلمين أن الله لا يقف معهم على طول الخط دون قيد أوشرط، بل لا بد لهم من الأخذ بالأسباب والالتزام الصارم بأوامر القيادة وعدم الاغترار بكونهم مسلمين، ونبذ الاعتقاد الساذج بأن النصر يسير دائما فى ركابهم مهما فعلوا. وأخيرا فلا بد من القول بأن من انهزم فى أحد ليس هو الرسول كما يقول الكاتب المتمرد، بل المسلمون بسبب إهمالهم لأوامره المشددة بعدم مبارحة أماكنهم خلف الجيش مهما كان الأمر.
لكنْ من الواضح أن المسمى: أحمد القاضى، فى تهوره واندفاعه وعدم تبصره فيما يكتب، لا يستطيع أن يدرك هذه الأبعاد، التى ألح عليها القرآن الكريم والحديث الشريف أيما إلحاح والتى أهملها المسلمون للأسف مع تطاول الزمن فحقت عليهم سنن الله فى الدنيا، فانحدرت أحوالهم ثمرةً لهذا الإهمال والتواكل وفقدان الطموح، والخنوع للقهر والاستبداد، والرضا بالمذلة والهوان، والتسرع الأحمق عند بعضهم إلى اتهام الإسلام بأنه هو سبب تخلفهم رغم ما هو معروف من أنه هو السبب الوحيد فى تقدمهم، وأن تخليهم عن مبادئه وقيمه وتمسكهم بدلا من ذلك بالقشور التافهة تفاهة عقولهم هو السبب فيما يقاسونه منذ قرون من التقهقر والانهيار. ولكن على من تغنى مزاميرك يا داود؟
بارك الله فيك وفي سهرك وقلمك وصحتك
 
"إن الدراسات الابستيمولوجية هي دراسات نقدية أساساً، والفكر الابستيمولوجي هو فكر نقدي يقوم علي نقد العلم للكشف عن مسبقات الفكر العلمي وخطواته وآلياته. بهذا المعني فالابستيمولوجيا هي مراقبة الفكر العلمي لنفسه باستمرار، وبذلك فالدراسات الابستيمولوجية تمكن الانسان ونحن خاصة، من الروح النقدية، من هذا الذي ندعوه بالعقلانية. وعندما نطالب بنشر الروح النقدية في الأوساط المثقفة العربية، فأن دراسة الفكر العلمي وتاريخ الفكر العلمي، والابستيمولوجية بكيفية أخص، تشكل أحسن مطية، باعتبار أن الجانب الايدولوجي فيها غير حاضر بشكل قوي، وغياب الجانب الايديولوجي هذا، غياباً نسبياً، في هذا المجال يجعل مختلف الأوساط تقبل التعامل معها، وبالتالي يمكن تعميم الروح النقدية من خلالها أكثر من أي شئ آخر. مثلاً، هناك من يري أن من الواجب مهاجمة اللاعقلانية في عقر دارها، وهذا خطأ في رأيي، لأن مهاجمة اللاعقلاني في مسبقاته، في فروضه، في عقر داره، يسفر في غالب الأحيان، عن إيقاظ، عن عملية تنبيه، عن حفزه علي رد الفعل، وبالتالي عن تعميم الحوار ما بين العقل واللاعقل، والسيادة ستكون في النهاية حتماً للاعقل، لأن الأرضية أرضيته والميدان ميدانه، لذلك أفضل أن يكون الحوار معه في الدائرة العقلانية، تعميم العقلانية من نقد العقلانية نفسها، من خلال نقد المنتجين للفكر العقلاني، أو مدعيه، أو المتجهين وجهته.
إلا أن المسألة مسألة تخطيط، وليست خاضعة للصدفة ولا لمجرد الرغبة، وهي كذلك مسألة وعي، وعي بالمخاطب، بالخصم، بميدانه وقوته ومدي قوة ردود أفعاله." محمد عابد الجابري - التراث والحداثة ص 258 – 259.


منذ أن قدمت تعليقي الأول لم أري أعتراض علي ما قلته عن الأيمان بالخزعبلات والخرافة بل المزيد في الدفاع عن هذا الأيمان والمزيد من نشره مما يعني أنه لا فائدة فيمن يدعو الي الأخذ بالأسباب والي التصنيع والتوسع ألخ طالما أنها من أجل التغطية علي اللاعقلانية التي تؤمن بالخزعبلات والخرافة وكل ذلك بتجاهل اي تفكير عقلاني يرفض وينتقد مثل هذا التفكير.
واذا أعتبرت أن تعقيبات الأخ طارق منينة الغير مباشرة موجهة ايضاً لتعليقي فهي لم تحاول اساساًً أن تنفي ما قلته أو تعترض عليه، وحتي تعقيبه بعد تعليقي الأول كان مجرد أشارة الي بعض الكتب وفي رأيي مهما كان عدد هذه الكتب ومهما كان مضمونها فهذه المحاولة تعتبر مجرد من يظهر عضلاته ليس أكثر، وليس مما يشير الي أن صاحب هذه الكتب يرفض اللاعقلانية مثلاً.
 
فمن المعلوم كما بينتم ان فؤاد ذكريا انتهزها فرصة لنقد الإيمان بالغيب ووصف ذلك باللاعقلانية اذ انه توسل من وراء إتخاذ رؤيا الشيخ غرضا، الى القدح في مااسماه بالمصدر الخارجي او الغيبي،فأعماه ذلك التسرع في الحكم عن النظر في موقف الرجل الكلي، فلم يكن اظهار الخلل (المتخيل أو المصطنع!)
هذا حال كثير منهم، وإنما يتخذون مقولات العلماء بعد تقطيعها وإخراجها من السياق مطية لغرض آخر، وهم في هذا لا يختلفون عن الذين يستخدمون مصطلحات أخرى كالتراث بدل القرآن والسنة الصحيحة حتى لا يُتهموا بأنهم مغرضين. لو كانت النية صادقة لرد عليه من الداخل مشيرا للآيات والأحاديث الصحيحة والروايات التاريخية التي تحث على العلمية والأخذ بالأسباب والتجربة في الأمور الدنيوية، لا من الخارج مما أدى به إلى ذلك التسرع المفضوح.
 
يظهر أنه حتي الآن لن يجدي معكم أي خطاب عقلاني ولن يجدي مع من يفضل علي ان يكون واقف علي أرضية لاعقلانية، وحتي الآن يكاد أن أكون كنت أخاطب وأتكلم مع نفسي فقط، ولذا أري أنه لا نفع أطلاقاً لمخاطبة من يصر علي التصديق بالخرافة، لكني حتي الآن مازلت احاول الرد علي هاجسين (هما هاجس النقص المعرفي وهاجس التكفير) بالنسبة الي هاجس النقص المعرفي فهو لأن البعض بسببه متقبلين الي تصديق كل من الأسطورة والخرافة واما بالنسبة الي هاجس التكفير فهو عند البعض يعتبر سلاح حين يعلن نفسه حاكم بالكفر علي الأشخاص لتصفيتهم سياسياً ان صح هذا التعبير، لذا أريد أن أجرب هذه المحاولة ولمرة أخيرة وهي أن فؤاد زكريا أو أنا لو كنا نريد لكم أي ضرر أو كنا نعتبركم من الأعداء الألداء لنا، لكنا تركناكم في تصديق مثل هذه الأمور بل سنكون من المشجعين عليها ودعوتكم الي الأستمرار فيها والتمسك بها، وأظن ان هذه المحاولة الأخيرة لن تخدعكم لكنها يمكن أن تؤثر وربما تعطي مفعولها.
 
قال الشيخ عبد الحليم محمود فيما نقلته استاذنا في نقدكم الثمين:"
ظهر في عددٍ تالٍ للمجلة نفسها مقال طويل ترك جوهر الموضوع، وهو الحديث عن الشيوعية، وأخذ يكيل لي الشتائم كيلا.
وقرأت المقال فوجدتني بعد قراءته هادئا كل الهدوء. لم أجد في نفسي إلا طمأنينة، لم يتحرك شعوري بثورة، لم أَصُبَّ على الكاتب اللعنات، وإنما انغمست في تفكير عميق: إن هذا المقال تنبيه وتوجيه، وكأنه يقول: هذه هي الشيوعية. إنها كفر في الأساس، وفي البناء، وهي سفه وجاهلية في الجدل والنقاش. وهي تُسْكِت خصومها بالتنكيل والتعذيب والقتل والسجن إن استطاعتْ ومَلَكَتْ، فإن لم تستطع ولم تملك حاولت أن تسكتهم بالإقذاع في الشتائم. إن هذه هي الشيوعية!
واقول انه بعد مرور عقود على هذا الكلام فإن وصف شيخ الازهر لم يبعد قيد أنملة عن شخوصهم وخيالاتهم وظلالهم الحاضرة والمتتابعة ، وقد تابعت جابر عصفور في جريدة الحياة وجريدة الاهرام لاكثر من عقد، بالإضافة إلى كتبه ومنها الكتاب الذي كان مقالات، وهو( هوامش على دفتر التنوير(448 صفحة)-وقد صورته من جامعة ليدن- وكتابه"ضد التعصب" وكلها شتائم وارهاب علماني يفوق الطاقة ، وماجعلني أُطلق لفظ "ثقوب" على الثغرات الفارغة التي في عقولهم ومنطق كتاباتهم واستدلالاتهم ا(المقدمات والنتائج)هو اني وجدت جابر عصفور وامثاله(اركون وهاشم صالح مثلا) ينطون-من النط- من قضية الى اخرى ويعزلون ،اثناء فعل التفكير والكتابة ،حقائق علمية وتاريخية-لو عرضوها-لتوقفت اناملهم واذهانهم عن كتابة سطر واحد مما كتبوه- ويحجبون ماهو ضد مسار فكرتهم ونتيجة استدلالهم، فكلامهم تلبيس فوق تلبيس وحجب وراء حجب وعزل وراء عزل وكتمان فوق كتمان حتى اصبحت كلماتهم ظلمات فوق ظلمات ، والعجيب انهم يستدعون كل المصطلحات التي استعملها الفلاسفة وعلماء الاجتماع واصحاب النظريات لرمي عقائدنا بها على اساس انهم تمثل"الدوغمائية"(نظرية روكيش عن العقلية الدوغمائية!)، او انغلاقية او دوغمائية ارثوذكسية..ارثوذكسية دينية مغلقة(نظرية ديكونشي)(أُحيل ،ايضا، هنا إلى الفصل الأول من كتاب الفكر الإسلامي، قراءة علمية لمحمد اركون، وكتاب الانسداد التاريخي لهاشم صالح،والأخير هذا فيه إعلان حرب مباشرة!!!.... وهلم جرا.....
 
"عبد الحليم محمود والتصوف" بقلم إبراهيم عوض

"عبد الحليم محمود والتصوف" بقلم إبراهيم عوض

عبد الحليم محمود والتصوف
إبراهيم عوض

قبل الدخول إلى علاقة د. عبد الحليم محمود رحمة الله عليه بالتصوف أرى أنه لا بد من التمهيد بكلمة عن الصوفية تكون مدخلا لهذه القضية. فما معنى التصوف؟ ومن أين اشْتُقَّ هذا المصطلح؟ فأما فى الجواب عن السؤال الأول فيقول مثلا القشيرى فى "الرسالة القشيرية": "هذه التسمية (أى "الصوفية") غلبت على هذه الطائفة، فيقال: رجلٌ صُوفِيّ، وللجماعة: صُوفِيَّة، ومن يتوصل إلى ذلك يقال له: متصوف، وللجماعة: المتصوفة. وليس يشهد لهذا الاسم من حيث العربية قياس ولا اشتقاق، والأظهر فيه أنه كاللقب. فأما قول من قال إنه من "الصوف"، ولهذا يقال: "تَصوَّفَ" إذا لبس الصوف كما يقال: "تقمَّص" إذا لبس القميص، فذلك وَجْه، ولكن القوم لم يختصوا بلبس الصوف. ومن قال إنه مشتق من الصفاء فاشتقاق "الصوفي" من "الصفاء" بعيدٌ في مقتضى اللغه. وقول من قال إنه مشتق من "الصف"، فكأنهم في الصف الأول بقلوبهم، فالمعنى صحيح، ولكن اللغة لا تقتضي هذه النسبة إلى الصف. ثم إن هذه الطائفة أشهر من أن يُحْتَاج في تعينهم إلى قياس لفظ واستحقاق اشتقاق.
وتكلم الناس في التصوف: ما معناه؟ وفي الصوفي: من هو؟ فكلُّ عبر بما وقع له. سُئِل أبو محمد الجريري عن "التصوف"، فقال: الدخول في كلّ خُلُقٍ سَنِيٍّ والخروج من كل خُلُقٍ دَنِيٍّ. وسئل الجنيد عنه فقال: هو أن يُمِيتَك الحقُّ عنك، ويُحْيِيَك به. وقال الحلاج: وحْداني الذات لا يقبله أحد، ولا يقبل أحدا. ويقول حمزة البغدادي: علامة الصوفي الصادق أن يفتقر بعد الغنى، ويَذِلّ بعد العز، ويَخْفَى بعد الشهرة. وعلامة الصوفي الكاذب أن يستغني بالدنيا بعد الفقر، ويعز بعد الذلّ، ويشتهر بعد الخفاء. وسُئِل عمرو بن عثمان المكيّ عن التصوف، فقال: أن يكون العبد في كل وقت بما هو أولى به في الوقت. وقال محمد بن علي القصاب: التصوّف أخلاق كريمة ظهرت في زمان كريم من رجل كريم مع قوم كرام. وسئل سمنون عن التصوف فقال: ألاّ تملك شيئا ولا يملكك شيء. وسئل رُوَيْمٌ عن التصوف فقال: استرسال النفس مع الله تعالى على ما يريده. وسئل الجنيد عن التصوف فقال: هو أن تكون مع الله تعالى بلا علاقة. يقول رُوَيْم البغدادى: التصوف مبني على ثلاث خصال: التمسك بالفقر والافتقار إلى الله، والتحقق بالبذل والإيثار، وترك التعرض والاختيار. وقال معروف الكرخي: التصوف الأخذ بالحقائق، واليأس مما في أيدي الخلائق. قال حمدون القصار: اصحب الصوفية، فإن للقبيح عندهم وجوها من المعاذير.
وسُئِل الخراز عن أهل التصوف فقال: قوم أعطوا حتى بسطوا، ومنعوا حتى فقدوا، ثم نودوا من أسرار قريبة: ألا فابكوا علينا. وقال الجنيد: التصوف: عَنْوَة لا صلح فيها. وقال أيضا: هم أهل بيت واحد لايدخل فيهم غيرهم. وقال أيضا: التصوف ذكر مع اجتماع، ووجد مع استماع، وعمل مع اتباع. وقال أيضا: الصوفي كالأرض يُطْرَح عليها كل قبيح، ولا يخرج منها إلا كلُّ مليح. وقال أيضا: إنه كالأرض يطؤها البَرّ والفاجر، وكالسحاب يُظِلّ كل شيء، وكالقطر يسقى كل شيء. وقال: إذا رأيت الصوفي يُعْنَى بظاهره فاعلم أن باطنه خراب. وقال سهل بن عبد الله: الصوفي من يرى دمه هدرا، وملكه مباحا. وقال النوري: نَعْت الصوفي السكون عند العدم، والإيثار عند الوجود. وقال الكناني: التصوف خُلُق، فمن زاد عليك في الخلق فقد زاد عليك في الصفاء. وقال أبو علي الروذباري: التصوف الإناخة على باب الحبيب وإنْ طُرِد عنه. وقال أيضا: صفوة القرب بعد كدورة البعد. وقيل: أقبح من كل قبيح صوفي شحيح. وقيل: التصوف كف فارغ، وقلب طيب.
وقال الشبلي: التصوف الجلوس مع الله بلا هم. وقال أبو منصور: الصوفي هو المشير عن الله تعالى، فإن الخلق أشاروا إلى الله تعالى. وقال الشبلي: الصوفي منقطع عن الخلق، متصل بالحق، كقوله تعالى: "واصطنعتُك لنفسي": قطعه عن كل غير، ثم قال له: "لن تراني". وقال: الصوفية أطفالٌ في حجر الحق. وقال أيضا: التصوف بَرْقَة محرقةٌ. وقال أيضا: هو العصمة عن رؤية الكون. وقال رُوَيْم: ما تزال الصوفية بخير ما تنافروا، فإذا اصطلحوا فلا خير فيهم. وقال الجريري: التصوف مراقبة الأحوال ورَوْمُ الأدب. وقال المزين: التصوف الانقياد للحق. وقال أبو تراب النخشبي: الصوفي لا يكدره شيء، ويصفو به كل شيء. وقيل: الصوفي لا يتعبه طلب، ولا يزعجه سبب. سئل ذو النون المصري عن أهل التصوف، فقال: هم قوم آثروا الله عز وجل على كل شيء، فآثرهم الله عز وجل على كل شيء. وقال الواسطي: كان للقوم إشارات، ثم صارت حركات، ثم لم يبق إلا حسرات. وسئل النوري عن الصوفي، فقال: من سمع السماع وآثر الأسباب.
قال أبو نصر السراج للحصري: من الصوفي عندك؟ فقال: الذي لا تُقِلّه الأرض، ولا تُظِلّه السماء. قال الأستاذ أبو القاسم: إنما أشار إلى حال المحو. وقيل: الصوفي من إذا استقبله حالان أو خُلُقان كلاهما حسن كان مع الأحسن منهما. وسئل الشبلي: لم سميت الصوفية بهذه التسمية؟ فقال: لبقية بقيت عليهم من نفوسهم. ولولا ذلك لما تعلقت بهم تسمية. سئل ابن الجلاء: ما معنى قولهم: صوفي؟ فقال: ليس نعرفه في شرط العلم، ولكن نعرف أن من كان فقيرا مجردا من الأسباب، وكان مع الله تعالى بلا مكان، ولا يمنعه الحق سبحانه عن علم كل مكان، يسمى: صوفيًّا. وقال بعضهم: التصوف إسقاط الجاه، وسواد الوجه في الدنيا والآخرة. وقال أبو يعقوب المزايلي: التصوف حال تضمحلّ فيها معالم الإنسانية. وقال أبو الحسن السيرواني: الصوفي من يكون مع الواردات لا مع الأوراد.
قال أبو علي الدقاق: أحسن ما قيل في هذا الباب قول من قال: هذا طريق لا يصلح إلا لأقوام قد كنس الله بأرواحهم مزابل. ولهذا قال رحمه الله يوما: لو لم يكن للفقير إلا روح فعرضها على كلاب هذا الباب لم ينظر كلب إليها. وقال الأستاذ أبو سهل الصعلوكي: التصوف الإعراض عن الاعتراض. وقال الحصري: الصوفي لا يوجد بعد علمه ولا يُعْدَم بعد وجوده. قال الأستاذ القشيري: وهذا فيه إشكال. ومعنى قوله: "لا يوجد بعد عدمه"، أي إذا فنيت آفاته لا نعود تلك الآفات. وقوله: "ولا يعدم بعد وجوده" معناه: إذا اشتغل بالحق لم يسقط بسقوط الخلق، فالحادثات لا تؤثر فيه. ويقال: الصوفي المصطلَم عنه بما لاح له من الحق. ويقال: الصوفي مقهور بتصريف الربوبية، مستور بتصرف العبودية. ويقال: الصوفي لا يتغير، فإن تغير لا يتكدر. يقول الخرَّاز: كنت في جامع قيروان يوم الجمعة، فرأيت رجلاً يدور في الصف ويقول: تصدَّقوا عليَّ، فقد كنت صوفيا فضعت. فرفقته بشيء. فقال لي. مُرَّ، ويلك! ليس هذا من ذلك! ولم يقبل الرفق" .
وواضح أن معظم ما ذكره القشيرى نقلا عن فلان أوعلان من المتصوفة إنما هو كلام عام، أو غامض لا يسهل الخروج منه بشىء، أو شاعرى لايصلح فى ميدان العلم، أو فيه إدانة للتصوف ورجاله رغم صدوره عن متصوفين ربما لا يقصدون الإدانة بل يظنون أنهم يحسنون صنعا. ومن هذا الباب الأخير قول أبى على الدقاق إن "أحسن ما قيل في هذا الباب قول من قال: هذا طريق لا يصلح إلا لأقوام قد كنس الله بأرواحهم مزابل"، وقوله: "لو لم يكن للفقير إلا روح فعرضها على كلاب هذا الباب لم ينظر كلب إليها". والحق أن أحسن ما يمكن قوله فى هذا الكلام أنه السخف والحماقة مجسدين، إذ المؤمن أكرم على ربه من أن يكنس بروحه المزابل، أو أن تزهد فيها الكلاب، اللهم إلا إذا كان بعض الصوفية يعرفون قدرهم على حقيقته ويدركون أنه سبحانه وتعالى ساخط عليهم لخبثهم ونفاقهم وثعلبيتهم فلا يقرّبهم منه أبدا، بل يطردهم بعيدا عن رحمته وكرمه وساحة غفرانه ويرميهم للكلاب لا لتنهشهم بل لتعافهم وتشمئز منهم حتى يصل بهم الحال إلى الدرك الأسفل من الحقارة، وهؤلاء كثيرٌ ما هم. ولهذا نراهم يقولون فى أنفسهم وأشباههم ما قالوا، وهم فيه من الصادقين. وكل إنسان أدرى بنفسه وبأحواله .
ويقول عبد الهادى رضوان نجا الإبيارى فى كتابه: "فن التصوف" نقلا عن المتصوفة، الذين يسميهم: أهل الحقيقة، إنه "التخلق بأخلاق الصوفية والتوسل بأوصافهم إلى الانتظام فى سلكهم. وقيل: هو الخروج عن كل خُلُقٍ دَنِىّ، والدخول فى كل خلق سَنِىّ. وقال الجنيد: هو أن يميتك الحقُّ عنك ويحييك به. وقال الشيخ قاسم الخانى: الوقوف مع الآداب الشرعية ظاهرا وباطنا. وقيل: هو كمال الإنسان بالإسلام والإيمان والإحسان. وقيل: إرسال النفس مع الله على ما يريد. وقيل: التمسك بالفقر والافتقار، والتحقق بالبذل والإيثار، وترك التعرض والاختيار. وقيل: التوجه بالعبادة وطلب الحسنى وزيادة... قال الآلوسى فى "الفيض الوارد": والذى يميل إليه كثير من السادة ما يفهم من هذين البيتين:
تنازع الناس فى الصــوفىّ واختلفـوا
ولست أمنــح هـــذا الاســــــــم غـير فـتًى فيــــه، وظنــوه مشتقا من الصُّــــوفِ
صَــافَى فصُوفِىَ حتى سُمِّىَ: الصـُّــوفِـــى
وعليه فوجه تسمية السالك بذلك صفاء قلبه وطهارة باطنه وظاهره عن مخالفة ربه... وقيل: هو العلم الذى يُبْحَث فيه عما يلزم فى التصوف من المقامات والأحوال والمحبة والعشق والفرق والجمع وما أشبه ذلك".
وبشىء من الجهد فى التوفيق بين هذه التعاريف التى لا يخلو بعضها من تهويم، وبعضها الآخر من تخالف، يمكننا أن نقول إن التصوف، لدى أصحابه، معناه أن يزهد الإنسان فى طيبات الحياة وأن يقبل على الله بقلب سليم مجتهدا بكل قواه فى الابتعاد عن المعاصى والالتزام بالواجبات والفروض الدينية. فأما الاجتهاد فى مرضاة الله بتنفيذ أوامره وتجنب نواهيه فهو أمر طيب لا يمكن أحدا أن يماحك فيه، وهو ما يعنى أن المتصوف هو إنسان مسلم يتمتع بدفء القلب وحرارة الشعور وعمق الإخلاص. ولكن هل الزهد فى طيبات الحياة مطلوب، أو مرحَّب به على الأقل فى الدين؟ أما أنا فلا أظن ذلك، وإلا فلم خلق الله هذه الطيبات؟ ولمن؟ أَوَقَدْ خلقها للحيوانات مثلا؟ ذلك أن الحيوانات لا تعرف دعوى الافتقار ولا تفكر فيها. أم تراه خلقها سبحانه للكفار دون المؤمنين؟ ولكن هل يعقل هذا؟ ثم أين يمكننا أن نجد مثل ذلك الكلام فى كتاب الله أو فى سنة رسول الله؟ بل هل يقول العقل بهذا؟ ولم يا ترى؟
أفهم أن يقال إن المسلم إذا وجد نفسه فى ظروف مادية صعبة وجب عليه التماسك وعدم الجزع أو مد بصره أو يده للمال الحرام إلى أن تنتهى المحنة، سواء كانت محنة فردية مقصورة عليه كما يحدث لكل منا فى أى وقت لسبب أو لآخر، أو كانت محنة عامة تشمل الأمة أو الشعب كله فى أى ظرف من الظروف الوطنية التى يمكن أن تمر بها الأمة. ففى هذه الحالة يجب على الأمة أن تتماسك وتصبر وتشد الأحزمة على البطون حتى تعبر المأزق بسلام وعزة وكرامة ولا تنهار أو تستسلم للظروف أو للقوى الدولية المعادية التى تريد تركيعها بالحصار أو مصادرة الممتلكات التى لها عندها أو ما إلى ذلك. أما أن يَكْلَف المسلم بالفقر لوجه الفقر، أو كما قيل: بالافتقار، فهذا ما لا أفهمه ولا أظن الله يرضى به.
ولقد مر المسلمون الأوائل بظروف صعبة بسبب محاصرة الكفار لهم فى مكة فى شِعْب أبى طالب أو بسبب مصادرتهم أموالهم وبيوتهم بمكة عند الهجرة، وأثبت الصحابة أوانئذ أنهم على قدر المسؤولية والظروف الصعبة التى مرت بها الأمة آنذاك، وأثبت أغنياؤهم أنهم أوفياء لتعاليم دينهم حرصاء على مرضاة ربهم ورسولهم فتبرع كل منهم بقسط كبير من ممتلكاته لإخوانه فى الدين ممن لم يُرْزَقُوا مثله اليسار، وبهذا خرجوا من عنق الزجاجة على أحسن حال، وفى أسرع وقت. إن الغِنَى ليس إثما ينبغى أن يتجنبه المسلم، بل هو نعمة وبركة، لأن الأمم لا يمكن أن تقوى وتَكْرُم وتَعِزّ وتنال احترام الأمم الأخرى إلا إذا كانت غنية. ذلك أن الغنى ليس معناه أن يمتلخ الإنسان حق الآخرين دون وجه حق، بل معناه أن يُقْبِل كل فرد فى الأمة على العمل والإنتاج والإبداع والبحث عن مصادر إيجابية للثروة، فتنشط الأحوال وتتحول الدولة إلى خلية نحل يبذل كل فرد فيها أقصى جهده لإغناء نفسه وأمته، وبهذا تُثْرِى الأمةُ وتصير أمة قوية مهيبة الجانب يحترمها الآخرون ويعملون لها ألف حساب.
وإذا كان هناك من يزهد فى الدنيا رغم ذلك فلْيُحْرِز المالَ أوّلاً ثم لْيُوَزِّعْ ما يزهد فيه من ذلك المال على إخوانه فى الدين والوطن، فيكسب بهذا أجرين: أجر العمل، وأجر التصدق. إن كثيرا منا، على المستوى النظرى فقط للأسف، يزعمون أن الجرى وراء المال أمر معيب لا يليق، مع أنه ما من واحد منهم إلا ويلهث وراء المال لهثا، ولكنه التظاهر الكاذب بالزهد فى الدنيا. الحق أن السعار وراء المال شىء، والاغتناء شىء آخر. السعار وراء المال معناه أن ينسى الإنسان واجباته نحو ربه ونحو أبناء دينه ووطنه فلا يفكر فى شكر الله وأداء حقه سبحانه من العبادة، ولا يفكر فى مد يد العون إلى المحتاجين من إخوانه فى الدين أو فى الوطن، ولا يفكر فى حلال أو حرام، بل كل همه هو كسب المال فحسب من أى طريق. وهذا شىء غير الغنى، الذى يقوم على بذل الجهد من أجل ترقية النفس والأسرة والوطن والأمة كما أشرنا آنفا، وهو ما سوف يحاسبنا الله عليه إن قَصَّرْنا فيه.
وحتى تتضح الأمور لا ينبغى أن تزهد أمة الإسلام فى تحصيل أسباب القوة والثراء، وإلا ضاعت وفشلت فى سباق الحياة وتخلفت عن الصفوف الأولى وديست بالأقدام والأحذية. فَلْتَنْظُر الأمة لنفسها وَلْتَتَصَرَّف بمقتضى ما يقوله لها العقل والدين وما تستلزمه الأوضاع الدولية. أما تعامى المسلم عن رؤية خريطة الحياة بتعقيداتها فإثم سوف يحاسبه الله عليه. والمؤمن القوى خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف كما قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد الأقوياء والنبهاء. والعجيب أن كثيرا من هؤلاء المتظاهرين بالزهد فى الدنيا كانوا يحرصون على الالتحاق بالخوانق حتى يأكلوا ويشربوا ويسكنوا ويلبسوا دون مقابل من عمل أو تعب. فهل هذا هو الزهد فى الدنيا؟ إن كان فأنا أول الزاهدين، ومعى أسرتى كلها بزوجتى وأولادى وأحفادى، وبهذا أضمن لى ولهم حياة مستريحة لا تعب فيها ولا نَصَب، ولا حاجة للإنسان فيها إلى مد يده لأى لئيم.
هذا عن جواب السؤال الأول، أما بالنسبة إلى جواب السؤال الثانى فيقول مثلا الشيخ مصطفى عبد الرازق إنه يحتمل أربعة فروض: أن يكون "الصوفى" منسوبا إلى صُوفَة، أو إلى الصوف، أو إلى كلمة "سوفيا" اليونانية، أى الحكمة، أو مشتقا من الصفاء. وصُوفَةُ: قبيلة عربية كانت تقوم بإجازة الحج، أى إعطاء إشارة البدء بالتحرك من عرفة. لكن يبدو لى غريبا ألا يجد المتصوفون إلا تلك القبيلة الجاهلية الوثنية ينتسبون إليها، وهم المسلمون الذين يحرصون على ألا يرتبط اسمهم بشىء من أمور الجاهلية. ثم إن تلك القبيلة كانت قد اختفت من مسرح التاريخ منذ زمن موغل فى القدم ولم يعد أحد يذكرها، علاوة على أن قريشا قد تولت منذ زمن بعيد أمر البيت الحرام كله، وبخاصة بنو هاشم، فكيف نصدّق أن المتصوفة يمكن أن يتجاهلوا هذه الحقيقة ويذهبوا فيبحثوا لهم عن أصل مجهول لا يعرفه أحد تقريبا ويتركوا قريشا وبنى هاشم أهل نبيهم؟ كذلك لم نقرأ هذا التفسير لأحد من القدماء الذين كتبوا عن الصوفية والمتصوفة، اللهم إلا أبا نعيم فى "حلية الأولياء" ، وهو الوحيد الذى ربط أيضا بين التصوف والتشيع طبقا لما كتبه د. كامل الشيبى فى مقال له بعنوان "رأى فى اشتقاق كلمة صوفى" . بل إن المتصوفة لم يفكروا أن ينسبوا أنفسهم أو ينسبهم أحد إلى النبى ذاته، فكيف يصح أن نتخيل أنهم ينتسبون إلى صوفة، ذلك الرجل الجاهلى الوثنى الذى كانت تُسَمَّى باسمه القبيلة المذكورة؟ إلا أن د. كامل الشيبى يهمل هذا الاعتبار ويرجّح أن يكون هذا هو الاشتقاق الصحيح للمصطلح مستندا إلى أن الصوفية لم يكونوا وحدهم الذين يلبسون الصوف ولا كانوا كلهم يلبسونه ، ناسيا أن هناك فرقا بين المعنى اللغوى للكلمة والمعنى الاصطلاحى لها، فالأول ينطبق عليها تماما بخلاف الثانى، الذى يكفى أن يكون بينه وبين المعنى اللغوى صلة ما. ومعروف أن العبرة فى مثل تلك التسميات هى الغلبة لا الاستغراق، إذ يكفى أن يشيع ارتداء الصوف بين القوم رغبة فى التقشف والتخشن كى تصح نسبتهم إلى الصوف حتى لو لم يكونوا كلهم يفعلون ذلك.
أما نسبة الصوفية والمتصوفة إلى الصفاء فبعيد لأن "الصفاء" مشتق من مادة "ص ف و"، على حين أن "الصوفية" مأخوذة من مادة "ص و ف". ولو كان هذا الفرض صحيحا لألفيناهم يقولون: "الصَّفْوِيّة" أو "الصَّفَائية" مثلا. أما "الصوفية" فلا يصح اشتقاقها من "الصفاء" كما هو واضح لكل ذى عينين. وإذا كان شهاب الدين الآلوسى في "الفيض الوارد" يرى رغم ذلك أن "الصوفية" مشتقة من "الصفاء" مع تقديم الفاء على الواو فليس رأيه هذا بوجيه، إذ لماذا قدموا الواو على الفاء، وهذا التقديم يربك العقول ويبعدها عن التنبه إلى ما يريدون الاتصاف به؟ كذلك ليس هناك أى سبب لهذا التقديم كالثقل فى النطق مثلا ولا هو مما نطقت به العرب على الوجهين مثل "جَذَب" و"جَبَذ" مثلا. وفوق هذا وذاك فإن كلمة "الصوفى" لا تصلح أن تكون منقلبة عن "صفوى" لأن ضبط الكلمتين مختلف غاية الاختلاف. ومع هذا فبعض الصوفية يقولون إن التصوف مشتق من "الصفاء" لصفاء قلوبهم فى تعاملهم مع الله، إذ إنَّ باطنهم كظاهرهم غاية في النقاء. واشتهر في ذلك قول أبى الفتح البُسْتِىّ:
تنازع الناس فى الصــوفىّ واختلفـوا
ولست أمنــح هـــذا الاســــــــم غـير فـتًى فيــــه، وظنــوه مشتقا من الصُّــــوفِ
صَــافَى فصُوفِىَ حتى سُمِّىَ: الصـُّــوفِـــى
ومن ثم قال شهاب الدين الآلوسي في كتاب "الفيض الوارد": إنّ الذي يميل إليه كثير من السادة الصوفية ما يُفْهَم من هذين البيتين. ولا يخفى أنّ النسبة إلى "الصفاء": "صَفَوِيّ" وبعد تقديم الواو على الفاء صار "صُوفِيًّا"، وعلى هذا يكون في اللفظة قلبٌ، والله أعلم. وقد أشار إلى رأى الآلوسى هذا الشيخ عبد الهادى بن رضوان نجا الإبيارى المصرى فى الصفحة الثانية من كتابه: "فن التصوف".
وبالمثل نقول إن "التصوف" لا يمكن أن يكون نسبة إلى "الصُّفَّة"، التى كان يعيش فيها بعض الصحابة فى مسجد رسول الله بالمدنية باعتبارهم فقراء لا يملكون من حطام الدنيا شيئا، وهو المعنى الذى يحرص الصوفية على وصف أنفسهم به. وكان يطلق على هذه الطائفة من الصحابة اسم "أصحاب الصُّفّة". وسر استبعادى لهذا التفسير هو أن اشتقاق "الصُّفّة" إنما يرجع إلى مادة "ص ف ف"، وهى شىء مختلف تمام الاختلاف عن "ص و ف". ولو كان هذا صحيحا لقالوا: "صُفِّيُّون". كذلك لا أظنه مأخوذا من "سوفيا" اليونانية لعدة أسباب: فقد عرب العرب كلمة "فلسفة"، وفيها "سوفيا"، أى الحكمة، (إذ إن "الفلسفة" هى "محبة الحكمة": من "فيلو" أى محب، و"سوفيا" أى الحكمة)، فلو كان "التصوف" مأخوذا من "سوفيا" لكانت بالسين لا بالصاد. كما أن الصوفية لم يشتهروا بالحكمة بوصفها شيئا يميزهم عن سواهم من الفرق والمذاهب ولم يحاولوا أن يقولوا عن أنفسهم إنهم حكماء، بل قالوا وقيل عنهم إنهم زُهَّاد أو عُبَّاد أو عُشَّاق لله. والشىء الوحيد الذى تظهر فيه كلمة"الحكمة" مرتبطة بالصوفية هو كتاب ابن عطاء الله السكندرى الممسى: "الحِكَم العطائية"، وهو شىء خاص به ولا صلة له مخصوصة بالتصوف. وبالإضافة إلى هذا لا نعرف عن الصوفية أنهم استعاروا أيا من مصطلحاتهم من اللغات الأجنبية حتى بعدما تعقد التصوف وتأثر بعضهم ببعض الأفكار الأجنبية الغريبة عن الإسلام.
ومثلما نبذنا القول باشتقاق المصطح من "الصُّفَّة" نستبعد القول باشتقاقه من "الصَّفّ" لأن اشتقاق الكلمة الأخيرة يعود إلى مادة "ص ف ف" مثل "الصُّفَّة" سواء بسواء. كما أنه لا علاقة بين الصوفية والصف، فهم لم يكونوا جنودا ينتظمون فى صفوف مثلا. كما أن محاولة الربط بين هذا المصطلح وبين الصف بمعنى أنهم في الصف الأول بقلوبهم فواقع الصوفية لا يساعد عليه، إذ هم ناس من الناس: فيهم الطيبون، وفيهم الأشرار، وفيهم الصالحون المخلصون، وفيهم المنافقون الذين يجعلون من الدنيا أكبر همهم. وهذان الفرضان الاشتقاقيان قد أوردهما د. زكى مبارك ضمن كلامه فى مناقشة الفروض الأربعة التى نناقشها الآن.
ويبقى أن التصوف مشتق من الصوف، وهو أَوْجَه التفسيرات فى نظر د. زكى مبارك، وفى رأى د. محمد بشار الفيضي العراقى فى مقال له على المشباك بعنوان "مباحث مهمة في علم التصوف". ويعرض د. الفيضى هذا الرأى ووجهة نظره فيه على أساس أن نسبة التصوف واشتقاقه يرجعان إلى ما كان عليه كثير من الصوفية من لبس الصوف زهدًا واخشيشانًا. ومن ثم يكون هذا الاسم هو أساس اشتقاق الفعل: "تَصَوَّف"، فهو متصوف: من "ص و ف" للدلالة على لبس الصوف، وذلك لجملة أسباب منها: أولاً أن النبي وأصحابه كانوا يلبسون الصوف. وقد وردت في ذلك أحاديث وآثار منها أن "رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يركب الحمار ويلبس الصوف..."، وعن أبي موسى الأشعري قال: "يا بني، لو رأيتنا ونحن مع نبينا صلى الله عليه وسلم لحسبت أنما ريحنا ريح الضأن. إنما لباسنا الصوف، وطعامنا الأسودان: التمر والماء"، وأُثِر عن الحسن البصري قال: "والله لقد أدركت سبعين بدريًّا كان لباسهم الصوف". ثانيًا أن لبس الصوف يعلِّم صاحبه الاخشيشان ومجافاة الدنيا وعدم الركون إلى الترف. وهذا ما كان يهدف إليه الصوفية بسلوكهم، فاتخذوه شعارا لهم. ثالثًا أن لبس الصوف كان سُنّة الأوائل من كبار الصوفية عند ازدهار دولة الإسلام وانفتاح الدنيا على المسلمين وما تبع ذلك من انشغال الناس بزخرف الحياة، وتولعهم بالترف إلى الحد الذي أنساهم آخرتهم. فلبس الصوفية هذا اللباس مخالفة للناس في ترفهم الذي جاوز الحلال إلى البغي بغير الحق، وكان صنيعهم هذا أشبه ما يكون بوثيقة الاحتجاج الصامتة، فهي إذن وسيلة اتخذها الصوفية لردع الناس وكبح جماحهم. ولذا لبس الصوفَ أغنياءُ الصوفية أيضا. ولا يخفى ما لهذا الفعل من أثر في النفوس، فإنَّ قيام غني بارتداء الصوف، وهو قادر على لبس أفخر الثياب، يثير فضول الناس، ويدفعهم للوقوف على ما وراء هذا الأمر من سر. وحين يدركون أنَّ هذا الرجل إنما فعل ذلك زهدا في الدنيا، واحتجاجا على مترفيها، فستكون رسالة الصوفية قد بلغت أوعية الناس من قلوب وعقول بأخصر طريق، وأنجح وسيلة.
ويضاف إلى ذلك أن ابن خلدون قد رجّح هذا التفسير فقال في مقدمته: "إنه من الصوف، وهم في الغالب مختصون بلبسه لما كانوا عليه من مخالفة الناس في لبس فاخر الثياب إلى لبس الصوف. فلما اختص هؤلاء بمذهب الزهد والانفراد عن الخلق والإقبال على العبادة اختصوا بمآخذ مدركة لهم". ويرى الباحث أنَّ لباس الصوف لم يكن حالة ملازمة للصوفية على مرّ الزمان، بل كان في مرحلة معينة، ولأهداف مقصودة كما قال. لكن هذا اللباس قد ظلّ رمزا لهذه الجماعة يذكّر بجهادها المميز في سبيل إصلاح الأمة وتربيتها روحيا، حتى إنّ كثيرا من الناس صار يلبس الصوف تشبهًا بهم، ومحاكاةً لهم.
وكذلك يرى د. زكى مبارك أن هذا التفسير هو أوجه التفسيرات، وهو ما أوافقه عليه، وإن كنت أرى أن لبس الصوف ليس شرفا فى حد ذاته، وأنه ليس علاجا لما ذكره د. الفيضى من الترف الذى انغمست فيه الأمة عقب الفتوح، إذ إن لبسى أنا مثلا الصوف لا يعالج ترف زيد أو عمرو من الناس، بل يعالجه أن يكف زيد أو عمرو عن الترف الذى انغمس فيه. ثم إن إصلاح السيئين لا يتم بتقشف الصالحين، بل بتغيير هؤلاء الفاسدين لأنفسهم. وفوق هذا فلبس الصوف ليس أفضل أسلوب للفت أنظار الناس إلى طيب السريرة وطهارة السلوك، بل أفضل طريقة هى المعاملة الكريمة والسماحة والرقة والخلق الطيب وطول البال والتعاون والألفة والمسارعة إلى المساعدة. كما أن الإسلام لا يرتاح إلى تشديد الإنسان على نفسه، وإلا فلمن خلق الله طيبات الدنيا وسَخَّرَها؟ وما الذى يفعله الله بعذابنا إن شَكَرْنا وآمَنَّا؟ ولهذا قال رسولنا الكريم: لا رهبانية فى الإسلام. ولم يُعْرَف عن النبى أنه داوم على لبس الصوف، بل كان يلبس ما تيسر من الثياب مثلما كان يأكل ما يتيسر من الطعام، لا يتكلف فى هذا ولا فى ذاك.
كذلك فالقول بأن الصوفى هو دائما فى حالة صفاء روحى أو أن صلته بربه تقوم دَوْمًا على الصفاء هو كلام يخلط أصحابه بين الفرض النظرى والواقع العملى، إذ المفروض (المفروض فقط) فى الصوفية، وحسب دعاواهم ليس إلا، أنهم هم أهل الصفاء والنقاء، أما على أرض الواقع فكثيرا ما يكون المتصوفة من أسفل الناس خلقا وسلوكا. ولست أقصد الحط من شأنهم بوصفهم صوفية، بل كل ما أقول هو أنهم، مثل سواهم من البشر، فيهم وفيهم.
وفى التعريف بمصطلح "الصوفية" يقول ماسينيون ومصطفى عبد الرازق فى كتاب "التصوف" إن "التصوف مصدر الفعل الخماسى الـمَصُوغ من "ص و ف" للدلالة على لبس الصوف، ومن ثم كان المتجرد لحياة الصوفية يسمى فى الإسلام: صوفيا. وينبغى رفض ما عدا ذلك من الأقوال التى قال بها القدماء والمحدثون فى أصل الكلمة كقولهم إن الصوفية نسبة إلى "أهل الصُّفَّة"، وهم فرقة من النساك كانوا يجلسون فى صُفَّة المسجد النبوى بالمدينة لعهد الرسول عليه السلام، أو إنهم من الصف الأول من صفوف المسلمين فى الصلاة، أو من بنى صوفة، وهى قبيلة بدوية، أو إلى "صوفة القفا"، وهى الشعرات النابتة عليه، أو إن اللفظ مشتق من "صُوفِىَ": مطاوع "صَافَى"، والأصل: "صفا"... وقد رد نولدكه (Noeldeke) هذا المذهب الأخير فى أصل كلمة "صوفىّ"، مبينا أن السين اليونانية تكتب باطراد فى العربية "سينا" لا "صادا"، وأنْ ليس فى الآرامية كلمة متوسطة للانتقال من "سوفوس" اليونانية إلى "صوفىّ" العربية" .
ويقول د. الفيضى: "والملاحظ أن ابن خلدون يحدد القرن الثاني بداية لظهور مصطلح "الصوفية". وفي أخبار التاريخ ما يؤيد ذلك، فقد نقل الشيخ الغماري ما ذكره الكندي، وكان من أهل القرن الرابع، في كتاب "ولاة مصر" في حوادث سنة المائتين "أنه ظهر في الإسكندرية طائفة يُسَمَّوْن بـ"الصوفية" يأمرون بالمعروف". ونقل أيضًا عن المسعودي في "مروج الذهب" حاكيًا عن يحيى بن أكثم قوله: "إنّ المأمون يومًا لجالسٌ إذ دخل عليه عليّ بن صالح الحاجب فقال: ياأمير المؤمنين، رجل واقف بالباب عليه ثيابٌ بيضٌ غلاظ يطلب الدخول للمناظرة، فعلمت أنه بعض الصوفية". ويبدو لي، والله أعلم، أنّ ظهور المصطلح سابق على هذه الفترة، فإن الجماعة الذين ذكرهم الكندي لا يمكن أن يظهروا فجأة، وإنما حصلت الشهرة للمصطلح في القرن الثاني. ويؤيد هذا ما أُثِر عن الحسن البصري أنه قال: "فأعطيته شيئًا فلم يأخده، وقال: معي أربعة دوانق، فيكفيني ما معي"، وما رُوِيَ عن سفيان الثوري أنه قال: "لولا أبو هاشم الصوفي ما عرفتُ دقيق الرياء". والمعروف في تاريخ الوَفَيَات أن الحسن البصري تُوُفِّيَ سنة 110 من الهجرة، وتوفي أبو هاشم الصوفي سنة 150 من الهجرة.
وعلى كل حال فالحسن البصري رحمه الله يُعَدّ أول من فَتَقَ هذا العلم وخصه في الحديث، فكان ينطق بمعانيه، ويبدي أسراره، ويتكلم فيه بكلام لم يُسْمَع به حتى قال له بعض مجالسيه: يا أبا سعيد، إنك تتكلم في هذا العلم بكلام لم نسمعه من أحد غيرك، فممن أخذت هذا العلم؟ قال: من حُذَيْفة بن اليَمَان. وحذيفة أمين سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد خصه بعلم المنافقين، وأُفْرِد بفهم خفايا الفتن. وهو الذي كان يقول: "كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني" حتى إن أكابر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يسألونه عن الفتن العامة والخاصة، ويرجعون إليه في العلم الذي خُصَّ به، وكانوا يسألونه عن أهل النفاق فيخبر بأعدادهم ولا يذكر أسماءهم. وكان عمر يستكشفه عن نفسه: هل يعلم فيه شيئًامن النفاق؟ فبرّأه عنه. ولعظم ثقة عمر به كان إذا دُعِيَ إلى جنازة يصلي عليها نظر: فإن حضر حذيفة صلى عليها، وإن لم يحضر حذيفة لم يصل عليها. ونعود إلى الإمام حسن البصري لنقول: لقد كانت له مجالس للذكر يخلو فيها مع إخوانه ومحبيه من النساك والعبّاد في بيته، مثل مالك بن دينار وثابت البناني وأيوب السختياني ومحمد بن واسع وفرقد السنجي وعبد الواحد بن زيد، ويقول لهم: "هاتوا انشروا النور"، فيتكلم عليهم من هذا العلم في علم اليقين والقدرة، وفي خواطر القلوب وفساد الأعمال ووساوس النفوس. ومن هنا يمكن القول إن أول مدرسة كانت للتصوف بدأت بعد الصحابة هي مدرسة نُسّاك البصرة، وأول من نطق بهذا العلم أستاذها الحسن البصري. ثم تتابعت من بعدها المدارس، وظهر من بعد الحسن رجال لا يُحْصَوْن عددًا متخصصون في هذا العلم المبارك.
والآن إلى فضيلة الدكتور عبد الحليم محمود. وللرجل، رحمه الله، كتابات فى التصوف: مفهومه وتاريخه وأعلامه، بالإضافة إلى آرائه فى هذا المجال. وسوف أتعرض هنا لبعض ما كتبه فى هذا الموضوع، وإن كنت لا أنوى الاقتصار على ما كتبه هو، بل سوف أعزز ما قاله بنصوص من الصوفية الآخرين: إما مِنْ كُتُبِهم ذاتِها أو كتبٍ نَقَلَتْ عنهم أو من كتبٍ يوافق هو على ما جاء فيها.
فهو يؤكد أن الإنكار على المتصوفة قديم، إذ يقول منكرو التصوف إنه دخيل على الإسلام، الذى ليس فيه إلا التقوى والورع والقناعة وما إلى هذا، ولا يعرف شيئا من متاهات التصوف بما فيها من تعقيدات وتكاليف شاقة ليست فى متناول الناس جميعا. فهو إذن لون من الأرستقراطية، التى تنافى الإسلام، فضلا عن أنه ضعف، والإسلام قوة. ثم إن الله سبحانه قد منحنا العقل لنستخدمه فى التفكير، وهو الوسيلة الوحيدة للوصول إلى اليقين فيما وراء عالم الحس والبرهنة على وجود الله وصفاته. والقرآن مملوء بالآيات التى تتحدث عن نعمة العقل وتحض على استعماله .
ويورد د. عبد الحليم بعد ذلك ردود المتصوفة على هذه الاعتراضات فيقول مثلا إنهم يستغربون أن يكون وجود الله سبحانه بحاجة إلى دليل من العقل لأنه من الظهور بمكان. إلا أن المشكلة تكمن فى تطلع بعض البشر إلى التعمق والتوغل فيما وراء الطبيعة كصفات الله والملائكة والقضاء والقدر والجبر والاختيار واليوم الآخر والثواب والعقاب مما تعرض له القرآن والحديث، لكن لم يوضحا طبيعته، فكانت هناك ثغرة تحتاج إلى أن تُسَدّ كما هوالحال مثلا فى حقيقة الثواب والعقاب: أهو حسى أم روحى أم يجمع بين الحسية والروحانية؟ وإذا كان الله قد خلق البشر ليعبدوه كما جاء فى القرآن الكريم، أو ليعرفوه كما ورد به الحديث الشريف، فهل الله سبحانه بحاجة إلى عبادتنا له أو معرفتنا إياه؟ كذلك ما السبب فى أن الله عز وجل قد نهى آدم وحواء عن الأكل من الشجرة؟ فكيف يا ترى نواجه هذه المسائل؟ بالحس أم بالعقل أم بالتصوف؟ فأما الحس فسبيله الملاحظة والتجربة فى ميدان العالم الطبيعى، وأما العقل فالعقول لا تتفق أو تُجْمِع على شىء، والدليل على ذلك أن الفلسفات والنظريات مختلفة اختلافا بينا، ولا سبيل إلى تلاقيها على رأى واحد. ثم إن العقول أعجز من أن تخترق حجب الغيبيات، فكيف ندخلها فى هذا المأزق الذى لا تستطيع مواجهته؟ فما العمل؟ ليس أمامنا إلا البصيرة لمواجهة مشاكل ما وراء الطبيعة.
وفى هذا السياق يذكر د. عبد الحليم محمود النوم على أنه وسيلة من وسائل النفوذ إلى عالم الغيب عن طريق الرؤيا صراحةً أو رمزًا. يقول الشيخ هذا مع أن الرؤيا إن صَدَقَتْ مرة، وقليلا ما تصدق، فما أكثر المرات التى تطيش ولا يصدّقها الواقع. فهل تصلح، وحالها هذا، أن تكون أداة يقينية للمعرفة، فضلا عن أنها كثيرا ما تكون رمزية تحتاج إلى من يعبرها التعبير الصحيح؟ وأين هو؟ كذلك يذكر د. عبد الحليم أيضا النبوة. وبطبيعة الحال ليس هناك أدنى اعتراض على ذلك من جانبنا نحن الذين نؤمن بالله وبأنبيائه ورسله وخاتمهم محمد عليه الصلاة السلام. بيد أن باب النبوة قد أغلق إغلاقا فلا يفتح أبدا، وعليه فليس أمامنا إلا القرآن المجيد والحديث النبوى الصحيح.
أما ما عدا هذا فلا يلزمنا فى شىء، ونحن بإزائه أحرار: نصدقه إن كان فيه ما يبعث على التصديق، أو نكذبه إذا لم يقنعنا. ولا يحق لأحد أن يغضب من موقفنا. أما قول المتصوفة إن تزكية النفس وتطهيرها تسمو بالإنسان إلى الملإ الأعلى فتفيض عليها منه نفحات وإلهامات ومعرفة لا تتأتى لذوى النفوس المادية الذين شُغِلوا بالدنيا عن الدين، وبالمادة عن الله، فالرد هو أن عملية التزكية والتطهير لا تقتصر على التصوف، إن كان التصوف سبيلا وثيقا إلى تلك الغاية. ترى هل لا بد أن يجرى الإنسان على سنة المتصوفة وطريق المقامات والأحوال، وما أدراك ما المقامات والأحوال، كى يكون شخصا روحانيا؟ هل ما يفعله واحد مثلى الآن من بحث وكتابة وبث للعلم لا يُزْلِفُه قِيدَ شعرة من الروحانية بل يبقيه فى إسار المادية؟ إذن فالناس جميعا بما فيهم الصحابة ماديون، أستغفر الله. ولنفترض أن طريق التصوف طريق جيد، فهل هو الطريق الوحيد نحو التطهر والرقى الروحى واكتساب المعرفة؟
كذلك يبعث على التخوف من الاتجاه الصوفى خلوه من المعيار الخارجى الذى يقنعنا أصحابه من خلاله بصحة ما يقولون. ودائما ما نسمعهم يؤكدون أن السبيل إلى التحقق من صدق كلامهم هو أن نحذو حذوهم فنعرف معرفتهم. لكن كيف أقتنع أولا بأن ما يقولونه هو الصواب حتى أجد فى نفسى الحافز على سلوك طريقهم؟ إن القرآن يتخذ طريق البرهان والإقناع، ولا يقول لنا: اعملوا كما يعمل أبو بكر وعمر وعثمان وعلى مثلا لتعرفوا حقيقة الإسلام. لا ليس هذا هو السبيل إلى إقناع واحد مثلى، ولا أظننى أمثل شيئا شاذا فى دنيا البشر. سنسمعهم يقولون إن التصوف أرستقراطية. لكن من السهل الرد على ذلك بأن الأديان تشمل الناس كلهم بعنايتها واهتمامها، وتفتح صدرها للجميع دون أن تقول لبعض الناس إنهم غير مؤهلين لتقبل عطائها. ثم هل العلماء والمصلحون والمفكرون والأدباء والكتاب المتدينون الذين لا يتبعون طريق التصوف غير أرستقراطيين، والمتصوفة وحدهم هم المستحقون لذلك الوصف؟ فماذا هم قائلون فيما يحتويه كتابنا هذا من مآخذ غير هينة على عدد من كبار المتصوفة ممن يحظَوْن باحترام وإجلال كبيرين؟
بل لماذا لا يكون العقليون هم الذين يمثلون الأرستقراطية ما دام الله قد فضل بنى آدم على كثير من المخلوقات بالعقل، وبناء عليه يكون أصحاب العقول القوية هم الأرستقراطيين؟ لقد قال الملائكة لربهم حين أخبرهم أنه جاعلٌ فى الأرض خليفة: "أتجعل فيها من يُفْسِد فيها ويَسْفِك الدماء، ونحن نسبِّح بحمدك ونقدِّس لك؟" طبقا لما جاء فى الآية الثلاثين من سورة "البقرة"، ولم يقل عز شأنه لملائكته إن البشر لن يفسدوا فى الأرض ولن يسفكوا الدماء، بل لفت نظرهم إلى أن آدم يتميز بشىء لا يتمتع به سواه من المخلوقات. ألا وهو العقل وقابليته للتعلم والتطور.
كذلك يؤكد د. عبد الحليم محمود أن أحدا من أهل البِدَع من قَدَرِيّة وروافض وخوارج لم يكن له حظ فى علم التصوف والإشارات بما فيه من الدقائق والحقائق، بل كانوا محرومين من حلاوته وسكينته. واستشهد على ذلك بكتاب "طبقات الصوفية" للسلمى، الذى ترجم فيه لما يقرب من ألف لم ينسب إلى أى منهم بدعة من البدع. لكن أَوَلَمْ يَقُلْ شيخنا الجليل ذاته إن فى المتصوفة من انحرف وقال بسقوط التكاليف الشرعية؟ ألا يعلم أن فى المتصوفة من كان يرى وحدة الوجود والحلول؟ أليست هذه انحرافات خطيرة تهون إلى جانبها بدع كثيرة؟
وعلى كل حال تعالوا إلى ما كتبه السلمى وغيره من المتصوفة عن بعض الصوفيين: فذو النون المصرى مثلا يحكى عن الله عز وجل أنه قال: "من كان لى مطيعا كنت له وليا، فليثق بى، وليحكم علىَّ. فوعزتى لو سألنى زوال الدنيا لأزلتها له" . والآن من أين لذى النون يا ترى بهذا الكلام الغريب؟ وهل يعقل أن يَعِد الله بإزالة الدنيا لو أنها طقت فى عقل واحد من الناس وطلب منه سبحانه ذلك؟ كيف بالله نصدق أن الله يمكن أن يزيل ذلك الملكوت العظيم الذى يبدو وكأن ليس له أول وآخر لمجرد نزوة تطوف بخاطر إنسان كائنةً طاعته له ما كانت؟ وهل مثل تلك النزوة تطوف بخاطر أى إنسان صالح أصلا؟ فلماذا إذن لم يجد الحديث القدسى سوى هذا الخاطر يورده فى مثل هذا السياق؟ ثم هل عبارة "ثِقْ فىَّ" هى من كلام الله كما نعرفه من الأحاديث القدسية التى وردت إلينا من الطرق الصحيحة أو حتى من كلام عصر المبعث؟ ومنذ متى يَعِد الله سبحانه وتعالى عباده الصالحين بأنه يمكن أن يزيل لهم شيئا؟ المعروف أنه سبحانه لا يَعِدُ فى مثل هذا الموقف إلا الخير، إذ ليس ثمة ظلم أو كفر أو فساد يمكن أن يُغْضِبه عز شأنه فينتقم ممن صنعوه.
ويقول ذو النون أيضا: "الأنس بالله نور ساطع، والأنس بالخلق غم واقع" . والرد عليه سيكون من كلام الرسول عليه الصلاة والسلام، الذى يقول: "المؤمِنُ آلِفٌ مألوفٌ، ولا خيرَ فيمَن لا يَألَفُ ولا يُؤْلَفُ، وخيرُ الناسِ أنفَعُهم للناسِ". ولا شك أن الأنس بالله نور ساطع كما قال ذو النون لا يستطيع مؤمن أن يمارى فيه، لكن ذا النون يضع المسألة وكأنها لا تحتمل إلا أنسا واحدا: فإما الأنس بالله وإما الأنس بالبشر، بما يوحى أن الأمرين متناقضان لا يجتمعان أبدا، مع أن الأنس بالله يقوم، فيما يقوم، على إلف الناس والتعاون معهم، واستخدامهم وخدمتهم، والإصهار إليهم والبيع لهم والشراء منهم ومعالجتهم، وإطعامهم وسقيهم، والأكل والشرب من أيديهم، وتعليمهم والتعلم منهم... وهكذا. ترى كيف تمضى الحياة دون أن يكون فيها ناس؟ وقديما جدا قالوا: الإنسان مدنى بالطبع. أى لا بد له أن يعيش فى مجتمع يضمه مع غيره من البشر. إن ذا النون فى هذا الكلام إنما يفكر فى نفسه بوصفه مجرد عابد قائم للصلاة لا يصنع شيئا آخر فى دنياه، ومن ثم لا يريد إلا أن يناجى ربه. فهل الإنسان، بالغةً ما بلغت عبادته من الكثرة والتركيز، يمكن أن يعيش وحده دون حاجة إلى الاختلاط بالناس؟ ألا يحتاج هذا العابد المستغرق فى عبادته ليل نهار إلى ماء يتوضأ به؟ فمن يا ترى يجلب له الماء؟ ألا يحتاج إلى حصير يصلى عليه؟ فمن يا ترى يصنع له ذلك الحصير؟ ألا يحتاج إلى ملابس تستر عورته فى الصلاة؟ فمن يا ترى يغزل وينسج ويحيك له ملابسه؟ ألا يحتاج إلى غرفة يصلى فيها؟ فمن يا ترى يبنى له تلك الغرفة؟ ألا يحتاج إلى طعام يقوته ويعينه على الوقوف بين يدى الله؟ فمن يا ترى يصنع له طعامه؟ وحين يريد التخلص من فضلاته، ألا يحتاج إلى مرحاض؟ فمن يا ترى يبنى له المرحاض، ويكسح له المجارى؟ ثم حين يموت، من يا ترى يغسله ويكفنه ويدفنه؟ أم تراه يريد لجثته أن تبقى فى موضعها حتى تنتن وتتحلل وتأكلها عوامل التعرية بعد سنين؟... وهكذا وهكذا مما لا يكاد يحصى. إن كلام ذى النون هو من ذلك النوع الذى يبهر السُّذَّج فيظنونه عين الحكمة والعقل رغم مناقضته لطبيعة الحياة واستحالة تنفيذه. إنه مجرد كلام!
وعن ذى النون أيضا أنه قال: "كان لى صديق فقير (أى صوفى زاهد يعيش على مد يديه للناس) فمات، فرأيته فى النوم، فقلت له: ما فعل الله بك؟ قال: قال لى (أى قال الله له): قد غفرتُ لك بترددك إلى هؤءلاء السَّفِل أبناء الدنيا فى رغيف قبل أن يعطوك" . ويرى القارئ من تلقاء نفسه كيف يتطاول الصوفية الكسالى على الناس الذين يمدونهم بالرغيف، وبدلا من أن يشكروهم على أنهم أَعْطَوْهم مما وهبهم الله من الرزق الذى شَقُوا فى تحصيله، فى حين يكتفون هم بمد أيديهم وتكفُّفهم، وهو ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وحذر من يفعله بأنه يأتى يوم القيامة وفى وجهه نكتة سوداء، بدلا من هذا نراهم يصفونهم بأنهم سَفِلَة وبأنهم أبناء الدنيا، وبأن الله يغفر لمن مد يده إليهم، مما يوحى بأنه سبحانه لن يغفر لهم هم رغم ما قاله الرسول الكريم من أن اليد العليا خير من اليد السفلى.
أرأيت، أيها القارئ، شاهدا أقوى من هذا على المثل القائل: "حسنة، وأنا سيدك"؟ أهذا ما يريد أن يعلمناه ذو النون المصرى؟ أهذه هى تعاليم الإسلام؟ إن بعض الصوفية يتشامخون على من يحسن إليهم، فبدلا من أن يشكروهم ويَرَوْا عيوبهم هم نراهم يصفون أنفسهم بأنهم أبناء الدين، ويَسِمُون من أحسنوا إليهم بأنهم من أبناء الدنيا؟ وبدلا من أن يكدحوا مثلهم ويكسبوا رزقهم بعرق جبينهم نجدهم يتكبرون ويتنمرون حتى بعد أن يموتوا، ويَدَّعون على الله المزاعم. أليس رسول الله هو الذى قال: إن من الذنوب ذنوبا لا يكفّرها إلا العمل؟ فلم لا يتبع هؤلاء العاطلون الكسالى الذين يعيشون على جهد الآخرين سُنَّة نبيهم بدلا من طول اللسان؟
ويقول صوفى آخر: "العيال يُضْعِفون اليقين لأنه (أى الصوفى) إذا كان وحده فجاع فرح، وإذا كان له عيال فجاعوا طلب لهم. وإذا جاء الطلب فقد ضعف اليقين" . فهل هناك إنسان يفرح إذا جاع؟ يمكن مثلا أن يقال إن الرجل النبيل لا يذل أمام الجوع ولا يمد يده للآخرين بل يصبر ويحتسب حتى يفرجها المولى، أما أن يزعم أنه يفرح بالجوع فهذا ما لا أفهمه ولا أصدقه. ثم عندك دعواه أن العيال مضعفة لليقين، لماذا؟ لأنهم يحتاجون إلى السعى على المعاش، والسعى على المعاش دليل على ضعف اليقين عند سيدنا المتصوف. فأى خبل هذا؟ وعلى هذا فليس بمستغرب أن يقول صوفينا ذاك: "لكل شىء مَهْرٌ، ومهر الجنة ترك الدنيا بما فيها". وأحب أن أقول له إن كان يسمعنى: ها نحن المسلمين أولاء قد سمعنا كلامك المبارك وتركنا الدنيا لأعدائنا، فأهملنا العمل والإتقان وكرهنا العلم والثقافة وتركنا الإبداع والاختراع، فهزمونا وأذلونا وسرقونا وقتلونا واغتصبوا نساءنا ودمروا بلادنا واستعملوا حكامنا عبيدا لهم واتخذوا الشعوب مطايا ينخسونها بأحذيتهم، فخرجوا هم بالدنيا، أما نحن فخسرنا الدنيا والآخرة. فهل أنت بذلك سعيد؟
وانظر فى الروايتين التاليتين إلى التناقض بين موقف الصوفى الأول فيهما من التيمم وموقف الآخر منه، فقد "أَذَّن أبو يزيد (البسطامى) مرةً ثم أراد أن يُقِيم، فنظر فى الصف فرأى رجلا عليه أثر سفر، فتقدم إليه فكلمه بشىء، فقام الرجل وخرج من المسجد. فسأله بعض من حضر، فقال الرجل: كنت فى السفر فلم أجد الماء فتيممت ونَسِيت ودخلت المسجد، فقال لى أبو يزيد: لا يجوز التيمم فى الحضر. فذكرتُ ذلك وخرجت" ، و"بال معروف (الكرخى) على الشط ثم تيمم، فقيل له: يا أبا محفوظ، الماء منك قريب! فقال: لَعَلِّى لا أبلغ الشط" . إن هاتين الحكايتين لتذكراننا بفتوى "بال الكلب على جدار، فقال المفتى: ينبغى هدم الجدار. ثم لما أخبرناه أنه الجدار المشترك بين بيتنا وبيته أفتى بأن قليلا من الماء يكفيه"، فحين تيمم غير الصوفى كانت الفتوى: لا تصح صلاتك. ولكن عندما تيمم الصوفى، وليس بينه وبين الماء أية مسافة، قال لمن استغرب فعلته: لعلى لا أبلغ الماء. أى أن صلاته صحيحة. ويقصد بكلامه أنه قد يموت قبل أن يصل إلى الشط. وهذا رد مراوغ، إذ لو مات قبل وصوله للشط فليس عليه من ذنب. وهو يعرف هذا جيدا، لكنه يتباله.
على أن هناك وجها آخر للمسألة أخطر من هذا، ألا وهو أن د. عبد الحليم محمود يقول دائما إن معرفة الشريعة والأخلاق والغيبيات لا تعتمد على حس ولا عقل بل على الدين، وإن الصوفية لا يرتكنون إلى عقولهم بل يستمدون علمهم من فوق. والآن كيف نصدق أن الصوفية يستمدون فعلا علمهم من فوق، وها هما ذان صوفيان يفتيان فى مسألة دينية تشريعية واحدة بفَتْوَيَيْن متناقضتين. بل إن الرجل المسافر ليمكنه أن يجيب البسطامى بأنه لما كان تيممه السابق لم يُنْقَض بعد فقد ظن أن صلاته به جائزة، بخلاف معروف الكرخى، الذى لم يكن أمامه إلا أن يتباله حتى لا يُقْبَض عليه متلبسا. ثم إننا لو جرينا على منطق الكرخى لقلنا إنه كان ينبغى أن يدخل فى الصلاة دون تيمم أيضا لأنه لا يضمن أن يصل إليها لو تيمم.
ومن الصوفية الذين ترجم لهم السلمى يحيى بن معاذ، فماذا قال ذلك الرجل عن الصوفية؟ قال: "اجتنب ثلاثة أصناف من الناس: العلماء الغافلين، والقراء المداهنين، والمتصوفة الجاهلين" . إذن ففى الصوفية جهلاء ينبغى الحذر منهم. ومَنْ قائل ذلك؟ إنه واحد من المتصوفة لا من أعدائهم. ومن الصوفية التى ترجم لهم السلمى أيضا الجنيد، الذى سمع رجلا يقول إن "أهل المعرفة بالله يَصِلُون إلى ترك الحركات من باب البر والتقرب إلى الله تعالى"، فأجابه بأن "هذا قول قوم تكلموا بإسقاط الأعمال، وهذه عندى عظيمة. والذى يسرق ويزنى أحسن حالا من الذى يقول هذا. وإن العارفين بالله أخذوا الأعمال عن الله، وإليه رجعوا فيها. ولو بَقِيتُ ألف عام لم أنقص من أعمال البر ذرة إلا أن يحال بى دونها، وإنه لأَوْكَدُ فى معرفتى وأقوى فى حالى" . ويقول رُوَيْم، وهو من المتصوفة: "لا يزال الصوفية بخيرٍ ما تنافروا، فإن اصطلحوا هلكوا" .
وممن ترجم لهم السلمى من المتصوفة كذلك يوسف بن الحسين، وهو القائل: "نظرتُ فى آفات الخلق فعرفتُ من أين أُتُوا. ورأيت آفة الصوفية فى صحبة الأحداث، ومعاشرة الأضداد، وإرفاق النسوان". وقال: "عاهدت ربى أكثر من مائة مرة ألا أصحب حَدَثًا، ففسخها علىَّ حسن الخدود وغنج العيون، وما سألنى الله تعالى معهم عن معصية. وأنشد لصريع الغوانى:
إِنَّ وَرْدَ الخُدودِ وَالحَـدَقَ النُجْــــــــ
وَاِعْوِجاجَ الأَصْداغِ في ظاهِـرِ الـخـَـــ
تَرَكَتْــــني بَينَ الغَــــــــــوَاني صَريعًـــــا ــــــــــلَ وَما في الثُغُورِ مِن أُقْحُــــوانِ
ــــــدِّ وَما في الصُـــــــــدُورِ مِن رُمّــــــــانِ
فَلِهَــذا أُدْعَى: صَريعَ الغَوَانـــــــــي"
ومنهم كذلك سمنون الخواص، الذى ذكر السلمى أنه "كان جالسًا على شاطئ دجلة، وبيده قضيب يضرب به فخذه حتى بان عظم فخذه وساقه، وهو يقول:
كان لي قلبٌ أعيـــــــــــــش بـــــــــه
ربِّ، فاردُدّه علــــــيَّ، فـَقـــــــــــد
وأغِــــثْ ما دام بــــــــي رَمَـــــــــقٌ ضاع منـــــــــــــــــي في تقلُّبـــــــــــــــهِ
ضاق صــــــــدري في تَطَلُّبِـــــــــــــهِ
يا غِيـَاث المستغيـــــــــث بـــــــــــهِ"
ويقول أبو سعيد الخراز: "رأيت إبليس في النوم وهو يمرّ عني ناحية، فقلت له: تعال! مالك؟ فقال: إيش أعمل بكم، وأنتم طرحتم عن نفوسكم ما أخادع به الناس؟ فقلت: وما هو؟ قال: الدنيا. فلما ولى عني التفت إليّ وقال: غير أن لي فيكم لطيفة. فقلت: وما هي؟ قال: صحبة الأحداث. قال أبو سعيد: وقَلَّ من يتخلص من هذا من الصوفية!" .
وعن الخوّاص قال: "رأيت شيخا من أهل المعرفة عرَّج بعد سبعة عشر يوما على سبب فى البرية، فنهاه شيخ كان معه، فلم يقبل، فسقط ولم يرتفع عن حدود الأسباب" . ومعنى هذا أن ذلك الصوفى يسير عكس ما يريد الإسلام منا، إذ نحن مأمورون أن نأخذ بالأسباب وأن نعقلها ونتوكل لا أن نتركها بلا عقل ثم نزعم أننا متوكلون. لقد بين الرسول عليه السلام حقيقة التوكل فى الإسلام، فضرب لنا مثلا بالطير قائلا: "لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير: تغدو خِمَاصًا، وتروح بِطَانًا". فتوكُّل الطير يكمن فى أنها أخذت بالأسباب فتركت عشها فى الصباح بحثا عن الرزق. لقد خرجت جائعة لا طعام لها، لكنها عادت آخر النهار وقد أكلت وشبعت وامتلأت بطنها. ولو بقيتْ فى العش لم تنل شيئا من الرزق، ولكان هذا تواكلا لا توكلا. أما صاحبنا الصوفى فيعيب الأخذ بالأسباب. وأغلب الظن أنه يسوغ موقفه بشبهة أن هناك ربًّا يسمع ويرى ويستجيب لمن دعاه، متناسيا أن الاستجابة الإلهية إنما تكون للعاملين المجتهدين الآخذين بالأسباب لا التنابلة النائمين على صماخ آذانهم.
ويجرى نفس المجرى ما تقوله الرواية التالية: "عن محمد بن عبد الله الرازي قال: سأل رجل أبا عبد الله بن سالم وأنا أسمع: أنحن مستعبَدون بالكسب أم بالتوكل؟ فقال: التوكل حال رسول الله صلى الله عليه وسلم، والكسب سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإنما سُنَّ الكسب لمن ضعف عن التوكل وسقط عن درجة الكمال التي هي حاله. فمن أطاق التوكل فالكسب غير مباح له بحال إلا كسب معاونة لا كسب اعتماد عليه. ومن ضعف عن حال التوكل، التي هي حال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبيح له طلب المعاش في الكسب لئلا يسقط عن درجة سُنَّته حين سقط عن درجة حاله" . ومن كلام الدقى: "الفقير (أى الصوفى) هو الذى عَدِم الأسباب من ظاهره، وعَدِم طلب الأسباب من باطنه" . ويقول ابن منازل: "لا خير فى من لم يذق ذل المكاسب وذل السؤال وذل الرد" . لكن ما السبب يا ترى فى هذا الغرام بالذل، والمؤمن يحرص على أن يكون عزيزا لا يذل؟ وهل من القدر المحتوم على المسلم الذى يريد أن يتقرب إلى الله أن يمد يده لسؤال الناس حتى يردوه ويذلوه؟ ترى هل هذا يُرْضِى الله ورسوله؟
وفى كتاب "بشر بن الحافى" للدكتور عبد الحليم محمود نقرأ: "كان حمزة البزاز يقول: ما رأيتُ أحدا من الزهاد إلا وهو يذم الدنيا ويأخذ منها غير بشر بن الحارث، فإنه كان يذمها ويَقْرِفها" . فما معنى هذا؟ معناه أن واحدا من كبار رجال الصوفية يتهم الزهاد، ومنهم المتصوفة، بأنهم يقولون ما لا يفعلون.
كذلك نفاجأ بالمحاسبى، وهو من كبار المتصوفة ومشاهيرهم الذائعى الصيت، يرفض أن يأخذ ميراثه من أبيه! لماذا يا ترى؟ هل هو زُهْدٌ منه فى المال؟ لو كان هذا هو السبب لأكبرناه وعددنا هذا منه فضلا عظيما وإيثارا لباقى الورثة على شخصه، وإن وجب عليه أن يفكر فى ذريته فلا يتركهم فقراء. لكن كان السب شيئا آخر لا يخطر على بال أحد، ويدل على أن هناك خللا فى التفكير والمواقف، إذ كان أبوه معتزليا، وهو لشديد الأسى والأسف يتعامل مع الاعتزال كما لو كان دينا آخر غير دين الإسلام. وبما أن اختلاف الدينين بين الوارث والمورّث يمنع التوريث بينهما فإنه، بناء على تلك القاعدة الفقهية، حرّم على نفسه نيل شىء مما تركه أبوه من ميراث نظرا إلى أن أباه كان معتزليا. والحق أننى لا أستطيع أن أمنع نفسى من الذهول لهذا التصلب بل التنطع. ترى هل يصح أن نقيس الجاحظ والقاضى عبد الجبار مثلا على كعب بن الأشرف اليهودى، والسيد والعاقب النصرانيين؟ يا للهول!
وقد حبذ د. عبد الحليم محمود ما صنعه المحاسبى تحبيذا شديدا، ورآه عنوان الصلابة فى الدين والشدة فى الورع، إذ بعد أن ذكر أن والده فد ترك ثروة تقدر بسبعين ألف درهم قال: "ويروى المؤرخون أن المحاسبى، حينما تُوُفِّىَ والده، لم يأخذ من هذه الثروة شيئا تَوَرُّعًا. ذلك أن والده كان يقول بـ"القَدَر". أى أنه كان قَدَرِيًّا يدين بمذهب المعتزلة، فلم يستسغ المحاسبى أن يشترك فى الميراث توسعا فى تطبيق القاعدة الإسلامية التى تحرّم التوارث بين أهل دينين مختلفين" .
وفى كتابه: "أبو الأنوار شمس الدين الحفنى" يصف د. عبد الحليم محمود الشيخ الحفنى بأنه "كان من سعة الأفق ومن رحابة الصدر، ومن التمكن فى الولاية بحيث يروى عن كبار الصوفية من أية طريقة كانوا، ويثنى عليهم وينقل عنهم. إنه مثلا ينقل عن أبى العباس المرسى، رضى الله عنه، قوله: جلتُ فى الملكوت، فرأيت أبا مَدْيَن معلقا بساق العرش، فقلت: ما مقامك؟ قال: رأس الأبدال. قلت: فالشاذلى؟ قال: ذاك بحر لا يحاط به" . أرأيت، أيها القارئ، تَأَلِّيًا على الله أكثر من هذا؟ إن المرسى يتحدث عن مصائر البشر عند الله وكأنه يتحدث عما يقع فى بيته من أحداث. ترى كيف عرف أن أبا مدين الغوث أو الشاذلى ناجيان وبلغا تلك المكانة العالية لدى رب العباد؟ هل اتخذ عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم يقول على الله ما لا يعلم؟ بل هل يستطيع أن يقطع بمصيره هو عند ربه؟ أم تراه كان نائبا عن الله سبحانه، فهو يتكلم بما كلفه الله تبليغه لنا؟
وفى كتابه عن أبى الحسن الشاذلى أورد د. عبد الحليم، لمحفِّظ قرآن من شِبْلِنْجَة القريبة من منيا القمح اسمه عبد الفتاح القاضى كان الأستاذ الدكتور يعتز بتقواه وزهده وعلمه كثيرا، كلاما يقول فيه إن "الأقطاب أربعة هم السيد البدوى وسيدى إبراهيم الدسوقى وسيدى الرفاعى وسيدى الجيلانى. أما السيد البدوى فهو حى فى قبره يجلس ويضطجع ويقابل جميع زواره. هذا حاله" . ترى كيف يقول الرجل هذا الكلام الشاذ، والقرآن يقول عن الموتى ؤدا على من يبتهل من الكافرين إلى الله أن يعيدهم إلى الدنيا كى يحسنوا العمل بعدما أضاعوا فرصتهم الأولى فى المعصية والجحود: "ومن ورائهم برزخٌ إلى يوم يُبْعَثون"؟ ثم ما معنى الموت إذن إذا كان الموتى يمكن أن يظلوا بعد موتهم أحياء؟ كما يقول إن الموتى يتحولون ترابا ويصير عظامهم رميما، لا فرق فى ذلك بين مسلم وكافر، صالح أو فاسد، ولى أو مجرم: "قال (أى الكافر): من يحيى العظام وهى رميم؟ * قل: يحييها الذى أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم". يقينا إن هذا لهو الخبل بعينه!
وما دام البدوى حيا فى قبره فكيف يتنفس، والقبر مسدود عليه سدا محكما لا يسمح بذرة هواء من الدخول؟ وكيف يعيش دون طعام أو شراب أو دخول حمام؟ وكيف يتسع القبر لكل زواره هؤلاء؟ بل كيف يدخلون قبره وهو مغلق عليه إغلاقا محكما لا يسمح لشىء أن يمر كائنا ما كان؟ وماذا عن شعره وأظافره، التى لا بد أن تكون قد بلغت من الطول أمتارا وأمتارا؟ وماذا كذلك عن رائحته وهو لم يستحم منذ مات؟ وكيف لا يحس الموجودون فى غرفة الضريح بحركة القبر جراء توافد الزوار عليه؟ ودعنا من أن كل ما قلناه عن السيد البدوى ينطبق أيضا على زواره الموتى، الذين يزيدون عليه بأنهم يغادرون قبورهم ويتحركون ويسافرون إليه، وإن كنت لا أعرف كيف ينتقلون إلى طنطا من أنحاء الكرة الأرضية!
إن أحدا لم يقل شيئا من ذلك عن النبى عليه الصلاة والسلام، ولا يمكن أن يقوله، وإلا كان مجنونا جنونا رسميا، ولَتَطَلَّب الأمرُ أَخْذَه إلى الخانكة، أو لتقصير المسافة: إلى العباسية، فهى قريبة من كليتنا لا تبعد عنها إلا فركة كعب! وقد توقعت أن يقول د. عبد الحليم شيئا يعقب به على هذا الكلام العجيب، فلم أجده قال شيئا للأسف. فهل كان الشيخ الجليل يؤمن بهذا الكلام؟ وهل يمكننا أن نفسر قوله فى الطبعة الأولى من كتابه عن السيد البدوى إنه، لما عزم على الكتابة عنه، ذهب إلى ضريحه يستأذنه، ولما أذن له شرع يؤلف الكتاب؟
ومن هذا الوادى أيضا رواية أوردها د. عبد الحليم محمود عن أبى العباس المرسى تتعلق بأبى الحسن الشاذلى. قال أبو العباس: "كنت مع الشيخ أبى الحسن بالقيروان، وكان شهر رمضان، وكانت ليلة جمعة، وكانت ليلة سبع وعشرين، فذهب الشيخ إلى الجامع، وذهبت معه. فلما دخل الجامع وأحرم رأيت الأولياء يتساقطون عليه كما يتساقط الذباب على العسل" . ففى كلام الشيخ عبد الفتاح القاضى نجد السيد البدوى حيا فى قبره، وفى رواية أبى العباس المرسى نجد الأولياء يعودون من الموت إلى الحياة ويترامَوْن على الشاذلى ترامى الذباب على العسل. ولا أدرى كيف فاتت أبا العباس الحصافة فشبَّه ترامىَ الأولياء، الذى لم يحدث إلا فى خياله بل فى وهمه الخصب النشيط، بترامى الذباب بدلا من النحل. أليس غريبا أن يقول القرآن إن رسول الله سيموت كما يموت سائر البشر، وأن يشتد أبو بكر الصديق فى تنبيه عمر ليفيق من الغاشية التى ألمت به حين توفى رسول الله فظن أنه عليه السلام لم يمت بل مضى للقاء ربه ولسوف يرجع مرة أخرى، وهدد بقطع يد ورجل كل من يردد أنه عليه الصلاة والسلام قد مات، ثم يأتى القاضى والمرسى فيقولا إن هذا الصوفى أو ذاك قد عاد إلى الحياة بعد أن مات وشبع موتا؟ ترى ماذا بالله نقول فى ذلك؟
كذلك استشهد د. عبد الحليم بما كتبه ابن الصَّبّاغ صاحب كتاب "درة الأسرار" عن أبى الحسن الشاذلى من أنه كان يعيش فوق جبلٍ بشاذلة من بلاد المغرب للخلوة والعبادة ويقتات بأعشاب الأرض ونباتاتها إلى أن تتقرح أشداق رفيقه، فينزل به أبو الحسن إلى شاذلة يبحث له عن طعام لا يضر به . ترى لماذا هذا التشدد الذى لا معنى له ولا يدل إلا على تنطع يأباه الله ورسوله، لو كان قد وقع فعلا ولم يكن تزيدا من حواريى الشاذلى؟ فلمن خلق الله طيبات الدنيا يا ترى؟ ولم امتن بها علينا إذا كان المطلوب منا أن نتقرب إليه بنبذها؟ ألسنا نقرأ فى القرآن الكريم قوله تعالى: "ما يفعلُ الله بعذابكم إنْ شكرتم وآمنتم؟"؟ أم نزلت هذه الآية لقوم آخرين غيرنا نحن المسلمين؟ أليس من سوء الأدب أن تكون النعم الإلهية موفورة بهذه الكثرة فيدير الإنسان ظهره لها زاعما أنه بهذا الانصراف عنها إنما يريد إرضاء المنعم بها؟ ترى لمن سنوفِّرها؟ هل عقمت الأرض فلن تثمر خيرا بعد ذلك فنخاف على من يخلفوننا أن يأتوا فلا يجدوا شيئا؟ أليس ذلك اتهاما لقدرة الله وكرمه ورحمته؟ ثم هل سمع أحد أن الرسول أو الصحابة كانوا يفعلون ذلك؟ وهكذا يرى القارئ أننا، مهما اتجهنا يمينا أو يسارا أو أمامًا أو وراءً أو فوقا أو تحتا، وجدنا الأبواب مسدودة فى وجه هذا التنطع، إن كان قد وقع ما تقوله الرواية فعلا!
ومع هذا كله فإن د. عبد الحليم محمود يعود غير بعيد فينقل رواية تقول إن الشاذلى كان يلبس ملابس ناعمة رقيقة، فجاءه صوفى يرتدى ثيابا خشنة غليظة وعاتبه على ما هو فيه من ترف لا يصلح للعبادة، فبادله الشاذلى انتقادا بانتقاد قائلا ما معناه: بل ملابسك الخشنة الغليظة هى التى لا تصلح للعبادة. كما يورد رواية أخرى مُفَادُها أن أبا العباس المرسى فكر أن يتخاشن فى مطمعه وملبسه، فنصحه الشاذلى بأن يجعل همه معرفة الله، وليلبس بعد ذلك كيف شاء، فإن من عرف الله فلا عليه إن أكل هنيئا وشرب مريئا. ثم يضيف قائلا: يا بنىَّ، بَرِّد الماء، فإنك إن شربت الماء السخن فقلت: "الحمد لله" قلتها بكزازة، وإذا شربت الماء البارد فقلت: "الحمد لله" استجاب كل عضو منك بالحمد لله . ألا يرى القارئ أن هذا الموقف الطبيعى المستقيم يناقض تصرفه السابق تمام المناقضة؟ فأَيًّا من الروايتين نصدّق؟
وتعالوا الآن إلى ما كتبه عن صوفية عصره واحد من أكابر الصوفية إن لم يكن أكبرهم بإطلاق، ألا وهو أبو حامد الغزالى. يقول فى كتابه: "إحياء علوم الدين" إن "أكثر متصوفة هذه الأعصار لما خلت بواطنهم عن لطائف الأفكار ودقائق الأعمال ولم يحصل لهم أنس باللّه تعالى وبذكره في الخلوة وكانوا باطلين غير محترفين ولا مشغولين، قد ألفوا البطالة واستثقلوا العمل، واستوعروا طريق الكسب واستلانوا جانب السؤال والكدية، واستطابوا الرباطات المبنية لهم في البلاد، واستسخروا الخدم المنتصبين لللقيام بخدمة القوم واستخفوا عقولهم وأديانهم من حيث لم يكن قصدهم من الخدمة إلا الرياء والسمعة وانتشار الصيت واقتناص الأموال بطريق السؤال تعلُّلاً بكثرة الأتباع، فلم يكن لهم في الخانقاهات حكم نافذ، ولا تأديب للمريدين نافع، ولا حجر عليهم قاهر، فلبسوا المرقَّعات واتخذوا من الخانقاهات متنزهات، وربما تلقفوا ألفاظا مزخرفة من أهل الطامّات، فينظرون الى أنفسهم وقد تشبهوا بالقوم في خِرْقتهم وفي سياحتهم وفي لفظهم وعبارتهم وفي آداب ظاهرة من سيرتهم، فيظنون بأنفسهم خيرا ويحسبون أنهم يحسنون صنعا، ويعتقدون أن كل سوداء تمرة، ويتوهمون أن المشاركة في الظاهر توجب المساهمة في الحقائق، وهيهات!
فما أغزر حماقة من لا يميز بين الشحم والورم! فهؤلاء بُغَضَاء اللّه، فإن اللّه تعالى يبغض الشاب الفارغ. ولم يحملهم على السياحة إلا الشباب والفراغ إلا من سافر لحج أو عمرة في غير رياء ولا سمعة، أو سافر لمشاهدة شيخ يقتدي به في علمه وسيرته، وقد خلت البلاد عنه الآن. والأمور الدينية كلها قد فسدت وضعفت إلا التصوف، فإنه قد امَّحَقَ بالكلية وبطل، لأن العلوم لم تندرس بعد. والعالم إن كان عالم سوء فإنما فساده في سيرته لا في علمه، فيبقى عالما غير عامل بعلمه، والعمل غير العلم. وأما التصوف فهو عبارة عن تجرد القلب للّه تعالى واستحقار ما سوى اللّه، وحاصله يرجع الى عمل القلب والجوارح. ومهما فسد العمل فات الأصل. وفي أسفار هؤلاء نظر للفقهاء من حيث إنه إتعاب للنفس بلا فائدة. وقد يقال إن ذلك ممنوع، ولكن الصواب عندنا أن نحكم بالإباحة، فإن حظوظهم التفريج عن كرب البطالة بمشاهدة البلاد المختلفة. وهذه الحظوظ، وإن كانت خسيسة، فنفوس المتحركين لهذه الحظوظ أيضا خسيسة. ولا بأس بإتعاب حيوان خسيس لحظٍّ خسيس يليق به ويعود إليه، فهو المتأذي والمتلذذ.
والفتوى تقتضي تشتيت العوام في المباحات التي لا نفع فيها ولا ضرر. فالسائحون في غير مهم في الدين والدنيا، بل لمحض التفرج في البلاد كالبهائم المترددة في الصحارى، فلا بأس بسياحتهم ما كَفُّوا عن الناس شَرَّهم، ولم يُلَبِّسوا على الخلق حالهم. وإنما عصيانهم في التلبيس والسؤال على اسم التصوف والأكل من الأوقاف التي وُقِفَتْ على الصوفية لأن الصوفي عبارة عن رجل صالح عَدْل في دينه مع صفاتٍ أُخَر وراء الصلاح. ومن أقل صفات أحوال هؤلاء أكلهم أموال السلاطين، وأكل الحرام من الكبائر فلا تبقى معه العدالة والصلاح. ولو تُصُوِّر صوفي فاسق لتُصُوِّر صوفي كافر وفقيه يهودي...".
وعلى هذه السُّنَّة من الإزراء على صوفية عصره الشعرانى، الذى ما ترك نقيصة إلا وألصقها بهم، مستثنيا نفسه وقلة من رفقاء طريقه بطبيعة الحال، مما يوحى بأن الأمر أمر أكل للدنيا من خلال ادعاء الولاية والكرامات والصدق والإخلاص . وما الغزالى والشعرانى سوى مجرد مثالين فقط. ومع ذلك لم يكن الصوفية كلهم سيئين ولا السيئون كانوا كلهم بهذا السوء، وإن كان الملاحظ أنهم كلما ابتعدوا عن عصر النبى ابتعدوا عن صفاء الإسلام إلى غبش الترهات والبدع والانحراف عن سواء السبيل. وقد تعمدت تعمدا أن أسوق هنا طائفة من أخبار كبارهم تصور عيوبهم وتقصيرهم وتنطعهم كما رواها أمثالهم من الـمُكْبِرين لهم والمتأسِّين بهم كى أبين للقراء أنهم ناس مثل سائر الناس وأنهم لا يمثلون الأرستقراطية الدينية فى شىء، بل فيهم، كما فى أية طائفة أخرى من البشر، المستقيم والمنحرف، والصالح والفاسد، والمخلص والمنافق، والطبيعى والمتنطع، والمتواضع والمغرور، وبسيط الفكر ومعقَّده... وإذا كان د. عبد الحليم محمود يرى فى الصوفية أفضل ما فى المسلمين فإننى لا أشاركه الرأى، بل أفضل عليهم المتدين الذى يُكْثِر من إعمال عقله رغم معرفتى أن العقل البشرى محدود كما قلت مرارا. فالعقل هو الرائد الذى يقود قافلة صناع الحضارة من عواطف وخيالات وآداب وإدارة واختراع ونظام وفنون وأخلاق...
والحق أنى أحب التصوف ما وقف المتصوفة عند حدود المنطق واحترموا فى أحاديثهم وحكاياتهم سنن الكون وركزوا على حرارة العبادة وكرم العطاء والقرب من الله مع السعى على المعاش وترك التنبلة ونبذ الاعتماد على الآخرين فى المسكن والمطعم بحجة الزهد فى الدنيا وترك أمور المعاش لله يدبرها بتدبيره. أما التنطع ومحالة إيهامنا بأن الكون يفقد معهم قوانينه ويتحول فوضى لا ضابط لها ولا رابط، وأن مدار الأمر العكوف فى خلوة وتكرار صيغة معينة فتنحل المشاكل وتقع الآيات المعجزات كما هو الحال فى الروايات التى سأسوقها من فورى فأنا لست مع هذا اللون من التدين أبدا. إننى أقر بحبى للدكتور عبد الحليم محمود لما كان يتحلى به من شجاعةٍ فى مواجهة الحكام والمسؤولين وتمسُّكٍ بمواقفه التى يتخذها بناء على مصلحة الإسلام والمسلمين، لكنى لا أستطيع أبدا أن أسير فى ذلك الطريق الذى يعج بالخوارق والمعجزات على أيدى غير الأنبياء، والذى لا يقدم للأمة شيئا سوى قصص وحكايات لا يمكن أن يكون هناك دليل على وقوعها لأنها ليست سوى روايات خرافية لا أصل لها، روايات مدهشة ومسلية، ثم لا شىء آخر.
ترى هل يصح أن نصدق بوقوع الحوادث التالية وأمثالها؟ يقول أبو الحسن الشاذلى مثلا: "لما دخلتُ مدينة تونس وأنا شاب صغير وجدت فيها مجاعة شديدة، ووجدت الناس يموتون جوعا في الأسواق، فقلت في نفسي: لو كان عندي ما أشتري به خبزا لهؤلاء الجياع لفعلت. فأُلْقِيَ في سري: خذ ما في جيبك. فحركتُ جيبي، فإذا فيه نقود، فأتيت إلى خباز بباب المنارة، فقلت له: عُدَّ خبزك. فعَدَّه، فناولتُه للناس فتناهبوه. ثم أخرجت الدراهم فناولتها الخباز، فقال لي: هذه مغربية، وأنتم معاشرَ المغاربة تستعملون الكيمياء. فأعطيته بُرْنُسِي وكُرْزِيَّتي من على رأسي رهنًا في ثمن الخبز، وتوجهت إلى جهة الباب، فإذا رجل واقف عنده، فقال لي: يا علي، أين الدراهم؟ فأعطيتها له، فهزها في يده وردها إليَّ، وقال: ادفعها للخباز، فإنها طيبة. فرجعت إلى الخباز فأعطيتها له، فقال: نعم، هذه طيبة. وأعطاني برنسي وكرزيتي. ثم طلبتُ الرجل فلم أجده، فبقيت متحيرا في نفسي إلى أن دخلت الجامع يوم الجمعة، فجلست عند المقصورة عند الركن الشرقي فركعت تحية المسجد وسلمت، وإذا بالرجل عن يميني، فسلمتُ عليه، فتبسم وقال: يا علي، أنت تقول: لو كان عندك ما تطعم به هؤلاء الجياع لفعلت؟ أتتكرَّم على الله في خلقه، ولو شاء لأطعمهم، وهو أعلم بمصالحهم؟ فقلت: يا سيدي، من أنت؟ قال: أنا أحمد الخضر. كنت ببلاد الصين، فقيل لي: أَدْرِكْ وَلِيِّى عليًّا بتونس. فأتيت مبادرا إليك! فلما صليتُ الجمعة نظرتُ إليه فلم أجده" .
وفى "الطبقات الكبرى" للشعرانى عن إبراهيم المتبولى أنه "كان يسأل الفقراء القاطنين عن أحوالهم ويباسطهم، فرأى يوما شخصا منهم كثير العبادة والأعمال الصالحة، والناس منكبّون على اعتقاده، فقال: يا ولدي، مالي أراك كثير العبادة ناقص الدرجة؟ لعل والدك غير راض عنك! فقال: نعم. فقال: تعرف قبره؟ فقال: نعم. فقال: اذهب بنا إلى قبره لعله يرضى. قال الشيخ يوسف الكردي: فوالله لقد رأيتُ والده خرج من القبر ينفض التراب عن رأسه حين ناداه الشيخ. فلما استوى قائما قال الشيخ: الفقراء جاؤوا شافعين تطيّب خاطرك على ولدك هذا. فقال: أُشْهِدكم أني قد رضيت عنه. فقال: ارجع مكانك. فرجع. وقبره بالقرب من جامع شرف الدين برأس الحسينية. قال: فلما رجعنا إلى البركة إذا امرأة تقول: يا سيدي، قف. فوقف بالحمارة فقال: ما حاجتك؟ فقالت: ابني أخذه الإفرنج، وأريد منك أن تدعو الله تعالى يرجع. فقال: باسم الله. فدعا ثم قال: ها هو ولدك. فوقع بصرها عليه. فلما اجتمعت بولدها ذهبنا، فقال: اشهدوا بأن لله رجالا في هذا العصر يجيب سؤالهم في الحال".
وروى بعضهم قال: "كنا مع الفُضَيْل بن عِيَاض على (جبل) أبي قُبَيْس، فقال: لو أن الرجل صَدَق في التوكل على الله عز وجل ثم قال لهذا الجبل: "اهْتَزّ" لاهْتَزَّ. قال: فوالله لقد رأيتُ الجبل قد اهتز وتحرك. فقال (للجبل): يا هذا، إني لم أَعْنِكَ، رحمك الله. قال: فسَكَنَ". ذكر هذا هبة الله اللالكائى فى كتابه: "كرامات أولياء الله عز وجل".
ومن كرامات أبى عثمان المغربى بروايته: "أردتُ مرة أن أمضى إلى مصر، فخطر لى أن أركب السفينة، ثم خطر ببالى أنى أُعْرَف هناك، فخفتُ الشهرة، فمر مركب، فبدا لى، فمشيت على الماء ولحقت بالمركب ودخلت السفينة، والناس ينظرون. ولم يقل أحد إن هذا ناقض للعادة أو غير ناقض. فعرفتُ أن الولى مستور، وإن كان مشهورا" . وليس لى هنا إلا تعليق سريع، إذ ما دام لا يريد الشهرة بأنه صاحب كرامات من باب التواضع، فلماذا بالله حكى لنا تلك الكرامة ولم يكتمها حتى لا يشتهر؟ أرأيتم ثعلبا ماكرا مثل هذا الثعلب؟
ثم هذه الكرامة الأخيرة، وهى من رواية د. على جمعة على اليوتيوب من درس كان يلقيه بأحد المساجد. وخلاصتها أن ابن حجر العسقلانى كان داخلا إلى الجامع الأزهر ليصلى بالناس، فرأى الشيخ الفرغل بالباب يبيع الحشيش، فوقع فى نفسه نفور من هذا العمل وقال: لو كان هذا الرجل وليا من أولياء الله ما أقامه الله فى هذا المقام. ثم مَرَّ داخلا، وأقيمت الصلاة، فكبَّر وكبَّر الناس وراءه، إلا أنه لما شرع يقرأ الفاتحة لم يستطع أن يتذكر كلمة واحدة منها، فخرج من الصلاة. وأخذ المصلون يتعجبون من أمر شيخ القضاة الذى لا يعرف الفاتحة، وسألوه: ماذا صنعتَ حتى تنسى فاتحة الكتاب؟ فقال لهم: لا شىء سوى أنى رأيت ذلك الرجل الواقف بباب المسجد وهو يبيع الحشيش، فأنكرتْه نفسى. فقالوا له: اذهب فاستسمحه. فذهب وسأله أن يرد عليه الفاتحة، لكن الشيخ الفرغل أجابه وهو يفتح جبته ساخرا: فَتِّشْنِى ، فإذا وجدتَها معى فخذها. فناشده ابن حجر متذللا أن يرد عليه الفاتحة حتى يستطيع أن يؤم الناس دون فضائح، فهو قاضى القضاة، ولا يصح أن يحرجه هكذا أمام الخلق. ثم بعد شىء من المماطلة أمره بالتوبة إلى الله قائلا: ما الذى جعلك تتهكم على عباد الله الصالحين؟ قال له: رأيتك تبيع الحشيش. قال له: لن أرد عليك الفاتحة إلا بعد أن تأتى وتبيع الحشيش معى. فوقف يبيع الحيش كما طلب منه. ثم قال له الفرغل: قم الآن فاتْبَعْ أى واحد ممن يشترون منى الحشيش لترى ماذا يحدث له. فقام وتبع أحدهم، فوجده بعد قليل يتقايأ ما شربه من الحشيش ثم يتوب . فعاد إلى باب المسجد، فقال له الشيخ الفرغل: هذا هو الحشيش الذى أبيعه منذ عشرين عاما. ما اشتراه منى أحد إلا تقايأ وتاب منه توبة نصوحا . هذا ما قاله الشيخ على جمعة، وكان يؤديه بطريقة مسرحية مضحكة، وجمهور المستمعين يقهقهون، ويتابعونه على الزراية من ابن حجر، وهو ينفى لهم أن تكون لحكايته أية صلة بالخرافات .
وفى "الطبقات الكبرى" للشعرانى قصة مشابهة، وإن كان أبطالها مختلفين. إنها حكاية مختلَقة بكل يقين، وكلٌّ يرويها بطريقته ويسند أحداثها إلى أبطال يخترعهم للضحك على عقول المتخلفين. يقول الشعرانى عن أبى بكر الدقدوسى: "وكان له صاحب يصنع الحشيش بباب اللوق، فكان الشيخ رضي الله عنه يرسل إليه أصحاب الحوائج فيقضيها لهم. قال سيدي عثمان رضي الله عنه: فسألتُه يوما عن ذلك، وقلت: المعصية تخالف طريق الولاية. فقال: يا ولدي، ليس هذا من أهل المعاصي. إنما هو جالس يُتَوّب الناس في صورة بيع الحشيش. فكُلُّ مَنِ اشترى منه لا يعود يبلعها أبدا. هكذا أخبرني سيدي نور الدين الطرابلسي عن سيدي عثمان رحمه الله تعالى" .
ويبدو أن كثيرا من الصوفية كانوا من الحشاشين القراريين، لكنْ يضحكون على الناس محاولين إيهامهم بأن ما يتخيلونه حشيشا ليس حشيشا بل شيئا حلالا طيبا. قال الشعرانى فى "الطبقات الكبرى" عن "سيده" الشريف المجذوب: "كان رضي الله عنه ساكنا تجاه المجانين بالمارستان المنصوري، وكان له كشف ومثاقلات للناس الذين ينكرون عليه. وكان رضي الله عنه يأكل في نهار رمضان، ويقول: أنا معتوقٌ أعتقني ربي. وكان كل من أنكر عليه يُعْطِبه في الحال. وأرسل لي مرة رغيفا مع إنسان، وقال: قل له يأكل هذا الرغيف. وطَوَى فيه مَرَضَ سبعة وخمسين يوما، فلم آكله، فأكله القاصد، فمرض سبعة وخمسين يوما. فقال للقاصد: لا تخف. إن شاء الله تعالى أصطاده في مرة أخرى. فلم يُقَدَّر له ذلك. وكان رضي الله عنه يتظاهر ببلع الحشيش، فوجدوها يوما حلاوة. وكان قد أعطاه الله تعالى التمييز بين الأشقياء والسعداء في هذه الدار. وكان أصله جَمّالاً عند بعض الأمراء، ثم حصل له الجذب".
ولم يكن الحشيش هو وحده الذى يزعم الصوفية أنه ليس بحشيش، بل فِعْل الفاحشة بالحيوانات أيضا. يقول الشعرانى مثلا فى "الطبقات الكبرى" عن "سيده" على وحيش: "كان إذ رأى شيخ بلد أو غيره يُنْزِِله من على الحمارة، ويقول له: أمسك رأسها لي حتى أفعل فيها. فإنْ أَبَى شيخ البلد تسمر في الأرض لا يستطيع يمشي خطوة، وإن سمع حصل له خجل عظيم، والناس يمرون عليه. وكان له أحوال غريبة. وقد أخبرت عنه سيدي محمد بن عنان رضي الله عنه فقال: هؤلاء يخيِّلون للناس هذه الأفعال، وليس لها حقيقة". وهو ما يعنى أننا، حين نبصر فعلهم للفاحشة عيانا بيانا فى عُرْض الطريق العام، ينبغى أن نكذّب أعيننا وآذاننا وعيون الناس كلهم وآذانهم وألا نسىء الظن بهم أبدا. وهل يريد أى مجرم خبيث شيئا غير ذلك؟
وبهذا نرى الفرق الشاسع الرهيب بين ما كانت عليه أوربا فى ذلك الوقت وما كان عليه العالم الإسلامى: لقد كانت أوربا تسلك السبيل المناسب لكل غاية تصبو إليها: لقد كانت تريد المال فاكتشفت طرقا ملاحية جديدة من شأنها، إذا تحولت إليها الملاحة عن الطرق التى يسيطر عليها المسلمون، أن تقصم ظهر أسلافنا وتصب سيول المال فى حجرها هى. وكانت تريد العِلْم فانطلقت تجتاب الكون بعيونها وآذانها وتلسكوباتها وميكروسكوباتها وعقولها وخيالها. وكانت تريد الذهب فانطلقت إلى العالم الجديد تنهب ذهبه وخيراته وتضعها فى خزائنها. وكانت تريد السيادة فعملت على أن تحوز أسباب القوة والسلطان، وفتحت البلاد واحتلت الدول وأذلت الشعوب والأمم، ومنها شعوبنا وأمتنا. أما نحن فكنا فى ذلك الوقت نؤمن بالكرامات والخرافات والخزعبلات، ونستنيم إلى خنوعنا وفقرنا ومسكنتنا وجهلنا وضلالنا، ونسمع كلام المخابيل والثعالب الخبيثة، ونظن أننا قد أحسنّا صنعا، فصرنا فى مؤخرة الأمم نظافة ومعرفة ونظاما وأخذا بالأسباب، وتحولت أوربا شيئا غير الذى كان، فتخلصت من جهلها وفقرها وخنوعها وفوضاها، وأضحت مع الأيام شيئا آخر كله قوة وعلم ونظافة ونظام، فدانت لها من يومها الدنيا، وخرجنا نحن من الدنيا بعدما غير علينا زمن طويل كنا فيه سادة العالم، وصارت بلادنا تُفْتَح وتُسَاد بعد أن كنا نحن السادة الفاتحين. والبركة فى سادتنا الصوفية ومن يُسَوِّغ جهلهم وإجرامهم وفحشهم.
وتعليقا على ما قاله د. عبد الحليم محمود فى كتابه الموسوم بـ"فتاوى الإمام عبد الحليم محمود" عن إنكار الفقهاء والعقليين على الصوفية أحب أن أقول من البداية إنى لست من الفقهاء، الذين يركزون كل اهتمامهم على أن يكون الشكل سليما مستوفيا للشروط الخارجية ثم لا يشغلون أنفسهم بعد ذلك بأى شىء آخر، ولا من العقليين، الذين لا يؤمنون إلا بما يقوله العقل: فأما أنى لست من الفقهاء فلأنى لا أضع كل همى فى استكمال الشكل من أعمال المسلم، بل أرى أنه لا بد أن يكون هناك إخلاص وحرارة فيما يعمله الإنسان بحيث يقصد به وجه الله ويؤديه من أعماق قلبه، وأنه لا ينبغى أن يحصر الإنسان نفسه فى الشكليات أو يعطيها حجما أكبر مما تستحق. وأما أننى لست من العقليين فلأنى، رغم إكبارى من هبة العقل التى وَهَبَنَاها المولى سبحانه وجعلها حجة علينا، أُدْرِك جيدا أن العقل لا يمكنه معرفة كل شىء، فهناك غيبيات، وهذه الغيبيات لا يمكن العقلَ تصورُها على حقيقتها. بيد أن ذلك كله لا ينبغى أن يقودنا إلى التقليل من شأن العقل أو اطّراحه جملةً أو تقديم العواطف عليه، إذ العواطف غير منضبطة. ومن مزايا العقل النفيسة أنه هو نفسه الأداة التى تعرّفنا أن العقل قاصر عن إدراك كثير من الأشياء. وهذا يعطينا فكرة عن قيمة تلك الأداة المعرفية، إذ عن طريقها نعرف أنها هى نفسها قاصرة. وكفى بذلك قيمة وخطورة!
ومع هذا فما من شىء يُطْرَح علينا للإيمان به إلا وينبغى عرضه على العقل كى نقتنع أو لا نقتنع به. والمهم التجرد من الهوى والتعصب، واستصحاب الاستقامة والإخلاص، على ألا يغيب عنا طوال الوقت أن قدرته ليس مطلقة، وأنه من الممكن أن يخطئ الطريق. إلا أننا لا نملك وسيلة أفضل منه للحكم على الأشياء. والقرآن دائم الحث على استعمال العقل والتفكير، ولا أذكر أنه احتكم فى حواره مع البشر إلى العواطف والانفعالات أو الرؤى والخيالات. وبالعقل فُضِّل الإنسان على كثير من مخلوقات الله سبحانه. وبالعقل تعلم آدم من ربه الأسماء كلها، أى إدراك الأشياء وتصورها وفهمها وتخصيص ألفاظ تشير إليها بحيث يستطيع فى سهولة ويسر أن يتعامل معها ويخطط للسيطرة عليها واستغلالها والاستفادة منها، أو فلنقل: بحيث يمكنه أن يبنى الحضارة ويعمر الدنيا. وبالعقل أنجز الإنسان ما أنجز من مخترعات ووسائل وعلوم وفنون، مع الاستعانة بالعاطفة والخيال، إلا أن العقل هو الحاكم، وهو القائد، وهو المتولى أمر هذا الركب المنطلق فى دروب الزمان والمكان.
ويقول د. عبد الحليم، مجيبا بلسان المتصوفة، إن وجود الله هو من الوضوح بمكان بحيث لا يحتاج إلى كد ذهن وإعمال عقل. أى أن الإنسان لا يحتاج هنا إلى العقل. وهذا كلام، وإن بدا فى ظاهره سليما، لا يصدّقه الواقع، إذ ما دام الأمر بهذه البساطة فلماذا لا يؤمن الناس بالله والحياة الآخرة دائما دون حاجة إلى إرسال رسل، ودون حاجة إلى تفكير؟ ثم إن الأستاذ الدكتور هنا إنما يخاطب فينا العقل ليقنعنا أن الله موجود. كذلك لو كان الأمر كما يقول فلم يا ترى يمتلئ القرآن بالجدال الذى يتجه إلى العقل ليقنع الكافر والمتشككين بوجود الله؟ قد يقال إن وجود الله لا يفتقر إلى دليل، بل الهوى والمصلحة هما اللذان يعميان البشر عن التنبه إلى ذلك. والرد على هذا هو أن الأمر محتاج إذن إلى مخاطبة العقل لتنبيهه إلى ذلك الشَّرَك وتحذيره منه. فكما نرى لا يمكن الاستغناء عن العقل أبدا مهما حاول المحاولون وجادل المجادلون. ثم إنه إذا كان وجود الله لا يحتاج إلى دليل، أفلا يحتاج وجود الملائكة والعالم الآخر إلى أدلة تخاطب عقول البشر كى يؤمنوا بهما؟ الحق أن كلام المتصوفة هنا هو من الضعف والهشاشة بمكان.
كذلك فإن كلامهم يوحى بأن الحياة ليس فيها أى شىء آخر سوى مشكلة الإيمان بالله والغيب، مع أن الحياة تعج بالمشاكل والقضايا والمهام التى لا يفلح معها إلا العقل، وإلا فبأى شىء نمارس الزراعة والصناعة، ونبدع العلوم والفنون والعمارة والترفيه واللعب والطب والقانون، وننظم الشرطة والجيش؟ إن كل ذلك هو نتاج العقل، وإن تدخلت فيه الغرائز والشهوات والخيال والعاطفة، إذ العقل هو القائد والرائد كما نعلم جميعا، وإلا فكل الحيوانات عندها عواطف وغرائز، ومع ذلك لا تستطيع القيام بأى إنجاز حضارى، ومن ثم ظلت حتى الآن، وسوف تظل إلى أن تقوم الساعة، على حالها التى خلقها الله عليها منذ ملايين السنين، بخلاف الإنسان، الذى بعقله استطاع أن ينجز إنجازاته العجيبة المدهشة.
شىء آخر فات المتصوفة، وهو أقرب شىء إليهم. ذلك أن كثيرا منهم يضل عن سواء السبيل ويزعم كذبا ونفاقا وشيطنة أنه قد بلغ نهاية الطريق، وأنه من ثم لم يعد يجب عليه القيام بأية تكاليف من صلاة أو صيام أو زكاة أو الامتناع عن الزنا والخمر وما إلى ذلك، إذ هذه كلها، فى زعم الشياطين المردة، ليست سوى وسائل توصلهم إلى الله، وما داموا قد وصلوا إلى غايتهم فلا معنى إذن للاشتغال بتلك الوسائل. لقد أدت دورها، وينبغى تركها والاشتغال من ثم بشىء آخر غيرها. والشواهد على ما نقول أكثر من أن تحوجنا إلى بسط الحديث فى ذلك. كما أن كثيرا من المتصوفة يؤمن بالحلول ووحدة الوجود، بل إن بعضهم ليزعم فى إجرام أنه هو الحق، أى أنه هو الله، وهو ما يدل على أن القول بوضوح دلائل الإيمان بالله (الإيمان كما نعرفه فى الإسلام) واستغنائها بالتالى عن استعمال العقل هو زعم لا حقيقة له. وقد تناول د. عبد الحليم هذا النوع من المتصوفة الضالين المضلين، وحمل عليهم، وكان رأيه فيهم غاية فى السوء كما سنرى عقيب هذا. كذلك فات سادتنا الصوفية أن التصوف موجود فى الأديان جميعا، وأن كل أهل دين، بما فيهم متصوفة ذلك الدين، ينظرون إلى أهل الأديان الأخرى على أنهم منحرفون عن الإيمان الحقيقى بالله بما فيهم متصوفة تلك الأديان. فما القول فى هذا أيضا؟ ومَنْ مِنْ أولئك المتصوفة نصدِّق؟ ومن نكذِّب؟
وقد خصص د. عبد الحليم محمود لقضية انحرافات الصوفية وتفلُّت طائفة منهم من الالتزام بأحكام الشريعة عددا كبيرا من الصفحات فى مقدمة تحقيقه لكتاب الإمام الغزالى: "المنقذ من الضلال"، وأورد رأى الغزالى وعبد الواحد يحيى الشديد السوء فيهم وإدانتهما البالغة لهم. وفى تلك الصفحات نقرأ أن هذه البدعة الضالة ذات تاريخ بعيد، وأن سببها ضلالة قديمة انتسبت إلى التصوف انتسابا باطلا وحاربها ممثلوه فى كل عصر ومصر . ومن بين من اسْتُشْهِد بهم من المتصوفة على إنكار هذه البدعة أبو يزيد البسطامى، الذى رأى صوفيا يبصق تجاه القبلة فى المسجد، فمضى وتركه وبين أن مثله لا يمكن الركون إليه فى شىء، ومن ثم لا يستحق تصديق الناس لما يقول . لكن لا بد من المسارعة إلى القول بأن البسطامى نفسه يقول كلاما لا يدخل العقل، وقد سبق أن أوردناه وانتقدناه عليه فى هذا الفصل.
وأخيرا، وليس آخرا، ما الذى يجعلنا نصدق أن ما يقول المتصوفة فى مجال الإيمان هو الحق الذى لا ريب فيه؟ ترى هل هناك وسيلة أخرى سوى العقل يمكن أن نتخذها مقياسا لمعرفة صواب ما يقولونه من عدمه؟ بل هل كان المتصوفة يفكرون فى اتخاذ طريقهم هذا لو لم يكن هناك عقل يقول لهم إن طريقهم لا سواه هو الطريق الصحيح؟ ثم ألا يقول د. عبد الحليم ذاته بأنهم منضبطون بضوابط الإسلام؟ إذن فليس التصوف هو الطريق، بل الإسلام. ومعروف أننا لا نفهم الإسلام ولا نؤمن به إلا بالعقل، مع معرفتنا رغم هذا أن العقل يمكن أن تغشاه غَوَاشٍ كثيرة علينا أن نتنبه لها ونحاول التخلص منها ومن ثمارها بالعقل أيضا. واضح أن الطرق كلها مسدودة على المتصوفة أينما اتجهوا وأنى ذهبوا، وأن العقل لا يمكن الاستغناء عنه أبدا فى أى أمر من أمور حياتنا بما فيها الإيمان بالله، وإن لم نزعم أن العقل لا بد منتهٍ إلى ذلك الإيمان، ومنتهٍ إليه على وجهه الصحيح. كل ما نقوله هو أن العقل يشكل العنصر الرئيسى فى تلك المعادلة. إنه عنصر بالغ الأهمية، إلا أنه غير معصوم، لكن بدونه لا يمكننا الوصول إلى غايتنا فى هذا المضمار.
لقد تكلم د. عبد الحليم عن أنواع أخرى من المعرفة التى لا علاقة لها بالعقل، وأولها الرؤيا، التى جاء فى الحديث أنها جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة. لكن كيف نطمئن نحن الناس العاديين الذين لسنا برسل إلى أنها رؤيا صحيحة؟ الواقع أننا لا يمكننا ذلك إلا بعد أن تقع ويتضح لنا أنها كذلك، أى بعد فوات الأوان. صحيح أنى دافعت عما قاله الشيخ عن رؤياه النبى صلى الله عليه وسلم فى حرب رمضان المجيد، إلا أننى دافعت عنها بوصفها أمرا من شأنه رفع الروح المعنوية للجنود والضباط، واستحثاث القادة على أن يعزموا أمرهم وينفضوا عن أنفسهم رداء التردد ويقدموا على شن الحرب ما داموا قد اتخذوا الأهبة لها ولم يعد هناك ما يمكنهم أن يضيفوه إلا أن يثقوا فى الله وفى وقوفه إلى جانبهم. وعلى أية حال فقد انتصرت مصر فى حرب رمضان المجيدة انتصارا رائعا لم يتوقعه أحد، وإن جاءت الثغرة فأفسدت هذا الانتصار الرائع، فضلا عما سمى بـ"معاهدة السلام".
وإلى جانب الرؤيا هناك النبوة، ولا علاقة لها بالعقل كما يقول الشيخ. فهل هذا صحيح؟ تَعَالَوْا نرى. ولنأخذ ما وقع للنبى أول ما ظهر له جبريل وهو يتحنث فى غار حراء موضوعا لنا، فماذا حدث؟ نقرأ فى البخارى عنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ: "أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ فَكَانَ لا يَرَى رُؤْيَا إلاَّ جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلاءُ. وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ، وَهُوَ التَّعَبُّدُ، اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ. فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأْ. قَال:َ مَا أَنَا بِقَارِئ.ٍ قَالَ: فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ. قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ. فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ. فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ. فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ ". فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهُِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْجُفُ فُؤَادُهُ، فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَالَ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي. فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ، فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ: لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي. فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: كَلاَّ، وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا. إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَتَقْرِي الضَّيْفَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ. فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ، وَكَانَ امْرًَا قَدْ تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِيَّ فَيَكْتُبُ مِنْ الإِنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ، فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَة:ُ يَا ابْنَ عَمِّ، اسْمَعْ مِنْ ابْنِ أَخِيكَ. فَقَالَ لَهُ وَرَقَة:ُ يَا ابْنَ أَخِي، مَاذَا تَرَى؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرَ مَا رَأَى، فَقَالَ لَهُ وَرَقَة:ُ هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَ.ى يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا. لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟ قَالَ: نَعَمْ. لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلاَّ عُودِيَ. وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا. ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ، وَفَتَرَ الْوَحْيُ".
وعن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيَّ وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ أن النبى قَالَ فِي حَدِيثِهِ عن ذلك الأمر: "بَيْنَا أَنَا أَمْشِي إِذْ سَمِعْتُ صَوْتًا مِنْ السَّمَاءِ فَرَفَعْتُ بَصَرِي، فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْض، فَرُعِبْتُ مِنْهُ فَرَجَعْتُ فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: "يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِر"ْ إِلَى قَوْلِه:ِ "وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ"، فَحَمِيَ الْوَحْيُ وَتَتَابَعَ".
ومن هذا نرى أن النبى عليه السلام لم يتقبل ما وقع له للوهلة الأولى دون تفكير بل خاف واحتار، ولم يتصور أن الذى رآه وسمعه هو ملاك أتاه بالقرآن وبالإسلام. ومعنى هذا أنه أعمل عقله، وإلا ما ارتعب أو جرى إلى المنزل ولما قال لخديجة: زَمِّلونى زَمِّلونى، بل لأشاع فى الدنيا كلها منذ الوهلة الأولى أن الملاك قد ظهر له، وأنه من الآن نبى يوحى إليه من السماء. ذلك أنه حين فكر فى الأمر، أى أعمل فيه عقله، ألفاه شيئا غير عادى، شيئا ليس مما يعرفه الناس من حوله أو يقع لهم. لقد احتاج إلى من يهدئه ويطمئنه أن ما رآه ليس شيطانا، وأن ما وقع له ليس من عمل الشيطان، ولا شىء من ثم يُخْشَى عليه. ولقد قامت خديجة بهذا الدور خير قيام، ثم انضم إليها ورقة. وكانت طمأنة خديجة تقوم على أنه لا يمكن أن يتخلى الله عنه ولا أن يعرّضه للخزى، إذ هو رجل يجمع فى شخصه الخلق الفاضل والرحمة والحكمة. ثم استمع إليه بعد ذلك ورقة وقاس بعقله ما حدث له على ما يعرف أنه حدث لموسى، فوجد أنه يشبه ما حدث لنَبِىّ بنى إسرائيل. وهذا كله إعمال للعقل: إعمال للعقل من جانب النبى، وإعمال للعقل من جانب خديجة، وإعمال للعقل من جانب ورقة.
ثم هناك إعمال عقل بعد هذا بدءا من أبى بكر وعلى وعثمان وكل من آمن بالنبى عليه السلام فى عهده، وانتهاء بشخص مثلى، وإن كان كل واحد من المؤمنين به صلى الله عليه وسلم قد استعمل عقله بالطريقة التى تناسبه أو التى يرى أنها كفيلة بتوصيله إلى بر الحقيقة فيما يخصه عليه السلام. وإنى لأتصور أن كلا من أبى بكر وعلى وعثمان قد فكر على النحو التالى: إن محمدا معروف لنا تمام المعرفة، فلم نجرب عليه كذبا أو ادعاء أو طمعا فى زعامة أو حماقة أو طيشا ورعونة وتعجلا غير حكيم. وها هو ذا يقول إن الله اختاره نبيا. ولا شك أن النبى قد حكى لكل منهم وقعته مع جبريل عند الغار، وأكد لهم أنه لم يطمئن فى البداية إلى ما حدث لولا أن الأمر قد تكرر وتبين له أنه لا يمكن أن يكون وراءه شيطان... إلخ. وقد انتهى بهم الأمر إلى الإيمان بنبوته صلى الله عليه وسلم كما هو معروف. وعندنا أبو ذر الغفارى وأخوه، وطريقته فى التحقق من صدق سيدنا رسول الله معروفة، إذ أرسل أخاه أولاً يستطلع طِلْعَ ذلك الرجل الذى يقول إنه نبى يوحَى إليه من السماء، ثم ما لبث أن ذهب هو بنفسه ليطمئن بما تراه عينه وما تسمعه أذنه لا بما يقوله له أخوه. وانتهى أمرهما أيضا إلى الإيمان به عليه الصلاة والسلام. وهذا، كما نرى، إعمال للعقل.
أما أبو سفيان فاتخذ الأمر عنده منحى آخر، إذ كانت العصبية القبلية والمصالح الآنية والنزعة الجاهلية وراء رفضه تلبية دعوة النبى حتى بعد أن صار عليه السلام ختنا له. لكنْ حدث أنْ ضَمَّه ذات مرة مجلس فى قصر العاهل الرومانى بالشام فى حضرة كبار رجال دولته ودينه لعله كان أول حجر يُلْقَى فى بحيرة عقله الراكدة، فحركها، وكان لذلك من العقابيل ما كان. ولنسمعه يقص علينا الأمر كله من "طق طق" لـ"سلام عليكم": ففى البخارى عن ابن عباس أَنَّ "أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فِي رَكْبٍ مِنْ قُرَيْشٍ، وَكَانُوا تِجَارًا بِالشَّأْمِ، فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَادَّ فِيهَا أَبَا سُفْيَانَ وَكُفَّارَ قُرَيْشٍ، فَأَتَوْهُ وَهُمْ بِإِيلِيَاء،َ فَدَعَاهُمْ فِي مَجْلِسِه ِوَحَوْلَهُ عُظَمَاءُ الرُّومِ، ثُمَّ دَعَاهُمْ وَدَعَا بِتَرْجُمَانِه،ِ فَقَالَ: أَيُّكُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا بِهَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ؟ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَقُلْتُ: أَنَا أَقْرَبُهُمْ نَسَبًا. فَقَالَ: أَدْنُوهُ مِنِّي، وَقَرِّبُوا أَصْحَابَهُ فَاجْعَلُوهُمْ عِنْدَ ظَهْرِهِ. ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِه:ِ قُلْ لَهُمْ: إِنِّي سَائِلٌ هَذَا عَنْ هَذَا الرَّجُلِ، فَإِنْ كَذَبَنِي فَكَذِّبُوهُ. فَوَاللَّهِ لَوْلا الْحَيَاءُ مِنْ أَنْ يَأْثِرُوا عَلَيَّ كَذِبًا لَكَذَبْتُ عَنْهُ. ثُمَّ كَانَ أَوَّلَ مَا سَأَلَنِي عَنْهُ أَنْ قَالَ: كَيْفَ نَسَبُهُ فِيكُمْ؟ قُلْتُ: هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ. قَالَ:َ فَهَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ مِنْكُمْ أَحَدٌ قَطُّ قَبْلَهُ؟ قُلْتُ: لا. قَالَ: فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟ قُلْتُ: لا. قَالَ: فَأَشْرَافُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ فَقُلْتُ: بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ. قَالَ: أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ؟ قُلْتُ: بَلْ يَزِيدُونَ. قَالَ: فَهَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ قُلْتُ: لا. قَالَ: فَهَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ قُلْتُ: لا. قَالَ: فَهَلْ يَغْدِرُ؟ قُلْتُ: لا. وَنَحْنُ مِنْهُ فِي مُدَّةٍ لا نَدْرِي مَا هُوَ فَاعِلٌ فِيهَا (قَالَ: وَلَمْ تُمْكِنِّي كَلِمَةٌ أُدْخِلُ فِيهَا شَيْئًا غَيْرُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ). قَالَ: فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: فَكَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ؟ قُلْتُ: الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ سِجَالٌ: يَنَالُ مِنَّا، وَنَنَالُ مِنْهُ. قَالَ: مَاذَا يَأْمُرُكُمْ؟ قُلْتُ: يَقُولُ: اعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ، وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَاتْرُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤُكُمْ، وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ وَالصِّلَةِ. فَقَالَ لِلتَّرْجُمَانِ: قُلْ لَهُ: سَأَلْتُكَ عَنْ نَسَبِهِ، فَذَكَرْتَ أَنَّهُ فِيكُمْ ذُو نَسَبٍ. فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي نَسَبِ قَوْمِهَا. وَسَأَلْتُكَ: هَلْ قَالَ أَحَدٌ مِنْكُمْ هَذَا الْقَوْلَ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لا. فَقُلْتُ: لَوْ كَانَ أَحَدٌ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ لَقُلْتُ: رَجُلٌ يَأْتَسِي بِقَوْلٍ قِيلَ قَبْلَهُ. وَسَأَلْتُكَ: هَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لا. قُلْتُ: فَلَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ قُلْتُ: رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ أَبِيهِ. وَسَأَلْتُكَ: هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لا. فَقَدْ أَعْرِفُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَذَرَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى اللَّه.ِ وَسَأَلْتُكَ: أَشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ فَذَكَرْتَ أَنَّ ضُعَفَاءَهُمْ اتَّبَعُوهُ. وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ. وَسَأَلْتُكَ: أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ؟ فَذَكَرْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ. وَكَذَلِكَ أَمْرُ الإِيمَانِ حَتَّى يَتِمَّ. وَسَأَلْتُكَ: أَيَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيه؟ِ فَذَكَرْتَ أَنْ لا. وَكَذَلِكَ الإِيمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ. وَسَأَلْتُكَ: هَلْ يَغْدِرُ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لا. وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لا تَغْدِرُ. وَسَأَلْتُكَ: بِمَا يَأْمُرُكُمْ؟ فَذَكَرْتَ أَنَّهُ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَيَنْهَاكُمْ عَنْ عِبَادَةِ الأَوْثَانِ، وَيَأْمُرُكُمْ بِالصَّلاةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ. فَإِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ. وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ لَمْ أَكُنْ أَظُنُّ أَنَّهُ مِنْكُمْ. فَلَوْ أَنِّي أَعْلَمُ أَنِّي أَخْلُصُ إِلَيْهِ لَتَجَشَّمْتُ لِقَاءَهُ. وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ عَنْ قَدَمِهِ. ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي بَعَثَ بِهِ دِحْيَةُ إِلَى عَظِيمِ بُصْرَى، فَدَفَعَهُ إِلَى هِرَقْلَ، فَقَرَأَه، فَإِذَا فِيهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ. سَلامٌ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى. أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الإِسْلام.ِ أَسْلِمْ تَسْلَمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ. فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأَرِيسِيِّينَ. وَ"يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَنْ لا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ". قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَلَمَّا قَالَ مَا قَالَ وَفَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ الْكِتَابِ كَثُرَ عِنْدَهُ الصَّخَبُ وَارْتَفَعَتْ الأَصْوَاتُ، وَأُخْرِجْنَا، فَقُلْتُ: لأَصْحَابِي حِينَ أُخْرِجْنَا: لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ. إِنَّهُ يَخَافُهُ مَلِكُ بَنِي الأَصْفَر.ِ فَمَا زِلْتُ مُوقِنًا أَنَّهُ سَيَظْهَرُ حَتَّى أَدْخَلَ اللَّهُ عَلَيَّ الإِسْلامَ".
أفليس هذا إعمالا للعقل من جانب كل من أبى سفيان وهرقل؟ بلى هو إعمال للعقل على أحسن وجوه إعمال العقل. لقد شملت عملية التحقيق والتمحيص تحليل نفسية الرسول وأخلاقه، والتعرف إلى القِيمِ الذى تتضمنها دعوة الإسلام، فضلا عن المقارنة بين ما جاء به النبى أو يَتَّسِم به ونظير ذلك عند من يعرفهم هرقل من الأنبياء. فماذا نريد أكثر من ذلك؟ فأما أبو سفيان فقد أسلم بعد فترة من الزمن حين لم يجد مجالا للتسويف أطول من ذلك، وإن لم يكن باستطاعتنا الزعم بأن إسلامه كان ثمرة لإعماله عقله فقط، وإلا فلماذا لم يسلم فور خروجه من لدن هرقل؟ وأما هرقل فلم يصلنا ما يدل على أن الله قد كتب له الإسلام.
وفى حالتى أنا شخصيا لا أستطيع أن أخفى أننى فى البداية آمنت بالنبى لأنى وُلِدْتُ فى أسرة تؤمن به. إلا أن الأمور لم تَجْرِ طول الوقت على هذا النحو، إذ ساورتنى أفكارٌ جَرّاءَ ما سمعت أو قرأت عن الإسلام ممن لا يؤمنون به، مما استدعى منى أن أفكر فى الأمر بنفسى. وقد درست أثناء ذلك شخصية الرسول ومضمون القرآن وقارنت بين الإسلام وبين المذاهب والفلسفات والأديان الأخرى التى أعرفها، فرجحتْ كفة الإسلام. ثم لم أكتف بهذا، بل عكفتُ على القرآن والحديث أستجلى الملامح الأسلوبية لكل منهما، فتبين لى أن الأسلوبين مختلفان اختلافا شديدا، فعرفت أن القرآن لا يمكن أن يكون من صنع النبى عليه السلام... إلخ. وإلى جانب هذا قمت بدراسة الموضوعات الدينية فى "دائرة المعارف الإسلامية"، وهى تمثل لب لباب الفكر الاستشراقى لعتاة المستشرقين ودهاقينهم، فتبين لى أن ما يكتبونه فى تخطئة الإسلام هو كلام هش متهافت لا يتماسك، ورددت على كل ما كتبوه ردا منطقيا منهجيا مدعوما بالنصوص والشواهد. ويجد القارئ هذا كله فى كتبى التالية: "المستشرقون والقرآن"، و"مصدر القرآن" و"موقف القرآن الكريم والكتاب المقدس من العلم" و"ماذا بعد إعلان سلمان رشدى توبته؟ دراسة فنية وموضوعية للآيات الشيطانية" و"الجهاد فى الإسلام- عرض نقدى" و"دائرة المعارف الإسلامية- أضاليل وأباطيل"، "القرآن والحديث- مقارنة أسلوبية" و"مع الجاحظ فى رسالة الرد على النصارى" و"دراسات دينية مترجمة عن الإنجليزية" و"لكن محمدا لا بواكى له" و"عصمة القرآن الكريم وجهالات المبشرين" و"الفرقان الحق: فضيحة العصر" و"مختارات إنجليزية استشراقية عن الإسلام" و"بعد الحادى عشر من سبتمبر 2001 ماذا يقولون عن الإسلام؟" و"الحضارة الإسلامية: نصوص من القرآن والحديث ولمحات من التاريخ" وكتبى عن سورة "المائدة" و"يوسف" و"طه" و"النجم" و"الرحمن"... إلخ. وهذا كله إعمال للعقل بما يناسب عقل واحد مثلى وظروفه.
فهأنت ذا، يا قارئى الكريم، ترى أننا لا يمكننا الاستغناء عن العقل لحظة واحدة، مع تسليمنا بأن العقل ليس هو كل شىء، لكنه مع ذلك هو الرائد والقائد. ستقول: لكن العقل كثيرا ما يضل ولا يصل إلى الصواب. فأقول لك: "لا يكلف الله نفسا إلا وسعها". وأقول لك أيضا: "ومَنْ يشاقِق الرسولَ من بعدما تَبَيَّن له الهدى ويتَّبِعْ غير سبيل المؤمنين نُوَلِّه ما تولَّى ونُصْلِه جهنم، وساءت مصيرا". أما من لم يسعفه وُسْعُه بإصابة الحق أو لم يتبين له وجه هذا الحق رغم ما أنفق من جهد مخلص هنا وهناك، فهذا يُوكَل إلى عدل الله ورحمته، فهو سبحانه المحاسِب والمؤاخِذ.
قلنا إن الإسلام يكفينا عن التصوف ما دام المتصوفة يقولون إن ما يفعلونه ليس شيئا آخر غير ما جاء به القرآن والسنة والتمسك به. ومعروف أن القرآن يتحدث عن أولياء الله فيحددهم بأنهم هم الذين آمنوا وكانوا يتقون. وعلى هذا فكل مسلمٍ مُتَّقٍ هو ولى من أولياء الله. أقول هذا تعقيبا على ما كتبه د. عبد الحليم من أن المتصوف الحق هو ولى من أولياء الله. وفى هذا السياق نراه يضيف أن هناك أولياء غير صوفيين. وهذه نقطة منه طيبة، وسوف أتخذها مستندا للقول بأن الولى هو المؤمن التقى، أى المسلم الصادق المخلص، وكفى. أما الفتوى الخاصة بحِلِّيَّة أو حُرْمَة الطرق الصوفية فلا تعنينى. ذلك أنه يكفينى أن أنظر فى سلوك الشخص أو الجماعة لأتحقق من مدى اتساقه مع مبادئ الإسلام وقيمه وغاياته: فإن كان سلوكه أو سلوكها متسقا مع الإسلام فبها ونعمت، وإلا فالصوفية منحرفة عن الدين. ويقول الشيخ الجليل إن أولى خطوات المتصوف هى التوبة. لكن ينبغى أن نعلم أن التصوف ليس هو وحده الذى يتطلب التوبة، بل هى أمر مبدئى، إذ لا يعقل أن يعلن الإنسان عودته إلى الاستقامة على الطريق ثم لا يفكر فى رد المظالم مثلا إلى أصحابها أو استغفار ربه التماسا لرضاه وعفوه عما فَرَط منه من قبل.
أما الأوراد الصوفية فأهلا بها وسهلا لمن يشعر بالراحة معها، وإن كان العبد لله يكتفى بتسبيح الله وتحميده وتكبيره كلما تاحت له فرصة أو هاج به الشوق إلى الله أو فَرَط منه ذنب، وما أكثر ما يَفْرُط منه من ذنوب وسيئات. وهو، حين يسبح ربه ويحمده ويكبره، لا يلتزم صيغة معينة بالذات أو عددا محددا من المرات يردد هذه الصيغة على أساسه، بل يستجيب لشعوره الوقتى. ولست أقول إن طريقتى هذه هى الطريقة المثلى، بل كل ما فى الأمر أننى أنتهز الفرصة هنا لأفتح قلبى للقراء فحسب. ولا مُشَاحَّة فى أن ترديد الأوراد شىء جميل عند كثير من الناس، مع وجوب التذكير رغم هذا بأن الجرى على منوال واحد فى كل الأوقات ومع كل المشاعر والعواطف قد يحول الأمر، عندى أنا وأمثالى على الأقل، إلى عمل آلى. ولكن ينبغى التنبه أيضا إلى أن النفوس تختلف من شخص إلى آخر. والمهم فى هذا كله الحرارة والإخلاص ووعى الإنسان بما يعمل حتى لا يتحول الأمر إلى مجرد شقشقة باللسان ليس لها صدى فى القلوب.
وعلى أية حال فإن د. عبد الحليم محمود يؤكد، والحمد لله، أن أوراد الطرق الصوفية لا هى فرض ولا هى سنة. بيد أن فرحتنا بهذا منه لا تدوم طويلا، إذ نراه بعد عدة صفحات يؤكد أن الإنسان إذا ألزم نفسه بوِرْدٍ معينٍ وعاهد الله على التزامه ثم أهمله بعد هذا فإنه يعد عاصيا لله لأن هذا نذر يجب الوفاء به. يا ألله! هذا كثير! لقد ضيق الصوفية واسعا، إذ أفهموا أتباعهم أن الأوراد يمكن أن تتحول إلى نذر. فلماذا بالله يحولونها إلى نذر يبقى مدى الحياة لا فكاك منه؟ ألم أقل، قبل أن أقرأ هذا الكلام، إننى أُفَضّل الذكر الحر غير المقيد؟ كأنى كنت أشم على ظهر يدى ما هو قادم! فالحمد لله!
ومع ذلك فقد كفانا د.عبد الحليم الرد على هذا بما أورده عن أبى الحسن الشاذلى حين قال: "دخل رجل على أستاذى (يقصد عبد السلام بن مشيش) فقال له: وَظِّفْ لى وظائف وأورادا. فغضب الشيخ منه وقال له: أرسول أنا أُوجِب الواجبات؟ الفرائض معلومة، والمعاصى مشهورة، فكن للفرائض حافظا، وللمعاصى رافضا، واحفظ قلبك من إرادة الدنيا وحب النساء وحب الجاه وإيثار الشهوات، واقنع من ذلك كله بما قسم الله لك: إذا خرج لك مخرج الرضا فكن لله فيه شاكرا، وإذا خرج لك مخرج السخط فكن عنه صابرا" . أفلو كانت الأوراد بالخطورة التى نجدها فى كلام د. عبد الحليم محمود أكان ابن مشيش الصوفى الجليل فى نظر الأستاذ الدكتور يَعْنُف بسائله على هذا النحو حين التمس منه تعيين بعض الأوراد كى يلتزم بها؟
ثم إن تلك الأوراد، ومثلها الأحزاب، كثيرا ما تطول طولا مسرفا مرهقا بحيث يتوهم الإنسان أنه داخل فى معركة وليس مقبلا على قراءة بعض الأدعية والمناجيات، إذ رأيت بعضها يبلغ عدة صفحات وكأنها قرآن علينا حفظه وتسميعه، كما هو الحال مثلا فى الحزب الكبير لأبى الحسن الشاذلى، الذى يغطى أكثر من ثمانى صفحات، ويتعرض لموضوعات كثيرة، وتتكرر فيه بعض العبارات بطريقة معينة فى مواضع معينة... وهكذا. ومثله فى ذلك الوِرْد الذى كان يردده الشيخ عبد الفتاح القاضى صََدِيق د. عبد الحليم محمود، والذى لا يقل فى الطول عن ورد الشاذلى، وقد يزيد . وإنى لأستغرب كيف أَعَدَّ أصحابُ هذه الأحزاب أحزابهم تلك المسرفة فى الطول. لا ريب أنهم عكفوا عليها وقتا طويلا يحبّرونها وينقّحونها حتى استوت لهم بما هى عليه من طول شديد وتأنق بديعى مصنوع. لكن هل الدعاء إلى الله يحتاج منا إلى حفظ مثل تلك الأحزاب والأوراد وترديدها كما هى؟ ألا يصلح أن ندعو الله ونبتهل إليه من قلوبنا مباشرة طبقا للحالة النفسية التى نحن فيها فيخرج الدعاء من أعماق قلوبنا حارا؟ أليس ذلك أفضل من كَرّ كلام قاله غيرنا يصور ما كان يدور فى نفسه هو ساعة تأليفه إياه؟ إن الأدعية التى كان يدعو بها رسول الله ربه ليست طويلة أبدا. وليس فيها هذا التكلف الذى نُلْفِيه فى الحزب الكبير للشاذلى مثلا. وأكبر رقم حدده الرسول الكريم للتسبيح أو التحميد أو التكبير بعد الصلاة كان ثلاثة وثلاثين ليس إلا، لا ألفا كما يريد منا السادة الصوفية أن نفعل، وكأننا ليست لنا شغلة طول النهار ولا مشغلة غير قراءة الأوراد، ناسين أن العمل فى الإسلام عبادة، بل كل شىء فى الإسلام عبادة ما دامت نية الشخص الذى يعمله طيبة، وما دام ينفع به الناس: نفسه أو أسرته أو أمته أو الإنسانية كلها. ثم إنه، عليه الصلاة والسلام، لم يلزم بهذا العدد أحدا، بل اقترحه مجرد اقتراح لمن يريد، مبينا لنا أننا متى ما عملناه كان لنا أجر، أما إذا لم نعمله فليس علينا من وزر، بله أن يقول صلى الله عليه وسلم إننا إذا ما أهملنا شيئا من ذلك كان علينا أن نتوب... إلى آخر ما يقوله المتصوفة عن أوراد مشايخهم، ولا أدرى من أى واد من أودية الوهم أَتَوْا به.
وقد قرأت فى "موقع الصوفية" أن "حزب البر المشهور بالحزب الكبير قد اشتهر عند الشاذلية أنه الحزب الذي لم يحفظه شقي. وقد قال فيه صاحبه: من حفظ حزبنا فله ما لنا من البهجة والأسرار، وعليه ما علينا من البهاء والوقار. وقد أفرده بالتآليف فُحُولُ أئمة الدين، واعتنى بأخذه كبار المرشدين. وكم له من نفحات يشاهدها تاليه، ومن لحضرته يصطفيه. ولهم به عدة أسانيد، عمن قَدَمُه في الطريق وطيد. كيف لا، وهو للإمام الأعظم، والطراز المحكم، قطب الأولياء على الإطلاق، من كادت بركته تخترق السبع الطباق، مُمِدّ كل ولي، علي بن عبد الله أبو الحسن الشاذلي"؟ وهو، كما نرى، كلام كبير مملوء بالدعاوى التى لا يرفدها أى دليل، فضلا عن التمدح الذى يتمدحه صاحبه ويثنى فيه على نفسه ثناء غير مقبول. ودعنا من المزاعم الطويلة العريضة التى يفيضها الحواريون على شيخهم بما يخرجه عن نطاق البشرية. وقد أورده د. عبد الحليم محمود بدءا من الصفحة السادسة والأربعين بعد المائة من كتابه: "قضية التصوف- المدرسة الشاذلية".
ولكن ما قاله د. عبد الحليم عن الأهمية البالغة للأوراد لا يقف عند هذا الحد، إذ بعد أن نفى أن يكون الخروج من الطريقة كفرا نراه يسارع إلى التأكيد بأن ذلك الخروج هو فى الحقيقة نقض للعهد الذى أعطاه المريد لله على يد الشيخ. وعلى ذلك فهو عاصٍ ينبغى أن يتوب توبة خالصة وأن يلتزم الطاعة بالرجوع إلى الطريقة الأولى أو الدخول فى طريقة أخرى، وهو ما أراه تضييقا على المسلم بل خنقا للمسلم. ترى هل احتكرت الطرق الصوفية ميدان الطاعة بحيث إننى متى أردت أن أخرج منها صرت عاصيا لله لا يمكن أن "أرتكب" عملا صالحا أبدا بعيدا عنها؟ أليس المهم أن ألتزم بدينى؟ أفى الدين أن الطاعة إما أن تكون من خلال طريقة صوفية، وإلا فلا؟ فأين ذلك فى الإسلام يا ترى؟ أليس واردا فى الإسلام أننى يمكن أن أمل وأسأم؟ أليس فيه أننى قد أكتشف أن شيخ الطريقة رجل دجال أو لص أو زانٍ أو يأكل المال فى بطنه الضخم سحتا فأفر منه كما يفر السليم من الأجرب؟ إن هذا الكلام معناه أن شيخ الطريقة معصوم لا يمكن أن يخطئ أبدا، وأننى أنا المريد متهم دائما، وينبغى أن أتوب عن فعلتى لا هو، وإلا أُلْقيِتُ فى جهنم، وبئس المصير!
فانظر، أيها القارئ، إلى مدى التشدد الذى يمكن أن يقع فيه البشر والنتائج العجيبة التى تترتب على ذلك التشدد. من هنا فإنى أوثر عدم الالتحاق بأية طريقة صوفية حتى نريح ونستريح. ولنا فى مطلق الإسلام غُنْيَة. و"إن الدين عند الله الإسلام" لا الطريقة الشاذلية ولا الطريقة التيجانية ولا الطريقة القادرية ولا أية طريقة أخرى ما دامت تدخلنا فى هذا المأزق الذى لا مخرج منه! لقد قالوا قديما إن دخول "الحمام" ليس مثل خروجه. لكننا لم نسمعهم يقولون إن دخول "الطريقة" ليس مثل خروجها!
أما كثرة الطرق الصوفية فقد تكون دليلا على تفرق القلوب والعقول وعدم وجود وحدة جامعة، مما يترتب عليه فى بعض الأحيان تناحر مشايخ الطرق الصوفية على الرئاسة والتكالب على الدنيا فى الوقت الذى يزعمون فيه أنهم فيها من الزاهدين، وبخاصة أن الخلافات التى تميز بين طريقة صوفية وأخرى هى من التفاهة بمكان، ولا علاقة لها بجوهر الدين ولا بجوهر الدنيا. والمعروف أن رؤساء تلك الطرق قد يتباغضون ويتنازعون على الرئاسة ويتخاصمون أمام المحاكم من أجل هذا السبب، ويتطلعون إلى الدنيا تطلعا يتحلب له الريق، وتحت أيديهم الأموال الطائلة.
وهنا أسارع فأقول إننى لست من مبغضى الدنيا، ولا أظن أحدا يمكنه أن يبغضها حقا. بيد أن هناك فرقا بين دنيا ودنيا. ومما يملأ قلوبنا بالوساوس ما نقرؤه هذه الأيام من تشجيع الأمريكان للصوفيين فى مصر وحرص رجالهم على الالتقاء بهم وعلى حضور موالدهم، وما أدراك ما الموالد، والاستماع إلى غنائهم وذكرهم وهرجهم وتطوحهم وصراخهم . وهناك أيضا انحياز كثير من الصوفية إلى أعداء الشعب والملة ومدحهم لهم وثناؤهم عليهم. لا أقصد أن أتهم كل صوفى، فثَمَّ بلا شكٍّ ناس مخلصون رغم اختلافنا معهم فى بعض الأمور. إلا أن هناك دائما فرقا بين من يتصوف قُرْبَى إلى الله ومن يتصوف قُرْبَى إلى الدنيا وأكلاً لـَمًّا لها.
أقول هذا استباقا لما يمكن أن يدور بذهن أى قارئ من أننى يمكن أن أقول فى الشيخ ما يسىء إليه. فهو عندى، رغم كل شىء، عالم جليل وشيخ للأزهر من طراز نادر قلما يجود التاريخ بمثله. تغمده الله برحمته، وأسكنه الفردوس الأعلى. ولقد ساءنى ونغص علىَّ العنوان الذى عنون به أحدهم على اليوتيوب مقطعا من حلقة فى قناة "الخليجية" للشيخ محمد الزغبى ينتقد بعض الأشياء مما يقول إنها وقعت من د. عبد الحليم محمود. ونص العنوان هو "خرافات الصوفى القبورى عبد الحليم محمود"، وهى عبارة لا أستسيغها رغم اختلافى مع الشيخ حول اعتقاداته فى من يُسَمَّوْن بـ"الأولياء"، إذ إن فضائل الرجل وكرم نفسه، وشجاعته فى مواجهة الحاكم والمسؤولين الكبار بالدولة، واعتزازه بإسلامه وبالأزهر ونشاطه الفائق فى الدعوة إلى الله وفى سد منافذ التفلت من الدين، وعمله الدءوب على نشر مكاتب تحفيظ القرآن الكريم وبناء المعاهد والكليات الأزهرية فى كل مكان، وتفقده أحوال المسلمين فى أرجاء العالم، وكونه أول شيخ أزهر يُتْلَى فى عهده وفى حضوره القرآن المجيد فى البيت الابيض، ووقوفه فى وجه الشيوعية والتنصير، وإصراره على أن يقر محاوِرو الأزهر من رجال الفاتيكان بنبوة النبى ويحترموه قبل قبوله اشتراك الأزهر فى الحوار الإسلامى النصرانى، ودعوته الملحة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية، وقبل ذلك كتبه الكثيرة التى ينافح فيها عن الإسلام ، كل ذلك يغطى عندى على ما لا أوافقه الرأى فيه مما يتعلق بالتصوف والأولياء.
ذلك أن اختلاف المسلمين فى المشارب والاتجاهات لا ينبغى أن يترتب عليه بالضرورة تفسيق أو اتهام فى الدين. ولست أظن اعتقادات د.عبد الحليم محمود فيمن يُسَمَّوْن بـ"الأولياء" كانت تزيد عن الاعتقاد فى خيريتهم وتفوقهم الروحى وأنهم أصحاب كرامات وأنهم جديرون بالاحترام. وقد بينتُ أن بعض هؤلاء الأولياء لهم تصرفات سخيفة بل خارجة على الدين، وهو ما يحيرنى فى موقف الشيخ، الذى لا أتهمه رغم ذلك فى فكره واعتقاده، وإن كنت، رغبةً فى الخروج من هذا المأزق، أميل إلى أنه كان يحسن الظن بهؤلاء الناس فى غير موضع لإحسان الظن، متصورا أن تلك الأشياء مكذوبة عليهم.
ونعود إلى الشيخ الزغبى، الذى دفعنى كلامه عما قاله د. عبد الحليم فى كتابه: "التصوف المنقذ من الضلال" إلى الرجوع فى التو واللحظة إلى تحقيق الأستاذ الدكتور لكتاب "المنقذ من الضلال" للإمام الغزالى (وليس "التصوف المنقذ من الضلال" كما قال الشيخ الزغبى، إذ لا يوجد كتاب بها الاسم الأخير، وهو سبق لسان منه)، فلم أجد شيئا مما أكد أنه موجود بالحرف الواحد فى هذا الكتاب. والذى أذكره أننى، فى أوائل سبعينات القرن الماضى، قد قرأت كتاب د. عبد الحليم محمود عن السيد أحمد البدوى، فألفيته يقول فى مقدمته إنه ذهب إلى ضريح البدوى كى يستأذنه فى الكتابة عنه. إلا أننى، حين عدت إلى ذلك الكتاب فى السنوات الأخيرة وكذلك لَدُنْ تأليفى الكتاب الحالى، لم أجد هذه العبارة، بل كل ما وجدته أنه بدأ تأليف الكتاب فى الضريح المذكور. وقد احترت جراء هذا الاكتشاف الجديد، واتهمت ذاكرتى بالعبث بى، واستمررت على الشك فى حافظتى وقتا طويلا إلى أن وجدت أنها لم تخنى قط، وأن كل ما حدث هو أن الكلام قد تغير فى طبعة لاحقة.
أما كلام الزغبى عن ذهاب د. عبد الحليم إلى الضريح لأخذ العهد على السيد البدوى حتى يبدأ فى الكتابة عنه وأن السيدالبدوى قد مد يده من الضريح وصافحه إعلانا عن قبوله العهد فهو ما لا أذكر أنى قرأته لا عند الأستاذ الدكتور ولا عنه. كذلك لا أذكر أنى قرأت له ما نسبه إليه الزغبى من أنه قال، تعليلا لسكوت السيد البدوى عن المهازل التى تقع ليلة مولده من زنا وقمار وإجرام وما إلى ذلك، إن رحمة البدوى فى ذلك اليوم تسبق غضبه. أى أن فرحته بذهاب الناس إليه من كل مكان تجعله يعفو عنهم ولا يؤاخذهم بما كسبت أيديهم. ولست أدرى كيف طرح الشيخ الزغبى هذا الكلام فى التلفاز على ذلك النحو دون أن يكون فى يده ما يستند إليه رغم تصريحه بالصوت العالى أنه ينقل الكلام حرفيا من كتاب "التصوف المنقذ من الضلال"، ذلك الكتاب الذى لا وجود له بهذا العنوان، ولا علاقة له بالسيد البدوى من قريب أو من بعيد.
لقد كان د. عبد الحليم محمود، رغم اتجاهه الصوفى، يجل المعتزلة وغير المعتزلة ممن يخالفونه الـمُتَّجَه، ويلح على ما أَدَّوْه من خدمات للدين وقدموا بين أيديهم من دفاع مخلص عنه كما وضحتُ فى هذا الكتاب. فنحن نعامله نفس المعاملة الكريمة. نحتلف معه فى بعض الأشياء، لكننا نجله رغم هذا ونحترمه ولا نغمطه فضله الهائل الذى قلما يستطيعه سواه. بل لقد سألت نفسى مرارا وأنا أضع هذا الكتاب: هل كنتَ يا فلان، لو وضعتك الأقدار موضع الشيخ، مستطيعا أن تقوم بما قام به ذلك الرجل الشجاع المخلص مما ذكرتَ بعضه آنفا؟ وسرعان ما جاء الرد على نفسى من نفسى دون خالجة من تردد: لا أظننى كنت أقدر على اتخاذ هذه المواقف العظيمة التى وقفها الرجل. فرضى الله عنه وأرضاه.
ونعود إلى ما صرح به الشيخ الزغبى فى الحلقة التلفازية المذكورة آنفا من أن الشيخ قد ذكر فى كتابه: "التصوف المنقذ من الضلال" أنه لما أراد أن يكتب عن السيد البدوى ذهب إلى ضريحه لأخذ العهد منه، فما كان من البدوى إلا أن مد يده من الضريح وصافح الشيخ دلالة على قبوله العهد. لقد أكد الشيخ الزغبى أنه، رغم ذلك، يجل الشيخ لما كان يتصف به من زهد وعلم وما أداه للدين من خدمات، وهذا موقف طيب من الزغبى، وإن أضاف مع ذلك أن د. عبد الحليم محمود قد "لُبِّس عليه" لأن "الشيطان يصنع الأعاجيب". هكذا قال بالحرف. ويبدو أن هناك خلطا فى أمر العهد والمصافحة بين ما كتبه عبد الحليم محمود وبين ما كتبه الشعرانى فى كتاب "الطبقات الكبرى" من أن يد البدوى فى إحدى المناسبات قد خرجت من الضريح وقبضت على يده. وهذا نص كلامه: "وسبب حضوري مولده (أى مولد السيد البدوى) كل سنة أن شيخي العارف بالله تعالى محمد الشناوي رضي الله عنه ،أحد أعيان بيته رحمه الله، قد كان أخذ عليَّ العهد في القبة تجاه وجه سيدي أحمد رضي الله عنه وسلمني إليه بيده، فخرجت اليد الشريفة من الضريح وقبضتْ على يدي" .
وعَوْدًا إلى ما كتبه فضيلة الشيخ عن التصوف فى كتابه: "فتاوى الإمام عبد الحليم محمود" نجده يقول بإمكان رؤية الأشخاص العاديين لجبريل عليه السلام اعتمادا على أن الصحابة قد رَأَوْه وهو يكلم النبى ذات مرة حين جاءهم يعلمهم أمر دينهم، وعلى أن السيدة مريم العذراء قد رأته قبل ذلك. وأنا لا أحب التوسع فى مثل هذه الأمور، وإلا انفتح الباب على مصراعيه لكل من هب ودب. لقد رأى الصحابة جبريل لأنه أتى النبى عليه السلام، وهم حوله، كى يعلمهم أمر دينهم. أما الآن فلِمَ يأتى جبريل ويراه الناس يا ترى؟ لا ينبغى أبدا قياس أى شخص منا على النبى وما كان يحدث له ولمن حوله. وهل هناك نساء كمريم العذراء سوف يلدن رسولا من رسل رب العالمين؟ أرجو إغلاق هذه الصفحة نهائيا والتفرغ لما يفيدنا وما تحتاجه حياتنا وحياة أمتنا، وهو كثير لا يترك لنا لحظة للحديث والجدال فى مثل هذه الأمور التَّرَفِيَّة التى لا تفيدنا فى شىء. ذلك أن ظهور جبريل لفلان أو ترتان من الناس لا يجديه ولا يجدينا فى قليل أو كثير، علاوة على أنه لا يوجد معيار نعرف به مدى صدق ما يراه أو يسمعه الشخص فى هذه الحالة أَوْ لا. لقد كان عصر النبى وزكريا عصر نبوات، والنبوة كلها أمر خارق للعادة، فينبغى ألا نعممها على حياتنا العادية التى لا علاقة لها بالنبوة إلا من حيث إنه ينبغى لنا أن نسير على سنن نبينا لا أن نقول إننا يمكن أن يظهر لنا جبريل كما كان يظهر له.
وإذا كنت اختلفت مع الشيخ رحمه الله فى هذه المسألة فإننى لا أملك إلا موافقته تمام الموافقة على تأكيده بأن تقديم الطلبات إلى الأولياء فى أضرحتهم هو مما يناقض الدين، إذ ليس أمام الشخص عند الحاجة إلى قضاء أمر ما إلا أن يتخذ الأسباب التى تؤدى إلى تحقيق هذا الأمر مستعينا به سبحانه وحده ومبتهلا إليه، ثم فلْيتكل عليه بعد ذلك، ولا شىء آخر. أما كلامه عن الموالد فلست معه أبدا. صحيح أنه يشترط أن تكون الموالد للعبرة ودراسة أحوال الولىّ وأخلاقه الحسنة للتأسى بها. إلا أننا لو فتحنا هذا الباب فلن ننتهى، وإلا فلم نحتفل مثلا بالسيد البدوى أو إبراهيم الدسوقى، ونترك الاحتفال بأبى بكر وعمر وعثمان وعلى ومعاوية وخالد وعمرو وجابر وحمزة وسعد وأبى هريرة وغيرهم من آلاف الصحابة ومعاصرى النبى والملايين من التابعين وتابعى التابعين وتابعى تابعى التابعين وتابعى تابعى تابعى التابعين وصولا لعصرنا ممن أَدَّوْا للإسلام خدمات وتضحيات لا تعد إنجازات البدوى والدسوقى وأضرابهم شيئا مذكورا إلى جانبها، إن كان لهم إنجازات، ولم يكن ما يقال عنهم فى هذا الصدد مجرد خرافات لا أصل لها.
وبمناسبة ما نحن فيه دارت بينى وبين زميل لى أزهرى منذ نحو عشرين عاما، ونحن داخلان طنطا من ناحية الجنوب فى سيارتى ومعنا زوجتانا وطفلاى، مناقشة حول كرامات السيد البدوى. وكان يعلم أنى لا أومن بهذه الأشياء، لكنه ظن أنه يستطيع إقناعى بما يعتقده. فعاجلته قائلا: ترى أين تذهب هذه الكرامات أيام الاحتفال بمولده حين تنقلب طنطا كلها، وساحة المسجد والشوارع المحيطة به بوجه خاص، مزبلة بل زريبة بما يتركه وراءهم القرويون والعوام وأشباه العوام ممن يتقاطرون على المدينة آنذاك من زبالة؟ بل إن المسجد أيامئذ ليمتلئ بالمخلفات والضجيج والعجيج . ودعنا من الطعام غير الصحى والمبيت وقضاء الحاجة فى الشوارع وتعاطى الحشيش والتحرش الجنسى وألعاب الميسر وغير ذلك من القذارات والموبقات. ولفتُّ نظره إلى الصورة المعروفة عن تلك الموالد، التى لم أكن أحبها حتى وأنا تلميذ صغير أعيش فى طنطا لما فيها من زحام خانق وقذارة واحتكاك شديد بين الجماهير كثيرا ما يؤدى إلى المعارك. أقول هذا رغم أننى تربيت فى طنطا، وكثيرا ما استذكرت دروسى فى مسجد السيد البدوى، فضلا عن أننى آتٍ من بيئة ريفية تمثل قاع المجتمع المصرى. فماذا يا ترى كنت قائلا فى مولد السيد البدوى وبركاته الموهومة لو أننى قد أتيت من بيئة أرقى؟ ومع هذا لم يبد على صديقى، رحمه الله، أنه اقتنع بشىء مما قلت. وصديقى هذا يمثل قطاعات ضخمة من الشعب: متعلمين وغير متعلمين. فلله يا زمرى!
ومن بين ما تعرض له د. عبد الحليم الاستغاثة بالأولياء. ورأيه أن الاستغاثة بالحى جائزة لدفع مضرة، ثم نراه يتطرق فجأة إلى الاستغاثة بالميت حين قال فى نهاية الكلام دون أى تمهيد: "وسواء أكان المستغاث به قريبا أم بعيدا، حيا أم ميتا، فالمدار على حسن الاعتقاد وعلى أنه لا فاعل فى الحقيقة إلا الله. وجميع المسلمين يعلمون ذلك ويؤمنون به ويعتقدونه. على أننا يجب أن يكون توجهنا دائما إلى الله تعالى فى كل ما نتعرض له من أخطار: وإذا سألتَ فاسأل الله، وإذا استعنتَ فاستعن بالله". وواضح أن الفكرة غير متسقة بما فيه الكفاية لأنه إذا كان واجبا على المسلم التوجه إلى الله، فلم الاستغاثة إذن بغير الله، بَلْهَ بمن مات وشبع موتا ولا يمكنه أن يهبّ لنجدتنا وإغاثتنا؟ لكن يلاحظ أن الكلام قبل ذلك يجيز الاستغاثة بالبشر أحياء كانوا أو أمواتا.
طيب، فإذا قلنا إن الأحياء يمكن أن يهبوا لنجدتنا، فهل يستطيع ميت أن يسارع ليغيث أحدا؟ فكيف؟ أنا لا أنظر إلى الأمر من ناحية العقيدة، بل من ناحية المعقولية. من هنا أرى أن الخوض فى الاستغاثة بالموتى عبث فى عبث، والكلام فيها تضييع وقت، ولا معنى له، ولا يؤدى إلى طائل! إن الموتى بحاجة إلى أن ندعو لهم لا إلى أن نستغيث بهم. لقد صاروا ترابا، وكل ما يمكن أن نفيده منهم هو استلهام سلوكهم وأفكارهم إن كانوا أهلا لذلك. وهذا لا يقتصر على من يسمون بـ"الأولياء"، بل يشمل كل صنوف البشر من علماء وقُوّاد وعُبّاد... إلخ. بل إن كثيرا من أولئك "الأولياء" مجهولون لا يعرف أحد شيئا عنهم يبعث على الاطمئنان.
ومما يتصل أيضا بالتصوف والمتصوفة فى كتابات د. عبد الحليم محمود ما قاله رحمه الله عن رابعة العدوية، إذ يحتاج إلى تعقيب. لقد سبق أنْ أشبعتُ القول فى الحديث عن رابعة العدوية فى الفصل الذى كسرتُه عليها من كتابى: "فى التصوف والأدب والصوفى"، فيمكن القارئ الرجوع إلى ما كتبته هناك إذا أراد أن يعرف رأيى بالتفصيل فيما بلغنا عن تلك السيدة. لكنى هنا لا أريد أكثر من مناقشة ما قاله د. عبد الحليم بالذات فيها. لقد قال مثلا إن قصة حياتها يتغلب فيها الدين على الفجور، والصلاح على الفساد، ليعود بعد أسطر معدودات فيؤكد أنها، فى بواكير حياتها، قد تشربت العبادة وتذوقت الطاعة من أبيها، الذى كانت تعمل معه فى تعدية الناس فى قارب عبر النهر، ولم تكن كما قيل عنها لعوبا تقارف اللذات وتسهر الليل فى اللهو واللعب، إذ كانت تصلى الليل كله ثم تهجع هجعة خفيفة قبل الفجر ثم تقوم فتصليه. فإذا كان الأمر كذلك فما معنى أن قصة حياتها قد تغلب فيها الدين على الفجور؟ لقد أكد الشيخ أن حياتها قد خلت تماما من الفجور، فكيف يكون هناك صراع بين الفجور والدين، ولم يكن هناك فجور أصلا؟
هذه واحدة. والثانية أنها لم تتزوج. وقد قال الشيخ إنها بقيت عذراء بتولا لأنها وجدت أنها لا تستطيع القيام بحقوق الزوج بعد أن تغلبت روحانيتها على حياتها الدنيوية. وهذا مما لا أوافق الشيخ عليه أبدا، فالإسلام لا ينظر إلى متطلبات الجسد على أنها رجس ينبغى الفرار منه أو التحقير من شأنه، وإلا فكيف تزوج الرسول عليه السلام والصحابة؟ بل كيف تزوج الشيخ مبكرا، وكان يزوج بناته متى تقدم لهن خاطب صالح دون أن يتركهن يتممن تعليمهن؟ ثم من الذى خلق الجسد؟ أليس هو الله عز وجل؟ ولماذا خلقه يا ترى؟ أليس لإشباعه حتى يمكن صاحبه تعمير الأرض؟ أم ترى ثم أناسا يستطيعون أن يقوموا بهذه المهمة دون أجساد؟ فأين هم؟ إن العبادة فى الإسلام، كما يعرف الشيخ بكل تأكيد، ليست مقصورة على الصلاة والصيام وما أشبه من العبادات التقليدية. إنها تغطى كل شىء فى الحياة. فأنا الآن مثلا، أثناء تأليفى هذا الكتاب، فى عبادة ما دمت أبغى وجه الله. ومن يمارس الجنس مع زوجته يأخذ هو وهى أجرا . ومعروف أن الأجور إنما تُعْطَى على الطاعات والأعمال الكريمة. فلو كانت رابعة قد تزوجت لكانت، فيما أفهم، أقرب إلى ربها من بقائها عَزَبَةً. بل إن الإسلام لا يستريح لمن يُضْرِب عن الزواج. ولو كانت رابعة تريد وجه الله لوجدت فى خدمتها لزوجها فرصة للتقرب إليه عز وجل مثلما تُقَرِّب الزوجَ أيضا إلى ربه خدمتُه لزوجته. إن بناء أسرة معناه المساهمة فى دفع عجلة الحياة، وإلا فلم خلق الله الدنيا إذا كنا سننفر من المساهمة فى بنائها ودفعها إلى الأمام؟
كذلك ترك الشيخ موضوع الوسيلة الذى كانت تتعيش منها رابعة غامضا فلم يلمسه مجرد لمس. لقد ذكر أنها تركت القارب الذى كانت تنقل به الناس فى البصرة عبر النهر، وانطلقت إلى حلقات الذكر والمساجد. لو كان هذا صحيحا فإنى أرى أنها قد أخطأت الطريق كله. إن المرأة التى تتزوج وتنجب وتربى أولادها وتتعاون مع زوجها فى تدبير أمور أسرتها لهى أفضل ألف ألف مرة ممن تختار أسلوب رابعة هذا. أنا فى الحقيقة لا أفهم أن يضيّع إنسان حياته فى حلقات الذكر والمساجد. ليس هذا من الإسلام فى شىء، بل هو لا يليق بالمرأة على وجه الخصوص. ثم إن ذكر الله لا يحتاج إلى حلقات ولا بقاء فى المسجد، بل يحتاج إلى قلب يقظ وعمل دءوب ونفس متفتحة وخلق طيب وشكر دائم، شكر بالقلب قبل اللسان. ففى الإسلام تتقدم المشاعر والنيات على اللسان والألفاظ .
ومما يؤمن به المتصوفة وحواريوهم، وأكده د. عبد الحليم محمود، مسألة الكرامات . وهناك كتب خاصة بهذا الموضوع كـ"كرامات أولياء الله" للالكائى، و"المفاخر العلية فى المآثر الشاذلية" لابن عياد، و"جامع كرامات الأولياء" ليوسف النبهانى وغيرها، فضلا عن تعرض كبار المتصوفة لها فى كتبهم كالقشيرى فى "الرسالة القشيرية"، والطوسى فى "اللُّمَع"، والشعرانى فى "الطبقات الكبرى"... والكرامات عند الصوفية أكثر من الهم على القلب حتى لكأن الدنيا قد فقدت عقلها معهم فلم تعد تلتزم بقانون أو قاعدة أو سُنَّة، بل صارت سداح مداح لا رابط لها ولا ضابط. فكل صوفى يستطيع أن يفعل ما يشاء متى أراد مما هو مستحيل على سائر البشر. خذ على سبيل المثال ما قاله أحدهم يوما لأبى يزيد البسطامى: بلغنى انك تَمُرّ (أى تطير) فى الهواء، إذ كان جوابه: "أىُّ عجبٍ منه؟ طير يأكل الميتة يمر فى الهواء. المؤمن أشرف من طير!" . وهى مغالطة بل سفسطة، إذ إن الله فضل بنى آدم على كثير من خلقه تفضيلا رغم أن من هؤلاء المفضولين السمك، الذى يغطس تحت الماء فلا يموت على حين يموت البشر، ومنهم الطيور، التى تسبح فى الفضاء فلا تقع على حين يقع البشر، ومنهم الدود، الذى يعيش فى الطين تحت الأرض فلا يختنق على حين يختنق البشر... باختصار لقد خلق الله البشر على نحو معين بحيث لا يصلحون للحياة إلا بهذه الطريقة التى يعيشون بها، فهم ليس لهم أجنحة ليطيروا بها، ولا رئاتهم قادرة على استنشاق الماء المذاب فى الهواء أو فى الطين. ثم إن نبينا محمدا لم يطر فى الهواء ولا أى نبى آخر، فهل نفهم من هذا أن البسطامى استطاع ما لم يستطيعوه وأنه من ثم أكثر إيمانا منهم؟
إن المتصوفة فى تلك العصور، بل ما زال كثير منهم حتى يوم الناس هذا، يَخْتِلُون العوام وأشباههم عن عقولهم باسم الكرامات، ويفسدون عليهم أمر دينهم ودنياهم. صحيح أن المعجزات كانت تقع من الأنبياء والرسل، لكن هؤلاء أنبياء ورسل لا يقاس عليهم، علاوة على أن القرآن هو الذى ذكر تلك المعجزات بخلاف ما يزعم المتصوفة أنه يقع على أيديهم من هذه الأعمال، فَرُوَاتُها أشخاصٌ ليسوا فوق مستوى الشبهات، كما أنها فى الغالب لم تقع، حسبما تقول رواياتهم، إلا فيما بينهم وبين أنفسهم أو بينهم وبين واحد أو اثنين مثلا من أتباعهم ممن يهمهم ترويج هذه الخزعبلات. كما أن احتجاج البسطامى بأن المؤمن أشرف من الطير، ومن ثم يمكنه أن يطير، ليس له من معنى إلا أن المتصوفة من أمثاله هم وحدهم المؤمنون لأنهم هم وحدهم الذين يستطيعون الطيران.
وبنفس المنطق أسأل البسطامى: هل يمكن المتصوفة أن يفعلوا كل ما تفعله المخلوقات الأخرى مما لا نستطيعه نحن البشر غير المتصوفين فيمكنهم أن يعيشوا تحت الماء ويطيروا فى الهواء ويغوصوا فى الطين ويَبْقَوْا هناك إلى ما شاء الله دون أن تصيبهم مصيبة الموت، مثلما يمكنهم أن ينفذوا من الثقوب الدقيقة كما يدخل البعوض، ويدخلوا المرئ أو الأنف ومنه إلى الرئة كما تفعل الفيروسات والميكروبات والجراثيم، أو يخترقوا الجلود كما تفعل دودة البلهارسيا، أو يسبحوا فى الهواء ويحطوا على الورود يمتصون منها الرحيق ثم يفرزون بعد ذلك عسلا شهيا كما تفعل النحل بدلا من الفضلات المنتنة التى يخرجونها؟ إذن فأرونا، أيها الصوفيون، كراماتكم رؤية العين لا رواية لم يشاهد وقائعها أحد! فهل تستطيعون؟ أما أنا فأقول بالفم الملآن: مستحيل.
يقول إبراهيم بن أدهم: "بينما أنا فى البادية إذا برجلٍ يَسِيرُ ليس معه إناء ولا زاد. فلما أمسى وصلى المغرب حرك شفتيه بكلام لم أفهمه، فإذا أنا بإناء فيه طعام وإناء فيه شراب، فأكلتُ وشربتُ. وكنتُ معه على هذا أياما، وعلمنى اسم الله الأعظم. ثم غاب عنى، وبقيت وحدى. فبينا أنا ذات يوم مستوحش من الوحدة دعوت الله به، فإذا أنا بشخص آخذ بحُجْزَتى وقال: سَلْ تُعْطَه. فراعنى قوله، فقال: لا رَوْعَ عليك، ولا بأس عليك! أنا أخوك الخضر. إن أخى داود علمك اسم الله الأعظم، فلا تَدْعُ به على أحد بينك وبينه شحناء فتهلكه هلاك الدنيا والآخرة. ولكن ادع الله أن يشجع به جنبك، ويقوى به ضعفك، ويؤنس به وحشتك، ويجدد به فى كل ساعة رغبتك. ثم انصرف وتركنى" .
ولابن الفارض المسمى: "سلطان العاشقين" أشياء لا يمكن أن يعقلها عاقل، فضلا عن أن يصدقها. وهى مروية على لسان ابنه أو سِبْطه: من ذلك مثلا الزعم بأنه كانت تمر عليه الأيام العشرة أو نحوها وهو دهش غائب عمن حوله لا يحس بهم ولا يسمعهم أو يراهم، وقد شخص بصره إلى الأمام، أو نام كالميت وتغطى، وأنه كان يصوم عن الطعام والشراب والنوم أربعين يوما متتالية، وأنه ذات مرة اشتهت نفسه أكل الهريسة فعاقبها بإضافة عشرة أيام أخرى إلى صومه ويقظته، فتمت خمسين يوما، وأنه قابل فى المسجد يوما رجلا بقالا لا يحسن كيف يتوضأ، فلما نبهه إلى الطريقة الصحيحة للوضوء نصحه الرجل أن يذهب إلى مكة ويجاور بها حتى يفتح الله عليه هناك، ولم يكن الوقت وقت خروج الحجيج، فأشار الرجل ناحية مكة قائلا: ها هى ذى مكة أمامك. فنظر ابن الفارض فرآها فعلا قبالته، وظلت قبالته لا تغيب عن عينيه طوال السفر للحجاز إلى أن وصل إليها. ثم لما بلغ مكة لم يسكنها ولم يجاور فى الحرم الشريف، بل أقام بِوَادٍ كان بينه وبين مكة عشرة أيام للراكب الـمُجِدّ، وكان يأتى من هذا الوادى كل يوم وليلة ويصلى فى المسجد الحرام الصلوات الخمس ومعه سبع عظيم الخلقة يصحبه فى ذهابه وإيابه وينخّ له كما ينخّ الجمل قائلا: يا سيدى، اركب! لكنه لم يركبه قط. ولما فكر بعض مشايخ الحرم أن يُعِدّوا له رَكُوبة تكون عنده فى البَرِّيَّة ظهر لهم السبع عند الباب ورَأَوْه وسمعوه يقول له: يا سيدى، اركب! فعندئذ استغفروا الله واعتذروا إليه... إلى آخر هذه الهلوسات السخيفة التى لا أدرى كيف يصدقها بعض الناس ويتصور أنها برهان على ولاية الرجل .
ويقول الشعرانى عن نفسه: "كانت القناعة من الدنيا باليسير سَدَاىَ ولُحْمَتى، فأغنتنى بحمد الله عن وقوعى فى الذل لأحد من أبناء الدنيا. ولم يقع لى أننى باشرت حرفة ولا وظيفة لها معلوم دنيوى من منذ بلغت، ولم يزل الحق تبارك وتعالى يرزقنى من حيث لا أحتسب إلى وقتى هذا. وعرضوا علىّ الألف دينار فرددتها، ولم أقبل منها شيئا. وكان المباشرون والتجار يأتون بالذهب والفضة فأنثرهما فى صحن جامع الغمرى فيلتقطهما المجاورون. وتركت أكل لذيذ الطعام ولبست الخيش والمرقَّعات من شراميط الكيمان نحو سنتين، وأكلت التراب لـمّا فقدت الحلال نحو شهرين، ثم أغاثنى الله تبارك وتعالى بالحلال المناسب لمقامى إذ ذاك. وكنت لا آكل طعام أمينٍ ولا مباشرٍ ولا تاجرٍ يبيع على الظَّلَمة ولا فقيهٍ لا يسد فى وظيفته ويأكل معلومها ولا غيرهم من جميع المتهورين فى كسبهم. وضاقت علىّ الأرض كلها ونفرتُ من جميع الناس ونفروا منى، فكنت أقيم فى المساجد المهجورة والأبراج الخراب مدة طويلة، وأقمت فى البرج الذى فوق السور من خرابة الأحمدى مدة سنة. وما رأيت أصفى من تلك الأيام. وكنت أطوى الثلاثة أيام وأكثر ثم أفطر على نحو أوقية من الخبز من غير زيادة، وضعفت بشريتى وقويت روحانيتى حتى كنت أصعد بالهمة فى الهواء إلى الصارى المنصوب على حصن جامع الغمرى فأجلس عليه فى الليل والناس نائمون، ثم إذا نزلت من السلم إلى الجامع أنزل بجهد وتعب لغلبة روحانيتى وطلبها الصعود إلى عالمها، فإنه لا يثقّل الإنسان فى الأرض إلا كثرة الشهوات... ولما غلب علىّ طلبُ العزلة عن الناس تنكرتْ منى جميع قلوب أصحابى ونفروا منى حتى كأنهم لا يعرفونى من ضيق وقتى عن مباسطتهم بالكلام واللغو وعدم المجالسة. وكنت كثيرا ما أخرج إلى موارد البِرَك التى يغسل الناس فيها الفُجْل والخسّ والجزر والبَقْل فألتقط منها ما يكفينى ذلك اليوم مما أعرضوا عنه، وأشرب عليه من ذلك الماء، وأشكر الله تعالى على ذلك. وكنت لا آكل طعام فقير لا كَسْبَ له من المتعبدين فى الزوايا من غير كبير اشتغالٍ خشيةَ أن يكون ممن يأكل بدينه وهو لا يشعر. وكذلك كنت لا آكل طعام قاضٍ ولو كان من أهل الدين لـِمَا عساه أن يقع فيه عند الحاجة من قبول هدايا الناس. ثم إنى تركت أكل طعام كل من يمسك الميزان والكيل والذراع. ثم طويت عن طعام جميع الناس فلا آكل إلا عند أوائل درجة الاضطرار، وذلك حين لا تجد أمعائى شيئا تشتغل به، فيلذع بعضها بعضا. وكنت إذا افتتحت مجلس الذكر بعد العشاء لا أختمه إلا عند طلوع الفجر، ثم أصلى الصبح وأذكر إلى ضحوة النهار، ثم أصلى الضحى وأذكر حتى يدخل وقت الظهر، فأصلى الظهر ثم أذكر إلى العصر، ومن صلاة العصر إلى المغرب، ومن صلاة المغرب إلى العشاء... وهكذا. فمكثت على ذلك نحو سنة. وكنت كثيرا ما أصلى بربع القرآن بين المغرب والعشاء، ثم أتهجّد بباقيه فأختمه قبل الفجر. وربما صليت بالقرآن كله فى ركعة. وربما نزلت بثيابى فى الماء البارد فى الشتاء حتى لا يأخذنى نوم" . وهذا كله كلام فارغ لا يمكن أن يقنع قطة، اللهم إلا إذا خلعنا عقولنا من رؤوسنا ورمينا بها فى أقرب مقلب زبالة. والحمد لله أن مقالب الزبالة فى بلادنا كثيرة هذه الأيام وموجودة فى كل مكان على قفا من يشيل.
ثم إذا كانت الآيات الخارقة بهذه السهولة فلماذا يا إلهى ينفرد المسلمون بالتخلف الحضارى منذ وقت طويل دون أن ينفعهم وجود هؤلاء المتصوفة ذوى الكرامات بين ظَهْرانَيْهِمْ؟ لماذا مثلا لا يطير واحد من متصوفة عصرنا عبر حدودنا مع الأرض المحتلة ويفتح الأبواب والخزائن والصناديق فى وزارة الدفاع اليهودية، ويأتينا بأسرار العدو العسكرية وكم مدفعا على كم صاروخ طويل المدى على كم قنبلة نووية على كم طائرة يدسها فى جيبه أو يضعها فى مخلاته التى على ظهره حتى نستطيع ضرب دولة العدو فى مقتل؟ ويا حبذا لو عرّج فى طريقه على البنك الوطنى لآل صهيون وسحب لنا عدة مليارات تنفعنا فى زنقتنا الراهنة وتفك عن الشعب ضيقته، فيشمّ نفسه قليلا. وإذا كان هذا كله هو عمل متصوف واحد فما بالكم لو قامت به عدة جماعات؟ لا ريب أنهم سوف يخربون بيت إسرائيل بهذه الطريقة ويضعون حدا للمعاناة التى يقاسيها إخواننا الفلسطينيون المظلومون. أم إن كرامات الصوفية تنحصر فقط فى الطيران المحلى لا الدولى؟
وخذ هذه الكرامة الظريفة التى نحن الآن فى أشد الحاجة إليها، إذ نحن خارجون من ثورة، والجماهير عاصية فاقدة للصبر لا تريد أن تنتظر حتى تدور عجلات الإنتاج ويفيض الخير، وفى ذات الوقت لا تريد أن تشتغل، ثم هى مع ذلك تريد زيادة المرتبات وتوفير اللحوم والفواكه بأسعار رخيصة، وكل ذلك قبل انتهاء مهلة المائة يوم التى شرطها رئيس الجمهورية الجديد على نفسه حين رأى منافسه يَعِدُ الناس بإعادة الأمن فى يوم وليلة لا غير. ذلك أن صاحب الكرامة الهلاس يدعى ببجاحة عين أنه كلما توضأ سال الماء منه قضبانا من الذهب . تاهت إذن والتقيناها! تعال يا سيدى يا صاحب الكرامة الذهبية وحول لنا أنهارنا وترعنا ومصارفنا إلى قضبان وسلاسل وحلقان وغوايش وماشاءاللاهات وبروشات وعقود ذهبية بدلا من الماء الملوث المنتن فى تلك القنوات والترع والأنهار، وخَلِّ الغَلاَبَى يفرحوا قليلا بدنياهم وتتزين نساؤهم وبناتهم بذهب حقيقى بدلا من الذهب القشرة، والذهب الصينى الذى هَلَّ علينا فى السنوات الأخيرة. نعم خَلِّهم يقبّون على وجه الدنيا من نفسهم مرة، فيكتب الله لك أجرا عظيما، فإنما تُرْزَقون بضعفائكم.
كما أن هذه الكرامة سوف تحل المشكلة الأزلية المتمثلة فى أن شعوبنا لا تحب أن تعمل شيئا، وإذا عملت لا تتقن ما تعمله، لأن الناس كلهم سوف يكون عندهم من الذهب ما يمكِّنهم من العيش الرخىّ الكسول من هنا حتى يوم الدين دون أى عمل متقن أو غير متقن. والطريف الذى يُبْكِى من الغيظ ويفقع المرارة أن صوفيًّا زميلا لصاحب الكرامة لم يشأ أن يفوِّت له هذه "الـمَعْرَة"، فحقّر من شأن القضبان الذهبية قائلا إنها لعب عيال لا يساوى شيئا. خلاص يا سيدى! اتركوا لنا لعب العيال هذا، وانصرفوا أنتم إلى جِدّ الرجال! نحن متواضعون فى تطلعاتنا وأحلامنا ومطالبنا، ويكفينا أن تتحول مياهنا إلى ذهب، وبخاصة أننا، كما تعلم، شعوب لا تحب العمل وتعب القلب والـخَوْتَة الكذابة التى تشغل أنفسها بها الشعوب المتحضرة.
وما دمنا فى أوكازيون الخوارق والعجائب فلنأخذ هذه أيضا، فلن تضرّ: يُرْوَى عن أبى يزيد البسطامى أن أستاذه أبا على السندى دخل عليه مرة بجراب فى يده صَبَّ محتوياته بين يديه، فإذا جواهر من كل نوع، فسأله أبو يزيد: من أين لك هذا؟ فقال: وافيتُ واديا قريبا من هنا، فإذا به يفيض بالجواهر التى تضىء كالسراج، فقلت: أحمل منها قليلا. فعاد أبو يزيد يسأله كى يغيظنى أنا وأمثالى: كيف كان وقتك؟ (أى كيف كانت حالتك الروحية آنذاك؟)، فأجابه بتواضع عظيم لا يتواضعه إلا الصوفيون أصحاب الكرامات: كان وقتى وقت فترة (أى خمول) عن الحال الذى كنت فيه قبل ذلك . يريد أن يقول إن هذه الجواهر التافهة إنما هى ثمرة خموله الروحى، ولو كان نشيطا لكان له وضع آخر. وهو، كما ترى، كلام جميل، لكنه ليس أكثر من كلام. وهل على الكلام جمرك كما تقول العامة؟
ومن المضحك الذى يعكر المزاج الرائق أن بعض الكتاب فى عصرنا يرددون ما يقوله المتصوفة عن الكرامات التى تقع لهم، كعبد الحفيظ فرغلى على القرنى، الذى كرر فى كتابه عن الشعرانى تكريرَ المصدِّق أن الشعرانى، لما ترقى فى معراج الروحانية، كان يطير من سطح مسجد الغمرى بالقاهرة إلى سطح بيته . الله أكبر! هل هذا معقول؟ لكن الأستاذ القرنى يؤكد أن الكرامات قد أيدها العقل والنقل . وفى كتاب "اللُّمَع" للسراج الطوسى باب لهذه النقطة يقول فيه إن "أهل الظاهر" من علماء المسلمين ينكرون وقوع مثل تلك الأشياء لغير الأنبياء، ثم يقوم هو بالدفاع عن الرأى المضاد، رأى المتصوفة، وملخصه أن هذا جائز للأولياء أيضا مع بعض الفروق بينه حين يقع على أيديهم وبينه حين يقع على أيدى النبيين .
وأنا لا أحب الجدال فيما يمكن أن نحسمه على أرض الواقع، التى هى أفضل من ملايين المجادلات، وأقول دائما لمن يزعم وقوع الكرامات منه أو من غيره: لماذا لا يستخدم أصحاب الكرامات كراماتهم فيما يفيد الأمة بدلا من تلك الأشياء التى لا تقدم ولا تؤخر؟ هاكم إسرائيل مثلا، فأرونا كراماتكم فى هزيمتها وإزالتها مراغمةً للكفار الذين أَرَوْنا عجائب قدرتهم العلمية والسياسية والعسكرية فى إقامتها والحفاظ عليها حتى يوم الناس هذا وسط مئات الملايين من المسلمين، والمسلمون بحمد الله فيهم من أهل الطريق أصحاب الكرامات هذه الأيام ما يكفى لأداء هذه المهمة الجليلة وزيادة! ونترك لهم تدبير الوسيلة التى يزيلونها بها: دعاءً ضدها، أو نفثًا تجاهها، أو تَفْلاً عليها، أو ترابًا يحثونه فى وجوه أهلها، أو أى شىء آخر مما يَرَوْن أنه كفيل بأداء تلك المهمة المهمة! ثم إن للصوفيين عند أمريكا لمنزلةً، وأى منزلة! فلِمَ لا يستغلونها لتنفيذ هذا الأمر الذى عَىَّ به العرب والمسلمون أجمعون، وحاق بهم من جرائه الكوارث التى لم تكن تخطر لهم على بال؟ وقد تستجيب أمريكا لهم فتكفيهم الدعاء والنفث والتفل وحث التراب، وكفى الله المتصوفين القتال!
أما الكرامات التى من شاكلة الكرامتين التاليتين المنسوبيتن للسراج صاحب "اللُّمَع" من النوع التالى فلا حاجة لنا بها، وليبلها من يصدقون بها ويشربون ماءها، فلعلها أن تشفيهم من الاعتقاد فى هذه الخرافات المضحكة: تقول الكرامة الأولى إن السراج وفد فى رمضان إلى بغداد، وسكن فى غرفة خاصة به فى أحد المساجد هناك، وأَعْطَوْه رئاسة الدراويش، فكان الخادم يأتيه كل ليلة برغيف ويتركه له فى غرفته، ليفاجأ الناس يوم العيد بعد رحيله بأن الثلاثين رغيفا باقية كما هى لم تمس. أى أن الرجل لم يأكل طوال ثلاثين يوما، وأنه قد صلى وقرأ القرآن خمس مرات فى صلاته بالناس فى التراويح، وكان يذهب هنا وهناك ويتحرك طوال الشهر، دون أن تدخل معدته لقمة واحدة. يا للجبروت! فهكذا تكون التقوى، وإلا فلا. ويريد المتصوفة أن نصدق هذه الترهات! أنا أميل، إن صحت الرواية، وأنا لا أصححها أبدا، أن السراج قد عاف الرغيف القرداحى الذى كانوا يتعطفون به عليه وكأنه وليمة فيها ما لذ وطاب، فلم يقربه، وكان هناك من يمده فى السر بشهى الطعام بدلا من هذا الطعام الجَشِب.
أما الكرامة التالية فخذ حذرك حتى لا تسقط من الرعب، إذ يحكى السذج أو الخبثاء (لا فرق!) أن السراج أيضا، خلال محادثاته فى التصوف ذات مرة، أخذه الحال فقذف بنفسه فى نار موقدة وهو يدعو الله، فلم تلفح له وجها، ولم تحرق له ثوبا . يحكى القصة من حكاها بكل برود وجمود وجه. لكن هل يظن أننا يمكن أن نصدق قصة كهذه ونعتقد أن الله نجى السراج من الحريق، وهو سبحانه وتعالى قد حذرنا من رمى أنفسنا بأيدينا إلى التهلكة؟ هل يريد هؤلاء الملتاثون أن نصدق أن عواطف السراج الدينية أقوى من عواطف النبى وصحابته؟ وإلا فلماذا لم يقدم أى منهم على مثل ذلك التصرف المخبول، الذى كنت أود أن يحترق فيه السراج حتى يريح ويستريح بدلا من هذا التخلف الأزلى؟
حتى الغيب ادَّعَوْا أن بمستطاعتهم الاطلاع عليه. يقول د. عبد الحليم محمود فى كتابه: "قضية التصوف- المدرسة الشاذلية" عن عبد الفتاح القاضى محفظ القرآن فى قرية شِبْلِنْجَة ، الذى يعده من العارفين بالله: "سأله مرةً سائلٌ فى قوله تعالى: "إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" قائلا: كيف يتفق أن النفس لا تدرى ما تكسب غدا مع ما يختص الله به أولياءه من أسرارِ ومغيَّباتِ المستقبل؟ فكان جوابه فى إيجاز بليغ: لقد قال سبحانه: "وما تدرى نفس"، ولم يقل: "روح". وإيضاح ذلك كما سمعناه ونرويه بالمعنى لا باللفظ أن النفس، بما غطى الله عليها من ران الطباع وما غشاها به من كثافة ذميم الخصال، لا يمكن أبدا أن تدرك شيئا من أسرار الله. وهذه هى النفس المرادة فى الآية. فإذا ما ارتقت من نفس أمارة بالسوء إلى نفس لوامة، ومن لوامة إلى مُلْهَمَة، ومن مُلْهَمَة إلى مطمئنّة، ومن مطمئنّة إلى راضية، ومن راضية إلى مَرْضِيّة دخلت فى حيز النفس الكاملة. وحينئذ تكون قد تخلصت من ران الطباع وكثافة ذميم الخصال، ولا يتحكم الجسد فيها، ويكون صاحبها روحانيا. وهذه المرتبة هى التى تسمى فيها النفس: روحا. والروح سر من أسرار الله، ولأنها سر الله فهى درّاكة عالمة بما كان وما يكون. فإذا وصل صاحبها إلى هذه المرتبة انكشف الغطاء ورأى أمامه غرائب الماضى وخفايا الحاضر وعجائب المستقبل. وكل روح فى أصلها كذلك. فإذا ما غيبت فى الجسد سيطر عليها بكثافة، وغطى ما تحويه من أسرار. فمن جاهد وأخرجها من هذه الكثافة عاد بها إلى أصلها، واستحقت أن تنادى: "يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعى إلى ربك راضية مرضيّة * فادخلى فى عبادى وادخلى جنتى". وأولياء الله الذين اختصهم بأسراره منهم من وصل إلى هذه المرتبة، ومنهم من تجازوها. وبذلك تنجلى الشبهة فى السؤال، ولا تعارض الآية ما يختص الله به أحبابه من أسرار. فهم علماء الله بحق، الذين عناهم بقوله: "وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون فى العلم". وهم بعينهم الذين تناولتهم الآية الكريمة: "إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ"..." .
والحق أننى لا أدرى كيف يمكن تفسير الآية بهذا الكلام الغريب! إن كلمة "نفس" فى الآية وفى جميع السياقات المشابهة إنما تعنى "الإنسان"، وإلا فمعنى ذلك أن أصحاب النفوس التى غطى عليها الران وغَشِيَتْها كثافةُ الخصال الذميمة هم وحدهم الذين يجهلون الغيب ولا يعرفون ماذا يكسبون غدا ولا بأى أرض يموتون، أما غيرهم فيعرفون الغيب ولا يجهلون شيئا مما يقع لهم فى المستقبل. أليس كذلك؟ فأين يا ترى نضع رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذى لا يصل القاضى ولا كل القضاة فى العالم إلى موطئ قدمه فى الروحانية والتجرد؟ لقد أكد القرآن أنه، عليه الصلاة والسلام، لا يعلم الغيب ولا يدرى ما يُفْعَل به ولا بأى واحد من المسلمين حسبما تقول الآية 50 من سورة "الأنعام" والآية 188 من سورة "الأعراف" والآية 9 من سورة "الأحقاف" وغيرها من الآيات. أم إن القاضى يظن أنه أرفع درجة من الرسول الكريم؟ كذلك نسمعه يقول إن من أولياء الله الذين اختصهم بأسراره منهم من وصل إلى هذه المرتبة، ومنهم من تجازوها. ومعنى ذلك أن هناك درجة أخرى وراء علم الغيب قد وصل إليه من تجاوز هذه المرتبة. فما تلك الدرجة يا ترى؟ الحق أن هذا كلام متفلت خارج أسوار العقل.
كما أنه يخلط بين قوله تعالى فى الآية السابعة من سورة "آل عمران": "وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون فى العلم" وبين علم الغيب مع أن الأمرين مختلفان: فالآية تشير إلى أن فى القرآن آيات متشابهات لا يعلم تأويلها سوى الله والعلماء الراسخين فى العلم لأن هؤلاء العلماء يتميزون باستفاضة المعرفة ولطف الفهم ودقة التفسير، ولا علاقة لها بعلم الغيب. إلا أن الشيخ القاضى يخلط بين الأمرين اللذين لا توجد بينهما أية صلة فيفسد الأمر إفسادا شنيعا ما كان أغناه عنه لو لزم حدوده ولم يُفْتِ فيما لا علم له به. بل إن بعض المفسرين يقولون إن تلك الآيات التى تشير إليها الآية لا يعلم تأويلها إلا الله وحده. أما جملة "والراسخون فى العلم يقولون: آمنا به، كل من عند ربنا" فهى جملة مستأنفة لا علاقة لها بما مضى. أى أن الواو التى فى أولها ليست واو عطف بل واو استئناف. إلا أن الشيخ طبعا لا يعرف شيئا من هذا، فيفتى على مزاجه ظنا منه أنه أتى بما لم تأت به الأوائل ولا الأواخر.
وفى تفسير الطبرى مثلا: "وقال آخرون: بل الـمُـْحَكم من آي القرآن ما عرف العلـماء تأويـله وفهموا معناه وتفسيره، والـمتشابِه ما لـم يكن لأحد إلـى علـمه سبـيـل مـما استأثر الله بعلـمه دون خـلقه، وذلك نـحو الـخبر عن وقت مخرج عيسى ابن مريـم، ووقت طلوع الشمس من مغربها، وقـيام الساعة، وفناء الدنـيا، وما أشبه ذلك، فإن ذلك لا يعلـمه أحد... القول فـي تأويـل قوله تعالـى: "وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالراسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مّنْ عِندِ رَبّنَا": يعنـي جل ثناؤه بذلك: وما يعلـم وقت قـيام الساعة وانقضاء مدة أجل مـحمد وأمته وما هو كائن إلا الله دون من سواه من البشر الذين أمّلوا إدراك علـم ذلك من قِبَل الـحساب والتنـجيـم والكهانة. وأما الراسخون فـي العلـم فـيقولون: آمنا به كل من عند ربنا. لا يعلـمون ذلك، ولكن فضل علـمهم فـي ذلك علـى غيرهم العلـم بأن الله هو العالـم بذلك دون من سواه من خـلقه. واختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك، وهل "الراسخون" معطوف علـى اسم الله، بـمعنى إيجاب العلـم لهم بتأويـل الـمتشابه، أو هم مستأنَفٌ ذكرهم، بـمعنى الـخبر عنهم أنهم يقولون: آمنا بـالـمتشابه، وصدّقنا أن علـم ذلك لا يعلـمه إلا الله؟ فقال بعضهم: معنى ذلك: وما يعلـم تأويـل ذلك إلا الله وحده منفردا بعلـمه. وأما الراسخون فـي العلـم فإنهم ابتُدِىء الـخبر عنهم بأنهم يقولون: آمنا بـالـمتشابه والـمـحكم، وأن جميع ذلك من عند الله...
فمن قال القول الأول فـي ذلك، وقال: إن الراسخين لا يعلـمون تأويـل ذلك، وإنـما أخبر الله عنهم بإيـمانهم وتصديقهم بأنه من عند الله، فإنه يرفع "الراسخين فـي العلـم" بـالابتداء فـي قول البصريـين، ويجعل خبره "يقولون آمنا به"، وأما فـي قول بعض الكوفـيـين فبـالعائد من ذكرهم فـي "يقولون"، وفـي قول بعضهم بجملة الـخبر عنهم، وهي "يقولون". ومن قال القول الثانـي، وزعم أن الراسخين يعلـمون تأويـله عَطَف بــ"الراسخين" علـى اسم الله، فرفعهم بـالعطف علـيه. والصواب عندنا فـي ذلك أنهم مرفوعون بجملة خبرهم بعدهم، وهو "يقولون" لـِمَا قد بـينا قبلُ من أنهم لا يعلـمون تأويـل الـمتشابه الذي ذكره الله عز وجل فـي هذه الآية، وهو فـيـما بلغنـي مع ذلك فـي قراءة أُبـيّ: "ويقول الرَّاسِخُونَ فِـي العِلْـمِ" كما ذكرناه عن ابن عبـاس أنه كان يقرؤه. وفـي قراءة عبد الله: إنْ تأويـله إلا عند الله. والراسخون فـي العلـم يقولون".
كذلك فعندنا أيضا فى كلام الشيخ عبد الفتاح القاضى "النفس الكاملة"، التى تخلصت من ران الطباع وكثافة ذميم الخصال، ولا يتحكم الجسد فيها، ويكون صاحبها روحانيا حسب كلامه، فهو يزعم أن النفس فى هذه المرتبة تسمى: روحا، مضيفا أن الروح سر من أسرار الله. وفى هذا إشارة إلى أمر القرآن للنبى عليه السلام أن يقول ردا على من سألوه عن الروح: "الروح من أمر ربى" . لكن كيف يا ترى توصل الشيخ إلى أن النفس حينئذ تنقلب روحا؟ هل قال ذلك القرآن؟ هل قالته أحاديث رسول الله؟ لا طبعا. وما دام الأمر كما قال فمعنى هذا أن الإنسان، متى لم يتخلص من الران، ليس له روح؟ فهل هناك إنسان بلا روح؟ فكيف يحيا يا ترى؟ فهأنت ذا، أيا القارئ الكريم، ترى الرجلَ يُدْخِل نفسَه فى مضايق لا يمكنه التفلص منها.
ثم هل الروح التى يتحدث عنها القرآن، والتى من الواضح أن الشيخ يشير إليها فى حديثه ذاك، هى الروح الإنسانية؟ يذكر الطبرى قولين فى ذلك: أنها هى جبريل، أو أنها ملك آخر من الملائكة. وبالمناسبة فلم تأت "الروح" فى القرآن بمعنى الروح الإنسانية البتة. وحتى لو افترضنا أن الروح التى سأل اليهود عنها رسول الله هى الروح الإنسانية لقد ذكر الطبرى فى إحدى رواياته "أن الـيهود قالوا للنبـي صلى الله عليه وسلم: "أخبرنا ما الروح، وكيف تعذّب الروح التـي فـي الـجسد، وإنـما الروح من الله عزّ وجلّ"، ولـم يكن نزل علـيه فـيه شيء، فلـم يُحِرْ إلـيهم شيئا، فأتاه جبرئيـل علـيه السلام، فقال له: "قُلِ الرُّوحُ مِنْ أمْرِ رَبّـي وَما أُوتِـيُتـمْ مِنَ العِلْـمِ إلاَّ قَلِـيلاً"، فأخبرهم النبـيّ صلى الله عليه وسلم بذلك"، وهو ما ينسف كل ما قاله الشيخ القاضى نسفا، إذ ها هى ذى الروح (لا النفس) تتعرض للعذاب يوم القيامة حسب ما جاء فى السؤال، ولم ينف القرآن ذلك، بل كل ما قاله أنها "من أمر ربى" .
وفى الحديث أن الروح كما تكون طيبة تكون خبيثة ويعذب صاحبها، وتهمنا هذه الأخيرة. وفيها يقول الرسول عليه السلام: "فإن كان (الشخص) فاجرا، وكان في إقبال من الآخرة وانقطاع من الدنيا، جاء ملك فجلس عند رأسه فقال: اخرجي أيتها النفس الخبيثة. أبشري بسخط من الله وغضبه. فتنزل الملائكة سود الوجوه معهم مسوح من نار، فإذا قبضها الملك قاموا فلم يدعوها في يده طرفة عين. قال: فتفرّق في جسده فيستخرجها، تقطع منها العروق والعصب كالسفود الكثير الشعب في الصوف المبتل، فتؤخذ من الملك فتخرج كأنتن جيفة وُجِدَتْ، فلا تمر على جند فيما بين السماء والأرض إلا قالوا: ما هذه الروح الخبيثة؟ فيقولون: هذا فلان بأَسْوَإِ أسمائه حتى ينتهوا به إلى سماء الدنيا فلا يفتح لهم، فيقولون: ردوه إلى الأرض. إني وعدتهم أني منها خلقتهم، وفيها نعيدهم، ومنها نخرجهم تارة أخرى. قال: فيرمي به من السماء. قال: وتلا هذه الآية: "ومن يشرك بالله فكأنما خَرَّ من السماء فتَخْطَفُه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق". قال: فيعاد إلى الأرض وتعاد فيه روحه، ويأتيه مَلَكان شديدا الانتهاز، فينتهزانه ويُجْلِسانه فيقولان: من ربك؟ وما دينك؟ فيقول: لا أردي. فيقولون: فما تقول في هذا الرجل الذي بُعِث فيكم؟ فلا يهتدي لاسمه، فيقال: محمد. فيقول: لا أدري. سمعت الناس يقولون ذلك. قال: فيقال: لا دريت. فيضيَّق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه، ويمثل له عمله في صورة رجل قبيح الوجه منتن الريح قبيح الثياب، فيقول: أبشر بعذاب الله وسخطه. فيقول: من أنت، فوجهك الذي جاء بالشر؟ فيقول: أنا عملك الخبيث. فو الله ما علمتك إلا كنت بطيئا عن طاعة الله، سريعا إلى معصية الله. قال عمرو في حديثه عن المنهال عن زاذان عن البراء عن النبي صلى الله عليه وسلم: فيقيَّض له أصم أبكم بيده مرزبة لو ضُرِب بها جبل صار ترابا، أو قال: رميما، فيضربه به ضربة تسمعها الخلائق إلا الثَّقَلَيْن، ثم تعاد فيه الروح فيضرب ضربة أخرى...". ومن هذا الحديث يتبين لنا أن ما قاله الشيخ القاضى لا يصح أبدا.
والواقع الذى يعرفه كل إنسان أنه كما أن للمؤمنين أرواحا فكذلك للكفار والمنافقين أرواح. فكيف يزعم الشيخ القاضى أن الروح هى النفس المطهرة التى ليس عليها ران؟ معنى هذا ببساطة أن نفوس الكفرة وأهل النفاق لا يغشاها ران. فهل يقول بهذا عاقل؟ جاء فى الحديث الشريف: "إنَّ المؤمنَ إذا احتُضِر أتتهُ ملائكةُ الرحمةِ بحريرةٍ بيضاءَ فيقولونَ: اخرُجي راضيةً مرضيًا عنكِ إلى رَوْحٍ وريحانٍ وربٍّ غيرِ غضبانٍ، فتخرج ُكأطيبِ ريحِ مسكٍ حتى إنهم ليناوِلُه بعضُهم بعضًا يشمُّونهُ حتى يأتوا به بابَ السماءِ فيقولونَ: ما أطيبَ هذهِ الريحِ التي جاءتكُم من الأرضِ! وكلما أتَوْا سماءً قالوا ذلك حتى يأتوا بهِ أرواحَ المؤمنِينَ، فلَهُمْ أفرحُ بهِ من أحدِكمْ بغائبِهِ إذا قدِم عليهِ، فيسألونَهُ: ما فعل فلانٌ؟ قال: فيقولونَ: دعوهُ حتى يستريحَ، فإنه كان في غمِّ الدنيا. فإذا قال لهم: "ما أتاكُم؟ فإنهُ قد ماتَ" يقولونَ: ذُهِبَ به إلى أمهِ الهاويةِ. وأما الكافر فإن ملائكةَ العذابِ تأتيه فتقولُ: اخرُجي ساخطةً مسخوطًا عليكِ إلى عذابِ اللهِ وسخطهِ. فتخرجُ كأنتنِ ريحِ جيفةٍ، فينطلقون بهِ إلى باب الأرضِ فيقولون: ما أنتنَ هذه الريحِ! كلما أتَوا على أرضٍ قالوا ذلك حتى يأتوا بهِ أرواحَ الكفارِ"... (يتبع)
 
"عبد الحليم محمود والتصوف" (الثانى والأخير) بقلم إبراهيم عوض

"عبد الحليم محمود والتصوف" (الثانى والأخير) بقلم إبراهيم عوض

"عبد الحليم محمود والتصوف" (الثانى والأخير)
بقلم إبراهيم عوض


ولا تقتصر حكايات الصوفية المنافية للمنطق وسُنَّة الحياة على هذا، بل تمتد إلى المبالغات المقيتة التى لا تدخل العقل أو تدل على التنطع. ومن تلك المبالغات قول المتصوفة إن والد أبى اليزيد البسطامى، حين زُفَّ إلى أُمّ أبى يزيد، لم يقربها أربعين يوما وليلة حتى علم أنه لم يبق فى جوفها مما أكلته عند أبيها شىء. ولهذا فحين باشرها حبلت بمثل أبى اليزيد فى التقوى والعفاف والإخلاص . ومن الواضح أن المقصود هو القول بأن والد البسطامى كان رجلا تقيا متحرجا حتى إنه لم يقرب زوجته إلا بعد التيقن من أنها قد تخلصت من كل أثر للطعام الذى تناولته فى بيت أبيها، خشية أن يكون قد دخل فى بطنها شىء من الحرام فيأتى الولد فاسدا منحرفا. وهو تصور عجيب، وتصرف لم نسمع أن النبى أو أيا من الصحابة قد عمله. وفوق هذا فيه إساءة ظن من والد البسطامى برجل من رجال المسلمين دون أدنى داع، وهو حَمُوه، اللهم إلا إذا كان يعرف أن زوجته تعتزى إلى بيت يأكل الحرام. وعندئذ يكون إصهاره إلى هذا البيت شيئا يؤخذ عليه ويعاب به. أليس كذلك؟ ثم كيف عرف أن زوجته قد تخلصت من أثر الطعام الحرام؟ نحن نعرف أنه ما من طعام أو شراب نأكله إلا ويدخل فى تركيب جسدنا ويصبح جزءا لا يتجزأ منه، اللهم إلا الفضلات التى تخرج من أبداننا بعد الهضم والتمثيل. أى أن أم أبى اليزيد لا فكاك لها من بقاء الطعام الحرام فى جسدها مهما فعل زوجها أو فعلت هى. ومعنى هذا أن ما اتخذه الرجل من احتياطات هو عبث ضائع. ثم ما ذنب الزوجة إذا كان أبوها قد أطعمها شيئا حراما دون علم، ومن ثم دون رضا، منها؟ وما ذنب الحفيد فيما فعله جده أبو أمه؟ أليس فى القرآن أنه لا تزر وازرة وِزْر أخرى؟ ومن قال إن التقوى تتوقف على ما أكلته الأم؟ ثم هل والد البسطامى متيقن من أن كل ما دخل بطنه هو كان حلالا زلالا لا شائبة فيه؟ كيف يا ترى؟ وهل يريد الله سبحانه إعناتنا إلى هذا الحد لا لشىء إلا لوسواس خناس ليس له أى أساس؟ وهل يستطيع شاب متزوج لتوه، وامرأته بين يديه، أن يفطم نفسه أربعين يوما عن معاشرتها؟ أما أنا فلا يدخل هذا الكلام عقلى، وأراه تنطعا لم يقل به الدين، ولا يقول به العقل، ولا تقبله الحياة. وإذا كان من قالوا هذا يظنون أنه يحببنا فى أسلوب حياة المتصوفين ويغرينا بتقليدهم ومتابعتهم فى فكرهم وسلوكهم، فليعرف هؤلاء إذن أن النتيجة عند الكثير منا سوف تأتى عكس ما يريدون .
ومن هذه المبالغات المقيتة ما قاله بعضهم من أنه كان جالسا يوما خلف أبى يزيد البسطامى، إذ شهق شهقة فرأى أن شهقته تخرق الحجب بينه وبين الله، فقال له: يا أبا يزيد، رأيتُ عجبا. فقال: يا مسكين، وما ذاك العجب؟ فقال: رأيت شهقتك تخرق الحجب حتى وصلت إلى الله تعالى. فقال: يا مسكين، إن الشهقة الجيدة هى التى إذا بدت لم يكن لها حجاب تخرقه . ترى بالله كيف يمكن أن يرى إنسان ما تحدثه الشهقة ما بين شاهقها وربه؟ إنها شهقة، وليست صاروخا نوويا! والله لو كانت جيوشا نووية كاملة ما اخترقت شيئا مما يحجب البشر عن ربهم. فالله لا يحجبه حجاب مادى حتى تخرقه القنابل. ثم إنه سبحانه لا تدركه الأبصار أبدا، فكيف إذن عرف ذلك الفَشّار أن شهقة أبى يزيد قد اخترقت تلك الحجب؟ ولنلاحظ أن أبا يزيد يعزف مع الرجل ذات النغمة!
ومنها كذلك أن أبا يزيد كان يصلى ذات يوم وراء إمام، فسأله الإمام بعد التسليم من الصلاة: من أين تأكل؟ فكان جوابه: اصبر حتى أعيد صلاتى، فإنك شككت فى رزق المخلوق، ولا تجوز الصلاة خلف من لا يعرف الرازق . وواضح أن الإمام لا يشك فى أن الله هو الرازق، بل يستغرب كيف يحصل أبو يزيد على رزقه دون أن يكون له عمل يرتزق منه مثلا، إذ لا يصح أن يثقل المسلم على غيره من العباد يُطْعِمونه ويُلْبِسونه ويُؤْوُونه دون أن يقوم هو بعمل يتكسب منه. إلا أن أبا يزيد، كيلا يجيب على سؤاله المحرج، يتظاهر بأن كلام الإمام قد أفسد صلاته.
ومنها كذلك ما رُوِىَ عن أخت بشر الحافى، وكانت تشتغل بغزل الصوف، من أنها قصدت أحمد بن حنبل ذات مرة فقالت: إنا قوم نغزل بالليل، ومعاشنا منه، وربما يمر بنا مشاعل بني طاهر ولاة بغداد، ونحن على السطح، فنغزل في ضوئها الطاقة والطاقتين. أفتُحِلّه لنا أم تحرّمه؟ فقال لها: من أنت؟ قالت: أخت بشر. فقال: آه يا آل بشر! لا عَدِمْتُكم! لا أزال أسمع الورع الصافي من قِبَلكم" . ولا شك أن القارئ يوافقنى على أن هذه مبالغة مقيتة تدل على تنطع لا يمكن قبوله.
ومثل ذلك ما قاله أبو علىّ الرازى عن الفُضَيْل بن عياض: "صحبت الفضيل ثلاثين سنة ما رأيته ضاحكا ولا متبسما إلا يوم مات ابنه علي، فقلت له في ذلك، فقال: إن الله أحبَّ أمرا، فأحببت ذلك" . ترى هل يكون إنسانا طبيعيا من لا يضحك ولا يبتسم طوال ثلاثين سنة؟ وهل فى مثل هذا الأمر ما يبعث على المدح والثناء؟ أترى النبى عليه الصلاة والسلام يحب ذلك من أحد؟ وهل كان الرسول عليه السلام لا يبتسم حتى يحرص الفضيل على عدم الابتسام بوصفه صلى الله عليه وسلم المثال الأعلى للمسلمين؟ وأى حياة تلك التى لا يبتسم فيها صاحبها طوال عشرات السنين؟ أويظن قائل هذا الكلام أنه يحببنا بذلك فى التكشير والتجهم والكآبة؟ معاذ الله! لقد كان النبى عليه السلام بساما بشوشا حتى لقد شاعت بين العوام عبارة "النبى تبسَّم". والعجيب الغريب، بل الشاذ المقيت، أن الفضيل، طبقا لما أخبرَناه أبو على الرازى، لم يبتسم فى حياته البتة إلا لموت ابنه. وأَشَذُّ وأَمْقَتُ من ذلك كله التعليل الذى نُسِب له فى هذا، إذ قال إنه تبسم لأن الله أحب أن يأخذ ابنه، فسره ذلك لأن هذه مشيئة الله. وهو ما يعنى أنه أفضل من نبينا ونبيه، الذى تألم أشد الألم يوم مات ابنه إبراهيم. ثم ألم يحب الله شيئا طوال هذه السنوات الثلاثين كى يبتسم له الفضيل؟ إن كل ما يحدث فى الدنيا إنما هو بمشيئة الله، فلم لا يبتسم الفضيل طوال الوقت إذن ما دامت مشيئة الله وراء كل شىء؟ ومن هذا يتبين لنا أن ما قاله الرازى، حدث أم لم يحدث، هو مبالغة بلغت الغاية فى السخف والغثاثة. ومثله ما حكاه أبو على الدقاق عن خير النساج من أنه اكتحل بكذا وكذا من الملح ليعتاد السهر ولا ينام وهو يعبد الله . هل رأيتم كذبا وجمود وجه مثل هذا الكذب والجمود؟
وخذ هذه أيضا: فقد قال أحد المتصوفة الواسعى الخيال والذمة: "ربما كنت أقرأ فى ابتداء أمرى فى ركعة واحدة عشرة آلاف مرة "قل هو الله أحد"، وربما كنت أقرأ فى ركعة واحدة القرآن كله، وربما كنت أصلى من الغداة إلى العصر ألف ركعة" . ولا أريد أن أعلق على هذا الكلام السخيف إلا بسؤال وحيد: ترى كيف استطاع أن يعد ألف "قل هو الله أحد" فى الصلاة؟ أهو فى صلاة أم فى إحصاء؟ وكيف يحصى مثل هذا الرقم؟ ثم هل تتسع الركعة لقراءة "قل هو الله أحد" ألف مرة؟ فكم يأخذ ذلك من الوقت؟ وكم تأخذ الصلوات الخمس إذن؟ وأى صلاة هذه التى لا نعرف أن النبى عليه الصلاة والسلام قد صلاها؟ وهل يتسع اليوم لمثل هذه الصلوات؟ وإذا كان يتسع، وهو بكل يقين، لا يتسع، فهل يتبقى له من اليوم وقت يمكنه قضاء حاجته فيه؟ قضاء حاجته فقط، ولا أزيد!
وهناك أيضا ما يسمى فى مصطلحات القوم بـ"الشَّطْح"، وهى عبارات خطيرة كثيرا ما تخرج قائلها عن العقيدة كما نعرف العقيدة ونفهمها، ويحاول المتصوفة بعد ذلك أن يؤولوها بحيث لا تصادم شيئا فى الدين، قائلين إن صاحبها يكون ساعتئذ مستغرقا فى الحضرة الإلهية فلا يستطيع أن يتحكم فى لسانه. وقد خصص د. عبد الحليم فصلا فى كتابه: "سلطان العارفين أبو يزيد البسطامى" لهذا الموضوع وقف فيه عند بعض تلك الشطحات محاولا الدفاع عمن تنسب إليهم، ومنهم أبو يزيد نفسه، الذى رُوِىَ عنه قوله: "صعدتُ إلى السماء، وضربتُ قبتى بإزاء العرش"، وقوله عندما سمع قارئا يتلو قوله تعالى: "إن بطش ربك لشديد": "بطشى أشد"، وقوله: "سبحانى! ما أعظم شانى!"، وغير ذلك. وقد حاول المحاولون الدفاع عن البسطامى إما بنفى ما نُسِب إليه من هذ الأقوال أو تأويلها بما يُبْعِد عنه عارها.
وقد أورد د. عبد الحليم محمود هذا الدفاع، فذكر أن بعض العلماء ينكرون أن يكون قد صدر عن البسطامى ذلك، ويؤكدون أن بعضهم قد نحله إياه كذبا وزورا. وقال بعض آخر إن أبا يزيد سليم الحال، أى ليس فى عقيدته شىء، وكل ما هنالك أنه ربما يكون قد تكلم بهذا الكلام بعد غلبة السُّكْر عليه مثلا. يقصدون أنه فى الحضرة الإلهية قد أصابه الذهول، فقال كلاما لا يقصده، مثلما قال مجنون ليلى عن نفسه إنه ليلى. أما من يُرِدْ أن يعرف الأمر كما وقع فلْيُجَاهِدْ مجاهدة أبى يزيد وليبلغ المرتبة التى بلغها، وعندئذ يفهم مرامى هذا الكلام .
ونبدأ بمن نَفَوْا صدور هذا الكلام عن أبى يزيد. وتعقيبنا عليهم هو أن المتصوفة كثيرا ما يقولون هذه العبارات، فيؤولها أمثالهم تأويلا يحاولون به إبعاد الشنعة عنهم. فليس أبو يزيد هو الوحيد الذى نُسِبَتْ إليه هذه العبارات الشنيعة، بل ذلك موجود عند أمثاله من المتصوفة، ويسمونه: "الشطح" كما قلنا، وهو مصطلح معروف عند الصوفيين لا ينكرونه أبدا، ويقدمون له تعريفا يحوله إلى المدح والتمجيد بدلا من العيب والتفنيد. وهم يعللون ذلك بأن الصوفى يكون مستغرقا فى الحضرة الإلهية بحيث لا يتنبه إلى ما يقول. وهو دفاع عجيب، إذ لو صح ما يقولون لقد كان أولى بهذا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ لا يمكن أحدا من الصوفية مهما ارتقى فى خلقه وسلوكه وروحانيته وشهوده، إن كان فعلا يشهد شيئا مما يقولون، أن يبلغ مبلغه صلى الله عليه وسلم، ومع هذا لم يحدث أن تفوه النبى بكلمة من هذه الكلمات الشنيعة. كذلك لم نعهد أحدا من الصحابة الكرام يصدر عنه شىء من ذلك الهراء، على عكس فريق من الصوفية بلبلوا عقولنا، وأشاعوا الاضطراب فى مفاهيم الناس عن الصلة بين الألوهية والعبودية.
وإذا كان حب الله يصل بالعبد إلى هذا فبالله ماذا يمكن أن يفعل العبد إذا كان كافرا يبغضه سبحانه؟ ذلك أن هذا الكلام لا يُتَصَوَّر صدوره عَمَّنْ يعرف قدر ربه، إذ كيف يساوى مثل ذلك الشخص نفسه بالله؟ الذى أفهمه أنه كلما زاد المؤمن قربا من الله وخضوعا له ازداد له إجلالا وتمجيدا وتعظيما، وشعر بعبوديته له أقوى ما يكون الشعور بالعبودية، إذ هو فى تلك الحالة إنما يشعر بها عن وعى بأبعادها لا عن تصور عام لها. أما ما وردَنا عن هذا النوع من الصوفية فهو على العكس مما يقول به العقل والمنطق والدين. والحق أننى أقترح، ما دام القرب من الله يؤدى إلى هذا الشطح الذى لا يقبله العقل ولا الدين، أن يفض المتصوفة سيرة هذا الأمر ويتصرفوا مثلنا نحن عباد الله المساكين المتواضعين الذين يعرفون حدودهم وموضعهم من ربهم فلا يجرؤون على التلفظ بشىء من هذا الكلام البشع.
وقد حاول ابن عربى، وهو من المتصوفة المنظور إليهم بعين الارتياب، أن يتلاعب بعبارات البسطامى الشطحية، ففسر تعليق البسطامى على آية "إن بطش ربك لشديد" بقوله: "بطشى أنا أشد" بـ"أن بطش العبد معرًّى عن الرحمة، فليس عنده، حالةَ بطشه، من الحرمة شىء. وبطش الحق بكل وجه فيه رحمة بالمبطوش به، فهو الرحيم له فى بطشه. والله سبحانه، حينما قال: "إن بطش ربك لشديد"، أعقب ذلك بقوله: "إنه هو يُبْدِئ ويُعِيد * وهو الغفور الودود". إنه سبحانه غفور ودود فى بطشه. وحينما تحدث عن بطش الإنسان قال سبحانه (والكلام عن عاد): "وإذا بطشتم بطشتم جبارين"، فبطش الإنسان فيه جبروت، وبطش الله فيه رحمة". كما دخل البسطامى على الخط، إذ "رَوَوْا عنه تفسيرا لكلمة من الكلمات التى يروونها كثيرا عنه. يروون أنه قال: قلت يوما: سبحان الله! فنادانى الخالق فى سرى: هل فىَّ عيب تنزهنى عنه؟ قلت: لا يا رب. قال: فنَفْسَكَ نَزِّهْ عن ارتكاب الرذائل. فأقبلت على نفسى بالرياضة حتى تنزهتْ عن الرذائل وتَحَلَّتْ بالفضائل، فصرت أقول: "سبحانى! ما أعظم شانى!" من باب التحديث بالنعمة" .
ويرى القارئ بنفسه كمية البهلوانية فى تبرير هاتين الشطحتين: فبالله كيف يمكن القول بأن بطش البشر أشد من بطش الله؟ إن البطش المنسوب إلى العباد ليس منسوبا إلى جميع البشر بل إلى عاد فقط. فكيف يعمم ابن عربى الكلام ويجعله يشمل البشر جميعا؟ وهل بطش الله خالٍ من الجبروت بعكس بطش عاد؟ وهل بطش الله فيه غفران وود؟ كيف؟ إن الآيات التى شطح عندها البسطامى تتحدث عن الكفار وما ينتظرهم من عقاب إلهى صاعق إذا لم يرعووا، أما إذا كفوا عن ظلمهم وكفرهم فإنه سبحانه يغفر لهم ما فرط منهم. فالبطش له موضعه، والود والغفران لهما موضعهما، ولا خلط بين الأمرين. ثم كيف يا ترى يمكن أن يكون بطش البسطامى أشد من بطش الله؟ فليرنا ما يدل على ذلك، وهيهات!
أما قوله: "سبحانى! ما أعظم شانى!" وتفسيره له بأنه إنما أراد التحدث بنعمة الله فهو الخبث والشيطنة بعينها، إذ قد أمر الله رسوله فى سورة "الضحى" بالتحدث بنعمته تعالى عليه، فهل صدر عنه صلى الله عليه وسلم شىء من هذا الشنع الذى تفوه به أبو يزيد؟ ثم منذ متى كان الله يغضب حين نسبحه؟ ألم يأمرنا فى مواضع كثيرة فى القرآن بتسبيحه؟ فهل الله يناقض نفسه؟ وهل البسطامى قد استطاع أن يتنزه تنزها تاما عن الرذائل كما يزعم حتى يقول: سبحانى! ما أعظم شانى؟ أتراه أصبح ملاكا؟ ولكن هل الملائكة تسبح نفسها؟ وهل يصح القول بأن الله عز شأنه يمكن أن ينزل إلى مستوى أبى يزيد فيقول له ما معناه: سبِّح نفسك ولا تسبِّحنى؟ ما هذا التخريف؟ أَوَنحن أمام آلهة الإغريق الوثنية؟ وهل يصح أن يقول إنسان عن نفسه: سبحانى؟ لقد كان الرسول على خلق عظيم بما لا يقاس عليه البسطامى أو مليون واحد كالبسطامى، ولكننا لم نسمعه يوما يسبِّح نفسه. ثم كيف نادى الله أبا يزيد البسطامى وقال له ما زعم البسطامى أنه قاله؟ إن هذا لم يحدث إلا مع موسى عليه السلام. وأين البسطامى من موسى؟ وما دام الرجل بارعا إلى هذا الحد فى توجيه شطحته ومتنبها لمسارها العقلى، فكيف يقول المتصوفة إن الشطح كلام ينبجس على لسانهم حين يذهلون فى حضرة الله؟ واضح أنهم يلفون ويدورون ولايريدون أن يقولوا الحق أبدا. لقد صدَّعونا بحديثهم عن تمسكهم بالتواضع وكتمان محاسنهم وحسناتهم، فلماذا خرج البسطامى عن هذا المبدإ؟
ويعرِّف السراج الطوسى مثلا "الشطح" بأنه "كلام يترجمه اللسان عن وَجْدٍ يفيض عن معدنه مقرون بالدعوى إلا أن يكون صاحبه مُسْتَلَبًا أو محفوظًا"، وأنه "عبارة مستغرَبة في وصف وَجْدٍ فاض بقوته وهاج بشدة غليانه وغلبته" ، وهو ما يشرحه د. عبد الرحمن بدوي بقوله: "الشطح إذن تعبير عما تشعر به النفس حينما تصبح لأول مرة في حضرة الألوهية، فتدرك أن الله هي، وهي هو" . وهذه دعوى خطيرة غير معقولة، وأرى أن الصواب تعريف "الشطح" بأنه "الزعم الزائف من قِبَل شخص ما بحلول الله فيه. وأساس هذا الادعاء هو الدجل أو الاضطراب الفكرى أو النفسى". وقد أورد الطوسى فى "اللمع" عددا من الشطحيات وحاول بكل جهده أن يؤولها إلى ما هو مقبول فى الإسلام . ولى سؤال سريع هنا: هل حدث أن وقع مثل ذلك الشطح من الرسول عليه السلام أو من أحد من معاصريه من المسلمين؟ فلم يا ترى يكثر عند المتصوفة ذلك الكلام الخارج عن العقيدة السليمة؟ ولماذا ينبغى أن نصدق لَيَّهم تلك العبارات وتحويلها إلى كلام مستساغ؟ الواقع أن محاولاتهم فى ذلك الصدد لا تقنع العقل. ولقد كان عليهم، إذا أرادوا أن يكون الناس على رأى طيب فيهم، أن يبتعدوا عن تلك العبارات الصادمة التى لا يمكن أن تقبلها عقولنا مهما فعل المستعدون للتأويل المخادع.
يقول الطوسى فى محاولة منه لتبييض وجوه الشطاحين النطاحين: "ليس لأحد أن يبسط لسانه بالوقيعة في أوليائه ويقيس بفهمه ورأيه ما يسمع من ألفاظهم وما يُشْكِل على فهمه من كلامهم لأنهم فى أوقاتهم متفاوتون، وفى أحوالهم متفاضلون ومتشاكلون ومتجانسون بعضهم لبعض، ولهم أشكال ونظراء معروفون. فمن بان شرفه وفضله على أشكاله بفضل علمه وسعة معرفته فله أن يتكلم فى عللهم وإصابتهم ونقصانهم وزيادتهم. ومن لم يسلك سبلهم ولم ينح نحوهم ولا يقصد مقاصدهم فالسلامة له فى رفع الإنكار عنهم وأن يَكِل أمورهم إلى الله تعالى ويتهم نفسه بالغلط فيما ينسبه إليهم من الخطإ".
وهو كلام يذكرنا بأمريكا وبالقانون الذى سنته أمريكا منذ وقت غير بعيد لمنع مثول جنودها أمام محكمة الجزاء الدولية أو أية محكمة خاصة بمجرمى الحرب لمحاكمتهم على ما تقترفه أيديهم النجسة من جرائم ضد الإنسانية، ومع هذا نراها تدعى الديمقراطية وتدافع بشراسة عن حقوق الإنسان فى البلاد الأخرى حين يكون لها مصلحة فى ذلك حتى لو لم يكن هناك أى امتهان لتلك الحقوق. أما إذا لم يكن لها مصلحة فلا إنسان ولا حقوق. وما أكثر ما تكذب أمريكا فى قضية حقوق الإنسان هذه! وما أكثر ما يدلس فريق من المتصوفة فى موضوع الشطحات!
إن الطوسى يشترط أن نكون على مستوى الشطاحين حتى نستطيع أن نحكم عليهم. أى أنه يريد منا أولا أن نرتكب ما ارتكبوه من شطح ونطح كى نستطيع أن يكون لنا رأى فيما قالوه. وبطبيعة الحال لن نجد حينئذ فيهم أى عيب لأننا سنكون مثلهم نردد هذا السحف ونحتاج بدرونا إلى طوسى آخر يبرره لنا. لقد انطلق الرجل من نقطة خطيرة هى أن مقامهم عال، ومن ثم لا يمكن غيرهم أن يفهم ما يقولون أو يحكم عليه بتخطئة. وهذه هى المصادرة على المطلوب، التى لا يمكن أن نصل معها إلى شىء. ثم أين التواضع الذى يزعمون أنهم يَتَحَلَّوْن دائما به؟ أما نحن فنقول إن المعيار الذى ينبغى الاحتكام إليه هو مدى التزامهم بالإسلام أو لا. ولا شك أن فى تلك الشطحيات خروجا على الدين، وإلا فلا ينبغى أن ننتقد فرعون مثلا حين قال: "أنا ربكم الأعلى"، إذ يمكن أى مداور، عن طريق التدليس والمكابرة، أن يؤول كلامه بما يُذْهِب عنه شنعته. ثم إننا لسنا أقل من أولئك الشطاحين، إذ لنا عقول كما لهم عقول، وعندنا المقدرة على الفهم والحكم، ولا أظن ما قالوه من العمق والصعوبة بحيث نعجز عن النظر فيه لنرى أهو يمشى مع الإسلام أم لا. ولقد قلنا إن أحدا من المبررين لا يمكنه الزعم بأن الشطاحين قد خبروا ما لم يَخْبُره رسول الله أو صحابته الكرام من تجارب روحية سامية. ومع هذا لم نسمع قط أن أحدا منهم قال شيئا من هذه الشناعات.
ويقول الطوسى أيضا: "إن العلم أكثر من أن يحيط به فهم الفهماء أو يدركه عقول العقلاء. وكفاك بقصة موسى والخضر عليهما السلام مع جلالة موسى عليه السلام وما خصه الله به من الكلام والنبوة والوحى والرسالة. وقد ذكر الله فى المحكم الناطق على لسان نبيه الصادق عَجْز موسى عليه السلام عن إدراك علم عبد من عباده، إذ قال تعالى: "فوَجَدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمةً من عندنا وعَلَّمْناه من لَدُنّا عِلْمًا" حتى سأله فقال: "هل أَتَّبِعُك على أن تُعَلِّمَنِ مما عُلِّمْتَ رُشْدًا؟"، مع تأييد موسى عليه السلام وشرفه وعصمته من الإنكار عليه. على أن الخضر عليه السلام لم يلحق درجة موسى عليه السلام فى النبوة والرسالة والتكليم أبدا ... فمن أجل ذلك قلنا: لا ينبغى لأحد أن يظن أنه يحوى جميع العلوم حتى يخطِّىء برأيه كلام المخصوصين ويكفّرهم ويزندقهم وهو مُتَعَرٍّ من ممارسة أحوالهم ومنازلة حقائقهم وأعمالهم".
والرد على هذا الكلام من أسهل ما يكون: فأولا أين نحن من الخضر؟ وهل هو واحد منا نحن البشر؟ لقد شغلتنى هذه القضية زمنا، وانتهيت إلى أنه ينبغى أن يكون مَلَكًا لا إنسانًا، وإلا فبمكنة أى شخص أن يقتل أى شخص آخر ثم يدعى أنه ملهم يعرف الغيب ويستبق الحوادث ليمنع الجرائم قبل وقوعها عن طريق قتل من يعلم أنهم سوف يرتكبونها فى المستقبل كما قال العبد الصالح عن الغلام لموسى حين قتله، فاستنكر موسى ما صنع، فشرح له القاتل الأمر بأنه لو لم يقتله لأرهق أبويه فى المستقبل طغيانا وكفرا، وأنه بعمله هذا إنما أراد أن يُبْدِلهما ربهما خيرًا منه زكاةً وأقربَ رُحْمًا، وكما يفعل المتصوفة المتفلتون فى شطحاتهم. ثم عدت إلى تفسير المودودى فألفيتُه يقول قبلى بهذا الاستنتاج الذى وصلتُ مستقلا إليه . وقد يؤكد هذا أنه لم يحدث أن ثار الناس بالعبد الصالح وحاولوا الفتك به جراء تخريب السفينة أو قتل الغلام، مما قد يدل على أن الأمور كانت تقع أمامهم بطريقة طبيعية لا مدخل ليد تتعمد التخريب أو القتل فيها كما يحدث حين يقع زلزال أو حريق مثلا لا نعرف سببه فيبدو أنه وقع اعتباطا، إذ أتصور أن الملك لم يكن يراه إلا موسى عليه السلام. ثم إنه ليس فى العالم سوى خضر واحد، أما الصوفية فالشطاحون فيهم كالليمون عددا. وثانيا لم يقل العبد الذى صحبه موسى فى قصة سورة "الكهف"، ويسميه الناس: "الخضر"، شيئا من هذا الكلام الشنيع الذى يسىء إلى الله سبحانه. وثالثا ليأت لنا الطوسى بقرآن ينافح عن شطحه هو وأمثاله من المتصوفة كما فعل القرآن مع تصرفات العبد الصالح، وأنا أُسَلِّم له بما يقول. أم تراه يقيس نفسه على رب العزة، ويريد منا أن نصدقه كما نصدق كلام ربنا دون نقاش؟ ورابعا من الواضح أن القرآن يريد أن يعلمنا شيئًا مُهِمًّا يعزّينا فى الدنيا حين يقع لنا ما نتصور أنه شر، بتفهيمنا عمليا أننا لو اطلعنا على الغيب لاخترنا الواقع. ولقد اختبرتُ هذا الفهم فى بعض حوادث حياتى، إذ كنت كثيرا ما أتعلق بشىء تعلقا زائدا عن الحد ثم أُحْرَم منه فأتألم تألما عنيفا لا قِبَل لى باحتماله، فأتمنى لو يتحقق ما أريد مهما كانت النتائج. ثم تمر الأيام فيتضح لى أنْ لو كان الله استجاب أمنيتى لكانت كارثة. ولكن من يقرأ ومن يسمع حينذاك؟ أما بالنسبة إلى شطح المتصوفة فليقولوا لنا: أين وجه الحكمة فى تجديفاتهم وانتهاكاتهم للدين فى كلامهم السفيه؟ وخامسا فإن الطوسى، كما نرى، يسمى المتصوفة بـ"المخصوصين"، أى الخواصّ، فى مقابل العوام الذين هم نحن. يريد إلى القول بأننا نحن العوامَّ الجهلاءَ لا ينبغى أن ندس أنوفنا فيما لا نحسنه ولا نقدر على السمو إليه، ولْنشتغل بما فى وسعنا ولا نتجاوز حدودنا. والحمد لله أننا لسنا من المخصوصين من أمثاله، وأننا نسير على سنة الرسول وصحابته ولا نتبع سنة الشطاحين الذين يسوِّى الواحد منهم نفسه برب العزة، ثم إذا أنكرنا عليهم اتهمونا بأننا عَوَامّ.
ثم يمضى الطوسى مضيفا أن "كلام الواجدين والمستهترين بذكر الله تعالى يكون مجملاً وتفصيلاً، وإنما يجد المتعنت فرصة بالوقيعة والطعن فى الكلام المجمل دون المفصل لأن المجمل ربما يكون له مقدمات لم تبلغ المستمع، والمفصل يكون مشروحا مبينا محترزا، والمجمل لا يكون كذلك... فإذا سمع العاقل مقدماته لم يتشنع عليه... وإذا لم يسمع بالمقدمات التى قد تقدمت قبل هذا الكلام فأحرى أن يتشنع عليه فينكر قلبه ذلك".
ولا شك أن ما يقوله الطوسى هو لون من السفسطة. ونحن سائلوه: هل أنت ممن يشطح وينطح أو لا؟ فإن لم تكن فكيف تقدم على تأويل شىء ليس لك به خبرة مثلنا؟ وإن كنت تشطح وتنطح فهأنت ذا قادر على أن تقول، بدلا من تلك الشطحيات، كلاما مقبولا. فلماذا لا تجرى أنت وزملاؤك الشطاحون على هذه الطريقة التى لا تزعج أحدا ولا تحوجكم إلى تأويلِ ما فيها من شناعات؟ أم تراك تحب أن تجرى على مذهب جحا حين سألوه: أذنك من أين يا جحا؟ الواقع أننى لا أستطيع أن أفهم غرام بعض الناس بسلوك الطريق المعوج المضل فى الوقت الذى يجدون، بدلا منه، كثيرا من الطرق المستقيمة التى لا تؤدى بصاحبها إلى ما لا تحمد عقباه.
إلا أن الطوسى رغم ذلك يؤثر المداورة على الاستقامة فيقول: "أما الذين نصبوا العداوة مع هؤلاء القوم واعتقدوا فيهم الباطل فعلى وجهين: فمنهم قوم لم يفهموا معانى ما أشاروا إليه في كلامهم من غامض العلم وجليل الخطب، ولم يكن لهم زاجر من العقل ولا واعظ من الدين أن يستبحثوا عن المعانى التى أشكلت عليهم ويسألوا عن ذلك أهلها، وقاسُوا ما يسمعون بما علموا من العلوم المبثوثة بين عوام الناس حتى هلكوا. فمنهم من رجع عن ذلك وتاب وأناب، ومنهم من مات على ذلك، فأمره إلى الله: إن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه". وليس لذلك من معنى سوى أن الرجل مصر على التوغل فى الباطل، إذ يزعم أن من قال ذلك عن أهل الشطح قد هلك، ومن مات على رأيه فيهم فهو آثم. والحمد لله أنه لم يصرح بأنهم ذاهبون إلى جهنم الحمراء! فهذا لطف منه وكرم ما بعده لطف ولا كرم! لقد انتقد الطوسى على عدد من المتصوفة بعض اعتقاداتهم وتصرفاتهم فيما يتعلق بالتصوف، وهو ما يعنى أنهم يخضعون لما نخضع له من نقصان، ويستحقون أن يتعرضوا لما نتعرض له من انتقادات. فلم لا يقبل منا أن نبدى رأينا فيما يعملون ويقولون إذا رأينا أنهم قد شطحوا ونطحوا وخرجوا على ما يقتضيه الدين؟
ومن الشطحات الصوفية المستشنعة قول الحلاج مخاطبا ربه:
عَجِبتُ مِنــــــــــــــكَ وِمنّـــــــــــــي
أَدَنَيتَـــــــــني مِنــــــــــــكَ حَــــــــــتّى
وَغِبتُ في الوَجْــــــــــــــــــــدِ حَتّى يـــــــــــا مُنْيَـــــــــــــةَ المُتَمَــــــــــــــنّي
ظَنَنــْــــــــــتُ أَنَّــــــــــــــكَ أَنـِّـــــــــي
أَفنَيْتَـــــــــــــــني بِــــــــــكَ عَنّـِــــــــي
وقوله له عز وجل أيضا:
أَأَنتَ أَم أَنا هَــذا في إِلَهَيـــــــــــنِ؟
هُوِيَّةٌ لكَ في لائِيَّتــــــــي أَبَـــــــــــــدًا
فَأَيْـــنَ ذاتُكَ عَنّي حَيْثُ كُنْتُ أرى؟
فأَينَ وَجْهُكَ مَقْصـــــــــــودًا بِناظِـــــــــــرَتي
بَيْني وَبَيْنَكَ إِنِِّـــــــيٌّ يُنازِعُنــــــــــي حاشاكَ حاشاكَ من إِثْبـاتِ إِثْنَينِ
كُُلّي عَـــــلى الكُـلِّ تَلبيسٌ بِوَجهَينِ
فَقَــــدْ تَبَيَّــــــنَ ذاتي حَيـــثُ لا أَيْــــــني
في باطِــــنِ القَلبِ أَم في ناظِــــرِ العَيْــــــنِ؟
فَارْفَعْ بِلُطْفِكَ إِنِِّيِّي مِــــــنَ البَيْــــنِ
وقوله:
مُـزِجَتْ روحُــك فى روحى كمـا
فإذا ما شـــــــــــــــيءٌ مَسَّـــــــني
*
أنا من أهوى، ومن أهوى أنـــــا
نحن، مذْ كنا على عهد الهـــوى،
فإذا أبصرتَــــــــــني أبصرتَــــــــــه
أيها السائـــــــــل عن قصتنـــــــا،
روحه روحي، وروحي روحه
*
أنا أنــــــــــت بـــــــــــلا شـــــــــك
وتوحيــــــــــــــدك توحيـــــــــدي
وإسخاطــــــــك إسخاطـــــــي
ولــــــــم أجلــــــــــــــــــــد يـــارب

تُمْـــــــزَج الـخَمـرةُ بالمــــــاء الـــــــزُّلالْ
فإذا أنت أنا في كُــــلّ حـــــــــالْ
*
نحن روحان حَلَلْنـــــــــــا بَدَنَــــا
تُضْرَب الأمثال للنــــــــــــــاس بنـــا
وإذا أبصرتَـــــــــــه أبصرتنــــــــــا
لو ترانا لم تفــــــــــــــــــرِّق بيننـــــا
مَنْ رأي روحين حَلَّـتْ بدنا؟
*
فسبحانـــــــــــــــــك سبحانـــي
وعصيانـــــــــــــــك عصيانــــــــي
وغفرانـــــــــــــــــــك غفرانـــــــــي
إذا قيل: هــــــــــــــو الزانـــــــي؟
وذكر تلميذه إبراهيم الحلواني أنه سمعه يدعو بعد الصلاة ذات مرة بكلام جاء فيه: "يا هو أنا، وأنا هو، لا فرق بين إنَّيّتي وهُوِيَّتك إلا الحدوث والقِدَم"، ثم التفت إليه ضاحكًا وقال له: "أما ترى أن ربي ضرب قِدَمه في حدوثي حتى استهلك حدوثي في قِدَمه فلم يبق له إلا صفة القديم ونطقي في تلك الصفة؟ والخلق كلهم أحداث ينطقون عن حدوث. ثم إذا نطقتُ عن القِدَم ينكرون عليَّ ويشهدون بكفري ويَسْعَوْن إلى قتلي!" .
وذُكِر عن الشبلى أنه "أخذ من يد إنسان كسرة خبز فأكلها، ثم قال: إن نفسى هذه تطلب منى كسرة خبز. ولو التفتَ سِرِّى إلى العرش والكرسى لاحترق"، وأنه كان يقول: "لو خطر ببالى أن الجحيم بنيرانها وسعيرها تحرق منى شعرة لكنت مشركا"، وأنه قال فى مجلسه: "إن لله عبادا لو بزقوا على جهنم لأطفأوها"، وأنه قال أيضا: "لو دبت نملة سوداء على صخرة صماء فى ليلة ظلماء، ولم أشعر بها أو لم أعلم بها، لقلت إنه ممكور بى" .
ومن الواضح أن تعريفى للشطح أدق مما يقول المتصوفة فى تعريفهم إياه، وبخاصة أن هذا الشطح لا يقتصر على وجودهم فى حضرة الله طبقا لمزاعمهم الشنيعة، بل يظهر فى أشعارهم وفى أبنيتهم الاعتقادية المفصلة، مما لا يتم إلا فى اليقظة والقصد والتروية لا فى الحضرة الإلهية ولا فى غفلة من العقل، وبخاصة فى مثل أشعار الحلاج المفعمة بالمحسنات البديعية، التى لا يمكن أن تُنْظَم فى حالة شطحية حسب مزاعم القوم العريضة، علاوة على أن وجود الإنسان فى حضرة الله هو أكبر ضمان بعدم الشطح. فالله سبحانه لا توحى حضرته إلا كل ما هو خير وحق، بخلاف الشيطان، الذى لا يلهم غير الشر والكفر والتمرد والنطق بما لا يليق بالمسلم أن يقوله، فضلا عن أن الحلاج وغيره لا ينطقون بهذه الشطحات وهم فى حضرة الله، إن صحت مزاعمهم عن الحضرة الإلهية، بل ينطقونها فى حضرة تلاميذهم وغيرهم من الناس، وبعبارات تبين بأجلى بيان أنهم واعون تماما بما يقولون كما هو الحال مثلا فى خطاب الحلاج لربه، ذلك الخطاب الذى رواه أحد تلامذته وأوردناه نحن قبل سطور قليلة، وهو ما ينسف دعواهم من جذورها نَسْفًا ويأتى عليها من القواعد.
ومما يزعمونه فى أمر الشطح أيضا أن الشاطح لا يستطيع، فى حالة انجذابه، التفرقة بين الأسد والمِسْوَرَة (أى المتَّكإ) بحيث إذا رأى أسدا وأراد أن يستلقى اتكأ عليه ظنا منه أنه مِسْوَرَة . طيب، هو مجذوب ولا يفرق بين الأسد والأريكة، لكن ماذا عن الأسد؟ أهو أيضا مجذوب ويظن نفسه أريكة، فمن ثم لا يأكل الرجل لأن الأرائك لا تفترس أحدا؟ واضح أن الواحد منا نحن عباد الله غير الشَّطَّاحِين لا يمكنه مجاراة القوم فى أقاويلهم إلا أن يكون رجلا ساذجا على نياته يصدق كلامهم اطمئنانا إلى أنهم لا يمكن أن يكذبوا أو يضلوا مع أنهم كذابون قراريون من الطراز الأول.
ثم كيف يدافع د. عبد الحليم محمود عن شطح المتصوفة ولا يجد به بأسا، وهو الذى قسم المعرفة، كما سبق أن رأينا، إلى معرفة عقلية ومعرفة دينية: عقلية تتعلق بالعالم المادى، ودينية تختص بالغيبيات والأخلاق والتشريع؟ فإذا كان الأمر كذلك فمعناه أن الغيبيات، كشهود الحضرة الإلهية والملائكة وما إلى هذا مما يزعم المتصوفة أنهم يعاينونه، لا يمكن أن يعرفها الإنسان إلا من خلال الدين، أى من خلال الوحى الذى أنزله الله على سيدنا محمد. وعلى هذا فما يقوله أى صوفى عن الغيب مرفوض رفضا باتا طبقا لحكم د. عبد الحليم نفسه. فكيف يمكن أن ننسى هذه القاعدة التى وضعها، رحمه الله، هو نفسه، ونذهب فنقبل ما يقوله المتصوفة عن عالم الغيب؟ وإذا لم يكن القرآن أو الرسول قد ترك لنا وصفا للملائكة أو للحضرة الإلهية فكيف بالله يعرف الصوفى أن ما يزعم أنه شاهده هو فعلا ما يقول؟ بل كيف نعرف أنه صادق أو دقيق فيما يصف؟ بل ما جدوى كل ذلك على حياته وحياة أمته؟
إننى معجب بما قرأته عن تواضع د. عبد الحليم ورقة نفسه ولطف معاملته للآخرين، ولكنى غير راض ببعض ما كتبه عن التصوف والصوفية. ويزيد إعجابى بطيبة الرجل ما قرأته من أنه كان يخصص مرتبا شهريا كبيرا لعدد من الأسر كان يبرها فى السر، رحمه الله . الواقع أننى لا أخفى أبدا إجلالى له رغم ما كتبه فى طائفة من قضايا التصوف من كلام لا أستطيع الاقتناع به. ويمضى إعجابى صُعُدًا حين أعلم أنه باع ذات يوم قطعة أرض غالية وسلم ثمنها لإحدى الأسر المحتاجة. نعم أنا منبهر بمثل تلك الأعمال الطيبة المباركة، وأدعو الله للرجل أن يبوئه مقعد صدق عنده سبحانه وتعالى، ويرفرف قلبى وأنا أقرأ هذا عنه وأحس بحنين إليه، وأشعر بالأسف الشديد أننى لم ألقه أو أكلمه، إذ كان كل نصيبى منه أنْ رأيته فى مطلع السبعينات من القرن المنصرم يوم كان وزيرا للأوقاف نازلا على سلم وزارة الأوقاف، فخامرنى شعور بالهيبة له رغم أننى كنت حديث عهد بقراءة كتابه عن السيد البدوى، وكنت حانقا على ما قاله فيه من أنه ذهب إلى مقصورة مسجده بطنطا يسـتأذنه فى الكتابة عنه، ولم يشرع فى تلك الكتابة إلا بعد أن تلقى منه الإذن بذلك.
لقد حكيت يومذاك ما شعرت به للشيخ الغزالى فى مكتبه بالدور الأول بنفس المبنى مصحوبا برأيى فى اتجاه الرجل الصوفى، وكان مقصدى من إصحاب وصف مشاعرى نحوه برأيى فى تصوفه أن أقول إننى، حين أصف ما وجدته فى قلبى من هيبة، لا أتكلم عن سذاجة أو تسرع أو إعجاب عارض، بل من قلبى. لقد أردت القول بأن ما أحسست به من الهيبة كان من القوة بحيث دفع إلى الوراء برأيى فيما كتبه عن السيد البدوى. وقد وافقنى الشيخ الغزالى على ما قلته عن د. عبد الحليم وأفاض فى ذكر مناقبه. كما ذكر لى فى مناسبة ثانية أن الأستاذ الدكتور قد استدعاه يوما وصارحه بما طلب منه الرئيس السادات أن يبلغه إياه من وجوب التهدئة فى خطب الجمعة التى كان يلقيها أيامذاك فى مسجد عمرو بن العاص، وكيف أنه، بعدما أبلغه كلام الرئيس، عقب قائلا: أما أنا فأقول لك: امض فى طريقك ولا تبال. فكان رأى الشيخ الغزالى ورأيى أن هذه شجاعة من الرجل لا يستطيعها الكثيرون. رحم الله الرجال الثلاثة رحمة جزيلة.
كذلك يتحدث الصوفية فى كتبهم عن "المقامات والأحوال"، ويفيضون فى هذا الموضوع. وفى الكتب التى حققها د. عبد الحليم محمود كـ"الرسالة القشيرية" و"التعرف لمذاهب أهل التصوف" و"اللُّمَع" للسراج الطوسى كلام عن هذا الأمر. ويقول السيوطى فى "الأوليات" إن أول من تكلم فى مصر عنها هو ذو النون المصرى . ولو شئنا أن نعرّف المقامات بطريقة مبسَّطة فلربما جاز لنا أن نقول إنها محطات على طريق المتصوف تحدد كل منها المرحلة التى بلغها من المجاهدة الروحية. أما الأحوال فهى الحالات الروحية التى يكون عليها المتصوف كلما بلغ مقاما من المقامات. أما بالنسبة إلى تعريف الصوفية أنفسهم للمقامات والأحوال فيقول ابن عربى مثلا فى "الفتوحات المكية": "المقام عبارة عن استيفاء حقوق المراسم على التمام، والحال هو ما يرد على القلب من غير تعمد ولا اجتلاب. ومن شرطه أن يزول ويعقبه المِثْل، وأن يبقى ولا يعقبه المِثْل. فمن أعقبه المثل قال بدوامه، ومن لم يعقبه المثل قال بعدم دوامه. وقد قيل: الحال تغير الأوصاف على العبد". وهو، كما يرى القارئ، كلام مبهم يصلح لأى شىء تقريبا. وقد عرّف الجرجاني الحال في كتاب "التعريفات" بقوله: "معنًى يَرِد على القلب من غير تصنع ولا اجتلاب ولا اكتساب من طرب أو حزن أو قبض أو هيبة"، وعند عبد الكريم الجيلى أن "كل حال فهو موهوب وغير مكتسب وغير ثابت. إنما هو مِثْلُ بارقٍ بَرَق. فإذا برق إما أن يزول لنقيضه وإما أن تتوالى أمثاله. فإن توالت أمثاله فصاحبه خاسر". ويقول د. أسعد السحمراني فى كتابه: "التصوف منشؤه ومصطلحاته": "المقام والحال: اصطلاحان يستخدمهما الصوفيون للتدليل على تدرج السالك للطريق الصوفي من مكانة الى أخرى ولما يتعرض له في تدرجه هذا في المقامات من أحوال تأتيه من نسمات الرحمة الإلهية. المقامات هي مكاسب تحصل للإنسان المؤمن ببذل المجهود، وهي مراحل يرتقي فيها المريد في طريقه الى التمكين والاطمئنان القلبي لتتحقق له مكانة بين الخاصة من المصطفَيْنَ الأخيار. ويقول السراج الطوسي في "اللُّمَع": "إنْ قيل: ما معنى المقامات؟ يقال: معناه مقام العبد بين يدي الله عز وجل فيما يقام فيه من العبادات والمجاهدات والرياضات والانقطاع إلى الله عز وجل". وقال الله تعالى: "ذلك لمن خاف مقامي وخاف وَعِيدِ" ، وقال : "وما مِنَّا إلا له مقامٌ معلومٌ" . ومن المقامات عند الطوسي: التوبة، الورع، الزهد، الفقر، الصبر، الرضا، التوكل... إلخ. أما الحال فهي معنًى يَرِدُ على القلب من غير تصنع ولا اكتساب. والأحوال هي المذاهب الفائضة على العبد من ربه، وهي تكون ميراثًا يلي العمل الصالح المقترن بصفاء القلب، أو امتنانًا من الله تعالى على العبد، ولكنها لا تدوم. وإذا دامت تحولت من حال الى مقام. وقد جاء في "اللُّمَع": "وأما معنى الأحوال فهو ما يَحُلّ بالقلوب أو تحل به القلوب من صفاء الأذكار. وقد حُكِيَ عن الـجُنَيْد رحمه الله أنه قال: الحال نازلةٌ تنزل بالقلوب فلا تدوم... وليس الحال من طريق المجاهدات والعبادات والرياضيات كالمقامات". ومن الأحوال المراقبة، القرب، المحبة، الخوف، الرجاء، الشوق، الأنس، الطمأنينة، المشاهدة، اليقين... إلخ. المقام إذن هو مقام الإنسان بظاهره وباطنه في حقائق الطاعات، وأما الحال فهي ما يتعرض له القلبُ من نسمات الرحمة الإلهية، والصدرُ من الشرح، ولا يدوم".
أما في "الرسالة القشيرية" فنجد أن المقام هو "ما يتحقق به العبد بمنازلته من الآداب مما يتوصل اليه بنوعِ تصرُّف، ويتحقق به بضَرْبِ تطلُّب، ومقاساةِ تكلُّف. فمقام كل أحدٍ موضعُ إقامته عند ذلك وما هو مشتغل بالرياضة له. وشرطه ألا يرتقي من مقام إلى مقام آخر ما لم يستوف أحكامَ ذلك المقام، فإنّ مَنْ لا قناعة له لا يصح له التوكل، ومن لا توكل له لا يصح له التسليم. وكذلك من لا توبة له لا تصح له الإنابة، ومن لا ورع له لا يصح له الزهد. والمقام هو الإقامة، كالمدخل بمعنى الإدخال، والمخرج بمعنى الإخراج. ولا يصح لأحدٍ منازلةُ مقام إلا بشهود إقامة الله تعالى إياه بذلك المقام ليصح بناء أمره على قاعدة صحيحة". أما الحال فهي "معنى يَرِد على القلب من غير تعمد منهم ولا اجتلاب ولا اكتساب لهم... فالأحوال مواهب، والمقامات مكاسب. وقالوا: الأحوال كاسمها. يعني أنها كما تحلّ بالقلب تزول في الوقت".
وجاء في تعريف الدكتور قاسم غني: "مقامات التصوف إنما هي من الأمور الاكتسابية والاجتهادية، ومن جملة الأعمال التي هي باختيار السالك وإرادته، بينما الأحوال من مقولة الإحساسات والانفعالات الروحية، ومن الحالات والكيفيات النفسية الخاصة مما ليس باختيار الإنسان، بل هو من جملة المواهب والأفضال النازلة على قلب السالك من لدن الله من غير أن يكون للسالك أدنى تأثير في نزوله على قلبه أو محوه عن خاطره". وفى "الرسالة القشيرية" أن هناك من يرى الأحوال كالبروق، فإذا دامت فحديثُ نفسٍ، ومن يرى على العكس أنها لا بد من دوامها، وإلا كانت لوائح وبواده، أى أمورا عارضة تلوح ثم تزول ولا تبقى.
والواقع أن هناك عدة ملاحظات على هذه التقسيمات والتصنيفات: فأولا من ذا الذى يمكنه يا ترى تحديد المرحلة الروحية التى بلغها فى تدينه؟ وكيف يمكن تصنيف تلك المقامات والأحوال بتعقيداتها ودقائقها؟ وهل هذا أصلا أمر ممكن بالنسبة للبشر؟ إن هذا، لو عقلنا الأمر جيدا، معناه أننا نقوم بمحاسبة أنفسنا بأنفسنا، وهى مهمة لم يوكل الله أحدا من البشر للقيام بها بدلا منه. ثم لماذا كان ذلك الاختلاف فى تقسيم المقامات والأحوال؟ بل لماذا يبلغ التناقض بين المتصوفة أنفسهم الحد الذى يعكس بعضهم الأمر عنده فيجعل المقامات أحوالا، والأحوال مقامات؟ كذلك هل يصح القول بأن طريق الصوفى، أو مقاماته وأحواله، تكون دائما متصاعدة لا تعرف التراجع والتقهقر كما يُفْهَم من كلام القوم؟ الحق أن الحالة الروحية لأى إنسان تمر بكثير من التراجعات مثلما تكتسب مواقع متقدمة بين الحين والحين، ولم يحدث قط أن اتخذت حالة أى إنسان اتجاها واحدا هو اتجاه التقدم إلى الأمام والصعود إلى الأعلى على الدوام، بل مثلما يتقدم فكذلك يتراجع ويتقهقر. وفوق ذلك فالإنسان إذا ما ظن أنه تقدم وأصبح أعلى فى المستوى الروحى مما سبق فقد يكون ذلك الظن نفسه سببا فى التأخر عما كان قد وصل إليه فعلا، إن كان قد أحرز تقدما حقا ولم يكن ظنا فى غير محله. كما أن شرح الصوفية للأحوال والمقامات شرح معقد، وفيه أحيانا بهلوانيات مضحكة، ومبالغات لا تصح أبدا.
خذ مثلا ما قاله القشيرى عن مقام "التمكين" من أن أصحابه "مَحْوٌ فى وجود العَيْن". ترى هل فهم القارئ شيئا؟ ثم ما الحكمة فى هذه اللغة التى تجلب الصداع دون أن يخرج الإنسان منها بطائل، اللهم إلا إذا تكلف شرحها بكلام معسلط مما يبرع فيه الصوفية ويزيد الأمور تعقيدا وتشابكا؟ أما المبالغة فاقرأ ما قاله القشيرى أيضا عن صاحب مقام "الأُنْس" من أن "أدنى محلّ الأنس أنه لو طُرِح فى لَظًى لم يتكدر عليه أنسه. قال الجنيد: كنت أسمع السرىّ يقول: يبلغ العبد إلى حد لو ضُرِب وجهه بالسيف لم يشعر. وكان فى قلبى منه شىء حتى بان لى أن الأمر كذلك". ترى هل هذا معقول؟ إن معنى كلامه أنه جرب ذلك: فهل يا ترى ضُرِب فعلا بالسيف فى وجهه فلم يحس شيئا؟ أم هل رأى صوفيا آخر يُضْرَب وجهه بالسيف فلا يتأثر بالضرب؟ طبعا لا هذا ولا ذاك. إنما هو مجرد كلام، والسلام! ثم ألم يكن الأَوْلى بذلك رسول الله، الذى مرض فكان يتألم كما نتألم نحن البشر الطبيعيين؟ أما موت المشاعر على هذا النحو فلست أدرى كيف يكون.
ولو حدث فعلا كما يقولون فهو أمر شاذ مخيف لا أظنه يحدث لإنسان لم يتعاط شيئا يوقف شعوره بالألم كالذى سمعته مؤخرا من أن بعض ذوى السوابق حين يُسْتَدْعَوْن إلى قسم الشرطة ويعرفون أنهم سوف يُضْرَبون ضربا مبرِّحا لا يطيقونه فإنهم يتعاطَوْن نوعا من الحبوب يمنعهم من الإحساس بالألم مهما كانت درجته. ولا ننس أن مواد التخدير الطبى تمنع المخدَّر من الشعور بأى شىء، بل تنقله من حالة اليقظة والوعى إلى حالة ينعدم فيها كل إحساس تقريبا إلى أن تنتهى العملية الجراحية ويكون الألم قد مضى أو خَفَّتْ حِدّته إلى حد بعيد. ثم إن النبى على شدة قربه من ربه لم يحدث أن غاب عن الوجود على هذا النحو الغريب لا فى صلاة ولا فى دعاء ولا فى تأمل. فمن أين إذن أتى المتصوفة بهذا الكلام العجيب؟ أتراهم مخلوقات خارقة لا تخضع لسنن الكون فى الشعور بالألم؟ إننى لا أعادى التصوف مبدءًا كما بينتُ، بل دافعى هو أن يعيش المسلم وفق ما يريده منه دينه لا وفق ما يسمعه من كل من هب ودب! ولو قال فقيه شيئا ما أنزل الله به من سلطان ولا قاله رسول الله لكان لى منه نفس الموقف. ونفس الشىء يقال عن المعتزلى أو الخارجى... إلخ. وأنا، حين أفعل هذا، لا أدعى أننى بالضرورة على الصواب، بل هو اجتهاد منى قد يصح، وقد يطيش. ولكن لا بد من التحدث مع ذلك بما أعتقد أنه هو الصواب.
وعلى أية حال فإن تعريف المقامات والأحوال على النحو الذى نراه لدى المتصوفة من شأنه أن يحول المجاهدة الروحية إلى شىء مادى، وكأننا إزاء بيت نبنيه ونرتفع به طَبَقًا بعد طَبَقٍ، فهو لا يعرف النزول بل الزيادة والارتفاع على الدوام إلى أن يصل البناء منتهاه فيتوقف عندئذ. ولا ننس أن كثيرا من المتصوفة، بسبب من هذا المفهوم الخاطئ للمقامات والأحوال، يسقطون فى فخ الغرور، إذ يظنون أنهم قد بلغوا منتهى الطريق، وأنهم من ثم صاروا مُعْفَيْنَ من أداء الواجبات وألوان العبادات، أى سقط عنهم التكليف. وهذا من وسوسة الشيطان، والعياذ بالله. من هنا فإنى أقترح أن يقال بدلا من ذلك إن واجب المسلم أن يظل طول الوقت فى مجاهدةٍ لنفسه وشهواته لا يتوقف أبدا ولا يتوانى عن العمل المنتج النافع له ولأمته حسب تخصصه ومجاله، وإنه معرَّض فى كل وقت للصعود والهبوط، وإنه ليس من اختصاصه الحكم على نفسه وإعطاؤها الدرجة التى يظن أنها تستحقها، بل يترك ذلك لله سبحانه، فالحساب والتقويم من شأنه هو وحده جل وعلا. ولا بد لنا من التنبيه إلى أنه ما من إنسان يستطيع الزعم بأنه قد بلغ الغاية على طريق السمو الروحى، إذ يوم يضع فى حسبانه أنه قد بلغ ذلك المبلغ يكون هذا بداية السقوط والفشل والبَوْء بسخط الله.
بل إنه، من الناحية المبدئية، لا توجد نقطة متى بلغها الإنسان يكون قد بلغ الغاية التى ليس بعدها غاية، بل الغاية فى حقيقة الأمر شىء وهمى أكثر منه حقيقيا، إذ يتصور الإنسان أن الغاية هناك عند الأفق، لكنه إذا صار إلى هناك وجدها قد ابتعدت عنه وأن عليه مواصلة الرحلة والسعى من جديد... وهلم جرا. ولا بد أن نعرف فى ذات الوقت أن الله غفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى، وأنه سبحانه كريم يغفر الذنوب جميعا، وأنه لا ييأس من رَوْح الله إلا القوم الكافرون، ولا يقنط من رحمة ربه إلا الضالون.
والآن لعل بعض الناس ممن قرأ ما مضى يظن أننى ضد التصوف بإطلاق. والحق أننى لست ضد هذا اللون من التدين على إطلاقه، بل ضد المنحرف منه فقط، وهو بحمد الله كثير. وقد كنت أحسن الظن بالمتصوفة عموما، لكن بعد عكوفى عليهم فى السنوات الأخيرة واطلاعى الواسع على كتبهم ألفيت أن هناك أشياء فى التصوف كثيرة لا تتمشى مع الدين. ومع هذا فإنى أقول، وسأظل أقول، إنه إذا كان التصوف هو الاهتمام بالباطن لمعادلة تركيز الفقه على الشكل الخارجى، فأنا من المتصوفين. أما إذا كان التصوف تعلقا بالموتى وأضرحتهم أو الاستغاثة بهم أو الاعتقاد فى كراماتهم أو الإيمان بالحلول أو وحدة الوجود أو الشيخ الفرغل بياع الحشيش على باب الجامع الأزهر أو لبس المرقَّعات والتنبلة وشغل المجاذيب الذين يسوقون الهبل على الشيطنة أو ترديد الأوراد والأحزاب كالآلة دون تدبر وتضييع الوقت الطويل فى ذلك بغير عمل نافع أو الشطح أو الموالد بما فيها من عهر ومخدرات ونصب الخيام فى الشوارع والنوم على الأرصفة ونشر للزبالة والنتانة فى كل مكان والتحرش بالنساء والدوسة والطواف بالقبور والصراخ وما إلى ذلك فأنا من طريق، والمتصوفة من طريق، ولا يمكن أن تلتقى الطريقان.
ونأخذ مثالا يتبين منه الاختلاف بين الفقهاء والصوفية فى معالجة الأمر نفسه، والمثال الذى سنأخذه يتعلق بالنية. وقد رجعت إلى الكتاب الذى كان مقررا علينا فى صبانا حين كنت طالبا صغيرا فى الجامع الأحمدى بطنطا، وآتيا من الكُتَّاب بشَوْكِى، أو بالأحرى: بعَبَلِى، أو بالتعبير القديم: بعُجَرِى وبُجَرِى، فلا أعرف شيئا مما يقوله أبو شجاع ولا شارح ألفاظ أبى شجاع إلا بشق الأنفس، إذ لم أكن درست فى الكُتّاب قبل ذلك سوى الإملاء والقواعد الأربع فى الجمع والطرح والضرب والقسمة، فضلا عن حفظنا القرآن، ومع ذلك كنا نصارع هذه الجلاميد، فنفهم أحيانا، ويصعب علينا الفهم فى بعض الأحيان الأخرى، ولا يبقى أمامنا إلا الحفظ، فأخذ الله بأيدينا نحن الصبيان الصغار وجعل منا شيئا، فالحمد لله على هذه المنة، التى توشك عيناى أن تدمعا بسبب ذكرياتها التى تهب الآن علىّ كالسيل وتردنى إلى ما قبل خمسين عاما وتكاد أن تخنقنى حزنا. يا ألله! ترى كيف أفلحنا رغم هذه الصعاب المتلتلة التى كانت تنوء بها كواهلنا وظهورنا الضعيفة الصغيرة؟ أغلب الظن أن الله رحم ضعفنا وغرارتنا وجهلنا وفقرنا وبؤسنا دون أن يكون هناك من يعطف على هشاشتنا وأوجاعنا وغربتنا وضياعنا فى المدينة التى كنا نعيش فيها بعيدا عن أهلينا ولِدَات لهونا، ولعلنا لم نخن العهد معه سبحانه وتعالى.
المهم ماذا يقول عَمُّنا الشيخ الشربينى صاحب كتاب "الإقناع فى حل ألفاظ أبى شجاع" فى موضوع النية؟ خذ عندك يا سيدى أنت وهو! يقول الشيخ الشربينى فى "باب صفة الصلاة": "فصل فى النية: يجب مقارنتها التكبير. وفى كيفية المقارنة وجهان: أحدهما: يجب أن يبتدىء النيةَ بالقلب مع ابتداء التكبير باللسان ويفرغ منها مع فراغه منه. وأصحهما: لا يجب هذا، بل لا يجوز لئلا يخلو أول التكبير عن تمام النية. فعلى هذا قيل: يجب أن تقدَّم النية على التكبير ولو بشيء يسير. والصحيح الذي قاله الكثيرون: لا يجب ذلك، بل الاعتبار بالمقارنة. وسواء قدم أم لم يقدم يجب استصحاب النية إلى انقضاء التكبير على الأصح. وعلى الثاني لا يجب. والنية هي القصد. فيُحْضِر المصلي في ذهنه ذات الصلاة وما يجب التعرض له من صفاتها كالظُّهْرِيّة والفَرْضِيّة وغيرهما، ثم يقصد هذه العلوم قصدا مقارنا لأول التكبير. ولا يجب استصحاب النية بعد التكبير، ولكن يشترط ألا يأتي بناقض لها. ولو نوى في أثناء الصلاة الخروج منها بطلت. وإن تردد في أن يخرج أو يستمر بطلت...
ولو نوى في الركعة الأولى الخروج في الثانية أو علق الخروج بشيء يوجد في صلاته قطعا بطلت في الحال على الصحيح. وعلى الشاذ لا تبطل في الحال، بل لو رفض هذا التردد قبل الانتهاء إلى الغاية المنويّة صحت صلاته. ولو عَلَّق الخروج بدخول شخص ونحوه مما يحتمل حصوله في الصلاة وعدمه بطلت في الحال على الأصح كما لو دخل في الصلاة هكذا، فإنه لا ينعقد بلا خلاف، وكما لو علق به الخروج من الإسلام فإنه يكفر في الحال قطعا. والثاني: لا تبطل في الحال. وهل تبطل بوجود الصفة إذا وُجِدَتْ وهو ذاهل عن التعليق؟ وجهان: أحدهما: لا، وأصحهما وقول الكثيرين: تبطل. قال إمام الحرمين: ويظهر على هذا أن يقال: تبيَّن بالصفة بطلانها من حين التعليق. أما إذا وجدت وهو ذاكر للتعليق فتبطل قطعا. ولو نوى فريضة أو سنة راتبة ثم نوى فيها فريضة أخرى أو راتبة بطلت التي كان فيها، ولم تحصل المنويّة. وفي بقاء أصل الصلاة نافلةً قولان نذكرهما إن شاء الله تعالى. ولو تردد الصائم في الخروج من صومه أو علقه على دخول شخص ونحوه لم يبطل، على المذهب الذي قطع به الجماهير. وقيل: وجهان. ولو جزم نية الخروج منه لم يبطل على الأصح كالحج، فإنه لا يبطل قطعا. ولو شك في صلاته: هل أتى بكمال النية أم تركها أو ترك بعض شروطها؟ نُظِر: إن تذكَّر أنه أتى بكمالها قبل أن يُحْدِث شيئا على الشك وقِصَر الزمان لم تبطل صلاته، وإن طال بطلت على الأصح لانقطاع نظمها. وإن تذكر بعد أن أتى على الشك بركنٍ فعليٍّ كالركوع أو السجود بطلت، وإن أتى بقَوْلِيٍّ كالقراءة والتشهد بطلت أيضا على الأصح المنصوص والذي قطع به العراقيون. قال الماوردي: لو شك هل نوى ظهرا أو عصرا لم يجزئه عن واحدة. فإن تيقنها فعلى التفصيل المذكور، والله أعلم.
فرع في كيفية النية: أما الفريضة فيجب فيها قصد أمرين بلا خلاف: أحدها فعل الصلاة لتمتاز عن سائر الأفعال، ولا يكفي إحضار نفس الصلاة بالبال غافلا عن الفعل. والثاني تعيين الصلاة لمأتيٍّ بها. ولا تجزئه نية فريضة الوقت عن نية الظهر أو العصر على الأصح لأن الفائتة التي يتذكرها تشاركها في كونها فريضة الوقت. ولا تصح الظهر بنية الجمعة على الصحيح الصواب. ولا تصح الجمعة بنية مطلق الظهر، ولا تصح بنية الظهر المقصورة إن قلنا: إنها صلاة بحيالها. وإن قلنا: "ظهر مقصورة" صَحَّتْ. واختلفوا في اعتبار أمور سوى هذين الأمرين: أحدها الفرضية، وهو شرط على الأصح عند الأكثرين سواء كان الناوي بالغا أو صبيا، وسواء كانت الصلاة قضاء أم أداء. الثاني الإضافة إلى الله تعالى بأن يقول: لله أو فريضةً الله. والأصح أنه لا يشترط. الثالث القضاء والأداء. الأصح أنه لا يشترط، بل تصح أداءً بنية القضاء وعكسه. ولك أن تقول: الخلاف في اشتراط نية الأداء في الأداء، ونية القضاء في القضاء، ظاهر. أما الخلاف في صحة الأداء بنية القضاء وعكسه فليس بظاهر لأنه إن جرت هذه النية على لسانه أو في قلبه ولم يقصد حقيقة معناها فينبغي أن تصح قطعا. وإن قصد حقيقة معناها فينبغي ألا يصح قطعا لتلاعبه. قلت: مراد الأصحاب بقولهم: يصح القضاء بنية الأداء وعكسه إن نوى ذلك جاهل الوقت لغَيْمٍ ونحوه. والإلزام الذي ذكره الرافعي حكمه صحيح، ولكن ليس هو مرادهم والله أعلم... إلخ".
فها أنت ذا أيها القارئ ترى أن الأمر فى الحكم الفقهى لا يهتم بمشاعر المصلى أو بتركيزه وخشوعه، بل بأن تكون تصرفاته الظاهرة ونيته السطحية متطابقة مع الشروط الظاهرية الشكلية، وكان الله يحب المحسنين. إن الفقيه هنا يبدو وكأنه يُسَمِّع من كتاب قد حفظه، فهو يرصّ الكلام رَصًّا دون اهتمام أو انفعال أو تجاوب مع ما يقول ودون أن ينظر فى وجوه مخاطبيه لكى يقيم بينه وبينهم صلة نفسية. وكل أدائه على هذا النحو طوال حديثه عن النية، وهو حديث طويل لم أورد منه إلا نصفه تقريبا. أما حين تناول د. عبد الحليم محمود موضوع النية فلم يتجه به مُتَّجَهَ الفقهاء، بل ركز جل اهتمامه على الإخلاص فى أداء العبادة، فنَوَّه أولا بأهمية الإخلاص ووجوبه، مبينا أن الله لا يتقبل من العبادة إلا ما كان مقصودا به وجهه سبحانه. وقد استشهد فى هذا السياق بالقرآن وحديث الرسول عن الإخلاص ودوره فى قبول الأعمال حتى لو كانت جهادا، إذ سوف يسأل الله يوم القيامة صاحب كل عمل: فإن كان مخلصا قبل عمله وأكرمه، وإلا رده عليه وقال له: إنك كنت تعمل فى الدنيا جريا وراء السمعة، فقد حَصَّلْتَ ما أردتَه، ثم أمر الزبانية فأَلْقَوْه فى النار. ثم ينتقل بعد هذه الجولة القرآنية الحديثية إلى الصوفية فيورد كلام أبى سعيد الخراز عن لزوم تأسيس الأعمال على الإخلاص، بمعنى أن يريد العبدُ بعمله وجه الله وحده دون التفات إلى مدح أو ثناء أو فرح باطلاع المخلوق عليه، وأن يعمل على التخلص فى الحال من أى شعور من هذا النوع يخامر نفسه، وإذا ذكر أحد عمله بخيرٍ حَمِدَ اللهَ على أن ستر الله عليه ووفقه إلى هذا العمل، مع خشيته أن يفسد عملُه الردىءُ وسريرتُه القبيحةُ عليه أمرَه، وألا تأخذه فى الله لومة لائم. ثم يستمر د. عبد الحليم قائلا إن أول لَبِنَة فى صرح الإخلاص هى التوبة، ثم يذكر شروطها ويستشهد، على مدار صفحات، بنصوص القرآن والحديث على كل شىء يقوله فى هذا الصدد.
وفى "إحياء علوم الدين" يقول أبو حامد الغزالى: "الأعمال التي هي أعمال الآخرة ثلاثة: الإسلام، والصلاة والزكاة، والحلال والحرام. فإذا تأملتَ منتهى نظر الفقيه فيها علمتَ أنه لا يجاوز حدود الدنيا إلى الآخرة. وإذا عرفت هذا في هذه الثلاثة فهو في غيرها أظهر. أما الإسلام فيتكلم الفقيه فيما يصح منه وفيما يَفْسُد وفي شروطه، وليس يلتفت فيه إلا إلى اللسان. وأما القلب فخارج عن ولاية الفقيه لعزل رسول الله صلى الله عليه وسلم أرباب السيوف والسلطنة عنه حيث قال: "هلا شققتَ عن قلبه؟" للذي قتل من تكلم بكلمة الإسلام معتذرا بأنه قال ذلك من خوف السيف، بل يحكم الفقيه بصحة الإسلام تحت ظلال السيوف مع أنه يعلم أن السيف لم يكشف له عن نيته ولم يدفع عن قلبه غشاوة الجهل والحيرة، ولكنه مثير على صاحب السيف، فإن السيف ممتد إلى رقبته، واليد ممتدة إلى ماله، وهذه الكلمة باللسان تعصم رقبته وماله ما دام له رقبة ومال، وذلك في الدنيا. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: "أُمِرْتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله. فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم"، وجعل أثر ذلك في الدم والمال. وأما الآخرة فلا تنفع فيها الأموال بل أنوار القلوب وأسرارها وإخلاصها، وليس ذلك من الفقه. وإنْ خاض الفقيه فيه كان كما لو خاض في الكلام والطب، وكان خارجا عن فنه. وأما الصلاة فالفقيه يفتي بالصحة إذا أتى بصورة الأعمال مع ظاهر الشروط، وإن كان غافلاً في جميع صلاته من أولها إلى آخرها، مشغولاً بالتفكير في حساب معاملاته في السوق إلا عند التكبير. وهذه الصلاة لا تنفع في الآخرة، كما أن القول باللسان في الإسلام لا ينفع. ولكن الفقيه يفتي بالصحة. أي أن ما فعله حصل به امتثال صيغة الأمر، وانقطع به عنه القتل والتعزير. فأما الخشوع وإحضار القلب الذي هو عمل الآخرة، وبه ينفع العمل الظاهر، فلا يتعرض له الفقيه. ولو تعرض له لكان خارجا عن فنه.
وأما الزكاة فالفقيه ينظر إلى ما يقطع به مطالبة السلطان حتى إنه إذا امتنع عن أدائها فأخذها السلطان قهرا حَكَم بأنه برئت ذمته. وحكى أن أبا يوسف القاضي كان يهب ماله لزوجته آخر الحول، ويستوهب مالها، إسقاطا للزكاة، فحكى ذلك لأبي حنيفة رحمه الله فقال: ذلك من فقهه. وصَدَقَ، فإن ذلك من فقه الدنيا، ولكن مضرته في الآخرة أعظم من كل جناية. ومثل هذا هو العلم الضار.
وأما الحلال والحرام فالورع عن الحرام من الدين. ولكن الورع له أربع مراتب: الأولى الورع الذي يشترط في عدالة الشهادة، وهو الذي يخرج بتركه الإنسان عن أهلية الشهادة والقضاء والولاية، وهو الاحتراز عن الحرام الظاهر. الثانية ورع الصالحين، وهو التوقي من الشبهات التي يتقابل فيها الاحتمالات. قال صلى الله عليه وسلم: "دع ما يَرِيبك إلى ما يريبك". وقال صلى الله عليه وسلم: "الإثم حزاز القلوب". الثالثة ورع المتقين، وهو ترك الحلال المحض الذي يُخَاف منه أداؤه إلى الحرام. قال صلى الله عليه وسلم: "لا يكون الرجل من المتقين حتى يدع ما لا بأس به مخافةً مما به بأس"، وذلك مثل التورع عن التحدث بأحوال الناس خيفة من الانجرار إلى الغِيبَة، والتورع عن أكل الشهوات خيفةً من هيجان النشاط والبطر المؤدي إلى مقارفة المحظورات. الرابعة ورع الصديقين، وهو الإعراض عما سوى الله تعالى خوفًا من صرف ساعة من العمر إلى ما لا يفيد زيادةَ قربٍ عند الله عز وجل، وإن كان يعلم ويتحقق أنه لا يفضي إلى حرام. فهذه الدرجات كلها خارجة عن نظر الفقيه إلا الدرجة الأولى، وهو ورع الشهود والقضاء وما يقدح في العدالة. والقيام بذلك لا ينفي الإثم في الآخرة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لوابصة: "استفت قلبك، وإن أَفْتَوْكَ، وإن أفتوك، وإن أفتوك". والفقيه لا يتكلم في حزازات القلوب وكيفية العمل بها، بل فيما يقدح في العدالة فقط. فإن جميع نظر الفقيه مرتبط بالدنيا التي بها صلاح طريق الآخرة. فإن تكلم في شيء من صفات القلب وأحكام الآخرة فذلك يدخل في كلامه على سبيل التطفل كما قد يدخل في كلامه شيء من الطب والحساب والنجوم وعلم الكلام، وكما تدخل الحكمة في النحو والشعر. وكان سفيان الثوري، وهو إمام في علم الظاهر، يقول: إنّ طلب هذا ليس من زاد الآخرة. كيف، وقد اتفقوا على أن الشرف في العلم العمل به؟ فكيف يظن أنه علم الظِّهَار واللِّعَان والسَّلَم والإجارة والصرف؟ ومن تعلم هذه الأمور ليتقرب بها إلى الله تعالى فهو مجنون. وإنما العمل بالقلب والجوارح في الطاعات، والشرف هو تلك الأعمال. فإن قلت: لم سويتَ بين الفقه والطب، إذ الطب أيضا يتعلق بالدنيا، وهو صحة الجسد، وذلك يتعلق به أيضا صلاح الدين، وهذه التسوية تخالف إجماع المسلمين؟ فاعلم أن التسوية غير لازمة، بل بينهما فرق، وأن الفقه أشرف منه من ثلاثة أوجه: أحدها أنه علم شرعي، إذ هو مستفاد من النبوة، بخلاف الطب، فإنه ليس من علم الشرع. والثاني أنه لا يستغني عنه أحد من سالكي طريق الآخرة البتة: لا الصحيح ولا المريض. وأما الطب فلا يحتاج إليه إلا المرضى، وهم الأقلون. والثالث أن علم الفقه مجاور لعلم طريق الآخرة لأنه نظر في أعمال الجوارح، ومصدر أعمال الجوارح ومنشؤها صفات القلوب. فالمحمود من الأعمال يصدر عن الأخلاق المحمودة الـمُنْجِية في الآخرة، والمذموم يصدر من المذموم، وليس يخفى اتصال الجوارح بالقلب. وأما الصحة والمرض فمنشؤهما صفاء في المزاج والأخلاط، وذلك من أوصاف البدن لا من أوصاف القلب. فمهما أضيف الفقه إلى الطب ظَهَرَ شَرَفُه، وإذا أضيف علم طريق الآخرة إلى الفقه ظهر أيضا شرف علم طريق الآخرة.
فإن قلتَ: "فََصِّلْ لي علم طريق الآخرة تفصيلاً يشير إلى تراجمه، وإن لم يمكن استقصاء تفاصيله" فاعلم أنه قسمان: علم مكاشفة، وعلم معاملة. فالقسم الأول علم المكاشفة، وهو علم الباطن، وذلك غاية العلوم، فقد قال بعض العارفين: من لم يكن له نصيب من هذا العلم أخاف عليه سوء الخاتمة. وأدنى نصيب منه التصديق به وتسليمه لأهله. وقال آخر: من كان فيه خصلتان لم يُفْتَح له بشيء من هذا العلم: بدعة أو كِبْر. وقيل: من كان محبا للدنيا أو مصرا على هوى لم يتحقق به، وقد يتحقق بسائر العلوم. وأقل عقوبة من ينكره أنه لا يذوق منه شيئا. وينشد على قوله:
وارْضَ لمن غــــاب عنك غيبتــــــــــه فـــــذاك ذنــــبٌ عـقـابـُــــــه فـيـــــــــــهِ
وهو علم الصديقين والمقربين، أعني علم المكاشفة. فهو عبارة عن نور يظهر في القلب عند تطهيره وتزكيته من صفاته المذمومة، وينكشف من ذلك النور أمور كثيرة كان يسمع من قبلُ أسماءها فيتوهم لها معاني مجملة غير مُتَّضِحَة، فتتضح إذ ذاك حتى تحصل المعرفة الحقيقية بذات الله سبحانه وبصفاته الباقيات التامات وبأفعاله وبحكمته في خلق الدنيا والآخرة ووجه ترتيبه للآخرة على الدنيا، والمعرفة بمعنى النبوة والنبي ومعنى الوحي ومعنى الشيطان ومعنى لفظ الملائكة والشياطين للإنسان، وكيفية ظهور الملك للأنبياء، وكيفية وصول الوحي إليهم، والمعرفة بملكوت السموات والأرض، ومعرفة القلب وكيفية تصادم جنود الملائكة والشياطين فيه، ومعرفة الفرق بين لمة الملك ولمة الشيطان، ومعرفة الآخرة والجنة والنار وعذاب القبر والصراط والميزان والحساب، ومعنى قوله تعالى: "اقرأ كتابك. كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا"، ومعنى قوله تعالى: "وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون"، ومعنى لقاء الله عز وجل والنظر إلى وجهه الكريم، ومعنى القرب منه والنزول في جواره، ومعنى حصول السعادة بمرافقة الملإ الأعلى ومقارنة الملائكة والنبيين، ومعنى تفاوت درجات أهل الجِنَان حتى يرى بعضهم البعض كما يُرَى الكوكب الدُّرِّيّ في جوف السماء... إلى غير ذلك مما يطول تفصيله، إذ للناس في معاني هذه الأمور بعد التصديق بأصولها مقامات شتى: فبعضهم يرى أن جميع ذلك أمثلة، وأن الذي أعده الله لعباده الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وأنه ليس مع الخلق من الجنة إلا الصفات والأسماء. وبعضهم يرى أن بعضها أمثلة، وبعضها يوافق حقائقها المفهومة من ألفاظها. وكذا يرى بعضهم أن منتهى معرفة الله عز وجل الاعتراف بالعجز عن معرفته. وبعضهم يدعي أمورا عظيمة في المعرفة بالله عز وجل. وبعضهم يقول: حَدُّ معرفةِ الله عز وجل ما انتهى إليه اعتقاد جميع العوام، وهو أنه موجود عالم قادر سميع بصير متكلم.
فنعني بعلم المكاشفة أن يرتفع الغطاء حتى تنضج له جلية الحق في هذه الأمور اتضاحا يجري مجرى العيان الذي لا يشك فيه. وهذا ممكن في جوهر الإنسان لولا أن مرآة القلب قد تراكم صدؤها وخَبَثُها بقاذورات الدنيا. وإنما نعني بعلم طريق الآخرة العلم بكيفية تصقيل هذه المرآة عن هذه الخبائث، التي هي الحجاب عن الله سبحانه وتعالى وعن معرفة صفاته وأفعاله. وإنما تصفيتها وتطهيرها بالكف عن الشهوات والاقتداء بالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم في جميع أحوالهم. فبقدر ما ينجلي من القلب ويحاذي به شطر الحق يتلألأ فيه حقائقه. ولا سبيل إليه إلا بالرياضة، التي يأتي تفصيلها في موضعها، وبالعلم والتعليم. وهذه هي العلوم التي لا تُسَطَّر في الكتب ولا يتحدث بها من أنعم الله عليه بشيء منها إلا مع أهله، وهو المشارك فيه على سبيل المذاكرة، وبطريق الأسرار. وهذا هو العلم الخفي الذي أراده صلى الله عليه وسلم بقوله: "إن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا أهل المعرفة بالله تعالى. فإذا نطقوا به لم يجهله إلا أهل الاغترار بالله تعالى. فلا تحقروا عالما آتاه الله تعالى علما منه، فإن الله عز وجل لم يحقره إذ آتاه إياه".
وأما القسم الثاني، وهو علم المعاملة، فهو علم أحوال القلب. أما ما يُحْمَد منها فكالصبر والشكر والخوف والرجاء والرضا والزهد والتقوى والقناعة والسخاء، ومعرفة المنة لله تعالى في جميع الأحوال، والإحسان وحسن الظن وحسن الخلق وحسن المعاشرة والصدق والإخلاص. فمعرفة حقائق هذه الأحوال وحدودها وأسبابها التي بها تُكْتَسَب وثمرتها وعلامتها ومعالجة ما ضعف منها حتى يقوى وما زال حتى يعود من علم الآخرة. وأما ما يُذَمّ فخوف الفقر وسخط المقدور والغل والحقد والحسد والغش وطلب العلو وحب الثناء وحب طول البقاء في الدنيا للتمتع، والكبر والرياء والغضب والأنفة والعداوة والبغضاء والطمع والبخل والرغبة والبذخ والأَشَر والبَطَر وتعظيم الأغنياء والاستهانة بالفقراء والفخر والخيلاء والتنافس والمباهاة والاستكبار عن الحق والخوض فيما لا يعنيه وحب كثرة الكلام والصلف والتزين للخلق والمداهنة والعُجْب والاشتغال عن عيوب النفس بعيوب الناس وزوال الحزن من القلب، وخروج الخشية منه، وشدة الانتصار للنفس إذا نالها الذل، وضعف الانتصار للحق، واتخاذ إخوان العلانية على عداوة السر، والأمن من مكر الله سبحانه وتعالى في سلب ما أعطى، والاتكال على الطاعة، والمكر والخيانة والمخادعة وطول الأمل والقسوة والفظاظة والفرح بالدنيا والأسف على فواتها، والأنس بالمخلوقين والوحشة لفراقهم، والجفاء والطيش والعجلة وقلة الحياء وقلة الرحمة. فهذه وأمثالها من صفات القلب مغارس الفواحش ومنابت الأعمال المحظورة. وأضدادها، وهي الأخلاق المحمودة، منبع الطاعات والقُرُبات.
فالعلم بحدود هذه الأمور وحقائقها وأسبابها وثمراتها وعلاجها هو علم الآخرة، وهو فرض عين في فتوى علماء الآخرة. فالمعرض عنها هالك بسطوة ملك الملوك في الآخرة، كما أن المعرض عن الأعمال الظاهرة هالك بسيف سلاطين الدنيا بحكم فتوى فقهاء الدنيا. فنظر الفقهاء في فروض العين بالإضافة إلى صلاح الدنيا، وهذا بالإضافة إلى صلاح الآخرة.
ولو سئل فقيه عن معنى من هذه المعاني حتى عن الإخلاص مثلاً أو عن التوكل أو عن وجه الاحتراز عن الرياء لتوقف فيه مع أنه فرض عينه الذي في إهماله هلاكه في الآخرة. ولو سألته عن اللعان والظهار والسبق والرمي لسرد عليك مجلدات من التفريعات الدقيقة التي تنقضي الدهور ولا يحتاج إلى شيء منها، وإن احتيج لم تخل البلد عمن يقوم بها ويكفيه مؤنة التعب فيها. فلا يزال يتعب فيها ليلاً ونهارًا. وفي حفظه ودرسه يغفل عما هو مهم في نفسه في الدين. وإذا روجع فيه قال: "اشتغلت به لأنه علم الدين وفرض الكفاية"، ويلبِّس على نفسه وعلى غيره في تعلمه. والفَطِن يعلم أنه لو كان غرضه أداء حق الأمر في فرض الكفاية لقدَّم عليه فرض العين، بل قدم عليه كثيرا من فروض الكفايات. فكم من بلدة ليس فيها طبيب إلا من أهل الذمة، ولا يجوز قبول شهادتهم فيما يتعلق بالأطباء من أحكام الفقه، ثم لا نرى أحدا يشتغل به، ويتهاترون على علم الفقه، لا سيما الخلافيات والجدليات، والبلد مشحون من الفقهاء بمن يشتغل بالفتوى والجواب عن الوقائع. فليت شعري كيف يرخِّص فقهاء الدين في الاشتغال بفرض كفاية قد قام به جماعة وإهمال ما لا قائم به؟ هل لهذا سبب إلا أن الطب ليس يتيسر الوصول به إلى تولي الأوقاف والوصايا وحيازة مال الأيتام وتقلد القضاء والحكومة والتقدم به على الأقران والتسلط به على الأعداء؟ هيهات هيهات! قد اندرس علم الدين بتلبيس علماء السوء، فالله تعالى المستعان، وإليه الملاذ في أن يعيذنا من هذا الغرور الذي يُسْخِط الرحمن ويُضْحِك الشيطان.
وقد كان أهل الورع من علماء الظاهر مُقِرِّين بفضل علماء الباطن وأرباب القلوب. كان الإمام الشافعي رضي الله عنه يجلس بين يدي شيبان الراعي كما يقعد الصبي في المكتب ويسأله: كيف يفعل في كذا وكذا؟ فيقال له: مثلك يسأل هذا البدوي؟ فيقول: إن هذا وُفِّق لما أغفلناه. وكان أحمد بن حنبل رضي الله عنه ويحيى بن معين يختلفان إلى معروف الكرخي، ولم يكن في علم الظاهر بمنزلتهما، وكانا يسألانه. وكيف، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قيل له: كيف نفعل إذا جاءنا أمر لم نجده في كتاب ولا سنة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "سلوا الصالحين واجعلوه شورى بينهم". ولذلك قيل: علماء الظاهر زينة الأرض والملك، وعلماء الباطن زينة السماء والملكوت. وقال الجنيد رحمه الله: قال لي السَّرِيّ شيخي يوما: إذا قمتَ من عندي فمن تجالس؟ قلت: المحاسبي. فقال: نعم خذ من علمه وأَدْنِه، ودع عنك تشقيقه الكلام ورَدَّه على المتكلمين. ثم لما ولَّيْتُ سمعتُه يقول: جعلك الله صاحب حديث صوفيا، ولا جعلك صوفيا صاحب حديث. أشار إلى أن من حصَّل الحديث والعلم ثم تصوَّف أفلح، ومن تصوَّف قبل العلم خاطَرَ بنفسه".
وخصص أبو القاسم القشيرى فى "الرسالة القشيرية" بابا مستقلا للإخلاص قال فيه: "قال الله تعالى: "ألا لله الدين الخالص".أخبرنا علي بن أحمد الأهوازي قال: أخبرنا أحمد بن عبيد البصري، قال: حدثنا جعفر بن محمد الغرياني قال: حدثنا أبو طالوت قال: حدثني هانئ بن عبد الرحمن بن أبي عقبة، عن إبراهيم بن أبي عبلة العقيلي قال: حدثني عطية ابن وشاح، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله علي وسلم: "ثلاث لا يغلّ عليهنّ قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمور، ولزوم جماعة المسلمين". وقال الأستاذ: الإخلاص إفراد الحق سبحانه في الطاعة بالقصد، وهو أن يريد بطاعته التقرب إلى الله سبحانه دون أي شيء آخر من تصنُّعٍ لمخلوق أو اكتساب محمدة عند الناس، أو محبة مدح من الخلق، أو معنى من المعاني سوى التقرّب به إلى الله تعالى.
ويصحّ أن يقال: الإخلاص تصفية الفعل من ملاحظة المخلوقين. ويصحّ أن يقال: الإخلاص التوقّي عن ملاحظة الأشخاص. وقد ورد خبرٌ مسندٌ "أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبره جبريل عليه السلام عن الله سبحانه وتعالى أنه قال: الإخلاص سر من سري استودعته قلب من أحببته من عبادي". سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي رحمه الله يقول، وقد سألته عن الإخلاص: ما هو؟ فقال: سمعت علي بن سعيد وأحمد بن محمد بن زكريا، وقد سألتهما عن الإخلاص، فقالا: سمعنا علي بن إبراهيم الشقيقي، وقد سألناه عن الإخلاص، فقال: سمعت محمد بن جعفر الخصّاف، وقد سألته عن الإخلاص، فقال: سألت أحمد بن بشار عن الإخلاص: ما هو؟ قال: سألت أبا يعقوب الشريطيّ عن الإخلاص: ما هو؟ قال: سألت أحمد بن غسّان عن الإخلاص: ما هو؟ قال: سألت عبد الواحد بن زيد عن الإخلاص: ما هو؟ قال: سألت الحسن عن الإخلاص: ما هو؟ قال: سألت حذيفة عن الإخلاص: ما هو؟ قال: سألت جبريل عليه السلام عن الإخلاص: ما هو؟ قال: سألت ربّ العزة عن الإخلاص: ما هو؟ قال: "سِرٌّ من سِرّي استودعته قلب من أحببته من عبادي".
سمعت الأستاذ أبا عليّ الدقاق يقول: الإخلاص التَّوَقِّي عن ملاحظة الخلق. والصِّدق التَّنَقِّي من مطالعة النفس. فالمخلص لا رياء له، والصادق لا إعجاب له. وقال ذو النون المصري: الإخلاص لا يتم إلا بالصدق فيه والصبر عليه، والصدق لا يتمّ إلا بالإخلاص فيه والمداومة عليه. وقال أبو يعقوب السوسي: متى شهدوا في إخلاصهم الخلاص احتاج إخلاصهم إلى إخلاص. وقال ذو النون: ثلاث من علامات الإخلاص: استواء المدح والذم من العامّة، ونسيان رؤية الأعمال في الأعمال، ونسيان اقتضاء ثواب العمل في الآخرة. سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي رحمه الله يقول: سمعت أبا عثمان المغربي يقول: الإخلاص ما يكون للنفس فيه حظ بحال، وهذا إخلاص العوام. وأما إخلاص الخواصّ فهو ما يجري عليهم لا بهم، فتبدو منهم الطاعات، وهم عنها بمعزل، ولا يقع لهم عليها رؤية ولا بها اعتداد، فذلك إخلاص الخواصّ.
وقال أبو بكر الدقاق: نقصان كلّ مخلص في إخلاصه رؤية إخلاصه. فإذا أراد الله تعالى أن يخلص إخلاصه أسقط عن إخلاصه رؤيته لإخلاصه، فيكون مُخْلَصًا لا مخلِصًا. وقال سهل: لا يعرف الرياء إلا مخلص. سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت عبد الله بن علي يقول: سمعت الوجيهي يقول: سمعت أبا عليّ الروذباري يقول: قال لي رُوَيْم: قال أبو سعيد الخرّاز: رياء العارفين أفضل من إخلاص المريدين. وقال ذو النون: الإخلاص ما حفظ من العدو أن يفسده. وقال أبو عثمان: نسيان رؤية الخلق به دوام النظر إلى فضل الخالق. وقال حذيفة المرعشي: الإخلاص أن تستوي أفعال العبدفي الظاهر والباطن.
وقيل: الإخلاص ما أريد به الحق سبحانه، وقُصِد به الصدق. وقيل: الإغماضُ عن رؤية الأعمال. سمعت محمد بن الحسين رحمه الله يقول: سمعت أبا الحسين الفراسي يقول: سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت عليَّ بن عبد الحميد يقول: سمعت السَّرِيّ يقول: من تزين للناس بما ليس فيه سقط من عين الله تعالى.
وسمعته يقول: سمعت عليّ بن بندار الصوفي يقول: سمعت عبد الله بن محمود يقول: سمعت محمد بن عبد ربه يقول: سمعت الفُضَيْل يقول: ترك العمل من أجل الناس رياء، والعمل من أجل الناس شرك، والإخلاص أن يعافيك الله منهما. وقال الجنيد: الإخلاص سرٌّ بين الله تعالى وبين العبد: لا يعلمه مَلَكٌ فيكتبه، ولا شيطان فيفسده، ولا هوى فيميله. وقال رُوَيْم: الإخلاص من العمل هو الذي لا يريد صاحبه عليهِ عوضا من الدارين، ولا حظا من الملكين. وقيل لسهل بن عبد الله: أيُّ شيءٍ أشدُّ على النفس؟ فقال: الإخلاص، لأنه ليس لها فيه نصيب.
وسئل بعضهم عن الإخلاص، فقال: ألا تُشْهِد على عملك غير الله عز وجل. وقال بعضهم: دخلت علي سهل بن عبد الله يوم جمعة قبل الصلاة بيتا، فرأيت في البيت حيَّة، فجعلت أقدم رجلاً وأؤخر أخرى، فقال: ادخل. لا يبلغ أحدٌ حقيقة الإيمان، وعلى وجه الأرض شيء يخافه. ثم قال: هل لك في صلاة الجمعة؟ فقلت: بيننا وبين المسجد مسيرة يوم وليلة. فأخذ بيدي، فما كان إلا قليل حتى رأيت المسجد، فدخلناه وصلينا الجمعة، ثم خرجنا، فوقف ينظر إلى الناس وهم يخرجون، فقال: أهل "لا إلهَ إلا اللهُ" كثير، والمخلصون منهم قليل.
أخبرنا حمزة بن يوسف الجرجاني قال: حدثنا محمد بن محمد بن عبد الرحيم قال: حدثنا أبو طالب محمد بن زكريا المقدسي قال: حدثنا أبو قرصافة محمد بن عبد الوهاب العسقلاني قال: حدثنا زكريا بن نافع قال: حدثنا محمد بن يزيد القراطيسي عن إسماعيل بن أبي خالد عن مكحل قال: ما أخلص عبدٌ قط أربعين يوما إلا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه. سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي رحمه الله يقول: سمعت محمد بن عبد الله بن شاذان يقول: سمعت عبد الرزاق يقول: سمعت يوسف بن الحسين يقول: أعزُّ شيءٍ في الدنيا الإخلاصُ. وكنت أجتهد في إسقاط الرياء عن قلبي، فكان ينبت فيه على لون آخر. وسمعته يقول: سمعت النصراباذي يقول: سمعت أبا الجهم يقول: سمعت ابن أبي الحواري يقول: سمعت أبا سليمان يقول: إذا أخلص العبد انقطعت عنه كثرة الوساوس والرياء".
ويقول ابن عجيبة فى "إيقاظ الهمم: شرح متن الحكم": "لما كان الإخلاص شرطًا في كل عمل ذَكَره بأثره فقال: الأعمال صور قائمة، وأرواحها وجود سر الإخلاص فيها... والإخلاص إفراد القلب لعبادة الرب، وسره لبه، وهو الصدق المعبر عنه بالتبري من الحول والقوة، إذ لا يتم إلا به، وإن صح دونه، إذ الإخلاص نفي الرياء والشرك الخفي، وسره نفي العُجْب وملاحظة النفس. والرياء قادح في صحة العمل، والعُجْب قادح في كماله فقط... قال تعالى: "وما أُمِرُوا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء". وقال تعالى: "فاعبد الله مخلصًا له الدين". وقال صلى الله عليه وسلم حاكيًا عن الله تعالى: يقول: "أنا أَغْنَى الشركاء. من أشرك معي غيري تركته وشريكه". وقال صلى الله عليه وسلم: "أخوف ما أخاف على أمتي الشِّرْك الخفي"، وهو الرياء. وفي رواية: "اتقوا هذا الشرك الخفي، فإنه يدب دبيب النمل. قيل: وما الشرك الخفي؟ قال: الرياء"...
قال بعضهم: مقام الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه. والإخلاص على ثلاث درجات: درجة العوام، والخواص، وخواص الخواص. فإخلاص العوام هو إخراج الخلق من معاملة الحق مع طلب الحظوظ الدنيوية والأخروية كحفظ البدن والمال وسعة الرزق والقصور والحور. وإخلاص الخواص طلب الحظوظ الأخروية دون الدنيوية. وإخلاص خواص الخواص إخراج الحظوظ بالكلية. فعبادتهم تحقيق العبودية والقيام بوظائف الربوبية أو محبةً وشوقًا إلى رؤيته كما قال ابن الفارض:
ليس سُؤْلِــــــــي من الجنان نعيمًــــا غير أني أحبهـــــــــــــا لأراكــــــــــــا
وقال آخر:
كلهم يعبدون من خــــــــــــوف نـارٍ
أو بأن يسكنوا الجنـــــان فيضحوا
ليس لي في الجنـــــــان والنار رأى ويرون النجـــــــــاة حظًّـــا جـزيــــلا
في رياض ويشربوا السلسبيـــــــــلا
أنا لا أبتغي بحـبــــــــــــي بـديــــــــلا
قال الشيخ أبو طالب رضي الله عنه: الإخلاص عند المخلصين إخراج الخلق من معاملة الحق، وأول الخلق النفس. والإخلاص عند المحبين ألا يعملوا عملا لأجل النفس، وإلا دخل عليها مطالعة العِوَض أو الميل إلى حظ النفس. والإخلاص عند الموحدين خروج الخلق من النظر إليهم في الأفعال، وعدم السكون والإستراحة إليهم في الأحوال. وقال بعض المشايخ: صحح عملك بالإخلاص، وصحح إخلاصك بالتبري من الحول والقوة. وقال بعض العارفين: لا يتحقق الإخلاص حتى يسقط من عين الناس، ويسقط الناس من عينه... وسمعت شيخنا يقول: ما دام العبد يراقب الناس ويهابهم لا يتحقق إخلاصه أبدا... والحاصل: لا يمكن الخروج من النفس والتخلص من دقائق الرياء من غير شيخ أبدا... ولما كان الخمول من مضامن الإخلاص، بل لا يتحقق في الغالب إلا به، إذ لاحظ فيه للنفس، ذَكَره بعده فقال: ادفن وجودك في أرض الخمول، فما نبت مما لم يدفن لا يتم نتاجه...
وفي مدح الخمول أحاديث كثيرة وفضائل مشهورة. ولو لم يكن فيه إلا الراحة وفراغ القلب لكان كافيًا. وأنشد بعضهم، وهو الحضرمي:
عش خامل الذكر بين الناس وأرض بــــــه
من عاشر الناس لم تسـلـم ديانـتــهُ فــــــــــذاك أسـلــــــــــم لـلـدنـيــــــا ولـلـديـــنِ
ولم يـزل بين تحــريك وتـسـكــــــيـــنِ
وكذا قصة الرجل الذي كان مع أبي يزيد البسطامي: بقي معه ثلاثين سنة، فكان لا ينقطع عن مجلسه ولا يفارقه، فقال له يومًا: يا أستاذ، أنا منذ ثلاثين سنة أصوم النهار وأقوم الليل، وقد تركت الشهوات. ولست أجد في قلبي شيئا من هذا الذي تذكر البتة، وأنا أومن بكل ما تقول وأصدقه. فقال له أبو يزيد رضي الله عنه: لو صليتَ ثلاثمائة سنة، وأنت على ما أراك عليه، لا تجد منه ذرة. قال: فَلِمَ يا أستاذ؟ قال: لأنك محجوب بنفسك. قال: أَفَلِهَذَا دواء حتى ينكشف هذا الحجاب؟ قال: نعم، ولكنك لا تقبل ولا تعمل. قال: بل أقبل وأعمل ما تقول. قال له أبو يزيد: اذهب الساعة إلى الحجّام واحلق رأسك ولحيتك وانزع هذا اللباس واتَّزِرْ بعباءة، وعلق في عنقك مخلاة، واملأها جوزًا، واجمع حولك صبيانًا، وقل بأعلى صوتك: يا صبيان، من يصفعْني صفعة أُعْطِه جوزة، وادخل سوقك الذي تُعَظَّم فيه وأنت على هذه الحالة حتى ينظر إليك كل من عرفك. فقال: يا أبا يزيد، سبحان الله! أيقال لمثلي هذا، وتحسب أني أفعله؟ فقال له: قولك: "سبحان الله" شرك. فقال له: وكيف؟ فقال أبو يزيد: لأنك عظمتَ نفسك فسبَّحْتَها. قال: يا أبا يزيد، لست أقدر على هذا ولا أفعله. ولكن دُلَّني على غير هذا حتى أفعله. فقال له أبو يزيد: ابدأ بهذا قبل كل شيء حتى تُسْقِط جاهك وتُذِلّ نفسك، ثم بعد ذلك أعرّفك بما يصلح لك. قال: لا أطيق هذا. قال: إنك قد قلت إنك تقبل وتعمل. وأنا أعلم ألا مطمع لعبد فيما حُجِب عن العامة من أسرار الغيب حتى يموّت نفسه ويخرق عوائد العامة، فتُخْرَق له العوائد وتظهر له الفوائد.
وكذلك قصة أبي عمران البردعي مع شيخه أبي عبد الله التاودي بفاس من حَلْق رأسه ولُبْسه جلابية وأخذه خبزة ينادي عليها: من يخلصها؟ ففعل جميع ذلك. وكذلك قصة شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن المجذوب من أكله التين عند أشجار الناس وغنائه بالأسواق وخرابه بالقصر مشهور حتى طَوَّف بها مرارًا. وكذلك قصة سيدي علي العمراني، فخرابه بفاس مشهور كنارٍ على عَلَم: سكن السفليات حتى مات رضي الله عنه. وكذلك قصة شيخ شيخنا مولاي العربي من لبسه الغِرَارة وسَقْيه بالقربة وغير ذلك مما هو معلوم. فهذه الحكايات تدل على أن الخمول ليس هو ما يفهمه العوام من لزوم البيوت والفرار إلى الجبال، فذلك هو عين الظهور عند المحققين. وإنما الخمول هو، كما قال الشيخ زروق رضي الله عنه، تحقق النفس بوصفها الأدنى وشعورها به أبدًا... فإن قلت: في فعل هذه الأحوال التعرض لكلام الناس وإيقاعهم في الغِيبَة، قلت: هذا مبني على القصد والنية. وكل من فعل شيئًا من ذلك فإنما قصده قتل نفسه وتحقيق إخلاصه ودواء قلبه. وهم مسامحون لمن قال فيهم، عاذرون له...
ولما كان التخلص من دقائق الرياء ومخادع النفوس لا يكون في الغالب إلا بالفكرة، ولا تتم الفكرة إلا بالعزلة، ذَكَرَها فقال: ما نفع القلب شيء مثل عزلة يدخل بها ميدان فكره... وكان شيخ شيخنا يقول: لعنة الله على من ظهرت له عورة فلم يفضحها. وكان أيضًا كثيرًا ما يوصي بعدم المراقبة للناس وعدم المبالاة بهم، إذ لا يتخلص من دقائق الرياء إلا بإسقاطهم من عينه وسقوطه هو من عينهم...".
وفى هذا الكلام أشياء رائعة، إلا أن قائليه، كما هو واضح فى بعض تصريحاتهم، أحيانا ما يسرفون على نحوٍ يخيِّل لمن يسمعهم أنهم يطالبون الإنسان بالتحول إلى ملاك، وأنى لنا أو لهم ذلك؟ فانظر كيف يشدد المتصوفة على الناس تشديدا فى أمر الإخلاص والرياء ويدخلونهم فى مضطرب جد ضيق. وهم، بهذه الطريقة، يبدون أمام سامعيهم أشخاصا مثاليين لا يَرْضَوْن بأى أمر من الأمور إلا أن يكون نقيا غاية النقاوة لا تعكره ذرة واحدة من القذى. فهل هذا ممكن فى عالم البشر؟ كما أن مبدأ تحقير النفس الذى يطالب به بعض الصوفية حوارييهم مبدأ مرفوض.
قد يمكن النظر إلى بعض هذا التشدد على أنه مجرد وسيلة لاستجاشة الطاقات واستفزاز الضمائر حتى تعطى كل ما عندها بدلا من الوقوف عند ما يستطيعه البشر فلا يبذلون من ثم الجهد الكافى ويقصّرون عما كانوا يستطيعون إنجازه. إلا أن هناك خطرا من الناحية الأخرى، وهو أن التشدد قد يبعث الناس على اليأس من جدوى جِدّهم واجتهادهم، إذ إن ما يُطَالَبون به صعب التحقيق. والعبرة، فيما أرى، أن يكون قصد الإنسان عند عمل الشىء هو وجه الله، وأن يكون بحيث لو لم يطلع عليه أحد من البشر لانبعث فعمله إرضاءً لربه بالتحمس الكامل، وألا يكون فى ذهنه وهو يعمله أحد آخر غير الله. أما بعد ذلك فقد يتسلل إلى قلبه خاطر من تلك الخواطر التى لا يمكن التنزه تماما عنها، والتى لا تؤثر على نيته فى عمل الخير إيجابا أو سلبا، غير أن من الصعب التنبه إليها حين تتسلل إلى داخل النفس والتفرغ لمطاردتها وتضييع الوقت فى ذلك دون الوصول إلى حل حاسم. ذلك أن الطبيعة البشرية غلابة، وليس من الحكمة محاولة محوها تماما، فهذا يشبه محاولة الشخص الهروب من ظله. والإنسان ليس آلة صماء تؤدى عملها دون شعور وانفعال. وقد قال رسولنا الكريم: إن المنبتَّ لا أرضًا قطع ولا ظَهْرًا اَبْقَى. ومن جهة أخرى لا أتصور أن يحاسبنا الله بهذه الطريقة التى يبرع سادتنا الصوفية فى تفصيلها على نحو يوحى بأنهم يجدون لذة عجيبة فى تفصيص الشعرة. وأرجو ألا أكون بذلك من الذين يريدون تسويغ الرياء والدفاع عنه، والعياذ بالله.
وفى النص الطويل التالى نتعرف إلى طريقة أحد كبار الصوفية فى تناول موضوع النية والإخلاص، وهو أبو حامد الغزالى. وسوف يتبين للقارئ كيف يفتت الغزالى الفكرة الواحدة مهما صَغُرَتْ ودَقَّتْ إلى ذراتٍ متتبعا كل ذرة بعد ذلك لتفتيتها بدروها إلى ذُرَيْرَات... وهكذا. ولا شك أن وراء ذلك عقلية الغزالى الجبارة الباهرة التى لا أستطيع إلا أن أقف أمامها مشدوها بسبب تلك الطاقة العقلية العجيبة وذلك الصبر الطويل الفريد، إلا أن أمور الدين لا ينبغى، فى رأيى، أن تؤخذ هكذا، وإلا لانتهى بنا الأمر إلى أن نشك فى كل شىء فنحتار ولا ندرى ماذا نفعل. إن الدين ليس مسطرة يمسكها المسلم فى يده طول الوقت، فكلما عمل شيئا أو رأى الآخرين يعملون شيئا انطلق يقيس بها هذا الذى يفعله أو يفعله الآخرون بالسنتيمتر والمليمتر وكسور المليمتر حتى الفيمتومليمتر، لا يجد لنفسه عملا آخر غيره. إن الشخص إذا انشغل بنفسه وعمله بهذه الطريقة حَرِىٌّ أن تضطرب حياته، مثلما يحدث لأى منا إذا وضع همه فى النظر إلى قدميه وهو يمشى كى يتأكد أنه يتبع أسلوب المشى الصحيح. إنه يرتبك وتلتاث خطاه ولا يستطيع أن يمشى كما يمشى عباد الله، وتبطؤ خطوته، ولا يعود يرى ما أمامه، فيصطدم بالسائرين، وقد تضربه سيارة، وقد يسقط على الأرض، وكل ذلك من فرط تَنَوُّقه ووسوسته. فلنخلص عملنا لله، لكن دون أن نرهق أعصابنا طول الوقت بالعكوف على دوافعنا تفصيصا وتحليلا على حساب أعمالنا الأخرى، وكأنه لا يوجد فى حياتنا إلا عمل واحد علينا أن نفتته ونحلله ولا ندع فيه شيئا صغيرا أو كبيرا إلا استخرجناه ووضعناه تحت المجهر وأنفقنا كل وقتنا فى دراسته وتحليله.
وفى الأمثلة التالية التى يعقبها نص الغزالى توضيح لما أريد قوله: قال صوفى لصوفى مثله: يا فلان، انقبضتَ عن أخذ البِرّ من يد الخلق لإقامة الجاه. فإن كنتَ متحققا بالزهد منصرفا عن الدنيا فخذ من أيديهم ليَمْتَحِىَ جاهك، وأَخْرِج ما يعطونك إلى الفقراء، وكن بعقد التوكل تأخذ قوتك من الغيب . وذكر أحد الصوفية لآخر أنه صلى صلاة فى خلوة فوجد لها لذة. سأله: أى شىء لَذَّك منها؟ قال: حيث لم يرنى أحد. قال: إنك لضعيف حيث خطر بقلبك ذِكْر الخلق . وكان أحد الصوفية سائرا فى طريق مكة فوقعت رجله فى شِكَال، فاستمر فى سيره لمسافة فرسخين، والشكال متعلق برجله، فرآه بعض الناس فنزعه عنه ثم دفعه، فقَدِم بسطام، فابتدأه أبو يزيد قائلا: الحال الذى ورد عليك فى طريق مكة، كيف كان حكمك مع الله فيه؟ قال: أردت ألا يكون لى فى اختياره اختيار. فقال له أبو يزيد: يا فضولى، قد اخترتَ كل شىء حيث كانت لك إرادة . وقال صوفى لآخر: كنت أجد فى قلبى حلاوة عند إقبال الليل، وأنا لا أجدها الساعة. فقال: لعلك سُرِرْتَ بشىء من الدنيا، فذهب بحلاوة ذلك من قلبك. وربما يعرّفك الله ضعفك ويريك قدرك فيسلبك حلاوة مناجاة الليل حتى تتضرع إليه، فيرده عليك لئلا تأمن مكره .
وقال آخر: ينبغى للمريد أن يترك الدنيا مرتين: يتركها مرة بنضارتها ونعيمها وألوان مطاعمها وجميع ما فيها. ثم إذا عُرِف بترك الدنيا وبُجِّل وكُرِّم بها فينبغى أن يستر إذ ذاك حاله بالإقبال على أهلها لئلا يكون ذكره فى ترك الدنيا ذنبا هو أعظم من الإقبال على الدنيا وطلبها، وفتنة أعظم منها . وكان أبو عبد الله الروذبارى إذا دعا أَصحابه معه إلى دعوة فى دور السوقة، ومن ليس من أهل التصوف، لا يخبر الفقراء بذلك. وكان يطعمهم شيئًا، فإذا فرغوا أخبرهم، ومضى بهم، فكانوا قد أكلوا فى الوقت فلا يمكنهم أن يمدوا أيديهم إلى طعام الدعوة إلا بالتعزز. وإنما كان يفعل ذلك لئلأ تسوء ظنون الناس بهذه الطائفة فيأثموا بسببهم .
والآن نصل إلى أبى حامد الغزالى، الذى يتحدث عن الرياء فى "إحياء علوم الدين" فى صفحات وراء صفحات بتفصيل مرهق لا يترك صغيرة ولا كبيرة إلا رصدها بعين صقر لا تفوته فائتة من الصيد. وقد سبقه الحارث المحاسبى فى كتابه: "الرعاية لحقوق الله" إلى ذلك، لكن ليس بهذا التفصيل ولا بتلك المنهجية ولا بتيك العبارة المستقيمة الواضحة ولا بذاك التدفق فى القول. يقول الغزالى: "اعلم أن الرياء حرام، والمرائي عند الله ممقوت، وقد شهدتْ لذلك الآيات والأخبار والآثار: أما الآيات فقوله تعالى: "فوَيْلٌ للمصلين * الذين هم عن صلاتهم ساهون * الذين هم يُرَاؤون" وقوله عز وجل: "والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد، ومَكْرُ أولئك هو يَبُور". قال مجاهد: هم أهل الرياء. وقال تعالى: "إنما نُطْعِمُكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شُكُورًا". فمَدْحُ المخلصين ينفي كل إرادة سوى وجه الله، والرياء ضده. وقال تعالى: "فمن كان يرجو لقاء ربه فلْيَعْمَلْ صالحا ولا يُشْرِكْ بعبادة ربه أحدا". نزل ذلك فيمن يطلب الأجر والحمد بعباداته وأعماله.
وأما الأخبار فقد قال صلى الله عليه وسلم حيث سأله رجل فقال: يا رسول الله، فيم النجاة؟ فقال: "ألاّ يعمل العبد بطاعة الله يريد بها الناس". وقال أبو هريرة في حديث الثلاثة: المقتول في سبيل الله والمتصدق بماله والقارئ لكتاب الله: إن الله عز وجل يقول لكل واحد منهم: كذبتَ، بل أردتَ أن يقال: فلان جواد. كذبت، بل أردت أن يقال: فلان شجاع. كذبت بل أردت: أن يقال: فلان قارئ. فأخبر صلى الله عليه وسلم أنهم لن يثابوا وأن رياءهم هو الذي أحبط أعمالهم. وقال ابن عمر رضي الله عنهما: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من راءى راءى الله به، ومن سَمَّع سمَّع الله به". وفي حديث آخر طويل: "إن الله تعالى يقول لملائكته: إن هذا لم يردني بعمله، فاجعلوه في سِجِّين". وقال صلى الله عليه وسلم: "إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر. قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء"...
وأما الآثار فيروى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى رجلاً يطأطئ رقبته، فقال: يا صاحب الرقبة، ارفع رقبتك. ليس الخشوع في الرقاب، إنما الخشوع في القلوب. ورأى أبو أمامة البقلي رجلاً في المسجد يبكي في سجوده فقال: أنت أنت لو كان هذا في بيتك. وقال علي كرم الله وجهه: للمرائي ثلاث علامات: يكسل إذا كان وحده، وينشط إذا كان في الناس. يزيد في العمل إذا أُثْنِيَ عليه، وينقص إذا ذُمَّ. وقال رجل لعبادة بن الصامت: أقاتل بسيفي في سبيل الله أريد به وجه الله تعالى ومحمدة الناس. قال: لا شيء لك. فسأله ثلاث مرات، كلَّ ذلك يقول: لا شيء لك. ثم قال في الثالثة: إن الله يقول: أنا أغنى الأغنياء عن الشرك... الحديث. وسأل رجل سعيد بن المسيب فقال: إن أحدنا يصطنع المعروف يحب أن يحمد ويؤجر. فقال له: أتحب أن تُمْقَت؟ قال: لا. قال: فإذا عملت لله عملاً فأخلصه. وقال الضحاك: لا يقولن أحدكم: هذا لوجه الله ولوجهك، ولا يقولن: هذا لله وللرحم. فإن الله تعالى لا شريك له. وضرب عمر رجلاً بالدِّرّة ثم قال له: اقْتَصَّ مني! فقال: لا، بل أدعها لله ولك. فقال له عمر: ما صنعتَ شيئا. إما أن تدعها لي فأعرف ذلك أو تدعها لله وحده. فقال: وَدَعْتُها لله وحده. فقال: فنعم إذن. وقال الحسن: لقد صحبت أقواما إنْ كان أحدهم لَتَعْرِض له الحكمة لو نطق بها لنفعته ونفعت أصحابه، وما يمنعه منها إلا مخافة الشهرة، وإنْ كان أحدهم لَيَمُرّ فيرى الأذى في الطريق، فما يمنعه أن ينحيه إلا مخافة الشهرة... وقال الفضيل بن عياض: كانوا يراؤون بما يعملون، وصاروا اليوم يراءون بما لا يعملون. وقال عكرمة: إن الله يعطي العبد على نيته ما لا يعطيه على عمله لأن النية لا رياء فيها... وقال قتادة: إذا راءى العبد يقول الله تعالى: انظروا إلى عبدي يستهزئ بي... وقال الفضل: من أراد أن ينظر إلى مُرَاءٍ فلينظر إليَّ... وقال أبو سليمان: التوقي عن العمل أشد من العمل. وقال ابن المبارك: إن كان الرجل ليطوف بالبيت وهو بخراسان. فقيل له: وكيف ذاك؟ قال: يحب ألا يذكر أنه مجاور بمكة...
والمراءَى به كثير، وتجمعه خمسة أقسام، وهي مجامع ما يتزين به العبد للناس. وهو البدن والزي والقول والعمل والأتباع والأشياء الخارجة. وكذلك أهل الدنيا يراءون بهذه الأسباب الخمسة. إلا أن طلب الجاه وقصد الرياء بأعمال ليست من جملة الطاعات أهون من الرياء بالطاعات.
القسم الأول: الرياء في الدين بالبدن، وذلك بإظهار النحول والصفار ليوهم بذلك شدة الاجتهاد وعظم الحزن على أمر الدين وغلبة خوف الآخرة، وليدل بالنحول على قلة الأكل، وبالصفار على سهر الليل وكثرة الاجتهاد وعظم الحزن على الدين. وكذلك يرائي بتشعيث الشعر ليدل به على استغراق الهم بالدين وعدم التفرغ لتسريح الشعر. وهذه الأسباب مهما ظهرت استدل الناس بها على هذه الأمور، فارتاحت النفس لمعرفتهم. فلذلك تدعوه النفس إلى إظهارها لنيل تلك الراحة. ويقرب من هذا خفض الصوت وإغارة العينين وذبول الشفتين ليستدل بذلك على أنه مواظب على الصوم وأن وقار الشرع هو الذي خفض من صوته أو ضَعْف الجوع هو الذي ضعَّف من قوته... فهذه مراءاة أهل الدين بالبدن. فأما أهل الدنيا فيراؤون بإظهار السِّمَن وصفاء اللون واعتدال القامة وحسن الوجه ونظافة البدن وقوة الأعضاء وتناسبها.
الثاني: الرياء بالهيئة والزي: أما الهيئة فبتشعيث شعر الرأس وحلق الشارب وإطراق الرأس في المشي والهدوء في الحركة وإبقاء أثر السجود على الوجه وغلظ الثياب ولبس الصوف وتشميرها إلى قريب من الساق وتقصير الأكمام وترك تنظيف الثوب وتركه مخرَّقا، كل ذلك يرائي به ليظهر من نفسه أنه متبع للسنة فيه ومقتدٍ فيه بعباد الله الصالحين. ومن ذلك لبس المرقَّعة والصلاة على السجادة ولبس الثياب الزرق تشبها بالصوفية مع الإفلاس من حقائق التصوف في الباطن. ومنه التقنع بالإزار فوق العمامة وإسبال الرداء على العينين ليرى به أنه قد انتهى تقشفه إلى الحذر من غبار الطريق، ولتنصرف إليه الأعين بسبب تميزه بتلك العلامة. ومنه الدراعة والطيلسان يلبسه من هو خالٍ عن العلم ليوهم أنه من أهل العلم.
والمراءون بالزي على طبقات: فمنهم من يطلب المنزلة عند أهل الصلاة بإظهار الزهد فيلبس الثياب المخرَّقة الوسخة القصيرة الغليظة ليرائي بغلظها ووسخها وقصرها وتخرقها أنه غير مكترث بالدنيا. ولو كُلِّف أن يلبس ثوبا وسطا نظيفا مما كان السلف يلبسه لكان عنده بمنزلة الذبح، وذلك لخوفه أن يقول الناس: قد بدا له من الزهد ورجع عن تلك الطريق ورغب في الدنيا. وطبقة أخرى يطلبون القبول عند أهل الصلاح وعند أهل الدنيا من الملوك والوزراء والتجار. ولو لبسوا الثياب الفاخرة رَدَّهم القراء، ولو لبسوا الثياب المخرَّقة المبتذلة ازدرتهم أعين الملوك والأغنياء. فهم يريدون الجمع بين قبول أهل الدين والدنيا، فلذلك يطلبون الأصواف الدقيقة والأكسية الرقيقة والمرقعات المصبوغة والفوط الرفيعة فيلبسونها. ولعل قيمة ثوب أحد الأغنياء ولونه وهيئته لون ثياب الصلحاء، فيلتمسون القبول عند الفريقين. وهؤلاء إن كُلِّفوا لبس ثوب خشن أو وسخ لكان عندهم الذبح خوفا من السقوط من أعين الملوك والأغنياء. ولو كلفوا لبس الدبيقى والكتان الدقيق الأبيض والمقصب المعلم، وإن كانت قيمته دون قيمة ثيابهم، لعظم ذلك عليهم خوفا من أن يقول أهل الصلاح: قد رغبوا في زي أهل الدنيا. وكل طبقة منهم رأت منزلتها في زي مخصوص فيثقل عليهم الانتقال إلى ما دونه، وإن كان مباحا، خيفة من المذمة. وأما أهل الدنيا فمراءاتهم بالثياب النفيسة والمراكب الرفيعة وأنواع التوسع والتجمل في الملبس والمسكن وأثاث البيت وفره الخيول وبالثياب المصبغة والطيالسة النفيسة، وذلك ظاهر بين الناس. فإنهم يلبسون في بيوتهم الثياب الخشنة، ويشتد عليهم لو برزوا للناس على تلك الهيئة ما لم يبالغوا في الزينة.
الثالث: الرياء بالقول. ورياء أهل الدين بالوعظ والتذكير والنطق بالحكمة وحفظ الأخبار والآثار لأجل الاستعمال في المحاورة وإظهارا لغزارة العلم ودلالة على شدة العناية بأحوال السلف الصالحين، وتحريك الشفتين بالذكر في محضر الناس والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمشهد الخلق، وإظهار الغضب للمنكرات وإظهار الأسف على مقارفة الناس للمعاصي وتضعيف الصوت في الكلام وترقيق الصوت بقراءة القرآن ليدل بذلك على الخوف والحزن، وادعاء حفظ الحديث ولقاء الشيوخ والدق على من يروي الحديث ببيان خلل في لفظه ليعرف أنه بصير بالأحاديث والمبادرة إلى أن الحديث صحيح أو غير صحيح لإظهار الفضل فيه، والمجادلة على قصد إفحام الخصم ليظهر للناس قوته في علم الدين. والرياء بالقول كثير، وأنواعه لا تنحصر. وأما أهل الدنيا فمراءاتهم بالقول بحفظ الأشعار والأمثال والتفاصح في العبارات وحفظ النحو الغريب للإغراب على أهل الفضل وإظهار التودد إلى الناس لاستمالة القلوب.
الرابع: الرياء بالعمل كمراءاة المصلي بطول القيام ومد الظهر وطول السجود والركوع وإطراق الرأس وترك الالتفات وإظهار الهدوء والسكون وتسوية القدمين واليدين، وكذلك بالصوم والغزو والحج وبالصدقة وبإطعام الطعام، وبالإخبات في المشي عند اللقاء كإرخاء الجفون وتنكيس الرأس والوقار في الكلام، حتى إن المرائي قد يسرع في المشي إلى حاجته، فإذا طلع عليه أحد من أهل الدين رجع إلى الوقار وإطراق الرأس خوفا من أن ينسبه إلى العجلة وقلة الوقار، فإن غاب الرجل عاد إلى عجلته، فإذا رآه عاد إلى خشوعه، ولم يحضر ذكر الله حتى يكون يجدد الخشوع له، بل هو لاطلاع إنسان عليه يخشى ألا يعتقد فيه أنه من العباد والصلحاء. ومنهم من إذا سمع هذا استحيا من أن تخالف مشيته في الخلوة مشيته بمرأى من الناس، فيكلف نفسه المشية الحسنة في الخلوة حتى إذا رآه الناس لم يفتقر إلى التغيير، ويظن أنه يتخلص به عن الرياء، وقد تضاعف به رياؤه. فإنه صار في خلوته أيضا مرائيا، فإنه إنما يحسِّن مشيته في الخلوة ليكون كذلك في الملإ لا لخوف من الله وحياء منه. وأما أهل الدنيا فمراءاتهم بالتبختر والاختيال وتحريك اليدين وتقريب الخطا والأخذ بأطراف الذيل وإدارة العِطْفَيْن ليدلوا بذلك على الجاه والحشمة.
الخامس: المراءاة بالأصحاب والزائرين والمخالطين، كالذي يتكلف أن يستزير عالما من العلماء ليقال: إن فلانا قد زار فلانا، أو عابدا من العباد ليقال: إن أهل الدين يتبركون بزيارته ويترددون إليه، أو ملكا من الملوك أو عاملاً من عمال السلطان ليقال: إنهم يتبركون به لعظم رتبته في الدين، وكالذي يكثر ذكر الشيوخ ليرى أنه لقي شيوخا كثيرة واستفاد منهم، فيباهي بشيوخه. ومباهاته ومراءاته تترشح منه عند مخاصمته، فيقول لغيره: من لقيتَ من الشيوخ، وأنا قد لقيت فلانا وفلانا ودرت البلاد وخدمت الشيوخ؟ وما يجري مجراه. فهذه مجامع ما يرائي به المراؤون. وكلهم يطلبون بذلك الجاه والمنزلة في قلوب العباد. ومنهم من يقنع بحسن الاعتقادات فيه. فكم من راهب انزوى إلى ديره سنين كثيرة، وكم من عابد اعتزل إلى قُلَّة جبل مدة مديدة، وإنما خَبْأَته من حيث علمه بقيام جاهه في قلوب الخلق. ولو عرف أنهم نسبوه إلى جريمة في ديره أو صومعته لَتَشَوَّشَ قلبه ولم يقنع بعلم الله ببراءة ساحته، بل يشتد لذلك غمه ويسعى بكل حيلة في إزالة ذلك من قلوبهم، مع أنه قد قطع طمعه من أموالهم، ولكنه يحب مجرد الجاه، فإنه لذيذ كما ذكرناه في أسبابه، فإنه نوع قدرة وكمال في الحال، وإن كان سريع الزوال لا يغتر به إلا الجهال، ولكن أكثر الناس جهال.
ومن المرائين من لا يقنع بقيام منزلته بل يلتمس من ذلك إطلاق اللسان بالثناء والحمد. ومنهم من يريد انتشار الصيت في البلاد لتكثر الرحلة إليه. ومنهم من يريد الاشتهار عند الملوك لتُقْبَل شفاعته وتنجز الحوائج على يده، فيقوم له بذلك جاه عند العامة. ومنهم من يقصد التوصل بذلك إلى جمع حطام وكسب مال ولو من الأوقاف وأموال اليتامى وغير ذلك من الحرام. وهؤلاء شر طبقات المرائين الذين يراءون بالأسباب التي ذكرناها. فهذه حقيقة الرياء وما به يقع الرياء.
فإن قلت: فالرياء حرام أو مكروه أو مباح أو فيه تفصيل؟ فأقول: فيه تفصيل. فإن الرياء هو طلب الجاه، وهو إما أن يكون بالعبادات أو بغير العبادات. فإن كان بغير العبادات فهو طلب المال، فلا يحرم من حيث إنه طلب منزلة في قلوب العباد. ولكن كما يمكن كسب المال بتلبيسات وأسباب محظورات فكذلك الجاه. وكما أن كسب قليل من المال، وهو ما يحتاج إليه الإنسان، محمودٌ فكَسْبُ قليل من الجاه، وهو ما يسلم به عن الآفات أيضا، محمود. وهو الذي طلبه يوسف عليه السلام حيث قال: "إني حفيظ عليم". وكما أن المال فيه سم ناقع ودرياق نافع فكذلك الجاه. وكما أن كثير المال يلهي ويطغى وينسي ذكرَ الله والدار الآخرة فكذلك كثير الجاه بل أشد، وفتنة الجاه أعظم من فتنة المال. وكما أنا لا نقول: تملُّك المال الكثير حرام، فلا نقول أيضا: تملك القلوب الكثيرة حرام، إلا إذا حملته كثرة المال وكثرة الجاه على مباشرة ما لا يجوز. نعم انصراف الهم إلى سعة الجاه مبدأ الشرور كانصراف الهم إلى كثرة المال، ولا يقدر محب الجاه والمال على ترك معاصي القلب واللسان وغيرها. وأما سعة الجاه من غير حرص منك على طلبه، ومن غير اغتمام بزواله إن زال، فلا ضرر فيه، فلا جاه أوسع من جاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاه الخلفاء الراشدين ومَنْ بعدهم مِنْ علماء الدين. ولكن انصراف الهم إلى طلب الجاه نقصان في الدين، ولا يوصف بالتحريم. فعلى هذا نقول: تحسين الثوب الذي يلبسه الإنسان عند الخروج إلى الناس مراءاة، وهو ليس بحرام لأنه ليس رياء بالعبادة بل بالدنيا. وقس على هذا كل تجمُّل للناس وتزيُّن لهم. والدليل عليه ما رُوِيَ عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يخرج يوما إلى الصحابة، فكان ينظر في حُبّ الماء ويسوِّي عمامته وشعره، فقالت: أَوَتفعل ذلك يا رسول الله؟ قال: "نعم إن الله تعالى يحب من العبد أن يتزين لإخوانه إذا خرج إليهم". نعم هذا كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم عبادةً لأنه كان مأمورا بدعوة الخلق وترغيبهم في الاتباع واستمالة قلوبهم، ولو سقط من أعينهم لم يرغبوا في اتباعه. فكان يجب عليه أن يظهر لهم محاسن أحواله لئلا تزدريه أعينهم، فإن أعين عوام الخلق تمتد إلى الظواهر دون السرائر. فكان ذلك قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولكن لو قصد قاصد به أن يحسّن نفسه في أعينهم حذرا من ذمهم ولومهم، واسترواحا إلى توقيرهم واحترامهم، كان قد قصد أمرا مباحا، إذ للإنسان أن يحترز من ألم المذمة ويطلب راحة الأنس بالإخوان. ومهما استثقلوه واستقذروه لم يأنس بهم.
فإذَنْ المراءاة بما ليس من العبادات قد تكون مباحة، وقد تكون طاعة، وقد تكون مذمومة، وذلك بحسب الغرض المطلوب بها. ولذلك نقول: الرجل إذا أنفق ماله على جماعة من الأغنياء لا في معرض العبادة والصدقة ولكن ليعتقد الناس أنه سخي فهذا مراءاة، وليس بحرام، وكذلك أمثاله.
أما العبادات كالصدقة والصلاة والصيام والغزو والحج فللمرائي فيه حالتان: إحداهما ألا يكون له قصد إلا الرياء المحض دون الأجر، وهذا يبطل عبادته لأن الأعمال بالنيات، وهذا ليس يقصد العبادة، ولا يقتصر على إحباط عبادته حتى نقول: "صار كما كان قبل العبادة"، بل يعصي بذلك ويأثم كما دلت عليه الأخبار والآيات.
والمعنى فيه أمران: أحدهما يتعلق بالعباد، وهو التلبيس والمكر لأنه خيل إليهم أنه مخلص مطيع لله وأنه من أهل الدين، وليس كذلك. والتلبيس في أمر الدنيا حرام أيضا حتى لو قضى دين جماعة وخيل للناس أنه متبرع عليهم ليعتقدوا سخاوته أثم به لما فيه من التلبيس وتملك القلوب بالخداع والمكر. والثاني يتعلق بالله، وهو أنه مهما قصد بعبادة الله تعالى خلق الله فهو مستهزئ بالله. ولذلك قال قتادة: إذا راءى العبد قال الله لملائكته: انظروا إليه كيف يستهزئ بي.
ومثاله أن يمتثل بين يدي ملك من الملوك طول النهار كما جرت عادة الخدم، وإنما وقوفه لملاحظة جارية من جواري الملك أو غلام من غلمانه، فإن هذا استهزاء بالملك، إذ لم يقصد التقرب إلى الملك بخدمته، بل قصد بذلك عبدا من عبيده. فأي استحقار يزيد على أن يقصد العبد بطاعة الله تعالى مراءاة عبد ضعيف لا يملك له ضَرًّا ولا نفعًا؟ وهل ذلك إلا لأنه يظن أن ذلك العبد أقدر على تحصيل أغراضه من الله وأنه أولى بالتقرب إليه من الله، إذ آثره على ملك الملوك فجعله مقصود عبادته؟ وأي استهزاء يزيد على رفع العبد فوق المولى؟ فهذا من كبائر المهلكات. ولهذا سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم: الشرك الأصغر .
نعم بعض درجات الرياء أشد من بعض، ولا يخلو شيء منه عن إثم غليظ أو خفيف بحسب ما به المراءاة. ولو لم يكن في الرياء إلا أنه يسجد ويركع لغير الله لكان فيه كفاية. فإنه، وإن لم يقصد التقرب إلى الله، فقد قصد غير الله. ولَعَمْرِي لو عظَّم غير الله بالسجود لكفر كفرا جليا. إلا أن الرياء هو الكفر الخفي لأن المرائي عظَّم في قلبه الناس، فاقتضت تلك العظمة أن يسجد ويركع، فكأن الناس هم المعظَّمون بالسجود من وجه. ومهما زال قصد تعظيم الله بالسجود وبقي تعظيم الخلق كان ذلك قريبا من الشرك، إلا أنه قصد تعظيم نفسه في قلب من عظم عنده بإظهاره من نفسه صورة التعظيم لله. فعن هذا كان شركا خفيا لا شركا جليا، وذلك غاية الجهل. ولا يقدم عليه إلا من خدعه الشيطان وأوهم عنده أن العباد يملكون من ضره ونفعه ورزقه وأجله ومصالح حاله ومآله أكثر مما يملكه الله تعالى، فلذلك عدل بوجهه عن الله إليهم وأقبل بقلبه عليهم ليستميل بذلك قلوبهم. ولو وكله الله تعالى إليهم في الدنيا والآخرة لكان ذلك أقل مكافأة له على صنيعه، فإن العباد كلهم عاجزون عن أنفسهم لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا، فكيف يملكون لغيرهم هذا في الدنيا؟ فكيف في يوم لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا، بل تقول الأنبياء فيه: نفسي نفسي؟... فلا ينبغي أن نشك في أن المرائي بطاعة الله: في سخط الله من حيث النقل والقياس جميعا. هذا إذا لم يقصد الأجر، فأما إذا قصد الأجر والحمد جميعا في صدقته أو صلاته فهو الشرك الذي يناقض الإخلاص...".
وبعد فهذا ما عن لى حول بعض قضايا التصوف التى كتب عنها د. عبد الحليم محمود. ولعلى لا أكون قد أسأت كثيرا، والحمد لله رب العالمين. ثم أما بعد، فإنى أُجِلّ الشيخ عبد الحليم محمود إجلالا كبيرا رغم اختلافى مع بعض الجوانب فى اتجاهه الصوفى. ومن أسباب تبجيلى له عطفه على الفقراء والمحتاجين، فهذا عندى مقياس قوى للتدين، إذ أُحْضِرَت الأنفسُ الشح، فمن استطاع الانتصار على هذا الشح المغروز فى أعماق النفس فهو الرجل الكريم الذى يُرْجَى له عنه الله الجزاء الأعلى . رحم الله الشيخ رحمة واسعة شاملة، وبوأه الفردوس الأعلى. كما يعجبنى إعجابا هائلا شجاعته فى مواجهة الحكام وكبار المسؤولين، هذه الشجاعة التى نفتقدها تمام الافتقاد فى كثير ممن يحتلون مكان الشيخ لا مكانته. لقد رفض الرجل أن يداهن فيما يؤمن به ويراه هو الصواب. كذلك لا يمكننى أن أتجاهل موقفه فى مكافحة الشيوعية، التى كانت قد انتشرت كالوباء فى المجتمع المصرى منذ أيام عبد الناصر وتغلغلت فى نواحى حياتنا السياسية والثقافية رغم ما جرته على مصر والمنطقة من كوارث ورزايا، إلى جانب الغطرسة والمؤامرات الأمريكية من الناحية الأخرى. ومرة ثانية لم يبال الرجل بتطاول الصغار عليه وتهديداتهم واتهاماتهم الظالمة له، وظل كالأسد الهصور يقول كلمته بكل قوة دون مبالاة بالعواقب. وبالمثل وقف الرجل الكريم للتنصير بالمرصاد، ولم ينخدع بأية محاولة لدغدغة مشاعره بغية التأثير عليه وخداعه لضمان سكوته، بل كان حريصا تمام الحرص على إعلان موقف الإسلام بكل عزة وشموخ. رحم الله الشيخ وأحله دار الخلد تسبح روحه فى جنان النعيم. كذلك هناك مؤلفاته الكثيرة بالنسبة إلى رجل مثله مشغول بالأعباء الإدارية والدعوية والأسفار والمحاضرات والندوات والمؤتمرات. لقد كان الرجل شعلة نشاط لا يكف عن الحركة هنا وهناك دون كلل أو ملل، ومع هذا لم ينس التأليف، فكانت تلك الكتب التى تعد بالعشرات أيا كان رأينا فى بعضها الذى يدور حول التصوف والصوفية مما قلنا إننا لا نوافق الشيخ فى أشياء منها.
ولو قارناه مثلا بالشيخ مصطفى عبد الرازق، وقد اخترت الشيخ مصطفى لأنه كان شيخا للأزهر وحصل على درجة الدكتورية من فرنسا مثله، لرجحت كفته فى كل مجال مشترك بينهما تقريبا، رحمهما الله جميعا: فمؤلفاته أغزر من مؤلفات مصطفى عبد الرازق، وترجماته من الفرنسية أكثر من ترجماته، ونشاطه فى خدمة الإسلام أكبر وأوسع، واعتزازه بثقافته فى مواجهة الثقافة الغربية أقوى. إلا أن الشيخ مصطفى عبد الرازق لم تكن له اعتقادات د. عبد الحليم الصوفية. وهذه نقطة تحسب لصالحه، ويتفوق فيها على د. عبد الحليم. أما ما قرأته عند بعضهم من إطلاق اسم "غزالى القرن الرابع عشر الهجرى" عليه فإن كان المقصود توقير الغزالى فى شخص عبد الحليم محمود فبِهَا وَنِعْمَتْ. وبالمثل إذا كان المقصود أن بين الاثنين مشابه هامة تتلخص فى رفضهما للفلسفة وحملتهما على الإلحاد وإكبارهما للتصوف فلا بأس، وإن كنتُ أفضّل الشيخ عبد الحليم على الإمام الكبير فى أنه لم يعتزل مثله الناس ويَلُذْ بخلوته ويترك الدنيا تجرى فى أعنتها دون مبالاة بشىء فيها، بل خاض غمراتها بشجاعة وثقة واقتدار، واجتهد غاية الاجتهاد فى محاربة الشر والفساد وإعلاء كلمة الله والوقوف فى وجه الحكام والمسؤولين الكبار حين بدت له رغبتهم فى تحيف الشريعة الغراء، على عكس الغزالى، الذى ترك الجمل بما حمل فى أخريات حياته واشتغل بخلاصه الفردى. ولهذا السبب أرانى أَغُضّ الطَّرْف عما أختلف فيه مع تصوف الشيخ، إذ إن محامده ومكارمه الغزيرة تغطى على ما يمكن أن يؤخذ على بعض اتجاهاته الصوفية. أما إن كانت المقارنة مع أبى حامد الغزالى من ناحية العلم والقدرة الذهنية فيخيل لى أن الغزالى يكسب المباراة بكل سهولة، فعقليته الجبارة قلما نجد لها نظيرا فى العالمين، وكتاباته أعمق وأكثر، وهو من العقول التى لا تتكرر كثيرا فى الدنيا. وهذا ليس تقليلا من شأن د. عبدالحليم محمود، لكنه تعظيم للغزالى رغم أنى لست من المعجبين كثيرا بكتابه الشهير الذائع عند الناس جميعا: "إحياء علوم الدين"، الذى أذكر أنى دهشت وأنا أقرؤه فى شبابى الأول لما قابلنى فيه من أحاديث لم تقنعنى، فأخبرنى أستاذى الذى كان يدرس لنا مادة اللغة العربية بالمدرسة الأحمدية الثانوية بطنطا الأستاذ سيد أحمد أبو رية، رحمه الله رحمة واسعة، أنها ربما كانت مدسوسة فيه.
وأخيرا لا أستطيع بعد كل هاتيك العشرات من السنين أن أنسى منظر الشيخ فى المرة الوحيدة التى رأيته فيها على الطبيعة وهو نازل على سلم وزارة الأوقاف ذات ضُحًى فى بدايات سبعينات القرن المنصرم، وقد أحاط به بعض الأشخاص من يمين وشمال، وقد بدا لى الشيخ، أنا الذى كنت ضائقا بما كتبه آنذاك فى كتابه عن السيد البدوى من استئذانه إياه للكتابة عنه وعدم البدء فى التأليف قبل حصوله منه على الإذن، بدا لى الشيخ شامخا مهيبا جليلا. وقلت ذلك للشيخ محمد الغزالى حين دخلت عليه عقب هذا فى مكتبه بديوان الوزارة، فوافقنى على ما قلته. كما أخبرنى، فى مناسبة أخرى، أن د. عبد الحليم قد استدعاه ذات مرة وأخبره أن الرئيس السادات كلفه أن يطلب منه تخفيف لهجته فى خُطَب الجمعة بجامع عمرو بن العاص، ثم أردف قائلا فى ثقة واطمئنان: أما أنا فأقول لك: امض فى طريقك ولا تُبَالِ.
ترى هل يظن القارئ الكريم أننى يمكن ألا أحب مثل ذلك الرجل أو ألا أُعْجَب به مهما كان اختلافى مع بعض ما كان يعتقده فى أئمة الصوفية، وبخاصة أنه لم يَدَّعِ ما ادَّعاه غيره من الصوفية من الطيران فى الهواء أو انطواء الأرض له بحيث يقطع فى الدقيقة الواحدة ما يقطعه غيره فى أيام أو مد يده فى الهواء والإتيان بالنقود منه أو المثول أمام العرش كما زعم غيره من المتصوفين أو زُعِم لهم، فضلا عن أن اتجاهه الصوفى لم يَجُرْ على اهتمامه بالعقل والإلحاح فى طلب العلم والتفوق فيه والأخذ بالأسباب التى لا بد منها لإنجاز أى شىء من أمور الدنيا كى نكون فى مقدمة الأمم طبقا لما يريده الإسلام من أتباعه حتى لقد أكد فى فتاواه أنه من واجب المسلمين أن يكونوا فى مقدمة الأمم التى تغزو الفضاء؟
بقى شىء كنت بسبيلى إلى أن أهمله، إلا أننى قلت لنفسى إن هذا بحث علمى، ولا يضير د. عبد الحليم محمود فى شىء أن أتعرض له رغم ما فيه من هجوم عليه بسبب بعض أفكاره الصوفية. ذلك أن الأستاذ محمد عبد الله السمان، وكان يشتغل فى ذلك الوقت فى مشيخة الأزهر، كان يكتب عمودا فى مجلة "روز اليوسف" باسم "إسلام لا دروشة"، وفى بعض ما كتبه فى هذا العمود هجوم على د. عبد الحليم محمود واتهام له بأنه ُيعْلِى من شأن الدروشة على حساب الإسلام. ومن بين ما تعرض له من تصرفات الشيخ أن ما حصل عليه من أموال من أبو ظبى بغرض طباعة الكتب التراثية قد أنفقه فى نشر كتب الصوفية التى تضر فكر المسلمين بدلا من نفعهم، مثل كتاب "الأخلاق المتبولية" .
وقد عكفت على بعض مشاهير الصوفية منذ سنتين حين أُسْنِد لى تدريس مادة "التصوف الإسلامى" فى القسم، فهالنى مقدار الكذب والتدليس والخرافات فى حديث من درستهم من أولئك المتصوفة أو حوارييهم، إذ كانوا يتحدثون عن كراماتهم فيقولون كلاما منفلتا من قيود العقل والمنطق، ويبالغون فى ذلك مبالغة مقيتة لا أدرى كيف واتتهم أنفسهم عليها مهما تذرعنا معهم بغاية التسامح. وقد تناولت كل ذلك بالدرس والتحليل والتقويم فى كتابى: "فى التصوف والأدب الصوفى"، الذى صدر منذ سنتين.
وهأنذا أعود إلى دراسة التصوف مرة أخرى فى الكتاب الحالى، فأجد للشيخ فضائل عظيمة جمة، لكن له كذلك بعض اعتقادات فى الصوفية ومن يُلَقَّبُون بـ"الأولياء" أجدها لا تدخل العقل أبدا. لكنى فى ذات الوقت أرى أن الإيجابيات التى للشيخ تطغى، فى حدود فهمى ورؤيتى، على تلك الملاحظات. أما قول الأستاذ السمان عن د. عبد الحليم إن وقته الثمين لا يتسع لبحث الأقليات المسلمة التى تُشَنّ عليها حروب الإبادة ولا لمأساة أندونيسيا، التى وقعت تحت سيطرة التبشير الصليبى بعد أن وقف كل وقته لافتتاح الموالد وزيارة المقامات فأحسب أن فيه مبالغة كبيرة . لقد كان د. عبد الحليم يهتم لأمور المسلمين كما تبين لنا فى هذا الكتاب، وأتصور أنه أفضل من كثيرين غيره من مشايخ الأزهر فى هذا الصدد. لكن هذا لا يعفينا من إبداء الموافقة على ما قاله الأستاذ السمان بشأن الأضرحة والمقامات. ومع هذا فأى الرجال المهذَّب كما قال شاعر الجاهلية الحكيم؟ لقد أرهقنى الكتاب الذى بين يدى القارئ، وأرجو ألا أكون قد جُرْتُ على الرجل، رحمه الله رحمة واسعة.
 
نسيت أن أقول إن هذا هو الفصل الثالث من الفصول الستة التى يتألف منها كتابى: "عبد الحليم محمود- صوفى من زماننا".
 
بل لفت نظرهم إلى أن آدم يتميز بشىء لا يتمتع به سواه من المخلوقات. ألا وهو العقل وقابليته للتعلم والتطور.
جزاكم الله خيرا يادكتور على هذه اللطيفة التي غابت عن اكثر اهل الارض......في شأن أول انسان وكل انسان.
وبالنظر لمهمة الانسان في الأرض وهي مسؤولية التعمير والتطوير او الاصلاح والاستخلاف، وبما أن الأرض وُصفت في كتاب الله بأن شأنها عظيم ، وان الإستفادة من تسخيرها في الإمكان، وتهيئتها ب الدوران والحركة في فلك مع الافلاك ، واستفادة الانسان وغيره من ذلك اعظم استفادة....بالنظر لهذه المهمة الفريدة كان العقل البشري هو الشيء الذي يحتاجه الانسان لحركته وخياله ونشاطاته كافة.ولذلك ايضا نبه القرآن على مجال عمل العقل وتفكيره ونظره وهو مجال اغفله العلمانيون في كلامهم عن القرآن وهو مجال السموات والأرض ومافيهن، وقد راحوا يزعمون ان لاعقل في الإسلام(خارج الشعائر) وانه لم يتكلم عنه القرآن!
على الرغم من اعلام الله الناس بمرتبة الانسان وماجُعل له(إني جاعل في الأرض خليفة) وقد اخبر وخبره الصدق انه كرم الإنسان وفضله على كثير ممن خلق تفضيلا ، فهذا يعني ان العقل تخلل كيان الإنسان كله، فهو قلب الانسان، و هو عقل فريد مميز ،قادر على ادارة عملية التسخير وتطوير العمل فيها،وهو مايعني ان الانسان يمكنه أن يعمر الأرض بعقله وقلبه، وعلمه وعمله، وقراءة الأسباب وتفعيلها، وربط بعضها ببعض واستخلاص قوانين تدفعه للمزيد من التعمير والتطوير والتجريب او التجربة واصلاح الارض ونفي الفساد منها.
ولاشك ان القرآن أظهر الثقة في العقل وبين له سعة مجال تفكيره وتدبيره على ان للعقل ضوابط موضوعه ومشروعة، وموانع تمنع فاعلية العقل من حجب وتغطية، داخلية وخارجية،مثل الأهواء والمؤثرات الخارجية، المختلفة التي يمكن لها أن تمنع دور العقل وتغير حقيقة نشاطه ومجاله .
 
التغني للعقل بهذا الشكل ليس دليل علي الرفض اللاعقلانية، بل مثل هذا التغني للعقل حتي الآن يعتبر في النهاية هو من أجل تمرير اللاعقلانية من وراءه، تمرير تلك الرؤيا بحجة رفع المعنوية مثلاً، ومن يتبع مثل هذا الموقف فليس هناك ما يمنعنا من تمرير رؤيا أو أحلام أخري بحجة رفع المعنوية أو بحجة أنها من شطحات الخيال المسموح به، وعلي سبيل المثال أبن عربي ((الشيخ الأكبر)) في كتاب أسمه ((فصوص الحكم)) قال بما يماثل هذه الرؤيا وأخرج علينا هذا الكتاب المسمي فصوص الحكم وكما قال أنه لم يؤلفه بل جاءه في الحلم (رسول الله) (أن الشيطان لا يتمثل بي) وأعطاه هذا الكتاب المشار علي أسمه لينشره علينا بدون اي نقص وزيادة فيه.
 
رغم ميلي لتفسير د. مصطفى الزرقا رحمه الله في موضوع رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام
وأن الحديث الشريف في عدم تمثل الشيطان.. قصِد به الصحابة الكرام الذين رأوه عيانا في حياته ولا يتوسع إلى غيرهم ممن لم يروه في حياته
لكن لنُسلم بإمكانية ذلك لمن لم يره قط في حياته

فدعوى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر وينهى ويحث ويطلب في الرؤى والأحلام، وأن ما يأمر به ينبغي أن يُتبع..
من الممكن مناقشتها بمقدمات ونتائج:
- المقدمة الأولى: كل كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة = حُجة قطعية في الاستدلال (وكذلك أفعاله وتقريراته)
- المقدمة الثانية: ليس كل كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي وصلنا يُعد حديثاً صحيحاً، فالضعيف والموضوع ليس سنة تصلح للاستدلال.
- المقدمة الثالثة: شرط الحديث الصحيح: ما اتصل سنده بنقل العدل الضابط عن مثله من غير شذوذ أو علة.
- المقدمة الرابعة: النائم لا يُعد ضابطاً، بدليل عدم ترتيب أحكام فقهية على كلام النائم أثناء نومه كطلاقه وعتاقه وبيعه.. وكذلك لأن النائم لا يذكر من أحلامه ورؤاه إلا القليل منها.

* النتيجة: لا يُمكنك أن تحتج بكلام الرسول صلى الله عليه وسلم معك في المنام رغم أنه حديث مرفوع.. فليس كل حديث مرفوع صحيح، والحديث الصحيح يُشترط فيه الضبط، والنائم لا ضبط له.
والله أعلم
 
عودة
أعلى