د. محي الدين غازي
New member
د/محمدعنايةالله أسد سبحاني
قال الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز:
هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴿2﴾ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴿3﴾[1]
ما قيل في معنى الأميّ والأمّيين:
فما معنى الأميين في هذه الآية؟ قال ابن عطية:
{الأميين}: يراد بهم العرب، والأمي في اللغة الذي لا يكتب ولا يقرأ كتاباً، قيل هو منسوب إلى الأم، أي: هو على الخلقة الأولى في بطن أمه، وقيل هو منسوب إلى الأمة، أي على سليقة البشر دون تعلم، وقيل منسوب إلى أم القرى وهي مكة، وهذا ضعيف، لأن الوصف بـ{الأميين} على هذا يقف على قريش، وإنما المراد جميع العرب، وفيهم قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنا أمة أمية لا نحسب ولا نكتب الشهر هكذا وهكذا» .[2]
وقال القرطبي:
قال ابن عباس: الأميون العرب كلهم، من كتب منهم ومن لم يكتب، لأنهم لم يكونوا أهل كتاب. وقيل: الأميون الذين لا يكتبون. وكذلك كانت قريش. وروى منصور عن إبراهيم قال: الأمي الذي يقرأ ولا يكتب.[3]
هكذا درج المفسرون على تفسير (الأميين) في الآية بمن لا يقرءون ولا يكتبون. وهكذا فعل أهل اللغة،
قال الراغب الأصفهاني:
"والأُمِّيُّ: هو الذي لا يكتب ولا يقرأ من كتاب، وعليه حمل: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ) قال قطرب: الأُمِّيَّة: الغفلة والجهالة، فالأميّ منه، وذلك هو قلة المعرفة، ومنه قوله تعالى:
(وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ) أي: إلا أن يتلى عليهم.
وقال الفرّاء: هم العرب الذين لم يكن لهم كتاب، (والنَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) قيل: منسوب إلى الأمّة الذين لم يكتبوا، لكونه على عادتهم كقولك: عامّي، لكونه على عادة العامّة، وقيل: سمي بذلك لأنه لم يكن يكتب ولا يقرأ من كتاب، وذلك فضيلة له لاستغنائه بحفظه، واعتماده على ضمان اللّه منه بقوله: (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى).
وقيل: سمّي بذلك لنسبته إلى أمّ القرى."[4]
تلك نصوص من كلام أهل التفسير وأهل اللغة، نستخلص منها أن لفظ الأمي يحتمل معنيين:
1- الذي لايكتب ولا يقرأ من كتاب.
2- الذي ولد في أم القرى، وهي مكة، ونشأ فيها.
لماذا عدلوا عن معنى ثابت إلى غير ثابت؟
وهنا يثور سؤال: لماذا جنح أهل اللغة وأهل التفسير في تأويل الآية للمعنى الأول دون الآخر، مع أن المعنى الآخر ثابت متحقق، حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه السابقين الأولين كلهم ولدوا في أم القرى، ونشؤوا في أم القرى، وسكنوا في أم القرى، فالنبي أميّ، وقومه وأصحابه أميون، وهو أمر لم يختلف فيه اثنان، ولم ينتطح فيه عنزان، وليس فيه أي إشكال من أيّ ناحية.
وأما المعنى الأول الذي مال إليه أهل التفسير وأهل اللغة، والذي وقر في الأذهان، وسارت به الركبان، فهو معنى لا يخلو من إشكال، فإن من سنة الله أنه لا يختار لرسالته إلا قوما متميزين، ولا يختار إلا من يفوقون أهل زمانهم في فضلهم وكفاءتهم، حيث قال تعالى في بني إسرائيل:
وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ ﴿30﴾ مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ ﴿31﴾ وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴿32﴾ وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ ﴿33﴾[5]
فإذا اختار الله العرب، وهم بنو إسماعيل، واختارهم لرسالته العالميّة الخالدة، فلا بد أن تكون فيهم كفاءة، ولا بد أن تكون لهم ميزة. وأيّ كفاءة فيهم، وأيّ ميزة إذا كانوا غارقين في الأمية، ولم يعرفوا القراءة ولا الكتابة؟
دعاية كاذبة، والله!
وهل نعرف قوما كانوا يملكون ما كان يملكه العرب من قدرات وكفاءات، ومن مهارات وعبقريات، ومن همم وطموحات، ثم كانوا كلهم، أو معظمهم بعيدين من القراءة والكتابة؟ هل وُجد مثل هذا القوم على ظهر الأرض عبر التاريخ البشري كله؟
وإذا قيل هذا الكلام في شأن بني إسماعيل، وهم العرب، مع أنه لا يوجد له مثال في تاريخ الأقوام كله، فهل من المستبعد أن يكون ذلك دعاية كاذبة فاجرة من أعداء بني إسماعيل، حتى يغضّوا من شأنهم، ويشوّهوا كرامتهم؟ وكم لهم من دعايات كاذبة فاجرة ضد بني إسماعيل! وهي ليست خافية على من له إلمام بتاريخهم وتاريخ المسلمين.
وماذا في كون الرسول أميا لا يعرف الكتابة ولا يعرف القراءة في كتاب؟ وماذا في كون قومه أميين لا يكتبون ولا يقرءون؟ ما الميزة وما الشرف في هذا حتى يتكرر ذكره في القرآن بهذا الاهتمام؟!
هل كانت الأميّة حجّة على النبوة؟
قد يقال إن أميّة رسول الله كانت حجة على نبوته، حيث جاء مع أميّته بكتاب فيه علم الأولين والآخرين، وجاء بكتاب يعجز عن مثله الجن والإنس!
نقول: لو كانت الأميّة حجة على رسالة رسول، أو نبوة نبيّ، لكان كل رسول وكل نبي أمّيّا، فإن كل رسول، وكل نبي كان بحاجة إلى حجة على رسالته ونبوته، ولكن لم يكن الأمر كذلك.
والقرآن نفسه حجة ساطعة على كونه من عند الله؛ فإنه لو اجتمع علماء الإنس والجن كلهم على أن يأتوا بمثله لايأتون.
فإذا كان القرآن بهذا السموّ وبهذا العلوّ، فهل يوهن أمره أن الذي جاء به يعرف القراءة والكتابة؟
وإن كانت في أمّيّة رسول الله- بمعنى عدم معرفة القراءة والكتابة - حجة على رسالته، فما الذي حمل قومه على أن قالوا ما قالوا؟ ولقد قالوا:
مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ ﴿7﴾ [6]
وقَالوا: (إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ ﴿24﴾ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ ﴿25﴾[7]
ثم إن كانت في أمية رسول الله حجة على رسالته، فماذا في أميّة قومه؟ وما الحكمة في أن يُبعث رسول الله في أمة أمية لا يقرءون ولا يكتبون؟
تلك إشكالات وتساؤلات يتلو بعضها بعضا، وتختلج في ذهن الباحث، ولكن بدون مجيب!
تحديد وتشخيص لمكان البعثة:
ولكن إذا قيل إن الأميّ هو الذي وُلد ونشأ في أم القرى، والأميون هم الذين ولدوا ونشؤوا في أم القرى، فهذا يكون تعريفا برسول الله وأصحابه، ويكون تجلية لشأنه، بتحديد مولده السعيد، وتشخيص مكان بعثته المباركة الخالدة.
فالنبيّ أميّ، وقومه أميّون؛ لأنهم كلهم من أم القرى، ولم تذكر هذه الصفة في شأن أيّ نبي؛ لأنه لم يكن أي نبي غير نبينا عليه الصلاة والسلام من أم القرى.
وكان ذلك رحمة من الله على عباده وتسهيلا لهم، حيث بيّن لهم مكان خاتم الأنبياء، حتى يعرفوه ويصلوا إليه بسهولة، إذا أدركوا زمانه، وإن أعرض عنه معرض، وجحد به جاحد، بعد ما عرفه وعرف مكانه،لم يكن عنده عذر، ولم تكن له على الله حجة يوم القيامة.
وكانت مكة معروفة بهذا الإسم، والقرآن يركّز على هذا الإسم، حيث قال تعالى:
وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ﴿92﴾[8]
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴿7﴾[9]
وقد ذكرت صفة (الأميّ) في البشارات التي وردت في الكتب السابقة من التوراة والإنجيل وغيرهما، ولعل الحكمة في التركيز على تلك الصفة في تلك البشارات كلها هي تحديد مكان تلك النبوة العالميّة الخالدة، وقد ذكر القرآن تلك البشارة العظيمة بهذه الصفة، حيث قال تعالى:
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴿157﴾) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴿158﴾ [10]
المعنى الظاهر المتبادر للفظ (الأمّيّ):
ولفظ (الأمي) جاء في القرآن بالمعنيين اللذين ذكرهما أهل اللغة وأهل التفسير، ولكن المعنى الظاهر المتبادر هو المعنى الذي كانوا فيه من الزاهدين، وذكره بعضهم، وقال: إنه ضعيف!
فالقرآن كلما ذكر (الأميّ) أو(الأميين) نسبة إلى أم القرى،لم يأت له ببيان، لكونه واضحا في معناه، ولكن حينما جاء بهذا اللفظ في معنى قلة العلم أو عدم العلم جاء بعده بما يفسره، حيث قال تعالى:
وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ﴿78﴾[11]
فجاء (لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ) بيانا لقوله تعالى: (ومنهم أميُّونَ).
ولم يستعمل القرآن هذا اللفظ في سياق الذمّ، وبمعنى عدم العلم إلا لبني إسرائيل، وكلما استعمله للنبي صلى الله عليه وسلم، أو استعمله لأصحابه استعمله لبيان واقعهم، وهو كونهم من أمّ القرى.
إنا أمّة أمّيّة لا نكتب ولا نحسب!
وهناك روايات كان لها دور في صرف الناس عن التأويل الصحيح لتلك الآيات، فلا بأس بأن تكون لنا وقفة عند تلك الروايات حتى نكون على بينة من أمرها. فمنها ما رواه الشيخان، و أصحاب الجوامع والسنن، واللفظ للبخاري:
حدثنا آدم، حدثنا شعبة، حدثنا الأسود بن قيس، حدثنا سعيد بن عمرو أنه سمع ابن عمر، رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إنا أمة أمّية لا نكتب، ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا، يعني مرة تسعة وعشرين، ومرة ثلاثين.[12]
تلك الرواية في جميع طرقها جاءت عن الأسود بن قيس، وهو رجل تكلم فيه.
قال محمد بن أحمد بن البراء ، عن على ابن المدينى : روى عن عشرة مجهولين، لا يعرفون .[13]
وقال الذهبي: قال ابن المديني: الأسود يروي عن مجاهيل.[14]
وقيل إنه من الرواة الذين ضعفهم الإمام أحمد.[15]
كتب النبيّ بيده: "ابن عبدالله":
هذا، وإذا نظرنا إلى الرواية من ناحية مضمونها، فمضمونها يخالف واقع الأمر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كتب، فقد روى الإمام مسلم:
حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلى وأحمد بن جناب المصيصى جميعا عن عيسى بن يونس - واللفظ لإسحاق - أخبرنا عيسى بن يونس أخبرنا زكرياء عن أبى إسحاق عن البراء قال لما أحصر النبى - صلى الله عليه وسلم - عند البيت صالحه أهل مكة على أن يدخلها فيقيم بها ثلاثا ولا يدخلها إلا بجلبان السلاح السيف وقرابه. ولا يخرج بأحد معه من أهلها، ولا يمنع أحدا يمكث بها ممن كان معه.
قال لعلى «اكتب الشرط بيننا: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله» فقال له المشركون: لو نعلم أنك رسول الله تابعناك، ولكن اكتب محمد بن عبد الله. فأمر عليا أن يمحاها فقال على: لا والله لا أمحاها. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «أرنى مكانها». فأراه مكانها فمحاها، وكتب «ابن عبد الله»[16]
قال الإمام النووي في شرح الحديث:
"قوله صلى الله عليه و سلم: ( أرني مكانها فأراه مكانها فمحاها وكتب بن عبد الله)
قال القاضي عياض رضي الله تعالى عنه:
احتج بهذا اللفظ بعض الناس على أن النبي صلى الله عليه و سلم كتب ذلك بيده على ظاهر هذا اللفظ.
وقد ذكر البخاري نحوه من رواية اسرائيل عن أبي إسحاق وقال فيه: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب فكتب. وزاد عنه في طريق آخر: "ولا يحسن أن يكتب فكتب."
قال أصحاب هذا المذهب: إن الله تعالى أجرى ذلك على يده، إما بأن كتب ذلك القلم بيده، وهو غير عالم بما يكتب. أو أن الله تعالى علمه ذلك حينئذ حتى كتب. وجعل هذا زيادة في معجزته فإنه كان أميا، فكما علمه مالم يعلم من العلم، وجعله يقرأ مالم يقرأ، ويتلو مالم يكن يتلو،كذلك علمه أن يكتب مالم يكن يكتب، وخط مالم يكن يخط بعد النبوة، أو أجرى ذلك على يده.
قالوا: وهذا لا يقدح في وصفه بالأمية، واحتجوا بآثار جاءت في هذا عن الشعبي وبعض السلف، وأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يمت حتى كتب، قال القاضي: وإلي جواز هذا ذهب الباجي وحكاه عن السمناني وأبي ذر وغيره.
وذهب الأكثرون إلى منع هذا كله، قالوا وهذا الذي زعمه الذاهبون إلى القول الأول يبطله وصف الله تعالى إياه بالنبي الأمي صلى الله عليه و سلم."[17]
لا تعارض بين الأمرين:
أقول: وصف الله تعالى إياه عليه الصلاة والسلام بالنبي الأمي لا يبطل ذلك، والصواب في كفّ القائلين بأنه عليه السلام كتب وكان يكتب، وكان عليه السلام أميا نسبة إلى أم القرى، لكونه ولد في أم القرى، ونشأ في أم القرى، وكان يقرأ ويكتب، ولا تعارض بين الأمرين.
دليل آخر على قدرته على الكتابة:
ومما يدل على قدرته عليه السلام على الكتابة ما ذكره الله سبحانه من قول الكفار:
وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ﴿5﴾[18]
قال الزمخشري: اكْتَتَبَها:كتبها لنفسه وأخذها، كما تقول: استكب الماء واصطبه: إذا سكبه وصبه لنفسه وأخذه.[19]
وقال الجوهري: اكْتَتَبْتُ الكتابَ، أي كَتَبْتُه. ومنه قوله تعالى: "اكْتَتَبَها فهيَ تُمْلى عَلَيه"[20]
ففي الآية إشارة واضحة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم الكتابة، وكان قادرا عليها غير عاجز عنها.
والكفار كانوا كاذبين من غير شك، حينما قالوا عن القرآن: (أساطير الأولين)، وكانوا كاذبين حينما قالوا: (فهي تملى عليه بكرة وأصيلا)، ولكن ليس هناك ما يدفعنا إلى القول بأنهم كانوا كاذبين حينما أثبتوا لرسول الله مهارة الكتابة.
تأويل: وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ:
وهناك آية أخرى وهموا منها أن النبي عليه السلام ما كان يعرف القراءة والكتابة، وهي قوله تعالى:
وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴿48﴾
وهذا الوهم نتيجة للذهول عن سياق الآية، فالآية ما جاءت لإثبات أن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يقرأ ولا يكتب أصلاً، وإنما جاءت ردا وإبطالا لمن كان يجحد بالقرآن، ويقول: إنه ليس وحيا من الله، وإنما هو افتراء واقتباس من الكتب الإلهية السابقة، فجاء الردّ أنك ما كنت تتلو قبل ذلك أيّ كتاب من الكتب الإلهية، وما كنت تخطه بيمينك، فكيف تقدر على الاقتباس منها؟ وما الحجة على هذه الدعوى؟ وسياق الآية هكذا:
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ ﴿47﴾ وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ﴿48﴾ بَلْ هُوَآيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَايَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّاالظَّالِمُونَ ﴿49﴾[21]
فتلك الآية لامتمسك فيها لمن يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يعرف القراءة ولا الكتابة أصلا.
حديث بدء الوحي:
قد يقال: حديث بدء الوحي صريح في أن النبي عليه الصلاة والسلام ما كان قارئا، ولم يقرأ حينما أمره سيدنا جبريل عليه السلام بالقراءة، فقد روى الإمام البخاري:
حدثنا يحيى بن بكير، قال: حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء ، وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه - وهو التعبد - الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ، قال: "ما أنا بقارئ"، قال: "فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني، فقال: {اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم}[22]
نقول: هذا الحديث لا يفيد شيئا مما يقال؛ فإن القراءة التي أمر بها سيدنا جبريل عليه السلام لم تكن قراءة عاديّة يقرؤها الناس، فإنه عليه الصلاة والسلام ما جاء بكتاب ولا صحيفة ولا لوح ولا ورقة، حتى يراه النبي عليه الصلاة والسلام، ويقرأ فيه، وإنما نزل بالوحي على قلبه الكريم، والقرآن كله نزل على قلبه الكريم، كما قال تعالى:
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴿192﴾ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ﴿193﴾ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ﴿194﴾ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ﴿195﴾[23]
وكان الوحي مثل صلصلة الجرس، كما ورد في الروايات، وكانت هذه أول تجربة، فلم يعرف عليه الصلاة والسلام كيف يتلقى الوحي من قلبه الشريف، ولم يعرف كيف يتلقى الوحي من صوت مثل صلصلة الجرس !
فغطّه جبريل عليه الصلاة والسلام ثلاث مرات، وكان ذلك منه تعليما وتدريبا لتلقي الوحي من قلبه الشريف، وبعد ذلك استطاع عليه الصلاة والسلام أن يتلقى الوحي من قلبه الشريف، وقرأ ما أنزله سيدنا جبريل عليه الصلاة والسلام على قلبه.
فهذه الرواية ليس فيها شيء مما يقال، من نفي مهارة القراءة والكتابة عن نبينا عليه الصلاة والسلام.
هذا، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
*** *** ***
[1] سورة الجمعة
[2] المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز- سورة الجمعة، 8/300
[3] الجامع لأحكام القرآن- سورة الجمعة، 9/256
[4] الراغب الأصفهاني-المفردات في غريب القرآن- كتاب الألف: 1/87
[5] سورة الدخان
[6]سورة ص
[7]سورة المدثر
[8] سورة الأنعام
[9] سورة الشورى
[10] سورة الأعراف
[11]سورة البقرة
[12] صحيح البخاري- كتاب بدء الوحي :3 /589/1913
[13] تهذيب الكمال للمزي:1/262/498
[14] الذهبي - ميزان الاعتدال: 1/371
[15] د/عبدالعزيز بن صالح اللحيدان- شيوخ شعبة الذين ضعفهم الإمام أحمد:1/111
[16] صحيح الإمام مسلم- باب صلح الحديبية:5/174/4731
[17] شرح النووي على مسلم- باب صلح الحديبية: 12/137
[18] سورة الفرقان
[19] تفسير الكشاف للزمخشري: سورة الفرقان، 3/257
[20] الجوهري - الصحاح في اللغة - كتع
[21]العنكبوت
[22] صحيح البخاري-كيف كان بدءالوحي:1/ 4/3
[23] سورة الشعراء
قال الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز:
هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴿2﴾ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴿3﴾[1]
ما قيل في معنى الأميّ والأمّيين:
فما معنى الأميين في هذه الآية؟ قال ابن عطية:
{الأميين}: يراد بهم العرب، والأمي في اللغة الذي لا يكتب ولا يقرأ كتاباً، قيل هو منسوب إلى الأم، أي: هو على الخلقة الأولى في بطن أمه، وقيل هو منسوب إلى الأمة، أي على سليقة البشر دون تعلم، وقيل منسوب إلى أم القرى وهي مكة، وهذا ضعيف، لأن الوصف بـ{الأميين} على هذا يقف على قريش، وإنما المراد جميع العرب، وفيهم قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنا أمة أمية لا نحسب ولا نكتب الشهر هكذا وهكذا» .[2]
وقال القرطبي:
قال ابن عباس: الأميون العرب كلهم، من كتب منهم ومن لم يكتب، لأنهم لم يكونوا أهل كتاب. وقيل: الأميون الذين لا يكتبون. وكذلك كانت قريش. وروى منصور عن إبراهيم قال: الأمي الذي يقرأ ولا يكتب.[3]
هكذا درج المفسرون على تفسير (الأميين) في الآية بمن لا يقرءون ولا يكتبون. وهكذا فعل أهل اللغة،
قال الراغب الأصفهاني:
"والأُمِّيُّ: هو الذي لا يكتب ولا يقرأ من كتاب، وعليه حمل: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ) قال قطرب: الأُمِّيَّة: الغفلة والجهالة، فالأميّ منه، وذلك هو قلة المعرفة، ومنه قوله تعالى:
(وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ) أي: إلا أن يتلى عليهم.
وقال الفرّاء: هم العرب الذين لم يكن لهم كتاب، (والنَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) قيل: منسوب إلى الأمّة الذين لم يكتبوا، لكونه على عادتهم كقولك: عامّي، لكونه على عادة العامّة، وقيل: سمي بذلك لأنه لم يكن يكتب ولا يقرأ من كتاب، وذلك فضيلة له لاستغنائه بحفظه، واعتماده على ضمان اللّه منه بقوله: (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى).
وقيل: سمّي بذلك لنسبته إلى أمّ القرى."[4]
تلك نصوص من كلام أهل التفسير وأهل اللغة، نستخلص منها أن لفظ الأمي يحتمل معنيين:
1- الذي لايكتب ولا يقرأ من كتاب.
2- الذي ولد في أم القرى، وهي مكة، ونشأ فيها.
لماذا عدلوا عن معنى ثابت إلى غير ثابت؟
وهنا يثور سؤال: لماذا جنح أهل اللغة وأهل التفسير في تأويل الآية للمعنى الأول دون الآخر، مع أن المعنى الآخر ثابت متحقق، حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه السابقين الأولين كلهم ولدوا في أم القرى، ونشؤوا في أم القرى، وسكنوا في أم القرى، فالنبي أميّ، وقومه وأصحابه أميون، وهو أمر لم يختلف فيه اثنان، ولم ينتطح فيه عنزان، وليس فيه أي إشكال من أيّ ناحية.
وأما المعنى الأول الذي مال إليه أهل التفسير وأهل اللغة، والذي وقر في الأذهان، وسارت به الركبان، فهو معنى لا يخلو من إشكال، فإن من سنة الله أنه لا يختار لرسالته إلا قوما متميزين، ولا يختار إلا من يفوقون أهل زمانهم في فضلهم وكفاءتهم، حيث قال تعالى في بني إسرائيل:
وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ ﴿30﴾ مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ ﴿31﴾ وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴿32﴾ وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ ﴿33﴾[5]
فإذا اختار الله العرب، وهم بنو إسماعيل، واختارهم لرسالته العالميّة الخالدة، فلا بد أن تكون فيهم كفاءة، ولا بد أن تكون لهم ميزة. وأيّ كفاءة فيهم، وأيّ ميزة إذا كانوا غارقين في الأمية، ولم يعرفوا القراءة ولا الكتابة؟
دعاية كاذبة، والله!
وهل نعرف قوما كانوا يملكون ما كان يملكه العرب من قدرات وكفاءات، ومن مهارات وعبقريات، ومن همم وطموحات، ثم كانوا كلهم، أو معظمهم بعيدين من القراءة والكتابة؟ هل وُجد مثل هذا القوم على ظهر الأرض عبر التاريخ البشري كله؟
وإذا قيل هذا الكلام في شأن بني إسماعيل، وهم العرب، مع أنه لا يوجد له مثال في تاريخ الأقوام كله، فهل من المستبعد أن يكون ذلك دعاية كاذبة فاجرة من أعداء بني إسماعيل، حتى يغضّوا من شأنهم، ويشوّهوا كرامتهم؟ وكم لهم من دعايات كاذبة فاجرة ضد بني إسماعيل! وهي ليست خافية على من له إلمام بتاريخهم وتاريخ المسلمين.
وماذا في كون الرسول أميا لا يعرف الكتابة ولا يعرف القراءة في كتاب؟ وماذا في كون قومه أميين لا يكتبون ولا يقرءون؟ ما الميزة وما الشرف في هذا حتى يتكرر ذكره في القرآن بهذا الاهتمام؟!
هل كانت الأميّة حجّة على النبوة؟
قد يقال إن أميّة رسول الله كانت حجة على نبوته، حيث جاء مع أميّته بكتاب فيه علم الأولين والآخرين، وجاء بكتاب يعجز عن مثله الجن والإنس!
نقول: لو كانت الأميّة حجة على رسالة رسول، أو نبوة نبيّ، لكان كل رسول وكل نبي أمّيّا، فإن كل رسول، وكل نبي كان بحاجة إلى حجة على رسالته ونبوته، ولكن لم يكن الأمر كذلك.
والقرآن نفسه حجة ساطعة على كونه من عند الله؛ فإنه لو اجتمع علماء الإنس والجن كلهم على أن يأتوا بمثله لايأتون.
فإذا كان القرآن بهذا السموّ وبهذا العلوّ، فهل يوهن أمره أن الذي جاء به يعرف القراءة والكتابة؟
وإن كانت في أمّيّة رسول الله- بمعنى عدم معرفة القراءة والكتابة - حجة على رسالته، فما الذي حمل قومه على أن قالوا ما قالوا؟ ولقد قالوا:
مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ ﴿7﴾ [6]
وقَالوا: (إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ ﴿24﴾ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ ﴿25﴾[7]
ثم إن كانت في أمية رسول الله حجة على رسالته، فماذا في أميّة قومه؟ وما الحكمة في أن يُبعث رسول الله في أمة أمية لا يقرءون ولا يكتبون؟
تلك إشكالات وتساؤلات يتلو بعضها بعضا، وتختلج في ذهن الباحث، ولكن بدون مجيب!
تحديد وتشخيص لمكان البعثة:
ولكن إذا قيل إن الأميّ هو الذي وُلد ونشأ في أم القرى، والأميون هم الذين ولدوا ونشؤوا في أم القرى، فهذا يكون تعريفا برسول الله وأصحابه، ويكون تجلية لشأنه، بتحديد مولده السعيد، وتشخيص مكان بعثته المباركة الخالدة.
فالنبيّ أميّ، وقومه أميّون؛ لأنهم كلهم من أم القرى، ولم تذكر هذه الصفة في شأن أيّ نبي؛ لأنه لم يكن أي نبي غير نبينا عليه الصلاة والسلام من أم القرى.
وكان ذلك رحمة من الله على عباده وتسهيلا لهم، حيث بيّن لهم مكان خاتم الأنبياء، حتى يعرفوه ويصلوا إليه بسهولة، إذا أدركوا زمانه، وإن أعرض عنه معرض، وجحد به جاحد، بعد ما عرفه وعرف مكانه،لم يكن عنده عذر، ولم تكن له على الله حجة يوم القيامة.
وكانت مكة معروفة بهذا الإسم، والقرآن يركّز على هذا الإسم، حيث قال تعالى:
وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ﴿92﴾[8]
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴿7﴾[9]
وقد ذكرت صفة (الأميّ) في البشارات التي وردت في الكتب السابقة من التوراة والإنجيل وغيرهما، ولعل الحكمة في التركيز على تلك الصفة في تلك البشارات كلها هي تحديد مكان تلك النبوة العالميّة الخالدة، وقد ذكر القرآن تلك البشارة العظيمة بهذه الصفة، حيث قال تعالى:
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴿157﴾) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴿158﴾ [10]
المعنى الظاهر المتبادر للفظ (الأمّيّ):
ولفظ (الأمي) جاء في القرآن بالمعنيين اللذين ذكرهما أهل اللغة وأهل التفسير، ولكن المعنى الظاهر المتبادر هو المعنى الذي كانوا فيه من الزاهدين، وذكره بعضهم، وقال: إنه ضعيف!
فالقرآن كلما ذكر (الأميّ) أو(الأميين) نسبة إلى أم القرى،لم يأت له ببيان، لكونه واضحا في معناه، ولكن حينما جاء بهذا اللفظ في معنى قلة العلم أو عدم العلم جاء بعده بما يفسره، حيث قال تعالى:
وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ﴿78﴾[11]
فجاء (لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ) بيانا لقوله تعالى: (ومنهم أميُّونَ).
ولم يستعمل القرآن هذا اللفظ في سياق الذمّ، وبمعنى عدم العلم إلا لبني إسرائيل، وكلما استعمله للنبي صلى الله عليه وسلم، أو استعمله لأصحابه استعمله لبيان واقعهم، وهو كونهم من أمّ القرى.
إنا أمّة أمّيّة لا نكتب ولا نحسب!
وهناك روايات كان لها دور في صرف الناس عن التأويل الصحيح لتلك الآيات، فلا بأس بأن تكون لنا وقفة عند تلك الروايات حتى نكون على بينة من أمرها. فمنها ما رواه الشيخان، و أصحاب الجوامع والسنن، واللفظ للبخاري:
حدثنا آدم، حدثنا شعبة، حدثنا الأسود بن قيس، حدثنا سعيد بن عمرو أنه سمع ابن عمر، رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إنا أمة أمّية لا نكتب، ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا، يعني مرة تسعة وعشرين، ومرة ثلاثين.[12]
تلك الرواية في جميع طرقها جاءت عن الأسود بن قيس، وهو رجل تكلم فيه.
قال محمد بن أحمد بن البراء ، عن على ابن المدينى : روى عن عشرة مجهولين، لا يعرفون .[13]
وقال الذهبي: قال ابن المديني: الأسود يروي عن مجاهيل.[14]
وقيل إنه من الرواة الذين ضعفهم الإمام أحمد.[15]
كتب النبيّ بيده: "ابن عبدالله":
هذا، وإذا نظرنا إلى الرواية من ناحية مضمونها، فمضمونها يخالف واقع الأمر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كتب، فقد روى الإمام مسلم:
حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلى وأحمد بن جناب المصيصى جميعا عن عيسى بن يونس - واللفظ لإسحاق - أخبرنا عيسى بن يونس أخبرنا زكرياء عن أبى إسحاق عن البراء قال لما أحصر النبى - صلى الله عليه وسلم - عند البيت صالحه أهل مكة على أن يدخلها فيقيم بها ثلاثا ولا يدخلها إلا بجلبان السلاح السيف وقرابه. ولا يخرج بأحد معه من أهلها، ولا يمنع أحدا يمكث بها ممن كان معه.
قال لعلى «اكتب الشرط بيننا: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله» فقال له المشركون: لو نعلم أنك رسول الله تابعناك، ولكن اكتب محمد بن عبد الله. فأمر عليا أن يمحاها فقال على: لا والله لا أمحاها. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «أرنى مكانها». فأراه مكانها فمحاها، وكتب «ابن عبد الله»[16]
قال الإمام النووي في شرح الحديث:
"قوله صلى الله عليه و سلم: ( أرني مكانها فأراه مكانها فمحاها وكتب بن عبد الله)
قال القاضي عياض رضي الله تعالى عنه:
احتج بهذا اللفظ بعض الناس على أن النبي صلى الله عليه و سلم كتب ذلك بيده على ظاهر هذا اللفظ.
وقد ذكر البخاري نحوه من رواية اسرائيل عن أبي إسحاق وقال فيه: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب فكتب. وزاد عنه في طريق آخر: "ولا يحسن أن يكتب فكتب."
قال أصحاب هذا المذهب: إن الله تعالى أجرى ذلك على يده، إما بأن كتب ذلك القلم بيده، وهو غير عالم بما يكتب. أو أن الله تعالى علمه ذلك حينئذ حتى كتب. وجعل هذا زيادة في معجزته فإنه كان أميا، فكما علمه مالم يعلم من العلم، وجعله يقرأ مالم يقرأ، ويتلو مالم يكن يتلو،كذلك علمه أن يكتب مالم يكن يكتب، وخط مالم يكن يخط بعد النبوة، أو أجرى ذلك على يده.
قالوا: وهذا لا يقدح في وصفه بالأمية، واحتجوا بآثار جاءت في هذا عن الشعبي وبعض السلف، وأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يمت حتى كتب، قال القاضي: وإلي جواز هذا ذهب الباجي وحكاه عن السمناني وأبي ذر وغيره.
وذهب الأكثرون إلى منع هذا كله، قالوا وهذا الذي زعمه الذاهبون إلى القول الأول يبطله وصف الله تعالى إياه بالنبي الأمي صلى الله عليه و سلم."[17]
لا تعارض بين الأمرين:
أقول: وصف الله تعالى إياه عليه الصلاة والسلام بالنبي الأمي لا يبطل ذلك، والصواب في كفّ القائلين بأنه عليه السلام كتب وكان يكتب، وكان عليه السلام أميا نسبة إلى أم القرى، لكونه ولد في أم القرى، ونشأ في أم القرى، وكان يقرأ ويكتب، ولا تعارض بين الأمرين.
دليل آخر على قدرته على الكتابة:
ومما يدل على قدرته عليه السلام على الكتابة ما ذكره الله سبحانه من قول الكفار:
وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ﴿5﴾[18]
قال الزمخشري: اكْتَتَبَها:كتبها لنفسه وأخذها، كما تقول: استكب الماء واصطبه: إذا سكبه وصبه لنفسه وأخذه.[19]
وقال الجوهري: اكْتَتَبْتُ الكتابَ، أي كَتَبْتُه. ومنه قوله تعالى: "اكْتَتَبَها فهيَ تُمْلى عَلَيه"[20]
ففي الآية إشارة واضحة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم الكتابة، وكان قادرا عليها غير عاجز عنها.
والكفار كانوا كاذبين من غير شك، حينما قالوا عن القرآن: (أساطير الأولين)، وكانوا كاذبين حينما قالوا: (فهي تملى عليه بكرة وأصيلا)، ولكن ليس هناك ما يدفعنا إلى القول بأنهم كانوا كاذبين حينما أثبتوا لرسول الله مهارة الكتابة.
تأويل: وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ:
وهناك آية أخرى وهموا منها أن النبي عليه السلام ما كان يعرف القراءة والكتابة، وهي قوله تعالى:
وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴿48﴾
وهذا الوهم نتيجة للذهول عن سياق الآية، فالآية ما جاءت لإثبات أن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يقرأ ولا يكتب أصلاً، وإنما جاءت ردا وإبطالا لمن كان يجحد بالقرآن، ويقول: إنه ليس وحيا من الله، وإنما هو افتراء واقتباس من الكتب الإلهية السابقة، فجاء الردّ أنك ما كنت تتلو قبل ذلك أيّ كتاب من الكتب الإلهية، وما كنت تخطه بيمينك، فكيف تقدر على الاقتباس منها؟ وما الحجة على هذه الدعوى؟ وسياق الآية هكذا:
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ ﴿47﴾ وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ﴿48﴾ بَلْ هُوَآيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَايَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّاالظَّالِمُونَ ﴿49﴾[21]
فتلك الآية لامتمسك فيها لمن يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يعرف القراءة ولا الكتابة أصلا.
حديث بدء الوحي:
قد يقال: حديث بدء الوحي صريح في أن النبي عليه الصلاة والسلام ما كان قارئا، ولم يقرأ حينما أمره سيدنا جبريل عليه السلام بالقراءة، فقد روى الإمام البخاري:
حدثنا يحيى بن بكير، قال: حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء ، وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه - وهو التعبد - الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ، قال: "ما أنا بقارئ"، قال: "فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني، فقال: {اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم}[22]
نقول: هذا الحديث لا يفيد شيئا مما يقال؛ فإن القراءة التي أمر بها سيدنا جبريل عليه السلام لم تكن قراءة عاديّة يقرؤها الناس، فإنه عليه الصلاة والسلام ما جاء بكتاب ولا صحيفة ولا لوح ولا ورقة، حتى يراه النبي عليه الصلاة والسلام، ويقرأ فيه، وإنما نزل بالوحي على قلبه الكريم، والقرآن كله نزل على قلبه الكريم، كما قال تعالى:
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴿192﴾ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ﴿193﴾ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ﴿194﴾ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ﴿195﴾[23]
وكان الوحي مثل صلصلة الجرس، كما ورد في الروايات، وكانت هذه أول تجربة، فلم يعرف عليه الصلاة والسلام كيف يتلقى الوحي من قلبه الشريف، ولم يعرف كيف يتلقى الوحي من صوت مثل صلصلة الجرس !
فغطّه جبريل عليه الصلاة والسلام ثلاث مرات، وكان ذلك منه تعليما وتدريبا لتلقي الوحي من قلبه الشريف، وبعد ذلك استطاع عليه الصلاة والسلام أن يتلقى الوحي من قلبه الشريف، وقرأ ما أنزله سيدنا جبريل عليه الصلاة والسلام على قلبه.
فهذه الرواية ليس فيها شيء مما يقال، من نفي مهارة القراءة والكتابة عن نبينا عليه الصلاة والسلام.
هذا، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
*** *** ***
[1] سورة الجمعة
[2] المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز- سورة الجمعة، 8/300
[3] الجامع لأحكام القرآن- سورة الجمعة، 9/256
[4] الراغب الأصفهاني-المفردات في غريب القرآن- كتاب الألف: 1/87
[5] سورة الدخان
[6]سورة ص
[7]سورة المدثر
[8] سورة الأنعام
[9] سورة الشورى
[10] سورة الأعراف
[11]سورة البقرة
[12] صحيح البخاري- كتاب بدء الوحي :3 /589/1913
[13] تهذيب الكمال للمزي:1/262/498
[14] الذهبي - ميزان الاعتدال: 1/371
[15] د/عبدالعزيز بن صالح اللحيدان- شيوخ شعبة الذين ضعفهم الإمام أحمد:1/111
[16] صحيح الإمام مسلم- باب صلح الحديبية:5/174/4731
[17] شرح النووي على مسلم- باب صلح الحديبية: 12/137
[18] سورة الفرقان
[19] تفسير الكشاف للزمخشري: سورة الفرقان، 3/257
[20] الجوهري - الصحاح في اللغة - كتع
[21]العنكبوت
[22] صحيح البخاري-كيف كان بدءالوحي:1/ 4/3
[23] سورة الشعراء