سعيد محمود أحمد
New member
قال الله تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾. سورة الأحزاب، الآية (٥٠).
نلحظ أنه أتى بلفظ المفرد مع العم: "وبنات عمك"، ولفظ المفرد مع الخال: "وبنات خالك"، كما نلحظ أنه أتى بلفظ الجمع مع العمة: "وبنات عماتك"، وأتى بلفظ الجمع مع الخالة: "وبنات خالاتك".
فما النكتة من وراء ذلك؟
قال الإمام الآلوسي رحمه الله تعالى في تفسيره روح المعاني:
هَذا وقَدْ كَثُرَ السُّؤالُ عَنْ حِكْمَةِ إفْرادِ العَمِّ والخالِ وجَمْعِ العَمَّةِ والخالَةِ حَتّى أنَّ السُّبْكِيَّ عَلى ما قِيلَ صَنَّفَ جُزْءًا فِيهِ سَمّاهُ (اَلْهِمَّةُ في إفْرادِ العَمِّ وجَمْعِ العَمَّةِ). أ.هـ
قلت: الرسالة المنسوبة إلى الإمام السبكي رحمه الله تعالى عنوانها: ( بَذْلُ الهمة في إفراد العم وجمع العمة )، وذلك على المشهور من اسمها، والله أعلم.
* سوف أورد بعض النقولات مما جادت به قرائح علمائنا رحمهم الله تعالى في تَلَمُّس وجه الحكمة والفائدة من إفراد العم وجمع العمة، وأبدأ بالإمام الآلوسي في روح المعاني له:
"... ويُمْكِنُ أنْ يُقالَ في الحِكْمَةِ هاهُنا خاصَّةً: إنَّهُ لَمّا كانَ المُفْرَدُ أصْلًا والمَجْمُوعُ فَرْعَهُ والمُذَكَّرُ أصْلًا والمُؤَنَّثُ فَرْعَهُ أُتِيَ بِالعَمِّ والخالِ المُذَكَّرَيْنِ مُفْرَدَيْنِ وبِالعَمَّةِ والخالَةِ المُؤَنَّثَيْنِ مَجْمُوعَيْنِ فاجْتَمَعَ في الأوَّلَيْنِ أصْلانِ وفي الأخِيرَيْنِ فَرْعانِ بِحُكْمِ شَبِيهُ الشَّيْءِ مُنْجَذِبٌ إلَيْهِ، وإنَّ الطُّيُورَ عَلى أشْباهِها تَقَعُ، وما ألْطَفَ هَذا الِاجْتِماعَ في مِنَصَّةِ مَقامِ النِّكاحِ لِما فِيهِ مِنَ الإشارَةِ إلى الكَفاءَةِ، وأنَّ المُناسِبَ ضَمُّ الجِنْسِ إلى جِنْسِهِ كَما يَقْتَضِيهِ بَعْضُ الآياتِ وهو لَعَمْرِي ألْطَفُ مِن جَمْعِ المُذَكَّرِ وإفْرادِ المُؤَنَّثِ لِيَجْتَمِعَ في كُلِّ أصْلٍ وفَرْعٍ فَيُوافِقُ ما في النِّكاحِ مِنَ اِجْتِماعِ ذَكَرٍ هو أصْلٌ وأُنْثى هي فَرْعٌ لِخُلُوِّهِ عَنِ الإشارَةِ إلى ذَلِكَ الضَّمِّ المُناسِبِ المُسْتَحْسَنِ عِنْدَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ صائِبٍ عَلى أنَّ في جَمْعِ أصْلَيْنِ في العَمِّ مُوافَقَةٌ لِما في النِّكاحِ مِن جَمْعِ الزَّوْجَيْنِ الَّذِينَ هُما أصْلانِ لِما يَتَوَلَّدُ مِنهُما، وإذا اُعْتُبِرَ جَمْعُهُما في الخالِ الَّذِي قَرابَتُهُ مِن جِهَةِ الأُمِّ الَّتِي لا تُعْتَبَرُ في النَّسَبِ وافَقَ الجُمْلَةَ ما في النِّكاحِ مِنَ اِجْتِماعِ أصْلٍ وفَرْعٍ فَلا يَفُوتُ ذَلِكَ بِالكُلِّيَّةِ عَلى ما في النَّظْمِ الجَلِيلِ.
وأيْضًا في الِانْتِقالِ مِنَ الإفْرادِ إلى الجَمْعِ في جانِبَيِ العُمُومَةِ والخُئُولَةِ إشارَةٌ إلى ما في النِّكاحِ مِنَ اِنْتِقالِ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجِ والزَّوْجَةِ مِن حالِ الِانْفِرادِ إلى حالِ الِاجْتِماعِ فَلِلَّهِ تَعالى دَرُّ التَّنْزِيلِ، هَذا ما عِنْدِي وهو زَهْرَةُ رَبِيعٍ لا تَحْمِلُ الفَرْكَ ومَعَ هَذا قِسْهُ إلى ما سَمِعْتَ عَنْ ساداتِنا المُعاصِرِينَ واخْتَرْ لِنَفْسِكَ ما يَحْلُو، واَللَّهُ تَعالى أعْلَمُ بِأسْرارِ كِتابِهِ..."، أ.هـ.
* وها هو الإمام الشوكاني رحمه الله تعالى يقول في نيل الأوطار له، وينسب إلى ثلاثة من الإئمة، وهم القرطبي، وابن كثير، والنيسابوري، رحمهم الله جميعا، فيقول:
..."ووَجْهُ إفْرادِ العَمِّ والخالِ وجَمْعِ العَمَّةِ والخالَةِ ما ذَكَرَهُ القُرْطُبِيُّ أنَّ العَمَّ والخالَ في الإطْلاقِ اسْمُ جِنْسٍ كالشّاعِرِ والرّاجِزِ، ولَيْسَ كَذَلِكَ العَمَّةُ والخالَةُ.
قالَ: وهَذا عُرْفٌ لُغَوِيٌّ، فَجاءَ الكَلامُ عَلَيْهِ بِغايَةِ البَيانِ. وحَكاهُ عَنِ ابْنِ العَرَبِيِّ.
وقالَ ابْنُ كَثِيرٍ: إنَّهُ وحَّدَ لَفْظَ الذِّكْرِ لِشَرَفِهِ، وجَمَعَ الأُنْثى كَقَوْلِهِ: ﴿عَنِ اليَمِينِ والشَّمائِلِ﴾ [النحل: ٤٨] وقَوْلُهُ: ﴿يُخْرِجُهم مِنَ الظُّلُماتِ إلى النُّورِ﴾ [البقرة: ٢٥٧] ﴿وجَعَلَ الظُّلُماتِ والنُّورَ﴾ [الأنعام: ١] ولَهُ نَظائِرُ كَثِيرَةٌ. انْتَهى.
وقالَ النَّيْسابُورِيُّ، وإنَّما لَمْ يَجْمَعِ العَمَّ والخالَ اكْتِفاءً بِجِنْسِيَّتِهِما مَعَ أنَّ لِجَمْعِ البَناتِ دَلالَةً عَلى ذَلِكَ لِامْتِناعِ أُخْتَيْنِ تَحْتَ واحِدٍ، ولَمْ يَحْسُنْ هَذا الِاخْتِصارُ في العَمَّةِ والخالَةِ لِإمْكانِ سَبْقِ الوَهْمِ إلى أنَّ التّاءَ فِيهِما لِلْوَحْدَةِ انْتَهى.
وكُلُّ وجْهٍ مِن هَذِهِ الوُجُوهِ يَحْتَمِلُ المُناقَشَةَ بِالنَّقْضِ والمُعارَضَةِ، وأحْسَنُها تَعْلِيلُ جَمْعِ العَمَّةِ والخالَةِ بِسَبْقِ الوَهْمِ إلى أنَّ التّاءَ لِلْوَحْدَةِ، ولَيْسَ في العَمِّ والخالِ ما يَسْبِقُ الوَهْمُ إلَيْهِ بِأنَّهُ أُرِيدَ بِهِ الوَحْدَةُ إلّا مُجَرَّدُ صِيغَةِ الإفْرادِ وهي لا تَقْتَضِي ذَلِكَ بَعْدَ إضافَتِها لِما تَقَرَّرَ مِن عُمُومِ أسْماءِ الأجْناسِ المُضافَةِ، عَلى أنَّ هَذا الوَجْهَ الأحْسَنَ لا يَصْفُو عَنْ شَوْبِ المُناقَشَةِ ...". أ.هـ
* ويدلي العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله تعالى بدلوه في التحرير والتنوير قائلا:
..."وإنَّما أفْرَدَ لَفْظَ (عَمٍّ) وجَمَعَ لَفْظَ (عَمّاتٍ) لِأنَّ العَمَّ في اسْتِعْمالِ كَلامِ العَرَبِ يُطْلَقُ عَلى أخِي الأبِ ويُطْلَقُ عَلى أخِي الجَدِّ وأخِي جَدِّ الأبِ وهَكَذا فَهِمَ يَقُولُونَ: هَؤُلاءِ بَنُو عَمٍّ أوْ بَناتُ عَمِّ، إذا كانُوا لِعَمٍّ واحِدٍ أوْ لِعِدَّةِ أعْمامٍ، ويُفْهَمُ المُرادُ مِنَ القَرائِنِ. قالَ الرّاجِزُ أنْشَدَهُ الأخْفَشُ:
ما بَرِئَتْ مِن رِيبَةٍ وذَمٍّ في حَرْبِنا إلّا بَناتُ العَمِّ
وقالَ رُؤْبَةُ بْنُ العَجّاجِ:
قالَتْ بَناتُ العَمِّ يا سَلْمى وإنْ ∗∗∗ كانَ فَقِيرًا مُعْدَمًا قالَتْ وإنْ
فَأمّا لَفْظُ العَمَّةِ فَإنَّهُ لا يُرادُ بِهِ الجِنْسَ في كَلامِهِمْ، فَإذا قالُوا: هَؤُلاءِ بَنُو عَمَّةٍ، أرادُوا أنَّهم بَنُو عَمَّةٍ مَعْنِيَّةٍ، فَجِيءَ في الآيَةِ (عَمّاتِكَ) مِن قَوْلِهِ وبَناتِ خالِكَ وجَمْعُ الخالَةِ في قَوْلِهِ ﴿وبَناتِ خالاتِكَ﴾ . وقالَ قَوْمٌ: المُرادُ بِبَناتِ العَمِّ وبَناتِ العَمّاتِ: نِساءُ قُرَيْشٍ، والمُرادُ بِبَناتِ الخالِ: النِّساءُ الزُّهْرِيّاتِ، وهو اخْتِلافٌ نَظَرِيٌّ مَحْضٌ لا يَنْبَنِي عَلَيْهِ عَمَلٌ لِأنَّ النَّبِيَّ قَدْ عُرِفَتْ أزْواجُهُ.".أ.هـ
* بتحليل سياق النص الشريف يتبين أنه أسند جماعة إناث: بنات، إلى مفرد مذكر، عم وخال، وأسند جماعة إناث: بنات، إلى جمع إثاث، عمات وخالات.
والسياق في المباحات من النساء في أمر النكاح؛ وتجتمع أكثر من أنثى تحت ذكر واحد؛ فأفرد مع الذكر في العم والخال، وللذكر أن يعدد فيجمع أكثر من أنثى مع مثلها؛ فجمع مع الأنثى في العمة والخالة. أي أن الذكر الواحد له جمع من الإناث، وتجتمع الأنثى مع مثلها تحت ذكر واحد.
والنكتة الأخرى أن الذكر يختار من أحد أعمامه أو أخواله للزواج من بناتهما، فلهذا أفرد معهما، وله أن يجمع من بنات أكثر من عمة أو خالة له؛ لأن الخطب معهن أهون وأيسر من الأعمام والأخوال؛ لحمية الذكر الشديدة في مثل هذه الأمور، وأنه قد لا يقبل على ابنته أن تجتمع مع ابنة أخ له تحت سقف واحد.
*
ولما كان السياق في سورة النور في إباحة الطعام؛ فله أن يجمع في طعامه من أكثر من بيت عم وخال وعمة وخالة فأتى بالجمع في كل منها:
﴿لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾. النور (٦١).
*
والنكتة تتعلق بحكمة ومشروعة التعدد في حق الذكر؛ فأفرده، وليس للأنثى إلا أن تكون مع جماعتها تحته؛ فجمعها.
والله أعلم.
﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾. سورة الأحزاب، الآية (٥٠).
نلحظ أنه أتى بلفظ المفرد مع العم: "وبنات عمك"، ولفظ المفرد مع الخال: "وبنات خالك"، كما نلحظ أنه أتى بلفظ الجمع مع العمة: "وبنات عماتك"، وأتى بلفظ الجمع مع الخالة: "وبنات خالاتك".
فما النكتة من وراء ذلك؟
قال الإمام الآلوسي رحمه الله تعالى في تفسيره روح المعاني:
هَذا وقَدْ كَثُرَ السُّؤالُ عَنْ حِكْمَةِ إفْرادِ العَمِّ والخالِ وجَمْعِ العَمَّةِ والخالَةِ حَتّى أنَّ السُّبْكِيَّ عَلى ما قِيلَ صَنَّفَ جُزْءًا فِيهِ سَمّاهُ (اَلْهِمَّةُ في إفْرادِ العَمِّ وجَمْعِ العَمَّةِ). أ.هـ
قلت: الرسالة المنسوبة إلى الإمام السبكي رحمه الله تعالى عنوانها: ( بَذْلُ الهمة في إفراد العم وجمع العمة )، وذلك على المشهور من اسمها، والله أعلم.
* سوف أورد بعض النقولات مما جادت به قرائح علمائنا رحمهم الله تعالى في تَلَمُّس وجه الحكمة والفائدة من إفراد العم وجمع العمة، وأبدأ بالإمام الآلوسي في روح المعاني له:
"... ويُمْكِنُ أنْ يُقالَ في الحِكْمَةِ هاهُنا خاصَّةً: إنَّهُ لَمّا كانَ المُفْرَدُ أصْلًا والمَجْمُوعُ فَرْعَهُ والمُذَكَّرُ أصْلًا والمُؤَنَّثُ فَرْعَهُ أُتِيَ بِالعَمِّ والخالِ المُذَكَّرَيْنِ مُفْرَدَيْنِ وبِالعَمَّةِ والخالَةِ المُؤَنَّثَيْنِ مَجْمُوعَيْنِ فاجْتَمَعَ في الأوَّلَيْنِ أصْلانِ وفي الأخِيرَيْنِ فَرْعانِ بِحُكْمِ شَبِيهُ الشَّيْءِ مُنْجَذِبٌ إلَيْهِ، وإنَّ الطُّيُورَ عَلى أشْباهِها تَقَعُ، وما ألْطَفَ هَذا الِاجْتِماعَ في مِنَصَّةِ مَقامِ النِّكاحِ لِما فِيهِ مِنَ الإشارَةِ إلى الكَفاءَةِ، وأنَّ المُناسِبَ ضَمُّ الجِنْسِ إلى جِنْسِهِ كَما يَقْتَضِيهِ بَعْضُ الآياتِ وهو لَعَمْرِي ألْطَفُ مِن جَمْعِ المُذَكَّرِ وإفْرادِ المُؤَنَّثِ لِيَجْتَمِعَ في كُلِّ أصْلٍ وفَرْعٍ فَيُوافِقُ ما في النِّكاحِ مِنَ اِجْتِماعِ ذَكَرٍ هو أصْلٌ وأُنْثى هي فَرْعٌ لِخُلُوِّهِ عَنِ الإشارَةِ إلى ذَلِكَ الضَّمِّ المُناسِبِ المُسْتَحْسَنِ عِنْدَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ صائِبٍ عَلى أنَّ في جَمْعِ أصْلَيْنِ في العَمِّ مُوافَقَةٌ لِما في النِّكاحِ مِن جَمْعِ الزَّوْجَيْنِ الَّذِينَ هُما أصْلانِ لِما يَتَوَلَّدُ مِنهُما، وإذا اُعْتُبِرَ جَمْعُهُما في الخالِ الَّذِي قَرابَتُهُ مِن جِهَةِ الأُمِّ الَّتِي لا تُعْتَبَرُ في النَّسَبِ وافَقَ الجُمْلَةَ ما في النِّكاحِ مِنَ اِجْتِماعِ أصْلٍ وفَرْعٍ فَلا يَفُوتُ ذَلِكَ بِالكُلِّيَّةِ عَلى ما في النَّظْمِ الجَلِيلِ.
وأيْضًا في الِانْتِقالِ مِنَ الإفْرادِ إلى الجَمْعِ في جانِبَيِ العُمُومَةِ والخُئُولَةِ إشارَةٌ إلى ما في النِّكاحِ مِنَ اِنْتِقالِ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجِ والزَّوْجَةِ مِن حالِ الِانْفِرادِ إلى حالِ الِاجْتِماعِ فَلِلَّهِ تَعالى دَرُّ التَّنْزِيلِ، هَذا ما عِنْدِي وهو زَهْرَةُ رَبِيعٍ لا تَحْمِلُ الفَرْكَ ومَعَ هَذا قِسْهُ إلى ما سَمِعْتَ عَنْ ساداتِنا المُعاصِرِينَ واخْتَرْ لِنَفْسِكَ ما يَحْلُو، واَللَّهُ تَعالى أعْلَمُ بِأسْرارِ كِتابِهِ..."، أ.هـ.
* وها هو الإمام الشوكاني رحمه الله تعالى يقول في نيل الأوطار له، وينسب إلى ثلاثة من الإئمة، وهم القرطبي، وابن كثير، والنيسابوري، رحمهم الله جميعا، فيقول:
..."ووَجْهُ إفْرادِ العَمِّ والخالِ وجَمْعِ العَمَّةِ والخالَةِ ما ذَكَرَهُ القُرْطُبِيُّ أنَّ العَمَّ والخالَ في الإطْلاقِ اسْمُ جِنْسٍ كالشّاعِرِ والرّاجِزِ، ولَيْسَ كَذَلِكَ العَمَّةُ والخالَةُ.
قالَ: وهَذا عُرْفٌ لُغَوِيٌّ، فَجاءَ الكَلامُ عَلَيْهِ بِغايَةِ البَيانِ. وحَكاهُ عَنِ ابْنِ العَرَبِيِّ.
وقالَ ابْنُ كَثِيرٍ: إنَّهُ وحَّدَ لَفْظَ الذِّكْرِ لِشَرَفِهِ، وجَمَعَ الأُنْثى كَقَوْلِهِ: ﴿عَنِ اليَمِينِ والشَّمائِلِ﴾ [النحل: ٤٨] وقَوْلُهُ: ﴿يُخْرِجُهم مِنَ الظُّلُماتِ إلى النُّورِ﴾ [البقرة: ٢٥٧] ﴿وجَعَلَ الظُّلُماتِ والنُّورَ﴾ [الأنعام: ١] ولَهُ نَظائِرُ كَثِيرَةٌ. انْتَهى.
وقالَ النَّيْسابُورِيُّ، وإنَّما لَمْ يَجْمَعِ العَمَّ والخالَ اكْتِفاءً بِجِنْسِيَّتِهِما مَعَ أنَّ لِجَمْعِ البَناتِ دَلالَةً عَلى ذَلِكَ لِامْتِناعِ أُخْتَيْنِ تَحْتَ واحِدٍ، ولَمْ يَحْسُنْ هَذا الِاخْتِصارُ في العَمَّةِ والخالَةِ لِإمْكانِ سَبْقِ الوَهْمِ إلى أنَّ التّاءَ فِيهِما لِلْوَحْدَةِ انْتَهى.
وكُلُّ وجْهٍ مِن هَذِهِ الوُجُوهِ يَحْتَمِلُ المُناقَشَةَ بِالنَّقْضِ والمُعارَضَةِ، وأحْسَنُها تَعْلِيلُ جَمْعِ العَمَّةِ والخالَةِ بِسَبْقِ الوَهْمِ إلى أنَّ التّاءَ لِلْوَحْدَةِ، ولَيْسَ في العَمِّ والخالِ ما يَسْبِقُ الوَهْمُ إلَيْهِ بِأنَّهُ أُرِيدَ بِهِ الوَحْدَةُ إلّا مُجَرَّدُ صِيغَةِ الإفْرادِ وهي لا تَقْتَضِي ذَلِكَ بَعْدَ إضافَتِها لِما تَقَرَّرَ مِن عُمُومِ أسْماءِ الأجْناسِ المُضافَةِ، عَلى أنَّ هَذا الوَجْهَ الأحْسَنَ لا يَصْفُو عَنْ شَوْبِ المُناقَشَةِ ...". أ.هـ
* ويدلي العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله تعالى بدلوه في التحرير والتنوير قائلا:
..."وإنَّما أفْرَدَ لَفْظَ (عَمٍّ) وجَمَعَ لَفْظَ (عَمّاتٍ) لِأنَّ العَمَّ في اسْتِعْمالِ كَلامِ العَرَبِ يُطْلَقُ عَلى أخِي الأبِ ويُطْلَقُ عَلى أخِي الجَدِّ وأخِي جَدِّ الأبِ وهَكَذا فَهِمَ يَقُولُونَ: هَؤُلاءِ بَنُو عَمٍّ أوْ بَناتُ عَمِّ، إذا كانُوا لِعَمٍّ واحِدٍ أوْ لِعِدَّةِ أعْمامٍ، ويُفْهَمُ المُرادُ مِنَ القَرائِنِ. قالَ الرّاجِزُ أنْشَدَهُ الأخْفَشُ:
ما بَرِئَتْ مِن رِيبَةٍ وذَمٍّ في حَرْبِنا إلّا بَناتُ العَمِّ
وقالَ رُؤْبَةُ بْنُ العَجّاجِ:
قالَتْ بَناتُ العَمِّ يا سَلْمى وإنْ ∗∗∗ كانَ فَقِيرًا مُعْدَمًا قالَتْ وإنْ
فَأمّا لَفْظُ العَمَّةِ فَإنَّهُ لا يُرادُ بِهِ الجِنْسَ في كَلامِهِمْ، فَإذا قالُوا: هَؤُلاءِ بَنُو عَمَّةٍ، أرادُوا أنَّهم بَنُو عَمَّةٍ مَعْنِيَّةٍ، فَجِيءَ في الآيَةِ (عَمّاتِكَ) مِن قَوْلِهِ وبَناتِ خالِكَ وجَمْعُ الخالَةِ في قَوْلِهِ ﴿وبَناتِ خالاتِكَ﴾ . وقالَ قَوْمٌ: المُرادُ بِبَناتِ العَمِّ وبَناتِ العَمّاتِ: نِساءُ قُرَيْشٍ، والمُرادُ بِبَناتِ الخالِ: النِّساءُ الزُّهْرِيّاتِ، وهو اخْتِلافٌ نَظَرِيٌّ مَحْضٌ لا يَنْبَنِي عَلَيْهِ عَمَلٌ لِأنَّ النَّبِيَّ قَدْ عُرِفَتْ أزْواجُهُ.".أ.هـ
* بتحليل سياق النص الشريف يتبين أنه أسند جماعة إناث: بنات، إلى مفرد مذكر، عم وخال، وأسند جماعة إناث: بنات، إلى جمع إثاث، عمات وخالات.
والسياق في المباحات من النساء في أمر النكاح؛ وتجتمع أكثر من أنثى تحت ذكر واحد؛ فأفرد مع الذكر في العم والخال، وللذكر أن يعدد فيجمع أكثر من أنثى مع مثلها؛ فجمع مع الأنثى في العمة والخالة. أي أن الذكر الواحد له جمع من الإناث، وتجتمع الأنثى مع مثلها تحت ذكر واحد.
والنكتة الأخرى أن الذكر يختار من أحد أعمامه أو أخواله للزواج من بناتهما، فلهذا أفرد معهما، وله أن يجمع من بنات أكثر من عمة أو خالة له؛ لأن الخطب معهن أهون وأيسر من الأعمام والأخوال؛ لحمية الذكر الشديدة في مثل هذه الأمور، وأنه قد لا يقبل على ابنته أن تجتمع مع ابنة أخ له تحت سقف واحد.
*
ولما كان السياق في سورة النور في إباحة الطعام؛ فله أن يجمع في طعامه من أكثر من بيت عم وخال وعمة وخالة فأتى بالجمع في كل منها:
﴿لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾. النور (٦١).
*
والنكتة تتعلق بحكمة ومشروعة التعدد في حق الذكر؛ فأفرده، وليس للأنثى إلا أن تكون مع جماعتها تحته؛ فجمعها.
والله أعلم.