عبدالرحمن الشهري
المشرف العام
- إنضم
- 29/03/2003
- المشاركات
- 19,331
- مستوى التفاعل
- 136
- النقاط
- 63
- الإقامة
- الرياض
- الموقع الالكتروني
- www.amshehri.com
بسم الله الرحمن الرحيم
قال السائل : ما رأيكم بما يسمى الآن بالإعجاز العلمي للقرآن , وهل يدخل تحت علوم القرآن ؟
الجواب : للدكتور مساعد بن سليمان الطيار .
إن هذه المسألة تعتبر من المسائل العلمية التي حدثت في هذا العصر ، والموضوع أكبر من أن يجاب عنه في مثل هذا الموضع ، لكن أستعين بالله ، وأذكر من ما يفتح الله به عليَّ .
1 ـ إنَّ هذا الموضوع يدخل تحت التفسير بالرأي ، فإن كان المفسر به ممن تأهل وعَلِمَ ، كان تفسيره محمودًا ، وإن لم يكن من أهل العلم فإن تفسيره مذموم ، وإن كان قد يصل إلى بعض الحقِّ .
2 ـ إنَّ الإعجاز العلمي يدخل في ما يسمى بالإعجاز الغيبيي ، وهو فرع منه ، إذ مآله الإخبار بما غاب عن الناس فترة من الزمن ، ثمَّ علمه المعاصرون .
وإذا تحقَّق ذلك ، فليعلم أنَّ هذا النوع من الإعجاز ليس مما يختص به القرآن وحده ، بل هو موجود في كل كتب الله السابقة ؛ لأنَّ الإخبار في هذه الكتب عن الحقائق الكونية لا يمكن أن يختلف البتة .
وعدم وجود ما يطابق علم القرآن في كتبهم التي بين يديهم إنما هو لتحريفهم لها ، فلينتبه لذلك .
ومن باب إيضاح هذه المسألة بالذات ؛ يقال : إنَّ كتب الله السابقة توافق القرآن في جميع ما يتعلق بوجوه الإعجاز المذكورة عدا ما وقع به التحدِّي ، إذ لم يرد نصُّ صريح يدل على أنه قد تُحدِّي الأقوام الذين نزل عليهم كتب ، كما هو الحال بالنسبة للقرآن .
3 ـ إن قصارى الأمر في مسألة الإعجاز العلمي أنَّ الحقيقة الكونية التي خلقها الله ، وافقت الحقيقة القرآنية التي تكلم بها الله ، وهذا هو الأصل ؛ لأنَّ المتكلم عن الحقيقة الكونية المخبر بها هو خالقها ، فلا يمكن أن يختلفا البتة .
وكل ما في الأمر أنَّ هذه الحقيقة الكونية كانت غائبة من جهة تفاصيلها عن السابقين ، فمنَّ الله على اللاحقين بمعرفة هذه التفاصيل ، فكشفوا عنها ، وأثبتوا حقيقة ما جاء في القرآن من صدق ، فكان اكتشاف ذلك من دلائل صدق القرآن الذي أخبر عنها بدقة بالغة ، لم تظهر تفاصيلها إلا في هذا العصر الذي نبغ فيه سوق البحث التجريبي الذي صارت دولته إلى الكفار دون المسلمين ، فصاروا إذا ما اكتشفوا أمرًا جديدًا عليهم سارع المعتنون بالإعجاز العلمي لإثبات وجوده في نصوص القرآن .
4 ـ إن كثيرًا ممن كتب في الإعجاز العلمي ليس ممن له قدم في العلم الشرعي فضلاً عن علم التفسير ، وكان من أخطار ذلك أن جُعلت الأبحاث في العلوم التجريبية أصلاً يُحكم به القرآن ، وتأوَّل آياته لتتناسب مع هذه النظريات والفرضيات .
وكل من دخل إلى التفسير وله أصل ، فإن أصله هذا سيؤثر عليه ، وسيقع في التحريف ، كما وقع التحريف عند المعتزلة الذين جعلوا العقل المجرد أصلاً يحتكمون إليه ، وكما وقع لغيرهم من الطوائف المنحرفة .
والذي يدل على وقوع الانحراف في هذا الاتجاه الحرص الزائد على إثبات حديث القرآن عن كثير من القضايا التي ناقشها الباحثون التجريبيون .
5 ـ إن كتاب الله أعلى وأجل من أن يجعل عرضة لهذه العقول التي لم تتأصل في علم التفسير ، فأين هم من قول مسروق :( اتقوا التفسير ، فإنما هو الرواية عن الله).
6 ـ إنَّ في نسب الإعجاز ، أو التفسير إلى (العلمي) فيها خلل كبير ، وأثر من آثار التغريب الفكري ، فهذه التسمية منطلقة من تقسيم العلوم إلى أدبية وعلمية ، كما هو الحال في المدارس الثانوية سابقًا ، وفي الجامعات حتى اليوم ، وفي ذلك رفع من شأن العلوم التجريبية على غيرها من العلوم النظرية التي تدخل فيها علوم الشريعة .
وإذا كان هذا يسمى بالإعجاز العلمي ، فما ذا يسمى الإعجاز اللغوي ، أليس إعجازًا علميًا ، أليست اللغة علمًا ، وقل غيرها في وجوه الإعجاز المحكية .
لا شكَّ أنها علوم ، لكنها غير العلم الذي يريده الدنيويون الغربيون الذين أثروا في حياة الناس اليوم ، وصارت السيادة لهم . ومما يؤسف عليه أن يتبعهم فضلاء من المسلمين في هذا المصطلح دون التنبه لما تحته من الخطر والخطأ .
7 ـ ومما يلاحظ في أصحاب الإعجاز العلمي عدم مراعاة مصطلحات اللغة والشريعة ، ومحاولة تركيب ما ورد في البحوث التجريبية على ما ورد في القرآن ، ومن الأمثلة على ذلك أن القرآن يذكر عرشًا وكرسيِّا وقمرًا وشمسًا وكواكب ونجومًا وسموات سبع ، من الأرض مثلهن ... الخ
ومصطلحات العلم التجريبي المعاصر زادت على هذه ، وذكرت لها تحديدات وتعريفات لا تُعرفُ في لغة القرآن ولا العرب ، فحملوا ما جاء في القرآن عليها ، وشطَّ بعضهم فتأوَّل ما في القرآن إلى ما لم يوافق ما عند الباحثين التجريبين المعاصرين .
فبعضهم جعل السموات السبع هي الكواكب السبع السيارة ، وجعل الكرسي المجرات التي بعد هذه المنظومة الشمسية ، والعرش هو كل الكون .
وآخر يجعل ما تراه من نجوم السماء التي أقسم الله بها وأخبر عن عبوديتها ، وجعلها علامات ؛ يجعل ما تراه مواقع النجوم ، وإلا فالنجوم قد ماتت منذ فترة . إلى غير ذلك من التفسيرات الغريبة التي تجيء مرة باسم الإعجاز العلمي ، ومرة باسم التفسير العلمي ... الخ من المسميات .
وكل هذا الجهد إنما هو لأجل التوفيق بين ما يسمونه علمًا ، وبين ما جاء في القرآن .
ولقد كان لهذه القضية سلفٌ كالفلاسفة الذين عاشوا في ظلِّ الإسلام حين أرادوا أن يوفِّقوا بين ما في القرآن وبين ما في الفلسفة مما يسمونه حقيقة .
8 ـ إنَّ بعض من نظَّر للإعجاز العلمي ، وضع قاعدة ، وهي أن لا يفسَّر القرآن إلا بما ثبت حقيقة علمية لا تقبل الشكَّ ، لئلا يتطرق الشك إلى القرآن إذا ثبت بطلان فرضية فسِّرت بها آية .
وهذا القيد خارجٌ عن العمل التفسيري ، ولا يتوافق مع أصول التفسير ، وهو قيد يلتزم به مقيِّده ـ وإن لم يكن في الواقع قد التزمه كثيرون ممن بحث في هذا الموضوع ـ ولا يُلزِمُ به المفسِّرَ ؛ لأنَّ التفسير أوسع من الإعجاز .
ومن عجيب الأمر أن بعضهم يؤكد على هذه القاعدة ، ويجعل المقام في الإعجاز مقام تحدٍ للكفار ، ويقول : ... أن القرآن الذي أنزل من قبل ألف وأربعمائة سنة على النبي الأمي صلى الله عليه وسلم في أمة غالبيتها الساحقة من الأميين ـ يحوي من حقائق هذا الكون ما لم يستطع العلماء إدراكه إلا منذ عشرات قليلة من السنين ، هذا السبق يستلزم توظيف الحقائق ، ولا يجوز أن توظف فيه الفروض والنظريات إلا في قضية واحدة وهي قضية الخلق والإفناء ... لأن هذه القضايا لا تخضع للإدراك المباشر للإنسان ، ومن هنا فإن العلم التجريبي لا يتجاوز فيها مرحلة التنظير ، ويبقى المسلم نور من كتاب ربه أو من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم يعينه على أن يرتقي بإحدى تلك النظريات إلى مقام الحقيقة ، ونكون بذلك قد انتصرنا للعلم بالقرآن الكريم أو بالحديث النبوي الشريف ، وليس العكس . انتهى كلامه .
ولعلك ترى كيف أن هذا القائل ينقض قاعدته في نفس كلامه عنها ، إذ يمكن أن يستخدم غيره هذا الضابط الذي خرم به القاعدة في الحديث عن الخلق والإفناء كما استخدمه هو ، وبهذا فإنه لا يوجد قاعدة تخصُّ الإعجاز العلمي على هذا السبيل ؛ إذ يمكن أن تكون كثير من فرضيات البحوث التجريبية مما لا تخضع للإدراك البشري ، ثم نصححها لورود ما يدل عليها من القرآن اجتهادًا أن هذه الآية تشهد لتلك النظرية .
وهنا مسألة مهمة ، وهي من الذي يُثبتُ أنَّ هذه القضية صارت حقيقةً لا فرضية ؟
أي : من هو المرجع في ذلك ؟ أيكفي أن يُحدِّثَ بها مختصٌّ ، أتكفي فيها دراسةٌ بحثيةٌ ، أتحتاج إلى إجماعٍ من المختصين ؟
هذه المسألة من أولى ما يجب أن يعتني به من يريدون تفسير القرآن بالحقائق التي أثبتها البحث التجريبي المعاصر .
وفي نظري أنَّ هذا هو أول ما يجب على الباحث تأصيله وتأكيد ثبوته من جهة البحث التجريبي ، فإذا ثبت ذلك له ، انتقل من يريد الحديث عن ما يسمى بالإعجاز العلمي إلى المرحلة الثانية ، وهي تعلُّم التفسير وأصوله لئلا يشتطوا في تفسيراتهم ، أو يلووا أعناق النصوص إلى ما يريدون .
9 ـ أما بالنسبة للمفسر ، فإنه لا يمكنه أن ينكر ما يُحكمُ بثبوته من حقائق العلم التجريبي ؛ لأنه لا يملك الأدوات التي يصل بها إلى أن يثبت أو ينكر ، وهذه الأدوات متكاملة عند الباحثين التجريبيين ، وإن أخذها منهم ، فإنما يأخذها ثقة به فيهم لا غير .
وعمل المفسِّر هنا أن يرى صحة انطباق تلك القضية على ما جاء في القرآن من جهة دلالة اللغة والسياق وغيرها ، أي أن عمله عمل تفسيري بحت ، وهو يمتلك أدواته بخلاف كثير ممن كتب في ما يسمى بالإعجاز العلمي الذين لا يملكون تلك الأدوات ، فتراهم يخبطون خبط عشواء .
فكما لا يرضى أصحاب ما يسمى بالإعجاز العلمي بما عند المفسرين من تفسير كل ظواهر الكون التي أثبت البحث التجريبي المعاصر خطأها ، فإن المفسرين لا يرضون لك واحداً من الباحثين التجريبين أن يوافق بين البحث التجريبي وما ورد في القرآن . وإن كنت أرى أن المفسر أقدر في الربط من الباحث التجريبي .
10 ـ إن الربط بين ما يظهر في البحث التجريبي المعاصر وبين ما يرد في القرآن إنما هو من عمل المفسِّر به ، كائنًا من كان هذا المفسر ، وعمليته في هذا بيان معاني القرآن ، وإذا كانت هذه مهمته هنا فإنَّ المفسِّر يبين معانيه بجملة من المعلومات التي قد يكون فيها الضعيف من جهة أفراده ، كبعض الآثار الضعيفة مثلاً . فلو أن مفسِّرًا اعتمد في تفسيره على نظريةٍ من النظريات التي ثبت بطلانها لاحقًا فإنَّ الأمر أن هذا تفسير ضعيف لا يصحُّ ، ولا علاقة للقرآن به ، فالخطأ خطأ المفسر ، وليس الخطأ في القرآن قطعًا .
وهذا يشبه ما لو فسّر مفسِّر بمعنى شاذٍّ ، فهل ينال القرآن خطأ منه ، وهل يقال : إن الخطأ من القرآن ؟ لا شكَّ أن الأمر ليس كذلك .
لكن الأمر اختلف هنا لأنَّ الباحثين فيما يسمى بالإعجاز العلمي يريدون أن يلزموا الناس بما توصَّلوا إليه على أنَّ القرآن حقٌّ لا مرية فيه ؛ لأنه أثبت هذه القضايا قبل أن يعرف الناس تفاصيلها ، فألزموا أنفسهم من جهة التفسير بما لا يلزم ، فأوقعوا أنفسهم في الضيق والحرج ، وظهر عندهم الإلزام بتفسير القرآن بالحقائق ، وذلك ما لم يطبقوه في تفسيراتهم ، كما قلت .
11 ـ إن موضوع ما يسمى بالتفسير العلمي طويل جدًّا ، ولست ممن يردُّه جملة وتفصيلاً ، لكنني أدعو إلى تصحيح مساره ، ووضعه في مكانه الطبيعي دون تزيُّدٍ وتضخيم كما هو الحاصل اليوم ، حتى لقد جعله بعضهم الطريق الوحيد لدعوة الكفار ، وأنَّى له ذلك ؟
لقد أسلم كثير منهم في هذا العصر ـ ولا زالوا يسلمون بما يعرفه كثير ممن خبر إسلامهم ـ ولم يكن إسلامهم بسبب ما ورد في القرآن من حقائق وافقها البحث التجريبي .
نعم لقد كان له أثر في إسلام بعض الكفار ، لكنهم أقل بكثير ممن يسلم عن سبيل الاقتناع بالإسلام ، وبما فيه مما يلائم فطرة البشر ، وهذا الموضوع بذاته بحث يصلح للمتخصصين في قسم الدعوة ، وهو يحتاج إلى عناية .
12 ـ إنَّ أي تفسير جاء بعد تفسير السلف ، فإنه لا يقبل إلا بضوابط ،وهذه الضوابط :
الأول: أن لا يناقض ( أي : يبطل ) ما جاء عن السلف ( أعني : الصحابة والتابعين وأتباع التابعين ) .
ملاحظة : السلف عند أصحاب الإعجاز العلمي كل المفسرين السابقين ، وليس مقصورًا على هذه الطبقات الثلاث .
وذلك لأنَّ فهم السلف حجة يُحتكم إليه ، ولا تجوز مناقضته البتة ، فمن جاء بتفسير بعدهم ، سواءً أكان مصدره لغة ، أو بحثًا تجريبيًا ، فإنه لا يقبل إن كان يناقض قولهم .
فإن قلت : إنه يرد عن السلف في تفسير الآية اختلاف ، فكيف العمل ؟
فالجواب : أنَّ الاختلاف الوارد عنهم أغلبه اختلاف تنوع ، وليس بينه تضادٌّ إلا في القليل منه .
والقاعدة في اختلاف التنوع :
* أن تقبل الأقوال الواردة عنهم على سبيل التنوع ما دام ليس في قبولها جميعًا ما يمنع ذلك.
* أن يُرجَّح أحد أقوالهم على سبيل القول الأَولى والأرجح دون اطِّراح غيره وتركه بالكلية ؛ لأنه قد يستفاد منه في موضع آخر .
والقاعدة في اختلاف التضاد الوارد بينهم أن يرجَّح أحدها على سبيل التعيين لا التنوع ؛ لأنه لا يمكن القول بها معًا ، فلزم الترجيح ، وهو هنا تصحيح لقول ، وترك للآخر .
واطراح ما جاء عنهم بالكلية في هذين النوعين من الاختلاف معناه مناقضة قولهم ، وعدم الاعتبار به ، وهذا واقع كثير ممن تعرض للتفسير وجعل مصدره البحث التجريبي المعاصر .
الثاني : أن يكون المعنى المفسَّر به صحيحًا .
وهو على قسمين :
1- أن يكون المعنى من جهة اللغة ، وهذا لابدَّ أن يثبت لغةً ، وأي تفسير بمعنى لم يثبت من جهة اللغة ، فإنه مردود ، كمن يفسِّر الذرة الواردة في القرآن بالذرة الفيزيائية ، وهذا مصطلح حادث لا يثبت في اللغة .
2- أن يكون المعنى جمليًا لا من جهة اللغة ، كمن يفسِّر خلق الأطوار بأنها الأطوار الداروينية .
وهذا مخالف لما جاء في الشريعة ، وهو غير صحيح في نفسه ؛ لذا لا يصحُّ التفسير به ، ولا بما هو على منهجه البتة .
الثالث : أن يتناسب مع سياق الآية ، وتحتمله الآية .
وهذا قيد مهمٌّ ، وفيه مجال للاختلاف ، لكن لا يجب إلزام الآخر به ، وكثيرٌ من التفسيرات بما وصل إليه البحث التجريبي تدخل في هذا الضابط ؛ إذ قد يكون المعنى غير مناقض لما ورد عن السلف ، وهو معنى صحيح ، لكن يكون وجه ردِّه عدم احتمال الآية له ، والحكم باحتمال الآية له من عدمه محلُّ اجتهادٍ ، وإذا كان الاجتهاد في احتماله أو عدمه عن علم فلا تثريب على الفريقين ، بل في الأمر سعة ، كما هو الحال في الاجتهاد الكائن في علماء أمة محمد صلى الله عليه وسلم .
وسأضرب مثلاً أرجو أن يوضح هذا الأمر ، وهو ما ورد في تفسير قوله تعالى :(فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) [ الأنعام : 125]
تأمل السياق الذي وردت فيه هذه الآية ، وانظر ـ تكرمًا ـ إلى ما قبلها ، يقول تعالى : (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُون َ * وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ * فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ * وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) [ الأنعام : 122 ـ 126]
إن الحديث عن حال الكافر وحال المؤمن ، ثم ضرب مثالاً بحال الأكابر من المجرمين الذين لا يمكن أن يدخل الإيمان قلوبهم لما فيهم من الكفر والإجرام ، ثمَّ بين سبحانه مشيئته في الهداية والإضلال ، وذكر أن من أراد هدايته ، فإنه يشرح صدره للإيمان به وييسره له ، ومن أراد له الضلال ، فإنه يجعل صدره في حال ضيق وحرج شديد ، ولو أراد الإيمان فإنه لا يستطيعه ، كما لا يستطيع الإنسان أن يصعد في السماء .
قال الطبري :( القول في تأويل قوله تعالى :(كأنما يصعد في السماء) : وهذا مَثَلٌ من الله ـ تعالى ذكره ـ ضربه لقلب هذا الكافر في شدة تضييقه إياه عن وصوله إليه ؛ مثل امتناعه من الصعود إلى السماء ، وعجزه عنه ؛ لأن ذلك ليس في وسعه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ...).
ثم ذكر الرواية عطاء الخراساني ، قال : مثله كمثل الذي لا يستطيع أن يصعد في السماء .
وعن ابن جريج : يجعل صدره ضيقا حرجا بلا إله إلا الله حتى لا يستطيع أن تدخله ، كأنما يصعد في السماء من شدة ذلك عليه .
وعن السدي : كأنما يصعد في السماء من ضيق صدره .
وتقدير المعنى عندهم : إن عدم قدرة الكافر على الإيمان كعدم قدرة الإنسان على الصعود إلى السماء ، ويكون الضيق والحرج بسبب عدم قدرته على الإيمان لا بسبب التصعد في السماء .
وتفسيرهم لا يعيد التشبيه إلى الضيق والحرج ، وإنما إلى الامتناع من الإيمان وعدم القدرة عليه .
وانشراح النفس للإيمان سابقة له ، فمن يشاء الله له الهداية يشرح نفسه له ، كما أن من أراد الله له الكفر فإنه يجعل صدره ضيقًا حرجًا ، فلا يستطيع أن يؤمن بالله ، وهو ممتنع عليه الإيمان كامتناع الصعود إلى السماء على الإنسان .
وهذا التفسير من دقائق فهم السلف ، وتفسيرهم يرجع إلى لازم معنى الجملة الثانية ، وهي جعل الضيق والحرج في صدر الكافر ، إذ من لازمه أنه لو أراد الإيمان فإنه لا يستطيعه ، كما لا يستطيع الإنسان الصعود للسماء ، فنبهوا على هذا اللازم الذي قد يخفى على كثير ممن يقرأ الآية .
وفي تفسيرهم إثبات القدر ، وأن الله يفعل ما يشاء ، فمن أراد الله هدايته شرح صدره ، ومن أراد ضلاله ضيَّق صدره وجعله حرجًا لا يدخله خير ، وفي هذا ردٌّ على القدرية الذين يزعمون أن العبد يخلق فعله .
أما البحث التجريبي المعاصر فقد كشف عن قضية تتعلق بالصعود إلى الأجواء العليا ، حيث وجد أن الإنسان تتناقص قدرته على التنفس الطبيعي درجة بعد درجة كلما تصاعد إلى السماء ، وسبب ذلك انخفاض الضغط الجزئي للأكسجين في طبقات الجو العليا ، وقد جعل أصحاب الإعجاز العلمي هذه الظاهرة الكونية تفسيرًا للحرج الذي يصيب الكافر بسبب عدم قدرته على الإيمان .
وقد جعلوا التشبيه يعود إلى الضيق والحرج ، والمعنى عندهم : إن حال ضيق صدر الكافر المعرض عن الحق وعن قبول الإيمان بحال الذي يتصعد في السماء .
وذكر وجه الشبه ، وهو الصفة المشتركة بينهما : ضيقًا وحرجًا ، وجاء بأداة التشبيه (كأن) ليقع بعدها المشبه في صورة حسية واضحة ...
وإذا تأملت هذين التفسيرين وعرضتهما على سياق القرآن ومقاصده ، فأي القولين أولى وأقوى ؟
لا شكَّ أن ما ذكره السلف أولى وأقوى ، والثاني ـ وإن كان محتملاً ـ لا يرقى إلى قوته ، وإن قٌبِلَ هذا القول المعاصر على سبيل التنوع فالأول هو المقدَّم بلا ريب .
ووجه قوته كائن في أمور :
الأول : أن ما قاله السلف مُدركٌ في كل حين ، منذ أن نزل الوحي بها إلى اليوم ، أما ما ذكره المعاصرون ، فكان خفيًّا على الناس حتى ظهر لهم أمر هذا المعنى هذا اليوم .
الثاني : أن التنبيه عن امتناع الإيمان عنهم بامتناع صعود الإنسان إلى السماء أقوى وأولى من التنبيه عن تشبيه الحرج والضيق الذي يجده الكافر في نفسه بما يجده من صعِدَ طبقات السماء .
فالحرج والضيق مدرك منه بخلاف امتناع الإيمان الذي يخفى سبيله ، وهو الذي جاء التنبيه عليه في الآية ، وذلك من دقيق مسلك قدر الله سبحانه .
الرابع : أن لا يُقصَر معنى الآيةِ على هذا المعنى المأخوذ من البحوث التجريبية .
وهذا الضابط كثيرًا ما ينتقضُ عند أصحاب الإعجاز العلمي ، وقد وجدت حال بعضهم مع تفسير السلف على مراتب :
ـ فمنهم من لا يعرف تفسير السلف ( الصحابة والتابعين وأتباعهم ) أصلاً ولا يرجع إليه ، وكأنه لا يعتد به ولا يراه شيئًا . وهؤلاء صنفٌ يكثر فيهم الشطط ، ولا يرتضيهم جمهورٌ ممن يتعاطى الإعجاز العلمي .
ـ ومنهم من يقرأ تفسير السلف ، لكنه لا يفهمه ، وإذا عرضه فإنه يعرضه عرضًا باهتًا ، لا يدل على مقصودهم ، ولا يُعرف به غور علمهم ، ودقيق فهمهم .
ـ ومنهم من يخطئ في فهم كلام السلف ، ويحمل كلامهم على غير مرادهم ، وقد يعترض عليه وينتقده ، وهو في الحقيقة إنما ينتقد ما فَهِمَه هو ، وليس ينتقد تفسيرهم ؛ لأنه أخطأ في فهمه .
ومما يظهر من طريقة عرض أصحاب هذا الاتجاه لما توصلوا إليه من معانٍ جديدة أنهم يقصرون معنى الآية على ما فهموه ، دون أن ينصوا على ذلك صراحة ، وهذا مزلق خطير لا ينتبه إليه كثير من الفضلاء الذين دخلوا في هذا الميدان .
بل إنهم يتفوهون بكلام يلزم منه تجهيل الصحابة وتصغير عقولهم ، وأني لأجزم أن هؤلاء الفضلاء لو تنبهوا لهذا اللازم لعدَّلوا عباراتهم ، لكن طريقة البحث التي سلكوها جعلتهم لا ينتبهون إلى هذا المزلق الخطير .
ومن ذلك أن بعضهم يقول :(... وهناك آيات وألفاظ قرآنية لم تكن لتفهم حقيقتها حتى جاء التقدم العلمي يكشف عن دقة تلك المعاني والألفاظ القرآنية ، مما يوحي إلى كل عاقل بأن كلام الكتاب الكريم كلام الله المحيط علمًا بكل شيء ، وإن كان قد حدث جهلٌ بفهم بعض ألفاظه ومعانيه ، فإن زيادة علوم الإنسان قد جاءت لتُعرِّف الإنسان بما جهل من كلام ربه) .
ألا يلزم من هذا الكلام أن الصحابة قد خفي عليهم شيء من معانيه ، وكذا خفي على التابعين وأتباعهم ، وبقي بعض القرآن غامضًا لا يُعرف حتى جاء ( التقدم العلمي ! ) فكشف عن هذه المعاني .
ولو كان يعتقد هذا اللازم ، فالأمر خطير جدَّا . لكني لا أشكُّ ـ محسنًا الظن بقائله ـ أنه لم يتنبه لهذا اللازم الخطير ، وأُراه لو انتبه له لعدَّل عبارته .
ولقد كان من نتيجة هذا التقعيد أن لا تُذكر أقوال السلف بل يذكر ما وصل إليه البحث التجريبي المعاصر ، وتفسير الآية به ، وهذا فيه قصر لمعنى الآية على ذلك التفسير الحادث ، وهذا خطأ محضٌ .
وقد سئل آخر : لماذا لم يبين الرسول هذه الوجوه للصحابة ؟
فكانت إجابته أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لو أخبرهم بهذه الحقائق العلمية لما أدركوها ، وقد يقع منهم شك أو تكذيب .
وهذا الجواب من أعجب العجب ، فكيف يقال هذا في قوم آمنوا بما هو أعظم من هذه الحقائق الكونية ، وأرى أن خطأ هذا أوضح من أن يوضَّح ، وإني أخشى أن يكون هؤلاء ممن فرح بما أوتي من العلم ، فنسب الجهل للصحابة الذين آمنوا بما هو أعظم من هذه الأمور .
ألم يؤمنوا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم أسري به ، ثم عرج به في جزء من الليل ، ورأى ما رأى من آيات ربه الكبرى ؟ أليس هذا أعجب مما يذكره الباحثون التجريبيون ؟
وقل مثله في غير ذلك مما آمنوا به وصدَّقوا ولم يعترضوا .
وإذا كان الشيء بالشيء يذكر ، فإني قد رأيت لأحد الفضلاء كتابًا في مناهج المفسرين ، وأجاب عن سبب عدم تفسير النبي صلى الله عليه وسلم القرآن كاملاً ، وكان مما أجاب به ، فقال :( لضعف المستوى العلمي عند الصحابة ، ولو فسره لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما حوت آياته من علوم ومعارف فقد لا يستوعبونها ، وقد تكون محل استغراب بعضهم ، والعلماء الذين جاءوا بعد الصحابة قدموا بعض المضامين العلمية للآيات ، ولذلك قيل : خير مفسر للقرآن هو الزمن).
وهذا القول من ذلك الفاضل من أعجب العجب ، إذ كيف يكون خيرة الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ضعيفي المستوى العلمي ، وما المراد بالعلم الذي ضعفوا فيه ؟!
أليسوا أعلم الأمة ، والأمة عالة عليهم في هذا ؟!
ألم يخبرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بما هو كائن إلى يوم القيامة ؟! حفظه منهم من حفظه ، ونسيه من نسيه .
إن مثل هذا القول خطير ، وإني لأحسن الظن بأن قائله لم يتنبه لما يتبطنه هذا الكلام من خطأ محضٍ ، وأن الأمر يحتاج إلى تعديل أسلوب وعبارات ، والله المستعان .
وبعد ، فإن هذين النقلين اللذين نقلتهما فيما يتعلق بالإعجاز العلمي إنما هما عن أفاضل ممن تكلموا في الإعجاز العلمي دون غيرهم ممن تخبط في هذا المجال .
وهنا يجب أن يُفرَّق بين فضلهم ، وما لهم من قدم في الدعوة إلى الله ، والحرص على هداية الناس ، وبين ما وقعوا فيه من الخطأ ، فالأول يشكر لهم ويُذكر ولا يُنكر ، ولكن هذا الفضل ليس حجابًا حاجزًا عن التنبيه على ما وقعوا فيه من الخطأ .
كما أن التنبيه على خطئهم لا يعني نبذهم وعدم الاعتداد بهم ، وإنما المقصود هنا تصحيح المسار في هذه القضية التي رُبِطت بكتاب الله ، وجُعلت من أهم ما توصل إليه المعاصرون ، بل جعله بعضهم هو طريق الدعوة للكفار .
وأختم هذا البحث بمسائل متفرقة في هذا الموضوع ، وهي كالآتي :
أولاً : قضايا العلم التجريبي بين القرآن والعلم الحديث :
* العلم بالسنة الكونية لا يرتبط بالمعتقد ، ولا بالأفكار ؛ لأنها نتيجة البحث والتأمل ، وهي من العلوم التي وكلها الله لعباده ، فعلى قدر ما يكون الجهد في البحث يصل البشر بإذن الله إلى نتائجه المرجوة ، ولما كان الوصول إلى هذه العلوم التجريبية مرتبطًا بالقدرة على البحث ووجود المناخ المناسب له ، وكان الغرب الكافر قد حرص عليه ، فإنهم قد سبقوا المسلمين في ذلك .
* أن إشارة القرآن لبعض هذه المسائل المرتبطة بالعلوم التجريبية لم يكن هو المقصد الأول ، ولم ينْزل القرآن من أجلها ، وإذا وازنتها بين المعلومات العقدية والشرعية ، ظهر لك أنَّ المعلومات العقدية والشرعية ـ أي : كيف يعرفون ربهم ، وكيف يعبدونه ـ هي الأصل المراد بإنزال القرآن ، وهي التي تكفلَّ الله ببيانها للناس ، أما المعلومات الدنيوية بما فيها العلوم التجريبية فهي موكولة للناس كما سبق ، وإن جاءت فإنها تجيء مرتبطة بالدلالة على حكم عقدي أو شرعي ، فهي جاءت تبعًا وليس أصالةً ؛ أي أن القرآن لم يقصد أن يذكرها على أنها حقيقة علمية مجردة ، بل ليستدل بها مثلا : على توحيد الله وأحقيته بالعبادة ، أو على حكم تشريعي ، أو على إثبات اليوم الآخر .
* القضايا العلمية التي يفسر بها من يبحث في الإعجاز أو التفسير العلمي لا يدركها إلا الخواص من الناس ، ولا يوصل إليها إلا بالمراس .
* الفرق بين القرآن والعلم التجريبي في تقرير القضية العلمية :
1 ـ أن القرآن يقررها حقيقة حيث كانت وانتهت ، والعلم التجريبي يبدأ في البحث عنها من الصفر حتى يصل إلى الحقيقة العلمية .
2 ـ القرآن يذكر القضية العلمية مجملة غير مفصلة ، أما العلم التجريبي فينحو إلى تفصيل المسألة العلمية .
* علم البشر قاصر غير شمولي ، ونظره من زاوية معينة ، لذا قد يغفل عن جوانب في القضية ، فيختلَّ بذلك الحكم ونتيجة البحث . وقد يكتشف ما لم يحتسب له عن طريق الصدفة لا الممارسة العملية .
* القرآن طرح القضايا العلمية بعيدًا عن الخيالات التي كانت إبان نزوله ، سواءً أكانت هذه العلوم عند العرب أم عند غيرهم ، وهذه الخيالات بان خطئوها في القرون المتأخرةِ ، ولا يزال هناك غيرها مما سيكشفه العلمُ التجريبي ، وكل ذلك مما لا يمكن أن يخالف حقائق القرآن إن صحَّة تلك العلوم .
* قد تكون بعض القضايا العلمية صحيحة في ذاتها ، لكن الخطأ يقع في كون الآية تدلُّ عليها ، وتفسَّر بها .
ثانيًا : موقف المسلم من قضايا العلوم التجريبة المذكورة في القرآن :
* الإيمان بالقضية الكونية التي ذكرها القرآن لا تحتاج إلى إدراك الحسِّ ، بل يكفي ورودها في القرآن ، بخلاف القضايا العلمية التي تحتاج إلى الإيمان بها إلى الحسِّ ، سواءً أكانت هذه القضايا مذكورة في القرآن أم لم تكن مذكورة .
* المسلم مطالب بالأخذ بظواهر القرآن ، وأخذه بها يجعله يسلم من التحريف أو التكذيب بها ، ولو كانت مخالفة لقضايا العلم التجريبي المعاصر .
فإذا عارضت النظريات العلمية ، ولو سُميت حقائق علمية فإنه لا يلزم الإيمان بها ، بل يقف المسلم عند ظواهر القرآن ؛ لأن المؤمن مطالب بالإيمان بنصوص القرآن لا غير .
* يجب الحذر من حمل مصطلحات العلوم المعاصرة على ألفاظ القرآن وتفسيره بها .
* البحوث العلمية الناتجة عن الدراسات لا يلزم مصداقيتها ، وهي درجات من حيث المصداقية ، لذا ترى دراسة علمية تذكر فوائد شيء ، وتأتي دراسة تناقضها في هذه الفوائد .
ثالثًا : هل نحن بحاجة إلى التفسير العلمي ، أو الإعجاز العلمي ؟
إن نتيجة ما يتوصل إليه الباحث في الإعجاز العلمي هي إثبات أن الحقيقة أو النظرية الكونية أو التجريبية قد ورد ذكرها في القرآن صراحة أو إشارة ، وهذا فيه دليل على صدق القرآن وأنه من عند الله .
وهذه النتيجة لا يمكن الوصول إليها إلا بعد البحث المجرد في الحقائق الكونية والمواد التجريبية ، ولا شكَّ أن الباحث إذا كان ممن يؤمن بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم فإنه لن يأتي بشيء مخالف لما في القرآن والسنة ، أما إذا كان الباحث كافرًا فقد يقع منه مخالفات للشرع ، ويكون ذلك دليلا على خطئه في مسار بحثه .
ومن ثمَّ فإنَّ عندنا أمران :
الأول : العناية بالبحث التجريبي والنظر في هذا الكون والتدبر فيه للننافس بذلك أعداء الله الذين تقدموا علينا في هذا المجال .
الثاني : العناية بما يسمى بالإعجاز العلمي لإثبات صحة هذا الدين لأولئك الذين لا يؤمنون إلا بالحقائق المادية ، ودعوتهم إلى الإسلام ، وذلك أنه لما كان هذا العصر عصر الثورة العلوم التجريبية الدنيوية ، فإنَّ تقديم هذه التفسيرات الموافقة لما ثبت في هذه العلوم للناس دعوة لهم لهذا الدين الحقِّ .
وهذا القول حقٌّ لكن الأمر يحتاج إلى توازن في طرح مدى الدعوة بهذه التفسيرات العلمية للقرآن ، وهل أثبتت نجاحها وتميُّزها ؟
إنَّ الذي يُخشى منه أن تكون الدعوة بهذه التفسيرات الموافقة للعلوم التجريبية قد أخذت أكبر من حجمها ، وأنَّ عدد المتأثرين بها قليلٌ لا يكادون أن يوازوا بعددهم ما يقوم به داعية أو مركز إسلامي يبيَّن للناس هذا الدين الحقَّ .
ومن المعلوم أن الأفواج الكثيرة التي دخلت في الإسلام أسلمت بأبسط من هذا الطرح العلمي ، فأغلبهم أسلم لما يجد في الإسلام من موافقته لفطرته التي فطره الله عليها دون أن يصل إلى الإيمان بالله بهذا العلم الذي لا يدركه إلا القليل من الناس .
ثمَّ إنَّ من سيسلم من الباحثين في العلوم التجريبية من الكفار بسبب هذا الإعجاز العلمي يلاحظ فيه ما يلي :
ـ أنه لا وقت عنده لدعوة غيره ، بل لتفهم الدين الجديد الذي دان به ، بسبب كبر السنِّ ـ في الغالب ـ والانشغال بالأبحاث والتجارب التي تجعله بعيدًا عن تفهُّم هذا الدين وطبيعته .
ـ أنَّ بعض من يسلم منهم يكون إسلامه صوريًا ، ولم يتحقق فيه الاستسلام الحقُّ .
ـ أنَّ تأثير هؤلاء يكاد يكون معدومًا ، بل لو ثبت إسلامهم قد يُحاربون ، ويسفَّهون ، ولا يُحترمون في مجتمعاتهم العلمية .
وأخيرًا ، فإن بعض من يستسلم لهذه الحقائق المذكورة في القرآن أو السنة ، يأخذها بنظره العلمي التجريبي ، ولا يدرك حقيقة الوحي ، وأنَّ هذا القرآن من عند الله ، فبينه وبين ذلك حجاب مستور ، والله أعلم .
ومن ثمَّ ، فإن العناية بالأمر الأول ـ وهو البحث التجريبي والنظر في هذا الكون والتدبر فيه ـ يجب أن تكون أكبر وأكثر من العناية بالأمر الثاني ـ وهو ما يسمى بالإعجاز العلمي ـ لوجهين :
الوجه الأول: أنه هو المجال الوحيد الذي سبقنا فيه أعداؤنا ، ولابد لنا من منافستهم في ذلك ، والسعي للتقدم عليهم فيه .
الوجه الثاني: أنه عندما يقوم الباحثون المسلمون بتلك البحوث نضمن أنهم لن يصلوا إلى نتائج خاطئة مخالفة للكتاب والسنة ، بل إنهم سوف يعيدون النظر في بعض النتائج المخالفة للكتاب والسنة التي وصل إليها البحث الغربي الكفار .
وإذا بقي همُّنا منصبًّا على العناية بما يسمى بالإعجاز العلمي لإثبات صحة هذا الدين لأولئك الذين لا يؤمنون إلا بالحقائق المادية ، فإننا سنبقى عالة على الغرب ننتظر منه كل جديد في العلوم ، ثمَّ نبحث ما يوافقه في شرعنا ، ولا يخفاك ما دخل علينا من هذه العلوم مما هو مخالف لشرعنا ، وما ذاك إلا بسبب أنَّ موقفنا نحن المسلمين موقف التلميذ الضعيف المتلقي الذي يشعر أنه لا شيء عنده يمكن أن يقدمه .
والبحث العلمي بلا قوة تحميه لا يمكن أن ينفعل في الواقع ، لذا لابدَّ من أن يواكب العلم قوةٌ تكون في الأمة كي تدعم هذا العلم وتحافظ عليه ، وإلا صار ما تراه من هجرة العلماءِ عن ديار المسلمين إلى ديار الغرب الكافرة .
وأسأل الله أن يوفقني وإياكم لما يحبه ويرضاه ، وأرجو أن يبعد عني وعنكم الشطط والتحامل في هذه القضية وفي غيرها ، وإن هذه القضية بالذات حسَّاسة ، وتدخلها العواطف ، ويبرز في الردَّ على من يعترض عليها الكتابة الخطابية ، فتخرج عن كونها قضية علمية تحتاج إلى تجلية وإيضاح إلى قضية دفاع عن مواقف وشخصيات .
وأقول أخيرًا : إنَّ في الموضوع قضايا كثيرة تحتاج إلى تجلية وإيضاح ، ولولا ضيق المقام لأشرت إليها ، وإني أسأل الله أن يوفقني ويعينني على الكتابة فيه على منهجٍ عدل وسط لا شطط فيه .
د. مساعد الطيار
قال السائل : ما رأيكم بما يسمى الآن بالإعجاز العلمي للقرآن , وهل يدخل تحت علوم القرآن ؟
الجواب : للدكتور مساعد بن سليمان الطيار .
إن هذه المسألة تعتبر من المسائل العلمية التي حدثت في هذا العصر ، والموضوع أكبر من أن يجاب عنه في مثل هذا الموضع ، لكن أستعين بالله ، وأذكر من ما يفتح الله به عليَّ .
1 ـ إنَّ هذا الموضوع يدخل تحت التفسير بالرأي ، فإن كان المفسر به ممن تأهل وعَلِمَ ، كان تفسيره محمودًا ، وإن لم يكن من أهل العلم فإن تفسيره مذموم ، وإن كان قد يصل إلى بعض الحقِّ .
2 ـ إنَّ الإعجاز العلمي يدخل في ما يسمى بالإعجاز الغيبيي ، وهو فرع منه ، إذ مآله الإخبار بما غاب عن الناس فترة من الزمن ، ثمَّ علمه المعاصرون .
وإذا تحقَّق ذلك ، فليعلم أنَّ هذا النوع من الإعجاز ليس مما يختص به القرآن وحده ، بل هو موجود في كل كتب الله السابقة ؛ لأنَّ الإخبار في هذه الكتب عن الحقائق الكونية لا يمكن أن يختلف البتة .
وعدم وجود ما يطابق علم القرآن في كتبهم التي بين يديهم إنما هو لتحريفهم لها ، فلينتبه لذلك .
ومن باب إيضاح هذه المسألة بالذات ؛ يقال : إنَّ كتب الله السابقة توافق القرآن في جميع ما يتعلق بوجوه الإعجاز المذكورة عدا ما وقع به التحدِّي ، إذ لم يرد نصُّ صريح يدل على أنه قد تُحدِّي الأقوام الذين نزل عليهم كتب ، كما هو الحال بالنسبة للقرآن .
3 ـ إن قصارى الأمر في مسألة الإعجاز العلمي أنَّ الحقيقة الكونية التي خلقها الله ، وافقت الحقيقة القرآنية التي تكلم بها الله ، وهذا هو الأصل ؛ لأنَّ المتكلم عن الحقيقة الكونية المخبر بها هو خالقها ، فلا يمكن أن يختلفا البتة .
وكل ما في الأمر أنَّ هذه الحقيقة الكونية كانت غائبة من جهة تفاصيلها عن السابقين ، فمنَّ الله على اللاحقين بمعرفة هذه التفاصيل ، فكشفوا عنها ، وأثبتوا حقيقة ما جاء في القرآن من صدق ، فكان اكتشاف ذلك من دلائل صدق القرآن الذي أخبر عنها بدقة بالغة ، لم تظهر تفاصيلها إلا في هذا العصر الذي نبغ فيه سوق البحث التجريبي الذي صارت دولته إلى الكفار دون المسلمين ، فصاروا إذا ما اكتشفوا أمرًا جديدًا عليهم سارع المعتنون بالإعجاز العلمي لإثبات وجوده في نصوص القرآن .
4 ـ إن كثيرًا ممن كتب في الإعجاز العلمي ليس ممن له قدم في العلم الشرعي فضلاً عن علم التفسير ، وكان من أخطار ذلك أن جُعلت الأبحاث في العلوم التجريبية أصلاً يُحكم به القرآن ، وتأوَّل آياته لتتناسب مع هذه النظريات والفرضيات .
وكل من دخل إلى التفسير وله أصل ، فإن أصله هذا سيؤثر عليه ، وسيقع في التحريف ، كما وقع التحريف عند المعتزلة الذين جعلوا العقل المجرد أصلاً يحتكمون إليه ، وكما وقع لغيرهم من الطوائف المنحرفة .
والذي يدل على وقوع الانحراف في هذا الاتجاه الحرص الزائد على إثبات حديث القرآن عن كثير من القضايا التي ناقشها الباحثون التجريبيون .
5 ـ إن كتاب الله أعلى وأجل من أن يجعل عرضة لهذه العقول التي لم تتأصل في علم التفسير ، فأين هم من قول مسروق :( اتقوا التفسير ، فإنما هو الرواية عن الله).
6 ـ إنَّ في نسب الإعجاز ، أو التفسير إلى (العلمي) فيها خلل كبير ، وأثر من آثار التغريب الفكري ، فهذه التسمية منطلقة من تقسيم العلوم إلى أدبية وعلمية ، كما هو الحال في المدارس الثانوية سابقًا ، وفي الجامعات حتى اليوم ، وفي ذلك رفع من شأن العلوم التجريبية على غيرها من العلوم النظرية التي تدخل فيها علوم الشريعة .
وإذا كان هذا يسمى بالإعجاز العلمي ، فما ذا يسمى الإعجاز اللغوي ، أليس إعجازًا علميًا ، أليست اللغة علمًا ، وقل غيرها في وجوه الإعجاز المحكية .
لا شكَّ أنها علوم ، لكنها غير العلم الذي يريده الدنيويون الغربيون الذين أثروا في حياة الناس اليوم ، وصارت السيادة لهم . ومما يؤسف عليه أن يتبعهم فضلاء من المسلمين في هذا المصطلح دون التنبه لما تحته من الخطر والخطأ .
7 ـ ومما يلاحظ في أصحاب الإعجاز العلمي عدم مراعاة مصطلحات اللغة والشريعة ، ومحاولة تركيب ما ورد في البحوث التجريبية على ما ورد في القرآن ، ومن الأمثلة على ذلك أن القرآن يذكر عرشًا وكرسيِّا وقمرًا وشمسًا وكواكب ونجومًا وسموات سبع ، من الأرض مثلهن ... الخ
ومصطلحات العلم التجريبي المعاصر زادت على هذه ، وذكرت لها تحديدات وتعريفات لا تُعرفُ في لغة القرآن ولا العرب ، فحملوا ما جاء في القرآن عليها ، وشطَّ بعضهم فتأوَّل ما في القرآن إلى ما لم يوافق ما عند الباحثين التجريبين المعاصرين .
فبعضهم جعل السموات السبع هي الكواكب السبع السيارة ، وجعل الكرسي المجرات التي بعد هذه المنظومة الشمسية ، والعرش هو كل الكون .
وآخر يجعل ما تراه من نجوم السماء التي أقسم الله بها وأخبر عن عبوديتها ، وجعلها علامات ؛ يجعل ما تراه مواقع النجوم ، وإلا فالنجوم قد ماتت منذ فترة . إلى غير ذلك من التفسيرات الغريبة التي تجيء مرة باسم الإعجاز العلمي ، ومرة باسم التفسير العلمي ... الخ من المسميات .
وكل هذا الجهد إنما هو لأجل التوفيق بين ما يسمونه علمًا ، وبين ما جاء في القرآن .
ولقد كان لهذه القضية سلفٌ كالفلاسفة الذين عاشوا في ظلِّ الإسلام حين أرادوا أن يوفِّقوا بين ما في القرآن وبين ما في الفلسفة مما يسمونه حقيقة .
8 ـ إنَّ بعض من نظَّر للإعجاز العلمي ، وضع قاعدة ، وهي أن لا يفسَّر القرآن إلا بما ثبت حقيقة علمية لا تقبل الشكَّ ، لئلا يتطرق الشك إلى القرآن إذا ثبت بطلان فرضية فسِّرت بها آية .
وهذا القيد خارجٌ عن العمل التفسيري ، ولا يتوافق مع أصول التفسير ، وهو قيد يلتزم به مقيِّده ـ وإن لم يكن في الواقع قد التزمه كثيرون ممن بحث في هذا الموضوع ـ ولا يُلزِمُ به المفسِّرَ ؛ لأنَّ التفسير أوسع من الإعجاز .
ومن عجيب الأمر أن بعضهم يؤكد على هذه القاعدة ، ويجعل المقام في الإعجاز مقام تحدٍ للكفار ، ويقول : ... أن القرآن الذي أنزل من قبل ألف وأربعمائة سنة على النبي الأمي صلى الله عليه وسلم في أمة غالبيتها الساحقة من الأميين ـ يحوي من حقائق هذا الكون ما لم يستطع العلماء إدراكه إلا منذ عشرات قليلة من السنين ، هذا السبق يستلزم توظيف الحقائق ، ولا يجوز أن توظف فيه الفروض والنظريات إلا في قضية واحدة وهي قضية الخلق والإفناء ... لأن هذه القضايا لا تخضع للإدراك المباشر للإنسان ، ومن هنا فإن العلم التجريبي لا يتجاوز فيها مرحلة التنظير ، ويبقى المسلم نور من كتاب ربه أو من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم يعينه على أن يرتقي بإحدى تلك النظريات إلى مقام الحقيقة ، ونكون بذلك قد انتصرنا للعلم بالقرآن الكريم أو بالحديث النبوي الشريف ، وليس العكس . انتهى كلامه .
ولعلك ترى كيف أن هذا القائل ينقض قاعدته في نفس كلامه عنها ، إذ يمكن أن يستخدم غيره هذا الضابط الذي خرم به القاعدة في الحديث عن الخلق والإفناء كما استخدمه هو ، وبهذا فإنه لا يوجد قاعدة تخصُّ الإعجاز العلمي على هذا السبيل ؛ إذ يمكن أن تكون كثير من فرضيات البحوث التجريبية مما لا تخضع للإدراك البشري ، ثم نصححها لورود ما يدل عليها من القرآن اجتهادًا أن هذه الآية تشهد لتلك النظرية .
وهنا مسألة مهمة ، وهي من الذي يُثبتُ أنَّ هذه القضية صارت حقيقةً لا فرضية ؟
أي : من هو المرجع في ذلك ؟ أيكفي أن يُحدِّثَ بها مختصٌّ ، أتكفي فيها دراسةٌ بحثيةٌ ، أتحتاج إلى إجماعٍ من المختصين ؟
هذه المسألة من أولى ما يجب أن يعتني به من يريدون تفسير القرآن بالحقائق التي أثبتها البحث التجريبي المعاصر .
وفي نظري أنَّ هذا هو أول ما يجب على الباحث تأصيله وتأكيد ثبوته من جهة البحث التجريبي ، فإذا ثبت ذلك له ، انتقل من يريد الحديث عن ما يسمى بالإعجاز العلمي إلى المرحلة الثانية ، وهي تعلُّم التفسير وأصوله لئلا يشتطوا في تفسيراتهم ، أو يلووا أعناق النصوص إلى ما يريدون .
9 ـ أما بالنسبة للمفسر ، فإنه لا يمكنه أن ينكر ما يُحكمُ بثبوته من حقائق العلم التجريبي ؛ لأنه لا يملك الأدوات التي يصل بها إلى أن يثبت أو ينكر ، وهذه الأدوات متكاملة عند الباحثين التجريبيين ، وإن أخذها منهم ، فإنما يأخذها ثقة به فيهم لا غير .
وعمل المفسِّر هنا أن يرى صحة انطباق تلك القضية على ما جاء في القرآن من جهة دلالة اللغة والسياق وغيرها ، أي أن عمله عمل تفسيري بحت ، وهو يمتلك أدواته بخلاف كثير ممن كتب في ما يسمى بالإعجاز العلمي الذين لا يملكون تلك الأدوات ، فتراهم يخبطون خبط عشواء .
فكما لا يرضى أصحاب ما يسمى بالإعجاز العلمي بما عند المفسرين من تفسير كل ظواهر الكون التي أثبت البحث التجريبي المعاصر خطأها ، فإن المفسرين لا يرضون لك واحداً من الباحثين التجريبين أن يوافق بين البحث التجريبي وما ورد في القرآن . وإن كنت أرى أن المفسر أقدر في الربط من الباحث التجريبي .
10 ـ إن الربط بين ما يظهر في البحث التجريبي المعاصر وبين ما يرد في القرآن إنما هو من عمل المفسِّر به ، كائنًا من كان هذا المفسر ، وعمليته في هذا بيان معاني القرآن ، وإذا كانت هذه مهمته هنا فإنَّ المفسِّر يبين معانيه بجملة من المعلومات التي قد يكون فيها الضعيف من جهة أفراده ، كبعض الآثار الضعيفة مثلاً . فلو أن مفسِّرًا اعتمد في تفسيره على نظريةٍ من النظريات التي ثبت بطلانها لاحقًا فإنَّ الأمر أن هذا تفسير ضعيف لا يصحُّ ، ولا علاقة للقرآن به ، فالخطأ خطأ المفسر ، وليس الخطأ في القرآن قطعًا .
وهذا يشبه ما لو فسّر مفسِّر بمعنى شاذٍّ ، فهل ينال القرآن خطأ منه ، وهل يقال : إن الخطأ من القرآن ؟ لا شكَّ أن الأمر ليس كذلك .
لكن الأمر اختلف هنا لأنَّ الباحثين فيما يسمى بالإعجاز العلمي يريدون أن يلزموا الناس بما توصَّلوا إليه على أنَّ القرآن حقٌّ لا مرية فيه ؛ لأنه أثبت هذه القضايا قبل أن يعرف الناس تفاصيلها ، فألزموا أنفسهم من جهة التفسير بما لا يلزم ، فأوقعوا أنفسهم في الضيق والحرج ، وظهر عندهم الإلزام بتفسير القرآن بالحقائق ، وذلك ما لم يطبقوه في تفسيراتهم ، كما قلت .
11 ـ إن موضوع ما يسمى بالتفسير العلمي طويل جدًّا ، ولست ممن يردُّه جملة وتفصيلاً ، لكنني أدعو إلى تصحيح مساره ، ووضعه في مكانه الطبيعي دون تزيُّدٍ وتضخيم كما هو الحاصل اليوم ، حتى لقد جعله بعضهم الطريق الوحيد لدعوة الكفار ، وأنَّى له ذلك ؟
لقد أسلم كثير منهم في هذا العصر ـ ولا زالوا يسلمون بما يعرفه كثير ممن خبر إسلامهم ـ ولم يكن إسلامهم بسبب ما ورد في القرآن من حقائق وافقها البحث التجريبي .
نعم لقد كان له أثر في إسلام بعض الكفار ، لكنهم أقل بكثير ممن يسلم عن سبيل الاقتناع بالإسلام ، وبما فيه مما يلائم فطرة البشر ، وهذا الموضوع بذاته بحث يصلح للمتخصصين في قسم الدعوة ، وهو يحتاج إلى عناية .
12 ـ إنَّ أي تفسير جاء بعد تفسير السلف ، فإنه لا يقبل إلا بضوابط ،وهذه الضوابط :
الأول: أن لا يناقض ( أي : يبطل ) ما جاء عن السلف ( أعني : الصحابة والتابعين وأتباع التابعين ) .
ملاحظة : السلف عند أصحاب الإعجاز العلمي كل المفسرين السابقين ، وليس مقصورًا على هذه الطبقات الثلاث .
وذلك لأنَّ فهم السلف حجة يُحتكم إليه ، ولا تجوز مناقضته البتة ، فمن جاء بتفسير بعدهم ، سواءً أكان مصدره لغة ، أو بحثًا تجريبيًا ، فإنه لا يقبل إن كان يناقض قولهم .
فإن قلت : إنه يرد عن السلف في تفسير الآية اختلاف ، فكيف العمل ؟
فالجواب : أنَّ الاختلاف الوارد عنهم أغلبه اختلاف تنوع ، وليس بينه تضادٌّ إلا في القليل منه .
والقاعدة في اختلاف التنوع :
* أن تقبل الأقوال الواردة عنهم على سبيل التنوع ما دام ليس في قبولها جميعًا ما يمنع ذلك.
* أن يُرجَّح أحد أقوالهم على سبيل القول الأَولى والأرجح دون اطِّراح غيره وتركه بالكلية ؛ لأنه قد يستفاد منه في موضع آخر .
والقاعدة في اختلاف التضاد الوارد بينهم أن يرجَّح أحدها على سبيل التعيين لا التنوع ؛ لأنه لا يمكن القول بها معًا ، فلزم الترجيح ، وهو هنا تصحيح لقول ، وترك للآخر .
واطراح ما جاء عنهم بالكلية في هذين النوعين من الاختلاف معناه مناقضة قولهم ، وعدم الاعتبار به ، وهذا واقع كثير ممن تعرض للتفسير وجعل مصدره البحث التجريبي المعاصر .
الثاني : أن يكون المعنى المفسَّر به صحيحًا .
وهو على قسمين :
1- أن يكون المعنى من جهة اللغة ، وهذا لابدَّ أن يثبت لغةً ، وأي تفسير بمعنى لم يثبت من جهة اللغة ، فإنه مردود ، كمن يفسِّر الذرة الواردة في القرآن بالذرة الفيزيائية ، وهذا مصطلح حادث لا يثبت في اللغة .
2- أن يكون المعنى جمليًا لا من جهة اللغة ، كمن يفسِّر خلق الأطوار بأنها الأطوار الداروينية .
وهذا مخالف لما جاء في الشريعة ، وهو غير صحيح في نفسه ؛ لذا لا يصحُّ التفسير به ، ولا بما هو على منهجه البتة .
الثالث : أن يتناسب مع سياق الآية ، وتحتمله الآية .
وهذا قيد مهمٌّ ، وفيه مجال للاختلاف ، لكن لا يجب إلزام الآخر به ، وكثيرٌ من التفسيرات بما وصل إليه البحث التجريبي تدخل في هذا الضابط ؛ إذ قد يكون المعنى غير مناقض لما ورد عن السلف ، وهو معنى صحيح ، لكن يكون وجه ردِّه عدم احتمال الآية له ، والحكم باحتمال الآية له من عدمه محلُّ اجتهادٍ ، وإذا كان الاجتهاد في احتماله أو عدمه عن علم فلا تثريب على الفريقين ، بل في الأمر سعة ، كما هو الحال في الاجتهاد الكائن في علماء أمة محمد صلى الله عليه وسلم .
وسأضرب مثلاً أرجو أن يوضح هذا الأمر ، وهو ما ورد في تفسير قوله تعالى :(فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) [ الأنعام : 125]
تأمل السياق الذي وردت فيه هذه الآية ، وانظر ـ تكرمًا ـ إلى ما قبلها ، يقول تعالى : (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُون َ * وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ * فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ * وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) [ الأنعام : 122 ـ 126]
إن الحديث عن حال الكافر وحال المؤمن ، ثم ضرب مثالاً بحال الأكابر من المجرمين الذين لا يمكن أن يدخل الإيمان قلوبهم لما فيهم من الكفر والإجرام ، ثمَّ بين سبحانه مشيئته في الهداية والإضلال ، وذكر أن من أراد هدايته ، فإنه يشرح صدره للإيمان به وييسره له ، ومن أراد له الضلال ، فإنه يجعل صدره في حال ضيق وحرج شديد ، ولو أراد الإيمان فإنه لا يستطيعه ، كما لا يستطيع الإنسان أن يصعد في السماء .
قال الطبري :( القول في تأويل قوله تعالى :(كأنما يصعد في السماء) : وهذا مَثَلٌ من الله ـ تعالى ذكره ـ ضربه لقلب هذا الكافر في شدة تضييقه إياه عن وصوله إليه ؛ مثل امتناعه من الصعود إلى السماء ، وعجزه عنه ؛ لأن ذلك ليس في وسعه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ...).
ثم ذكر الرواية عطاء الخراساني ، قال : مثله كمثل الذي لا يستطيع أن يصعد في السماء .
وعن ابن جريج : يجعل صدره ضيقا حرجا بلا إله إلا الله حتى لا يستطيع أن تدخله ، كأنما يصعد في السماء من شدة ذلك عليه .
وعن السدي : كأنما يصعد في السماء من ضيق صدره .
وتقدير المعنى عندهم : إن عدم قدرة الكافر على الإيمان كعدم قدرة الإنسان على الصعود إلى السماء ، ويكون الضيق والحرج بسبب عدم قدرته على الإيمان لا بسبب التصعد في السماء .
وتفسيرهم لا يعيد التشبيه إلى الضيق والحرج ، وإنما إلى الامتناع من الإيمان وعدم القدرة عليه .
وانشراح النفس للإيمان سابقة له ، فمن يشاء الله له الهداية يشرح نفسه له ، كما أن من أراد الله له الكفر فإنه يجعل صدره ضيقًا حرجًا ، فلا يستطيع أن يؤمن بالله ، وهو ممتنع عليه الإيمان كامتناع الصعود إلى السماء على الإنسان .
وهذا التفسير من دقائق فهم السلف ، وتفسيرهم يرجع إلى لازم معنى الجملة الثانية ، وهي جعل الضيق والحرج في صدر الكافر ، إذ من لازمه أنه لو أراد الإيمان فإنه لا يستطيعه ، كما لا يستطيع الإنسان الصعود للسماء ، فنبهوا على هذا اللازم الذي قد يخفى على كثير ممن يقرأ الآية .
وفي تفسيرهم إثبات القدر ، وأن الله يفعل ما يشاء ، فمن أراد الله هدايته شرح صدره ، ومن أراد ضلاله ضيَّق صدره وجعله حرجًا لا يدخله خير ، وفي هذا ردٌّ على القدرية الذين يزعمون أن العبد يخلق فعله .
أما البحث التجريبي المعاصر فقد كشف عن قضية تتعلق بالصعود إلى الأجواء العليا ، حيث وجد أن الإنسان تتناقص قدرته على التنفس الطبيعي درجة بعد درجة كلما تصاعد إلى السماء ، وسبب ذلك انخفاض الضغط الجزئي للأكسجين في طبقات الجو العليا ، وقد جعل أصحاب الإعجاز العلمي هذه الظاهرة الكونية تفسيرًا للحرج الذي يصيب الكافر بسبب عدم قدرته على الإيمان .
وقد جعلوا التشبيه يعود إلى الضيق والحرج ، والمعنى عندهم : إن حال ضيق صدر الكافر المعرض عن الحق وعن قبول الإيمان بحال الذي يتصعد في السماء .
وذكر وجه الشبه ، وهو الصفة المشتركة بينهما : ضيقًا وحرجًا ، وجاء بأداة التشبيه (كأن) ليقع بعدها المشبه في صورة حسية واضحة ...
وإذا تأملت هذين التفسيرين وعرضتهما على سياق القرآن ومقاصده ، فأي القولين أولى وأقوى ؟
لا شكَّ أن ما ذكره السلف أولى وأقوى ، والثاني ـ وإن كان محتملاً ـ لا يرقى إلى قوته ، وإن قٌبِلَ هذا القول المعاصر على سبيل التنوع فالأول هو المقدَّم بلا ريب .
ووجه قوته كائن في أمور :
الأول : أن ما قاله السلف مُدركٌ في كل حين ، منذ أن نزل الوحي بها إلى اليوم ، أما ما ذكره المعاصرون ، فكان خفيًّا على الناس حتى ظهر لهم أمر هذا المعنى هذا اليوم .
الثاني : أن التنبيه عن امتناع الإيمان عنهم بامتناع صعود الإنسان إلى السماء أقوى وأولى من التنبيه عن تشبيه الحرج والضيق الذي يجده الكافر في نفسه بما يجده من صعِدَ طبقات السماء .
فالحرج والضيق مدرك منه بخلاف امتناع الإيمان الذي يخفى سبيله ، وهو الذي جاء التنبيه عليه في الآية ، وذلك من دقيق مسلك قدر الله سبحانه .
الرابع : أن لا يُقصَر معنى الآيةِ على هذا المعنى المأخوذ من البحوث التجريبية .
وهذا الضابط كثيرًا ما ينتقضُ عند أصحاب الإعجاز العلمي ، وقد وجدت حال بعضهم مع تفسير السلف على مراتب :
ـ فمنهم من لا يعرف تفسير السلف ( الصحابة والتابعين وأتباعهم ) أصلاً ولا يرجع إليه ، وكأنه لا يعتد به ولا يراه شيئًا . وهؤلاء صنفٌ يكثر فيهم الشطط ، ولا يرتضيهم جمهورٌ ممن يتعاطى الإعجاز العلمي .
ـ ومنهم من يقرأ تفسير السلف ، لكنه لا يفهمه ، وإذا عرضه فإنه يعرضه عرضًا باهتًا ، لا يدل على مقصودهم ، ولا يُعرف به غور علمهم ، ودقيق فهمهم .
ـ ومنهم من يخطئ في فهم كلام السلف ، ويحمل كلامهم على غير مرادهم ، وقد يعترض عليه وينتقده ، وهو في الحقيقة إنما ينتقد ما فَهِمَه هو ، وليس ينتقد تفسيرهم ؛ لأنه أخطأ في فهمه .
ومما يظهر من طريقة عرض أصحاب هذا الاتجاه لما توصلوا إليه من معانٍ جديدة أنهم يقصرون معنى الآية على ما فهموه ، دون أن ينصوا على ذلك صراحة ، وهذا مزلق خطير لا ينتبه إليه كثير من الفضلاء الذين دخلوا في هذا الميدان .
بل إنهم يتفوهون بكلام يلزم منه تجهيل الصحابة وتصغير عقولهم ، وأني لأجزم أن هؤلاء الفضلاء لو تنبهوا لهذا اللازم لعدَّلوا عباراتهم ، لكن طريقة البحث التي سلكوها جعلتهم لا ينتبهون إلى هذا المزلق الخطير .
ومن ذلك أن بعضهم يقول :(... وهناك آيات وألفاظ قرآنية لم تكن لتفهم حقيقتها حتى جاء التقدم العلمي يكشف عن دقة تلك المعاني والألفاظ القرآنية ، مما يوحي إلى كل عاقل بأن كلام الكتاب الكريم كلام الله المحيط علمًا بكل شيء ، وإن كان قد حدث جهلٌ بفهم بعض ألفاظه ومعانيه ، فإن زيادة علوم الإنسان قد جاءت لتُعرِّف الإنسان بما جهل من كلام ربه) .
ألا يلزم من هذا الكلام أن الصحابة قد خفي عليهم شيء من معانيه ، وكذا خفي على التابعين وأتباعهم ، وبقي بعض القرآن غامضًا لا يُعرف حتى جاء ( التقدم العلمي ! ) فكشف عن هذه المعاني .
ولو كان يعتقد هذا اللازم ، فالأمر خطير جدَّا . لكني لا أشكُّ ـ محسنًا الظن بقائله ـ أنه لم يتنبه لهذا اللازم الخطير ، وأُراه لو انتبه له لعدَّل عبارته .
ولقد كان من نتيجة هذا التقعيد أن لا تُذكر أقوال السلف بل يذكر ما وصل إليه البحث التجريبي المعاصر ، وتفسير الآية به ، وهذا فيه قصر لمعنى الآية على ذلك التفسير الحادث ، وهذا خطأ محضٌ .
وقد سئل آخر : لماذا لم يبين الرسول هذه الوجوه للصحابة ؟
فكانت إجابته أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لو أخبرهم بهذه الحقائق العلمية لما أدركوها ، وقد يقع منهم شك أو تكذيب .
وهذا الجواب من أعجب العجب ، فكيف يقال هذا في قوم آمنوا بما هو أعظم من هذه الحقائق الكونية ، وأرى أن خطأ هذا أوضح من أن يوضَّح ، وإني أخشى أن يكون هؤلاء ممن فرح بما أوتي من العلم ، فنسب الجهل للصحابة الذين آمنوا بما هو أعظم من هذه الأمور .
ألم يؤمنوا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم أسري به ، ثم عرج به في جزء من الليل ، ورأى ما رأى من آيات ربه الكبرى ؟ أليس هذا أعجب مما يذكره الباحثون التجريبيون ؟
وقل مثله في غير ذلك مما آمنوا به وصدَّقوا ولم يعترضوا .
وإذا كان الشيء بالشيء يذكر ، فإني قد رأيت لأحد الفضلاء كتابًا في مناهج المفسرين ، وأجاب عن سبب عدم تفسير النبي صلى الله عليه وسلم القرآن كاملاً ، وكان مما أجاب به ، فقال :( لضعف المستوى العلمي عند الصحابة ، ولو فسره لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما حوت آياته من علوم ومعارف فقد لا يستوعبونها ، وقد تكون محل استغراب بعضهم ، والعلماء الذين جاءوا بعد الصحابة قدموا بعض المضامين العلمية للآيات ، ولذلك قيل : خير مفسر للقرآن هو الزمن).
وهذا القول من ذلك الفاضل من أعجب العجب ، إذ كيف يكون خيرة الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ضعيفي المستوى العلمي ، وما المراد بالعلم الذي ضعفوا فيه ؟!
أليسوا أعلم الأمة ، والأمة عالة عليهم في هذا ؟!
ألم يخبرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بما هو كائن إلى يوم القيامة ؟! حفظه منهم من حفظه ، ونسيه من نسيه .
إن مثل هذا القول خطير ، وإني لأحسن الظن بأن قائله لم يتنبه لما يتبطنه هذا الكلام من خطأ محضٍ ، وأن الأمر يحتاج إلى تعديل أسلوب وعبارات ، والله المستعان .
وبعد ، فإن هذين النقلين اللذين نقلتهما فيما يتعلق بالإعجاز العلمي إنما هما عن أفاضل ممن تكلموا في الإعجاز العلمي دون غيرهم ممن تخبط في هذا المجال .
وهنا يجب أن يُفرَّق بين فضلهم ، وما لهم من قدم في الدعوة إلى الله ، والحرص على هداية الناس ، وبين ما وقعوا فيه من الخطأ ، فالأول يشكر لهم ويُذكر ولا يُنكر ، ولكن هذا الفضل ليس حجابًا حاجزًا عن التنبيه على ما وقعوا فيه من الخطأ .
كما أن التنبيه على خطئهم لا يعني نبذهم وعدم الاعتداد بهم ، وإنما المقصود هنا تصحيح المسار في هذه القضية التي رُبِطت بكتاب الله ، وجُعلت من أهم ما توصل إليه المعاصرون ، بل جعله بعضهم هو طريق الدعوة للكفار .
وأختم هذا البحث بمسائل متفرقة في هذا الموضوع ، وهي كالآتي :
أولاً : قضايا العلم التجريبي بين القرآن والعلم الحديث :
* العلم بالسنة الكونية لا يرتبط بالمعتقد ، ولا بالأفكار ؛ لأنها نتيجة البحث والتأمل ، وهي من العلوم التي وكلها الله لعباده ، فعلى قدر ما يكون الجهد في البحث يصل البشر بإذن الله إلى نتائجه المرجوة ، ولما كان الوصول إلى هذه العلوم التجريبية مرتبطًا بالقدرة على البحث ووجود المناخ المناسب له ، وكان الغرب الكافر قد حرص عليه ، فإنهم قد سبقوا المسلمين في ذلك .
* أن إشارة القرآن لبعض هذه المسائل المرتبطة بالعلوم التجريبية لم يكن هو المقصد الأول ، ولم ينْزل القرآن من أجلها ، وإذا وازنتها بين المعلومات العقدية والشرعية ، ظهر لك أنَّ المعلومات العقدية والشرعية ـ أي : كيف يعرفون ربهم ، وكيف يعبدونه ـ هي الأصل المراد بإنزال القرآن ، وهي التي تكفلَّ الله ببيانها للناس ، أما المعلومات الدنيوية بما فيها العلوم التجريبية فهي موكولة للناس كما سبق ، وإن جاءت فإنها تجيء مرتبطة بالدلالة على حكم عقدي أو شرعي ، فهي جاءت تبعًا وليس أصالةً ؛ أي أن القرآن لم يقصد أن يذكرها على أنها حقيقة علمية مجردة ، بل ليستدل بها مثلا : على توحيد الله وأحقيته بالعبادة ، أو على حكم تشريعي ، أو على إثبات اليوم الآخر .
* القضايا العلمية التي يفسر بها من يبحث في الإعجاز أو التفسير العلمي لا يدركها إلا الخواص من الناس ، ولا يوصل إليها إلا بالمراس .
* الفرق بين القرآن والعلم التجريبي في تقرير القضية العلمية :
1 ـ أن القرآن يقررها حقيقة حيث كانت وانتهت ، والعلم التجريبي يبدأ في البحث عنها من الصفر حتى يصل إلى الحقيقة العلمية .
2 ـ القرآن يذكر القضية العلمية مجملة غير مفصلة ، أما العلم التجريبي فينحو إلى تفصيل المسألة العلمية .
* علم البشر قاصر غير شمولي ، ونظره من زاوية معينة ، لذا قد يغفل عن جوانب في القضية ، فيختلَّ بذلك الحكم ونتيجة البحث . وقد يكتشف ما لم يحتسب له عن طريق الصدفة لا الممارسة العملية .
* القرآن طرح القضايا العلمية بعيدًا عن الخيالات التي كانت إبان نزوله ، سواءً أكانت هذه العلوم عند العرب أم عند غيرهم ، وهذه الخيالات بان خطئوها في القرون المتأخرةِ ، ولا يزال هناك غيرها مما سيكشفه العلمُ التجريبي ، وكل ذلك مما لا يمكن أن يخالف حقائق القرآن إن صحَّة تلك العلوم .
* قد تكون بعض القضايا العلمية صحيحة في ذاتها ، لكن الخطأ يقع في كون الآية تدلُّ عليها ، وتفسَّر بها .
ثانيًا : موقف المسلم من قضايا العلوم التجريبة المذكورة في القرآن :
* الإيمان بالقضية الكونية التي ذكرها القرآن لا تحتاج إلى إدراك الحسِّ ، بل يكفي ورودها في القرآن ، بخلاف القضايا العلمية التي تحتاج إلى الإيمان بها إلى الحسِّ ، سواءً أكانت هذه القضايا مذكورة في القرآن أم لم تكن مذكورة .
* المسلم مطالب بالأخذ بظواهر القرآن ، وأخذه بها يجعله يسلم من التحريف أو التكذيب بها ، ولو كانت مخالفة لقضايا العلم التجريبي المعاصر .
فإذا عارضت النظريات العلمية ، ولو سُميت حقائق علمية فإنه لا يلزم الإيمان بها ، بل يقف المسلم عند ظواهر القرآن ؛ لأن المؤمن مطالب بالإيمان بنصوص القرآن لا غير .
* يجب الحذر من حمل مصطلحات العلوم المعاصرة على ألفاظ القرآن وتفسيره بها .
* البحوث العلمية الناتجة عن الدراسات لا يلزم مصداقيتها ، وهي درجات من حيث المصداقية ، لذا ترى دراسة علمية تذكر فوائد شيء ، وتأتي دراسة تناقضها في هذه الفوائد .
ثالثًا : هل نحن بحاجة إلى التفسير العلمي ، أو الإعجاز العلمي ؟
إن نتيجة ما يتوصل إليه الباحث في الإعجاز العلمي هي إثبات أن الحقيقة أو النظرية الكونية أو التجريبية قد ورد ذكرها في القرآن صراحة أو إشارة ، وهذا فيه دليل على صدق القرآن وأنه من عند الله .
وهذه النتيجة لا يمكن الوصول إليها إلا بعد البحث المجرد في الحقائق الكونية والمواد التجريبية ، ولا شكَّ أن الباحث إذا كان ممن يؤمن بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم فإنه لن يأتي بشيء مخالف لما في القرآن والسنة ، أما إذا كان الباحث كافرًا فقد يقع منه مخالفات للشرع ، ويكون ذلك دليلا على خطئه في مسار بحثه .
ومن ثمَّ فإنَّ عندنا أمران :
الأول : العناية بالبحث التجريبي والنظر في هذا الكون والتدبر فيه للننافس بذلك أعداء الله الذين تقدموا علينا في هذا المجال .
الثاني : العناية بما يسمى بالإعجاز العلمي لإثبات صحة هذا الدين لأولئك الذين لا يؤمنون إلا بالحقائق المادية ، ودعوتهم إلى الإسلام ، وذلك أنه لما كان هذا العصر عصر الثورة العلوم التجريبية الدنيوية ، فإنَّ تقديم هذه التفسيرات الموافقة لما ثبت في هذه العلوم للناس دعوة لهم لهذا الدين الحقِّ .
وهذا القول حقٌّ لكن الأمر يحتاج إلى توازن في طرح مدى الدعوة بهذه التفسيرات العلمية للقرآن ، وهل أثبتت نجاحها وتميُّزها ؟
إنَّ الذي يُخشى منه أن تكون الدعوة بهذه التفسيرات الموافقة للعلوم التجريبية قد أخذت أكبر من حجمها ، وأنَّ عدد المتأثرين بها قليلٌ لا يكادون أن يوازوا بعددهم ما يقوم به داعية أو مركز إسلامي يبيَّن للناس هذا الدين الحقَّ .
ومن المعلوم أن الأفواج الكثيرة التي دخلت في الإسلام أسلمت بأبسط من هذا الطرح العلمي ، فأغلبهم أسلم لما يجد في الإسلام من موافقته لفطرته التي فطره الله عليها دون أن يصل إلى الإيمان بالله بهذا العلم الذي لا يدركه إلا القليل من الناس .
ثمَّ إنَّ من سيسلم من الباحثين في العلوم التجريبية من الكفار بسبب هذا الإعجاز العلمي يلاحظ فيه ما يلي :
ـ أنه لا وقت عنده لدعوة غيره ، بل لتفهم الدين الجديد الذي دان به ، بسبب كبر السنِّ ـ في الغالب ـ والانشغال بالأبحاث والتجارب التي تجعله بعيدًا عن تفهُّم هذا الدين وطبيعته .
ـ أنَّ بعض من يسلم منهم يكون إسلامه صوريًا ، ولم يتحقق فيه الاستسلام الحقُّ .
ـ أنَّ تأثير هؤلاء يكاد يكون معدومًا ، بل لو ثبت إسلامهم قد يُحاربون ، ويسفَّهون ، ولا يُحترمون في مجتمعاتهم العلمية .
وأخيرًا ، فإن بعض من يستسلم لهذه الحقائق المذكورة في القرآن أو السنة ، يأخذها بنظره العلمي التجريبي ، ولا يدرك حقيقة الوحي ، وأنَّ هذا القرآن من عند الله ، فبينه وبين ذلك حجاب مستور ، والله أعلم .
ومن ثمَّ ، فإن العناية بالأمر الأول ـ وهو البحث التجريبي والنظر في هذا الكون والتدبر فيه ـ يجب أن تكون أكبر وأكثر من العناية بالأمر الثاني ـ وهو ما يسمى بالإعجاز العلمي ـ لوجهين :
الوجه الأول: أنه هو المجال الوحيد الذي سبقنا فيه أعداؤنا ، ولابد لنا من منافستهم في ذلك ، والسعي للتقدم عليهم فيه .
الوجه الثاني: أنه عندما يقوم الباحثون المسلمون بتلك البحوث نضمن أنهم لن يصلوا إلى نتائج خاطئة مخالفة للكتاب والسنة ، بل إنهم سوف يعيدون النظر في بعض النتائج المخالفة للكتاب والسنة التي وصل إليها البحث الغربي الكفار .
وإذا بقي همُّنا منصبًّا على العناية بما يسمى بالإعجاز العلمي لإثبات صحة هذا الدين لأولئك الذين لا يؤمنون إلا بالحقائق المادية ، فإننا سنبقى عالة على الغرب ننتظر منه كل جديد في العلوم ، ثمَّ نبحث ما يوافقه في شرعنا ، ولا يخفاك ما دخل علينا من هذه العلوم مما هو مخالف لشرعنا ، وما ذاك إلا بسبب أنَّ موقفنا نحن المسلمين موقف التلميذ الضعيف المتلقي الذي يشعر أنه لا شيء عنده يمكن أن يقدمه .
والبحث العلمي بلا قوة تحميه لا يمكن أن ينفعل في الواقع ، لذا لابدَّ من أن يواكب العلم قوةٌ تكون في الأمة كي تدعم هذا العلم وتحافظ عليه ، وإلا صار ما تراه من هجرة العلماءِ عن ديار المسلمين إلى ديار الغرب الكافرة .
وأسأل الله أن يوفقني وإياكم لما يحبه ويرضاه ، وأرجو أن يبعد عني وعنكم الشطط والتحامل في هذه القضية وفي غيرها ، وإن هذه القضية بالذات حسَّاسة ، وتدخلها العواطف ، ويبرز في الردَّ على من يعترض عليها الكتابة الخطابية ، فتخرج عن كونها قضية علمية تحتاج إلى تجلية وإيضاح إلى قضية دفاع عن مواقف وشخصيات .
وأقول أخيرًا : إنَّ في الموضوع قضايا كثيرة تحتاج إلى تجلية وإيضاح ، ولولا ضيق المقام لأشرت إليها ، وإني أسأل الله أن يوفقني ويعينني على الكتابة فيه على منهجٍ عدل وسط لا شطط فيه .
د. مساعد الطيار