نقد لمقدمة آرثر جفري في كتاب المصاحف

إنضم
09/06/2005
المشاركات
1,295
مستوى التفاعل
1
النقاط
38
الإقامة
الطائف
الحمد لله، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، وبعد:
فهذه باكورة المشروع الذي سبق طرح فكرته في الملتقى وهو مشروع نقد الكتب، وسنقوم في هذا الموضوع بتسليط الضوء على مقدمة المستشرق آرثر جفري لكتاب المصاحف لابن أبي داود. وقد اخترنا هذه المقدمة لأمرين: قِصَرِها وأهميتها.
وسيتولى النقد د. هشام عزمي نسأل الله له التوفيق والسداد.
كما أن النقاش سيكون متاحاً للجميع بعد كل طرح للدكتور وسيتولى هو الإجابة وسأقوم بإدراة هذه المدارسة، واطلب من الإخوة الكرام تركيز الأسئلة في صلب الحديث المدار. والله الموفق ،،
 
خطوة مباركة ، وأسأل الله أن يوفق الدكتور هشام ، وأن يبارك لصاحب الفكرة الدكتور حاتم.
 
مقدمة النقد

مقدمة النقد

إن الحمد لله تبارك وتعالى نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ، أما بعد ..
فإنه من دواعي السرور أن ينطلق ملتقى الانتصار للقرآن الكريم في هذا المشروع النافع حول نقد كتب من تناولوا القرآن الكريم بالطعن أو التشكيك ؛ ليعلم القوم أنهم لا يكتبون دون أن يراجع أقوالهم أحدٌ ، أو أنه ليس في ساحة العلم سواهم ، بل نحن نراجع أقوالهم ونمررها على قواعد البحث العلمي وأصول فلسفة العلم ، فإن صحّت حسب هذه القواعد والأصول أخذنا بها ، وإن لم تصح ألقينا بها وراء ظهورنا ولا كرامة .
وإنه ليشرفني أن أكون أول من يسن هذه السنة الحسنة في ساحة الانتصار لكتاب الله العزيز راجيًا الله ربي أن يكون هذا العمل مني موضع القبول والثواب ، وأن يجعله خالصًا لوجهه الكريم ، اللهم آمين !
وأحب أن أنوه إلى أنّي في هذه الساحة أخوكم الصغير وتلميذكم الحقير ، ولي عليكم حق النصح والتقويم وأن تقرؤا ما أكتبه بعين الناقد المصحح لا بعين القابل الخاوي ، أسأل الله تبارك وتعالى أن يصلح بكم زللي ويجبر بكم كسري ، كما أسأله سبحانه أن يعينني على قبول نقد إخواني بلا تذمر أو تأفف ، اللهم آمين !

نتناول في هذا الشريط مقدمة المستشرق الأسترالي البروتستانتي البروفيسور آرثر جيفري Arthur Jeffery لكتاب المصاحف لأبي بكر عبد الله بن سليمان السجستاني .
موضوع كتاب المصاحف تأليف أبي بكر عبد الله بن سليمان بن الأشعث السجستاني هو كتاب الله سبحانه وتعالى ، من حيث جمعه بجميع مراحله ، واختلاف مصاحف الأمصار ، وما أثر عن مصاحف بعض الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين وما نقل عن بعض التابعين من قراءات ، والحديث عن رسم القرآن ونقطه ، وكتابته ، وأخذ الأجرة عليها ، وجملة وافرة من الأحكام المتعلقة بالقرآن الكريم ؛ كمس المصحف على غير طهارة ، وبيعه ، وارتهانه ، والسفر به إلى أرض الكفر ، وإمامة المصلين من القرآن ، وغير ذلك .
وفي تحقيقه لهذا الكتاب قام المستشرق آرثر جيفري بوضع مقدمة يتحدث فيها عن القرآن الكريم من حيث جمعه في مراحله المتعددة ، مثيرًا الشكوك والشبهات ، وموجهًا الطعون المباشرة على علماء الأمة ، ومقررًا بأن علماء الغرب لا يوافقون اعتقاد المسلمين في كتابهم ، ومدعيًا أنهم توصلوا إلى حقائق علمية في تاريخ القرآن من الروايات العديدة ، ومعترفًا بأن المسلمين لا يتفقون معهم في نتائجهم . لقد ظن جيفري أنه قد وقع على ما يفيد عدم حفظ القرآن فانطلق يفرغ كل ما في صدره من مطاعن دون روية أو تحفظ ، وقد أنسته النشوة ما يجب أن يتحلى به من الحذر العلمي ، وسوف نسرد الطعون التي وجهها للقرآن الكريم مع الرد عليها بما يناسبها إن شاء الله تعالى .


ترجمة سريعة مختصرة* : ولد آرثر جيفري Arthur Jeffery في ملبورن بأستراليا في الثامن عشر من أكتوبر عام 1892 ، وكان الجزيرة الأسترالية حينها تابعة للتاج البريطاني ، وتخرج من جامعة ملبورن عام 1918 وحصل على شهادة الماجستير عام 1920 .
وبدأ مشواره العلمي كأستاذ في مدرسة الدراسات الاستشراقية في الجامعة الأمريكية بالقاهرة عام 1921 ، وكانت حديثة النشأة وفي طاقمها ثلة من نجوم الاستشراق التنصيري البروتستانتي مثل صمويل زويمر
Samuel Zwemer وإيرل إلدر Earl E. Elder وكانون تمبل جاردنر Canon Temple Gairdner وغيرهم .
وقد حصل جيفري على درجة الدكتوراة من جامعة أدنبره عام 1929 .
أما من حيث مكانته العلمية فآرثر جيفري يعد من رجال الصف الأول في علم الاستشراق ومن مؤلفاته مقدمة كتاب المصاحف التي نشرها عام 1937 وكتاب (المفردات الأجنبية في القرآن) الذي نشره عام 1938 . وفي هذا العام 1938 غادر القاهرة ليتبوأ كرسي الأستاذية في قسم لغات الشرق الأوسط والأدنى في جامعة كلومبيا .
وقد توفي عام 1959 في نوفاسكوتشيا بكندا أثناء نزهة صيفية ، وقد دفن في نفس مكان وفاته وكذلك زوجته إيلسي جيفري الذي تزوجها عام 1923 عندما كانت تعمل سكرتيرة مدير الجامعة الأمريكية بالقاهرة .

كان آرثر جيفري قسيسًا في الكنيسة الميثودية Methodist Church وكان لديه إخلاصٌ بالغٌ تجاه التبشير بالنصرانية وكان يحمل همّ التنصير وسائر قضايا النصرانية ، وكما يصفه جون باردو الكاتب بمجلة العالم الإسلامي كانت أستاذيته نصرانية المغزى ، وكما قال فريدريك جرانت الكاتب بنفس المجلة إن الدين عنده لم يكن مجرد بحث أكاديمي محض . وإن كانا ذكرا هذا الكلام في معرض المدح إلا أنه يلقي الكثير من الضوء على الخلفية الفكرية التي تشكل قناعات جيفري وتوجه وتحرك أبحاثه ، ويمكن في ظلها فهم آرائه وكتاباته عن الإسلام والقرآن .
-------
* هذه الترجمة قمت بتلخيصها مع الكثير من التصرف من مقال عن آرثر جيفري بمجلة العالم الإسلامي
The Muslim World, Volume 50 (1960), pp. 230-247.
 
الحلقة الأولى (ص 3 - 4 مقدمة جيفري)

الحلقة الأولى (ص 3 - 4 مقدمة جيفري)

يقول المستشرق آرثر جيفري في مقدمة كتاب المصاحف بتحقيقه ص3-4 : (( نتقدم بهذا الكتاب للقراء على أمل أن يكون أساسًا لبحث جديد في تاريخ تطور قراءات القرآن .
نشر في أيامنا هذه علماء الشرق كثيرًا مما يتعلق بتفسير القرآن وإعجازه وأحكامه ، ولكنهم لم يبينوا لنا ما يستفاد منه التطور في قراءاته ، ولا ندري على التحقيق لماذا كفوا عن هذا البحث في عصر له نزعة خاصة في التنقيب عن تطور الكتب المقدسة القديمة ، وعن ما حصل لها من التغير والتحوير ونجاح بعض الكتّاب فيها .


فمن منا يجهل مبلغ سرور علماء الغرب حين أن عثروا على بعض القطع القديمة من القرطاس والبردي التي حفظت لنا آيات وأسفارًا من التوراة أو الإنجيل كانت بفضل رمال مصر محفوظة من البلاد والدثور مع طول الزمن . ولا يخفى على المطلع أن علماء النصارى وعلماء اليهود قد جدّوا منذ جيلين في طلب تحقيق تاريخ الإنجيل والتوراة وأنهم فازوا بنتائج باهرة كان لها أثر عظيم في تفسير هذين الكتابين وتأويلهما ، وأما القرآن فلم نجد شيئًا من هذه الأبحاث سوى كتاب واحد بسيط وهو كتاب تاريخ القرآن لأبي عبدالله الزنجاني الذي طبع حديثًا في مصر .


أدى هذا الفحص في الغرب كما هو معلوم إلى التنازع والخصام بين المتمسكين بالنقل وبين المتمشين مع العقل ، أو بعبارة أوضح بين أهل النقل وبين أصحاب هذه الأبحاث ، فقال أهل النقل من اليهود والنصارى إن هذا البحث التحليلي وكل فحص في تاريخ الكتاب المقدس ليس إلا طعنًا في الدين ، ونسبوا إلى هؤلاء الباحثين عدم الإيمان ، وزعموا أنهم لا يريدون شيئًا غير التشكيك والزندقة والإلحاد ، ولكن آراء المفكرين – أصحاب هذه المباحث – قد ذاعت الآن وانتشرت حتى طغت على آراء غيرهم ممن يتمسكون بالنقل ، فانت ترى الآن أكثر علماء اليهود وعلماء النصارى يتبعون في أبحاثهم وتدريسهم طريقة هذا البحث التحليلي ولو خالف هؤلاء في بحثهم أهل النقل والطريقة القديمة ))


قلتُ: يعبر المستشرق عن نشوته بتقديم هذا العمل للقاريء ظنًا منه أن فيه من الروايات عن جمع القرآن ومصاحف الصحابة والقراءات ما يفيد الطعن على كتاب الله سبحانه وتعالى .
وقد تسربت هذه الفكرة العجيبة للغربيين وقالوا تجب المساواة بين الكتب المقدسة كلها لدى اليهود والنصارى والمسلمين ، وما هذا إلا نتيجة للبحوث العلمية التي أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك عند أهل العلم في الغرب أن كتب اليهود والنصارى قد نالها التحريف والتغيير والتبديل . فظن هؤلاء أن ما يسري على كتب اليهود والنصارى يسري على القرآن الكريم .
لهذا تجدهم ينحون باللائمة على علماء المسلمين الذين قصروا كل هذا الوقت في إثبات تحريف كتابهم كما نجح النصارى في ذلك – أي: إثبات تحريف كتبهم – ويدعون المسلمين للمسارعة للحاق بركب البحث والتحقيق عن طريق إثبات وقوع التحريف والتبديل والتغيير في كتابهم .

لهذا السبب تجد المستشرق لا يدري ((على التحقيق لماذا كفوا – أي: علماء المسلمين - عن هذا البحث في عصر له نزعة خاصة في التنقيب عن تطور الكتب المقدسة القديمة ، وعن ما حصل لها من التغير والتحوير ونجاح بعض الكتاب فيها )). والواقع أنه لا يدري أنه لا توجد أمثال تلك البحوث عند علماء المسلمين لعدم وجود تحريف أو تبديل في كتابهم أصلاً ، بخلاف أهل الكتاب من اليهود والنصارى الذين حرفت كتبهم ونالها من التبديل والتغيير ما نالها .

ويذكر المستشرق آرثر جيفري بعد ذلك أن علماء الغرب عثروا على بعض القطع القديمة من القرطاس والبردي التي حفظت آيات وأسفارًا من التوراة والإنجيل وأنهم فازوا بنتائج باهرة كان لها أثر عظيم .
قلتُ: وكأني به يريد أن يثير غيرة المسلمين من النصارى الذي فازوا بنتائج باهرة في إثبات تحريف كتبهم ، وهو يمنّي المسلمين بنتائج باهرة لها أثر عظيم إن هم فعلوا مثل النصارى ونجحوا في إثبات تحريف كتابهم . ويبدو أن هناك من أخبره أن المسلمين كانوا مجموعة من الأعراب في الصحراء حفروا الأرض فعثروا على قرطاس مكتوب عليه القرآن ، فقالوا إنه هذا هو كتاب الله !
فهنا وقع جيفري في مغالطة منطقية واضحة هي التسوية بين المختلفَين ؛ فنقل كتب اليهود والنصارى عبر العصور يختلف عن نقل القرآن الكريم من جيل إلى جيل ، لهذا لا تصح التسوية بينهم . حفظ كتب اليهود والنصارى عبر العصور كان يعتمد على نَسخ المخطوطات من يد إلى يد ، وهم في هذا المضمار لم يراعوا إطلاقًا ما يقع في المخطوطات من تغيير وتبديل وزيادة ونقصان ، وأن هذا التحريف لا يستطيع أن يزيله إلا من يراجع الأصل على النسخة كلمة بكلمة ، فهذه التحريفات التي تقع من النساخ – سواء بقصدٍ وتعمدٍ أو سهوًا وغفلةً - من نسخة بعد نسخة هي ما يقصده علماء أهل الكتاب بتطور القراءات . ومن المعلوم في هذا المقام أنه من المستحيل تحديد القراءة الأصلية من المحرفة بصورة قطعية في غياب الأصول التي نسخت منها المخطوطات الموجودة حاليًا ، لهذا اعتمد علماؤهم على الظن والتخمين ووضع القواعد العقلية والمنطقية لتحديد أي القراءات أقرب للأصل ؛ فعلى سبيل المثال إذا اختلفت قراءتان في مخطوطتين مختلفتين ، فالأولى بالصواب القراءة الموجودة في المخطوطة الأقدم ، وإذا اختلفت القراءة في عدة مخطوطات فالأولى بالصواب ما اتفقت عليه أغلب المخطوطات ، ثم إن الأمر لا يعتمد تمامًا على الغلبة العددية في المخطوطات لقراءة معينة ، بل إنه إذا وجدت مخطوطة ما قليلة الأخطاء ومعظم قراءاتها أقرب ما يكون للصواب حسب الأدلة السابقة فإنهم يمكنهم الاعتماد عليها في بقية قراءاتها المخالفة لغيرها من المخطوطات لموثوقيتها النسبية ، وهكذا ..

وهناك قواعد تعتمد على النص نفسه بغض النظر عن المخطوطات ؛ فعلى سبيل المثال القراءة الأصعب في الفهم تكون هي الأقرب للصواب لأن الناسخ قد يسهل العبارة للفهم فيخلق قراءة جديدة ، والقراءة الأبعد عن الفصاحة هي الأقرب للصواب لأن الناسخ قد يزين العبارة فيخلق قراءة جديدة ، والقراءة الأبعد عن السلامة اللغوية أو الألفاظ المتداولة هي الأقرب للصواب وهكذا* .. لكن هذه القواعد وغيرها ليست قواعد مطلقة ، بل هي ظنية احتمالية وتخضع لتقدير العالم المتخصص ، فضلاً عما فيها من خلافات بين هؤلاء العلماء الكتابيين فتجد قراءة معينة ينتصر لها فلان وفلان ويعارضها فلان وفلان** ، وكل حزبٍ بما لديهم فرحون !
لكن ما الذي دفع بالقوم إلى خوض هذا البحر المتلاطم وارتقاء هذه المرتفعات القاسية ؟ الجواب هو ضياع أصول الوحي الإلهي ، فلم يبق منه إلا نسخ عن نسخ عن نسخ عن نسخ ! فلم يجد القوم سبيلاً إلى معرفة نصوص كتبهم التي يقدسونها إلا هذه المضايق المجهدة .

يقول البروفيسور لي مارتن ماكدونالد والبروفيسور ستانلي بورتر ، وهما من علماء التيار المحافظ : (( رغم أن معظم الناس يدركون جيدًا أننا لا نملك الوثائق الأصلية للعهد الجديد (أو أي مخطوطات أصلية للكتاب المقدس بالمناسبة) ، لكنهم لا يفهمون ماذا يعنى النقد الكتابي Textual Criticism وما هو الغرض منه . الهدف من النقد الكتابي أمرٌ من اليسير شرحه لكن من العسير جدًا تحقيقه . بعبارة سهلة هو عبارةٌ عن إعادة بناء نص أقرب ما يكون للنص الأصلي من خلال قلم الكاتب . فعند كل نقطة تكون فيها قراءة مختلفة textual variant – أي: عندما تقدم المخطوطات قراءات مختلفة تكون أحيانًا صغيرة جدًا لدرجة الاختلاف في حرف واحد وتكون أحيانًا كبيرة جدًا تبلغ جملة كاملة أو فقرة كاملة (مثل يوحنا 7: 53 أو 8: 11 أو مرقص 16: 9)- يجب على الناقد الكتابي أن يحدد أي قراءة هي الأقرب للأصل . ومن غير المحتمل أن يكون النص المُعاد بناؤه الناتج عن هذه العملية مطابقًا للأصل ، بل إنه من المؤكد تقديره كذلك أن النص الأصلي لا يطابق أي من النسخ الموجودة . فكل المخطوطات الباقية عبارةٌ عن أجيالٍ متواليةٍ من النسخ للنص الأصلي ))***
ويقول العلامة ميتزجر : (( في خلاصة الأمر دعنا نؤكد أنه لا توجد مخطوطة ولا مجموعة من المخطوطات يمكن للناقد الكتابي أن يتبعها على طول الخط ، فكل الشواهد المعروفة للعهد الجديد إنما هي نصوصٌ بها خليط من الصحيح والباطل بدرجات متفاوتة ، بل إن حتى أقدم المخطوطات لا تخلو من أخطاء شنيعة . ورغم أنه في أحيان كثيرة جدًا يستطيع الناقد أن يتأكد بدون أدنى شك أن هذه القراءة هي الأصلية ، إلا أنه في أحيانٍ غير قليلةٍ يكون قراره قائمًا على موازنة غير حاسمة بين الاحتمالات . بل أحيانًا يجد أنه لا توجد قراءة بين القراءات المختلفة يمكن أن تكون هي الأصل ، فيجد نفسه مدفوعًا إلى اختيار قراءةٍ تكون على الأقل مقبولةً أو إلى الانهماك في التنقيح عن طريق الظن والتخمين ))****
ما فائدة هذا الكلام عن علوم المخطوطات الكتابية ؟
الفائدة الأولى: هي أن كثيرًا من الناس لا يدرك نعمة الإسلام إلا بعد أن يعرف أحوال أهل الجاهلية.
والفائدة الثانية: هي بيان ما ذكره جيفري حول البحث التحليلي لتطور كتب اليهود والنصارى.
والفائدة الثالثة: هي أن يستوعب القاريء المسلم لماذا يحتفي جيفري وغيره من علماء الغرب بالعثور على مخطوطات قديمة مدفونة أو مطمورة أو محفوظة سواء في رمال مصر أو في غيرها من البلاد ؛ فكل مخطوطة جديدة تعطي معلومات إضافية عن نصوص كتب اليهود والنصارى تفيد في المزيد من التنقيح والتحقيق لنصوص هذه الكتب التي يقدسها القوم .


هنا يبزغ السؤال : هل هذا هو نفس الوضع عند المسلمين بخصوص كتابهم المقدس القرآن الكريم ؟ كلا بالطبع ! لأن نقل القرآن كان عن طريق الحفظ الشفهي من قاريء إلى قاريء لا الكتابة في المصاحف ، وهذا هو السبيل المعتمد لنقله لا سواه لهذا قال ابن الجزري: ((ثم إن الاعتماد في نقل القرآن على حفظ القلوب والصدور ، لا على خط الْمصاحف والكتب ، وهذه أشرف خصيصة من الله تعالى لِهَذِهِ الأمة)) النشر في القراءات العشر لابن الجزري ج1 ص6 .
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه: ((والاعتماد في نقل القرآن على حفظ القلوب لا على المصاحف ؛ كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ أنه قال: (إِنَّ ربى قال لي أَن قم في قريش فأنذرهم فقلت: أي رب إذًا يثلغوا رأسي - أي يشدخوا- فقال: إني مبتليك ومبتل بك ومنزل عليك كتابا لا يغسله الماء تقرؤه نائما ويقظانًا فابعث جندا أبعث مثليهم وقاتل بمن أطاعك من عصاك وأَنْفق أُنْفِق عليك) ؛ فأخبر أن كتابه لا يحتاج في حفظه إلى صحيفة تغسل بالماء بل يقرؤه في كل حال ، كما جاء في نَعْتِ أُمَّتِه: (أناجيلهم في صدروهم) ، بخلاف أهل الكتاب الذين لا يحفظونه إلا في الكتب ولا يقرأونه كله إلا نظرًا لا عن ظهر قلب)) مجموع الفتاوى لابن تيمية ج13 ص400 .
وفي تفسير الآلوسي: ((المرعى فيه السماع من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم)) روح المعاني للآلوسي ج1 ص21 .
ويقول العلامة الزرقاني: ((وقد قلنا غير مرة: إن المعول عليه وقتئذٍ كان هو الحفظ والاستظهار ، وإنما اعتمد على الكتابة كمصدر من المصادر زيادة في الاحتياط ومبالغة في الدقة والحذر)) مناهل العرفان للزرقاني ج1 ص177 .
فإن كان الأمر في حفظ القرآن كذلك ، فأي نفع وأي فائدة في تحليل مخطوطات المصاحف على نحو ما يفعل علماء اليهود والنصارى ؟! بل أي قيمة علمية في دراسة المخطوطات وهي ليست مصدرًا معتمدًا أصلاً في حفظ نص القرآن ؟! ألا تكون دراسة المصاحف ومخطوطاتها في هذه الحالة عبارة عن عبثٍ وعشوائيةٍ ؟!
ولا يُفهم من هذا أننا نعارض دراسة مخطوطات المصاحف مطلقًا ، بل نحن ندرسها لمعرفة تواريخها ورسمها وغيرها لكننا لا ندرسها بغرض تحقيق نص القرآن فهذا هو العبث الذي نعارضه .

وقبل أن نستطرد يجب توضيح أن ما يقصده جيفري بتطور القراءات ليس هو نفسه ما يتبادر إلى ذهن الباحث أو العالم المسلم من كونه ربما يشير إلى ائتلاف وجوه القراءة المنقولة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قراءات سبعة أو عشرة أو أربعة عشر على أيدي القرّاء الكبار ؛ بل ما يقصده هو ما وقع من تطور في قراءات كتب اليهود والنصارى بسبب التحريف في النسخ على مر العصور ، فهو يسمي هذا التحريف والتغيير والتبديل تطورًا ، ثم يزعم أن في القرآن مثله وأنه ينبغي علينا إبرازه وبيانه !!

فالرجل يقع في المغالطات مرة بعد مرة ، وبصرف النظر عن كونه يتعمد ذلك من عدمه فإن هذه المغالطات من التسوية بين حفظ كتب اليهود والنصارى وحفظ القرآن ، والتسوية بين قراءات كتب اليهود والنصارى التي سببها التحريف وقراءات القرآن المنقولة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة ، هذه المغالطات لا تجعل لعمله أي قيمة علمية معتبرة لأنه أخطأ أولاً في تصور قضية نقل القرآن وتصور الواقع القرآني ، وهذا الخطأ في التصور أدى إلى الخطأ في المقارنة بين القرآن والكتب السابقة عليه مما أدى في النهاية إلى الخطأ الجسيم في دعوته لتطبيق معايير نقد نصوص كتب اليهود والنصارى على القرآن بزعم أن هذا هو البحث العلمي التحليلي الحديث الذي خضعت له أعناق علماء أهل الكتاب ، وأن على علماء المسلمين أن يتبعوهم إلى جحر الضب الذي دخلوه ، فتأمل كيف أن التسوية بين المختلفين تؤدي إلى هذه الأخطاء الجسيمة ، ثم هو يزعم أن ما وقع فيه من أخطاء هو العلم الذي ينبغي علينا اتباعه .
-------------
* للمزيد عن هذه القواعد انظر كتاب علاّمة النقد الكتابي البروفيسور بروس مانينج ميتزجر
B. M. Metzger, A Textual Commentary On The New Testament: A Companion Volume To The United Bible Societies' Greek New Testament, 1971, United Bible Societies, London & New York, pp. vi-vii
** انظر في هذا تفاسير كتبهم التي اهتمت بهذا الجانب مثل المصدر السابق للعلامة ميتزجر ، وكذلك تفسير آدم كلارك للمفسر الإنجليزي البروتستانتي آدم كلارك Adam Clarke الذي توفي عام 1832م ، وطُبع تفسيره في لندن عام 1851م ، وهو متاح للمطالعة على شبكة الانترنت :
http://www.godrules.net/library/clarke/clarke.htm
***Although most people realize that we do not have the original NT documents (or any original biblical manuscript, for that matter), they do not understand what textual criticism is and what it is designed to do. The goal of textual criticism is easy to explain but extremely difficult to accomplish. Simply stated, its goal is to reconstruct a text as close as possible to the original text from the pen of the author. At every point where there is a textual variant-where manuscripts present different readings. sometimes as small as a single letter . . . and sometimes as large as a whole verse or even whole passage (e.g., John 7:53-8:11 or Mark 16:9ff.)-the textual critic must decide which reading is closest to the original. It is unlikely that the reconstructed (or eclectic) text resulting from such a process would be identical to the original text, and it is virtually certain that the original text would not match any of our extant copies. All of the complete surviving manuscripts are several copy generations removed from the original writing.
Lee Martin McDonald and Stanley E. Porter. "Early Christianity and its Sacred Literature." First Printing - Nov 2000. Hendrickson Publishers, Inc. ISBN: 1-56563-266-4 (cloth) pp. 578
****By way of conclusion, let it be emphasized again that no single manuscript and no one group of manuscripts exists which the textual critic may follow mechanically. All known witnesses of the New Testament are to a greater or less extent mixed texts, and even the earliest manuscripts are not free from egregious errors. Although in very many cases the textual critic is able to ascertain without residual doubt which reading must have stood in the original, there are not a few other cases where he can come only to a tentative decision based on an equivocal balancing of probabilities. Occasionally none of the variant readings will commend itself as original, and he will be compelled either to choose the reading which he judges to be the least satisfactory or to indulge in conjectural emendation. In textual criticism, as in other areas of historical research, one must seek not only to learn what can be known, but also to become aware of what, because of conflicting witnesses, cannot be known.
Bruce M. Metzger, The Text Of The New Testament: Its Transmission, Corruption, and Restoration, Third Enlarged Edition, 1992. Oxford University Press, pp. 246
 
أشكر الإخوة أصحاب الفكرة والأخ هشام عزمي على ردّه السديد ودفاعه العلمي
وتعليقي على الحلقة رقم واحد من الرد وهي هذه لأن الأولى يمكن أن نعطيها الرقم صفر فهي مجرد تعريف بجفري أما هذه فسوف أعطيها الرقم واحد لأنها أول رد .
من البداية وضح سبب الخلاف بين الأخ هشام ومعه المسلمون وبين السيد جفري.
إنه خلاف بين ما أصفه بالمتطرفين شفاهيا والمتطرفين كتابيا، انطلاقا من أن الخلاف علمي بحت وأنه لا توجد نية سوء لدى أي من الطرفين.
فالمسلمون والناطق باسم موقفهم هنا الأخ هشام متطرفون شفاهيا أي مبالغون في قدرة الذاكرة على الحفظ فلا يوجد لديهم احتمال ولو واحد بالمئة أن الخلاف بين قراءة أهل المدينة يقض الحق وبين قراءة عاصم يقص الحق سببه نقطة بسبب انعدام التنقيط إبان كتابة المصحف. وليس لديهم احتمال ولو واحد بالمئة أن قراءة أبي عمرو وغيره حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كُذِّبوا بالتشديد كانت هروبا من نسبة الرسل الى الكذب رغم ان قراءة كُذِبوا تعني أخلفوا ما وعدوا.
سبب تبنيهم لهذا الموقف اخذهم لمعنى((( إنا نحن نزلنا الذكر إنا له لحافظون))) على معنى الحفظ في الدنيا لا على المعنى الذي ذهب إليه مجاهد وابن جريج أي الحفظ عندنا، أي عند الله تعالى
ويوجد فرق بين الفهمين يتأسس عليه الموقف.
فنحن لا نملك دليلا تاريخيا يفضل اختيار ابي عمرو على عاصم او بالعكس
وفي نفس الوقت لا نستطيع الترجيح بينهما بأن نرد أحداهما عزوا لها الى سبب ضعف الخط
وإن كان الموقف العلمي من وجهة نظري المتواضعة الذي أفضله على موقف علماء القراءات الحالي هو موقف ابن جرير الطبري فهو يرجح ويرد قراءات ويفاضل بينها من حيث السياق والثبوت لأنه سلِم من التطرف شفاهيا الذي يسير عليه الإخوة القراء في الملتقى وسار عليه علماء كبار في الرواية والتطبيق كابن الجزري.

أما قول الدكتور هشام
(وقبل أن نستطرد يجب توضيح أن ما يقصده جيفري بتطور القراءات ليس هو نفسه ما يتبادر إلى ذهن الباحث أو العالم المسلم من كونه ربما يشير إلى ائتلاف وجوه القراءة المنقولة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قراءات سبعة أو عشرة أو أربعة عشر على أيدي القرّاء الكبار ؛ بل ما يقصده هو ما وقع من تطور في قراءات كتب اليهود والنصارى بسبب التحريف في النسخ على مر العصور ، فهو يسمي هذا التحريف والتغيير والتبديل تطورًا ، ثم يزعم أن في القرآن مثله وأنه ينبغي علينا إبرازه وبيانه !!)

فيبدو لي مبالغا فيه، وموضع المبالغة فيه ليس أنهم نعم يتجاوزون علم القراءات الى ما و أوسع منها فهذا حق ، لكن موضع المبالغة في عبارة الدكتور هشام هو أنهم يريدون أو حتى يظنون أن النتائج ستكون مقاربة لنقد الكتاب المقدس!
فالمستشرقون الذين قابلتهم في مؤتمر الاستشراق الحادي والثلاثين ولا سيما العلماء بالقراءات كجوزيف فان اس وغيره يعلمون ويصرحون بأن الدراسة التاريخية لن تضيف كبير فتح على تاريخ القرآن لأن القرآن قد حصل له قرار سياسي بتعميم النسخة الموثوقة نسخة زيد.
لكن البحث التاريخي سيرجح شيوع اختيار حرف على اخر .
والمستشرقون والباحثون الأوربيون عموما متطرفون كتابيا ويلحقهم قصور في دور التداول الشفاهي الجماعي على سلامة وصول النص تاريخيا.
ولا شك أن الكتابة كان لها دور في اختيار القراء مهما كان هذا الدور ضئيلا وهذا معنى قول ابن الجزري وهي كذلك في مصاحف اهل الشام فهو يبرر اختيار القراءة لا على الرواية بل على الكتابة.

خلاصة تعليقي أنا لا نجرؤ حاليا حتى على اتخاذ موقف ابن جرير أمام المتطرفين شفاهيا والفاهمين لمعنى (((إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون))) على خلاف فهم مجاهد وابن جريج.
وأنني شخصيا أميل إلى موقف ابن جرير من قضية اختلاف الروايات والقراءات. لأن وعيي في هذه اللحظة التاريخية أقل تطرفا شفاهيا وإن كنت لا أتطرف كتابيا.


وإن سبب عدم تعاون الباحثين المسلمين والمؤرخين المستشرقين في البحث التاريخي المشترك والاتفاق على إمكانية وجود قاعدة علمية مشتركة للاقتناع بالنتائج مهما كانت ضآلتها هو شيئان
  • سبب معرفي عقلي هو التطرف كتابيا لدى المستشرقين والتطرف شفاهيا أي المبالغة في قدرة الذاكرة الشفاهية على التوثيق لدى المسلمين
  • وسبب ديني وهو فهم (((إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون )))على أن الله تعالى قد قرر أن يحفظ كتابه لنا
وبداهة أنه إذا كان الله تعالى قد قضى حفظ كتابه أن تضيق مساحة البحث التاريخي.
وقد قدمت في هذا الملتقى المبارك قبل سنة أني أقول بتواتر المصحف لا القراءات
فالمصحف لا يشك مؤرخ بتواتره أما تواتر القراءات فيمكن قبول فكرة أنها متواترة عن القراء بعد شيوعها عنهم وتأليف الكتب فيها وقيام مدارس لقراءاتهم. أما تواترها عن النبي قراءات كاملة فهذا ما لا مقنع فيه.

وأعتذر أني سأغيب عن الملتقى أسبوعا لانشغالي في أمور شخصية رغم أهمية الموضوع
وتحيتي وتقديري للإخوة الفضلاء
 
جزاك الله خيرًا يا دكتور عبد الرحمن على تعقيبك النافع ، واسمح لي أن أرد عليه في نهاية البحث لأني سأتناول بعض مسائله فعلاً في ثناياه إن شاء الله . أما بخصوص ما وصفته حضرتك بالمبالغة فربما هو كذلك إذا عممته على جميع المستشرقين ، لكننا هنا نتكلم عن آرثر جيفري ومقصده الذي يظهر من كلامه ، كما يظهر من صنيعه في تحقيق كتاب المصاحف ، ومن جمعه للقراءات المختلفة من مصاحف الصحابة في قائمة طويلة ذيل بها تحقيقه للكتاب . والله تعالى أعلم .
 
نقطة أخرى ربما تحتاج إلى تجلية وتوضيح في المقارنة بين النقل الشفهي والنقل الكتابي: فإن النزاع بين النقل الشفهي والكتابي ليس نزاعًا حول نوعية النقل في حد ذاته ؛ بل المسألة هي أي نقل هو القطعي المفيد للعلم اليقيني وأيها لا يفيد ذلك . فحقيقة النزاع هو بين القطعي والظني ، لا بين الشفهي والكتابي ، فنقل القرآن هو نقل قطعي لهذا نؤمن به بغض النظر عن كونه شفهيًا ، أما نقل كتب اليهود والنصارى فهو دون ذلك بمراحل لهذا لا نؤمن به بغض النظر عن كونه كتابيًا .
وهذه المسألة من المسائل التي تتكرر كثيرًا لدى المتخصصين في الرد على المخالفين ؛ فتجدهم أحدهم يعترض على قضايا شرعية بما وصل إليه العلم التجريبي ، وربما يتهور المتصدي للرد فيجحد العلم التجريبي بالكلية لأنه خالف الحقائق الشرعية . وأصل القضية هو أن النزاع ليس بين الشرع والعلم التجريبي ، بل بين الدليل القطعي والدليل الظني بغض النظر عن نوعيته شرعيًا كان او علميًا . فإن كانت مرتبة الدليل الشرعي من ناحية الظن واليقين تعلو مرتبة الدليل التجريبي أخذنا بالأول ، وإن كان العكس أخذنا بالثاني .
وهذه من المسائل التي فصّلها وأصّلها شيخ الإسلام ابن تيمية في درء التعارض بين العقل والنقل ، فبيّن رحمه الله أن العبرة ليست بكون الدليل عقليًا أو نقليًا ، بل بمنزلته بين درجات الشك واليقين . والله تعالى أعلم .
 
شكر الله للدكتور هشام وجعل ما يقدم في موازين حسناته
وكنت أتمنى لو أنه وقف مع قول صاحب المقدمة في أول لمقدمته
"تاريخ تطور قراءات القرآن "
لأن هذه العبارة موهمة ، ولا أعتقد أنها صحيحة ، بل هي قطعا باطلة ، وإذا بطلت فإن كلام آرثر جفري يصبح بلا قيمة .
 
بل لنا وقفات عديدة تفصيلية مع هذه القضية إن شاء الله تعالى ؛ فهي محور مقدمة آرثر جيفري وموضوعها الرئيس . وقد وضع جيفري ستة أطوار لعملية تطور قراءات القرآن وهي:
طور مصاحف الصحابة ،
وطور المصاحف العثمانية ،
وطور حرية الاختيار في القراءات ،
وطور تسلط القراءات السبعة/العشرة ،
وطور الاختيار بين السبعة/العشرة ،
وطور سيادة قراءة حفص والمصاحف المطبوعة .
وهذا كله بحاجة إلى نقد تفصيلي لاستخلاص الحق من ركام الباطل ، نسأل الله تعالى أن يوفقنا ويسددنا ويهدينا إلى ما يحب ويرضى .
 
البحث وأهدافه

البحث وأهدافه

بارك الله بالدكتور هشام على ما قدم ويقدم وأشكر الدكتور حاتم القرشي لدعوته في إثراء النقاش حول آرثر وافكاره.
يقول أرثر: فمن منا يجهل مبلغ سرور علماء الغرب حين أن عثروا على بعض القطع القديمة من القرطاس والبردي التي حفظت لنا آيات وأسفارًا من التوراة أو الإنجيل كانت بفضل رمال مصر محفوظة من البلاد والدثور مع طول الزمن . ولا يخفى على المطلع أن علماء النصارى وعلماء اليهود قد جدّوا منذ جيلين في طلب تحقيق تاريخ الإنجيل والتوراة وأنهم فازوا بنتائج باهرة كان لها أثر عظيم في تفسير هذين الكتابين وتأويلهما .
الناظر الى النص أعلاه يجد أن آرثر يختال فرحاً لأنه يعثر بين الفينة والأخرى على قطعة أثرية تحمل بعض النصوص للتوراة أو الإنجيل. ولكن الحق الذي ينبغي أن يتداركه أمثال آرثر ويتدارسونه فيما بينهم هو سبب ضياع النصوص الأصلية لكتاب مقدس مثل الإنجيل والتوراة والبحث في أسباب ضياعه واندثاره رغم قدسيته ومكانته المفترضة من قلوب الناس آنئذ. إذ كيف يسوّغ ذلك انتصاراً وما هو إلا تفريط وإهمال وإعلال؟؟.
وعلى ذلك فإن الذي ينبغي أن يُثار ويُستقصى ويُدرس بعناية فائقة هو قدرة العرب على احتفاظهم بكتابهم المقدس رغم أنهم امة أميًة لا تحسن الكتابة ولا القرآءة وذلك باعتمادهم على حفظ الصدور قبل السطور. وحفظ الروايات والأخبار قبل الأقلام والأحبار . أليس هذا حري بأن يُناقش ويُفهم من قبل المستشرقين قبل أن يفترضوا أن القرآن قد أصابه ما اصاب كتبهم من ضياع ودثور؟.
أما النقطة الأخرى التي فاتت آرثر وأعوانه من مرجفين وهي ان أي بحث أو استقصاء لا بد أن يكون له مقصود واضح يُرجع اليه ويُكتفى به ويُختم على أساسه البحث بالنجاح أو الفشل. فهل كان أرثر يبحث عن الحق والوصول اليه سواء كان ذلك الحق ما يخص الإنجيل أو التوراة أو ما يخص القرآن الكريم؟ هل عمل آرثر على مطابقة ما اكتشف من نصوص وآيات في العهد القديم وحاول أن يقارنها بالعهد الجديد أو أن يقارنها بما جاء به القرآن العظيم؟ الم يكتشف أن تغيير النصوص وتحريفها بطريقة مجرمة بعيدة عن التوثيق والتصحيف أمر فيه منقصة وتفريط ولا يفخر به إلا جاهل بعلم البحث والتوثيق والأرشيف.
في عام 1947 اكتشفت مخطوطات البحر الميت في الأردن عن طريق أحد الرعاة والتي تحوي نصوصاً للتوراة بحالة ممتازة تشير الى ما قبل ميلاد المسيح عليه السلام بمئة عام.وقد استحوذت عليها اسرائيل عام 1967 وسرقتها من متحف القدس. وقد كان آرثر وقتها في أوج نشاطه التوثيقي . فماذا فعل؟؟ هل حاول أن يطلع عليها؟؟ هل علم أنها تحوي على بشارة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام وأنها تشير بوضوح للدين الإسلامي الذي جاء به محمد عليه الصلاة والسلام؟؟ هل اعلن أنه وصل الى الحقيقة؟؟ هل اكتشف أن التوراة التي بين يديه ما إلا غثاءً أحوى لا قيمة علمية لها ولا تستحق أن يُطلق عليها صفة التقديس. أين هم الباحثون اليهود حينما اكتشفت تلك النصوص ؟وما رأيهم فيها ولماذا أخفوها لغاية الآن إذا كان هدفهم البحث والتقصي والتوثيق والوصول الى الحق؟؟.
كل هذه التساؤلات تجعل أبحاث آرثر وغيره من المتعصبين لا جدوى فيها ولا روح وما هي إلا لطمس الأعين عن الحق وتلبيس الباطل ثوباً أبيضاً رجساً وفسقاً فدعوهم في غيهم يعمهون. وبارك الله بكم
 
الاستماع إلى مقدمة جفري وقراءتها وقراءة خلاصة رأي العلماء قبل المشاركة في نقدها

الاستماع إلى مقدمة جفري وقراءتها وقراءة خلاصة رأي العلماء قبل المشاركة في نقدها

رغم أني على سفر فقد وجدتني في مطار غوتنبرغ ولديّ بعض الوقت فقمت بقراءة مقدمة آرثر جفري لأضعها بين يدي الإخوة لاستماعها وقمت بوضع الكتاب معها هنا ليقرأها من أحب قبل المشاركة في نقدها
.
فتتضمن هذه المشاركة
ملفا صوتيا لمقدمة جفري
ملف كتاب المصاحف لابن أبي داود مع مقدمة جفري
رأي علماء القراءات وملخصه من أوثق مصادره وهو ملخصا من قبل الشيخ ابن الجزري
[قد ذكر الإمام أبو عبيد القاسم بن سلامه في أول كتابه في القراءات من نقل عنهم شيء من وجوه القراءة من الصحابة وغيرهم. فذكر من الصحابة أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعليا، وطلحة، وسعدا، وابن مسعود، وحذيفة، وسالما، وأبا هريرة، وابن عمر، وابن عباس، وعمرو بن العاص، وابنه عبد الله، ومعاوية، وابن الزبير، وعبد الله بن السائب، وعائشة، وحفصة، وأم سلمة: وهؤلاء كلهم من المهاجرين وذكر من الأنصار أبي بن كعب. ومعاذ ابن جبل. وأبا الدرداء، وزيد بن ثابت، وأبا زيد، ومجمع بن جارية، وأنس ابن مالك رضي الله عنهم أجمعين. ولما توفي النبي وقام بالأمر بعده أحق الناس به أبو بكر الصديق رضي الله عنه وقاتل الصحابة رضوان الله عليهم أهل الردة وأصحاب مسيلمة وقتل من الصحابة نحو الخمسمائة أشير على أبي بكر بجمع القرآن في مصحف واحد خشية أن يذهب بذهاب الصحابة فتوقف في ذلك من حيث إن النبي لم يأمر في ذلك بشيء ثم اجتمع رأيه ورأى الصحابة رضي الله تعالى عنهم على ذلك فأمر زيد بن ثابت بتتبع القرآن وجمعه فجمعه في صحف كانت عند أبي بكر رضي الله عنه حتى توفي ثم عند عمر رضي الله عنه حتى توفي ثم عند حفصة رضي الله رضي الله عنها.
ولما كان في نحو ثلاثين من الهجرة في خلافة عثمان رضي الله عنه حضر حذيفة بن اليمان فتح أرمينية وآذربيجان فرأى الناس يختلقون في القرآن ويقول أحدهم للآخر قراءتي أصح من قراءتك فأفزعه ذلك وقدم على عثمان وقال أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا اختلاف اليهود والنصارى فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلى إلينا بالصحف ننسخها ثم نردها إليك فأرسلتها إليه فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن ينسخوها في المصاحف وقال إذا اختلفتم أنتم وزيد في شيء فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم فكتب منها عدة مصاحف فوجه بمصحف إلى البصرة ومصحف إلى الكوفة ومصحف إلى الشام وترك مصحفا بالمدينة وأمسك لنفسه مصحفا الذي يقال له الإمام ووجه بمصحف إلى مكة وبمصحف إلى اليمن وبمصحف إلى البحرين وأجمعت الأمة المعصومة من الخطأ على ما تضمنته هذه المصاحف وترك ما خالفها من زيادة ونقص وإبدال كلمة بأخرى مما كان مأذونا فيه توسعة عليهم ولم يثبت عندهم ثبوتا مستفيضا أنه من القرآن. وجردت هذه المصاحف جميعها من النقط والشكل ليحتملها ما صح نقله وثبت تلاوته عن النبي إذ كان الاعتماد على الحفظ لا على مجرد الخط وكان من جملة الأحرف التي أشار إليها النبي بقوله "أنزل القرآن على سبعة أحرف" فكتبت المصاحف على اللفظ الذي استقر عليه في العرضة الأخيرة عن رسول الله كما صرح به غير واحد من أئمة السلف كمحمد بن سيرين وعبيدة السلماني وعامر الشعبي قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لو وليت في المصاحف ما ولي عثمان لفعلت كما فعل، وقرأ كل أهل مصر بما في مصحفهم وتلقوا ما فيه عن الصحابة الذين تلقوه من في رسول الله ثم قاموا بذلك مقام الصحابة الذين تلقوه عن النبي (فممن كان بالمدينة) ابن المسيب، وعروة، وسالم، وعمر بن عبد العزيز، وسليمان وعطاء إبنا يسار، ومعاذ بن الحارث المعروف بمعاذ القارئ، وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج، وابن شهاب الزهري، ومسلم بن جندب، وزيد بن أسلم (وبمكة) عبيد بن عمير، وعطاء، وطاووس، ومجاهد، وعكرمة، وأبن أبي مليكة (وبالكوفة) علقمة، والأسود، ومسروق، وعبيدة وعمرو بن شرحبيل، والحارث بن قيس، والربيع بن خثيم، وعمرو بن ميمون، وأبو عبد الرحمن السلمي، وزر بن حبيش، وعبيد بن نضيلة، وأبو زرعة ابن عمرو بن جرير، وسعيد بن جبير، وإبراهيم النخعي، والشعبي،. (وبالبصرة) عامر بن عبد قيس، وأبو العالية، وأبو رجاء، ونصر بن عاصم، ويحيى بن يعمر، ومعاذ، وجابر بن زيد، والحسن، وابن سيرين، وقتادة (وبالشام) المغيرة بن أبي شهاب المخزومي صاحب عثمان بن عفان في القراءة وخليد بن سعد صاحب أبي الدرداء. ثم تجرد قوم للقراءة والأخذ واعتنوا بضبط القراءة، أتم عناية حتى صاروا في ذلك أئمة يقتدى بهم ويرحل إليهم ويؤخذ عنهم، أجمع أهل بلدهم على تلقي قراءتهم بالقبول ولم يختلف عليهم فيها اثنان ولتصديهم للقراءة نسبت إليهم (فكان بالمدينة) أبو جعفر يزيد بن القعقاع ثم شيبة بن نصاح ثم نافع بن أبي نعيم (وكان بمكة) عبد الله بن كثير وحميد بن قيس الأعرج ومحمد بن محيصن (وكان بالكوفة) يحيى ابن وثاب وعاصم بن أبي النجود وسليمان الأعمش ثم حمزة ثم الكسائي (وكان بالبصرة) عبد الله ابن أبي إسحق وعيسى بن عمر وأبو عمرو بن العلاء ثم عاصي الجحدري ثم يعقوب الحضرمي (وكان بالشام) عبد الله بن عامر وعطية بن قيس الكلابي وإسماعيل بن عبد الله بن المهاجر ثم يحيى بن الحارث الذماري ثم شريح بن يزيد الحضرمي.
ثم إن القراء بعد هؤلاء المذكورين كثروا وتفرقوا في البلاد وانتشروا وخلفهم أمم بعد أمم، عرفت طبقاتهم، واختلفت صفاتهم، فكان منهم المتقن للتلاوة المشهور بالرواية والدراية، ومنهم المقتصر على وصف من هذه الأوصاف، وكثر بينهم لذلك الاختلاف. وقلَّ الضبط، واتسع الخرق، وكاد الباطل يلتبس بالحق، فقام جهابذة علماء الأمة، وصناديد الأئمة، فبالغوا في الاجتهاد وبينوا الحق المراد وجمعوا الحروف والقراءات، وعزوا الوجوه والروايات، وميزوا بين المشهور والشاذ، والصحيح والفاذ، بأصول أصولها، وأركان فصلوها، وهانحن نشير إليها ونعول كما عولوا عليها فنقول:
كل قراءة وافقت العربية ولو بوجه ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالا وصح سندها فهي القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردها ولا يحل إنكارها بل هي من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن ووجب على الناس قبولها سواء كانت عن الأئمة السبعة أم عن العشرة أم عن غيرهم من الأئمة المقبولين، ومتى اختل ركن من هذه الأركان الثلاثة أطلق عليها ضعيفة أو شاذة أو باطلة سواء كانت عن السبعة أم عمن هو أكبر منهم، هذا هو الصحيح عند أئمة التحقيق من السلف والخلف، صرح بذلك الإمام الحافظ أبو عمرو عثمان بن سعيد الداني، ونص عليه في غير موضع الإمام أبو محمد مكي بن أبي طالب وكذلك الإمام أبو العباس أحمد ابن عمار المهدوي وحققه الإمام الحافظ أبو القاسم عبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بأبي شامة وهو مذهب السلف الذي لا يعرف عن أحد منهم خلافه (قال أبو شامة) رحمه الله في كتابه "المرشد الوجيز" فلا ينبغي أن يغتر بكل قراءة تعزى إلى واحد من هؤلاء الأئمة السبعة ويطلق عليها لفظ الصحة وإن هكذا أنزلت إلا إذا دخلت في ذلك الضابط وحينئذ لا ينفرد بنقلها مصنف عن غيره ولا يختص ذلك بنقلها عنهم بل إن نقلت عن غيرهم من القراء فذلك لا يخرجها عن الصحة فإن الاعتماد على استجماع تلك الأوصاف لا عمن تنسب إليه فإن القراءات المنسوبة إلى كل قارئ من السبعة وغيرهم منقسمة إلى المجمع عليه والشاذ، غير أن هؤلاء السبعة لشهرتهم وكثرة الصحيح المجتمع عليه في قراءتهم تركن النفس إلى ما نقل عنهم فوق ما ينقل عن غيرهم.
]

وبالاستماع الى الأول او قراءته وقراءة المقتبس من تلخيص ابن الجزري لأقوال علماء القراءات يمكن لطالب العلم أن يقارن بين رؤية العلماء الغربيين الحديثة وبين ما عليه الحال عند علماء الإسلام
وليس الخلاف بين الموقفين بكبير إلا في مسألة هي في غاية الأهمية حيث يظن جفري ومعه المستشرقون أن مصحف زيد كان شديد الاختلاف عن مصاحف الصحابة الباقين أبيّ وابن مسعود ولست أدري مالذي جعلهم يظنون أن عثمان حين جمع الناس على مصحف كان قد قسرهم على جمع زيد وحده دون مبالاة بجهود ابن مسعود وأبي وغيرهما دون الذهاب إلى أن ما تتبع به زيد القرآن فجمعه في بداية الأمر يعني أنه قد مرّ بابن مسعود وأبيّ وعليّ في ضمن من قابله واعتمد عليه من الناس؟
ونحن لا نظن أن عثمان واللجنة الرسمية قد تجاهلت خلافا ذا بال بل نظن أن المصحف مصحف زيد هو أوثق ما استطاع المسلمون ومعهم التاريخ أن يحفظوا به كتاب الله تعالى بتوفيقه تعالى ومشيئته.
ونحن نفاخر العالم بما تمّ على أيدي هذه الأمة من حفظ كتاب ربها.وقد نقل الشهيد إسماعيل الفاروقي عن أحد المستشرقين الذي يقول نحن متأكدون أن هذا القرآن ثابت النقل عن محمد بنفس القدر الذي يعتقده المسلم أنه ثابت الصدور عن الله. وهذه شهادة لأن ما يهمنا في هذا المقام هو الموثوقية التاريخية أما الإيمان فهو مسألة شخصية.
ولا نتعجل نتيجة نقد المقدمة تفصيلا ولكني شاركت بهذه الأصول من أجل أن نربح في الملتقى مناقشة ثرية من قبل الإخوة الأعضاء للدكتور هشام وهكذا نحقق للمتصفحين من الإخوة والأخوات مناقشة ثرية وذات فائدة.
وأترككم في رعاية الله وحفظه
 
جزاك الله خيرًا أستاذي تيسير الغول على هذه المداخلة القيمة ، والتي تشير فعلاً إلى حقيقة أن علم المخطوطات عند الغرب علامة شائنة لدلالتها على تضييع الوحي وتحريفه وتبديله ، وأنهم بدلاً من أن يخجلوا من هذه الحقيقة يتبجحون بها على المسلمين !!
أما حضرة الدكتور عبد الرحمن فلا أستطيع إلا أن أشكره على رفعه المقدمة صوتًا وكتابةً لأجل أن يتابع السادة الباحثون النقد وأن يثروه بمداخلاتهم القيمة النافعة ، جزاكم الله خيرًا ونفع بكم ، وإنه ليسرني أن يكون نقد هذه المقدمة مشروعًا جماعيًا يشترك فيه أهل الملتقى جميعًا لبلوغ أفضل النتائج ، والمرء قليلٌ وحده كثيرٌ بإخوانه .
والله الموفق .
 
أشكر الأخ الكريم تيسر الغول على هذه المشاركة النافعة وإثارته لقضايا هامة هي جديرة بالعناية.
وأما د. عبدالرحمن الصالح فقد أسعدتني مشاركته جداً وسرَّني حرصه على متابعة الملتقى حتى من السويد وإن دَلَّ على شيء فهو يدل على مكانة الملتقى في نفسه، وهذا ما يسعدنا.
كما أشكره جزيل الشكر على حرصه على وضع المقدمة كتابة وصوتاً بصوته، وهي لفتة متميزة ونادرة وجهد يُشْكَر عليه، وللعلم فإن د. عبدالرحمن قد سجل المقدمة بصوته بتاريخ 21 / 1 / 2011م كما ذكر في أول تسجيله الصوتي فله منا الشكر والدعاء الحسن.
وأسأل الله لك العودة إلى الديار سالماً أخانا الكريم.
 
رغم أني على سفر فقد وجدتني في مطار غوتنبرغ ولديّ بعض الوقت فقمت بقراءة مقدمة آرثر جفري لأضعها بين يدي الإخوة لاستماعها وقمت بوضع الكتاب معها هنا ليقرأها من أحب قبل المشاركة في نقدها
.
عوداً حميداً الى ديارك د عبد الرحمن .
 
علم الإسناد

علم الإسناد

مما لا شك فيه أن علم الإسناد يعتبر خاصيّة تنفرد فيها أمة العرب. وهو من أدق أنواع التوثيق على الإطلاق. لأنه يعتمد على المشافهة والنقل معاً . فالصحابة كانوا يتناقلون المتون مع أسنيدها فترة ليست بالقليلة ولم تدوّن في بطون الكتب إلا بعد أن طال السند وخيف عليها من الضياع . فاصبح المختصون يدونون العلوم بطريقة فريدة عجيبة لم تفعلها أمة غيرهم من الأمم . حيث وضعوا علم الجرح والتعديل وشروط الأخذ والرد وأحوال الرواة وظهرت ثورة تصحيحية في ذلك الوقت استطاعت أن تدوّن جميع السنن بالسند والمتن الصحيح وحفظت أقوال النبي عليه الصلاة والسلام من الضياع. وهذا جهد يضاف الى جهدهم أيضاً في حفظ كتاب الله تعالى بنفس الطريقة بل أشد تحصيناً وعناية . فتلازمت علوم القرآن مع علوم الحديث وأصبحت جميعها في بطون الكتب.
والغريب في الأمر أن المستشرقين ومنهم آرثر لم يستثيرهم هذا العلم الجليل في طريقة حفظ العلوم والنقول والوثائق ولم يستفيدوا منه في حفظ علومهم وكتبهم ومخطوطاتهم . ولم يتحروا الدقة فيما نُقل اليهم من أخبار عن ديانتهم ولا ما سطرته أجيالهم السابقة . فتداخلت نصوصهم وتضاربت في بعضها حتى أصبح لكل طائفة كتاب مقدس يختلف اختلافاً جوهرياً عن غيره. فضاع كل قديم عندهم واندثر كل مقدس لديهم. ثم يأتون وبكل جرأة ووقاحة يعيبون على أمة الحفظ والتسطير والتذكير ويتهموننا بالتقصير على غير علم منهم ودراية. فسبحان موهب العقول ومعطي الحكمة لمن يشاء من عباده ومن يؤتى الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً.
 
الحلقة الثانية (ص 4 مقدمة جيفري)

الحلقة الثانية (ص 4 مقدمة جيفري)

يقول آرثر جيفري مبينًا الفرق بين فريقي علماء أهل الكتاب من اليهود والنصارى : ((فأما أهل النقل فاعتمدوا على آراء القدماء ، وعلى هذه التخيلات التي ورثوها عن آبائهم وأجدادهم ، والتي نقلها العلماء من دور إلى دور ، وإذا ما وجدوا بين هذه الآراء خلافًا اختاروا واحدًا منها وقالوا إنه ثقة وغيره ضعيف وكاذب . وأما أهل التنقيب فطريقتهم أن يجمعوا الآراء والظنون والأوهام والتصورات بأجمعها ليستنتجوا بالفحص والاستكشاف ما كان منها مطابقًا للمكان والزمان وظروف الأحوال معتبرين المتن دون الإسناد يجتهدون في إقامة نص التوراة والإنجيل كما أقيم نص قصائد هوميروس أو نص رسائل أرسطو الفيلسوف .
بدأ نولدكي (Noldeke) الألماني باستعمال طريقة البحث هذه في نص القرآن الشريف في كتابه المشهور الجليل المسمى : تاريخ القرآن . نُشر هذا الكتاب سنة 1860م وهو الآن أساس كل بحث في علوم القرآن في أوروبا ولم يكن في وسع نولدكي أن يقوم بالطبعة الثانية من كتابه ففوض ذلك إلى تلميذه شوالي (Schwally) الذي ضم إليه نتائج التدقيقات الحديثة ، وتوفى شوالي في أثناء عمله فأخذ برجشتراسر (Bergstrasser) في تكميله ، وبعد موت برجشتراسر أتم تلميذه برتزل (Pretzl) طبع الكتاب . ولما ظهرت الطبعة الأولى من كتاب نولدكي تجنى عليه بعض أهل النقل في الشرق واتهموه بالطعن في الدين وزعموا أن الذين يتتبعون هذه الطريقة ليسوا خالين من المحاباة في أبحاثهم مع أن إنصافهم وصدق نيتهم وعدم محاباتهم ظاهر ويتبين من كتبهم أنهم لا يرومون إلا الكشف عن الحق , وكان عيبهم الوحيد في أعين أهل النقل أن يعتبرون المتن دون الإسناد ويختارون من آراء القدماء ما يطابق ظروف الأحوال من أسانيد متواترة كانت أم ضعيفة ، فكثيرًا ما تناقض نتائج أبحاثهم بعذه الطريقة تعليم أهل النقل الذي قد عرف بين العلماء من زمن بعيد .))


قلتُ : ما وصف به جيفري التقليديين من علماء أهل الكتاب لا ينطبق على علماء المسلمين ، كذلك ما وصف به العلماء الباحثين في مخطوطات كتب اليهود والنصارى لا ينطبق على المستشرقين ، لماذا ؟
لأن أهل النقل أو أهل الحديث لا يقبلون آراء القدماء هكذا اعتباطًا ؛ بل هم يخضعونها للبحث والتدقيق والتحقيق فما كان صحيح النسبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذوا به ، وما كان غير ذلك رفضوه إن خالف كلام الله أو كلام رسوله صلى الله عليه وسلم . أما إن كان الكلام منسوبًا إلى من هو دون رسول الله صلى الله عليه وسلم نزلت درجة حجيته بحسب بعد صاحب الكلام أو قربه من الرسول صلى الله عليه وسلم ومن عصره ، واضعين في الاعتبار سلامة نسبة هذا الكلام إلى صاحبه ، ومعارضته لغيره من كلامه هو نفسه أو كلام غيره ممن هو أعلى منه في الحجية إلى آخر هذه الاعتبارات التي تدل على أن من يسميهم أهل النقل من علماء المسلمين ليسوا من قبيل علماء أهل الكتاب الذين يأخذون رأيًا دون تمحيص ثم يرفضون ما عداه لأجل الهوي والتحيز المسبق .
أما طريقة من يسميهم أهل التنقيب الذين يعتبرون المتن دون الإسناد فهي طريقة مغالطية ، لماذا ؟
لأنها تساوي بين المختلفين ؛ فعند جيفري وقومه تتساوى الأسانيد ؛ فخبر الصادق يساوي خبر الكاذب في التصديق ، وخبر الحافظ يساوي خبر ضعيف الحفظ في الموثوقية ، وخبر الشاهد يساوي خبر الغائب في الاعتبار ، وهذا كله سفهٌ لا ريب فيه !
نعم ، قد يصلح هذا المسلك عند غياب الأسانيد تمامًا حينما لا يمكن الترجيح بين الروايات والأخبار بناءً على إسناد كل رواية إلى راويها وكل قول إلى قائله ، أما في حالة وجود الأسانيد وإمكانية الاعتماد عليها في الترجيح ، فإن العدول عنها إلى ما هو دونها في الحجية والقطعية هو عبثٌ وسفاهةٌ .

وأصل المشكلة لدى المستشرقين هي في عدم استيعابهم لأهمية الإسناد في نقل الأخبار ، لأن علم الأسانيد غريبٌ تمامًا عن واقعهم العلمي والديني فاستنكروه ؛ لأنهم اعتادوا أن يكونوا هم الأصل وهم المرجع ، فإذا ورد عند أمةٍ من الأمم ما يخالف ما عرفوه أنكروه ورفضوه لا بناءً على القواعد أو الأصول العلمية السليمة بل لأجل تعصبهم لعلومهم وتحيزاتهم المسبقة . ومثلهم في رفضهم للإسناد كمعيار لتقويم الأخبار والروايات كمثل الأعمى الذي يرفض أن يفرّق المبصرون بين التفاح والموز اعتمادًا على الشكل واللون ، فالمستشرقون يفرضون على منهجية العلم وتحصيل المعرفة جهلهم وتعصبهم لمبلغهم المحدود من العلم وإنكارهم لتفوق المسلمين عليهم في علم تمييز وتمحيص الأخبار . وهذه لعمري سقطة شنيعة لهؤلاء القوم الذي يظنون أنهم يفوقونا عقولاً وعلومًا ، ويصوّر لهم غرورهم أن لهم الوصاية العلمية علينا بحيث يخبروننا بما يصح في ديننا وما لا يصح بينما الواقع أنهم هم الذين بحاجة إلى الجلوس تحت أقدام علماء المسلمين ليتعلموا منهم كيفية توثيق الأخبار وصيانة العلم وحفظ الدين .

تصوّر لو أن باحثًا يكتب بحثًا أو رسالةً علميةً هذه الأيام دون أن يذكر عند كل معلومة مرجعها السليم ودون أن يرجع كل فقرة إلى مصدرها الأصلي ، هل يقبل منه هذا البحث أو هذه الرسالة ؟ وكيف يكون موقف هذا الباحث عند عرض رسالته أمام المشرفين والمناقشين الأكاديميين ؟
ثم تصوّر لو أن متهمًا في قضيةٍ ما لم يقدم للقاضي بين يدي دفاعه الأوراق والمستندات الموثقة بالتوقيعات والأختام الرسمية ، هل سيعطي القاضي أي اعتبار لكلامه المرسل المجرد من المرجع الرسمي الموثق ؟
يقول البروفيسور محمد مهر علي : (( البحث العلمي الجاد يتطلب أن كل رواية تحوي قراءة معينة لقاريء معين لابد أن يتم فحصها جيدًا ليتم التأكد من موثوقيتها أو عدمها قبل المجازفة باستخلاص نتائج خطيرة بناءً على هذه القراءة . وتبقى حقيقة أن جيفري لم يقم بأي شيء من هذا القبيل . ففي ضوء حقيقة أن التفاسير الشائعة تضم الكثير من الروايات الضعيفة والباطلة وأن الكثير من فرق أهل الأهواء كانت تلجأ لاختلاق الروايات ، فإن معظم القراءات التي صفّها جيفري تظل موضع شك وغير جديرة بالتصديق ))*

ولنضرب مثلاً ذكره الشيخ محمد الغزالي** رحمه الله في رده على المستشرق المجري اليهودي جولدتسيهر : هب أن مستشار رئيس الولايات المتحدة أدلى بتصريح عن رأي الرئيس في قضيةٍ ما فنقل هذا التصريح رجلٌ من الحاشية ثم تلقفه أحد الصحافيين فنشره ، ما تكون قيمة هذا الخبر ؟ نجيب بأنه يحتمل الصدق والكذب ولا يترجح إلى إحدى الناحيتين إلا إذا عرفنا قيمة المصدر الذي أتى منه هذا النبأ . فإذا عرفنا أن الخبر نقلته الصحيفة بالفعل عن رجل الحاشية ، عن مستشار الرئيس مباشرة ، وكان كل واحد من هؤلاء مشهورًا بأمرين: الضبط التام لما يسمع ، والصدق التام فيما ينقل ، فما يكون رأينا في هذا الخبر ؟ أنصدقه أم نكذبه ؟
الجواب أننا نتجه إلى تصديقه . وذلك هو ما يطلب علماء المسلمين توافره في الخبر ليكون صحيحًا ، وتقبل نسبته لرسول الله صلى الهص عليه وسلم .
فتصديق الخبر مبنيٌ على تصديق قائله ، لهذا اعتنى علماء المسلمين بنقلة الأخبار والروايات ولاسيما أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم . وهذا هو المنهج العلمي السليم ، فإن صدر القول عن من نثق في صدقه وأمانته وكان ضابطًا للرواية عدلاً ، قبلناه بلا تردد إلا أن يكون له معارضٌ قويٌ ، أما إن صدر القول عن من هو دون ذلك في الصدق أو الأمانة أو العدالة أو الضبط ، رددناه عليه ، فإن هذا الأمر دينٌ ، والمصير إما إلى جنةٍ أو نارٍ ، فلا تهاون أو تزوير .
قال ابن المبارك رحمه الله تعالى : (( الإسناد من الدين ، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء )) مقدمة صحيح مسلم ج1 ص10 . وقال سفيان الثوري : (( الإسناد سلاح المؤمن ، فإذا لم يكن معه سلاحٌ فبأي شيء يقاتل ؟ )) الخطيب البغدادي ، شرف أصحاب الحديث ص88 . وقال الإمام الشافعي : (( مثل الذي يطلب الحديث بلا سند كمثل حاطب ليل )) المناوي ، فيض القدير ج1 ص433 .

ومهما يكن من شيء فقد عنى علماء السند وأطباؤه بنقد السند عناية فائقة ، فوضعوا شروطًا للراوي من جهة الضبط والعدالة بأن يكون مسلمًا بالغًا عاقلاً ، خاليًَا من أسباب الفسق وخوارم المروءة ، ضابطًا غير مغفل ، حافظًا إن حدث من حفظ ، ضابطًا لكتابة من التغيير والتبديل إن حدث منه ، عالمًا بما يحيل المعاني إن حدث بالمعنى .
وتتبعوا مواطن الدخل والضعف في حلقات السند من انقطاعٍ أو تدليسٍ أو إرسالٍ خفيٍ أو عنعنةٍ إلا بشروطها ، كما نقبوا عن مواطن الضعف من الجهة النفسية كوهم الراوي وغفلته ونسيانه واشتباه الأمر عليه وعصبيته وميوله إلى غير ذلك مما يكون له أثر في التزيد والكذب في المروي أو الغلط أو القلب أو الإدراج أو رفع الموقوف أو وصل المرسل ؛ فردوا رواية الفاسق والمغفل الذي كثر غلطه وفحش خطؤه ، ولم يقبلوا رواية المبتدع من أهل الأهواء إذا كان داعية إلى بدعته ، وبعضهم قال : إلا إذا روى ما يخالف بدعته لانتفاء التهمة حينئذ . كما قبلوا غير الدعاة للبدعة إلا إذا رووا ما يؤيد بدعتهم لأن بدعة الراوي تدعوه إلى تزيين القول والتزيد فيه على حسب ما يوافقها .
ذكر الحافظ الذهبي في تذكرته قال المسيب بن واضح : سمعت ابن المبارك وسئل عمن نأخذ ؟ قال : من طلب العلم لله ، وكان في إسناده أشد ، قد تلقى الرجل ثقة وهو يحدث عن غير ثقة ، وتلقى الرجل غير ثقة وهو يحدث عن ثقة ، ولكن ينبغي أن يكون ثقة عن ثقة .
وذكر الذهبي أيضًا في طبقات الحفاظ أن الرشيد أخذ زنديقًا ليقتله فقال : أين أنت من ألف حديث وضعتها ؟ فقال الرشيد : أين أنت يا عدو الله من أبي إسحاق الفزاري وابن المبارك يتخللانها فيخرجانها حرفًا بحرف ؟
وقيل لابن المبارك : هذه الأحاديث الموضوعة ؟ فقال : تعيش لها الجهابذة .
فانظر - رعاك الله - إلى مبلغ الدقة والحيطة والحذر وبعد النظر ، وإلى هذه الأصول التي تعد أدق وأرقى ما وصلت إليه علوم النقد للرواية ، وقد وفق إليها علماؤنا أيام كانت عقول غير المسلمين تقبل الخرافات وتعتنقها ، وتأخذ بكل ما روي ولو كان باطلاً .
قال العلامة ابن حزم : (( نقل الثقة عن الثقة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم مع الاتصال خص الله به المسلمين دون سائر الملل ، أما مع الإرسال والإعضال والنقل بالطريق المشتملة على كذاب أو مجهول الحال فكثير من نقل اليهود والنصارى )) ابن حزم ، الفصل في الملل والنحل ج1 ص81-84 باختصار وتصرف .

خلاصة الأمر أن حفظ نص القرآن وتمييز قراءاته الصحيحة ليس عملية ذهنية تعتمد على التحليل والترجيح ، بل هو بالدرجة الأولى يعتمد على سلامة النقل . وهذا الأمر قد ذهل عنه المستشرق فظن أن صحة نص القرآن وسلامته من التحريف تقتضي أن يُعمل المرء ذهنه في المقارنة والترجيح والتخمين وليس في نقل النص كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم بلا زيادة أو نقص أو تغيير ! لهذا كان طعن جيفري على نَقَلَة القرآن عاريًا من التصور الصحيح للطريقة التي حُفظ القرآن بها ، بل من التصور السليم لحفظ أي نص على وجه الدقة والكمال .

أما ما ذكره عن منهجه في قوله (( وأما أهل التنقيب فطريقتهم أن يجمعوا الآراء والظنون والأوهام والتصورات بأجمعها ليستنتجوا بالفحص والاستكشاف ما كان منها مطابقًا للمكان والزمان وظروف الأحوال معتبرين المتن دون الإسناد )) فيدل على تهافت هذا المنهج*** في البحث ؛ فكيف ستعرف ما هو المطابق للمكان والزمان وظروف الأحوال دون أن يكون ذلك مبنيًا على أخبار غزيرة موثوقة مؤكدة تعطيك صورة صحيحة كاملة وافية عن المكان والزمان وظروف الأحوال ؟ ثم بعد هذا كله لن يمكنك الترجيح والاستنتاج لأن باب الجواز العقلي سيكون مفتوحًا على مصراعيه ؛ فما المانع أن يكون النص على هذه الصورة أو سواها ؟ وإن أعملت عقلك ورجحت نصًا على غيره ، فهل تجزم بهذا أم يكون كل ما لديك مجرد الظن ، والظن لا يغني من الحق شيئًا ؟ وهل يكون البحث والتحليل بهذه الكيفية إلا ما يقول فيه مضرس بن ربعي الفقعسي :
وليلٍ يقُول القومُ من ظُلُمَاتِه : : : : سَوَاءٌ بَصِيراتُ العُيون وعُورُها
سواءٌ بصيرات العيون وعورها ! وإنا لله وإنا إليه راجعون ! وهذه هي طريقة أهل "التنقيب" . وواقع الأمر أنها طريقةٌ تنتهي إلى مجرد الترجيح حسب الهوى والرأي دون الاعتماد على منهجٍ ثابتٍ سديدٍ .

وقد كان يجب مع ما يدعيه المستشرقون من سلامة المنهج وصدق النية أن لا يختلفوا كما لا يختلف الأطباء في عد ضربات القلب وقياس ضغط الدم أو كما لا يختلف أهل الفيزياء والكيمياء والفلك وعلوم البحار والجيولوجيا وغيرهم في قياساتهم وحساباتهم ، فما بالهم أكثر الناس اختلافًا لا يجتمع اثنان من رؤسائهم على رأيٍ واحدٍ في الأمر الواحد . ولو كان اختلافهم في مسائل فرعيةٍ وقد اتفقوا على الأصول لاتسع لهم العذر عندنا ، ولكن اختلافهم في أصل الدين وظهوره ونشأته ومصادره وتاريخه ، وفي القرآن ومصدره (أو مصادره) ونقله وكتابته وقراءاته ، وفي الحديث ونشأته وتطوره وعلومه ، وفي النبي صلى الله عليه وسلم وصدقه وحياته وبعثته وسيرته ووفاته ، وهكذا .. ليس منهم واحدٌ إلا وله مذهبٌ في الإسلام يخالف فيه غيره . فشاخت يخالف جولدتسهير ، وكولسون يخالفهما ، ووات يخالفهم ، وجيوم يعارض ، وهكذا .. وسر خلافهم هو ردّ كل منهم المسائل إلى استحسانه ونظره ، لاختلاف الناس في عقولهم وآرائهم واختياراتهم .
ولو أردنا – رحمك الله – أن ننتقل عن علماء الإسلام ونرغب عنهم إلى المستشرقين ، لخرجنا من اجتماعٍ إلى تشتتٍ ، ومن نظامٍ إلى تفرقٍ ، ومن أنسٍ إلى وحشةٍ ، ومن اتفاقٍ إلى اختلافٍ ؛ لأن علماء الإسلام مجمعون على أن القرآن كلام الله سبحانه وتعالى ، نزل على نبيه صلى الله عليه وسلم منجمًا ، على سبعة أحرف ، وعلمه النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة وحفظوه عنه ، وكتبه صلى الله عليه وسلم في حياته كله غير مجموعٍ ، ثم كان أول من جمعه في مصحفٍ أبو بكر الصديق ، ثم عثمان رضي الله عنهما ، وأن الأصل في نقل القرآن هو السماع ، وأن الكتابة في المصاحف إنما زيادةٌ في الحيطة والحرص على كتاب الله تعالى .
فإذا نحن أتينا المستشرقين لما يزعمون من أنهم (( منصفون في أبحاثهم صادقوا النية ، وأن عدم محاباتهم ظاهر ، ولم يكن قصدهم إلا الكشف عن الحق )) ، وأردنا أن نتعلق بشيء من مذاهبهم ، ونعتقد شيئًا من آرائهم ، وجدناهم يختلفون ويتعارضون ، ويتقدمون بالرأي وعنه ينافحون ، ثم بعدها يرجعون عنه ويتبرؤون ، حتى إذا دارت العيون في المحاجر وبلغت القلوب الحناجر فجعنا المستشرق بقوله : (( لا يهمنا في بحثنا هذا كونه حقًا أو باطلاً ، وإنما المهم هو بيان ما وصلنا إليه بعد التحري والتنقيب )) ص9-10 ، ولا حول ولا قوة إلا بالله !

لهذا لا يتردد من يطلع على كتب القوم في رفضها ، فهم يتوجهون إلى القرآن الكريم الذي تتمحور حوله علوم الإسلام شكلاً وموضوعًا ، وقد درسه أهله وأشبعوه بحثًا ودراسةً وتحليلاً ، وتتبعوا مراحل تنزيله في مكة والمدينة ومناسبات نزوله وتلقي الصحابة له وجمعه في الصدور والسطور من أيام النبي صلى الله عليه وسلم حتى يومنا هذا ، ثم يزعمون أن لهم آراء يرونها يستنبطونها من أقوال ضعيفة . أضف إلى هذا سوء فهمهم للنصوص والأحاديث والآثار ، وسنتناول هذا قريبًا إن شاء الله تعالى .
ولا ينفع المستشرق في هذا المقام مدحه لنفسه ولقومه بأنهم (( منصفون في أبحاثهم صادقوا النية ، وأن عدم محاباتهم ظاهر ، ولم يكن قصدهم إلا الكشف عن الحق )) فشهادتهم لأنفسهم مجروحة ، ثم إنه عاد لينفي عن قومه تحري الحق ومراعاته بقوله بعد عدة صفحات (( لا يهمنا في بحثنا هذا كونه حقًا أو باطلاً ، وإنما المهم هو بيان ما وصلنا إليه بعد التحري والتنقيب )) فكشف الحق ليس هو قصدهم كما زعم قبل قليل ، بل مسألة الحق والباطل عندهم ليست ذات بال ، بل هما – أي: الحق والباطل – متساويان عند القوم ؛ إنما المهم هو أن ينقبوا ويبحثوا ثم يكتبوا الكتب ويسودوا الصفحات !
ودع عنك الكتابة لست منها :::: ولو سودت وجهك بالمداد !
وبالجملة فالقضية عند المستشرقين معقدةٌ مركبةٌ ، من احتجاجهم بما لا حجة فيه ، مرورًا باستدلالهم بما لا دلالة فيه ، إلى رفضهم لما فيه الحجية والدلالة . وهم في كل هذا الطيش والعبث والجهل العريض يتظاهرون بالإنصاف وعدم المحاباة وعدم المجاملة والأمانة العلمية ، وإلى الله المشتكى .
--------------------
الحواشي :
(*) “…serious scholarship demands that each and every report attributing a certain variant reading to a particular authority should be thoroughly looked into and its authenticity or otherwise be ascertained before hazarding a drastic conclusion on the basis of that reading. The fact remains that Jeffery has not done anything of that sort. And in view of the fact that the popular Qur’an commentaries contain many uncorroborated and inauthentic reports and that many interested groups had readily had recourse to fabrication of reports, the majority of the variant readings listed by Jeffery are suspect and are unworthy of credence.”
M. M. Ali (2004), The Qur’an and the Orientalists (UK: Jam’iyat ‘Ihyaa Minhaaj al-Sunnah), p.231
(**) انظر محمد الغزالي ، دفع عن العقيدة والشريعة ضد مطاعن المستشرقين ، دارالكتب الإسلامية ، الطبعة الخامسة 1988 ، ض72-73 .
(***) يقول الدكتور عبد الصبور شاهين معلقًا على هذه الفقرة من كلام جيفري: (( وإذا صح أن يأخذ العلماء بهذا المنهج في مجال لم تتناوله محاولات السابقين ، فبقي مجهولاً غامضًا ، فإنه لا يصح فيما انتهى السابقون من تمحيصه ونقده ، كلمةً كلمةً وحرفًا حرفًا ، على الأساس الذي أبنّا عنه ، وبعبارة أخرى: إذا صحّ مثل هذا النهج في تحقيق نصوص الكتب المقدسة السابقة على القرآن ، فلأن هذه الكتب وما لابس (وضعها) من ظروف ، وما تعاورها من محاولات (الإصلاح) ، كل ذلك يدعو إلى الريبة والشك ، وهو شك لم يخامر عقول السابقين من أجيال اليهودية أو المسيحية . أما بالنسبة للقرآن فالأمر مختلفٌ تمامًا ، فكل ما يثير شكًا ، أو يهييء احتمالاً تناوله الأئمة والعلماء بمنهج صارم ، بلغ الغاية في شموله ، وبلغوا الغاية في تطبيقه ، سواء في ذلك نقد الأسانيد ونقد المتون . ولست أدري بعد هذا كيف يمكن أن تؤدي الآراء والظنون والأوهام والتصورات ، بمن جمعها ، إلى تحديد ما كان واقعًا فعلاً في ذلك العهد البعيد ، وفي ذلكم المجتمع المثالي ، في الوقت الذي عجز فيه عن تذوق العربية ، ورفض احترام مناهج أهلها في البحث والتقصي ، ثم جلس يقيس بعقله هذا وبخياله ماضيًا تباعدت أطرافه ، واختفت معالمه المكانية والزمانية ، واختلفت ظروفه تمامًا عن الحاضر ، كما اختلفت تمامًا عن ظروف من سبق من أمم أهل الكتاب ؟! إن مثل هذا المسلك لا يؤدي بصاحبه إلا إلى خطل الرأي ، وانتكاس الخطة ، وضياع الهدف ، وبعبارة أخرى نقرر: أن الشك المنهجي لا محل له في قضية تم قياسها ونقدها بأدق ضروب الشك المنهجي . وهذه هي نقطة الانفصال بيننا وبين المستشرقين الذي كتبوا عن تاريخ القرآن ..))
عبد الصبور شاهين ، تاريخ القرآن ، نهضة مصر للطباعة النشر والتوزيع ، الطبعة الثانية يناير 2006 ، الترقيم الدولي: ISBN 977-14-3042-4 ، ص124 .
 
ألا ترون الرجل حكم من بداية الكلام فقال:
"فأما أهل النقل فاعتمدوا على آراء القدماء ، وعلى هذه التخيلات التي ورثوها عن آبائهم وأجدادهم"
??
 
بارك الله بك دكتور هشام ومشاركتي رقم 16 تتفق ببعض ما تفضلتم به. غير أن لكم فضل التعبير الحسن وإيصال الفكرة بوضوح دون لجاجة . جزاكم عن الإسلام كل خير.
 
ملحوظتك في محلها أخي الغامدي ، وجيفري يمارس الكثير من التدليس والتقية في مقدمته المنشورة باللغة العربية بخلاف مقدمة النسخة الإنجليزية من الكتاب المغرقة في الطعن المباشر في الوحي والنبي والصحابة والتسفيه الصريح لحفظة القرآن وعلمائه النابغين . وآرثر جيفري عمومًا من المستشرقين الذين يتعاملون مع الإسلام ببغض شديد وكراهية مفرطة دفعته في إحدى كتبه لسب النبي صلى الله عليه وسلم مباشرةً بأنه لص وقاطع طريق ! حاشاه فداه أبي وأمي وروحي ! وهذه النوعية من الناس يخونهم الحذر والحيطة أحيانًا فتفلت منهم عبارات مثل تلك التي استرعت انتباهك ، فلا بأس عليك أخي الفاضل . إنما البأس على من شاقق الله ورسوله والمؤمنين ، وقضى حياته كلها يحارب دين الله حتى أدركه الموت وانكشف له الغيب ، فصار خاسرًا مخذولاً !

أستاذي تيسير الغول ، أنتم أهل الفضل والسبق ، وفضلكم على أمثالي كفضل الفارس على الراجل .
 
الحلقة الثالثة (ص 5 مقدمة جيفري)

الحلقة الثالثة (ص 5 مقدمة جيفري)

بعد أن أبان جيفري عن طريقة بحث المستشرقين قام بعرض أهم نتائجهم الذي بلغوها بـ"البحث والتحري" ، فبدأ بأولها بقوله ص5: (( لما قبض النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن في أيدي قومه كتاب – قيل إن النبي صلى الله عليه وسلم كان كل ما نزلت عليه آيات أمر بكتابتها وكان يعرض على جبريل مرة في كل سنة ما كتب من الوحي في تلك السنة وعرضه عليه مرتين سنة موته ، وهكذا جمع القرآن كله في حياة النبي صلى الله عليه وسلم في صحف وأوراق ، وكان مرتبًا كما هو الآن في سوره وآياته إلا أنه كان في صحف لا في مصحف ، وهذا الرأي لا يقبله المستشرقون لأنه يخالف ما جاء في أحاديث أخرى أنه قبض صلى الله عليه وسلم ولم يجمع القرآن في شيء ، وهذا يطابق ما روي من خوف عمر بن الخطاب وأبي بكر الصديق لما استحر القتل بالقراء يوم اليمامة وقالا إن القتل استحر في قراء القرآن ونخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن كلها فيذهب قرآن كثير ، ويتبين من هذا أن سبب الخوف هو قتل القراء الذين كانوا قد حفظوا القرآن ، ولو كان القرآن قد جمع وكتب لما كانت هناك علة لخوفهما ، وفضلاً عن ذلك فإن علماء الغرب لا يوافقون على أن ترتيب نص القرآن كما هو اليوم في أيدينا من عمل النبي صلى الله عليه وسلم ))

قلتُ: الأثر الذي احتج به جيفري عن زيد بن ثابت قال: "قبض النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن القرآن جمع في شيء" يعني أنه لم يكن مجموعًا في مصحف واحد ولا مرتب السور ، وإنما كان متفرقًا في الرقاع والأكتاف والعسب واللخاف وغيرها . فتأمل الخطأ الجسيم في نسبة جيفري لعلماء المسلمين القول بأن القرآن المكتوب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مرتب السور ، وهو قول لم يقل به أيهم ! بل العقل وحده ينقضه ؛ فكيف يكون متفرقًا في عدة صحف ومرتب السور ؟! وهذا دليلٌ على افتقار القوم للدقة وعدم تحريهم الصحة في كل كلمة ومعنى ولفظ كما تعودنا من علماء المسلمين ، ولا يملكون الميزان الحساس للكلمات كما عند علمائنا ، إنما هم يلقون الكلام على عواهنه كيفما اتفق . وهذا يدل على أنهم لا يجيدون قراءة كتب المسلمين ولا استنباط الآراء منها ؛ فهم لا يجيدون حتى تحرير آراء المسلمين ولا استيعابها ، فكيف بمناقشتها ونقدها والاعتراض عليها ؟
والحاصل أن علماء المسلمين مجمعون على أن القرآن قد كتب كله تحت إشراف النبي صلى الله عليه وسلم ، لكنه لم يكن مجموعًا في مصحف واحد وغير مرتب السور ، فماذا فهم جيفري من هذا ؟ هو فهم أن المسلمين يقولون إن القرآن كان مجموعًا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ومرتب السور في صحف لا في مصحف ! فهل هذا فهمٌ سديدٌ ؟ وهل من كان فهمه كلام العلماء بهذه الصورة يستحق أن يُلتفت لاعتراضه أو يقام له وزنٌ ؟

ثم يستطرد آرثر جيفري: (( وهذا يطابق ما روي من خوف عمر بن الخطاب وأبي بكر الصديق لما استحر القتل بالقراء يوم اليمامة وقالا إن القتل استحر في قراء القرآن ونخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن كلها فيذهب قرآن كثير ، ويتبين من هذا أن سبب الخوف هو قتل القراء الذين كانوا قد حفظوا القرآن ، ولو كان القرآن قد حفظ وكتب لما كانت هناك علة لخوفهما )) وهذا استدلالٌ جيدٌ ولا شك ، وهو أفضل من سابقه ؛ فهو يشير إلى أن القرآن لو كان موجودًا كتابةً لما كان هناك خوفٌ من ضياعه بقتل حفاظه . ولا يهم في هذا المقام كون المكتوب مجموعًا أو غير مجموع ؛ لأن وجود أي حافظ للقرآن بخلاف الصدور ينفي الخشية من ضياعه بهلاك القراء في الحروب . وهذا الاستدلال جيدٌ كما قلتُ لكنه ليس قطعيًا في هذا المعنى خاصةً في ضوء حقيقة أن ألفاظ الحديث كلها عند البخاري وغيره تدور حول جمع القرآن من العسب واللخاف وصدور الرجال ، فلو كان في الحديث دلالةٌ على انعدام الكتابة لما كان في جمع القرآن من العسب واللخاف معنى أبدًا . فذكر جمع القرآن من العسب واللخاف في نفس الحديث ينفي تمامًا دلالته على عدم كتابة القرآن قبل موقعة اليمامة ، وإلا كيف يجمعه من شيءٍ لم يكن مكتوبًا فيه ؟ وهذه دلالةٌ ظاهرةٌ إن شاء الله تعالى . وفي نفس الحديث تجد قول أبي بكر رضي الله عنه لزيد ".. وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم" ، فهذا دليلٌ آخرٌ من نفس الحديث على عكس ما يستدل به المستشرق ؛ فإن كان زيد رضي الله عنه يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا ينفي كون القرآن لم يكن مكتوبًا قبل اليمامة . وهذا مثالٌ على أن الباطل لا يستدل لنفسه بشيء إلا وكان في نفس الشيء إبطال هذا الباطل ، كما ذكر ابن تيمية رحمه الله في منهاج السنة . فالحديث الذي استدل به جيفري لا يدل بتمامه على ما يرمي إليه ، فضلاً عن الأدلة الكثيرة على كتابة كل آية عند نزولها ونهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن كتابة غير القرآن ، وهي أدلة تقطع بأن القرآن كله كتب في حياة النبي صلى الله عليه وسلم لكن دون أن يجمع في مصحف واحد .

وبالجملة فالرجل فهم من كلام علماء المسلمين بأن القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مكتوبًا كله في صحف متفرقة أنه كان مرتبًا كما هو الآن في سوره وآياته إنما في صحف أو أوراق لا في مصحف ؛ فهو لم يفهم من الصحف إلا أنها أوراق مكتوبة مجموعة في مكان واحد بدليل أنه ذكر أنها كانت مرتبة السور كما هي الآن ! ولم يفهم منها ما قصده علماء المسلمين عندما قالوا إنها كانت صحف متفرقة وأن القرآن على عهد رسول الله كان "غير مجموع في مكان واحد ولا مرتب السور" (السيوطي ، الإتقان ج1 ص164) وأنه كان متفرقًا في العسب واللخاف والرقاع وقطع الأديم والأكتاف والأضلاع والأقتاب كما في حديث زيد في البخاري عن جمع القرآن . فهو أساء الفهم وتهور في الاعتراض والانتقاد ، ثم عاد فاستدل بما لا دلالة فيه لسوء فهمه أيضًا ، وهذا فقط قليل مما عند المستشرقين ليقدموه لنا أمة الإسلام .

ثم يقول المستشرق آرثر جيفري : (( وفضلاً عن ذلك فإن علماء الغرب لا يوافقون على أن ترتيب نص القرآن كما هو اليوم في أيدينا من عمل النبي صلى الله عليه وسلم )) . وهذا كلام فضفاض غير دقيق لأن ترتيب نص القرآن يشتمل على شيئين فرّق بينهما العلماء المسلمون : ترتيب سور القرآن ، وترتيب الآيات في السور ، فأيهما يقصد المستشرق باعتراضه على علماء المسلمين ؟

أما ترتيب الآيات في السور فهو واقع بتوقيف النبي صلى الله عليه وسلم وأمره بلا خلاف في هذا بين المسلمين ، وهذا إجماع لا نزاع فيه ، وممن نقل الإجماع على هذا الزركشي في البرهان والسيوطي في الإتقان .
وقد ذكر السيوطي رحمه الله نصوصًا عديدة تدل على هذا منها :
حديث زيد بن ثابت : "كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم نؤلف القرآن من الرقاع‏" .
ومنها‏:‏ ما أخرجه احمد بإسناد حسن بن عثمان بن أبي العاص قال‏:‏ كنت جالساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ شخص ببصره ثم صوبه ثم قال‏:‏ "أتاني جبريل فأمرني أن أضع هذه الآية هذا الموضع من هذه السورة : {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى..} إلى آخرها" . ومنها‏:‏ ما أخرجه البخاري عن ابن الزبير قال‏:‏ قلت لعثمان : {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً ..} قد نسخها الآية الأخرى ، فلم تكتبها أو تدعها ؟ قال‏:‏ يا ابن أخي لا أغير شيئاً منه من مكانه .
ومنها‏:‏ ما رواه مسلم عن عمر ، قال : ما سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء أكثر مما سألته عن الكلالة ، حتى طعن بأصبعه في صدري وقال‏:‏ "تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء" ‏.‏
ومنها‏:‏ الأحاديث في خواتيم سورة البقرة ‏.‏
ومنها‏:‏ ما رواه مسلم عن أبي الدرداء مرفوعاً : "من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال" ‏، وفي لفظ عنده : "من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف‏" .‏
انظر الإتقان في علوم القرآن للسيوطي ج1 ص172-173 .
فيعلم من هذا أن لكل آية موضع ومكان ، وأن منها ما في أول السورة ومنها ما في خواتيمها ، ولو لم يكن الأمر كذلك لما كانت الإشارة للآيات وتعيينها بمواضعها وأماكنها في السور . فهذا يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي كان يأمر ويوقف أصحابه على ترتيب آيات السور ، وأنه ليس لهم في ذلك خيار ، ولا هو مما رد إلى آرائهم .
ولو كان الأمر بخلاف ذلك لما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم على صحابته أن يرتبوا الآيات في التلاوة وضيق عليهم في ذلك ولجعلهم في فسحة من تقديم بعض الآيات على بعض ، وجعل أول السورة آخرها ، وآخرها أولها ، وجعل شطرها في غيرها وشطر غيرها فيها ، وأن يصنعوا في ذلك كيفما رأوا وأحبوا . يدل على ذلك ما أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن ، وعبد الرازق في المصنف ، وابن أبي شيبة في المصنف ، وصححه السيوطي في الإتقان عن سعيد بن المسيب قال : مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على بلال وهو يقرأ من هذه السورة ، ومن هذه السورة ، قال : "مررت بك يا بلال ، وأنت تقرأ من هذه السورة ومن هذه السورة" ، فقال : بأبي أنت يا رسول الله إني أردت أن أخلط الطيب بالطيب ، قال : "اقرأ السورة على نحوها" .
وكذلك قد اشتهر عن السلف رضوان الله عليهم أنهم ذموا من يقرأ القرآن منكوسًا ، أي: يقرأ السورة منكوسة ؛ يبتدئ من آخرها إلى أولها ، لأن هذا حرام محظور . أخرج ابن أبي شيبة في المصنف أن عبد الله بن مسعود سُئل عن رجل يقرأ القرآن منكوسًا فقال : "ذاك رجل منكوس القلب" . وأن عبد الله بن عمر ذُكر له مثل ذلك فقال : "لو رآه السلطان لأدبه" . فلو كانت الآيات غير مرتبة ترتيبًا حتمًا واجبًا لما حرم وحظر التنكيس في القراءة .

أما ترتيب السور في المصحف ؛ فهل هو بتوقيف النبي صلى الله عليه وسلم ، أم باحتهاد الصحابة ؟ ففيه خلاف على قولين ، ولا يضرنا كثيرًا أن ينتصر المستشرقون للقول الثاني دون الأول ، فليس في هذا مطعن ولا إشكال ، ولله الحمد .
 
جزاكم الله خيراً د. هشام عزمي ونفع بعلمكم
والحقيقة أن افتتاح مشروع نقد كتب علوم القرآن بمشاركتكم الطيبة كان اختياراً مميزاً، وقوة البداية ظاهرة زادكم الله من فضله
وقد لفت انتباهي في كلام الدكتور آرثر قوله:
وكان يعرض على جبريل مرة في كل سنة ما كتب من الوحي في تلك السنة وعرضه عليه مرتين سنة موته
فهل كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض ما تلقاه من الوحي عموماً أو ما تلقاه في تلك السنة خاصة؟
وفقكم الله
 
جزاكم الله خيرًا أخي الفاضل محمود البعداني على حسن ظنكم بالعبد الفقير ، وما لفت انتباهك من كلام جيفري هو مما فاتني فعلاً التنبه إليه والتعقيب عليه ؛ حيث مرت عليه عيني دون أن أكتشف موطن الخلل فيه . وهذا هو مصداق قولهم إن المرء قليلٌ وحده كثيرٌ بإخوانه ، وإن الفرد لا يأمن الزلل ، ومصداق الحديث الشريف "يد الله مع الجماعة" .

أما كلام جيفري في هذا الموضع فهو دليلٌ بارزٌ على كونه لا يستوعب كلام المسلمين ولا يحيط بأقوالهم على نحو سليم ؛ فاعتقاد المسلمين هو أن جبريل الأمين عليه السلام كان يعارض النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن كله في رمضان ، أو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرض القرآن على جبريل عليه السلام ، ومعنى عرض القرآن هنا هو قراءته وليس عرض الصحف المكتوبة !! وكان يقرأ عليه القرآن كله وليس مجرد ما نزل أو ما كُتب في تلك السنة !
والدليل على كون العرض هو القراءة أنه صلى الله عليه وسلم كان أميًا لا يقرأ ولا يكتب ، لهذا كان يستكتب الصحابة فيكتبون القرآن ، ثم يقرؤون ما كتبوه عليه صلى الله عليه وسلم فيتثبت منه ؛ فقد أخرج الطبراني عن زيد بن ثابت أنه قال: "كنت أكتب الوحي عند رسول الله وهو يملي عليَّ، فإذا فرغت، قال: اقرأه، فأقرأه، فإن كان فيه سقطٌ أقامه"(أخرجه الطبراني في الأوسط ج2 ص544) . فلو كان صلى الله عليه وسلم يمكنه قراءة القرآن من الصحيفة لقرأه بنفسه بعد كتابته للمراجعة ، لكنه كان يطلب من الكاتب أن يقرؤه عليه فيراجعه ، فهذا ظاهرُ الدلالة في كونه صلى الله عليه وسلم لا يقرأ القرآن من الصحف ، إنما من حفظه ، وأنه صلى الله عليه وسلم لا يستطيع معرفة محتوى الصحف من القرآن ليعرضه على جبريل إلا بقراءة الصحابة له . فلو أراد صلى الله عليه وسلم عرض الصحف المكتوبة على جبريل عليه السلام لما استطاع تمييز السور والآيات بحكم أميته صلوات ربي وسلامه عليه إلا على نحو خرق العادة الميتافيزيقي ، وهو أمرٌ لا أظن أيٌ من المستشرقين يرضى بقبوله .
أما الدليل على كونه صلى الله عليه وسلم يعرض القرآن كله وليس مجرد ما نزل في تلك السنة هو أحاديث هذا الباب ، وهي صريحةٌ في هذا المعنى ؛ فقد أخرج البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : "كان النبي صلى الله عليه وسلم أجودَ الناس بالخير ، وأجود ما يكون في شهر رمضان ؛ لأن جبريل كان يلقاه في كل ليلة في شهر رمضان حتى ينسلخ ، يَعْرِضُ عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم القرآنَ ، فإذا لقيه جبريلُ كان أجودَ بالخير من الريح المرسلة" . وعندما دنا أجل النبي صلى الله عليه وسلم عارضه جبريل بالقرآن مرتين فقد ورد في صحيح البخاري : قال مسروق عن عائشة رضي الله عنها ، عن فاطمة عليها السلام : "أسَرّ إليَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن جبريل يعارضُني بالقرآن كلَّ سنة ، وأنَّه عارضني العام مرتين ، ولا أُراهُ إلاّ حضر أجلي" . وأخرج البخاري عن أبي هريرة قال : "كان يَعْرضُ على النبي صلى الله عليه وسلم القرآن كل عام مرةً ، فعرضَ عليه مرتين في العام الذي قبض ، وكان يعتكف كلَّ عام عشرا ، فاعتكف عشرين في العام الذي قبض" . وهذه الأحاديث أخرجها البخاري في كتاب فضائل القرآن ، باب كان جبريل يعرض القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم .

وبالجملة فهذه العبارة من جيفري تدل على أن الرجل يسير في وادٍ بعيدٍ تمامًا عن الدقة العلمية وصرامة البحث الأكاديمي ، فهو لا يجيد تحرير مذاهب المسلمين واعتقادهم في كيفية جمع كتابهم الإلهي المنزل ، والعجز والفشل في هذا الجانب يقع كله على كاهله لأننا قد وضحنا كيف أن النصوص الحديثية جليّةٌ ظاهرةٌ في بيان عرض القرآن كل عام أمام جبريل عليه السلام ، فلا يفشل في فهمها واستيعابها إلا عابثٌ أو مغفلٌ أو كذابٌ !

والله أعلم .
 
بارك الله بالدكتور هشام على ما تفضل وقدم . وليسمح لي بإضافة بسيطة:
يقول المستشرق آرثر جيفري : (( وفضلاً عن ذلك فإن علماء الغرب لا يوافقون على أن ترتيب نص القرآن كما هو اليوم في أيدينا من عمل النبي صلى الله عليه وسلم )) .لا أدري كيف
استأنس علماء الغرب الى هذه النتيجة واستطابت بها قلوبهم؟ فهل لذلك دليل علمي لا يقبل النقض ؟ أم هو التشكيك والتحوير بلا سند ولا حجة ؟؟
إذا كان آرثر قد استدل على هذه النتيجة من خلال الرواية الضعيفة القائلة أنه قبض صلى الله عليه وسلم ولم يجمع القرآن في شيء"
فإن ذلك يعني لنا أن آرثر يسلّم بما نُسند من أقوال ومتون. بدليل أنه استدل بهذه الرواية واتكأ على مضمونها ليثبت جزئية معينة حدّثه بها قلبه. فلماذا إذاً يغمض بعينيه عن أحاديث صحيحة أثبتت عكس ما تبناه من قول ضعيف هزيل؟؟ لماذا لم يبحث عن جلّ الموضوع وما قيل فيه بشأن ترتيب السور والآيات؟؟ ألم يتواصل الى ذهنه من خلال بحثه أن ترتيب الآيات في سورها أمر توقيفي؟؟ ألم يصل الى علمه أن جبريل عرض القرأن مرتين على النبي عليه الصلاة والسلام في السنة التي توفي فيها ؟ فهل عرضها للنبي عليه الصلاة والسلام كانت بلا ترتيب ولا ترقيم؟؟ أم أنها كانت مفصلة كاملة حسب السور والآيات؟؟.
إن آرثر منة خلال نقاشه بهذه الطريقة اللاعلميَة والتي يحاول فيها ليّ أعناق النصوص التي ينتقيها هو لخدمة ما يريد أن يصل اليه وعلى طريقته الخاصة . لا ان يصل بها الى الحق الأبلج الذي لا مراء ولا جدال فيه.


 
بارك الله فيك أستاذي تيسير الغول ، وفي الواقع فإن النتيجة التي ذهب إليها جيفري بخصوص كون ترتيب القرآن بأكمله ليس من عمل النبي صلى الله عليه وسلم قد أشار إليها في المقدمة الإنجليزية لكتاب المصاحف وعزاها إلى أبحاث أجراها المستشرق البريطاني ريتشارد بل والبرفيسور الأمريكي توري بناءً على أدلة داخلية في متن القرآن الكريم وروايات باطلة في كتب بعض علماء الشيعة الإمامية عن كون القرآن فيه الكثير مما حذف وكان بحوزة علي رضي الله عنه ، واستنتج جيفري منها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعمل على تأليف وتنسيق الكتاب لكن باغتته الوفاة قبل أن يتم عمله !! لكني لم أتحصل على هذه الأبحاث ، ولم أجد لها صدى في أعمال سائر المستشرقين الذين تناولوا هذه القضية ؛ لهذا أرجأت تناولها حتى أطلع على الأبحاث الأصلية وأتبين موطن الشبهة فيها مباشرةً على نحو دقيق .
 
الحلقة الرابعة (ص 5-6 مقدمة جيفري)

الحلقة الرابعة (ص 5-6 مقدمة جيفري)

والنتيجة الثانية التي بلغها المستشرقون بالبحث الحديث هي كما يقول جيفري: (( اختلاف مصاحف الصحابة – روى أن غير واحد من الصحابة جمع القرآن في مصحف ومنهم على بن أبي طالب ، وأبيّ بن كعب ، وسالم مولى أبي حذيفة ، وعبد الله بن مسعود ، وأبوموسى الأشعري ، وعبد الله بن الزبير ، وأبو زيد ، ومعاذ بن جبل ، وغيرهم . وزعم بعض الكتبة أن المراد بالجمع هنا الحفظ ، ولكنا لا نوافق على قولهم هذا لأن عليًا حمل ما جمعه على ظهر ناقته وجاء به إلى الصحابة ، وسمّى الناس ما جمعه أبو موسى "لباب القلوب" ، وحرق عثمان ما جمعه أبيّ ، وأبى عبد الله بن مسعود أن يقدم ما جمع من القرآن إلى عامل عثمان بالعراق ، ويلزم على هذا أن ما جمعوه كان مخطوطًا في مصاحف . وكان كل مصحف من هذه المصاحف مصحفًا خاصًا بصاحبه جمع فيه ما عثر عليه من السور والآيات ، أما المصحف الذي كتبه زيد بن ثابت لأبي بكر الصديق فكان أيضًا في رأي المستشرقين مصحفًا خاصًا لا رسميًا كما زعم بعضهم . وكانت هذه المصاحف يختلف بعضها عن بعض لأن كل نسخة منها اشتملت على ما جمعه صاحبها وما جمعه واحد لم يتفق حرفيًا مع ما جمعه الآخرون ))

قلتُ: هناك روايات كثيرة عن من جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والجمع فيها يعني الحفظ . وهذه الروايات غير الروايات التي تحكي عن جمع القرآن في مصاحف أبيّ بن كعب وابن مسعود وغيرهما . وبصرف النظر عن صحة هذه الروايات من عدمها فإن التمييز بينها مهم لرفع الالتباس الذي وقع فيه جيفري ؛ فالرجل ظنّ أن روايات حفظ القرآن كله بواسطة بعض الصحابة هي من جنس الروايات التي تذكر مصاحف بعض الصحابة لاشتراكها في لفظة الجمع ، فحسب أن تفسير الجمع في الروايات بالحفظ زعمًا خاطئًا لـ"بعض الكتبة" ! ومن الطريف أن بين هؤلاء "الكتبة" قدوته الكبرى نولدكه وتلميذه شفالي اللذين يتبعان طريقة "أهل التنقيب" ؛ ففي كتاب تاريخ القرآن لنولدكه – في الجزء الذي قام شفالي بتحريره – ص241: (( إن عبارة جمعوا القرآن ، تعني جمعوه من الذاكرة ، أي حفظوه ، ولا تعني الكتابة أبدًا )) وهذا في سياق الحديث عن روايات جمع بعض الصحابة للقرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم . ثم في فصلٍ تالٍ يتناول نولدكه – أو شفالي – جمع القرآن على أيدي بعض الصحابة في مصاحفهم الخاصة ، مما يفيد أنه كان يميز بين الجمع بمعنى الحفظ في الصدور ، والجمع بمعنى الكتابة في السطور . وهذا يعني أن نولدكه وشفالي قد حرّرا هذه المسألة أفضل من جيفري ، وأن كلام جيفري هنا يدل على أنه لم يقرأ كتاب (تاريخ القرآن) أو لم يطالع هذه المسألة فيه ، وهنا يبرز السؤال: على أي أساسٍ ذكر ما ذكره عن عدم موافقة المستشرقين لزعم "بعض الكتبة" ؟!

ثم يقول جيفري: (( أما المصحف الذي كتبه زيد بن ثابت لأبي بكر الصديق فكان أيضًا في رأي المستشرقين مصحفًا خاصًا لا رسميًا كما زعم بعضهم )) ، وهو قولٌ لا يستقيم ألبته !
فإن أبا بكر رضي الله عنه لو أراد مصحفًا شخصيًا لكتبه بنفسه كما فعل غيره من الصحابة . وإن كان يريد من زيد بن ثابت رضي الله عنه أن يكتب له هذا المصحف كما يستأجر الرجل كاتبًا يكتب له ، لطلب منه أن ينسخه من مصحفه الشخصي مباشرةً – وقد كان لزيد مصحفٌ – أو يمليه عليه من حفظه لا أن يتتبعه من العسب واللخاف وصدور الرجال . ثم إن زيدًا كان الكاتب الرسمي للوحي في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان هذا من مسوغات تعيينه في هذه المهمة كما في الحديث "وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم" ، فتكليفه بجمع القرآن من خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الحالة هو تكليفٌ رسميٌ وليس طلبًا شخصيًا . ويظهر لنا بجلاء أن التعامل مع أبي بكر رضي الله عنه في هذه الواقعة كان تعاملاً مع رأس الدولة وخليفة المسلمين لا مجرد تعاملٍ شخصيٍ حين لجأ إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وألحّ عليه في جمع القرآن ، فلو كان الأمر يقوم به فردٌ لأجل نفسه أو لأجل نسخةٍ شخصيةٍ له لفعلها عمر رضي الله عنه دون أن يلجأ إلى خليفة المسلمين ويلحّ عليه في الطلب ، أليس كذلك ؟! ثم تأمل في وصف زيد رضي الله عنه لهذه المهمة بأنها "تكليفٌ" و"أمرٌ" في قوله "فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن" ، فهذه مهمةٌ رسميةٌ كلفوا بها زيدًا وأمروه بها وليست طلبًا شخصيًا من خليلٍ لخليله . ثم إن نسخة المصحف الذي جمعوه كانت عند أبي بكر رضي الله عنه ، وعندما توفي انتقل إلى عمر رضي الله عنه مما يدل على أنه لم يكن مصحفًا شخصيًا لأبي بكر وإلا انتقل لورثته لا إلى خليفته . فهذه جملة من الأدلة على كون مصحف أبي بكر مصحفًا رسميًا كُتب بأمر خليفة المسلمين وحُفظ تحت عنايته المباشرة بصفته السيادية الرسمية .

ثم يقول جيفري عن مصاحف الصحابة: (( وكانت هذه المصاحف يختلف بعضها عن بعض لأن كل نسخة منها اشتملت على ما جمعه صاحبها وما جمعه واحد لم يتفق حرفيًا مع ما جمعه الآخرون )) وهذا الكلام صحيحٌ لأن هذه المصاحف الفردية وقع فيها الاختلاف تبعًا لاختلاف القراءة حسب الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن ، ثم إنها اشتملت على ما يحفظه أصحابها فقط دون غيره ، وقد يكتب فيها المنسوخ الذي لم يبلغه أنه قد نُسخ ، فضلاً عن هذا فهم كانوا يضيفون إليها ما حفظوه من الأدعية والتفسير ، كسورتي الحفد والخلع في مصحف أبيّ بن كعب وهما ليسا قرآنًا أصلاً ولم يقل أبيّ إنهما قرآن ، بل كانا من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الذي حفظه أبيّ رضي الله عنه وأثبته في مصحفه . وكذلك إضافة التفسير في مصاحفهم الشخصية مختلطًا بالآيات ؛ لأنه لم يكن في أيامهم فواصل ولا علامات ترقيم ولا وضع الزيادات بين قوسين ولا غيرها مما يميز المتن عن حواشيه . فهذه جملة من أسباب اختلاف مصاحف الصحابة .
وبالجملة فإن مصاحف الصحابة ليست بحجة أصلاً لاختلاط القرآن فيها بغيره ، وعدم مراعاة الاحتياط في كتابتها ، فلا يُقام لها وزنٌ في مراحل حفظ القرآن ولا جمعه ، بل كان وجودها هامشيًا حتى إنها لم تُراعى ولم يُرجع إليها في جمع عثمان للقرآن في المصحف الإمام كما سنرى .
نعم ، قد يقول جيفري – وقد فعل كما سيأتي - إننا بحاجة إليها لنتعرف إلى القراءات التي نسخها مصحف عثمان – على أحد قولي العلماء – لكن تبرز هنا مشكلة: ما أدرانا أن ما نراه هو قراءةٌ قديمةٌ كانت موجودةً أيام النبي صلى الله عليه وسلم وليس من التفسير الملحق بالآيات أو نتاج خطأ كتابيّ من الصحابي ؟ وكيف سنقرأ هذه المصاحف عديمة التنقيط والتشكيل ونميز ما يوافق فيها المصاحف العثمانية مما يخالفها ؟ كيف سنجزم أم سندور في دائرة الظن والتخمين التي يدور فيها علماء أهل الكتاب ؟ ثم ما هي الفائدة العملية من مثل هذا الفعل خاصةً في ظل الجمع المثالي للقرآن على يد عثمان رضي الله عنه باعتراف المستشرقين أنفسهم كما سيأتي إن شاء الله ؟ لا توجد فائدة عملية مطلقًا إلا التشويش والتشغيب . لهذا كان حرق هذه النسخ الشخصية غير السالمة من العيوب والأخطاء أفضل شيء فعله عثمان رضي الله عنه ، كما قامت الحكومة المصرية في إحدى السنوات بحرق العديد من نسخ المصاحف المطبوعة المشتملة على أخطاء مطبعية .
 
بارك الله بالدكتور هشام وأعظم أجره على هذه المنافحة لدين الله تعالى وكلامه العظيم وجزاه عن الإسلام كل خير. وأرجو إن يسمح لي أن أضيف هذه النقطة:
لو كان آرثر يعرف شيئاً عن تدوين الحديث وعلم الجرح والتعديل والدقة المتناهية التي اعتمدها أهل الحديث في قبول الحديث ورده .
لما استغرب من الدقة التي لا تحتمل الخطأ في تدوين القرآن وجمعه ونسخه. والقرآن أهم وأعظم وأجل من أن يُقصّر أحد فيه . ويبدو أن آرثر أيضاً يقارن فطنته القاصرة بفطنة وفصاحة العرب وقدرتهم على التمييز بين المنقط وغير المنقط ويقارنها بنفسه الأعجميّة التي لا تكاد تستسيغ الكلام العربي ولهجة العرب الفصيحة. ولذلك فإنه يقع بما يقع فيه ويهرف كثيراً بما لا يعرف بسبب قصره وعدم فهمه للنصوص وحسن قرائتها.
 
الحلقة الخامسة (ص 6 مقدمة جيفري)

الحلقة الخامسة (ص 6 مقدمة جيفري)

يقول جيفري مبينًا النتيجة الثالثة لأبحاث المستشرقين ص6: (( أخذ مصاحف الصحابة مقامًا يعتد به في الأمصار – لما نشأت الأمصار الإسلامية بعد فتح الشام والعراق كان كل فريق من الناس إلى نسخة من القرآن الذي هو أصل دينهم وحكمهم وعاداتهم الإجتماعية ، فاتفق أهل الكوفة على مصحف ابن مسعود ، وأهل البصرة على مصحف أبي موسى الأشعري ، وأهل دمشق على مصحف المقداد بن الأسود ، وأهل الشام على مصحف أبيّ بن كعب . وكانت هذه المصاحف يخالف بعضها بعضًا ، ولما اجتمع أهل العراق وأهل الشام ليغزوا مرج أذربيجان كانوا يتنازعون في القراآت حتى أنكر بعضهم على بعض ما كان يقرأه من غير مصحفه زاعمًا إنه ليس من القرآن ، فنشأ عن ذلك الجدل والنزاع ، وكان كل هذا من تمسك كل منهم بالمصحف المقروء في مصره ))

قلتُ: هذا الكلام من جيفري يفتقر إلى الدقة ؛ فإن الداخلين في الإسلام أقبلوا فعلاً على القرآن وتعلمه وحفظه ، لكن لم يكن هذا عن طريق المصاحف المكتوبة بأيدي الصحابة ، بل كان من أفواه الصحابة الحافظين . فإن الفضل والثواب كان في قراءة القرآن والصلاة به وحفظه شفاهة ، وليس في الاحتفاظ بالمصاحف المكتوبة كما في الأحاديث الكثيرة في فضائل القرآن كحديث "زينوا القرآن بأصواتكم" ، وحديث "ليس منّا من لم يتغنَّ بالقرآن" ، وحديث "الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة ، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاقٌ له أجران" ، وحديث "من آتاه الله القرآن فقام به آناء الليل وآناء النهار ، وعمل بما فيه ، ومات على الطاعة ، بعثه الله يوم القيامة مع السفرة والأحكام" ، وحديث "مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجه طعمها طيب وريحها طيب ..." ، وحديث "خيركم من تعلّم القرآن وعلّمه" ، وحديث "أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله عز وجل خيرٌ له من ناقتين ، وثلاثٌ خيرٌ له من ثلاثٍ ، وأربعٌ خيرٌ من أربعٍ ، ومن أعدادهن من الإبل" ، وحديث "يُقال لصاحب القرآن اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها" ، وحديث "من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين ، ومن قام بمائة آية كُتب من القانتين ، ومن قام بألف آية كُتب من المقنطرين" والآحاديث في معنى هذا الباب كثيرةٌ جدًا ، وفيما ذكرناه كفاية إن شاء الله .

فواقع الأمر أن ما تلقاه القراء والحفاظ من الصحابة كان شفهيًا لا مصاحف مكتوبة ، وقد اختلفت القراءات بين الصحابة تبعًا لاختلاف أوجه القراءة حسب الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن ؛ ففي الحديث "أنزل القرآن على سبعة أحرف" ، وهو حديث صحيحٌ متواترٌ ، فإلى هذا يعود الاختلاف في القراءة بين الصحابة في الأمصار وليس إلى اختلافاتٍ كتابيةٍ في المصاحف . ولو كان الاختلاف في الكتابة لما تنازع أهل الشام وأهل العراق ؛ لأن النزاع لو كان كتابيًا لكان من العسير كشفه إلا بمقارنة نسخ المصاحف سطرًا سطرًا وكلمةً كلمةً وحرفًا حرفًا ، وهذا لا يكون في ساحات المعارك والقتال ، بل يقع النزاع عند تلاوة القرآن الذي يحفظه كل قاريء في صدره .

وهذا النزاع بسبب الجهل بوجوه القراءات كان يقع في حياة النبي صلى الله عليه وسلم بين الصحابة ، وكانوا يرجعون إليه فيرفع الإشكال . أما في عهد عثمان رضي الله عنه وجب أن يرجع المتنازعين إلى مرجعٍ ثابتٍ يرفع الإشكال ويفض النزاع ، لهذا لزم أن يضع أمير المؤمنين للناس مصحفًا إمامًا يقتدون به ويرجعون إليه عند الاختلاف . حيث أنه لا يوجد واحدٌ بين الصحابة أحاط بوجوه القراءات كلها بحيث يصلح كحاكمٍ بين المتنازعين كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم . فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هو الوحيد الذي أحاط بكل وجوه القراءات لأنها نزلت عليه جميعًا ، بخلاف من دونه من الصحابة الذين جمعوا القرآن كلٌ على وجهٍ أو وجهين أو ثلاثة ، ولا تجد بينهم من أحاط بها جميعًا على سبيل الحصر . لهذا لم يصلح أن يرجع المتنازعين بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم لواحدٍ من الصحابة ، فكان السبيل الوحيد هو المصحف الإمام الذي يجمع كل الوجوه الصحيحة الثابتة ويُقصي ما سواها مما لم يثبت أو نسخ ، فيكون به فضّ النزاعات وحل الإشكالات ورفع الخلافات .

ومن الأدلة على أن مثل هذا النزاع كان يقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ما وقع بين عمر بن الخطاب وهشام بن حكيم رضي الله عنهما كما في البخاري ومسلم "حَدَّثَنَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍالْقَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِي اللَّهم عَنْهم يَقُولُ سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَؤُهَا وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْرَأَنِيهَا وَكِدْتُ أَنْ أَعْجَلَ عَلَيْهِ ثُمَّ أَمْهَلْتُهُ حَتَّى انْصَرَفَ ثُمَّ لَبَّبْتُهُ بِرِدَائِهِ فَجِئْتُ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَأْتَنِيهَا فَقَالَ لِي أَرْسِلْهُ ثُمَّ قَالَ لَهُ اقْرَأْ فَقَرَأَ قَالَ هَكَذَا أُنْزِلَتْ ثُمَّ قَالَ لِي اقْرَأْ فَقَرَأْتُ فَقَالَ هَكَذَا أُنْزِلَتْ إِنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فَاقْرَءُوا مِنْهُ مَا تَيَسَّرَ"
وكذلك ما وقع مع أبيّ بن كعب رضي الله عنه كما في صحيح مسلم "عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ كُنْتُ فِي الْمَسْجِدِ فَدَخَلَ رَجُلٌ يُصَلِّي فَقَرَأَ قِرَاءَةً أَنْكَرْتُهَا عَلَيْهِ ثُمَّ دَخَلَ آخَرُ فَقَرَأَ قِرَاءَةً سِوَى قَرَاءَةِ صَاحِبِهِ فَلَمَّا قَضَيْنَا الصَّلَاةَ دَخَلْنَا جَمِيعًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ إِنَّ هَذَا قَرَأَ قِرَاءَةً أَنْكَرْتُهَا عَلَيْهِ وَدَخَلَ آخَرُ فَقَرَأَ سِوَى قِرَاءَةِ صَاحِبِهِ فَأَمَرَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَا فَحَسَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَأْنَهُمَا فَسَقَطَ فِي نَفْسِي مِنَ التَّكْذِيبِ وَلَا إِذْ كُنْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَدْ غَشِيَنِي ضَرَبَ فِي صَدْرِي فَفِضْتُ عَرَقًا وَكَأَنَّمَا أَنْظُرُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَرَقًا فَقَالَ لِي يَا أُبَيُّ أُرْسِلَ إِلَيَّ أَنِ اقْرَأِ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ فَرَدَدْتُ إِلَيْهِ أَنْ هَوِّنْ عَلَى أُمَّتِي فَرَدَّ إِلَيَّ الثَّانِيَةَ اقْرَأْهُ عَلَى حَرْفَيْنِ فَرَدَدْتُ إِلَيْهِ أَنْ هَوِّنْ عَلَى أُمَّتِي فَرَدَّ إِلَيَّ الثَّالِثَةَ اقْرَأْهُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فَلَكَ بِكُلِّ رَدَّةٍ رَدَدْتُكَهَا مَسْأَلَةٌ تَسْأَلُنِيهَا فَقُلْتُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأُمَّتِي اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأُمَّتِي وَأَخَّرْتُ الثَّالِثَةَ لِيَوْمٍ يَرْغَبُ إِلَيَّ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ حَتَّى إِبْرَاهِيمُ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" .

فهذه أدلة على أن النزاع كان يقع بسبب الجهل بوجوه القراءات بين الصحابة رضي الله عنه وأنهم كانوا يرجعون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحكم بينهم . وفي هذا دليلٌ على شدة حرصهم على سلامة القرآن ودقة ألفاظه ؛ لأن اختلافات القراءات كانت في معظمها طفيفة في حركةٍ أو حرفٍ أو كلمةٍ على الغالب ، فاهتياجهم لاختلافاتٍ من هذا القبيل علامةٌ على شدة تحريهم للدقة والإحكام في تلاوة القرآن وحفظه وضبطه وحراسة ألفاظه . وكانت هذه هي عادة هذه الأمة إلى يومنا هذا ، فلا يخطيء قاريء في حرف أو حركة أو كلمة حتى ينبري لتصحيحه أطفال الكتاتيب قبل سواهم ، والحكايات في هذا أكثر من أن تُحصى .
 
جزاكم الله خيراً على هذه النفائس المنثورة، وقد استوقفتني نقاط في كلام الدكتور آرثر:
1- قوله
القرآن الذي هو أصل دينهم وحكمهم وعاداتهم الإجتماعية
ما مراده أحسن الله إليكم بكون القرآن أصلاً للعادات الاجتماعية؟
2-
فاتفق أهل الكوفة على مصحف ابن مسعود ، وأهل البصرة على مصحف أبي موسى الأشعري ، وأهل دمشق على مصحف المقداد بن الأسود ، وأهل الشام على مصحف أبيّ بن كعب
ما حقيقة هذه الاتفاقات؟ هذا أولاً، وهل معنى ذلك أن أحداً لم يكن يخالف قراءة ابن مسعود في الكوفة وهكذا بقية المصاحف؟
3-
وكانت هذه المصاحف يخالف بعضها بعضًا
ما نوع المخالفة؟
4-
فنشأ عن ذلك الجدل والنزاع
حول أي أمر نشأ الجدال والنزاع المشار إليه في حديث حذيفة في فتح أذربيجان؟ هل هو حول إنكار بعضهم بعض القراءات؟
هذه نقاط أرجو أن يجد شيخنا الكريم من وقته متسعاً لتجليتها، وفقكم الله وبارك فيكم.
 
قرأتُ كل ما تقدم الآن قراءة متأنية، وقد استفدت كثيراً مما سطره أخي الدكتور هشام عزمي وفقه الله، ومن تعقيبات الزملاء الفضلاء على هذه القراءة النقدية المميزة، وأشكر أخي الدكتور حاتم القرشي على رعايته الكريمة لهذا المشروع ومتابعته، وبوادر نجاحه ظاهرة من أول حلقة ولله الحمد .
ولي بعض المقترحات لأخي الدكتور هشام عزمي حفظه الله إن رأى مناسبتها أو عدمها فالأمر بين يديه :
أولاً : ليتكم لخصتم في أقل من صفحة واحدة ما اشتملت عليه مقدمة آرثر جفري ، وما أبرز الشبهات التي أثارها ، حتى يعلم قيمة الكتاب وسبب اختياره للنقد ضمن هذا المشروع الموفق .
ثانياً : أثر هذه الشبهات التي بثها في كتب من بعده من المستشرقين والمسلمين باختصار أيضاً .
ثالثاً : تجنب بعض العبارات الساخرة والقاسية ولو كانت صادقة رغبة في عدم استثارة القارئ المحايد .
رابعاً : تحديد الشريحة المستهدفة من هذا النقد ، هل هي المسلمون وطلاب العلم فيهم ، أم غير المسلمين لتوضيح الحق لهم وما وقع فيه علماؤهم من أخطاء أم غير هاتين الشريحتين . ولكل شريحة منهج يناسبها في الخطاب لا يخفى عليكم ، وهذا ما ينبغي أن يحرر في علم الانتصار للقرآن الكريم من شبهات خصومه، فنحن كثيراً ما نكتب بخطاب يصلح للمسلمين ونوجهه لغير المسلمين فنستدل عليهم بصحيح البخاري وغيره وهم لا يؤمنون .
خامساً : بيان بالدراسات السابقة التي تصدت لمناقشة هذه المقدمة وما فيها من شبهات.

أسأل الله أن يسدد أقوالكم ويوفقكم لخدمة كتابه والذب عن الحق والهدى والصواب ، وقد استفدت ولا زلت من هذا النقد فجزاكم الله خيراً وكل من ساهم وشارك في هذا المشروع العلمي المبارك ، الذي أرجو أن يثمر كتباً ومشروعات أخرى نافعة بإذن الله .
 
بارك الله فيك أخي الفاضل محمود البعداني ، ما ذكره جيفري بخصوص كون القرآن أصل العادات الإجتماعية إنما قصد أن القرآن هو مرجع المسلمين في أمور دينهم ودنياهم ، لكن ربما أساء التعبير والله أعلم . أما اتفاقات أهل الأمصار على مصاحف الصحابة فليس لي علمٌ بحقيقتها يا أخي ، فلو تساعدوني في هذه النقطة أكن شاكرًا لكم بارك الله فيكم وفي علمكم . أما النقطتان الثالثة والرابعة في كلامكم فقد تناولتها فعلاً وفيها تفصيل أكثر عند الكلام عن جمع عثمان رضي الله عنه للقرآن ونسخ مصاحف الأمصار إن شاء الله .
 
شيخنا الفاضل الجليل عبد الرحمن الشهري ، جزاكم الله خيرًا على نصائحكم القيمة وسوف أسير على خطاها إن شاء الله . فبخصوص النقطتين الأولى والأخيرة فسأسعى لتحرير ما طلبتم إن شاء الله تعالى بعد نهاية النقد وربما قبل ذلك حسب الظروف ، والله المستعان . أما تتبع شبهات جيفري في سائر كتابات المستشرقين والمسلمين فهو يتجاوز نطاق هذا النقد من وجهة نظري ، ولقد حرصت من البداية ألا أفعل ذلك في أي نقطة من نقاط النقد حتى لا أكون ملزمًا به في سائر القضايا والشبهات فيطول البحث جدًا ويصير عبئًا مرهقًا على كاتبه . أما بخصوص أي سوء تعبير أو سخرية أو قسوة فالأمر يسيرٌ إن شاء الله ، فما أكتبه إنما هو مجرد مادة خام يمكنكم بعدها تهذيبها وتنسيقها وتعديلها كما تشاؤون ، وأنتم أهل العلم وأهل القرآن ، وما أنا إلا متطفلٌ على موائدكم .
أما عن الفئة التي يتوجه لها الخطاب فهي الباحث المحايد ، وجيفري يستعرض وجهة نظر المسلمين ثم يتبعها بوجهة نظر المستشرقين ، فعندما يخطيء في كلامه عن وجهة نظر علماء المسلمين أبين خطأه بالأدلة التي يتبعها المسلمون ومن أقوالهم وكلامهم ، أما عند الكلام عن آراء المستشرقين - أو آرائه - فالسجال يكون عقليًا ، ولا أستدل إلا بنص استخدمه جيفري نفسه لأبين أن دليله على دعواه يخالفه ويخذله ولا يؤيده ، فإن كان ثمة تقصير أو خطأ فأرجو التنبيه عليه ، فما أنا إلا تلميذٌ صغيرٌ تحت إشرافكم .
 
أشكر د. هشام عزمي على اهتمامه بهذا الموضوع ومتابعته الجادة له رغم الأحداث الكبيرة في مصر الحبيبة.. كتب الله أجرك يا د. هشام، وننتظر باقي النقد بشوق، فقد أبدعت وأجدت وفقك الله .
 
الحلقة السادسة (ص 6-7 مقدمة جيفري)

الحلقة السادسة (ص 6-7 مقدمة جيفري)

ثم ينتقل جيفري للنتيجة الرابعة ص6-7: (( جمع عثمان الناس على حرف واحد – روى أن حذيفة بن اليمان كان مع الجنود في فتح أذربيجان وسمع ما كان بين الناس من الجدل والنزاع في قراءآتهم فركب إلى عثمان بن عفان وقال له يا أمير المؤمنين أدرك هذا القوم قبل أن يختلفوا في القرآن اختلاف اليهود والنصارى ، فوقف عثمان بين الناس وقال ، من بيده شيء من كتاب الله فليأت به ، فأتوا بما عندهم على عسب وأكتاف وأوراق وصحف وما عدا ذلك ، وأرسل إلى زيد بن ثابت وأعد له رهطًا من أهل قريش وأمرهم بأن يجمعوا القرآن في مصحف ، فجمعوا القرآن من الصحف وشقف مخطوطة ون صدور الناس ، وكانوا لا يتقبلون شيئًا إلا إذا شهد له شاهدان ، وقيل إن عثمان أرسل إلى حفصة أن ترسل إليه الصحف التي نسخها زيد بن ثابت بأمر أبي بكر الصديق فكانت هذه الصحف مصدر نص مصحف عثمان الجديد ، ولما فرغوا من جمع هذا المصحف وكتابته جعلوه مصحفًا رسميًا ، وبعث عثمان بنسخ منه إلى الأمصار وأمر بإحراق ما عداها من صحف أو مصاحف . وزعم بعض العلماء أن عثمان إنما أخذ من حفصة النص الرسمي الذي كتبه زيد بن ثابت لأبي بكر ونسخ هذا النص الرسمي بلغة قريش لأن العرب كانوا يقرءون القرآن بلغات مختلفة ، وقال آخرون أن عثمان إنما أتم ما ابتدأ به عمر بن الخطاب من جمع القرآن ، ونحن نرتاب ونشك في هذين الرأيين لأن ما أدى إليه بحثنا في أحاديث جمع القرآن هو أن اختلاف مصاحف الأمصار كان سببًا في أن عثمان أمر زيد بن ثابت بتأليف ما في أيدي أهل المدينة من القرآن لا على أن يكون هذا الجمع والتأليف مصحفًا لأهل المدينة فقط كما كانت نسخة ابن مسعود مصحفًا لأهل الكوفة ونسخة أبي موسى مصحفًا لأهل البصرة بل جمعه ليكون المصحف الرسمي لجميع أمصار الإسلام ))

قلتُ: في عام خمس وعشرين اجتمع أهل الشام والعراق على غزو أرمينية وأذربيجان حيث جاشت الروم فطلب أهل الشام مددًا من عثمان رضي الله عنه فأمدهم بثمانية آلاف من العراق ، وكان أهل الشام يقرءون بقراءة أبيّ بن كعب وأهل العراق بقراءة عبد الله بن مسعود ، فاختلفوا وتنازعوا حتى خطّأ بعضهم بعضًا وكفّر بعضهم بعضًا وكادت تكون فتنة عظيمة !
عن ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حَدَّثَهُ أَنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ قَدِمَ عَلَى عُثْمَانَ، وَكَانَ يُغَازِي أَهْلَ الشَّأْمِ فِي فَتْحِ أَرْمِينِيَةَ وَأَذْرَبِيجَانَ مَعَ أَهْلِ الْعِرَاقِ، فَأَفْزَعَ حُذَيْفَةَ اخْتِلاَفُهُمْ فِي الْقِرَاءةِ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ لِعُثْمَانَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَدْرِكْ هَذِهِ الأُمَّةَ قَبْلَ أَنْ يَخْتَلِفُوا فِي الْكِتَابِ اخْتِلاَفَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى (1).
وهذا الخلاف من جنس خلاف الصحابة حول القراءة على الأحرف السبعة ، لكن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يرجعون لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيفصل في خلافهم ونزاعهم ، أما بعد موته صلى الله عليه وسلم فكان الأمر يحتاج إلى تدخل حاسم على مستوى أمير المؤمنين في ذلك الوقت عثمان بن عفان رضي الله عنه . وواقع الأمر أن عثمان رضي الله عنه كان مدركًا لوقوع هذه المشكلة عنده في المدينة .
فعن عليِّ بنِ أبي طالبٍ أنَّ عثمان قال: فقد بلغني أن بعضهم يقول: إن قراءتي خيرٌ من قراءتك، وهذا يكاد أن يكون كُفْرًا. قلنا: فماذا ترى؟ قال: نرى أن نجمع الناس على مصحفٍ واحدٍ، فلا تكون فرقةٌ، ولا يكون اختلافٌ. قلنا: فنعم ما رأيت (2).
وعن أبي قلابة قال: لَمَّا كان في خلافة عثمان، جعل الْمعلِّم يُعلِّم قراءةَ الرَّجل، والمعلِّم يُعلِّم قراءةَ الرَّجل، فجعل الغلمان يلتقون فيختلفون، حتى ارتفع ذلك إلى المعلِّمين، قال: حتى كَفَر بعضهم بقراءة بعضٍ، فبلغ ذلك عثمان، فقام خطيبًا، فقال: أنتم عندي تختلفون وتلحنون، فمن نأى عني من الأمصار أشدُّ فيه اختلافًا ولحنًا. اجتمعوا يا أصحاب محمدٍ، فاكتبوا للناس إمامًا (3).

مما سبق يتضح أن الرغبة في كتابة مصحفٍ يكون إمامًا للناس يرجعون إليه عند النزاع ويحتكمون إليه عند الاختلاف كانت تضطرم في نفس عثمان رضي الله عنه ، وقد بثّها للمقربين إليه مثل عليّ بن أبي طالب ، وجهر بها أمام الناس كما يتضح من هرع حذيفة بن اليمان رضي الله عنه إليه طالبًا تفعيل هذه الرغبة وإخراجها إلى حيز التنفيذ بعد أن صارت الحاجة إليها مُلحّةً وضروريةً . حتى هذا القدر لا يخالفنا جيفري ولا غيره من المستشرقين في رواية الدافع الذي أدى بعثمان رضي الله عنه إلى جمع القرآن الكريم ، أما كيفية هذا الجمع فجيفري يستعرض أمامنا سيناريو يقوم فيه زيد بن ثابت رضي الله عنه مع لجنة الجمع بجمع القرآن ((من الصحف ، ومن شقف مخطوطة ، ومن صدور الناس ، وكانوا لا يتقبلون شيئًا إلا إذا شهد له شاهدان)) ، وسيناريو آخر يذكره بصيغة التمريض والتضعيف أن ((عثمان أرسل إلى حفصة أن ترسل إليه الصحف التي نسحها زيد بن ثابت بأمر أبي بكر الصديق فكانت هذه الصحف مصدر نص مصحف عثمان الجديد)) . والسيناريو الأول عن جمع مصحف عثمان من الصحف والشقف وصدور الناس خاطيء تمامًا ، وهو بكل تأكيد خلطٌ بين جمع أبي بكر وجمع عثمان رضي الله عنهما ؛ لأن الجمع الأول لأبي بكر هو الذي ورد فيه جمع القرآن من العسب واللخاف وصدور الرجال وكان لا يقبل شيئًا إلا بشهادة اثنين ، أما الجمع الثاني لعثمان فما ورد فيه هو نسخ مصحف أبي بكر في المصاحف الجديدة . ورواية الجمع بتمامها - التي ذكر جيفري صدرها ولم يكملها – هي كالآتي:
حدثنا موسى حدثنا إبراهيم حدثنا ابن شهاب أن أنس بن مالك حدثه أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشأم في فتح إرمينية وأذربيجان مع أهل العراق فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة فقال حذيفة لعثمان يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك فأرسلت بها حفصة إلى عثمان فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق (4).

فهذا بيانٌ واضحٌ بما في رواية جمع القرآن على يد عثمان رضي الله عنه ، وهذه الرواية على موثوقيتها وحجيتها الحاسمة بين المسلمين فهي أيضًا كذلك بين المستشرقين الذين ينتسب إليهم جيفري ؛ ففي كتاب (تاريخ القرآن) لنولدكه وشفالي: ((يقال إن مروان بن الحكم أتلف مصحف حفصة أثناء ولايته على المدينة – سنة 45 أو 47 للهجرة ، لأنه ظن أنه يتضمن قراءات تختلف عن مصحف عثمان . لكن هذا الخبر موضع شك ، إذ لا يمكن الجمع بين الدافع المذكور وكون مصحف عثمان نسخة عن ذاك المصحف)) ص338 . فها هو نولدكه يشكك في إحدى الروايات لمخالفتها – من وجهة نظره – لكون مصحف عثمان منسوخًا من مصحف أبي بكر ؛ فهو جعل قضية نسخ عثمان لمصحف أبي بكر مسألةً راسخةً مرجعيةً يقبل ويرد سائر الأخبار على أساسها . كذلك المستشرق الفرنسي ريجيس بلاشير Regis Blachere يقول: ((وإذا كان عثمان ، كما تصوره الرواية ، قد اعتمد على مصحف أبي بكر فلم يكن ذلك مصادفة بل حسبة سياسية ، إذ لابد أنه وأعضاء اللجنة قد شعروا بأنه ما من مصحف غير مصحف أبي بكر الذي نال رضا عمر يمكنه أن يزيح المصاحف الأخرى التي ليست لها أهمية . وقد يضاف إلى هذا الاعتبار اعتبار ثان ذو نتائج أخطر ، ففي خلافة عثمان أخذت معارضة علي وأنصاره تتبلور ، وكان لهذه المجموعة أيضًا مصحفها الذي كتبه عليٌّ لنفسه . ولكي يتخلص عثمان واللجنة التي عيّنها من هذا المصحف فإنهم أرادو أن يظهروا بمظهر الورثة الحقيقيين ، وذلك باعتمادهم في كتابة مصحفهم على مصحف أبي بكر))(5) ، فها هو بلاشير كذلك يُسَلِّّم بنسخ عثمان مصاحفه من مصحف أبي بكر ، بل وراح ينسج خياله السيناريوهات والدوافع والأسباب لهذا بحسب ما تصوّر له أوهامه ! كذلك المستشرق الإنجليزي كانون سل Canon Sell يقول: ((رغم أن الجمع الذي تم بتوجيه أبي بكر كان لغرض شخصي ولا ينبغي أن نعول عليه كثيرًا ، إلا أن أهميته البالغة تنبع من كونه الأساس للجمع المعتمد من قِبَل الخليفة عثمان))(6).
فها هو سل كذلك يرى أن الأهمية الوحيدة لجمع أبي بكر رضي الله عنه هي في كونه المصدر الذي نسخ منه عثمان رضي الله عنه المصاحف . فهؤلاء ثلاثة نفر من المستشرقين من جنسيات مختلفة - على رأسهم نولدكه قدوة جيفري - يقولون إن مصدر جمع عثمان هو المصحف الذي جمعه أبو بكر ، فعلى أي أساس يشكك جيفري في هذا الأمر ؟

في الحقيقة بعد أن بان لي أن جيفري في هذا المذهب يخالف سائر المستشرقين رجعت إلى المقدمة الإنجليزية فوجدته يذكر في الهامش أن في كتاب المقنع للداني والمصاحف لابن أبي داود روايات تفيد أن جمع عثمان رضي الله عنه كان جمعًا من المخطوطات الأولية التي كتبت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم . وعندما رجعت للكتابين لم أجد في المقنع أية إشارة إلى مثل هذا الأمر ، بل صاحب الكتاب لا يذكر سوى الروايات التي تذكر بلا خلاف أن المصاحف نُسخت من مصحف أبي بكر بأمر عثمان رضي الله عنهما . أما كتاب المصاحف ففيه رواية عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قال: أراد عمر بن الخطاب أن يجمع القرآن فقام في الناس فقال: من كان تلقى من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا من القرآن فليأتنا به ، وكانوا كتبوا ذلك في الصحف والألواح والعسب ، وكان لا يقبل من أحد شيئًُا حتى يشهد شهيدان ، فقتل وهو يجمع ذلك ، فقام عثمان بن عفان فقال: من كان عنده من كتاب الله شيء فليأتنا به ، وكان لا يقبل من ذلك شيئًا حتى يشهد عليه شهيدان (7). فهذه الرواية قريبة لما قرره جيفري من كون عثمان رضي الله عنه جمع القرآن من الصحف والمخطوطات ومن صدور الناس وكان لا يقبل شيئًا إلا إذا شهد له شاهدان ، لكن جيفري ذكر أن هذا الجمع بهذه الكيفية كان من عمل زيد بن ثابت والرهط القرشيين . فهو أخذ من الرواية المعتمدة الموثوقة اختيار زيد بن ثابت والرهط القرشيين كما أخذ منها الدافع لجمع القرآن على يد عثمان رضي الله عنه ، ثم أخذ من هذه الرواية جمع القرآن من الصحف والمخطوطات وأنهم كانوا لا يقبلون شيئًا إلا بشهادة اثنين ، فلفّق رأيًا ممتزجًا من الروايتين ، ثم عاد ورفض سائر محتويات الروايتين من كون جمع عثمان كان استكمالاً لجمع عمر – حسب الرواية عند ابن أبي داود – ومن كون لجنة زيد بن ثابت كانت مهمتها نسخ مصحف أبي بكر في المصاحف - حسب الرواية المعتمدة الصحيحة .

فهكذا نشأ رأي جيفري الفريد الذي خالف فيه المسلمين والمستشرقين . أما المسلمون فسيردون عليه بأن الرواية عند ابن أبي داود منقطعة الإسناد لأن يحيى بن عبد الرحمن ولد في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه ، فهو لم يكن موجودًا أثناء جمع عمر ، ولم يكن في سنٍ مناسبٍ لإدراك جمع عثمان ، فضلأ عمّا فيها من متن منكر مخالف للأخبار المعتمدة الموثوقة المروية عن الذين شهدوا عهدي عمر وعثمان رضي الله عنهما وشهدوا جمع القرآن بكل مراحله مثل زيد بن ثابت وحذيفة بن اليمان وأنس بن مالك وعليّ بن أبي طالب ، فهل ندع شهادة هؤلاء الشهود العيان ونأخذ بقول يحيى بن عبد الرحمن الذي ما شهد ولا حضر ولا عاين ؟
أما المستشرقون فسيردون عليه بصورٍ مختلفةٍ ، فنولدكه مثلاً سيقول إن رواية يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب مخالفة لحقيقة أن مصحف عثمان كان نسخة من مصحف أبي بكر ، وسوف يردّها كما ردّ رواية إتلاف مروان بن الحكم للمصحف لدى حفصة رضي الله عنها . أما بلاشير فربما يقول إن مثل هذا الجمع من عثمان لن يكتسب القدسية الكافية لعدم اعتماده على مرجعية عليا - كمصحف أبي بكر الذي نال رضا عمر - تلغي دور المصاحف التي ليس لها أهمية لا سيما مصحف منافسه عليّ !
المهم أن آرثر جيفري في هذه المسألة يقف وحيدًا منفردًا مخالفًا للمسلمين والمستشرقين ، لكن وردت عند ابن أبي داود روايتان في أولهما أن عثمان رضي الله عنه قال: ((فأعزم على كل رجلٍ منكم ما كان معه من كتاب الله شيء لما جاء به ، فكان الرجل يجيء بالورقة والأديم فيه القرآن حتى جمع من ذلك كثرة ، ثم دخل عثمان فدعاهم رجلاً رجلاً فناشدهم لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أملاه عليك ؟ فيقول: نعم))(8) ، وفي الثانية أنه قال: ((عزمت على من عنده شيء من القرآن سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أتاني به ، فجعل الرجل يأتيه باللوح والكتف والعسب فيه الكتاب ، فمن أتاه بشيء قال: أنت سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟))(9) ، فخلاصة الروايتين أن عثمان جمع من الناس ما يحتفظون به من مخطوطات ومصاحف أملاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لكن ليس في أيهما جمع القرآن من الصحف ومن شقف مخطوطة ومن صدور الناس ، وأنهم كانوا لا يقبلون شيئًا إلا إذا شهد له شاهدان ! وذكر أبو شامة رحمه الله تعليل هذا بقوله: ((ويمكن أن يقال: إن عثمان طلب إحضار الرقاع ممن هي عنده وجمع منها وعارض بما جمعه أبو بكر ، أو نسخ مما جمعه أبو بكر وعارض بتلك الرقاع ، أو جمع بين النظر في الجميع حالة النسخ ، فعل كل ذلك أو بعضه استظهارًا ودفعًا لوهم من يتوهم خلاف الصواب ، وسدًّا لباب القالة: إن الصحف غيّرت أو زيد فيها ونقص))(10) . فالروايات التاريخية في حقيقة الأمر لا تنفي اعتماد جمع عثمان على الصحف والمخطوطات المكتوبة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، لكن موقف جيفري الرافض تمامًا لكون مصحف أبي بكر كان أساسًا لجمع عثمان هو المرفوض تاريخيًا حسب المسلمين وحسب المستشرقين على السواء .

(1) خرجه البخاري في صحيحه ، كتاب فضائل القرآن ، باب جمع القرآن ، حديث رقم 4702 .
(2) أخرجه ابن أبي داود ، كتاب المصاحف بتحقيق الدكتور محب الدين واعظ ، باب جمع عثمان رحمة الله عليه المصاحف ، حديث رقم75 ، ص204 .
(3) المصدر السابق ، حديث رقم 77 ، ص206 .
(4) صحيح البخاري ، سبق تخريجه .
(5) ترجمة د. إبراهيم عوض ، المستشرقون والقرآن – دراسة لترجمات نفر من المستشرقين الفرنسيين وآرائهم فيه ، مقال القرآن لريجيس بلاشير ، دار القاهرة 2003 ، ص161-162 والمصدر الأصلي Regis Blachere, Histoire de la litterature Arab, Librairie d'Amerique et d'Orient. Paris, 1964, vol. 2, p. 19 وفي الهامش يقول د. إبراهيم عوض تعليقًا على هذه الفقرة من كلام بلاشير :
هؤلاء المستشرقون يعكسون أخلاقهم وأخلاق زعمائهم السياسيين على المسلمين الأوائل في مسألة مقدسة كمسألة جمع القرآن . الأمر ببساطة أنه ليس من المعقول أن يعتمد الجمع الثاني على مصحف هذا الصحابي أو ذاك ، وهي مصاحف قصد بها الاستعمال الشخصي ولم تخضع لما خضع له مصحف أبي بكر من تدقيق شديد قام به مجموعة من الصحابة الذين اشتهروا بحفظهم التام للقرآن وإتقانهم الكتابة وغير ذلك من الصفات اللازمة للاضطلاع بهذه المهمة المقدسة . ونحن نعرف أن النسخة الشخصية لأي نص كثيرًا ما يصعب بل قد يستحيل قراءتها على غير صاحبها الذي ربما يكون قد أضاف إليها ما يراه مفيدًا من تعليقات وهوامش .
(6) The Rev. Canon Sell, The Recensions of the Qur'an, Christian Literature Society, London, Madras and Colombo, 1909, p. 8
Although the recension thus made under the direction of Abu Bakr was of the nature of private undertaking, and too much importance ought not to be attached to it, yet it was of great value as forming the basis for the authoritative recension of the Khalifa 'Uthman
(7) كتاب المصاحف ، حديث رقم 33 ، ص171-172 .
(8) المصدر السابق ، حديث رقم 82 ، ص208-209 .
(9) المصدر السابق ، حديث رقم 83 ، ص209 .
(10) أبو شامة المقدسي ، المرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالكتاب العزيز ، تحقيق طيار آلتي قولاج ، دار صادر بيروت ، ص76 .
 
تبقى في هذه الفقرة مسألة تحتاج لمعالجة دقيقة بعض الشيء وهي فرضية المصاحف المتنافسة rival Codices التي انتصر لها جيفري ولها حضورٌ واضحٌ في كثير من الكتابات الطاعنة في جمع القرآن .
 
تبقى في هذه الفقرة مسألة تحتاج لمعالجة دقيقة بعض الشيء وهي فرضية المصاحف المتنافسة rival Codices التي انتصر لها جيفري ولها حضورٌ واضحٌ في كثير من الكتابات الطاعنة في جمع القرآن .
جهد مميز بارك الله بك . وجزيت ألف خير
 
بخصوص قول جيفري ((ما أدى إليه بحثنا في أحاديث جمع القرآن هو أن اختلاف مصاحف الأمصار كان سببًا في أن عثمان أمر زيد بن ثابت بتأليف ما في أيدي أهل المدينة من القرآن لا على أن يكون هذا الجمع والتأليف مصحفًا لأهل المدينة فقط كما كانت نسخة ابن مسعود مصحفًا لأهل الكوفة ونسخة أبي موسى مصحفًا لأهل البصرة بل جمعه ليكون المصحف الرسمي لجميع أمصار الإسلام))
فمفهومه هو أن جيفري يرى أن المصحف العثماني كان ممثلاً لمصحف أهل المدينة الذي تم فرضه على سائر الأمصار من قبل الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه وإقصاء غيره من مصاحف الصحابة ، وهذا الرأي باطل من وجوه :
أولاً : اللجنة المكلفة من قبل الخليفة لم تقتصر عضويتها على أهل المدينة ، بل كانت نصفها من القرشيين وفيها يمنيّ هو مالك بن أبي عامر جد مالك بن أنس إمام دار الهجرة (ابن أبي داود ، كتاب المصاحف الأثر رقم 93 ص215) وقد ذكر ابن حجر أسماء تسعة منهم في فتح الباري (ابن حجر العسقلاني ، فتح الباري شرح صحيح البخاري ج9 ص22-23) ، وهم: عبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص عبد الله بن الحارث بن هشام وعبد الله بن عباس (من قريش) وزيد بن ثابت وأبيّ بن كعب وأنس بن مالك وكثير بن أفلح مولى أبي أيوب الأنصاري ومالك بن أبي عامر (من المدينة) . ولم يكن لزيد سلطة فوقية على بقية أفراد اللجنة والدليل على هذا هو قول عثمان رضي الله عنه لسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام وعبد الله بن الزبير : (ما اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت فاكتبوه بلسان قريش ..) . إضافة إلى هذا فإن اللجنة ضمت أبيّ بن كعب الذي ذكر جيفري أن مصحفه كان مصحف أهل الشام (آرثر جيفري ، المقدمة ص6) ، والدليل رواية ابن أبي داود في المصاحف عن كثير بن أفلح قال: (لما أراد عثمان أن يكتب المصاحف ، جمع له اثني عشر رجلاً من قريش والأنصار ، فيهم أبي بن كعب وزيد بن ثابت ...) (المصاحف ص22 ، وأورده الحافظ ابن كثير عن ابن أبي داود وقال: إسناده صحيح . فضائل القرآن ص42-43) ، فهاهو مصحف أهل الشام داخل في المصحف العثماني ولم يتم إقصاؤه .
ثانيًا : أنه لو كان غرض جمع عثمان هو الاقتصار على وجه واحد من وجوه القراءة وإقصاء ما عداها لما كان هناك مبرر لعمل اللجنة العثمانية من اختلاف الرسم في بعض المواضع في نسخ المصحف المتعددة التي تم إرسالها إلى الأمصار كما ذكر جيفري نفسه ص7 ؛ فهذا عملٌ لا يمكن تفسيره إلا في ضوء كون المصحف العثماني مستوعبًا لأكثر من وجه واحد من وجوه القرآن على نحو متعمد .
ثالثًا : إن المعوَّل عليه في نقل القرآن إنما هو التلقي والأخذ شفاهةً ثقةً عن ثقةٍ وإمامًا عن إمامٍ إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وإن المصاحف ليست العمدة في هذا الباب ، إنما هي مرجعٌ جامعٌ للمسلمين في حدود ما تدل عليه وتعيّنه دون ما لا تدل عليه ولا تعيّنه . وقد كُتبت الكلمات في المصاحف غير منقوطة ولا مشكولة بصورة تحتمل الكثير من وجوه القراءة الممكنة ، لهذا لزم أن يكون التعويل في نقل القرآن على الرواية والتلقي لا على الكتابة في المصاحف . وإذا وعينا هذه الحقيقة وجدنا القراءات المتواترة يعود إسناد كل منها إلى الصحابة الذين زعم جيفري إقصاء مصاحفهم وقراءاتهم مع كون كل هذه القراءات موافقة لمصحف عثمان ولا تخالفه فقراءة عاصم بن أبي النجود الذي رواها عنه حفص يعود إسنادها إلى عبد الله بن مسعود وإلى عليّ بن أبي طالب ، فكيف يتفق هذا وكون مصاحفهم وقراءاتهم قد أُقصيت واندثرت تبعًا لهذا ؟

فحقيقة الأمر أن قراءات الصحابة لم تضع ولم تندثر ، وأن مصحف عثمان كان حاويًا لها جميعًا دالاًّ عليها كلها دون غيرها من وجوه القراءة المنسوخة أو غير الثابتة . فهذا يبطل زعم جيفري أن غرض عثمان من الجمع الثاني هو ترسيم مصحف المدينة مصحفًا رسميًا للأمة كلها وإقصاء ما عداه ؛ حيث قد ثبت أن عثمان أشرك أبيّ بن كعب مع زيد بن ثابت في كتابة المصحف وأنه جمع بين وجوه القراءة كلها عن طريق إعجام الكلمات ، وعندما لم يمكن الجمع بين قرائتين أو أكثر بهذه الوسيلة كان رسم الكلمة يختلف من نسخة لنسخة حتى يضم كل الوجوه معترفًا بها جميعًا وجامعًا لها مانعًا لسواها .
 
ما زلنا ننتظر د. هشام لإتمام نقد هذه المقدمة، ولقد انشغل قليلاً بسبب الظروف الطارئة لدولة مصر حماها الله ..
فأرجو أن نراه قريباً حتى لا يطول العهد بنقد هذه المقدمة فتُنْسَى !
 
في اتصال هاتفي بالامس مع د. هشام عزمي وعدني أن يكمل نقد ما تبقى من هذه المقدمة قريباً بإذن الله.
وأنا شخصياً ألتمس له العذر لتتابع الأحداث في دولة مصر الحبيبة إضافة إلى أعماله وارتباطاته، ولكننا نطمع في كرمه أن ننهي نقد هذه المقدمة، لأن هذه الخطوة لها ما بعدها، وهي باكورة مشروع نقد الكتب التي عزمنا على المضي فيه في ملتقى الانتصار للقرآن الكريم بإذن الله.
وأنا أسطر هذه الحروف ليكون القارئ والمتابع والناقد معنا شريكاً في الهم ويكون على بصيرة بخطوات العمل .
والله الموفق،،
 
ثم يقول جيفري في النتيجة الخامسة ص7-8: (( خلو مصحف عثمان من النقط والشكل - وجد القراء في المصاحف التي بعثها عثمان للأمصار اختلافًا في بعض الحروف ، فكان في مصحف الكوفة "عملت" وفي غيره "عملته" ، وكذلك في مصحف الشام "وبالزبر" وفي غيره "والزبر" ، وفي مصحف المدينة والمصحف الشام "فلا" وفي غيرها "ولا" ومثل ذلك . وكانت هذه المصاحف كلها خالية من النقط والشكل ، فكان على القاريء نفسه أن ينقط ويشكل هذا النص على مقتضى معاني الآيات ، ومثال ذلك "ىعلمه" كان يقرأها الواحد "يُعَلِّمُهُ" والآخر "نُعَلِّمُهُ" أو "تُعْلِمْهُ" أو "بِعِلْمِهِ" إلخ على حسب تأويله للآية ، فكان حينئذٍ لكل قاريء اختيار في الحروف وكذلك اختيار في الشكل أيضًا ، وفضلاً عن ذلك فقد وقع اختيار بعض القراء ، كما يتبين ذلك من كتب القراآت ، على كثير مما كان في المصاحف التي منع عثمان استعمالها ، ثم بعد ذلك ظهرت بالتدريج في كل مصر من الأمصار قراءة كانت مشهورة معهودة في ذلك البلد وتبعها الناس دون غيرها . فظهرت قراءة أهل الكوفة وقراءة أهل الشام وقراءة أهل حمص وقراءة أهل مكة وقراءة أهل المدينة ، وهي اختيار القراء المشهورين من هذه الأمصار )).

قلت : الاختلاف الذي يشير إليه جيفري في بعض الحروف في المصاحف العثمانية دليلٌ على أن لجنة كتابة هذه المصاحف كانت ترمي إلى احتواء كل القراءات الصحيحة فيها ، وهو ينقض زعم جيفري أن عثمان رضي الله عنه كان يبغي جمع الناس على حرف واحد فقط وإقصاء ما سواه من قراءات الصحابة التي تلقوها عن النبي صلى الله عليه وسلم . وينقض هذا الزعم أيضًا ما أشار إليه جيفري في هذه الفقرة من كون قراءات الصحابة لم تنقرض بل تناقلها القراء مهتدين في ذلك بالمصاحف العثمانية نفسها .

وإن كان لنا أن نوافق جيفري فيما كتبه في هذه الفقرة ، فإن هذا ينبغي أن يكون مصحوبًا بالتحفظ تجاه قوله عن اختيار القراء بأنه كان "على مقتضى معاني الآيات" أو "على حسب تأويله للآية" مما يعطي الانطباع بأن هذا الأمر كان حسب الظن والتخمين أو حسب الهوى والتشهي في تناقض صريح مع ما تقرر من كون الاعتماد في نقل القرآن وقراءاته على التلقي الشفهي المباشر من قاريء إلى قاريء من جيل إلى جيل ، وليس عن طريق المصاحف المكتوبة ، حتى اشتهر بين القراء ذم من كان إمامه مصحفه دون أن يتلقى القرآن من الشيخ شفاهةً ، وقيل في ذلك العبارة الشهيرة (لا تأخذ القرآن من مصحفيّ) .
 
في اتصال هاتفي بالامس مع د. هشام عزمي وعدني أن يكمل نقد ما تبقى من هذه المقدمة قريباً بإذن الله.
وأنا شخصياً ألتمس له العذر لتتابع الأحداث في دولة مصر الحبيبة إضافة إلى أعماله وارتباطاته، ولكننا نطمع في كرمه أن ننهي نقد هذه المقدمة، لأن هذه الخطوة لها ما بعدها، وهي باكورة مشروع نقد الكتب التي عزمنا على المضي فيه في ملتقى الانتصار للقرآن الكريم بإذن الله.
وأنا أسطر هذه الحروف ليكون القارئ والمتابع والناقد معنا شريكاً في الهم ويكون على بصيرة بخطوات العمل .
والله الموفق،،
جزاك الله خيرًا يا أخي الحبيب دكتور حاتم على صبرك طوال هذه الفترة ، وإني لأرجو الله تبارك وتعالى أن أكون عند حسن الظن ، وألا أخذل شيوخي وعلمائي هنا في ملتقى أهل التفسير ..
 
أحجية أم بحث علمي؟
إذا كان الأمر يتعلّق بأحجية ما فسوف نقوم بتجميع الأجزاء وفق خطوات خوارزمية لتشكيل كل منطقي ومتجانس، ولكن تناسقيّة هذه الصورة الكليّة لا تثبت بالضرورة قيمة علمية لتلك الأجزاء، بل إن النظر في هذه الأجزاء وإعادة بناءها يمكن أن يؤدي إلى صورة متجانسة وفي نفس الوقت أكثر وضوحا، ولهذا نؤمن أن النقل الصحيح والتجارب البينة والمعقولات البدهية أقرب إلى إكتساب المعرفة من المنطق الصوري، وإذا أردنا أن نتخذ مضامين الروايات، المتون، على حساب الدين -وأقصد هنا السند- في إكتساب المعرفة لا لشيء إلا لأن غير المسلمين أخضعوا تراثهم الكتابي للنقد النصي أو لا لشيء إلا لأننا نستطيع الوصول إلى بناء صورة متناسقة، فإننا عندها نخوض في لعبة أحجية لا في بحث علمي، وإلا كم من نظرية علمية متسقة متجانسة تدهورت أو تطورت بسبب إعادة النظر فيها وإجراء التجارب على مكوناتها وبياناتها ونتائجها، بل وكم من تهمة ثبتت بالقرائن التجريبية من تحليلات حمض النووي ومن بصمات تم إلغاءها بسبب خبر، بسنده ومتنه، أكثر وثوقية من هذه القرائن؟ ومن قال أصلا أن المسلمين لم يصلوا بعلم السند إلى تصور نسقي لأطوار مصحفهم حتى نقحم "الحشويّة" في الموضوع؟

وطبعا هذا لا يعني أن الباحث المدقق لا يستطيع أن يأخذ بمعنى الرواية دون النظر إلى سندها لأن بعض الروايات قد تصح رغم ضعف السند لأن روايات أخرى صحيحة تؤكد معناها أو تجارب بائنة تساندها. وليس العكس كأن يفترض المرء صورة في ذهنه، بعد ذلك يصيغها بالحشوية، ثم يحكم ويستنتج ما يتفق مع تلك الصورة الذهنية دون أن يراعي المنقول الصحيح.

أما آرثر جفري فيقول في صدد الحديث عن موقف العلماء الكتابيين من الباحثين في النقد النص: (فأنت ترى الآن أكثر علماء اليهود وعلماء النصاري يتبعون في أبحاثهم وتدريسهم طريقة هذا البحث التحليلي ولو خالف هؤلاء في بحثهم أهل النقل والطريقة القديمة. وإذا تبينا أصل الإختلاف بينهما وجدناه في غير النص الموجود بين أيدينا الآن، فأما أهل النقل فآعتمدوا على آراء القدماء وعلى هذه التخيلات التي ورثوها عن آباءهم وأجدادهم والتي نقلها العلماء من دور إلى دور، وإذا ما وجدوا بين هذه الآراء خلافا إختاروا واحدا منها وقالوا إنه ثقة وغيره ضعيف أو كاذب. وأما أهل التنقيب فطريقتهم في البحث أن يجمعوا الآراء والظنون والأوهام والتصورات باجمعها ليستنتجوا بالفحص والاكتشاف ما كان منها مطابقا للمكان والزمان وظروف الأحول معتبرين المتن دون الإسناد يجتهدون في إقامة نص التوراة والاناجيل كما أقيم نص قصائد هوميروس أو نص رسائل أرسطو الفيلسوف).

يعلق الأستاذ الدكتور محب الدين عبد السبحان واعظ في دراسته وتحقيقه ونقده لكتاب المصاحف صفحة 102 على هذا الكلام قائلا: (يقول المستشرق: "فأما أهل النقل فآعتمدوا على آراء القدماء وعلى هذه التخيلات التي ورثوها عن آباءهم وأجدادهم والتي نقلها العلماء من دور إلى دور".

قلت: هذا الكلام يدور حول الطعن في السند الذي هو من خصائص هذه الأمة المحمدية، والتي رويت لنا به القراءات المتواترة والسنة النبوية المطهرة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وأقول: هذه عبارة رديئة فيها طعن في علماء السلف الذين حفظوا لنا هذا الدين ونقلوه بكل أمانة، فإن كان قصده أنهم قدماء لا يعتمد عليهم فبئس الظن والقول، لأنهم هم الذين سجل التاريخ جهودهم وآثارهم بما لا يدع مجالا للشك أو الطعن، وأعمال أولئك العلماء وجهودهم ماثلة أمام أعين الشاهدين ليحكموا بالعدل والإنصاف.

والمستشرق أيضا طعن في المعلومات التي وصلت إلينا عن طريق السلف وأنها تخيلات ورثوها عن آبائهم وأجدادهم، وهذا طعن نابع عن حقد دفين على الإسلام وأهله، وجهل عميق بالأصول المتّبعة في نقل العلوم الإسلامية، وعمل على إشاعة الباطل عن الدين ومتبعيه.
هذا والحال أن ما سموها تخيلات هي حقائق علمية ثابتة بطرق نقية يقرها كل من لديه إلمام بالدين الحنيف وبالطرق المتبعة في تثبيت الحقائق وتمييز الحق من الباطل.

ثم يقول المستشرق: "وإذا ما وجدوا بين هذه الآراء خلافا إختاروا واحدا منها وقالوا إنه ثقة وغيره ضعيف أو كاذب".

قلت: هذه عبارة تدل على جهله وضلاله، أو تجاهله وعداوته للإسلام، وفيها أيضا طعن في علماء المسلمين وأنهم يختارون ما يريدون، ويتهمون الراوي بالضعف والكذب على هواهم، وحاشاهم أن يكونوا كذلك، لأن لديهم ضوابط دقيقة مفصّلة للاختيار من الآراء المختلفة إن وجدت، وأصولا مقنّنة معمولا بها على مرّ العصور لمعرفة الراوي الثقة أو الضعيف، من سَبر لمروياته وتتبّع لسيره وأحواله، وكونه معروفًا بالطلب، وتصّديه للتدريس والإملاء، أو نحو ذلك، ومن ثم يأتي الحكم على الرجل بأنه ثقة أو أقل من تلك، وليس كما زعم هذا المستشرق.

ويقول المستشرق: "وأما أهل التنقيب فطريقتهم أن يجمعوا الآراء والظنون والأوهام والتصورات بأجمعها ليستنتجوا بالفحص والاكتشاف ما كان منها مطابقا للمكان والزمان وظروف الأحوال معتبرين المتن دون السند".

قلت: أما طريقتهم هذه ــ التي تحدّث عنها ــ في البحث أنهم يجمعون الآراء والظنون والأوهام والتصورات ثم الاستنتاج منها، فهذه طريقة لا تصلح حتى في القصص الخيالية المسلية البعيدة عن التكاليف، لأنه لا فرق لديه بين الآراء التي تصدر عن العقلاءـ والظنون والأوهام وما شابهها التي يقع فيها السفهاء، وشتان بينهما كما يدركها من له أدنى بصيرة، لأن الرأي لا يصدر إلا من عاقل خبير بصير، ولا تنسب الأوهام إلا لمقصِّر غير مدرك للحقائق.

وقوله: "معتبرين المتن دون الإسناد".

قلت: هذا تفريق بين الشيء ولازمه، وكيف تعرف قيمة المتن دون تفقّد السند وأحواله، فهذا جهل بالأمور الموصلة إلى الحق، في الشرع الإسلامي.

ويقول المستشرق عن أعوانه: "يجتهدون في إقامة نص التوراة والإنجيل كما أقيم قصائد هوميروس، أو نص رسائل أرسطو الفيلسوف".

قلت: هذا تشبيه بين متضادّين، لأن التوراة والإنجيل من الكتب السماوية المقدسة التي يحرم التحريف والاجتهاد فيها، بعكس القصائد والرسائل التي سماها والتي ليس لها أي مكانة أو حرمة، فاجتهادهم في إقامة نص التوراة والإنجيل هو عين التحريف، وإخراج هذه الكتب من كونها مقدّسة منزلة من عند الله تعالى، إلى حيّز آخر لا يعبأ به، وأما القصائد والرسائل فربما يقع القائل أو المؤلف في الأخطاء والزلاّت، فيجتهد العالم لإقامة نصوصها مبينا الخطأ والعلة فيها، بخلاف الكتب المقدّسة فهي منزلة من حكيم خبير، وليس لبشر أن يعبث فيها بإجتهاد أو غيره.
).

شخصيا لا أريد أن أظلم آرثر جيفري في هذه الفقرة من مقدمته لأنه بالسياق والعبارة يشير إلى التقليديين من الكتابيين الذين لم يستسلموا للأبحاث النصية النقدية، وهو في سياق الكلام يفرق بين التقدميين والتقليديين منهم، وبما أنه بروتستانتي فهو لم يوضح كيف يشير أيضا إلى التقليديين الكاثوليك المؤمنين بالإمامة والولاية (البابوية) أي المؤمنين بتواصل الوحي أو مساندة الروح القدسية للكريلجية عن طريقة الكنيسة، وهذا لا يهم من طبيعة الحال.. إلا أنه إستخدم ألفاظا هي في حقيقتها مصطلحات إسلامية كالسند و المتن وأهل العقل وأهل النقل، وإلا فنحن يحق لنا أن نسأل أي سند عند الكتابيين؟ والترجمة خيانة أدبية في كثير الأحيان إذ لا يمكن خلط المتن والسند بالتقاليد والعادات هكذا إطلاقا!!

نعم يحق لغير المسلمين أن يجمعوا كل قيل وقال حول مراجع تراثهم النصي ثم يحاولوا بعد ذلك إعمال القياس والمقارنة حسب ما تقتضيه نظرية (مؤقته) ما للتوصل إلى تصور نسقي لأصالة هذا النص مادام ليس هناك سند ولا علوم سند، ولكن هذا لا ينطبق على التراث الإسلامي بأي وجه من الأوجه.

إذن، يبقى السؤال المعقول هو: لماذا أقحم آرثر هذه الفقرة في مقدمته؟
هناك إذن نتيجة ما يريد أن يصل إليها من خلال كتاب المصاحف لإبن أبي دواود.!!

لعل الدكتور محب الدين عبد السبحان واعظ تعامل مع هذه الفقرة بطريقة (الوقاية خير من العلاج) لأن الأستاذ آرثر عبر عن أسفه - إذا صح التعبير - عندما قال: (ولكنهم لم يبينوا لنا ما يستفاد منه التطور في قراءاته، ولا ندري على التحقيق لماذا كفوا عن هذا البحث في عصر له نزعة خاصة في التنقيب عن تطور الكتب المقدسة القديمة ، وعن ما حصل لها من التغير والتحوير ونجاح بعض الكتّاب فيها.). ولكن هنا يجب أن نسأل أيضا ما علاقة "تطور" القراءات وهيمنة قراءة على أخرى بالنقد النصي؟

إذا أراد هو أن يجد عاملا مشتركا بين المسلمين والكتابيين فهذا ممكن شرط إفتراض التسوية بين كل أنواع الأسانيد أي فتراض التساوي بين المتواتر والصحيح والضعيف والشاذ والباطل. لكن لا مشترك بينهم، أي بين المسلمين والكتابيين، إذا تعلق الأمر بإثبات ونقد القراءات، وإذا كان القرآن قد وصل إلينا بالقراءة والمصحف، فإن التنقيب عن قاسم مشترك محتمل بين الكتابيين والمسلمين سينحصر في الجانب النصي فقط، وللوصول إلى هذا القاسم المشترك فإن الباحث يحتاج إلى "ما هي وما لونها" حتى يؤسس للفرضية، ولعله وجد في كتاب المصاحف متنفّسا ما! وعليه فإن نقد المقدمة يجب أن يبدأ من النتائج السبعة التي ذكرها، هذا وقد توقّف أستاذنا الدكتور هشام عند النتيجة الخامسة ونتمنى أن يواصل ..

ثم يقول جيفري في النتيجة السادسة ص 8: (قوة اختيار بعض القراء:
واتفق بعد حين أن قد قوى اختيار بعض القراء دون البعض في هذه الأمصار المذكورة، فصار اختيار هؤلاء القراء فيما بعد قاعدة قراءة أهل مدنهم، وأسس القراء اختيارهم على مبادئ ثلاثة، الأول أن تكون القراءة موافقة لنص المصحف العثماني، والثاني أن تكون روايتها من الصحابة، الثالث أن تكون مطابقة للعربية. أخيرا في سنة 322 اقترع بينها العلامة أبو بكر بن مجاهد، أعلم أهل عصره في علم القراءات، ورجح اختيار القراء السبعة وهم نافع من أهل المدينة وابن كثير من أهل مكة وابن عامر من أهل الشام وابو عمرو من أهل البصرة وعاصم وحمزة والكسائي من أهل الكوفة، بناء على الحديث المشهور أن النبي صلى الله عليه و سلم قال أنزل القرآن على سبعة أحرف فاقرأوا ما تيسر منه. ولم يقبل جميع العلماء اختيار ابن مجاهد فاستحسن بعضهم قراءة ابي جعفر المدني وآخر قراءة يعقوب البصري أو قراءة خلف الكوفي، وحتى الآن يعتمد كثير من العلماء قراءة القراء العشرة ويثبتون أن كل قراءة رويت عن العشرة هي قراءة متواترة.
).

وفيما يلي تعليق محب الدين عبد السبحان واعظ: (النقطة السادسة: قوة اختيار بعض القرّاء.

يذكر المستشرق تحت هذه النقطة أسس اختيار القراءة، ولعله يقصد الشروط التي ينبغي توفّرها حتى تكون القراءة صحيحة، أو حتى تكون قرآنا يُتلى، فيذكر الشروط الثلاثة لكن بتحريف أحد الشروط، فلم يذكر صحة السند بل قال: أن تكون روايتها من الصحابة.

ثم ذكر بأن ابن مجاهد اقترع بين القراء فاختار السبعة.

أقول: لم تكن هناك قرعة، ولم يتم الاختيار على هذه الطريقة، بل اختار أشهر القرّاء، والذين كثرت الرواية عنهم ومارسوا تدريس القرآن الكريم فترة طويلة، وإلا فالقراء كثيرون.

ويقول المستشرق: "إن إختيار السبعة بناء على الحديث المشهور 'أنزل القرآن على سبعة أحرف'".

قلت: هذا ليس بصحيح، لأنه اختار المشاهير، والعلماء حكموا للثلاثة الباقين بالتواتر فأصبحوا عشرة وليست سبعة، ولم يكن ثمة علاقة بين هذا الحديث وبين اختيار القرّاء.
).

قال ابن الجزري في النشر في القراءات العشر عند حديثه عن شروط القراءة القرآنية الصحيحة التي يُتعبّد بها:
"كل قراءة وافقت العربية ولو بوجه، ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالاً، وصح سندها، فهي القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردها، ولا يحل إنكارها، بل هي من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، ووجب على الناس قبولها، سواء كانت عن الأئمة السبعة، أم عن العشرة، أم عن غيرهم من الأئمة المقبولين. ومتى اختل ركن من هذه الأركان الثلاثة أطلق عليها: ضعيفة، أو شاذة، أو باطلة. سواء كانت عن السبعة، أم عمن هو أكبر منهم. هذا هو الصحيح عند أئمة التحقيق من السلف والخلف، صَرَّح بذلك الإمام الحافظ أبو عمرو عثمان بن سعيد الداني، ونص عليه في غير مَوضِع الإمام أبو محمد مكي بن أبي طالب، وكذلك الإمام أبو العباس أحمد بن عمار المهدوي، وحققه الإمام الحافظ أبو القاسم عبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بأبي شامة، وهو مذهب السلف الذي لا يُعرَف عن أحد منهم خلافه.".

وهنا فرق بين (كل قراءة وافقت العربية ولو بوجه) و (مطابقة للعربية) لأن الجملة الأخيرة قد توحي بوجود قراءات بغير العربية أصلا، خصوصا وأن لآرثر جيفري إصدار آخر (The Foreign Vocabulary of the Qur’an) عن وجود مفردات أعجمية في القرآن، وليس هذا المراد كما يوضح لنا أبو حيان الأندلسي في رده على بعض النحويين الذين يأخذون قراءة ويتركون أخرى بما وُضع من قواعد النحو.

ونذكر هنا أيضا أن مذهب الإمام الجزري في الحروف السبعة غير مذهب الإمام الطبري وغير مذهب الإمام السيوطي، ولكن كلام آرثر قد يفهم منه أن كل قراءة من القراءات السبعة تنفرد بحرف من الأحرف السبعة، وهذا ما لم يقل به لا السيوطيين ولا الجزريين، إضافة إلى ما تقدّم أن الحديث المذكور في الأحرف السبعة لم يكن الأساس في ترجيح القراءات السبعة.

وقال ابن الجزري أيضا: "وقولنا (أو صح سندها) فإنا نعني به أن يروي تلك القراءة العدل الضابط عن مثله، كذا حتى تنتهي، وتكون مع ذلك مشهورة عند أئمة هذا الشأن، الضابطين له، غير معدودة عندهم من الغلط، أو مما شذ بها بعضهم. وقد شرط بعض المتأخرين التواتر في هذا الركن، ولم يكتف فيه بصحة السند، وزعم أن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر، وأن ما جاء مجيء الآحاد لا يثبت به قرآن. وهذا مما لا يخفى ما فيه، فإن التواتر إذا ثبت لا يحتاج فيه إلى الركنين الآخرين، من الرسم وغيره، إذ ما ثبت من أحرف الخلاف متواترا عن النبي صلى الله عليه وسلم وجب قبوله، وقطع بكونه قرآناً، سواء وافق الرسم أم خالفه. وإذا اشترطنا التواتر في كل حرف من حروف الخلاف انتفى كثير من أحرف الخلاف الثابت عن هؤلاء الأئمة السبعة وغيرهم. ولقد كنت قبل أجنح إلى هذا القول، ثم ظهر فساده، وموافقة أئمة السلف والخلف.".
 
إقتراع، إستحسان، إختيار، إشتهار، إنتخاب، ترجيح، تعميم وتسلط القراءات/الروايات..
هذا التلون في إنتقاء الألفاظ قد يصلح في نص فني وليس في كتابة علمية، وهذا إن لم يدل على شيء فربما قد يدل على غياب خطة تاريخية في دراسة إنتشار القراءات زمانيا ومكانيا، ويبقى الحل هو دراسته من خلال القراءات التي ضبطت بها؟ (ندوة علمية تناقش تطور المصحف الشريف عبر التاريخ).

ثم يقول جيفري في النتيجة السابعة ص 8-9: ( ترجيح وتعميم قراءة حفص ـ لكل من القراء العشرة رواة كثيرون فانتخب الناس بعد حين من مجموع روايات الرواة روايتين لكل قارئ، فاستحسنوا من روايات رواة نافع رواية ورش ورواية قالون، ومن روايات رواة ابن كثير رواية البزى ورواية قنبل، ومن روايات رواة ابن عامر رواية ابن ذكوان ورواية هشام، ومن روايات رواة أبي عمرو رواية الدوري ورواية السوسي، ومن روايات رواة عاصم رواية حفص ورواية أبي بكر، ومن روايات رواة حمزة رواية خلف ورواية خلاد، ومن روايات رواة الكسائي رواية الدوري ورواية الحارث، وكذا من روايات رواة أبي جعفر رواية ابن جماز ورواية ابن وردان، ومن روايات رواة يعقوب رواية روح ورواية رويس، وبعد ذلك لم يعتمدوا القراءة إلاّ إذا كانت من هذه الروايات المختارة. واستمرت هذه الروايات معمولاً بها في كل عصر إلى إن فاقت ثلاثة منها على غيرها، وهي رواية الدوري عن أبي عمرو البصري، ورواية ورش عن نافع المدني، ورواية حفص عن عاصم الكوفي. ثم نشرت رواية حفص حتى تغلبت على رواية الدوري كافة وتغلبت أيضاً على رواية ورش إلاّ في المغرب، فبقيت رواية حفص عن عاصم الكوفي القراءة المشهورة المستعملة في أيامنا في أكثر بلاد العالم الإسلامي.).

ويعلّق الدكتور محب الدين عبد السبحان واعظ: (النقطة السابعة عنوانها: "ترجيح وتعميم قراءة حفص".
أقول: ليس هناك ترجيح في القراءات المتواترة، فكلها ثابتة وكلها في المرتبة سواء.
وأما قوله: "فاستحسنوا من روايات رواة نافع.. الخ"
فأقول: ليست هذه إستحسانا، بل الإختيار كان للشهرة وكثرة الممارسة والمدارسة.
وأما قوله: "واستمرت هذه الروايات معمولا بها في كل عصر إلى أن فاقت ثلاثة منها على غيرها".
فأقول: - كما ذكرت- ليس هناك ترجيح في القراءات، وليس هناك تفوق لبعضها على البعض، بل اشتهرت رواية البعض لكثرة التلاميذ وتعدد نشاطهم وكثرته.).
 
جزاكم الله خيرا على هذه الإضافات الماتعة ، نسأل الله أن ييسر لنا إتمام النقد إلى نهاية المقدمة
 
قبل أن ننتقل إلى المراحل التالية في نقل القرآن على مر العصور يجدر بنا أن نشير إلى ما ورد في النسخة الإنجليزية من هذه المقدمة ، حيث يرى جيفري أنه كانت هناك فروق شاسعة بين المصاحف الفردية للصحابة بسبب وقوع التحريف ، وأن عمل عثمان رضي الله عنه كان هو ترسيم مصحف المدينة – أو مصحف زيد بن ثابت - كمصحف رسمي للدولة والقضاء على ما سواه من مصاحف الصحابة . يقول العلامة محمد مهر علي مستعرضًا وجهة النظر هذه على لسان جيفري : (( توجد "فروق واسعة بين المصاحف" ، ثم يقول جيفري أن حل عثمان "لم يكن مجرد إزالة خصوصيات اللهجة" بل تأسيس "نص قياسي للإمبراطورية كلها" عن طريق ترسيم مصحف المدينة والقضاء على كل المصاحف الأخرى . "لا شك أن النص الذي قام عثمان بترسيمه كان عبارة عن واحد من بين عدة نصوص كانت موجودة في هذا الوقت" ))*

أما كون مصحف عثمان كان ترسيمًا لمصحف المدينة في مقابل ما عداه من مصاحف الأمصار ، فيمكن إبطاله بما تقرر أنه لم يكن إلا منسوخًا من المصحف الذي جمعه الخليفة أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، وقام بإنجاز الجمع زيد بن ثابت من المخطوطات الأولية المكتوبة تحت إشراف النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة ، فمصحف عثمان - في مصدره ومنشئه وأصله – هو مصحف النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا المذهب لا ينفرد به المسلمون من دون غيرهم من الباحثين ، بل هو مذهب جمهور المستشرقين كما يقول الألماني فون هامر إن القرآن عندهم هو كلمة محمد كما هو كلمة الله عند المسلمين . يقول البروفيسور وليام موير المعروف بتعصبه البالغ ضد الإسلام : (( إن الاستنناج الذي يمكن نصوغه الآن بثقة هو أن نسختي أبي بكر وعثمان لم تكونا أمينتين فحسب بل تامتين بقدر ما كانت المادة متوفرة ؛ وإذا ما كان ثمة من حذف يمكن أن يكون قد حصل فإنه لم يكن من جانب المصنفين القصدي . إن النقيصة الواقعية المتمثلة بغياب الترتيب والترابط الذي يتخلل النص القرآني يتضاءل أمام قيمة القرآن التي لا تقدر بثمن كونه تسجيلاً معاصرًا وأصيلاً لشخصية محمد وأفعاله . ولكي يكون بحثنا ناجحًا بصدد معنى وقوة الآية فإننا لا نركن إلى الجمل المتجاورة على أنها في سياق صحيح . بيد أنه عندما نخفف من هذا العيب الجدي فإننا يمكننا وعلى أساس فرضية شديدة المتانة أن نؤكد بأن كل آية في القرآن هي أصيلة ونظم أكيد لمحمد نفسه ونستخلص على الأقل تقديرًا قريبًا من حكم فون هامر "بأننا نتمسك بأن القرآن كلمة محمد حقًا كما يتمسك المحمديون بأنه كلمة الله" ))**

ويعلق المستشرق سيل على رأي موير مقررًا بأنه مذهب جمهور المستشرقين بقوله : (( إن الخاتمة التي توصل إليها موير يتفق معها أغلب العلماء وتبدو لي حصيفة وسديدة ))***

ففي ضوء هذه التقريرات من رؤوس الاستشراق العالمي لا يجد المرء مبررًا لآرثر جيفري في اعتقاده "تطور" نص القرآن في عهد عثمان رضي الله عنه إلى صورة مغايرة للوحي الأصلي الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم ، أو كونه نصًا تم اختياره من ضمن نصوص مختلفة متضاربة ، فليته يعود للنبع الاستشراقي الصافي الذي عليه سل وموير ويلتزم بما أوردوه من سلامة نقل القرآن ومطابقة مصحف عثمان للوحي الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم .

-----------

الحواشي :


(*)
There ‘were wide divergences between the collections’, further says Jeffery, and that ‘Uthman’s solution was ‘no mere matter of removing dialectical peculiarities’ but establishing a ‘standard text for the whole empire’ by canonizing the Madinan Codex and suppressing all others. ‘There can be little doubt that the text canonized by ‘Uthman was only one among several types of text in existence at the time.’ ”
Fn. 2: A. Jeffery, Materials for the History of the Text of the Qur’an The Old Codices, p. 8
M. M. Ali, op. cit., p.228.
(**)
The conclusion, which we may now with confidence draw, is that the editions both of Abu Bacr and of Othman were, not only faithful, but complete as far as the materials went; and that whatever omissions there may have been, they were not on the part of the compilers intentional. The real drawback to the inestimable value of the Coran, as a contemporary and authentic record of Mahomet's character and actions, is the want of arrangement and connection which pervades it; so that, in inquiring into the meaning and force of a passage, no infallible dependence can be placed upon the adjacent sentences as being the true context. But bating this serious defect, we may upon the strongest presumption affirm that every verse in the Coran is the genuine and unaltered composition of Mahomet himself, and conclude with at least a close approximation to the verdict of Von Hammer - That we hold the Coran to be as surely Mahomet's word, as the Mahometans hold it to be the word of God
William Muir, Life of Mahomet, vol. 1, p. 26
" Der Koran eben so sicher für Mohammeds Wort, als den Moslimen für das Gottes gilt." Von Hammer, Mohammed, p.352
(***)
The conclusion arrived at by Muir, with which most scholars agree, seems to me sound and good.
Canon Edward Sell, The Recensions of the Qur'an, p. 26
 
أشكر د. هشام عزمي على وفائه للملتقى ومواصلته نقد مقدمة جفري ..
سنتابع باستمتاع لما تكتب حبيبنا بارك الله فيك ،،
 
عودة
أعلى