الحلقة الثانية (ص 4 مقدمة جيفري)
الحلقة الثانية (ص 4 مقدمة جيفري)
يقول آرثر جيفري مبينًا الفرق بين فريقي علماء أهل الكتاب من اليهود والنصارى :
((فأما أهل النقل فاعتمدوا على آراء القدماء ، وعلى هذه التخيلات التي ورثوها عن آبائهم وأجدادهم ، والتي نقلها العلماء من دور إلى دور ، وإذا ما وجدوا بين هذه الآراء خلافًا اختاروا واحدًا منها وقالوا إنه ثقة وغيره ضعيف وكاذب . وأما أهل التنقيب فطريقتهم أن يجمعوا الآراء والظنون والأوهام والتصورات بأجمعها ليستنتجوا بالفحص والاستكشاف ما كان منها مطابقًا للمكان والزمان وظروف الأحوال معتبرين المتن دون الإسناد يجتهدون في إقامة نص التوراة والإنجيل كما أقيم نص قصائد هوميروس أو نص رسائل أرسطو الفيلسوف .
بدأ نولدكي (Noldeke) الألماني باستعمال طريقة البحث هذه في نص القرآن الشريف في كتابه المشهور الجليل المسمى : تاريخ القرآن . نُشر هذا الكتاب سنة 1860م وهو الآن أساس كل بحث في علوم القرآن في أوروبا ولم يكن في وسع نولدكي أن يقوم بالطبعة الثانية من كتابه ففوض ذلك إلى تلميذه شوالي (Schwally) الذي ضم إليه نتائج التدقيقات الحديثة ، وتوفى شوالي في أثناء عمله فأخذ برجشتراسر (Bergstrasser) في تكميله ، وبعد موت برجشتراسر أتم تلميذه برتزل (Pretzl) طبع الكتاب . ولما ظهرت الطبعة الأولى من كتاب نولدكي تجنى عليه بعض أهل النقل في الشرق واتهموه بالطعن في الدين وزعموا أن الذين يتتبعون هذه الطريقة ليسوا خالين من المحاباة في أبحاثهم مع أن إنصافهم وصدق نيتهم وعدم محاباتهم ظاهر ويتبين من كتبهم أنهم لا يرومون إلا الكشف عن الحق , وكان عيبهم الوحيد في أعين أهل النقل أن يعتبرون المتن دون الإسناد ويختارون من آراء القدماء ما يطابق ظروف الأحوال من أسانيد متواترة كانت أم ضعيفة ، فكثيرًا ما تناقض نتائج أبحاثهم بعذه الطريقة تعليم أهل النقل الذي قد عرف بين العلماء من زمن بعيد .))
قلتُ : ما وصف به جيفري التقليديين من علماء أهل الكتاب لا ينطبق على علماء المسلمين ، كذلك ما وصف به العلماء الباحثين في مخطوطات كتب اليهود والنصارى لا ينطبق على المستشرقين ، لماذا ؟
لأن أهل النقل أو أهل الحديث لا يقبلون آراء القدماء هكذا اعتباطًا ؛ بل هم يخضعونها للبحث والتدقيق والتحقيق فما كان صحيح النسبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذوا به ، وما كان غير ذلك رفضوه إن خالف كلام الله أو كلام رسوله صلى الله عليه وسلم . أما إن كان الكلام منسوبًا إلى من هو دون رسول الله صلى الله عليه وسلم نزلت درجة حجيته بحسب بعد صاحب الكلام أو قربه من الرسول صلى الله عليه وسلم ومن عصره ، واضعين في الاعتبار سلامة نسبة هذا الكلام إلى صاحبه ، ومعارضته لغيره من كلامه هو نفسه أو كلام غيره ممن هو أعلى منه في الحجية إلى آخر هذه الاعتبارات التي تدل على أن من يسميهم أهل النقل من علماء المسلمين ليسوا من قبيل علماء أهل الكتاب الذين يأخذون رأيًا دون تمحيص ثم يرفضون ما عداه لأجل الهوي والتحيز المسبق .
أما طريقة من يسميهم أهل التنقيب الذين يعتبرون المتن دون الإسناد فهي طريقة مغالطية ، لماذا ؟
لأنها تساوي بين المختلفين ؛ فعند جيفري وقومه تتساوى الأسانيد ؛ فخبر الصادق يساوي خبر الكاذب في التصديق ، وخبر الحافظ يساوي خبر ضعيف الحفظ في الموثوقية ، وخبر الشاهد يساوي خبر الغائب في الاعتبار ، وهذا كله سفهٌ لا ريب فيه !
نعم ، قد يصلح هذا المسلك عند غياب الأسانيد تمامًا حينما لا يمكن الترجيح بين الروايات والأخبار بناءً على إسناد كل رواية إلى راويها وكل قول إلى قائله ، أما في حالة وجود الأسانيد وإمكانية الاعتماد عليها في الترجيح ، فإن العدول عنها إلى ما هو دونها في الحجية والقطعية هو عبثٌ وسفاهةٌ .
وأصل المشكلة لدى المستشرقين هي في عدم استيعابهم لأهمية الإسناد في نقل الأخبار ، لأن علم الأسانيد غريبٌ تمامًا عن واقعهم العلمي والديني فاستنكروه ؛ لأنهم اعتادوا أن يكونوا هم الأصل وهم المرجع ، فإذا ورد عند أمةٍ من الأمم ما يخالف ما عرفوه أنكروه ورفضوه لا بناءً على القواعد أو الأصول العلمية السليمة بل لأجل تعصبهم لعلومهم وتحيزاتهم المسبقة . ومثلهم في رفضهم للإسناد كمعيار لتقويم الأخبار والروايات كمثل الأعمى الذي يرفض أن يفرّق المبصرون بين التفاح والموز اعتمادًا على الشكل واللون ، فالمستشرقون يفرضون على منهجية العلم وتحصيل المعرفة جهلهم وتعصبهم لمبلغهم المحدود من العلم وإنكارهم لتفوق المسلمين عليهم في علم تمييز وتمحيص الأخبار . وهذه لعمري سقطة شنيعة لهؤلاء القوم الذي يظنون أنهم يفوقونا عقولاً وعلومًا ، ويصوّر لهم غرورهم أن لهم الوصاية العلمية علينا بحيث يخبروننا بما يصح في ديننا وما لا يصح بينما الواقع أنهم هم الذين بحاجة إلى الجلوس تحت أقدام علماء المسلمين ليتعلموا منهم كيفية توثيق الأخبار وصيانة العلم وحفظ الدين .
تصوّر لو أن باحثًا يكتب بحثًا أو رسالةً علميةً هذه الأيام دون أن يذكر عند كل معلومة مرجعها السليم ودون أن يرجع كل فقرة إلى مصدرها الأصلي ، هل يقبل منه هذا البحث أو هذه الرسالة ؟ وكيف يكون موقف هذا الباحث عند عرض رسالته أمام المشرفين والمناقشين الأكاديميين ؟
ثم تصوّر لو أن متهمًا في قضيةٍ ما لم يقدم للقاضي بين يدي دفاعه الأوراق والمستندات الموثقة بالتوقيعات والأختام الرسمية ، هل سيعطي القاضي أي اعتبار لكلامه المرسل المجرد من المرجع الرسمي الموثق ؟
يقول البروفيسور محمد مهر علي : (( البحث العلمي الجاد يتطلب أن كل رواية تحوي قراءة معينة لقاريء معين لابد أن يتم فحصها جيدًا ليتم التأكد من موثوقيتها أو عدمها قبل المجازفة باستخلاص نتائج خطيرة بناءً على هذه القراءة . وتبقى حقيقة أن جيفري لم يقم بأي شيء من هذا القبيل . ففي ضوء حقيقة أن التفاسير الشائعة تضم الكثير من الروايات الضعيفة والباطلة وأن الكثير من فرق أهل الأهواء كانت تلجأ لاختلاق الروايات ، فإن معظم القراءات التي صفّها جيفري تظل موضع شك وغير جديرة بالتصديق ))*
ولنضرب مثلاً ذكره الشيخ محمد الغزالي** رحمه الله في رده على المستشرق المجري اليهودي جولدتسيهر : هب أن مستشار رئيس الولايات المتحدة أدلى بتصريح عن رأي الرئيس في قضيةٍ ما فنقل هذا التصريح رجلٌ من الحاشية ثم تلقفه أحد الصحافيين فنشره ، ما تكون قيمة هذا الخبر ؟ نجيب بأنه يحتمل الصدق والكذب ولا يترجح إلى إحدى الناحيتين إلا إذا عرفنا قيمة المصدر الذي أتى منه هذا النبأ . فإذا عرفنا أن الخبر نقلته الصحيفة بالفعل عن رجل الحاشية ، عن مستشار الرئيس مباشرة ، وكان كل واحد من هؤلاء مشهورًا بأمرين: الضبط التام لما يسمع ، والصدق التام فيما ينقل ، فما يكون رأينا في هذا الخبر ؟ أنصدقه أم نكذبه ؟
الجواب أننا نتجه إلى تصديقه . وذلك هو ما يطلب علماء المسلمين توافره في الخبر ليكون صحيحًا ، وتقبل نسبته لرسول الله صلى الهص عليه وسلم .
فتصديق الخبر مبنيٌ على تصديق قائله ، لهذا اعتنى علماء المسلمين بنقلة الأخبار والروايات ولاسيما أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم . وهذا هو المنهج العلمي السليم ، فإن صدر القول عن من نثق في صدقه وأمانته وكان ضابطًا للرواية عدلاً ، قبلناه بلا تردد إلا أن يكون له معارضٌ قويٌ ، أما إن صدر القول عن من هو دون ذلك في الصدق أو الأمانة أو العدالة أو الضبط ، رددناه عليه ، فإن هذا الأمر دينٌ ، والمصير إما إلى جنةٍ أو نارٍ ، فلا تهاون أو تزوير .
قال ابن المبارك رحمه الله تعالى : (( الإسناد من الدين ، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء )) مقدمة صحيح مسلم ج1 ص10 . وقال سفيان الثوري : (( الإسناد سلاح المؤمن ، فإذا لم يكن معه سلاحٌ فبأي شيء يقاتل ؟ )) الخطيب البغدادي ، شرف أصحاب الحديث ص88 . وقال الإمام الشافعي : (( مثل الذي يطلب الحديث بلا سند كمثل حاطب ليل )) المناوي ، فيض القدير ج1 ص433 .
ومهما يكن من شيء فقد عنى علماء السند وأطباؤه بنقد السند عناية فائقة ، فوضعوا شروطًا للراوي من جهة الضبط والعدالة بأن يكون مسلمًا بالغًا عاقلاً ، خاليًَا من أسباب الفسق وخوارم المروءة ، ضابطًا غير مغفل ، حافظًا إن حدث من حفظ ، ضابطًا لكتابة من التغيير والتبديل إن حدث منه ، عالمًا بما يحيل المعاني إن حدث بالمعنى .
وتتبعوا مواطن الدخل والضعف في حلقات السند من انقطاعٍ أو تدليسٍ أو إرسالٍ خفيٍ أو عنعنةٍ إلا بشروطها ، كما نقبوا عن مواطن الضعف من الجهة النفسية كوهم الراوي وغفلته ونسيانه واشتباه الأمر عليه وعصبيته وميوله إلى غير ذلك مما يكون له أثر في التزيد والكذب في المروي أو الغلط أو القلب أو الإدراج أو رفع الموقوف أو وصل المرسل ؛ فردوا رواية الفاسق والمغفل الذي كثر غلطه وفحش خطؤه ، ولم يقبلوا رواية المبتدع من أهل الأهواء إذا كان داعية إلى بدعته ، وبعضهم قال : إلا إذا روى ما يخالف بدعته لانتفاء التهمة حينئذ . كما قبلوا غير الدعاة للبدعة إلا إذا رووا ما يؤيد بدعتهم لأن بدعة الراوي تدعوه إلى تزيين القول والتزيد فيه على حسب ما يوافقها .
ذكر الحافظ الذهبي في تذكرته قال المسيب بن واضح : سمعت ابن المبارك وسئل عمن نأخذ ؟ قال : من طلب العلم لله ، وكان في إسناده أشد ، قد تلقى الرجل ثقة وهو يحدث عن غير ثقة ، وتلقى الرجل غير ثقة وهو يحدث عن ثقة ، ولكن ينبغي أن يكون ثقة عن ثقة .
وذكر الذهبي أيضًا في طبقات الحفاظ أن الرشيد أخذ زنديقًا ليقتله فقال : أين أنت من ألف حديث وضعتها ؟ فقال الرشيد : أين أنت يا عدو الله من أبي إسحاق الفزاري وابن المبارك يتخللانها فيخرجانها حرفًا بحرف ؟
وقيل لابن المبارك : هذه الأحاديث الموضوعة ؟ فقال : تعيش لها الجهابذة .
فانظر - رعاك الله - إلى مبلغ الدقة والحيطة والحذر وبعد النظر ، وإلى هذه الأصول التي تعد أدق وأرقى ما وصلت إليه علوم النقد للرواية ، وقد وفق إليها علماؤنا أيام كانت عقول غير المسلمين تقبل الخرافات وتعتنقها ، وتأخذ بكل ما روي ولو كان باطلاً .
قال العلامة ابن حزم : (( نقل الثقة عن الثقة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم مع الاتصال خص الله به المسلمين دون سائر الملل ، أما مع الإرسال والإعضال والنقل بالطريق المشتملة على كذاب أو مجهول الحال فكثير من نقل اليهود والنصارى )) ابن حزم ، الفصل في الملل والنحل ج1 ص81-84 باختصار وتصرف .
خلاصة الأمر أن حفظ نص القرآن وتمييز قراءاته الصحيحة ليس عملية ذهنية تعتمد على التحليل والترجيح ، بل هو بالدرجة الأولى يعتمد على سلامة النقل . وهذا الأمر قد ذهل عنه المستشرق فظن أن صحة نص القرآن وسلامته من التحريف تقتضي أن يُعمل المرء ذهنه في المقارنة والترجيح والتخمين وليس في نقل النص كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم بلا زيادة أو نقص أو تغيير ! لهذا كان طعن جيفري على نَقَلَة القرآن عاريًا من التصور الصحيح للطريقة التي حُفظ القرآن بها ، بل من التصور السليم لحفظ أي نص على وجه الدقة والكمال .
أما ما ذكره عن منهجه في قوله
(( وأما أهل التنقيب فطريقتهم أن يجمعوا الآراء والظنون والأوهام والتصورات بأجمعها ليستنتجوا بالفحص والاستكشاف ما كان منها مطابقًا للمكان والزمان وظروف الأحوال معتبرين المتن دون الإسناد )) فيدل على تهافت هذا المنهج*** في البحث ؛ فكيف ستعرف ما هو المطابق للمكان والزمان وظروف الأحوال دون أن يكون ذلك مبنيًا على أخبار غزيرة موثوقة مؤكدة تعطيك صورة صحيحة كاملة وافية عن المكان والزمان وظروف الأحوال ؟ ثم بعد هذا كله لن يمكنك الترجيح والاستنتاج لأن باب الجواز العقلي سيكون مفتوحًا على مصراعيه ؛ فما المانع أن يكون النص على هذه الصورة أو سواها ؟ وإن أعملت عقلك ورجحت نصًا على غيره ، فهل تجزم بهذا أم يكون كل ما لديك مجرد الظن ، والظن لا يغني من الحق شيئًا ؟ وهل يكون البحث والتحليل بهذه الكيفية إلا ما يقول فيه مضرس بن ربعي الفقعسي :
وليلٍ يقُول القومُ من ظُلُمَاتِه : : : : سَوَاءٌ بَصِيراتُ العُيون وعُورُها
سواءٌ بصيرات العيون وعورها ! وإنا لله وإنا إليه راجعون ! وهذه هي طريقة أهل "التنقيب" . وواقع الأمر أنها طريقةٌ تنتهي إلى مجرد الترجيح حسب الهوى والرأي دون الاعتماد على منهجٍ ثابتٍ سديدٍ .
وقد كان يجب مع ما يدعيه المستشرقون من سلامة المنهج وصدق النية أن لا يختلفوا كما لا يختلف الأطباء في عد ضربات القلب وقياس ضغط الدم أو كما لا يختلف أهل الفيزياء والكيمياء والفلك وعلوم البحار والجيولوجيا وغيرهم في قياساتهم وحساباتهم ، فما بالهم أكثر الناس اختلافًا لا يجتمع اثنان من رؤسائهم على رأيٍ واحدٍ في الأمر الواحد . ولو كان اختلافهم في مسائل فرعيةٍ وقد اتفقوا على الأصول لاتسع لهم العذر عندنا ، ولكن اختلافهم في أصل الدين وظهوره ونشأته ومصادره وتاريخه ، وفي القرآن ومصدره (أو مصادره) ونقله وكتابته وقراءاته ، وفي الحديث ونشأته وتطوره وعلومه ، وفي النبي صلى الله عليه وسلم وصدقه وحياته وبعثته وسيرته ووفاته ، وهكذا .. ليس منهم واحدٌ إلا وله مذهبٌ في الإسلام يخالف فيه غيره . فشاخت يخالف جولدتسهير ، وكولسون يخالفهما ، ووات يخالفهم ، وجيوم يعارض ، وهكذا .. وسر خلافهم هو ردّ كل منهم المسائل إلى استحسانه ونظره ، لاختلاف الناس في عقولهم وآرائهم واختياراتهم .
ولو أردنا – رحمك الله – أن ننتقل عن علماء الإسلام ونرغب عنهم إلى المستشرقين ، لخرجنا من اجتماعٍ إلى تشتتٍ ، ومن نظامٍ إلى تفرقٍ ، ومن أنسٍ إلى وحشةٍ ، ومن اتفاقٍ إلى اختلافٍ ؛ لأن علماء الإسلام مجمعون على أن القرآن كلام الله سبحانه وتعالى ، نزل على نبيه صلى الله عليه وسلم منجمًا ، على سبعة أحرف ، وعلمه النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة وحفظوه عنه ، وكتبه صلى الله عليه وسلم في حياته كله غير مجموعٍ ، ثم كان أول من جمعه في مصحفٍ أبو بكر الصديق ، ثم عثمان رضي الله عنهما ، وأن الأصل في نقل القرآن هو السماع ، وأن الكتابة في المصاحف إنما زيادةٌ في الحيطة والحرص على كتاب الله تعالى .
فإذا نحن أتينا المستشرقين لما يزعمون من أنهم
(( منصفون في أبحاثهم صادقوا النية ، وأن عدم محاباتهم ظاهر ، ولم يكن قصدهم إلا الكشف عن الحق )) ، وأردنا أن نتعلق بشيء من مذاهبهم ، ونعتقد شيئًا من آرائهم ، وجدناهم يختلفون ويتعارضون ، ويتقدمون بالرأي وعنه ينافحون ، ثم بعدها يرجعون عنه ويتبرؤون ، حتى إذا دارت العيون في المحاجر وبلغت القلوب الحناجر فجعنا المستشرق بقوله :
(( لا يهمنا في بحثنا هذا كونه حقًا أو باطلاً ، وإنما المهم هو بيان ما وصلنا إليه بعد التحري والتنقيب )) ص9-10 ، ولا حول ولا قوة إلا بالله !
لهذا لا يتردد من يطلع على كتب القوم في رفضها ، فهم يتوجهون إلى القرآن الكريم الذي تتمحور حوله علوم الإسلام شكلاً وموضوعًا ، وقد درسه أهله وأشبعوه بحثًا ودراسةً وتحليلاً ، وتتبعوا مراحل تنزيله في مكة والمدينة ومناسبات نزوله وتلقي الصحابة له وجمعه في الصدور والسطور من أيام النبي صلى الله عليه وسلم حتى يومنا هذا ، ثم يزعمون أن لهم آراء يرونها يستنبطونها من أقوال ضعيفة . أضف إلى هذا سوء فهمهم للنصوص والأحاديث والآثار ، وسنتناول هذا قريبًا إن شاء الله تعالى .
ولا ينفع المستشرق في هذا المقام مدحه لنفسه ولقومه بأنهم (( منصفون في أبحاثهم صادقوا النية ، وأن عدم محاباتهم ظاهر ، ولم يكن قصدهم إلا الكشف عن الحق )) فشهادتهم لأنفسهم مجروحة ، ثم إنه عاد لينفي عن قومه تحري الحق ومراعاته بقوله بعد عدة صفحات (( لا يهمنا في بحثنا هذا كونه حقًا أو باطلاً ، وإنما المهم هو بيان ما وصلنا إليه بعد التحري والتنقيب )) فكشف الحق ليس هو قصدهم كما زعم قبل قليل ، بل مسألة الحق والباطل عندهم ليست ذات بال ، بل هما – أي: الحق والباطل – متساويان عند القوم ؛ إنما المهم هو أن ينقبوا ويبحثوا ثم يكتبوا الكتب ويسودوا الصفحات !
ودع عنك الكتابة لست منها :::: ولو سودت وجهك بالمداد !
وبالجملة فالقضية عند المستشرقين معقدةٌ مركبةٌ ، من احتجاجهم بما لا حجة فيه ، مرورًا باستدلالهم بما لا دلالة فيه ، إلى رفضهم لما فيه الحجية والدلالة . وهم في كل هذا الطيش والعبث والجهل العريض يتظاهرون بالإنصاف وعدم المحاباة وعدم المجاملة والأمانة العلمية ، وإلى الله المشتكى .
--------------------
الحواشي :
(*) “…serious scholarship demands that each and every report attributing a certain variant reading to a particular authority should be thoroughly looked into and its authenticity or otherwise be ascertained before hazarding a drastic conclusion on the basis of that reading. The fact remains that Jeffery has not done anything of that sort. And in view of the fact that the popular Qur’an commentaries contain many uncorroborated and inauthentic reports and that many interested groups had readily had recourse to fabrication of reports, the majority of the variant readings listed by Jeffery are suspect and are unworthy of credence.”
M. M. Ali (2004), The Qur’an and the Orientalists (UK: Jam’iyat ‘Ihyaa Minhaaj al-Sunnah), p.231
(**) انظر محمد الغزالي ، دفع عن العقيدة والشريعة ضد مطاعن المستشرقين ، دارالكتب الإسلامية ، الطبعة الخامسة 1988 ، ض72-73 .
(***) يقول الدكتور عبد الصبور شاهين معلقًا على هذه الفقرة من كلام جيفري: (( وإذا صح أن يأخذ العلماء بهذا المنهج في مجال لم تتناوله محاولات السابقين ، فبقي مجهولاً غامضًا ، فإنه لا يصح فيما انتهى السابقون من تمحيصه ونقده ، كلمةً كلمةً وحرفًا حرفًا ، على الأساس الذي أبنّا عنه ، وبعبارة أخرى: إذا صحّ مثل هذا النهج في تحقيق نصوص الكتب المقدسة السابقة على القرآن ، فلأن هذه الكتب وما لابس (وضعها) من ظروف ، وما تعاورها من محاولات (الإصلاح) ، كل ذلك يدعو إلى الريبة والشك ، وهو شك لم يخامر عقول السابقين من أجيال اليهودية أو المسيحية . أما بالنسبة للقرآن فالأمر مختلفٌ تمامًا ، فكل ما يثير شكًا ، أو يهييء احتمالاً تناوله الأئمة والعلماء بمنهج صارم ، بلغ الغاية في شموله ، وبلغوا الغاية في تطبيقه ، سواء في ذلك نقد الأسانيد ونقد المتون . ولست أدري بعد هذا كيف يمكن أن تؤدي الآراء والظنون والأوهام والتصورات ، بمن جمعها ، إلى تحديد ما كان واقعًا فعلاً في ذلك العهد البعيد ، وفي ذلكم المجتمع المثالي ، في الوقت الذي عجز فيه عن تذوق العربية ، ورفض احترام مناهج أهلها في البحث والتقصي ، ثم جلس يقيس بعقله هذا وبخياله ماضيًا تباعدت أطرافه ، واختفت معالمه المكانية والزمانية ، واختلفت ظروفه تمامًا عن الحاضر ، كما اختلفت تمامًا عن ظروف من سبق من أمم أهل الكتاب ؟! إن مثل هذا المسلك لا يؤدي بصاحبه إلا إلى خطل الرأي ، وانتكاس الخطة ، وضياع الهدف ، وبعبارة أخرى نقرر: أن الشك المنهجي لا محل له في قضية تم قياسها ونقدها بأدق ضروب الشك المنهجي . وهذه هي نقطة الانفصال بيننا وبين المستشرقين الذي كتبوا عن تاريخ القرآن ..))
عبد الصبور شاهين ، تاريخ القرآن ، نهضة مصر للطباعة النشر والتوزيع ، الطبعة الثانية يناير 2006 ، الترقيم الدولي: ISBN 977-14-3042-4 ، ص124 .