نظرية النظم في البلاغة والنقد والإعجاز القرآني، في التراث المعرفي قبل الإمام الجرجاني

إنضم
10/08/2010
المشاركات
295
مستوى التفاعل
1
النقاط
18
نظرية النظم في البلاغة والنقد والإعجاز القرآني، في التراث المعرفي قبل الإمام الجرجاني
فتحي بودفلة
(هذه المسألة مستلّة من بحث فيه شيء من الطول، موضوعه نظرية النظم إن وجدت من المتصفحين اهتماما بالنقد والتقويم أوردت مسائله تباعاً...)
نظرية النظم لم تولد من فراغ ولم توجد هكذا فجأة دون إشارات وإرهاصات تهيّئ لها ... ودون محاولات ومقدمات تمهّد لها ...فلا يُعقل أن يصل الأمر بهذه النظرية إلى مثل هذا النضوج وهذا التكامل والوضوح هكذا بين عشية وضحاها...بل لا بدّ وأنّها نتاج تراكم معرفي كبير وتواصل علمي طويل...وهذه الحقيقة قرّرها وتبناها جلّ من تناول نظرية النظم بالدراسة والتحليل...وسنحاول بدورنا من خلال هذا المبحث الوقوف على حقيقة هذه المسألة لا بمجرد الاتّباع والتقليد وتكرير ما قيل وتجرير الأقاويل فقط... ولكن بالبحث في حقيقة هذه الأسبقية ... بمحاولة استقراء النصوص التراثية القديمة بقدر الاستطاعة والإمكان...ثمّ بمحاولة دراسة هذه النصوص وتحليلها... لأنّه في اعتقادي – والله أعلم – لا يكفي أن نجد كلمةَ "نظم" في بعض النصوص القديمة لنجزم ونحكم بكون الإمام الجرجاني كان مسبوقاً إليها...لأنّ موضوع بحثنا ليس مطلق النظم، وإنّما هو نظم مخصوص، هو نظم الكلم، وليس كلّ نظم للكلم، بل نظمه وفق قوانين النحو بما تمليه معانيه... هذا هو النظم الذي نبحث فيه وننسب الأسبقية في اكتشافه أو على الأقلّ في تجليته وبيانه للإمام الجرجاني...
أوّلا: تقرير كون الإمام الجرجاني لم ينطلق من فراغ
هذه الحقيقة في غاية التحقيق والتقرير يؤكّدها كما تقدم ذكره: أنّ هذا النضوج والاكتمال في النظرية يستحيل أن يصل إلى هذا المستوى الراقي هكذا من أوّل يوم دون أن يسبق بمحاولات واجتهادات ممهدة... وتقويمات وتصويبات متقدمة... هذا من جهة ومن جهة أخرى يؤكّد هذه الحقيقة الإمام الجرجاني نفسه فهو يقرّ في غير ما موضع من كتابه دلائل الإعجاز على حقيقة كونه مسبوقا بغيره وأنّه استفاد ممّن سبقه حيث يقول رحمه الله في فصل القول في النظم وتفسيره ما نصه: "وقد علمتَ إِطباقَ العُلماءِ على تعظيمِ شأنِ النَّظْمِ وتفخيمِ قَدْرِه والتَّنويهِ بذكرهِ وإِجماعِهم[1] أنْ لا فضلَ معَ عَدمِه ولا قدرَ لكلامٍ إِذا هو لم يستقمْ لَهُ ولو بلغَ في غَرابةِ معناهُ ما بلغ . وبَتَّهُم الحكمَ بأنه الذي لا تَمامَ دونَه ولا قِوامَ إِلا بهِ وأنه القُطب الذي عليه المدارُ والعمودُ الذي به الاستقلال ."[2] وفي موضع آخر يقول: "وكذلك كانَ عندَهُم [يقصد النظم] نظيراً للنَّسجِ والتّأليفِ والصياغةِ والبناءِ والوَشْيِ والتّحبير وما أشبه ذلك مما يوجبُ اعتبارَ الأجزاءِ بعضِها معَ بعضٍ حتىّ يكونَ لوضعِ كلٍّ حيثُ وُضعَ علّة تَقْتضي كونَه هناك وحتى لو وُضعَ في مكانٍ غيرِه لم يَصحَّ"[3]
ويقول أيضا: "...إلاّ أنهم وإن كانوا لم يستعملوا النَّظمَ في المعاني قد استعملوا فيها ما هوَ بمعناهُ ونظيرٌ له وذلك قولُهم : إنه يرتَّبُ المعاني في نفسِه ويُنزلُها ويَبني بعضَها على بَعضٍ . كما يقولون : يرتبُ الفروعَ على الأُصولِ ويُتبعُ المعنى المعنى ويُلحقُ النَّظيرَ بالنظير." اهـ[4]
فهذه النصوص تؤكّد استفادة الجرجاني ممّن سبقه، وهي حقيقة لا تحتاج إلى الاستدلال أصلاً ولا ينبغي أن يقف عندها الباحثون بأكثر من الإشارة العابرة أو الاستفادة الخاطفة؛ لأنّها حقيقة تعمّ العلم كلّه لا نظرية النظم فقط، فالعلم كلّه رحمٌ متواصلة، ومعرفة متراكمة، يستفيد الآخر من الأوّل ويأخذ منه ثمّ ينمي العلم ويزيد فيه ...
لكن ما يستوقفنا في هذه النصوص ما يلي:
1. قوله رحمه الله: " وقد علمتَ إِطباقَ العُلماءِ على تعظيمِ شأنِ النَّظْمِ....وإجماعهم...وبتّهم...."
(إطباق العلماء... إجماعهم...بتّهم...) ألفاظ توحي بانتشار اصطلاح النظم وشهرته وذيوعه بين العلماء... لكن الأمر على خلاف ذلك وإلاّ فما حاجة الدارسين إلى عقد مثل هذه المباحث ينقبون في كتب التراث وينقرون عن لفظة ها هنا وكلمة هناك فيها إيماءةٌ أو إشارةٌ ولو من بعيد للنظم.... لماذا كلّ هذا الجهد الجهيد ؟... وهذا التكليف المضني والعمل الشاقّ؟... إذا كان اللفظ مجمعاً مطبقاً عليه، وقد بتّ في كتبهم ومصنفاتهم...
إنّ الواقع يأبى هذا الطرح وهذا الإطلاق؛ فأشهر وأجلّ كتب البلاغة والنقد والإعجاز التراثية بين أيدينا... فهذه كتب الجاحظ وابن قتيبة والخطابي والرماني والباقلاني والقاضي عبد الجبار وغيرهم في متناولنا وبين أيدينا ... لا نجد فيها هذا الإجماع والإطباق الذي ذكره الإمام الجرجاني... فما الذي أراده عليه رحمة الله بهذا الإطلاق ؟
2. قول الإمام الجرجاني: " ...إلاّ أنهم وإن كانوا لم يستعملوا النَّظمَ في المعاني قد استعملوا فيها ما هوَ بمعناهُ ونظيرٌ له" ومثله: " وكذلك كانَ عندَهُم [يقصد النظم] نظيراً للنَّسجِ والتّأليفِ والصياغةِ والبناءِ والوَشْيِ والتّحبير وما أشبه ذلك"
واضحٌ جليّ من كلام الجرجاني رحمه الله أنّ النظم كان معروفاً، لكن بمفهومه ومعناه لا باصطلاحه ولفظه... أي أنّ من تقدّمه من العلماء قد تحدثوا عن النظم ولكن بمسميات أخرى غير النظم، وقد ذكر من هذه المسميات نماذج منها : النَّسج، التأليف، الصياغة، البناء، الوشيّ، التحبير ....
وعلى مثل هذا المعنى يحمل قوله المتقدم (إطباق العلماء ، وإجماعهم)؛ خاصة وأنّ المتتبع لكتب البلاغيين والنقاد - الذين سبقوا الإمام الجرجاني - والناظر في مصنفاتهم يجدها حافلة بمثل هذه المصطلحات فقد أطبقوا عليها وأجمعوا تماما كما قال...
3. وطائفة أخرى من أقواله نحو: " وذلك قولُهم : إنه يرتَّبُ المعاني في نفسِه ويُنزلُها ويَبني بعضَها على بَعضٍ . كما يقولون : يرتبُ الفروعَ على الأُصولِ ويُتبعُ المعنى المعنى ويُلحقُ النَّظيرَ بالنظير." وقوله أيضاً:"اعتبارَ الأجزاءِ بعضِها معَ بعضٍ حتىّ يكونَ لوضعِ كلٍّ حيثُ وُضعَ علّة تَقْتضي كونَه هناك وحتى لو وُضعَ في مكانٍ غيرِه لم يَصحَّ"
في هذه الطائفة الثالثة من النصوص يستوقفنا الإمام الجرجاني على معنى النظم الذي سُبِقَ إليه فهو: ترتيبٌ للمعاني ، بناء بعضها على بعض، إتباع المعنى المعنى، إلحاق النظير بالنظير، اعتبار الأجزاء....
تبدو هذه التعريفات للنظم غامضة أو على الأقلّ فيها كثيرٌ من الإجمال وشعبٌ من الاحتمال... لا ترتقي من قريب ولا من بعيد لتحديد الإمام الجرجاني للنظم وتعريفه وضبطه له... بل إن الناظر والمتأمل فيها يجدها أقرب إلى أجزاء وأنواع وضروب من النظم، لا النظم ذاته... فكأنّي ببعضهم يشير إلى المشاكلة بين المعاني وآخرون إلى المقابلة فيها وطائفة أخرى إلى مطلق التأليف...كما يُلاحظ على بعضهم - والله أعلم - أنّهم لَرُبما أدركوا مكانة النظم وأهميته في الكلام، ولكنهم لم يقفوا على حقيقته وعلّته؛ فهم يعرفون أنّ سرّ بلاغة الكلام في هذا الوضع والترتيب المخصوص لكن كيف؟ ولماذا؟... هذا ما لم يتوصلوا إليه.
لهذا نعتقد – والله أعلم – انطلاقا من هذه النصوص المتقدمة أنّ النظم قبل الإمام الجرجاني رحمه الله إنّما كان يقصد به مطلق التأليف والترتيب دون النظر إلى قوانين هذا الترتيب وقواعده كانوا يعلمون أنّ الكلمة كيت ينبغي أن توضع في هذا الموضع دون غيره لعلّة تقتضي ذلك وأنّ وضعها في غير ذلك الموضع سيؤدي إلى سقط الكلام وتهافت النظام... لكن ما هي هذه العلة؟ وما هو القانون الذي يحكم ذلك كلّه؟ الجواب على هذه الأسئلة هو الإضافة الكبرى التي أضافها الإمام الجرجاني للدرس البلاغي والنقدي... بجعله النحو العربي سلطان هذا التأليف والنظم... ومثل هذه الإضافة ليست بالشيء اليسير فهي ركن النظم الركين وقوامه المتين... وفرق شاسع وبون واسع بين مطلق التأليف وبين التأليف وفق قوانين خاصة...
قد يقول قائل: لكن هذه القوانين ملازمة للترتيب والتأليف فاشتراطها وعدمه سواء... ولا يضرّ السابقين في تعريف النظم عدم ذكرهم لهذه القوانين، فذكرها - والأمر كذلك – من باب تحصيل حاصل .
أوّلاً:إنّ هذا التلازم المدّعى- بين الترتيب والنحو - غير مسلّم به... فالترتيب قد يكون معنوياً خالصا كمن يرتّب ألفاظه وفق ما يريده من معانٍ لا ينظر إلى شيء آخر غير تأدية المعنى وبلوغه كيفما وقع... وقد يكون الترتيب باعتبار الأفكار وضوحها أو تسلسلها أو غير ذلك... لا يهمّه جمالاً ولا بياناً بل كلّ ما يهمه هو وحدة الأفكار وتسلسلها وفق منهج منطقي عقلي مجرد...إذاً تلازم الترتيب والنحو غير مسلّم به، نعم لا يصح الكلام إن خالف قواعد النحو العربي ولكن الحديث هنا ليس عن التزام قواعد النحو بل اعتبارها هي الأساس والأصل في ترتيب الكلام ... قد يلتزم المتكلم بالقواعد ولكن عمدته في الترتيب ليست هذه القواعد بقدر ما هو أصوات ألفاظه (لمن يهتم بجرس الكلام ونغمه) أو ربّما معانيها كما تقدم...
ثانياً: وعلى فرضية صحة هذا التلازم والالتزام فإنّ فضل الإمام الجرجاني كامن في ذكره وفي تصريحه به أو في اشتراطه وفي تفصيل أوجه هذا التأليف النحوي وكيف يؤثر في بيان الكلام وجماله ... ومن سبقه لم يتعرض لهذه الخاصية ولم يشر إليها .... إنّ من مهّمات العلم البحث والتنقيب عن أسرار ما هو موجود ومحاولة تعليله وتفسيره... ويرقى العلم ويتطوّر بقدر ما يتوصل إليه من تعليلات وتفسيرات للمظاهر المحيطة به ، فليس العلم مقصورا على إحداث الجديد وإبداع ما لم يكن...والإمام الجرجاني عليه رحمة الله نظريتُه قائمة على وصف شيء موجود والبحث عن تعليل ظاهرة كائنة، وقد بلغ في ذلك مبلغاً لم يدركه ولم يصله من سبقه، وسواء كان قصورهم عملي بحيث عرفوه ولم يذكروه، أو نظري بالنسبة للذين نسبوا بلاغة الكلام ومزيته لغيره، أو علّلوا الترتيب والتأليف بغير النظم... فإنّ الجرجاني فاقهم وتقدّم عليهم ولو بمجرد التصريح بالتعليل وتفصيله وبيانه. فهي إضافة علمية....
ثانيا: النصوص التراثية التي ورد فيها اصطلاح النظم
سنورد ما أمكن من النصوص والأقوال المتقدمة والتي وردت فيها الإشارة للنظم، محاولين تحليل هذه النقول والبحث في كنهها ومدى علاقة اللفظ الوارد فيها باصطلاح الجرجاني عليه رحمة الله .
1. ابن المقفع (142هـ) وقد عدّه الباحثون أقدم نصٍ ورد فيه ذكر النظم[5] حيث قال في الأدب الكبير والصغير :" وجل الأدب بالمنطق وجل المنطقِ بالتعلمِ. ليس منه حرف من حروف مُعْجَمِهِ ، ولا اسم من أنواع أسمائها إلا وهو مروي، متعلمٌ، مأخوذٌ عن إمام سابقٍ، من كلامٍ أو كتابٍ.وذلك دليلٌ على أنّ الناس لم يبتدعوا أصولها ولم يأتهم علمها إلا من قبلِ العليمِ الحكيمِ. فإذا خرجَ الناسُ من أن يكونَ لهم عملٌ أصيلٌ وأن يقولوا قولاً بديعاً فليعلمِ الواصفونَ المخبرون أن أحدهم، وإن أحسن وأبلغ، ليس زائداً على أن يكون كصاحب فصوص وجد ياقوتاً وزبرجداً ومرجاناً، فنظمه قلائد وسموطاً[6] وأكاليل، ووضع كل فص موضعهُ، وجمعَ إلى كل لونٍ شبهه وما يزيدهُ بذلك حسناً، فسمي بذلك صانعاً رفيقاً." [7]
هذا هو أقدم نصٍ ورد فيه اصطلاح النظم،ولكي نستطيع الوقوف على حقيقة هذا الاستعمال ومراد صاحبه منه ينبغي أن يعلم القارئ أنّ معنى الأدب الذي عناه ابن المقفع في كتابيه الأدب الكبير والصغير إنّما هو "حسن الأخلاق وحكمة التدبير"[8] لا معناه الاصطلاحي الخاص... وقد صنّف ابن المقفع كتابيه الأدب الكبير والصغير لبيان جملة من الأخلاق الكريمة والصفات الحميدة، فخاطب في كتابه الكبير السلطان والخاصة بينما عنى بأدبه الصغير عموم الناس، وهذا النّص مستلٌّ من أدبه الصغير من أوّل فصل فيه عنونه بعضهم بـ"الأدب ينمي العقول"[9] ...فالكتاب إذاً ليس كتابَ بلاغة أو لغة حتى يقصد صاحبه فيه تحليل مسألة نقدية بمثل هذا الحجم ويبحث عن سرّ بيان الكلام وتفاضله، وإنّما هي إشارة أراد بها تعليم عموم النّاس أنّ الأخلاق إنّما يكتسبها المرؤ بالتحلي والممارسة وأنّ أعظم ما تظهر تظهر في كلامه، فعليه أن ينتقي من الكلام أفضله (كفصوص الياقوت والزبرجد والمرجان) وأن يرتّبه وينظمه حتى يخرج في غاية الحسن والبيان (قلائد وسموطا وأكاليل).
هذا من جهة ومن جهة أخرى فإنّ من الفروق الجوهرية بين نظم ابن المقفع ونظم الجرجاني، أنّ الألفاظ عند هذا الأخير لا مزية لها إلاّ في النظم بينما هي عند ابن المقفع فصوصا وياقوتا وزبرجدا ومرجانا وما فعل النظم بها سوى الجمع والتنسيق ...
بقي أن نشير إلى أنّ نص ابن المقفع لم يرد في سياق مدح النظم وبيان فضله على الكلام وأنّه منشأ البلاغة والبيان، وإنّما ورد للتقليل من أهميته أو على الأقل لبيان فضيلة اللفظ على النظم (فالأولى منسوبة "للعليم الحكيم" أصالة وابتداءً والثانية تنسب للمتكلم...) أو لكي لا يغتر المحسن فيحسب نفسه صانع هذا الكلام ومبدعه فإنّه لم يزد على أن رتّب كلمات وألفاظا ولهذا تراه يقول في آخر هذه الفائدة كالمستخلص والمستنتج : "...فمن جرى على لسانه كلامٌ يستحسِنُه أو يُسْتَحْسَنُ منه، فلا يَعْجَبَنَّ إعجابَ المُخْتَرِعِ المبتدعِ. فإنّه إنّما اجتناهُ كما وصفنا."[10]
يتبع إن شاء الله...
فتحي بودفلة
كلية أصول الدين ، جامعة الجزائر


[1] الإجماع ها هنا لا يقصد به معناه الاصطلاحي في علوم الشريعة ... فالسياق يأباه، بل هو من المجازات الاصطلاحية والمعاني

[2] دلائل الإعجاز ص80

[3] المصدر نفسه ص49

[4] دلائل الإعجاز ص 53

[5] أحمد مطلوب. عبد القاهر الجرجاني بلاغته ونقده وكالة المطبوعات الكويت 1973 ص53 . إيمان قاضي. نظرية النظم للإمام الجرجاني، مجلة الموقف الأدبي آب 1985م . محمد جنيد الوقفي. نظرية النقد اللغوي عند عبد القاهر الجرجاني وعناصر مكوناتها...إلخ.

[6] "السمط هو العقد المنظوم، وهو من حلي العنق أيضاً وهو طويل يتدلى" ...." والإكليل عصابة تزين بالجوهر تضعها المرأة على شعرها..." من تعليقات الأستاذ أحمد زكي باشا على الأدب الصغير ص7

[7] الأدب الصغير لابن المقفع، تحقيق الأستاذ أحمد زكي باشا، طبعة جمعية العروة الوثقى 1911م 1329هـ

[8] تعليق الباحث زهير ظاظا على الكتاب في الومسوعة الشاملة , وانظر مقدمة الأستاد أحمد زكي للكتاب

[9] انظر النسخة المصورة لمكتبة المصطفى ص2 أو نسخة الشاملة ص 1 ويبدو أنّ هذا التبويب من إضافة بعض المحققين وليست من وضع الكاتب نفسه والله أعلم

[10] الأدب الصغير ص6-7
 
حديث سيبويه (180هـ) عن النظم

حديث سيبويه (180هـ) عن النظم

1. سيبويه 180هـ : ممّا أورده في الكتاب وعنى به النظم ولكنّه لم يسمه باسمه قوله: "هذا باب الاستقامة من الكلام والإحالة. فمنه مستقيم حسن، ومحال، ومستقيم كذب، ومستقيم قبيح، وما هو محال كذب. فأما المستقيم الحسن فقولك: أتيتك أمس وسآتيك غداً، وأمّا المحال فأن تَنقض أوّل كلامك بآخره فتقول: أتيتك غداً، وسآتيك أمس.وأما المستقيم الكذب فقولك: حملتُ الجبلَ، وشربت ماء البحر ونحوه.وأما المستقيم القبيح فأن تضع اللفظ في غير موضعه، نحو قولك: قد زيداً رأيت، وكي زيدٌ يأتيك، وأشباه هذا.وأما المحال الكذب فأن تقول: سوف أشرب ماء البحر أمس."[1]
قسّم سيبويه الكلام إلى : مستقيم، محال، حسن، قبيح، وكذب... وزاد أبو الحسن سعد بن مسعدة الأخفش صنفا آخر هو الخطأ
· فالقبيح وضع اللفظ في غير موضعه ومثّل له بـ: قد زيداً رأيت، وكي زيدٌ يأتيك ... والأصل أن يقال: قد رأيت زيداً وكي يأتيك زيدٌ ...فهو كما ترى صحيح اللفظ ولكنّه ضعيف النظم، قد يفهم منه مقصده ومعناه ولكنه معيب تركيبيا وإعرابيا بسبب دخول قد وكي على الاسم بدل الفعل...
· المحال: أن تنقض أوّل كلامك بآخره ومثّل له بـ: أتيتك غداً و سآتيك أمس . والصواب أن تقول: أتيتك أمس وسآتيك غداً ليتوافق الفعل الذي افتُتح به الكلام مع الظرف الذي اختُتم به. و هو كسابقه مخالف لقواعد النحو والنظم لا يصح في كلام العرب ولهذا قال أبو الحسن سعد بن مسعدة الأخفش تلميذ سيبويه في وصف هذا القسم: "هو ما لا يصح له معنى، ولا يجوز أن تقول فيه صدق ولا كذب، لأنّه ليس له معنى, ألا ترى أنك إذا قلت: أتيتك غدا لم يكن للكلام معنى تقول فيه صدق ولا كذب."[2]
· الحسن: ومثّل له بـ:أتيتك أمس وسآتيك غداً ، فهو ما استوفى شروط الصحة لفظا ونظما ومعنىً
· الكذب: ومثّل له بـ: حملت الجبل وشربت ماء البحر، ولعلّه قصد به ما استوفى شروط الصحة في لفظه ونظمه لا معناه
· المستقيم : ولعلّه قصد بالمستقيم ما استقامت ألفاظه ولم تنتقض لأنّه جعل هذا القسم مقابلا للمحال الذي عرّفه بانتقاض أوّله بآخره، ولأنّه جمع بين صفة الاستقامة وصفة الكذب التي عنى بها على الراجح ما لم يصحّ معناه وصحّ لفظه وتركيبه حيث مثل له بقوله شربت ماء البحر، وجمع بينها وبين القبح الذي عنى به والله أعلم العيب في النظم لا انتقاضه ومثّل له بـ: قد زيداً رأيت ... فيفهم من هذا أنّه لم يعني بالاستقامة صحة المعنى أو العيب في النظم والتركيب فلم يبقى والله أعلم سوى استقامة اللفظ وصحّته والله أعلم
· وقد أضاف تلميذ سيبويه الوفي سعد بن مسعدة الأخفش نوعا آخر هو الخطأ[3]: حيث قال: "ومنه الخطأ، وهو ما لا تَعمَد. نحو قولك: ضربنني زيد، وأنت تريد: ضربت زيداً، والخطأ لا تعمده."
ومهما يكن الأمر على التفصيل فإنّنا نجزم أنّ سيبويه راعى النظم واعتبره مقياساً ومعياراً يوزن به الكلام وينتقد. تؤكد هذه النتيجة القسمة المتقدمة كما يؤكدّه سياق الكلام الذي أورد فيه هذه القسمة ؛ فقد تقدّمها حديثه عن المسند والمسند إليه والعلاقة بين الألفاظ والمعاني ومسائل مثل الحذف في الألفاظ والاستغناء والعوض، ثمّ أتبع هذه القسمة بحديثه عن الضرورة الشعرية التي تقتضي الخروج عن بعض القواعد الصرفية واللغوية... فسياق الكلام بسوابقه ولواحقه كما ترى يتناول بناء الكلام العربي بلفظه ونظمه ومعناه... وكلّ ذلك من صلب نظرية النظم وقواعدها...
وليس الأمر بمستغرب في حقّ إمام النحو وشيخه سيبويه أن يهتمّ بالنظم وينصّ عليه... وهل النظم – كما قال الجرجاني – سوى توخي معاني النحو... هذا النحو الذي تشرّبه سيبويه وتبحّر فيه حتى أصبح رئيسه وإمامه الذي لا يغالبه ولا ينازعه فيه أحد...وميزة نَحْو سيبويه وغيره من متقدمي النحاة على خلاف متأخريهم الاهتمام بالمعنى المتوخى من وراء تركيب الألفاظ... وهذه الخاصية والميزة هي بيت القصيد ومربط الفرس في نظرية النظم، وهي البداية التي انطلق منها الإمام الجرجاني لتقرير وتقعيد نظريته.
يقول الأستاذ الدكتور حاتم الضامن متحدثا عن اهتمام سيبويه بالنظم وإشارته له: "وكان اهتمام سيبويه بنظم الكلام وتنسيق العبارات واضحاً في مواضع كثيرة من كتابه فمنها: اهتمامه بحروف العطف وأثرها في صحة النظم وفساده، وتقديم المسؤول عنه بعد أداة الاستفهام، وإخبار النكرة عن النكرة..."[4] ويستخلص الأستاذ ويستنتج قائلاً: "وهكذا فإنّ سيبويه قد تحدث عن مفهوم النظم مراعياً فيه أحوال النحو، فهو يرى أنّ لكل استعمال معناه، وتغيير الاستعمال لا بدّ أن ينشأ عنه تغيير المعنى، وهو لا يبعد في ذلك عن معنى النظم وإن لم يسمه باسمه."

[1] الكتاب. سيبويه 1\25-26 وانظر د. حاتم الضامن ص7-8 . إيمان القاضي

[2] الكتاب 1\26

[3] الكتاب ص26

[4] نظرية النظم تاريخ وتطور.حاتم الضامن ص8
 
أستاذنا الفاضل شكر الله لك اهتمامك... البحث أنا الآن أكتب فيه ...ولم أتم منه إلاّ مباحث معدودة هذا أحدها...
 
النظم في صحيفة بشر بن المعتمر

النظم في صحيفة بشر بن المعتمر

1. بشر بن المعتمر 210هـ : رئيس المعتزلة في بغداد صاحب الصحيفة البشرية التي استُلّ منها هذا النص ولعلّها من أقدم النصوص التراثية التي تناولت فصولا مهمة من علم البلاغة وفنّ الخطابة وحسن البيان... يقول بشر بن معتمر متحدثا عن المنزلة الثانية من منازل البيان وحسن الكلام: "....فان كانت المنزلةُ الأولى لا تواتيك ولا تعتريك ولا تسمح لك عند أوَّل نظَرك وفي أول تكلُّفك وتجد اللفظةَ لم تقع موقعَها ولم تَصِر إلى قرارها والى حقّها من أماكنها المقسومة لها، والقافيةَ لم تحل في مركزها، وفي نصابها، ولم تصل بشكلها، وكانت قلقةً في مكانها، نافرةً من موضعها، فلا تكرهها على اغتصاب الأماكن، والنزول في غير أوطانها...." اهـ[1]
الحديث ها هنا – كما ترى – عن "موقع" الألفاظ وعن "قرارها" و "حقّها" و "مكانها المقسوم لها" و"المركز" و"النصاب"... فهذه جميعها اصطلاحات تشير إلى نظام معيّن ونسق محدّدٍ، لا تبلغ الألفاظ مبلغها من الفصاحة والبلاغة ومن الجمال والحسن ما لم تلتزم به وتنتظم في سلكه. فإن هي جانبته أو خرقته وأقحمت نفسها فيه إقحاماً ... "كانت قلقة في مكانها" "نافرة من موضعها" مغتصبة لحقّها، نازلة في غير موطنها...
لنتحدث الآن عن سياق هذا النَّص ... لنتأكد من دلالته على النظم الاصطلاحي المخصوص... فالموضوع العام لهذه الصحيفة أو مقامها هو القصة المشهورة التي أوردها الجاحظ في بيانه حيث قال: "مر بشر بنُ المعتمر بإبراهيم بن جبلة بن مَخْرَمة السَّكونيّ الخطيبِ، وهو يعلّم فتيانهم الخَطابة، فوقف بِشرٌ فظنّ إبراهيمُ أنه إنما وقف ليستفيد أو ليكون رجلا من النَّظَّارة، فقال بشر اضربوا عمّا قال صفحاً واطوُوا عنه كَشْحًا ثم دفع إليهم صحيفةً من تحبيره وتنميقه..."[2] فالمقامُ مقامُ تعليمٍ للخَطابة وفنون الكلامِ وهو مقام يناسب موضوعَ النَّظم... لهذا جاءت هذه الصحيفة حافلة بكلّ ما من شأنه يساعد على إجادة البيان وإتقان الكلام... ولو حاولنا اختصارها وتقريب معانيها وأفكارها لقلنا: بدأها بالحديث عن تخيّر الظرف الذي ينبغي أن يُنشأ فيه الكلامُ ونهى عن التوعّر فيه ثمّ اشتراط مطابقة اللّفظ لمقامه ومعناه لينتقل بعد ذلك إلى ما سماه بالمنازل الثلاث وأوّلهنّ اختيار اللفظ العذب والسهل والمعنى الظاهر المعروف وثانيهنّ توخي اللفظُ مكانَه المناسب َمن الكلامِ والنّظمِ – وهذا هو موضوع النّص الذي أوردناه – أمّا المنزلة الثالثة فيقول عنها: "...فالمنزلة الثالثة أن تتحوّل من هذه الصناعة إلى أشهى الصناعات إليك، وأخفّها عليك..."[3] ثمّ يمضي في كلامه مسترسلا... بما لو تتبّعناه لخرج بنا الكلام عن مقتضى البحث والمقام، ويكفينا منه ما يؤدي المقصود ويحصّل المطلوب وهو إشارة بشر لأهمية النظم ودوره في صناعة الكلام وإجادة البيان...

[1] البيان والتبيين 1\137-138

[2] المصدر نفسه 135

[3] المصدر نفسه 138
 
4. كلثوم بن عمرو العتابي 220هـ

4. كلثوم بن عمرو العتابي 220هـ

1. كلثوم بن عمرو العتابي 220هـ: أورد أبو هلال العسكري في الصناعتين نصّاً للعتابي يصرّح فيه بمعنى النظم ويبيّن ضرورته وخطورته في الكلام حيث يقول: "الألفاظ أجساد، والمعاني أرواح، وإنّما تراها بعيون القلوب، فإذا قدّمت منها مؤخرا، أو أخرت منها مقدّماً أفسدت الصورة وغيّرت المعنى؛ كما لو حُوِّل رأس إلى موضع يد، أو يد إلى موضع رجل، لتحوّلت الخلقة، وتغيّرت الحِلية."[1]
فالتقديم والتأخير في مراتب الألفاظ ومواضعها من شأنه أن يؤثّر في الكلام صورة ومعنىً... هذا هو ملخص ومفاد كلام العتابي رحمه الله.... والحديث عن المواضع، والمراتب، والأوضاع، والتقديم، والتأخير... أليس هو النظم ذاته.
إنّ الشيء الوحيد الذي يعوز هذا الكلام حتى ينطبق عليه تمام الانطباق تعريف الجرجاني للنظم هو قواعد النحو وقوانينه، هو توخي معاني النحو...ونظرية النظم الجرجانية لا تستقيم بدون ذكر النحو ولا تُتصور بدونها فهو ركنها الركين وجوهرها الأصيل.
وعلى خلاف النصوص السابقة لا يمكننا الوقوف على سياق نصّ العتابي لأنّ المصدر هكذا أورده مبتوراً لا نعلم سياقه ولا مناسبته...ولكن سنستعيض عنه بالسياق الذي ذكره فيه أبو هلال العسكري رحمه الله . فنقول إنّ كتاب الصناعتين الذي ورد فيه النص هو كتاب أدب وبلاغة ونقد بامتياز، والباب الذي أورده فيه هو الباب الرابع والذي ترجم له بقوله: "البيان عن حسن النظم وجودة الرصف والسبك" فانظر كيف صرّح في هذه الترجمة باصطلاح (النظم) وكيف شرحه بمرادفين له (الرصف والسبك) فالرصف في اللغة هو ضمّ الشيء إلى الشيء ومنه رصف الحجارة في البناء [2] والسبك التناهي في إمهاء الشيء بمعنى جريانه في لين وسهولة ومنه سبكت الفضة وهو في الكلام مجاز تقول هذا كلام لا يثبت على السبك وهو سبّاك للكلام[3] . ثمّ انظر وتأمّل في تعليق أبي هلال على هذا النّص حيث قال: "وقد أحسن في هذا التمثيل وأعلَمَ به على أنَّ الذي ينبغي في صيغةِ الكلامِ وضْعُ كلِّ شيءٍ منه في موضعه ليَخرُجَ بذلك من سوء النظمِ"[4] إذا فالكلام واضح في ذاته، وفي سياق وروده، وفي تعليق أبي هلالٍ عليه، أنّه في النظم المخصوص نظم الكلام وتأليفه وترتيبه...ولعل الإضافة المتميزة في هذا النص هو ذلك التشبيه والتمثيل البديع بجسم الإنسان...فللإنسان جوهر وصورة غاية في الحسن ونهاية في الإبداع والجمال بسبب ذلك التكامل بين روحه وعقله وجسده، وبسبب انتظام أعضائه وتكاملها...وكذلك الكلام ينبغي أن تتكامل ألفاظه ومعانيه من خلال انطباقها عليها وترجمتها لها ... كما ينبغي لهذه الألفاظ أن تأخذ مكانها وموضعها الذي يليق بها لا تستبدله ولا تتعداه، حتى يتمّ النسق العام ويحسن وينتظم الكلام...

[1] الصناعتين الكتابة والشعر ص161

[2] انظر مقاييس اللغة ص405 المصباح المنير 87 مختار الصحاح 245 الأفعال لابن القطّاع الصقلي 515هـ ص205

[3] انظر المقاييس 503-966-967 كتاب الأفعال248 أساس البلاغة 284 المصباح المنير 101 مختار الصحاح 284

[4] الصناعتين 162
 
5. أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ 255هـ

5. أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ 255هـ

1. أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ 255هـ :هو أشهر من ينسب إليه اصطلاح النظم بعد الإمام الجرجاني ولعلّه أحد أكثر من استعمله في كتاباته ومؤلفاته... بل وينسب إليه كتاب في النظم خاصة، هو كتابه المفقود "نظم القرآن" ، فقد أورد في مقدمة وبدايات كتابه الحيوان في محفل ردّه على بعض من انتقد كتاباته ورسائله نصًّا يذكر فيه شأن هذا الكتاب وموضوعه حيث يقول: "...عِبتَ كتابي في الاحتجاج لنظم القرآن وغريب تأليفه وبديع تركيبه..."[1] وممّا قاله عنه في كتاب حجج النبوة: "...فكتبت لك كتابا أجهدتُ فيه نفسي، وبلغت منه أقصى ما يمكن مثلي في الاحتجاج للقرآن، والرد على كل طعّان. فلم أدعْ فيه مسألةً لرافضيٍّ، ولا لحديثي، ولا لحشويٍّ، ولا لكافر مُبادٍ، ولا لمنافق مقموع، ولا لأصحاب النَّظَّام، ولمن نَجَمَ بعدَ النَّظام، ممن يزعمُ أنّ القرآن خلقٌ، وليس بحجّة، وأنّه تنزيلٌ وليس ببرهان ولا دلالو. فلما ظننت أني قد بلغت أقصى محبَّتك، وأتيت على معنى صفتك، أتاني كتابُك تذكر أنّك لم ترد الاحتجاج لنظم القرآن، وإنما أردت الاحتجاج لخلق القرآن."[2]
وممّا قيل في وصفه قديما من بعض من قرأه ووقف عليه قول الخياط المعتزلي: "ولا يعرف كتاب في الاحتجاج لنظم القرآن وعجيب تأليفه وأنّه حجّة لمحمد صلى الله عليه وسلم على نبوته غير كتاب الجاحظ."[3] وقال أيضاً: "فمن قرأ كتاب عمرو الجاحظ في الردّ على المشبهة وكتابه في الأخبار وإثبات النبوة وكتابه في نظم القرآن علم أنّ له في الإسلام غناء عظيماً لم يكن الله عزّ وجلّ ليضيعه له."[4]
وممّا قاله الباقلاني في إعجاز القرآن عن هذا الكتاب: " وقد صنف الجاحظ في نظم القرآن كتابا لم يزد فيه على ما قاله المتكلمون قبله ولم يكشف عما يلتبس في أكثر هذا المعنى"[5]
قبل تحليل هذه النقول لأجل معرفة قصد الجاحظ بالنظم في هذا الكتاب ينبغي التنبيه على أمر مهمّ غاية الأهمية، ذلك أنّ هذه الشهادات لا ينبغي الوثوق بها كلَّ الوثوق فهي لا ترقى إلى مستوىً عالٍ وآمنٍ من التجرد والموضوعية فأوصاف الجاحظ هي أوصاف يسقطها على كتابه أي على وليد أفكاره فهي من قبيل شهادة الوالد لولده... وماذا عساه يقول الوالد في حقّ ولده سوى الإطناب في المدح والمبالغة في الثناء... وأوصاف الخياط المعتزلي لكتاب صديقِ دربه وزعيم حزبه إنّما هي بمثابة شهادة الأخ لأخيه... بينما أوصاف الباقلاني الأشعري لمنافسه المعتزلي بل لخصمه إن لم نقل ألدّ خصومه، إنّما هي بمثابة شهادة ذي غمرٍ...لكلّ هذا ينبغي توخي الحذر في استنباط أوصاف كتاب الجاحظ من خلال هذه النقول...
فلعلّ من أهمّ ما يمكننا استنتاجه واستنباطه من أوصاف هذا الكتاب المفقود ما يلي:
· الغاية الأولى للكتاب هو إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من خلال القرآن الكريم ولا بدّ ّ أن يكون ذلك بإثبات إعجاز هذا القرآن... خاصة وأنّ الجاحظ قد تناول هذه الغاية في كتابه حجج النبوة ولكنه اعتمد هناك وسيلة أخرى غير القرآن الكريم...
· هو كتاب قصد به الاحتجاج لنظم القرآن... لكن ما المقصود بنظم القرآن ها هنا؟ هل هو التركيب الذي عناه الجرجاني أم هو مطلق نصّ القرآن بصياغته وأسلوبه وألفاظه وتركيبه... ولعلّ هذا المعنى الثاني هو المترجح لأنّه إنّما كتبه للردّ على الطاعنين في حجية القرآن الكريم، ويكاد القدماء والمحدثون يجمعون على أنّ الطاعن الأوّل الذي قصده الجاحظ هو شيخه النظام ونظرية الصرفة، والنظم هنا إطلاق يقابل إطلاق الصرفة فإذا كان الإعجاز في هذه الأخيرة خارج عن مهية وحقيقة القرآن الكريم وإنّما هو في صرف الله تعالى العرب عن معارضة القرآن رغم قدرتهم على ذلك...فإنّ القول بالنّظم يومها كان يقصد به إعجاز القرآن بنصه بصياغته وألفاظه ومعانيه...
· الردّ على الطاعنين في القرآن الكريم، وقد ذكر من هؤلاء الطاعنين: الروافض وأهل الحديث والحشوية والكفار والمنافقين وأصحاب النظام ومن نجم بعد النظام ... ويبدو والله أعلم أنّ الردّ على هؤلاء لا بدّ وأن يتخذ مناحي عدّة في كتابه؛ الأوّل: الاهتمام بمضامين القرآن الكريم للردّ على جلّ المذكورين ها هنا الثاني: الاهتمام بنص القرآن وصياغته للردّ على اصحاب النّظام ومن جاء بعد النظام ثالثا: الاهتمام بالجانب العقدي الكلامي على طريقة الجاحظ ومذهبه الاعتزالي للردّ عليهم جميعاً...والاعتماد على بيان القرآن والتوسع فيه يبدو مستبعدا في حقّ هذه الفرق، اللهمّ إلاّ النظّام وأصحابه، ويكفي لإبطال نظرية الصرفة إجمال القول في بلاغة نص القرآن وصيغته دون الخوض الدقيق في أوجه هذا الإعجاز والغوص العميق وراء أسراره، بل إنّ الردّ على النظام قد يُسلك فيه منهج كلامي أكثر منه بلاغي...تماما كما صنع جلّ من ردّ عليه كالخطابي والباقلاني وغيرهما...
· جرى في هذا الكتاب على مذهب المتكلمين... أي أنّ الجانب العقدي العقلي المنطقي قد غلب عليه ولو كان موضوع الكتاب النظم بمعناه الاصطلاحي الخاص لغلب على الكتاب الجانب الأدبي والبلاغي...
· يُستبعد أن يكون في هذا الكتاب قد درس النظم الذي هو التركيب والتأليف على طريقة عبد القاهر الجرجاني أو قريبا منه حتى، ثمّ ترى من جاء بعده لا يشير إلى هذا الأسلوب في تناول بلاغة القرآن وإعجازه، بل لا تجد فيهم من يقلّده وينتهج نهجه أو يشير إلى إبداعه فيه وإتقانه له... لا نجد شيئا من ذلك كلّه...
لهذا نرجّح غير جازمين ولا باتّين - والله أعلم بالحقّ والصواب - أن يكون القصد بنظم القرآن في هذا الكتاب مطلق نصّ القرآن أي صياغته وألفاظه وأسلوبه وتراكيبه، وبمثل هذا المعنى عرّفه غير واحد من أهل العلم كالشريف الجرجاني في تعريفاته حيث قال: "النظم هي العباراتُ التي تشتملُ عليها المصاحفُ صيغةً ولغةً..."[6]
وهذا كلّه فيما يخصّ كتابه عن نظم القرآن، أمّا مطلق إشاراته وحديثه عن النظم في مختلف كتبه ومصنفاته، فحدّث ولا حرج... وسأنقل ها هنا شيئاً منها، ليعلم القارئ أنّ الجاحظ ومن وراء الجاحظ بيئته العلمية كانوا على دراية وعلم بفضل نظم الكلام وترتيبه وأثر ذلك في حسن الكلام وجودة البيان
يقول الجاحظ في حجج النبوة: ""...لأن؟ رجلاً من العرب لو قرأ على رجلٍ من خطبائهم وبلغائهم سورةً واحدة، طويلة أو قصيرة، لتبيّن له في نظامها ومخرجها وفي لفظها وطبعها أنّه عاجزٌ عن مثلها . ولو تحدّى بها أبلغ العرب لظهر عجزه عنها. وليس ذلك في الحرف والحرفين، والكلمة والكلمتين. ألا ترى أنّ النّاس قد كان يتهيَّأ في طباعهم، ويجري على ألسنتهم أن يقول رجل منهم: الحمد لله, وإنّا لله، وعلى الله توكلنا، وربّنا الله، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وهذا كلّه في القرآن، غير أنّه متفرِّق غير مجتمع، ولو أراد أنطق الناس أن يؤلف من هذا الضَّرب سورةً واحدة طويلة أو قصيرة، على نظم القرآن وطبعه، وتأليفه ومخرجه لما قدر عليه، ولو استعان بجميع قحطان ومعدِّ بن عدنان."[7]
ويقول أيضاً : " ألا ترى أنا نزعم أنَّ عجزَ العرب عن مثلِ نظم القرآن حجةٌ على العجم من جهة إعلام العرب العجمَ أنَّهم كانوا عن ذلك عجزة." اهـ [8]
ومن أوضح وأصرح أقواله تعليقه على كلام لخلف الأحمر : " أما قول خلف: وبعض قريضِ القومِ أولادُ عَلّة
فانّه يقول: إذ كان الشعرُ مستكرَهًا وكانت ألفاظُ البيت من الشِّعر لا يقع بعضُها مماثلاً لبعض، كان بينها من التَّنافُر ما بين أولاد العَلَّات. وإذا كانت الكلمةُ ليس موقعُها إلى جنْب أُختها مَرْضِيًّا موافقا، كان اللِّسان عند إنشاد ذلك الشعر مَؤُونة.
قال: وأجود الشِّعر ما رأيتَه متلاحم الأجزاء، سهلَ المخارج، فيعلمُ بذلك أنه أُفرغ إفراغا واحداً، وسُبِك سبكا واحداً، فهو يجري على اللِّسان كما يجري الدِّهان .
وأما قوله: "كبعر الكبش"، فإنَّما ذهب إلى أنَّ بعرَ الكبش يقع متفرقاً غيرَ مؤتلفٍ ولا متجاور. وكذلك حروفُ الكلام وأجزاءُ البيت من الشِّعر، تراها متَّفقة مُلْسًا، وليِّنة المعاطف سهلة، وتراها مختلفةً متباينة، ومتنافرة مستكرهة، تشقُّ على اللسان وتكدُّهُ. والأخرى تراها سهلةً ليّنة، ورطبةً مُتواتية، سلِسةَ النِّظام، خفيفةً على اللِّسان؛ حتى كأنّ البيتَ بأسْرِه كلمةٌ واحدة، وحتى ّكأنّ الكلمةَ بأسرها حرفٌ واحد. اهـ [9]
وهذا الكلام وإن حمل بعضه على المعنى الذي رجحناه أوّلا، وهو نص القرآن وصياغته فإنّ بعضه الآخر وهو أكثره، صريح في إفادة معنى النظم الاصطلاحي سواء صرّح باسمه كقوله: "سلسة النّظام" "تبيّن له في نظامها" "على نظم القرآن وطبعه" أو بمعناه كقوله: " لا يقع بعضُها مماثلاً لبعض" "موقعُها إلى جنْب أُختها مَرْضِيًّا موافقا" "متلاحم الأجزاء" " أُفرغ إفراغا واحداً، وسُبِك سبكا واحداً، فهو يجري على اللِّسان كما يجري الدِّهان ."
ومن أبدع ما أشار به إلى معنى النظم تعليقه على وصف خلف الأحمر لضدّه وعيب اختلاله ببعر الكبش حيث قال: [لأنّه] "... يقع متفرقاً غيرَ مؤتلفٍ ولا متجاور..."
فلا أظنّ أحدا يشكّ بعد هذا في كون معنى النظم واصطلاحه كان معروفا مشهورا تماما كما قال الجرجاني عليه رحمة الله، ولكن كان يعوزه - والله أعلم -كثيراً من الضبط والتقنين والتقعيد...

[1] الحيوان 1\9

[2] خلق القرآن ضمن رسائل الجاحظ3\287

[3] نقلا عن نظرية النظم تاريخ وتطور ص11 وأحال على الانتصار ص 111 لكنّي و إلى حدّ الآن لم أقف عليه في الانتصار

[4] الانتصار الردّ على ابن الراوندي الملحد لأبي الحسين الخياط المعتزلي ص 22

[5] إعجاز القرآن ص6

[6] التعريفات ص233

[7] حجج النبوة من رسائل الجاحظ ص 229

[8] البيان 3\295 البيان والتبيين

[9] البيان والتبيين 1\66-67
 
6. ابن قتيبة الدينوري (276هـ)

6. ابن قتيبة الدينوري (276هـ)

1. ابن قتيبة الدينوري (276هـ) :
لقد عقد ابن قتيبة بابا أفرده لتأويل الكلام الذي يبدو مخالفاً للنظم وترجم له بقوله: (باب تأويل الحروف التي ادّعي على القرآن بها الاستحالة وفساد النظم)[1] لكن النّاظر في مباحث هذا الباب يجد أنّ ابن قتيبة إنما قصد بالنظم هنا، صفة كلام العرب ونسقه ونظامه مجملاً، أو بمعنى آخر جريان الكلام وفق سنن العرب وقواعدهم، لا النظم الذي هو التأليف والترتيب والله اعلم.
وهذا المعنى يتماشى مع هدف الكتاب كلّه ومنهجه فيه، ومع مواضيع هذا الباب ومسائله.
فأمّا الموضوع العام لكتاب ابن قتيبة فهو الدفاع والذبُّ عن كتاب الله بتأويل مشكله، وحلّ عقده، وبيان موافقة ذلك كله لسنن العرب ونظمهم للكلام. يقول ابن قتيبة رحمه الله: "وقد اعترض كتاب الله بالطعن ملحدون ولغوا فيه وهجروا، واتبعوا {ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله} بأفهام كليلة، وأبصار عليلة، ونظرٍ مدخول، فحرَّفوا الكلام عن مواضعه، وعدلوه عن سُبُلِه. ثمّ قَضوا عليه بالتناقُضِ، والاستحالة، واللّحن، وفسادِ النَّظمِ، والاختلاف. وأدلوا في ذلك بعلل ربما أمالت الضعيف الغُمْر، والحدَث الغِرّ، واعترضت بالشبه في القلوب، وقدَحت بالشكوك في الصدور.... فأحببت أن أنْضَحَ عن كتاب الله، وأرمي من ورائه بالحجج النَيِّرة، والبراهين البيِّنة، وأكشف للناس ما يلبِسون." اهـ[2] وممّا ذكره في بيان بعض سنن العرب في الكلام وعلاقة ذلك بكتاب الله عزّ وجلّ قوله: " وللعرب "المجازات" في الكلام، ومعناها: طرق القول ومآخذه. ففيها: الاستعارة، والتمثيل، والقلب والتقديم والتأخير والحذف والتكرار والإخفاء والإظهار والتعريض والإفصاح والكناية والإيضاح ومخاطبة الواحد مخاطبة الجميع، والجميع خطاب الواحد، والواحد والجميع خطاب الإثنين، والقصد بلفظ الخصوص لمعنى العموم، وبلفظ العموم لمعنى الخصوص؛ مع أشياء كثيرة ستراها في "أبواب المجاز" إن شاء الله تعالى. وبكل "هذه المذاهب" نزل القرآن؛ ولذلك لا يقدر أحدٌ من التراجمِ على نقله إلى شيء من الألسنة، كما نقل الإنجيلُ عن السريانية إلى الحبشية والرومية وترجمت التوراة والزبور وسائر كتب الله تعالى بالعربية؛ لأنّ العجم لم تتَّسع في المجاز اتِّساع العرب." اهـ[3]
ولا يقدر على فهم القرآن الكريم إلاّ من وقف على كلام العرب بقواعده ونظمه يقول ابن قتيبة في هذا المعنى: "وإنّما يعرف "فضل القرآن" من كثُر نظره، واتّسع علمه، وفهم مذاهب العرب وافتنانها في الأساليب، وما خصّ الله به لغتها دون جميع اللغات؛ فإنه ليس في جميع الأمم أمّةٌ أوتيت من العارِضة، والبيان، واتساع المجال، ما أوتيتهُ العرب خِصِّيصَى من الله، لما أرْهصَه في الرسول، وأراده من إقامة الدليل على نبوته بالكتاب، فجعله عَلَمَه، كما جعل عَلَم كل نبي من المرسلين من أشبه الأمور بما في زمانه المبعوث فيه..."[4] فأنت ترى أنّ هدف الكتاب ومنهجه يدور حول مطلق سنن كلام العرب ، هذه السنن التي سماها مرة مذاهب وسماها أخرى أساليب وسماها أحيانا نظماً...فليس قصده بالنظم خصوص التأليف والتركيب والله اعلم بالحق والصواب.
أمّا مواضيع هذا الباب خاصة، فالناظر فيها والمتتبع لمسائلها يتأكّد أنّ قصد ابن قتيبة رحمه الله بالنظم – كما تقدم – إنّما هو مطلق سنن العرب وطريقتهم في الكلام؛ فقد افتتحه بالحديث عن الحروف الهجائية في أوائل بعض السور، فذكر تفسيرات الصحابة ومذاهبهم المختلفة في تأويلها ثمّ أردف ذلك كلّه ببيان وجهه وما يعضدّه من كلام العرب . ثمّ راح يعدد السور ويذكر ما يستشكل فيها من الآيات والمعاني والألفاظ، فيبيّن وجهها وتأويلها الصحيح، ويتبع ذلك كلّه بشواهد من كلام العرب...
وخلاصة القول أنّ نظم ابن قتيبة غير نظم الجرجاني، وقصده به، مطلق سنن العرب ومنهجهم في التخاطب والكلام، والله أعلم.

[1] تأويل مشكل القرآن 1\299

[2] تأويل مشكل القرآن 1\22-23

[3] المصدر نفسه 20-21

[4] المصدر السابق 1\12
 
7. إبراهيم بن المدبر (279هـ) أو إبراهيم بن محمد الشيباني(298هـ)

7. إبراهيم بن المدبر (279هـ) أو إبراهيم بن محمد الشيباني(298هـ)

1. إبراهيم بن المدبر (279هـ) أو إبراهيم بن محمد الشيباني(298هـ):
من النصوص التي دأب الدارسون للنظم قبل الجرجاني على إيرادها وذكرها، نص لإبراهيم بن المدبر ورد فيه اصطلاح النظم مسلول من كتابه "الرسالة العذراء" وهو قوله: "فإنّ الكاتب إنّما يصير كاتبا[1] إذا وضع كلّ معنى في موضعه، وعلّق كلّ لفظة على طبقها من المعنى، فلا يجعل أوّل ما ينبغي له أن يكتب في آخر كتابه ولا آخره في أوّله..."[2]
هذا النّص على خلاف سابقيه، نودّ الوقوف بعض الشيء على مسألة توثيقه قبل الخوض في دلالاته وسياقاته، فقد أعاد الدكتور يوسف محمد فتحي عبد الوهاب تحقيق الرسالة العذراء انطلاقا من ذات المخطوط الذي اعتمده الأستاذ محمد كرد علي – أوّل من طبع الرسالة [3]– وهي الطبعة التي اعتمدها الدكتور زكي مبارك، والمخطوط المذكور نسخة فريدة للرسالة موجود في دار الكتب المصرية ضمن مجموعة من الرسائل تحت رقم: 80 مجاميع تيمور ميكروفيلم 18203، فلاحظ الدكتور يوسف محمد أنّ المخطوط يبدأ بالعبارة التالية: "الرسالة العذراء في موازين البلاغة وأدوات الكتابة، كتب بها: أبو اليسر إبراهيم بن محمد الشيباني، إلى إبراهيم بن المدبر" بينما هي في الطبعة الأولى التي اعتمدت ذات المخطوط: "الرسالة العذراء في موازين البلاغة وأدوات الكتابة، كتب بها: أبو اليسر إبراهيم بن محمد بن المدبر" فيبدو والله أعلم أنّ الأستاذ محمد كرد علي قد انتقل بصره من لفظ إبراهيم الأوّل إلى الثاني فانقلب بذلك الاسم وتغيّر، وبقي الكتاب منسوبا لغير صاحبه كلّ هذه المدة...تتناقل الطبعات ذات الخطأ دون العودة إلى الأصل للتأكدّ والتثبت ...
فصاحب النّص إذاً هو أبو اليسر إبراهيم بن محمد الشيباني(298هـ) [4] لا إبراهيم بن محمد المدبّر(279هـ)[5]
نصّ إبراهيم بن محمد الشيباني ها هنا على وضع المعاني في مكانها وموضعها وعلى مطابقة الألفاظ لما يناسبها من هذه المعاني، وهذا شيء من النّظم، ولكنّه ليس النظم كلّه، فأين الحديث عن تعليق الألفاظ بعضها ببعض؟ وأين الحديث عن رابط النحو ؟ ... هذا من جهة تحليل النّص ذاته فلننظر الآن في سياقه لنتأكد من مراد ابن المدبر من هذا الكلام.
الرسالة العذراء، رسالة صغيرة الحجم عدد صفحاتها لا يتجاوز الخمسين بهوامش الدكتور زكي مبارك المثقلة جدّاً بالتعليقات والشروح، ومثل ذلك في نسخة الدكتور يوسف محمد، مسائلها وموضوعاتها تدور عموما في فلك آداب كتابة الرسائل وطرقها وتبويبها وما ينبغي لكاتبها أن يتّصف به من صفاتٍ خَلقية وخُلقية ويتحلى به من فصاحة اللّفظ وبلاغة الكلام و يتزود به من مختلف العلوم والفنون...فموضوع الرسالة أعمّ من خصوص فنّ الكلام وقد تناول الكاتب النظم أكثر ما تناوله من جهة تبويب الرسائل وترتيب موضوعاتها، فقد جاء في خطبة الكتاب ومقدمته ما نصّه: "...سألتني أن أقف بك على وزن عذوبة اللفظ وحلاوته، وحدود فخامة المعنى وجزالته، ورشاقة نظم الكتاب ومشاكلة سرده، وحسن افتتاحه وختمه، وانتهاء فصوله، واعتدال وصوله، وسلامتهما من الزلل، وبعدها من الخطل، ومتى يكون الكاتب مستحقا اسم الكتابة..."[6] فانظر كيف أضاف مصطلح النظم للكتاب لا للألفاظ أو المعاني...
هذا فيما يخص موضوع الكتاب كلّه، أمّا سياق النّص المخصوص بالدراسة والتحليل فلقد تقدمه الحديث عن نظام الكتاب وتأليفه وعن موافقة الكلام لمقتضى الحال...حيث قال: "...وتحفّظ في صدور كتبك وفصولها، وافتتاحها وخاتمتها، وضع كل معنى في موضع يليق به، وتخيّر لكلّ لفظة معنى يشاكلها. وليكن ما تختم به فصولك في موضع ذكر الشكوى بممثل: والله المستعان، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وفي موضع ذكر البلوى: نسأل الله دفع المحذور، ونسأل الله صرف السوء، وفي موضع ذكر المصيبة بمثل: إنّا لله وإنا إليه راجعون، وفي موضع ذكر النعم بمثل: والحمد لله خالصا والشكر لله واجبا، فإنّها مواضع ينبغي للكاتب تفقدها، فإنما يكون كاتبا...النصّ" ثمّ يتابع بعد ذات النّص بحديثه عن موضوع نظم الكتب وترتيبها حيث يقول: "... فلا يجعل أوّل ما ينبغي له أن يكتب في آخر كتابه ولا آخره في أوّله، فإنّي سمعت جعفر بن محمد الكاتب يقول: لا ينبغي للكاتب أن يكون كاتبا حتى لا يستطيع أحد أن يؤخر أوّل كتابه ولا يقدّم آخره..."[7] فالحديث هنا عن نظم الكتب وترتيبها لا نظم الكلم والله أعلم.

[1] في أصل الكتاب بتحقيق الدكتور زكي مبارك والدكتور يوسف محمد فتحي "فإنما يكون كاتبا" والتصحيح من بعض العقد الفريد كما ذكرها المحقق في الهامش، بينما هي عند الدكتور حاتم الضامن "فإنما يكون الكاتب كاتباً"

[2] الرسالة العذراء ص17 بتحقيق زكي مبارك ص44 بتحقيق يوسف محمد فتحي

[3] الرسالة العذراء طبعت أوّل مرة سنة 1326هـ 1908م ضمن كتاب "رسائل البلغاء" طبع مصطفى بابي الحلبي بعناية الأستاذ محمد كرد علي وأعيد طبعه سنة 1331هـ 1913م

[4] هو أبو اليسر إبراهيم بن محمد الشيباني البغدادي المعروف بالرياضي الكاتب، أصله من بغداد، وقدم الأندلس واستقرّ في القيروان فترأس ديوان الإنشاء لبني الأغلب، ثم للفاطميين، إلى أن توفي يوم الأحد لأربع عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى، ودفن بباب السلام.

[5] في الأعلام للزركلي 1\60 : إبراهيم بن محمد بن عبيد الله بن المدبر، أبو إسحاق: وزير، من الكتاب المترسلين الشعراء، من أهل بغداد، تولى ولايات جليلة، استوزره المعتمد العباسي لما خرج من سامراء يريد مصر سنة 279هـ . توفي ببغداد متقلدا ديوان الضياع للمعتضد

[6] الرسالة العذراء نسخة زكي مبارك ص1 نسخة يوسف محمد ص32

[7] المصدران السابقان
 
8. أبو العباس محمد ين يزيد المبرد (286هـ)

8. أبو العباس محمد ين يزيد المبرد (286هـ)

1. أبو العباس محمد ين يزيد المبرد (286هـ):
نصّ المبرّد الذي أورده غير واحد من الدارسين لنظرية النظم هو قوله: "...حقّ البلاغة إحاطة القول بالمعنى واختيار الكلام، وحسن النظم؛ حتى تكون الكلمة مقاربة أختها، ومعاضدة شكلها، وأن يقرِّب بها البعيد، ويحذف منها الفضول."[1]
فالمبرّد ذكر لفظ النظم صراحة وذكر بعض معانيه؛ كمقاربة الكلمات بعضها لبعض وتعاضدها في الشكل. فهي إشارة في غاية الأهمّية، لكنّها تبقى ناقصة لا ترتقي للتعبير عن نظم الجرجاني ؛ لأنّها محتملة لمعانٍ أخرى غير معنى تعليق الكلم بعضها ببعض وفق قواعد النحو ومعانيه، فقد يكون قصد المبرد من وراء هذا النّص مطابقة الكلام لمقتضى الحال والمقام، ولعلّ في قوله "إحاطة القول بالمعنى" وقوله: "اختيار الكلام" ما يشير إلى ذلك. وقد يكون قصده من معاضدة الكلمات أصواتها وأجراس حروفها، بدليل وصف الكلمات بالمقارِبة وفي بعض النسخ بالمقارِنة[2] وتصريحه بالشكل يؤكّد هذا المعنى[3]، وقد يكون قصده من كلّ هذا "المعنى الصحيح"؛ مطابقةً للمقام، وموافقةً للّفظ، وروما للإفادة، وطلباً للإيجاز... فانظر كيف بدأ مقالته بالحديث عن المعنى من جهة الإحاطة والاختيار وختمه بالحديث عن المعنى كذلك من جهة الإفادة والإيجاز، ولم يبق من نصّه سوى حديثه عن الكلمات والألفاظ التي قصد بها - والله أعلم – موافقة ومطابقة المعاني، يعضّد هذا الفهم ويؤكد هذا المقصد سياق النّص؛ فإنّه سيسترسل لاحقاً في تفضيله لبعض الأدباء على بعض من جهة استحسان المعاني وإيجازها[4]...أو من جهة السبق إليها وحسن عرضها...وهذا هو موضوع الرسالة كلّها...يدور حول المعنى وما يتعلق به. والله أعلم بالحق والصواب

[1] البلاغة 81

[2] هامش المصدر نفسِه

[3] ومن القرائن التي تؤكّد هذا المقصد، ما جاء بعد هذا النّص من حديثه عن بعض عيوب الخطباء المتعلقة بالأصوات كصفير الجمحي

[4] المصدر نفسه ص82 وما بعدها
 
9. محمد بن يزيد الواسطي (306هـ)

9. محمد بن يزيد الواسطي (306هـ)

1. محمد بن يزيد الواسطي (306هـ)
له كتاب (إعجاز القرآن في نظمه وتأليفه) هكذا ذكره ابن النديم في الفهرس[1] وسماه غير واحد بإعجاز القرآن[2] ، فلعلّ التسمية الثانية اختصار للأولى ، وقد شرحه عبد القاهر الجرجاني شرحا موسعاً سماه المعتضد وشرحاً ثانياً موجزا ، وقيل في تسمية الشرحين الإعجاز الكبير والإعجاز الصغير . والكتابُ والشرحان في حكم المفقود لا يُعرف عنهما شيء... وقد جزم بعض الباحثين[3] أنّ الواسطي بنى مفهومه للإعجاز على ما ابتدأه الجاحظ، كما بنى الجرجاني في دلائل الإعجاز على ما ذكره الواسطي... نعم الاستفادة غير مستبعدة فالعلم رحم موصولة، يبدأ الآخرُ من حيث انتهى الأوّلُ... وكيف لا يستفيد الواسطي من الجرجاني وهو قطب وأشهر المتكلمين في الإعجاز قبله، وكيف لا يستفيد منه وهو يشاركه المعتقد الإعتزالي... وكيف لا يستفيد الجرجاني من الواسطي وقد شرح كتابه شرحين موسّعا وموجزاً فتعدد الشرح وهذه الملازمة تقتضي - والله أعلم - اهتماما وإعجابا بالكتاب ...
أعتقد أنّ كتابا لا نعرف عنه سوى اسمه واهتمام الجرجاني به، لا يمكننا أن نتوسع في مناقشة مادته ... فنتقوّل فيه بمجرد التخمين والتخريص والظنّ، ولعلّ الصواب أن نكتفي بحقيقة استفادة الجرجاني منه استفادة علمية مجملة ...وأمّا الجزم ببعض النتائج من مجرد عنوان الكتاب، كقول الدكتور حاتم الضامن مثلاً: "... ونتبيّن من العنوان أنّ الواسطي عالج فيه مسألة النظم وأقام عليها إعجاز القرآن"[4] فإنّ مثل هذه النتائج غير لازمة من مجرد نصّ العنوان، لأنّ اصطلاح النظم محتمل لمعان متعدّدة لعلّ أهمّها المعنى القديم الذي جرى عليه الجاحظ وغيره وهو معنى لفظ القرآن وصياغته، والمعنى الجديد الذي جرى عليه الجرجاني وهو تأليف الكلم وترتيبه وتعليق بعضه ببعض، وكلّ ما ولجه الاحتمال بطل به الاستدلال.

[1] فهرست ابن النديم ص57 نسخة الموسوعة الشاملة

[2] انظر مطلب مصنفاته في مبحث ترجمته

[3] انظر محمد حنيف فقيهي في نظرية إعجاز القرآن عند عبد القاهر الجرجاني ص145

[4] نظرية النظم تطور وتاريخ ص14
 
كتب (نظم القرآن)

كتب (نظم القرآن)

1. أبو علي الحسن بن علي بن نصر الطوسي (308هـ) له كتاب (نظم القرآن) قال عنه الدكتور حاتم الضامن لا نعرف عنه شيئاً. [1]
2. عبد الله بن أبي داود السجستاني (316هـ)[2] له كتاب (نظم القرآن) كسابقه وهو أيضا من الكتب المفقودة التي لا نعرف عنها شيئاً [3]
3. أبو زيد أحمد بن سليمان البلخي (322هـ) له "نظم القرآن" مفقود لا يعرف عنه سوى وصف أبي حامد القاضي في كتاب البصائر والذخائر لأبي حيان التوحيدي قال عنه: "لم أر كتابا في القرآن مثل كتاب لأبي زيد البلخي، وكان فاضلاً يذهب في رأي الفلاسفة، لكنه تكلم في القرآن بكلام لطيف دقيق في مواضع، وأخرج سرائره، وسمّاه (نظم القرآن) ولم يأت على جميع المعاني المطلوبة منه."[4]
ليس في هذا النّص ما يشير إلى ماهية نظم البلخي، فما حقيقة هذه الأسرار التي استخرجها من مواضع في القرآن الكريم؟...أهي أسرار دلالية؟ أم بلاغية ؟ أهي نكت وفوائد قرآنية بمعزل عن بيانه ومعانيه ؟... وما طبيعة كلامه اللطيف؟... أهو على طريقته الفلسفية أم على طريقة الأدباء أو المفسرين أم ماذا؟...
كلّ هذه الأسئلة تبقى دون إجابة ما دمنا أمام كتاب لا نعرف عنه سوى هذه النتف التي لا تسمن ولا تغني من جوع... وحتى لو نظرنا في سياق كلام القاضي أبي حامد الذي ساقه أبو حيان التوحيدي في البصائر والذخائر، لا نجد فيه البتّة كلاماً أو قرائنَ تشير إلى النظم بمعناه النحوي البلاغي الذي أراده الإمام الجرجاني، ولا إلى شيء قريب منه حتى، فكلامه قبل هذا النّص كان موضوعه الدفاع عن اختار ابن شنبوذ وابن المقسم وحملته على ابن مجاهد، ثمّ ذكر لابن المقسم كتابا في القرآن سماه (الأنوار) قال: " ولابن المقسم في القرآن كتاب يسميه الأنوار يقدّم على كتب كثيرة. أمّا أنا فلم أر في القرآن كتاباً أبعد مرمىً، ولا أشرف معانيَ من كتابٍ لأبي زيد البلخي..." النّص .ثمّ أتبع النّص المذكور بحديثه عن كتاب آخر في تفسير القرآن الكريم حيث قال: "...ولم يأت على جميع المعاني المطلوبة منه. وللكعبي أبي القاسم كتابٌ في التفسير يزيد حجمه على كتاب أبي زيد..."[5]
4. ابن الاخشيد أحمد بن علي (326هـ) له أيضاً (نظم القرآن) [6] الكتاب لم يصل إلينا ولا نعلم منه إلاّ عنوانه
5. ابن الحرون له كتاب (فضل نظم القرآن) ذكره ابن النديم في الفهرست[7] لا نعرف عن هذا الكتاب إلاّ اسمه ولا يَبْعد أن يكون قصد به فضائل القرآن لا النظم المخصوص...
وملخص ما يقال عن هذه المجموعة من الكتب، المسماة بنظم القرآن: إنّ عدم الوقوف على حقيقة مواضيعها وماهية مضامينها يمنعنا من الجزم بالمعنى المراد من اصطلاح النظم هل هو صياغة القرآن بمعناها العام؟ أم هو التأليف والترتيب؟ أم تعليق الكلم بعضها ببعض وفق قوانين النحو ومعانيه؟
وكلّ ما قيل في محاولة معرفة ماهية النظم في هذه الكتب المفقودة ما هو في حقيقة الأمر سوى ضرب من التخريص والتخمين لا غير...
6. أبو علي الحسن بن يحيى بن نصر الجرجاني توفي أوائل القرن الرابع (..3هـ)
له كتاب "نظم القرآن" ذكره في مصنفاته صاحبُه ومعاصره أبو القاسم حمزة بن يوسف السهمي(427هـ) في تأريخه لجرجان حيث قال: "له من التصانيف عدّة منها في نظم القرآن مجلدتان..."[8] وهو الكتاب الذي اختصره الشيخ مكي بن أبي طالب القيسي في "انتخاب نظم القرآن للجرجاني" أورده ابن خير الإشبيلي (575هـ) في فهرسه ضمن الكتب التي أخذها ورواها عن حفيد المؤلف الشيخ الوزير أبي عبد الله جعفر بن محمد بن مكي[9] بينما سمّاه القِفْطيّ (624هـ) في انباه الرواة "انتخاب كتاب الجرجاني في نظم القرآن وإصلاح غلطه" وذكر أنّه في أربعة أجزاء[10] فيبدو والله أعلم أنّ الشيخ مكي لم يكتفي باختصاره بل لعلّه علّق على بعض مسائله وتعقّبها بالردّ والنقد... لكن الكتاب كما قال الأستاذ حاتم الضامن لم يشر إليه أحدٌ ممّن درس إعجاز القرآن ونظمه من المحدثين. اهـ[11] ولا نعرف عنه شيئا، ولهذا نقول فيه ما قلناه من قبل في هذا النوع من الكتب التي تناولت نظم القرآن بالدراسة، والتي يحتمل اصطلاح النظم فيها معانٍ عدّة كصياغة القرآن أو تفسيره أو تأليفه... ولكون الاحتمال وارد على اللفظ لا يمكننا الجزم أو القطع بدلالة دون أخرى ...فيكون السكوت عن مثل هذه الكتب أسلم وأحكم.

[1] المرجع السابق 14 وانظر الفهرست 57

[2] سيختلّ السياق التاريخي والتتابع الزمني – بعض الشيء- في الترجمات الأربعة القادمة وذلك حتى نتمكّن من دراسة هذه الكتب المفقودة والمسماة بنظم القرآن دفعة واحدة...

[3] المرجع السابق، وانظر الفهرست ص324

[4] نظرية النظم تاريخ وتطور 15-16 الفهرست 198

[5] البصائر والذخائر النسخة الإلكترونية 819-820 من الترقيم الآلي الجزء الثامن ص433 من الترقيم الأصلي

[6] الفهرست 57

[7] المصدر نفسه ص187

[8] تاريخ جرجان ص146

[9] فهرسة ابن خير الإشبيلي ص38-39

[10] انباه الرواة 3\316

[11] نظرية النظم تاريخ وتطور ص15
 
16. ابن جرير الطبري 310هـ

16. ابن جرير الطبري 310هـ

1. ابن جرير الطبري 310هـ
يقول الإمام الطبري رحمه الله في آخر تفسيره لسورة الفاتحة: "...ومن أشرف تلك المعاني التي فضل بها كتابُنا سائر الكتب قبله، نظمه العجيب ورصفه الغريب وتأليفه البديع؛ الذي عجزت عن نظم مثلِ أصغرِ سورة منه الخطباء، وكلّت عن وصف شكل بعضه البلغاء، وتحيَّرت في تأليفه الشعراء، وتلبَّدت –قصوراً أن تأتي بمثله – لديه أفهام الفُهماء، فلم يجدوا إلاّ التسليمَ والإقرارَ بأنه من عند الواحد القهار."[1]
ووصفه في موضع قريب من هذا بقوله: "...برصفه العجيب ونظمه الغريب، المنعدل عن أوزان الأشعار وسجع الكهّان وخطب الخطباء ورسائل البلغاء، العاجز عن رصف مصله جميع الأنام، وعن نظم نظيره كل العباد..."[2]
نحن الآن أمام نصٍّ يبدو فيه اصطلاح النظم وإطلاقه قريبا جدّاً من استعمال عبد القادر الجرجاني.... فالنظم الذي يعنيه الإمام الطبري ها هنا، نظمٌ فَضَلَ به القرآنُ الكريم سائر الكتب، وعجز عن الإتيان بمثله أفصح الخطباء وأبلغ الشعراء...فهو مكمن الإعجاز القرآني والتحدّي الربّاني.
ولعلّ في استعماله هذه المترادفات المتتابعة "نظمه" "رصفه" "تأليفه" ما يؤكّد أنّ قصد الإمام الطبري عليه رحمة الله بالنظم هو مواضع الكلم وترتيبها؛ لأنّه معنى مشترك بين جميع هذه المترادفات... وهو قريب جدّا من معنى تعليق الكلم بعضها ببعض.
والمقصود بالنظم عند الإمام الطبري ليس معاني القرآن ومضامينه؛ لأنّه يشترك مع الكتب السابقة في كثير منها، ولأنّه جعلها رحمه الله منفصلة عن النظم بقوله في لاحق النّص الأوّل: "...فلم يجدوا له إلاّ التسليم والإقرار بأنّه من عند الواحد القهار. مع ما حوى، مع ذلك، [أي إضافة للنظم وزيادة عليه] من المعاني التي هي ترغيب وترهيب، وأمر وزجرٌ، وقصص وجدل ومثل، وما أشبه ذلك من المعاني التي لم تجتمع في كتاب أنزل إلى الأرض من السماء." كما أنّه عليه رحمة الله لم يقصد بالنظم ألفاظ القرآن؛ لاشتراكه فيها مع فصحاء العرب وبلغائهم، الذين ملكوا ألفاظ القرآن ولغته ولكنّهم عجزوا عن الإتيان بمثله...
ولو رجعنا إلى سياق هذه النصوص سنجد هذا المعنى يتأكّد أكثر وهذا الفهم يتقرر أكثر وأكثر... فهذان النّصان أوردهما الإمام الطبري في آخر تفسير سورة الفاتحة للردّ على من زعم أنّ في القرآن تطويل فأجابه بأنّ القرآن توسّع في المعاني والمضامين وفصّل فيها كما لم يفصّله كتابٌ قبله – وهو توسّع وتفصيل يتناسب وشموليته وكماله وديموميته وختمه للرسالات...- وأنّ هذا التوسّع جاء وفق نظم عجيب وتصريف غريب قصد منه سبحانه وتعالى تعجيز العرب أفصح الأمم وأبلغهم عن الإتيان بمثله، حتى تقوم الحجة على صدق الرسالة والنبوة...فالحديث هنا عن أسلوب عرض مضامين القرآن لا عن معانيها ولا عن ألفاظه....
ثمّ لنتأمل في بعض فصول تفسيره -رحمة الله عليه- لسورة الفاتحة، سنجد تطبيقات عجيبة لنظرية النظم فهو يتحدث عن التعريف والتنكير وأثر ذلك في المعنى[3]، وعن تأثير اختلاف إشارات الإعراب في المعاني[4] وعن الحذف[5] وعن التقديم والتأخير[6] وعن المعاني المستفادة من تكرار بعض الصيغ النحوية[7] وعن أثر بعض المعاني النحوية في دلالات النّص كالصفة، الخبر، الأسماء الموصولة، الإضافة، الأفعال، الضمائر، الاستثناء... وغيرها... أليس هذا كلّه من صلب نظرية النظم؟ ألم يردد الإمام الجرجاني كثيراً من هذه النماذج والأمثلة للاستشهاد على النظم؟...

[1] تفسير الطبري1\199

[2] المصدر نفسه

[3] تفسير الطبري 1\138

[4] المصدر نفسه 1\153-154 وانظر 181...

[5] المصدر نفسه 1\139...

[6] المصدر نفسه 1\147

[7] المصدر نفسه 1\164...
 
عودة
أعلى