نظرة في: (دعائم القبول لأسباب النزول)

إنضم
2 مايو 2009
المشاركات
29
مستوى التفاعل
0
النقاط
1
العمر
64
الإقامة
المملكة العربية
نظرة في: (دعائم القبول لأسباب النزول)
العنوان الوارد في كتاب إتقان البرهان في علوم القرءان للدكتور فضل حسن عباس رعاه الله

يعد هذا الكتاب من كتب علوم القرآن المهمة، فقد بذل فيه مؤلفه جهدا لا يستهان به، وحاول أن يحقق في مسائل اعتدنا على قبولها وقراءتها في كتب علوم القرآن، ويبدو لي أنه حقق بعض الأهداف التي أراد الوصول إليها من هذا الكتاب، إلا أنه لفت انتباهي ما وجهه المؤلف للقراء عند العنوان سالف الذكر بقوله: "فلا تعجبوا ـ أرشدكم الله ـ إن وجدتم فيه ما لا يوافق ما ألفتموه، ويتعارض مع ما عرفتموه".أ.هـ.
فبدأت أقرأ وأنا أتأمل كل حرف مما يقول باعتبار أنني متحفز لسماع شيء غريب بعد هذا التقديم الذي قدمه لهذا العنوان، ولا يتوقع مني أن أقول كل ما قاله فهذا يرجع إليه من أراد في ج1/343 وما بعدها.
والذي سأذكره هو ما جعلني أكتب هذه التعليق، فقد تحدث المؤلف ـ رعاه الله ـ عن أهمية السياق القرءاني وهذه مسألة معلومة لدى المتخصصين، والذي أثار غرابتي هو جعل السياق مقدَّما على سبب النزول الصحيح الصريح. إذ قال:"فللسياق أثر لا ينكر في ترجيح القبول ، قبول السبب أو رده". وفي ص346 وضح أكثر فقال:"كثيرا ما نجد في روايات أسباب النزول ما لا يتفق مع السياق، فما كان منه غير صحيح الرواية فالخطب فيه يسير، لكن الإشكال فيما ادعيت صحة روايته، وقضية السياق قضية جوهرية في قبول سبب النزول"أهـ. وكلمته هنا:"فيما ادعيت صحة روايته" موهمة إذ قد يظن القارئ بأنه لا يقصد ما صح عنده، وإنما يتكلم عن الروايات الضعيفة، إلا أن المتابع للقراءة ـ كما سيظهر بعد قليل ـ يرى أنه لا يقبل كل ما لا يتفق مع السياق مع إقراره هو أحيانا بصحة روايته وصريح سببيته.
وطالما أن الشيخ ـ حفظه الله ـ توقع تعجبنا مما كتب فأرجو أن يتسع صدره لما سأذكره من ملاحظاتي على هذا الكلام، ولعل الشيخ وكل من يقرأ هذا الكلام يشارك في إثراء هذا الموضوع، ويجلي ما غمض منه.
وبالنظر لما ذكره من أقوال العلماء والأمثلة الموضحة لما يريد وجدت الملاحظات الآتية:

1- استدل الشيخ الفاضل بكلام للسيوطي في الإتقان: "وقد تنزل الآيات على الأسباب الخاصة وتوضع مع ما يناسبها من الآي العامة رعاية لنظم القرآن، وحسن السياق، فيكون ذلك الخاص قريبا من صورة السبب في كونه قطعي الدخول في العام. كما اختار السبكي أنه رتبة متوسطة دون السبب وفوق المجرد مثاله قوله تعالى: [ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت] إلى آخره فإنها إشارة إلى كعب بن الأشرف ونحوه من علماء اليهود، لما قدموا مكة وشاهدوا قتلى بدر حرضوا المشركين على الأخذ بثأرهم، ومحاربة النبي فسألوهم: من أهدى سبيلا محمد وأصحابه أم نحن؟ فقالوا: أنتم . مع علمهم بما في كتابهم من نعت النبي المنطبق عليه، وأخذ المواثيق عليهم ألا يكتموه؛ فكان ذلك أمانة لازمة لهم ولم يؤدوها حيث قالوا للكفار: أنتم أهدى سبيلا، حسدا للنبي. فقد تضمنت هذه الآية مع هذا القول التوعد عليه المفيد للأمر بمقابله المشتمل على أداء الأمانة التي هي بيان صفة النبي، بإفادة أنه الموصوف في كتابهم؛ وذلك مناسب لقوله: [إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها] فهذا عام في كل أمانة، وذلك خاص بأمانة هي صفة النبي بالطريق السابق، والعام تال للخاص في الرسم متراخ عنه في النزول، والمناسبة تقتضي دخول ما دل عليه الخاص في العام، ولذا قال ابن العربي في تفسيره: وجه النظم أنه أخبر عن كتمان أهل الكتاب صفة محمد، وقولهم: إن المشركين أهدى سبيلا، فكان ذلك خيانة منهم، فانجر الكلام إلى ذكر جميع الأمانات"أ.هـ.
ولو نظرنا وتأملنا في كلام السيوطي لا نجد فيه أثرا لرد السبب الصريح الصحيح عندما يخالف السياق ، وكل ما أراد أن يلفت النظر إليه هو أهمية السياق التي لا يخالف فيها أحد.

[align=justify]2-استدل الشيخ الفاضل بكلام ابن القيم ـ رحمه الله ـ في البدائع :" السياق يرشد إلى تبيين المجمل وتعيين المحتمل والقطع بعدم احتمال غير المراد وتخصيص العام وتقييد المطلق وتنوع الدلالة، وهذا من أعظم القرائن الدالة على مراد المتكلم، فمن أهمله غلط في نظره، وغالط في مناظرته، فانظر إلى قوله تعالى: [ذق إنك أنت العزيز الكريم] كيف تجد سياقه يدل على أنه الذليل الحقير"أ.هـ.[/align]​

والملاحظة هنا نفس الملاحظة التي ذكرتها على نقله من السيوطي، الكلام رائع ولكن لا علاقة له فيما نحن فيه.

بعد اقتباس الشيخ الفاضل من ابن القيم ـ رحمه الله ـ ضرب عشرة أمثلة فقال:
"إذا عرفت هذا فاعلم أن هناك أسباب نزول لآيات كريمة يصعب التوفيق بينها وبين السياق الذي نزلت فيه الآية، وإليكم الأمثلة:
1-"[كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم][آل عمران:86]."أ.هـ .
ذكر الشيخ الفاضل في سبب نزول هذه الآية روايتين: الأولى عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنها نزلت في رجل من الأنصار آمن ثم ارتد ثم تاب. وذكر تحسين البيهقي لهذه الرواية. والثانية: عن الحسن أنها نزلت في أهل الكتاب. وقال أن هناك رواية أخرى حسنة أنها في أهل الكتاب. ثم علق قائلا:" والحق أن هذه الآية كما يشهد سياقها نزلت في أهل الكتاب... وهذا ما رجحه الطبري ـ رحمه الله ـ"أ.هـ.
إلا أنني أختلف مع الشيخ الفاضل في فهمه لكلام الطبري، ويبدو لي أن الطبري على عكس ما ذكر! وإليك نص كلام الطبري بتمامه:
"قال أبو جعفر: وأشبه القولين بظاهر التنزيل ما قال الحسن: منْ أنّ هذه الآية معنيٌّ بها أهل الكتاب على ما قال، غيرَ أنّ الأخبار بالقول الآخر أكثر، والقائلين به أعلم بتأويل القرآن. وجائز أن يكون الله عز وجل أنزل هذه الآيات بسبب القوم الذين ذُكر أنهم كانوا ارتدّوا عن الإسلام، فجمع قصّتهم وقصة من كان سبيله سبيلهم في ارتداده عن الإيمان بمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذه الآيات. ثم عرّف عباده سُنته فيهم، فيكون داخلا في ذلك كلّ من كان مؤمنًا بمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبل أنُ يبعث، ثم كفر به بعد أن بُعث، وكلّ من كان كافرًا ثم أسلم على عهده ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ثم ارتد وهو حيٌّ عن إسلامه. فيكون معنيًّا بالآية جميعُ هذين الصنفين وغيرُهما ممن كان بمثل معناهما، بل ذلك كذلك إن شاء الله".
ويبدو لي أن الشيخ الفاضل اكتفى بقول الطبري"وأشبه القولين بظاهرالتنزيل ما قال الحسن" وهذا ليس ترجيحا من الطبري؛ وإنما تحليل للأقوال ووصف لجانب القوة والضعف فيها، ولم يرجّح بعد، فسرعان ما قال بأن الآخرين أعلم بتأويل القرآن والأخبار عندهم أكثر. وجاء بقول جميل حيث جمع بين السبب والمناسبة في الآية الكريمة، فجوز السبب أنها فيمن ارتد ثم تاب، وذكر مناسبة ترتيب الآية مع أهل الكتاب على أنهم آمنوا بمحمد صل1 قبل أن يبعث وكفروا به بعد أن بعث، فكفروا بعد إيمان، كما حصل من هذا الأنصاري، ولذلك قال الطبري في نهاية هذا الرأي: " بل ذلك كذلك إن شاء الله".
والذي يؤكد أكثر أن الطبري رجح الرأي الأول؛ وهو أنها في الأنصاري الذي ارتد ثم آمن، أن الطبري تابع تفسيره للآيات مؤسسا على هذا الرأي فقال بعد ذلك:
"ثم استثنى جل ثناؤه الذين تابوا، من هؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم فقال تعالى ذكره:[إلا الذين تَابوا من بعد ذلك وأصلحوا] يعني: إلا الذين تابوا من بعد ارتدادهم عن إيمانهم، فراجعوا الإيمان بالله وبرسوله، وصدّقوا بما جاءهم به نبيهم صل1 من عند ربهم وأصلحوا، يعني: وعملوا الصالحات من الأعمال [فإنّ الله غفور رحيم]، يعني: فإن الله لمن فعل ذلك بعد كفره [غفور]، يعني: ساتر عليه ذنبه الذي كان منه من الرّدّة".
ويشار إلى أن المؤلف الفاضل نقل في كتابه تأييد رشيد رضا للرأي الذي تبناه ونقل كذلك قول رشيد رضا:" وهو الذي اختاره ابن جرير الطبري والأستاذ الإمام"أ.هـ. ولا أدري كيف اتفق رشيد رضا مع المؤلف على نسبة هذا الرأي للطبري! إلا إذا كان الشيخ الفاضل نقل ترجيح الطبري عن رشيد رضا ثقة به، والله أعلم. وإن كنت عندما رجعت إلى ترجيح رشيد رضا وجدت فيه فرقا بسيطا في دقة العبارة وعلى كل حال نحن موضوعنا مع الدكتور فضل حفظه الله.
وأحب أن أضيف أيضا أن الطبري ذكر روايتين لابن عباس في سبب النزول الأولى: هي التي ذكرها المؤلف. والثانية أن الآية نزلت في أهل الكتاب، وبجمع الطبري بين الروايتين يكون قد أخذ بقولي ابن عباس وهذا حسن، بل هو الأولى.
وطالما أن الجمع بين الأسباب ممكن على طريقة الطبري رحمه الله، فلا داعي لرد رواية ابن عباس بحجة السياق فقد استقام السياق بالروايتين ولا شك أن الجمع أولى عند العلماء طالما أنه ممكن.
وإن كانت ليست هذه الحال التي استغربتها فالسياق مما يؤخذ به في الترجيح بين الأسباب في حال تعذر الجمع بأي صورة، وإنما الذي أستغربه مبدأ رد سبب النزول في حال خالف السياق الذي يرتئيه الرّاد للسبب، ليس من باب الترجيح بين الروايات فهذا معلوم أيضا، وإنما من باب مخالفة السياق فحسب. هذا المستغرب، فإن المؤلف الفاضل ـ حفظه الله وأطال أثره ـ بين في مجمل كلامه أنه يرد السبب بمجرد مخالفة السياق بغض النظر أكان السبب منفردا أم مزاحما لغيره من الأسباب، فلم يفصل في هذا وترك الكلام على إطلاقه.

2-قال المؤلف:"مما اشتهر عند المفسرين أن قوله تعالى...."أ.هـ. ذكر حديثا وضعفه في الحاشية، ولا أدري لماذا ذكره؟ لأنه قال سابقا: " فما كان منه غير صحيح الرواية فالخطب فيه يسير، لكن الإشكال فيما ادعيت صحة روايته، وقضية السياق قضية جوهرية في قبول سبب النزول"أهـ. وبالتالي هذه الرواية التي ذكر ضعفها لا تصلح لتأصيل المذهب الذي ذهب إليه الشيخ فنتجاوزها.

3- قال المؤلف:"قوله سبحانه:[ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ][الأنفال:27].
اشتهر في روايات أسباب النزول أنها نزلت في أبي لبابة ـ رضي الله عنه ـ، وقد سأله بنو قريظة: أننزل على حكم سعد بن معاذ؟ فأشار إلى حلقه: إنه الذبح فلا تفعلوا، فقال: والله ما زالت قدماي حتى علمت أني قد خنت الله ورسوله ، فنزلت الآية...".أ.هـ
وذكر الشيخ تحسين الشيخ شعيب الأرناؤوط لهذه الرواية في صحيح ابن حبان وأنها في المسند كذلك. إلا أنني عندما رجعت لهذه الرواية في صحيح ابن حبان والمسند لم أجد منها سوى إشارة أبي لبابة إلى حلقه! وليس فيها ذكر للآية الكريمة ولا أنها نزلت فيه! ولا ذكر لسبب نزول لا بالصيغة الصريحة ولا بغيرها. وبالتالي لا تصلح كذلك لما يهدف المؤلف إلى تأسيسه من مبدأ: عدم قبول الصيغة الصريحة الصحيحة في حال عدم اتفاقها مع السياق.

4- قال الشيخ فضل:"[ألا إنهم يثنون صدورهم][هود:5] فقد روى البخاري عن ابن عباس ـ رضي الله عنهماـ قال: أُنَاسٌ كَانُوا يَسْتَحْيُونَ أَنْ يَتَخَلَّوْا فَيُفْضُوا إِلَى السَّمَاءِ وأن يجامعوا نسائهم فيفضوا إلى السماء، فنزل ذلك. وقد نعلم أن الآية في سورة هود، وهي مكية إجماعا، ثم السياق في شأن الكفار، فهو سياق تهديد. والظاهر أن ابن عباس رضي الله عنهما ـ تلا هذه الآية في شأن أولئك الذين كانوا يستحيون من الله ، لا أنها نزلت فيهم..."أ.هـ .
ثم ذكر رواية للواحدي أنها نزلت في الأخنس بن شريق.
بالنسبة لرواية الواحدي لم يذكر المؤلف لها مصدرا آخر غير الواحدي، وبحثت عنها في عجالة ـ ( لأنها ليست موضع النقاش) ـ في كتب المتون فلم أجدها.
والمهم أن الشيخ رجح رواية الواحدي على رواية البخاري لأنها متفقة مع السياق ، ثم قال:" ويظهر أن الحق ما ذكرته لك من قبل وهو أن ابن عباس تلا هذه الآية لا أنها نزلت".أ.هـ.
والحقيقة أن رواية البخاري بالطريقة المروية في كتاب الشيخ مقطوعة من أولها وآخرها ولم تعد واضحة، وهي بتمامها هكذا:" قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ [أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورُهُمْ] قَالَ سَأَلْتُهُ عَنْهَا، فَقَالَ: أُنَاسٌ كَانُوا يَسْتَحْيُونَ أَنْ يَتَخَلَّوْا فَيُفْضُوا إِلَى السَّمَاءِ وَأَنْ يُجَامِعُوا نِسَاءَهُمْ فَيُفْضُوا إِلَى السَّمَاءِ فَنَزَلَ ذَلِكَ فِيهِمْ".
-فكنت أظن أن الشيخ هو الذي اجتهد في أن ابن عباس كان يتلو الآية. فرأيت بأن هذا من كلام الراوي نفسه كما هو واضح فيها.
-وفي آخر الرواية كلمة ناقصة في كتاب الشيخ وهي:(فيهم)الكلمة التي في آخر رواية البخاري، وهذه كلمة مهمة لأنها توضح أكثر بأن الصيغة ليست صيغة صريحة في أسباب النزول كما هو معلوم في علم أسباب النزول . ويؤكد هذا أول الرواية في أن ابن عباس يقرأ الآية فسئل عنها، والسائل لم يذكر أنه سأله عن سبب نزولها وإنما كان السؤال عاما. فأجاب ابن عباس بما يوضح المعنى مما هو في حكمها.
وبالتالي كذلك هذا المثال لا يصلح فيما يريد الشيخ الفاضل أن يؤسس له.

5- قال المؤلف:"قوله تعالى: [ولا تمدن عينيك][طه:131]... وهذه الرواية ضعيفة".أ.هـ. ذكر المؤلف رواية وذكر تضعيفها، والرواية الضعيفة لا تصلح سببا في النزول، ولم يكن هناك داع لذكرها، ولا تصلح للاستشهاد فيما نحن فيه.

6-القول في المثال السادس كما في المثال الخامس، رواية ذكر تضعيفها فلا تصلح لما نحن بصدده.
7-"قوله تعالى: [ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ][يس:12]، نزلت في بني سلِمة وكانت أمكنتهم بعيدة عن مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، فأرادوا أن ينتقلوا إلى قرب المسجد فنزلت الآية"أ.هـ. ثم قال بأن الآية مكية "ويستحيل أن تكون الروايات التي ذكروها هي سبب النزول... ومما لا ريب فيه إذن أن الآية تليت في شأن بني سلمة وهم من الأنصار ، لا أنها نزلت فيهم. وقد تقدم لك ما ذكره ابن القيم في كتابه (شفاء العليل) عند الحديث عن هذه الآية الكريمة ... حيث ذكر أن الآية مكية ورد القول بتعدد النزول، فراجعه هنا".أ.هـ. ونقل الشيخ فضل تحسين هذه الرواية عن الترمذي وتصحيحها عند الحاكم.
يبدو لي أننا اقتربنا قليلا من نقطة الحوار الحقيقية في هذا المثال حيث ذكر رواية صحيحة لتأكيد ردها في السببية بحجة مخالفتها السياق، ولي على هذا الكلام الملاحظات الآتية:
- ما نقله الشيخ فضل عن ابن القيم ـ رحمه الله ـ بأن هذه الآية مكية يجعلني اختلف معه في فهم كلام ابن القيم كما اختلفنا في فهم كلام الطبري من قبل: وكلام ابن القيم المشار إليه في شفاء العليل بتمامه هو هكذا:
" إن سورة يس مكية وقصة بني سلمة بالمدينةإلا أن يقال هذه الآية وحدها مدنية وأحسن من هذا أن تكون ذكرت عند هذه القصة ودلت عليها وذكروا بها عندها إما من النبي صلى الله عليه وسلم وإما من جبريل فأطلق على ذلك النزول ولعل هذا مراد من قال في نظائر ذلك نزلت مرتين".أ.هـ. فرأي ابن القيم ـ رحمه الله ـ إذن بأن السورة مكية، وجوّز أن تكون هذه الآية مدنية! وذلك مراعاة لسبب النزول طبعا، وكان الأحسن عنده أن تكون الآية الكريمة ذكرت عند هذه القصة.
-وما ذكره ابن القيم من احتمال أن تكون الآية مدنية لا يمكن رده، إذ لا دليل على عكس ذلك، فأكثر القرآن الكريم لا يمكننا الجزم في كل آية هل هي مكية أم مدنية . ولذلك لم يمل إليه ابن القيم كثيرا ولكن لم يستطع رده، واختار القول الآخر.
-واللافت للنظر أيضا بأن ابن القيم ـ رحمه الله ـ لم يتعرض في هذا المقام للسياق، وإنما لكون السورة مكية أم فيها شيء مدني؟ كما سيتضح بعد قليل.
-يبدو لي أن هذا المثال الذي ذكره الشيخ فضل لا يسلم له لتحقيق ما يريد؛ لأن هذا المثال في الحقيقة لا يُبحث في باب السياق وسبب النزول وتفضيل السياق على السبب عند التعارض كما يريد الشيخ، وإنما هذا يُبحث في باب الآيات المدنية في السور المكية، وهناك تناقش الروايات لإثبات هذه السورة (يس) كلها مكية أم فيها قرآن مدني؟ ولو لاحظنا العلماء في تفاسيرهم عندما تعرضوا لهذه السورة ولهذه الآية ولسبب النزول محل النزاع، لم يناقشوا موضوع السياق، وكان كلامهم أن السبب مدني والسورة مكية، وهل تكرر النزول أم لا؟ وهل هذه السورة نزلت مرتين أم لا؟ وهل هذه الآية مدنية أم لا؟ ولم يتعرضوا إلى السياق.
-وهذا المثال لا ينطبق مع ما يريد الشيخ فضل؛ لأن المقارنة هنا ليست بين السياق وسبب النزول، وإنما بين الروايات الواردة في كون هذه السورة مكية وبين ما ورد في سبب نزولها المدني، وكلها روايات يسوغ لنا الترجيح بينا ويدخل السياق على أنه أحد المرجحات بين الروايات، بمعنى آخر أن سبب النزول على فرض أننا رددناه فلن يكون هذا بسبب السياق فحسب، وإنما بترجيح الروايات الأخرى؛ لأن الأغلبية الساحقة من العلماء ترى بأن سورة (يس) مكية، بل ادعى الإجماع على مكيتها القرطبي و ابن عطية والآلوسي والثعالبي في تفاسيرهم، وفي مكيتها عدد من الآثار عن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. وإن كنت أقول بأن ادعاء الإجماع لا يسلم لهم؛ لأنهم ذكروا في نفس الوقت قول فرقة خالفت وأيدت سبب النزول، لكن هذا يدل على مدى قوة الرأي القائل بأنها مكية كلها. وبالتالي المسألة هنا ترجيح بين الروايات في كون السورة كلها مكية أم فيها شيء مدني، وهي بعيدة عن مسألة السياق وإعطائه رتبة فوق السبب الصريح الصحيح بشكل عام، وهو الذي يتحدث عنه الشيخ فضل وهذا يغلب عليه الاجتهاد، وهذا المثال لا يخدمنا فيه.
-نعم من الطبيعي أن السورة المكية سياقها مكي، والمدنية سياقها مدني ـ مع الأخذ بعين الاعتبار مدى قدرتنا على إثبات بأن كامل السورة كذلك ـ لكن الاكتفاء بهذا الكلام لإدخال هذا المثال في باب السياق والسبب الصحيح الصريح لنحكم بأن السياق له مرتبة لا يبلغها السبب الصريح الصحيح، وتعميم ذلك على كل سياق سواء ما ثبت منه بروايات كما هنا أو الذي يجتهد في استنباطه، فيه من التكلف والمجازفة ما فيه.

8-ذكر المؤلف الآية 51 من سورة العنكبوت، وذكر رواية في سبب نزولها وذكر تضعيف هذه الرواية ، وهي كما قال . وبالتالي لا نعدها سببا للنزول ولا تصلح فيما نحن فيه من بحث.

9-"قوله تعالى:[ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ][فصلت:22].
أخرج البخاري في سبب نزولها عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ : كَانَ رَجُلَانِ مِنْ قُرَيْشٍ وَخَتَنٌ لَهُمَا مِنْ ثَقِيفَ أَوْ رَجُلَانِ مِنْ ثَقِيفَ وَخَتَنٌ لَهُمَا مِنْ قُرَيْشٍ فِي بَيْتٍ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَتُرَوْنَ أَنَّ اللَّهَ يَسْمَعُ حَدِيثَنَا قَالَ بَعْضُهُمْ يَسْمَعُ بَعْضَهُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَئِنْ كَانَ يَسْمَعُ بَعْضَهُ لَقَدْ يَسْمَعُ كُلَّهُ فنزلت الآية . ومع يقيننا بصحة رواية البخاري ـ رحمه الله ـ لكن الذي لا نستطيع قبوله أن تكون الرواية سبب نزول؛ ذلك أن سياق الآية مع ما قبلها كان حديثا عن الآخرة. قال تعالى: [ وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18) وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ] ... فكيف يقطع السياق ، وتفكك أجزاؤه؟! نعم، قد يقال : إن هؤلاء النفر تليت عليهم هذه الآية الكريمة ، ولكن بعض الرواة قال: نزلت، والله أعلم".أ.هـ.

-يبدو لي أن السبب فيما أشكل على الدكتور الفاضل في موضوع السياق هو بعض الخلط بين السبب والمناسبة، فهو ينظر إلى الآيات من خلال السبب فيختل السياق، وهذا برأيي غير صحيح؛ لأنه بهذه الطريقة يكون ـ من حيث لا يدري ـ قد فسر القرآن بخصوص السبب، والقرآن لا يفسر بخصوص السبب وإنما الأصل في تفسيره عموم اللفظ ما لم يثبت غير ذلك.
فإن الله سبحانه أنزل القرآن الكريم كله لهداية البشرية ، ولكن شاءت حكمته أن ينزل بعض الآيات وهي الأقل من القرآن الكريم على أسباب خاصة، وعندما جمع القرآن الكريم لم يجمع بمراعاة أسباب النزول، وإنما جمع كما كان مكتملا قبل أن ينزل، وفي هذه الحال توضع الآيات التي لها سبب نزول خاص بجوار أختها التي لم يكن لها سبب خاص، مع اختلاف في تاريخ النزول وظروفه، وما معنى آية مكية في سورة مدنية إلا أن نقول بأن الآية اخذت من بيئتها، وممن خاطبتهم من المشركين أولا ، ومن السبب الذي نزلت فيه، ووضعت مع آيات تخص النصارى أو اليهود في المدينة أو غير ذلك مما لم يكن في مكة عند نزول الآية المكية، وهذا لا يعني أن نرجع إلى الأسباب الصحيحة لنزول هذه الآيات فنبطلها بحجة اختلال السياق! وإنما دأب العلماء أن يكشفوا الخيط الدقيق الذي يسلك كلا من المشركين في مكة وسبب النزول آنذاك، ثم يسلك اليهود أو غيرهم مما وضعت الآية معه في القرآن المدني، وهذا الخيط الذي نكتشفه هو السياق المعتمد. وهذا ما جعل الطبري يحيد عن الظاهر في المثال الأول سابق الذكر. لأن الظاهر لو كان هو السياق المقصود لما تعارض مع سبب نزول صحيح وصريح. والطبري لم يترك السياق، وإنما ترك ما كان يظنه هو السياق ثم أوجد سياقا آخر مقنعا له، لا يردّ فيه السبب الصحيح الذي له حكم المرفوع كما هو معلوم. ثم هب أن فلانا من الناس لم يجد السياق المناسب الذي يقنعه، فهل هذا يعني أن يحذف ما صح من هذا الدين حتى تستقيم له الأمور؟ أم ينبغي أن يقول كما يقول العلماء: لا أعلم؟ ويترك الأمر لمن وجد السياق.

ثم أعود فأقول: نحن بعد جمع القرآن الكريم نؤمن بأنه لكل حرف وآية وسورة مناسبة للسباق واللحاق، وهو ما يسمى بالسياق. سواء عرفنا هذه المناسبة أم لم نعرف. ومن بين هذه الآيات التي لها مناسبات الآيات التي لها أسباب نزول خاصة، وبالتالي هناك آيات في القرآن الكريم يجتمع فيها مناسبة وسبب نزول خاص، وبالضرورة أن المناسبة ليست هي سبب النزول وإلا لما كان هناك أسباب ومناسبات عند العلماء، وعندما ننظر للآيات الكريمة نتحرى المناسبات بالنظر للسباق واللحاق، ويستعان أحيانا بما في الأسباب والأصل ما ذكرته أولا؛ لأنه هو أصل القرآن الكريم الذي كان كتابا واحدا متآلفا متناسبا، ولذلك المناسبات تدخل في الإعجاز البلاغي في القرآن الكريم، بينما الأسباب لا علاقة لها بالإعجاز.
-ولو طبقنا هذا الكلام على هذه الآيات الكريمة ينحل الإشكال، فالآية: ][َمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ] من الكلام الذي تقوله الجوارح في الآخرة لأصحابها الكفار، هذه المناسبة المتناسبة مع اللحاق والسباق. وكون السبب حادثة خاصة في الدنيا لا يعكر على هذا، لأن المناسبة غير السبب ومنشأ المناسبة غير منشأ السبب. وكون السبب في أن الآيات نزلت في نفر من المشركين لا يضر؛ لأن هذا سبب خاص والتفسير يبقى على العموم الذي يشمل جوارح هذا النفر وجوارح غيرهم ؛ لأنهم من بين هؤلاء الذين تشهد عليه جوارحهم. وتبقى هناك مزية للسبب في كونه داخل في العموم لا محالة، ولا يطاله التخصيص.
وكان الدكتور فضل قد نقل لنا قولا جميلا للسيوطي هذا مقامه وهو ما ذكرته في البداية برقم (1)، فارجع إليه ترى كيف يوفق بين السبب والمناسبة، وبين أن الجمع كان على المناسبة، دون أن يخل هذا بالسبب.
- ومن جهة أخرى في تفسير الآيات ومعرفة سياقها ، ما المانع أن يكون قوله تعالى:
[وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ] من كلام الله تعالى وليس من كلام الجوارح؟ ونزل في نفر من المشركين كما هو سبب النزول، وعند ترتيب القرآن الكريم وضع هنا بالوحي لما فيه من التقريع المناسب للسباق واللحاق، وكلهم أعداء الله جمع بينهم أنهم ظنوا أن لن تقوم الأدلة على أفعالهم. وظنهم هذا لا شك كان في الدنيا وليس في الآخرة وهو المشار إليه بالآية الثانية: [وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ]؟
يبدو لي بأن ما ذكره الدكتور الفاضل غير كاف لرد سبب صريح صحيح له حكم المرفوع، وهو ليس في البخاري فقط وإنما متفق عليه.
- ومن جهة أخرى لو نظرنا في أعلام كتب التفسير مثل الطبري والقرطبي والرازي لا نراهم ذكروا شيئا مما ذكره الدكتور ، مع أنهم ذكروا التفاسير الممكنة للآيات، ولم يواجههم أي إشكال في مسألة السياق!

10ـ " وأخيرا قوله تعالى: [ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض][الشورى:27] قالوا إن هذه الآية نزلت في شأن بعض أهل الصفة، الذين أحبوا أن يكونوا أصحاب غنى، والآية مكية كما تعلم ـ لم يخالف في مكيتها أحد، فكيف تكون نزلت في شأن أهل الصفة الذين كانوا في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم".أ.هـ.
أقول: هناك أقوال في التفاسير كثيرة عن هذا السبب، والذين قالوا به لا شك أنهم لا يرون هذه الآية مكية.
ووجدت عدة روايات لهذا السبب أكثرها شهرة عن عمرو بن حريث، وهذا كما في الإصابة مختلف في صحبته، وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي ، عن علي رضي الله عنه قال : إنما أنزلت هذه الآية في أصحاب الصفة [ ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ] وذلك أنهم قالوا : لو أن لنا فتمنوا الدنيا. وعبارة السببية هنا غير واضحة في كونها صريحة ، ويحتمل أن تكون الآية في حكمهم.
وهناك روايات أخرى في نفس المعنى، ويبدوا هذا المثال أيضا غير كاف فيما يريد الشيخ أن يثبته، فهو ما بين الضعيف و الصيغة غير الصريحة. ولو صح سندا وبصيغة صريحة فلا مانع أن تكون هذه الآية مدنية، وكتب التفسير مليئة بهذه الرواية وكل من يرويها لابد أنه لا يمانع من أن تكون الآية مدنية في سورة مكية.

لكن في الختام أطرح هذه النقاط:
1-أيهما أعلى رتبة ويقدم على الآخر: السياق أم السبب الصريح الصحيح ومعلوم أنه له حكم المرفوع؟
2- أين آراء العلماء الكبار فيما يريده الشيخ من تقديم السياق على السبب، وهل صرحوا بهذا، لم نره ذكر شيئا من ذلك.
بل نرى الطبري في تفسيره لقوله تعالى: [وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا][النساء:161] يصرح بأن السياق تبع للسبب وليس العكس فيقول: "فغير جائز صرف الكلام عما هو في سياقه إلى غيره إلا بحجة يجب التسليم لها من دلالة ظاهر التنزيل ، أو خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم تقوم به حجة، فأما الدعاوى فلا تتعذر على أحد". ومن الحجج المؤكدة حديث النزول الصحيح الصريح، لأنه في حكم المرفوع. ويمكن أن ترى توسعا لما أقول في كتاب قواعد الترجيح لحسين الحربي.
3-ومن جهة أخرى يبدو لي بأن موضوع السياق يحتاج إلى تقسيم وتفصيل: فمنه ما هو ثابت بالأحاديث أو الآثار، ومنه ما هو مجرد اجتهاد ونظر إلى ظاهر الآيات، ومنه ما هو واضح ، ومنه ما هو غامض، ومنه ما بني على استبعاد سبب النزول، ومنه ما بني على سبب النزول، وغير ذلك من كلام يمكن أن يقال في السياق، ويبدو لي بأن السياق بالطريقة التي طرحها الدكتور الفاضل لم يأخذ حظه من الدقة في العرض؛ ولذلك كان فيه ما كان، ولكن من خلال الحوار والتفاعل مع هذا الموضوع، وطرحه في ملتقى التفسير ليصل إلى الشيخ وغيره من المتخصصين ليدلي الجميع برأيه فقد نصل إلى نتيجة مرضية والله أعلم.
4-وحتى يكون الكلام مثمرا حبذا لو كانت المشاركات في صلب الموضوع كما مر سابقا.

والله من وراء القصد والحمد لله رب العالمين​
 
بارك الله فيكم أستاذنا الكريم وبارك في علمك وعملك
والحقيقة أن هذا الموضوع الذي أثرته موضوع في غاية الأهمية ، وخاصة من ناحية صيغ أسباب النزول ، واعتبار السياق دعامة أساسية في قبول سبب النزول وتقديمه أحيانا على صحة الرواية التي ادعي أنها سبب نزول .
فأما قضية تقسيم صيغ النزول إلى صريحة وغير صريحة فهي محل إشكال وخاصة أن الذين رويت عنهم هذه الروايات في النزول لم يتقيدوا بصيغة معينة ولم يكن لديهم مصطلح سبب النزول بالمعنى المتأخر وإن كان موجودا كمعنى من المعاني المستخدمة في التعبير عن النزول
وأما قضية السياق واعتباره دعامة أساسية في قبول سبب النزول وتقديمه على الصحة فهي قضية لها وجاهة ؛ لأن الإشكال - كما لا يخفى عليكم - ليس في صحة الرواية وإنما في صحة ادعاء كونها سببا للنزول
وقد فصل الكلام في هاتين القضيتين الدكتور خالد المزيني في كتابه ( المحرر في أسباب النزول ) وأتى بفوائد وكلام يحسن مراجعته
وللفائدة يحسن مراجعة هذا الرابط
تعريف (سبب النزول) ورأي الشيخ عبدالحميد الفراهي في ذلك
 
أخي الفاضل الدكتور أبو صفوت حفظه الله ورعاه، السلام عليكم ورحمة الله
شكرا جزيلا على شكرك وبارك الله فيك، أخي الفاضل ماكتبت في تعليقي على كتاب الشيخ فضل تجاوزتُ فيه كلمة (ادعيت) وتجاوزنا فيه كلمة (أحيانا ) في تقديم السياق، وتجاوزت فيه تعريف السبب، وأكدت أنني أناقش في مسألة دقيقة هي: حديث صريح في السببية صحيح في الرواية لم يزاحمه غيره في أسباب النزول ولا يوجد ما يؤثر أو يعترض عليه سوى السياق!! فهل في هذه الحال للسياق رتبة على هذا السبب أم السبب أعلى رتبة من السياق. هذا موطن الحوار بالضبط.
وأما تعريف السبب والصريح وغير الصريح فهذا باب آخر ، لكن نحن والشيخ فضل متفقون في مسألة قالها في ج1/334:"ولكن الذي أود أن أنبهك عليه هنا أنه إذا قال الصحابي: حدث كذا فنزلت كذا، فإن ذلك يعد من قبيل المرفوع إلى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ "أ.هـ. وكلامه هذا جعلني لا أحتاج للدخول في نقاش في موضوع الصيغ.
وأما (أحيانا ) و(ادعي) من الكلام الذي ذكرتم فلا خلاف عليه وهو معلوم أنه في بعض الأحيان للسياق مفعول مرجح، وما ادعيت صحة روايته أو سببيته قد يكون غير ذلك بأدلة تذكر ، هذا كله ليس موطن النقاش، لأن هذا كله في الحكم بعد القرائن، وهذا يكون في الحالات التطبيقية ، وأنا الآن أريد أن أسس نظريا: هل السياق مقدم على السبب الصريح الصحيح الذي لا يعكر عليه شيء سوى مارآه البعض من كونه غير موافق للسياق. نريد أن نؤسس مبدأ لنبني عليه. وقد بينت هذا في كلامي وهذا مزيد تأكيد.
ومن جهة أخرى فقولك إنما المردود كونه سببا في النزول فقط. فعن هذا طبعا كنت أتكلم وهذا ما كنت أقصد في كلامي السابق، وأضيف هنا بأن رد السببية ليس شيئا بسيطا، لأنه إنما صار حجة وبحكم المرفوع كونه سببا في النزول صريحا، فإذا رددت سببيته ، فتبع ذلك سقوط رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسقوط حجيته، فماذا بقي فيه!
ومن جهة أخرى فكون السلف لم يتقيدوا بصيغة في سبب النزول، فهذا حال أغلبية المصطلحات الفقهية وغيرها، فكل هذا التفريع والتأصيل لم يكن من الناحية النظرية موجودا، فهل النسخ عندهم كالنسخ عندنا، وإنما العلماء استقرؤوا هذا التراث العلمي وفرزوه حسب أصول عربية وشرعية، وجزاهم الله خيرا. ولا مانع من إعادة النظر في بعض الأمور ولكن بكل حيطة وتدبر ، ووضوح أدلة.
والله أعلم
 
3- قال المؤلف:"قوله سبحانه:[ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ][الأنفال:27].
اشتهر في روايات أسباب النزول أنها نزلت في أبي لبابة ـ رضي الله عنه ـ، وقد سأله بنو قريظة: أننزل على حكم سعد بن معاذ؟ فأشار إلى حلقه: إنه الذبح فلا تفعلوا، فقال: والله ما زالت قدماي حتى علمت أني قد خنت الله ورسوله ، فنزلت الآية...".أ.هـ
وذكر الشيخ تحسين الشيخ شعيب الأرناؤوط لهذه الرواية في صحيح ابن حبان وأنها في المسند كذلك. إلا أنني عندما رجعت لهذه الرواية في صحيح ابن حبان والمسند لم أجد منها سوى إشارة أبي لبابة إلى حلقه! وليس فيها ذكر للآية الكريمة ولا أنها نزلت فيه! ولا ذكر لسبب نزول لا بالصيغة الصريحة ولا بغيرها. وبالتالي لا تصلح كذلك لما يهدف المؤلف إلى تأسيسه من مبدأ: عدم قبول الصيغة الصريحة الصحيحة في حال عدم اتفاقها مع السياق.
أخي الفاضل محمد أبو زيد : أشكرك جداً على هذا العرض الشيق في وقوفك على تلك الفوائد . ولكن لي ملاحظة واحدة بعد إذنك سأمررها فقط من أجل إثرائها نقاشاً إن كان هناك من داع. وبارك الله بك
بالنسبة للرواية التي ذكرت مناسبة الآية وذكر ابو لبابة. فإن لم ترد في صحيح ابن حبان فقد ذكرت في غيره وقد بلغت الآفاق ذكراً فقد ذكر السيوطي في الدر المنثور :أخرج عَبد بن حُمَيد عن الكلبي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا لبابة رضي الله عنه إلى قريظة وكان حليفا لهم فأومأ بيده أي الذبح فأنزل الله {يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون} فقال رسول الله لأمرأة أبي لبابة ، أيصلي ويصوم ويغتسل من الجنابة فقالت : إنه ليصلي ويصوم ويغتسل من الجنابة ويحب الله ورسوله ، فبعث إليه فأتاه فقال :
يا رسول الله والله أني لأصلي وأصوم وأغتسل من الجنابة ، وإنما نهست إلى النساء والصبيان فوقعت لهم ما زالت في قلبي حتى عرفت أني خنت الله ورسوله.
وأخرج أبو الشيخ عن السدي رضي الله عنه {يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول} قال : نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر رضي الله عنه نسختها الآية التي في براءة (وآخرون اعترفوا بذنوبهم) (التوبة الآية 102).وهي موجودة أيضاً في كثير من التفاسير
وقد ذُكرت نفس الرواية أيضاً في المسند الجامع وتخريج أحاديث الكشاف ومجمع الزوائد وكنز العمال وغيرها الكثير . وبارك الله بك
 
10ـ " وأخيرا قوله تعالى: [ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض][الشورى:27] قالوا إن هذه الآية نزلت في شأن بعض أهل الصفة، الذين أحبوا أن يكونوا أصحاب غنى، والآية مكية كما تعلم ـ لم يخالف في مكيتها أحد، فكيف تكون نزلت في شأن أهل الصفة الذين كانوا في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم".أ.هـ.
أقول: هناك أقوال في التفاسير كثيرة عن هذا السبب، والذين قالوا به لا شك أنهم لا يرون هذه الآية مكية.
ووجدت عدة روايات لهذا السبب أكثرها شهرة عن عمرو بن حريث، وهذا كما في الإصابة مختلف في صحبته، وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي ، عن علي رضي الله عنه قال : إنما أنزلت هذه الآية في أصحاب الصفة [ ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ] وذلك أنهم قالوا : لو أن لنا فتمنوا الدنيا. وعبارة السببية هنا غير واضحة في كونها صريحة ، ويحتمل أن تكون الآية في حكمهم.
وهناك روايات أخرى في نفس المعنى، ويبدوا هذا المثال أيضا غير كاف فيما يريد الشيخ أن يثبته، فهو ما بين الضعيف و الصيغة غير الصريحة. ولو صح سندا وبصيغة صريحة فلا مانع أن تكون هذه الآية مدنية، وكتب التفسير مليئة بهذه الرواية وكل من يرويها لابد أنه لا يمانع من أن تكون الآية مدنية في سورة مكية.
أخي الفاضل : رواية عمرو بن حريث،صحيحة عند كثير من أهل الحديث وقد أخرجه الحاكم وصححه، وأشار الذهبي إلى أنه على شرط الشيخين ج2 ص445 عن علي بن أبي طالب مثله.
وهناك روايات أخرى رواها الهيثمي في مجمع الزوائد ج7 ص104 رواه أيضاً الطبراني ورجاله رجال الصحيح وفيه "لأنهم تمنوا الدنيا" وأخرجه الواحدي في أسباب النزول وأبو نعيم في الحلية ج1 ص338.
قال ابن جرير ج25 ص30 حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال قال أبو هانئ1 سمعت عمرو بن حريث (وغيره) يقولون إنما أنزلت هذه الآية في أهل الصفة.
مما سبق ولأن الشيخ فضل عالم مرجح ذو يد طائلة في العلم ويعرف مقادير الروايات سقيمها وصحيحها فإنه يحق له أن يأخذ بما يستأنس به من روايات ولا يعاب عليه في ذلك ما دامت الرواية فيها أقوال قريبة الى الصحة أكثر من الوهن.
 
مفهوم السياق الذي ينازع السبب

مفهوم السياق الذي ينازع السبب

أشكر أخي د. محمد أبو زيد على هذه القراءة والتحليل والنقد
ويبدو لي أن هذه المسألة من المسائل المشكلة التي تحتاج إلى بحث وتأمل
ويبدو لي أيضاً
1ـ أن مناقشة هذه المسألة تحتاج إلى عمق في موضوع السياق وفهم المراد به مثل فهم قضية الأسباب ودقائقها ، فمثلاً مكان النزول مكي أو مدني هو جزء من السياق بمفهومه الحالي ، فإن السياق عند الباحثين يشمل سياق المقال ، وسياق الحال ، وسياق الحال هو بيئة النزول وأحداثها ، ويدخل فيه سبب النزول ، وعليه فإن استدلال الدكتور عباس بمكية سورة يس هو استدلال بالسياق الحالي = سياق الحال = قرائن الحال . كلها سواء ، ولا يسلم التفريق بين البحث في مكان النزول والبحث في السياق.
2ـ يبدو لي أخي د. محمد أن ما نقلته في المثال الأول من سبب نزول صيغته ليست صريحة بمصطلح القائلين بالتقسيم إلا أن يكون قد طوي كلام يدل على الصراحة ، ولعل قول ابن عباس بالقولين يدل على أن المسألة أيضاً من باب التفسير وليس من باب السببية ، ولعل مما يؤكد ذلك جمع الطبري بين القولين تحت معنى الآية .
3ـ يبدو لي أن في بعض جوانب كلامك أخي د. غموض يحتاج إلى توضيح ولا يمكن الحكم عليه حتى يتبين وربما بيّن بيانه عدم دقته وذلك من مثل قولك : -يبدو لي أن السبب فيما أشكل على الدكتور الفاضل في موضوع السياق هو بعض الخلط بين السبب والمناسبة، فهو ينظر إلى الآيات من خلال السبب فيختل السياق، وهذا برأيي غير صحيح؛ لأنه بهذه الطريقة يكون ـ من حيث لا يدري ـ قد فسر القرآن بخصوص السبب، والقرآن لا يفسر بخصوص السبب وإنما الأصل في تفسيره عموم اللفظ ما لم يثبت غير ذلك.
فإن الله سبحانه أنزل القرآن الكريم كله لهداية البشرية ، ولكن شاءت حكمته أن ينزل بعض الآيات وهي الأقل من القرآن الكريم على أسباب خاصة، وعندما جمع القرآن الكريم لم يجمع بمراعاة أسباب النزول، وإنما جمع كما كان مكتملا قبل أن ينزل، وفي هذه الحال توضع الآيات التي لها سبب نزول خاص بجوار أختها التي لم يكن لها سبب خاص، مع اختلاف في تاريخ النزول وظروفه، وما معنى آية مكية في سورة مدنية إلا أن نقول بأن الآية اخذت من بيئتها، وممن خاطبتهم من المشركين أولا ، ومن السبب الذي نزلت فيه، ووضعت مع آيات تخص النصارى أو اليهود في المدينة أو غير ذلك مما لم يكن في مكة عند نزول الآية المكية، وهذا لا يعني أن نرجع إلى الأسباب الصحيحة لنزول هذه الآيات فنبطلها بحجة اختلال السياق! وإنما دأب العلماء أن يكشفوا الخيط الدقيق الذي يسلك كلا من المشركين في مكة وسبب النزول آنذاك، ثم يسلك اليهود أو غيرهم مما وضعت الآية معه في القرآن المدني، وهذا الخيط الذي نكتشفه هو السياق المعتمد. وهذا ما جعل الطبري يحيد عن الظاهر في المثال الأول سابق الذكر. لأن الظاهر لو كان هو السياق المقصود لما تعارض مع سبب نزول صحيح وصريح. والطبري لم يترك السياق، وإنما ترك ما كان يظنه هو السياق ثم أوجد سياقا آخر مقنعا له، لا يردّ فيه السبب الصحيح الذي له حكم المرفوع كما هو معلوم. ثم هب أن فلانا من الناس لم يجد السياق المناسب الذي يقنعه، فهل هذا يعني أن يحذف ما صح من هذا الدين حتى تستقيم له الأمور؟ أم ينبغي أن يقول كما يقول العلماء: لا أعلم؟ ويترك الأمر لمن وجد السياق.

ولعل مما يدل على ذلك أن السياق مقالياً وحالياً لا يخفى ـ غالبا ـ وليس من المعروف الاختلاف فيه وكل يفهم منه غير ما يفهم الآخر ؛ لأنه كلام سابق لمحل النزاع وهو ما يسمى بالسباق وآخر لاحق له وهو ما يسمى باللحاق ، وأما السياق الحالي فهو تاريخ مروي أو حال متكلم أو مخاطب وهذه كلها لا تحتمل كثرة الخلافات بل هي ظاهرة غالباً .
4ـ دائماً وبعد كل بحث في هذه المسألة أتساءل هل تحتاج هذه المسألة بحث من جذورها ولا تتضح إلا به .
والله أعلم
 
وأخيراً أعتذر عن بعض الأخطاء النحوية أو الأسلوبية في المشاركة السابقة ، فقد كتبتها مباشرة دون مراجعة ولا قراءة ثانية .
 
شكرا لك أخي الدكتور محمد زيلعي فقد سعدت بمشاركتك وإثرائك للموضوع، وهذا ما كنت أرجوه، فإن ما ذكرته يعد أمرا تخصصيا بدرجة عالية، فكنت أرجو أن يتقدم الأخوة المتخصصون بما لديهم وأشاطرك الرأي في أن المسألة تحتاج إلى بحث وتفصيل، وهذا ما هدفت من إثارة الموضوع، والحقيقة أنني لم أذكر كل شيء بما يخص تعليقاتي؛ لأن الحديث طويل ومتشعب ، فتركت الباقي للحوار.
- بالنسبة للمثال الأول الذي سألت عنه الحقيقة أنا كنت أختصر لأنه صعب علي أن أنقل كل ما قاله الدكتور نصا، وفي هذا المثال قال الدكتور الفاضل: "عن ابن عباس : أن رجلا من الأنصار ارتد فلحق بالمشركين، فأنزل الله ] كيف يهدي الله قوما...[ " إلى آخر الرواية.
- ذكرتَ بأن بعض كلامي غير واضح، ولكنك وضعت قدرا كبيرا ضمن حيز الغموض، بحيث صعب علي أن أعرف بالضبط مكان الغموض، على كل حال فما أردت أن أقوله في الكلام الذي اقتبسته حضرتك من كلامي هو الذي قلته أنت في تعليقك ، وأنه دراسة السياق ينبغي أن تكون كلية، دون تفريق، بمعنى آخر أن تؤخذ كل القرائن والأدلة بعين الاعتبار، سواء أكان من حيث المكي والمدني ، أو سبب النزول أو الموضوع والفكرة، وغير ذلك مما هو ضروري، وعادة العلماء يطرحون السياق بهذا العموم، وعندما يتحدثون عن السياق بشكل جزئي يكون هذا لأهداف جزئية كذلك.
- أما قولك أخي الكريم "بأن السياق لا يخفى غالبا"، فهذا متعلق ـ كما تعلم ـ بمدى جلاء الآيات القرآنية، على كل حال يصبح السياق غامضا في الحالات التي نتحدث فيها التي يختلف فيها سبب النزول مع النص القرآني بطريقة يصعب الجمع فيها بينهما على الكثيرين،أو بسبب عدم معرفة مكي الآيات أو مدنيها على وجه التفصيل، أو بسبب ضعف الأدوات التي يمتلكها الناظر، وغير ذلك . والله أعلم.
 
الدكتور الفاضل محمد أبو زيد أجاد وأفاد ، واكتسبت من هذا الموضوع القيم معلومات قيمة ، وسأضيف مثالا أتمنى أن أعرف رأي الدكتور فيه ، وهناك معلومة تدور في خلدي وأنا أقرأ هذا المقال المفيد ، وهي أن منهج الأيمة النقاد في نقدهم للحديث كما هو معلوم يقوم على أساسات ومن أهمها أن لا يتعارض الحديث مع القرآن الكريم ، وأما المثال :
قال ابن كثير ( نسخة الشاملة ) :
وهذه أسانيد صحيحة عن الحسن، رحمه الله، أنه فسر الآية بذلك، وهو من أحسن التفاسير وأولى ما حملت (3) عليه الآية، ولو كان هذا الحديث عنده محفوظًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما عدل عنه هو ولا غيره، ولا سيما مع تقواه لله وَوَرَعه، فهذا يدلك على أنه موقوف على الصحابي، ويحتمل أنه تلقاه من بعض أهل الكتاب، من آمن منهم، مثل: كعب أو وهب بن مُنَبّه وغيرهما، كما سيأتي بيانه إن شاء الله [تعالى] (4) إلا أننا برئنا من عهدة المرفوع، والله أعلم.
فأما (5) الآثار فقال محمد بن إسحاق بن يسار، عن داود بن الحُصَين، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كانت حواء تلد لآدم، عليه السلام، أولادا فيعبدهم لله ويُسَمّيه: "عبد الله" و"عبيد الله"، ونحو ذلك، فيصيبهم الموت فأتاهما إبليس وآدم فقال: إنكما لو تسميانه بغير الذي تُسميانه به لعاش (6) قال: فولدت له رجلا (7) فسماه "عبد الحارث" ، ففيه أنزل الله، يقول الله: { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ } إلى قوله: { جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا } إلى آخر الآية.
وقال العَوْفي، عن ابن عباس قوله في آدم: { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ } إلى قوله: { فَمَرَّتْ بِهِ } شَكَّت (8) أحَبَلتْ أم لا؟ { فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ } فأتاهما الشيطان، فقال: هل تدريان ما يولد لكما؟ أم هل تدريان ما يكون؟ أبهيمة (9) يكون أم لا ؟ وزيَّن لهما الباطل؛ إنه غوي مبين، وقد كانت قبل ذلك ولدت ولدين فماتا، فقال لهما الشيطان: إنكما إن لم تسمياه بي، لم يخرج سويا، ومات كما مات الأولان (10) فسميا ولدهما "عبد الحارث" ، فذلك قول الله [تعالى] (11) { فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا } الآية.
وقال عبد الله بن المبارك، عن شريك، عن خصيف، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: { فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا } قال: قال الله تعالى: { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا } آدم { حَمَلَتْ [ حَمْلا خَفِيفًا ] } (12) فأتاهما إبليس -لعنه الله -فقال: إنى صاحبكما الذي أخرجتكما من الجنة لَتطيعُنِّي أو لأجعلنَّ قرني له (13) أيل فيخرج من بطنك فيشقه، ولأفعلنَّ ولأفعلنَّ -يخوفهما -فسمِّياه "عبد الحارث" فأبيا أن يطيعاه، فخرج ميتا، ثم حملت الثانية، فأتاهما أيضا فقال: أنا صاحبكما الذي فعلت ما فعلت، لتفعلُنَّ أو لأفعلَنَّ -يخوفهما -فأبيا أن يطيعاه، فخرج ميتا، ثم حملت الثالثة فأتاهما أيضا، فذكر لهما، فأدركهما حبُّ الولد، فسمياه "عبد الحارث" ، فذلك قوله: { جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا } رواه ابن أبي حاتم.
وقد تلقى هذا الأثر عن ابن عباس جماعة من أصحابه، كمجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة. ومن الطبقة الثانية: قتادة، والسدي، وغير واحد من السلف وجماعة من الخلف، ومن المفسرين من المتأخرين جماعات لا يحصون كثرة، وكأنه -والله أعلم -أصله مأخوذ من أهل الكتاب، فإن ابن عباس رواه عن أُبي بن كعب، كما رواه ابن أبي حاتم:
حدثنا أبي، حدثنا أبو الجماهر (1) حدثنا سعيد -يعني ابن بشير -عن عقبة، عن قتادة، عن مجاهد، عن ابن عباس، عن أُبي بن كعب قال: لما حملت حواء أتاها الشيطان، فقال (2) لها: أتطيعيني ويَسْلَم لك ولدك؟ سميه "عبد الحارث"، فلم تفعلْ، فولدت فمات، ثم حملت فقال لها مثل ذلك، فلم تفعل. ثم حملت الثالث فجاءها فقال: إن تطيعيني يسلم، وإلا فإنه يكون بَهِيمة، فهيَّبهما فأطاعا.
وهذه الآثار يظهر عليها -والله أعلم -أنها من آثار أهل الكتاب، وقد صح الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا حَدَّثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم"، ثم أخبارهم على ثلاثة أقسام: فمنها: ما علمنا صحته بما دل عليه الدليل من كتاب الله أو سنة رسوله. ومنها ما علمنا كذبه، بما دُلَّ على خلافه من الكتاب والسنة أيضًا. ومنها: ما هو مسكوت عنه، فهو المأذون في روايته، بقوله، عليه السلام: "حدثوا عن بني إسرائيل ولا حَرج" وهو الذي لا يصدَّق ولا يكذب، لقوله: "فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم". وهذا الأثر: [هل] (3) هو من القسم الثاني أو الثالث؟ فيه نظر. فأما من حدث به من صحَابي أو تابعي، فإنه يراه من القسم الثالث، وأما نحن فعلى مذهب الحسن البصري، رحمه الله، في هذا [والله أعلم] (4) وأنه ليس المراد من هذا السياق آدم وحواء، وإنما المراد من ذلك المشركون من ذريته؛ ولهذا قال الله: { فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } ثم قال:
{ أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (195) }" أهـــ
وللفائدة ، هناك أمر يتعلق بهذا الموضوع في المشاركة التالية :
http://vb.tafsir.net/showpost.php?p=105192&postcount=4
 
بارك الله فيك أختي أم عبد الله الجزائرية، وشكرا على مداخلتك، واسمحي لي أن أذكر أول المثال الذي اقتبستيه من ابن كثير رحمه الله حتى يُفهم المثال بشكل واضح لأنه هكذا منقوص، فأول المثال عند ابن كثير وهو من تفسير سورة الأعراف 189-190:
"قال الإمام أحمد في مسنده: حدثنا عبد الصمد، حدثنا عمر بن إبراهيم، حدثنا قتادة، عن الحسن، عن سمرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ولما ولدت حواء طاف بها إبليس -وكان لا يعيش لها ولد -فقال: سميه عبد الحارث؛ فإنه يعيش، فسمته عبد الحارث، فعاش وكان ذلك من وحي الشيطان وأمره".
وهكذا رواه ابن جرير، عن محمد بن بشار، بُنْدَار، عن عبد الصمد بن عبد الوارث، به.
ورواه الترمذي في تفسيره هذه الآية عن محمد بن المثنى، عن عبد الصمد، به وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث عمر بن إبراهيم، عن قتادة، ورواه بعضهم عن عبد الصمد، ولم يرفعه.
ورواه الحاكم في مستدركه، من حديث عبد الصمد مرفوعًا ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
ورواه الإمام أبو محمد بن أبي حاتم في تفسيره، عن أبي زُرْعَة الرازي، عن هلال بن فياض، عن عمر بن إبراهيم، به مرفوعًا.
وكذا رواه الحافظ أبو بكر بن مَرْدويه في تفسيره من حديث شاذ بن فياض، عن عمر بن إبراهيم، به مرفوعا
قلت: "وشاذ" هذا هو: هلال، وشاذ لقبه. والغرض أن هذا الحديث معلول من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن عمر بن إبراهيم هذا هو البصري، وقد وثقه ابن معين، ولكن قال أبو حاتم الرازي: لا يحتج به. ولكن رواه ابن مردويه من حديث المعتمر، عن أبيه، عن الحسن، عن سمرة مرفوعا فالله أعلم.
الثاني: أنه قد روي من قول سمرة نفسه، ليس مرفوعًا، كما قال ابن جرير: حدثنا ابن عبد الأعلى، حدثنا المعتمر، عن أبيه. وحدثنا ابن علية عن سليمان التيمي، عن أبي العلاء بن الشخير، عن سمرة بن جندب، قال: سمى آدم ابنه "عبد الحارث".
الثالث: أن الحسن نفسه فسر الآية بغير هذا، فلو كان هذا عنده عن سمرة مرفوعًا، لما عدل عنه.
قال ابن جرير: حدثنا ابن وَكِيع، حدثنا سهل بن يوسف، عن عمرو، عن الحسن: { جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا } قال: كان هذا في بعض أهل الملل، ولم يكن بآدم.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر قال: قال الحسن: عنى بها ذرية آدم، ومن أشرك منهم بعده -يعني: قوله: { جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا}
وحدثنا بشر حدثنا يزيد، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: كان الحسن يقول: هم اليهود والنصارى، رزقهم الله أولادًا، فهوّدوا ونَصَّروا".أ.هـ.
الحقيقة المثال يخدمنا في استحضار هيبة الحديث عند ابن كثير ، فكان يشعر بثقل حديث مرفوع يتعارض مع الشريعة الإسلامية لما فيه من اتهام لآدم وزوجه بالشرك، ومع أن هذا بين الضعف لكنها هيبة يستشعرها العلماء ويفرحون عند وجود خلل في مثل هذه الأحاديث فانظري إليه وهو يقول:" إلا أننا برئنا من عهدة المرفوع". وانظري إليه كذلك وهو يقول:" ولو كان هذا الحديث عنده محفوظًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما عدل عنه هو ولا غيره، ولا سيما مع تقواه لله وَوَرَعه" أ.هـ. وإنني لأدعو إلى استشعار الهيبة والتريث عند رد المرفوع إلى مقام النبوة، ومن ذلك السبب الصريح الصحيح.
 
[وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا][النساء:161]
فاليهود كانوا ولا زالوا إلى اليوم يملكون اقتصاد العالم وبنوكه..
الإعجاز في تحريم الربا
 
عودة
أعلى