نظرة بلاغية في سورة الضحى للأستاذ الراحل الدكتور نعيم اليافي

إنضم
19/09/2008
المشاركات
173
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
الإقامة
الكويت
راجعتُ ما كتبتُه من إملاء أستاذي الدكتور نعيم اليافي في مقرر البلاغة العربية أواخر عام 1996 ، أسلوبه كان قويا مؤثرا ، لا سيما وهو يُمْلينا ارتجالا نابعًا من رسوخ قدم فيما يتحدث به ، فرأيتُ أن أبحث عن أية إشارة له في محرك البحث فإذا بي أجد له موقعا قد صدَّر اسمه بكلمة "الراحل" ، رحمه الله وغفر له .
كلمة "الراحل" أعادت التلميذ إلى التماس وفاء لذاك الأستاذ ، بحثتُ عن مؤلفاته في موقعه ، فلم أجد ما لدي منشورا فيه ولو عنوانا ، وها هو بعضٌ منه هدية بين العيون والمدارك من أستاذ فاضل أفضى إلى ما قدَّمَ وبقيت أثارَتُه ، أسأل الله أن يكتب له فيها الأجر .
...
تحليل نصي لسورة الضحى
1. وَالضُّحَى
2. وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى
3. مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى
4. وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى
5. وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى
6. أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى
7. وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى
8. وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى
9. فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ
10. وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ
11. وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ
خطوات التحليل :
1) الإطار العام ومناخ النص
2) طبيعة القَسَم
3) الذِّكر والحذْف
4) الألفاظ المناسبة
5) سياق النص
أولا : مناخ النص –
حتى نفهم هذا المناخ أو الإطار نعرض أسباب النزول ، نزل النص وهو مكي في أوائل ما نزل من نصوص القرآن بعد فترة فتور ظن الكافرون أن القطيعة قد وقعت بين محمد وخالقه ، فقالوا في جملة ما قالوا : لقد قلى محمدًا ربُّه ، نزل النص ليدحض هذه الفرية وليقف إلى جانب النبي عليه الصلاة والسلام وليكون لمسة حنان دافئة من الذات العلية تدعم النبي في توقفه وتأخذ بيده وتؤكد له استمرار الوحي . النبي كبشر ضعيف يحتاج في تلك الفترة إلى لمسة حنان فكان النص هو هذه اللمسة ، وضمن هذا الإطار النفسي سنجد أن كل لفظة .. كل تركيب .. كل دلالة إنما نبعت منه وتعود إليه .
ثانيا : القَسَم –
من يستقرئ القسم القرآني يجد أنه على نوعين :
النوع الأول : جاء بصيغة الواو مع المقسَم به من مثل "وَالضُّحَى" هنا ، و "وَالسَّمَاء وَالطَّارِقِ" و "وَالْعَادِيَاتِ .." .. الخ .
النوع الثاني : جاء بصيغة "لَا أُقْسِمُ" ومثاله كثير منها قوله تعالى "لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ {1} وَأَنتَ حِلٌّ .." الخ .
ومن يتتبع آراء الدارسين إزاء القسمين سيجد أنها شتى ، لا يهمنا أن نقف عندها ولا أن نتتبعها ، حسبنا أن نقف عند القسم بالواو ؛ لأنه مرتبط بسياق النص الذي نحن بصدده ؛ ذهب المفسرون إلى أن هذه الصيغة هي قسم وقسم بالواو ، كما ذهبوا إلى أن الله تعالى لا يقسم بآياته إلا لأنها عظيمة ، وسنختلف معهم في هذين الأمرين ؛ من الناحية النحوية الصرفية الواو واو قسم ، ولكن من الناحية البلاغية وهو ما يهمنا سنسمي هذه الواو بالواو البيانية ، أشرح ذلك فأقول : إن الله تعالى جلت قدرته يلفت نظرنا بهذه الواو إلى حقيقتين إحداهما مادية ، وأخراهما معنوية ، وعلينا أن نثبت ونؤكد ونعتقد بالحقيقة المعنوية من خلال فهمنا للحقيقة المادية .. وهكذا كل من يستقرئ تركيب القسم بالواو سينتهي إلى وجود مشهدين بعد الواو ، مشهد مادي يعقبه مشهد معنوي ؛ هنا أين المشهد المادي ؟ تعاقب الضحى الألق بعد الليل الساجي ، وهذا التعاقب المادي الملموس حقيقة مادية مرئية ومشاهدة لا تثير أسئلة ولا تخلق جدلا ، يعقب هذه الحقيقة حقيقة معنوية أخرى هي هنا في النص وداع الله لرسوله وعدم بغضه له ، وأن تعاقب القرب والبعد تعاقب الاتصال والانفصال تعاقب فتور الوحي وزخمه إنما هو أمر عادي وهو أمر معنوي أيضا ، أكثف ذلك كما يأتي :
- الصورة الأولى : تعاقب الليل بعد النهار أو قبله ؛ هذا التعاقب المادي ، تعاقب عادي حقيقي وبالتالي فإن تعاقب تنجيم الوحي فتورا وزخما إنما هو الآخر تعاقب معنوي عادي في آن .
- والأمر الثاني فيما يتعلق بالقسم بالواو أن المقسم به قد يكون عظيما وقد لا يكون ، فهذا الأمر لا يهمنا بل الذي يهمنا لماذا اختار النص القسم بهذا ولم يختر القسم بذاك ؟ وبكلمات أخرى : لماذا اختار النص هنا القسم بالضحى والقسم بالليل إذا سجى ولم يختر القسم بالصبح أو بالليل إذا يسر ؟ والجواب لدينا بيِّن وواضح : كل قسم يناسب سياقه ؛ فهنا في سورة الضحى مما يتلاءم مع الحنو ولمسة الحنان والإشفاق : الضحى الآن الرقراق الوديع الذي لا يوجد فيه وهج ولا برودة ، ومما يتلاءم مع المناخ أن يكون الليل ساجيا بمعنى هادئا لأنه أكثر التصاقا بالطمأنينة وبالحنان بخلاف نص آخر اختار صفة أخرى لليل هي الحركة والفاعلية والنشاط "وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ" .
ثالثا : الذِّكر والحذْف –
وسنذهب هنا إلى ما ذهب إليه عبدالقاهر في أن الذكر والحذف قضية أو مُسَلَّمَة لها وجهان :
الأول : شعوري أو نفسي .
الثاني : فني أو جمالي .
وبكلمات أخرى : إن اختلاف التركيب يتبعه اختلاف في الدلالة ، وسنأخذ مثالين على ذلك :
- المثال الأول : في قوله تعالى : "مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى" لماذا ذكر المفعول به مع الفعل "وَدَّع" وحذف المفعول به مع الفعل "قَلَى" ؟ أصل العبارة أن يقول : ما ودَّعَك ربك وما قَلاك ، معظم الدارسين على أن الحذف هنا جاء لأمر شكلي هو تناسب فواصل الآيات ؛ سَجَى .. قَلَى .. ، وعندنا أن الأمر يتعلق بالتجربة الشعورية وليس بالتعبير الجمالي فحسب ، نشرح ذلك فنقول : في ضوء لمسة الحنان لإطار النص النفسي كله لا يمكن للقرآن أن ينسب البعض إلى الله ، ولا يمكن أن يقطع الصلة بين محمد وربه ، فلو قال : لَقَلاك ؛ فمعنى ذلك أن ثمة صلة مقطوعة بين الكاف والفعل وأن التواجه موجود بين محمد وربه ، بحذف الكاف أي بحذف المفعول به انتفى الانقطاع وبقيت الصلة دائمة بين محمد عليه الصلاة والسلام والإله . وهذه الصورة الشعورية إنما هي عكس الواقع النفسي الذي كان يحياه الرسول ونفي لإمكان التباعد بين الرب والعبد ، بل تحقيق للصلة الدائمة بينهما ، فإذا ما أضفنا إلى ذلك الناحية الشكلية .. الإيقاعية .. الجمالية في تناسب رؤوس الآي أدركنا مبلغ الإعجاز في هذا الذكر والحذف معا ؛ الذكر في : ودَّعك ، والحذف في : قَلَى ، وسيتضح الأمر أكثر حين نشرح معاني المفردات بعدها .
- المثال الثاني : آخر السورة "وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ" لماذا لم يقل : وأما بنعمة ربك فاجهر أو فاصدع ؟ الإجابة مرتبطة بدلالة النعمة التي نريد أن نثبتها ، وبدلالة البِنْيَة الفنية للنص الذي ينتهي بقفلة المغايرة ، النعمة هنا هي الإسلام ، والأمر هنا هو النشر والانتشار والذيوع أو الأمر بنشر هذا الدين وإذاعته ، والتحول الذي طرأ على المفردة تحول جوهري لأن الإسلام هو نهاية الديانات وخاتمتها ، وبهذه الصورة التحليلية نثبت أمرين أيضا .. أولهما شعوري ، والآخر فني ؛ الشعوري هو الإسلام بتمامه وكماله وأن النعمة التي قدمها الله للبشرية ، وبأن هذه النعمة هي آخر الديانات فعلينا أن نلتزم بها وأن ننشرها ، وكما يفعل المسرحيون على سبيل المجاز حين ينهون مسرحيتهم بالستارة ، كذلك تقفل هنا الديانات وتختتم بالإسلام باعتباره خاتمتها وحصيلتها معا .
رابعا : الألفاظ المناسبة للنص –
قلنا من قبل أن النص القرآني لا يستعمل المترادفات البتة ، بل يستعمل المفردة المناسبة في المكان المناسب ، وسنحاول أن نتعرف من خلال وقفة قصيرة عند بعض هذه الألفاظ بربطها أولا بالإطار للنص ، وبربطها ثانيا بتركيبات النص ، ولنأخذ مثالين على ذلك .
المثال الأول : في بداية السورة "وَالضُّحَى ، وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى" لم يختر النص آنًا آخر من آنات النهار سوى الضحى ؛ لأنه ملائم للإطار الذي حددناه ووجدناه يقوم على الوداعة والشفافية وأظن أن في لفظه الأنيق وفي وضاءته "الضُّحَى" وفي دلالته أكثر تناسقا مع إطار النص من الظهيرة مثلا أو من الفجر ، وكذلك لم يقل النص : والليل ، ويصمت ، بل اختار من الليل سُجوَهُ أي هدوءَه وهذا الهدوء قريب هو الآخر من إطار النص ومتفق معه مندمج فيه ومتناغم .
فإذا ما انتقلنا إلى نهاية السورة لوجدنا أن النص قد استخدم مفردة "فَحَدِّثْ" وهذه المفردة ملائمة لدلالة النعمة أولا وملائمة لسياق النص ثانيا ، إن الانزياح الذي تم في هذه المفردة من كلمة أخرى مثل : فاجهر يبين المغايرة في طبيعة القفلة الختامية للنص وأنها أفضل ما تكون ، سنفسر النعمة بالإسلام ، والحديث عنه بمعنى نشره وذيوعه أقرب إلى الدلالة من كلمة أخرى من مثل : فاجهر ، الانتشار والذيوع هما أمران طولِبَ بهما النبي صلى الله عليه وسلم طوال النص .
ومن هنا قلنا ونقول أن المفردات القرآنية هي أفضل ما تكون في إمكانياتها المناسبة ؛ لأنها تعبر عن دلالاتها وعن سياقها .
خامسا : سياق النص –
ولو حاولنا الآن أن نجمع كل الجزئيات التي تحدثنا عنها " المفردة والصورة والحذف والإطار " لتبين لنا أو لارتسم سياق يختلف عن سياق الصورة السابقة التي درسناها "الهُمَزَة" ، صحيح أن السياق هنا يُنَوه في نغماته على قلب رسول الله فيذكره فيما مضى ويعرضه على ما هو آت .. يذكره عندما كان يتيما فآواه الله ، وعندما كان عائلا فأغناه الله ، وإن عليه ألا يقهر اليتيم وألا ينهر السائل ؛ وهذا الحض ليس للرسول فحسب ، وإنما هو للمسلم في كل زمان وفي كل مكان .
وإذا ما كانت البلاغة كما رأيناها وحددناها هي مراعاة المقام فإن النص القرآني يحقق شروط هذه البلاغة في أعلى مستوياتها ، ولم لا نقول إن شروط البلاغة التي وصفها البلاغيون العرب كانت للنص الإنساني وأن شروط الإعجاز كانت فقط للنص القرآني وشتان شتان ما بين البشر وخالق البشر ، ما بين بلاغة البشر وإعجاز الخالق .
 
[align=center]رحمة الله على أستاذنا الناقد الباحث الأديب اللبيب
الدكتور محمد نعيم اليافي ..
فقد كان ثقا لقفا أديبا ناقدا متميزا
وقد درسنا مادة علوم القرآن التي كانت تدرّس
في السنة الثانية في الجامعات السورية
وكان كثيرا ما يلقي بظلاله الناقدة البصيرة على كثير من النصوص ؛
ليكشف لنا جمالياتها وبداعاتها ..
وكثير من دراساته الجمالية حول القرآن الكريم مازالت عندي
(أمال جامعية ، على الجستتنر) ؛ ولعلي أفرغها في المنتديات
بمشيئة الله

وشكرا لك أيتها الأخت الكريمة الفاضلة[/align]
 
الراحل الأستاذ الدكتور محمد نعيم اليافي واحد من أهم النقاد العرب، أكاديمي وباحث ومثقف أغنى المكتبة العربية بأهم الكتب التي رصدت الأدب الحديث والمعاصر، وأسست لمنهج تكاملي في النقد الأدبي.‏

الأستاذ الدكتور محمد نعيم اليافي .. في سطور :‏

ـ ولد في مدينة حمص عام 1936.‏

ـ دكتوراه من جمهورية مصر العربية.‏

ـ وأظن دكتوراه ثانية في النقد الأدبي ؛ من إحدى جامعات إنكلترا ؛ كما أخبرني مرة .

ـ أستاذ الأدب الحديث والدراسات العليا في جامعة دمشق.‏

ـ عضو جمعية النقد الأدبي.‏

* من مؤلفاته:‏

ـ الشعر بين الفنون الجميلة ـ دراسة.‏

ـ الشعر العربي الحديث ـ دراسة.‏

ـ التطور الفني لشكل القصة القصيرة ـ دراسة.‏

ـ مقدمة لدراسة الصورة الفنية ـ دراسة.‏

ـ وضع المرأة ـ دراسة.‏

ـ مجازر الأرض ـ دراسة.‏

ـ المغامرة النقدية ـ دراسة.‏

ـ جمال باشا السفاح ـ دراسة.‏

ـ أوهاج الحداثة ـ دراسة.‏

رحل عن دنيانا في 8/9/2002، وترك لطلابه والمشهد الثقافي السوري والعربي تراثاً نقدياً متميزاً، لا تزال تنهل منه الأجيال الطالعة..
 
نظرة بلاغية في سورة الهُمَزَة للأستاذ الراحل الدكتور نعيم اليافي

نظرة بلاغية في سورة الهُمَزَة للأستاذ الراحل الدكتور نعيم اليافي

تحليل نص قرآني : سورة الهُمَزَة
1. وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ .
2. الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ
3. يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ .
4. كَلَّا لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ .
5. وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ .
6. نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ .
7. الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ .
8. إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ .
9. فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ .
سنحلل هذا النص القرآني ضمن الخطوات الآتية : -
1) التراكيب الخبرية والتراكيب الإنشائية وعلاقتها بحركة النفس الإنسانية .
2) الجملة الخبرية الفعلية والجملة الخبرية الإسمية .
3) التعريف والتنكير .
4) الألفاظ المناسبة وطرائق الاختيار .
5) سياق النص والوظائف التعبيرية .
تحليل النص :
أولا : التراكيب الخبرية والتراكيب الإنشائية : -
لنتأمل النص للتفريق بين الجملتين الخبرية والإنشائية ، سنجد أن الآيات الأولى المؤلفة من 1 ، 2 ، 3 ، 4 كلها جمل خبرية ، والجمل الخبرية تدل على الإخبار ، والإخبار سكون وحركة وهدأةٌ في الكلام ، يبدأ التحول من الأسلوب الإخباري إلى الأسلوب الإنشائي منذ الآية 4 حين تأتي الجملة مؤكدة مرتين ، وإذا بنا بعد ذلك نجد أنفسنا إزاء الاستفهام .. أي الجملة الإنشائية .. وتمثل الجملة الإنشائية حركة وتوترا وصعودا نحو الذروة "كَلَّا" زجرٌ وردع .. بداية لفت النظر ، ويتوتر الموقف ويتصاعد "وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ" ، ثم نهبط على السفح الآخر بهدوء وتراكيب وجمل إخبارية مرة ثانية تتحول فيها الجمل الإنكارية إلى طلبية والطلبية إلى ابتدائية أو العكس ، وهكذا نجد أنفسنا إزاء حركتين 1) حركة في الصعود . 2) وحركة نحو الهبوط .. بينهما ذروةٌ متوترة ، كما نلاحظ أن كلا التعبيرين الإخباري والاستفهامي أو الإنشائي إنما يتساوق مع حركة النفس الإنسانية في تلقيها وصدورها وانفعالاتها ، وما هذا التزاوج أو التآلف أو الانسجام بين حركة النفس وحركة التعبير إلا تجليا من تجليات شروط البلاغة أولا وشروط الإعجاز القرآني ثانيا .
ثانيا : الجمل الخبرية الإسمية والجمل الخبرية الفعلية : -
نلاحظ تحت هذه الخطوة أن النص جاء مستعملا الجملتين الفعلية والإسمية ، ولكنه كان يستعمل كل جملة في مكانها المناسب ، وقد ذهبنا إلى ما ذهب إليه عبدالقاهر حين قرر أن الجملة الفعلية حركةٌ وتغيرٌ وتجددٌ وتفاعل ونشاط ، وأن الجملة الخبرية الإسمية عكسُها جملة ساكنة ثابتة موصوفة نعتية .
فلنر الآن إلى النص كيف بدأ من خلال الاسم والفعل : يبدأ النص بالاسم ثلاث مرات " وَيْلٌ .. هُمَزَةٍ .. لُّمَزَةٍ " لم يقل : ويل لكل من يهمز ويلمزُ بالفعل ؛ لأنه يريد التوصيف .. النعت الساكن والثابت ، فهذا الرجل متهم طوال وقته بالغيبة والنميمة والتنابز والألقاب ، فويلٌ له وثبورٌ ، وما كانت هذه الصفات متحركة حتى يعتمد الفعل بل هي كانت صفات ثابتة ، ولكنه حين انتقل بعد ذلك إلى دلالةٍ أخرى استعمل الفعل فقال : " جَمَعَ .. عَدَّدَ" ولم يقل : الجامع والمعدِّد ؛ لأن جمع المال لا ينتهي ولا يتم دفعة واحدة وبالتالي يصبح صفة مكتملة بل هو كل يوم .. كل لحظة .. كل آن يجمع ويعدِّد وليس لجشعه قرار ، ثم يستمر النص باستعمال الخبر الفعلي والخبر الإنشائي فيقول : "يَحْسَبُ .. أَخْلَدَهُ" ، ويقول : "َيُنبَذَنَّ" لأن الخلود استمرار ، ولأن النبذ المهين تردي متكرر ، ثم قال : "الْحُطَمَةِ" باسم النعت كما قال "نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ" للدلالة على صفتين ثابتتين هما الحُطَمة والنار التي تتقدُ .
أما حين أراد التعبير عن أن هذه النار مطلعة على دواخل النفوس رجع إلى الفعل فقال : "تَطَّلِعُ" ؛ لأن الاطلاع ازدياد ونمو وحركة هي في كل لحظة تكشف وتظهر ولا تظهر مرة واحدة ، وحين أراد التعبير عن الإغلاق المحكم رجع إلى الاسم والنعت والصفة الثابتة فقال : "مُّؤْصَدَةٌ" كما قال : "عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ" لأنها محكمة الإغلاق على الدوام مرة واحدة ، وهكذا تتجاوب الأفعال والأسماء وتتبدل مواضعها وأمكنتها ، ولكنها في النهاية تنتهي إلى كينونة واحدة أو سياق واحد يقوم على هذه الثنائية المتقابلة والمتعاضدة في آن .. ثنائية الاسم والفعل أو ثنائية الثبات والحركة ، ولكل منهما مكانٌ وموضع .
ثالثا : التعريف والتنكير : -
التعريف والتنكير ثنائية معروفة ، فلكِ أن تُنَكِّري الاسم أو تُعَرِّفيه ولكن وفق شروط ووفق النسق وموضعية المفردة في النسق ، وإذا كان التعريف في اللغة يدل على التخصيص من خلال العهد أو الجنس فإن التنكير في اللغة يدل على ثلاث ثنائيات متقابلة :
الثنائية الأولى : التعميم والتخصيص .
الثنائية الثانية : القلة والكثرة .
الثنائية الثالثة : التفخيم والتحقير .
وكل استعمال من هذه الاستعمالات إنما يأتي ويوظف لخدمة دلالية يحددها السياق ، فلننعم النظر في تعريف بعض المفردات وتنكيرها .. وكيف وردت .. ولماذا وردت ؛ في الآية الأولى جاءت ثلاث مفردات مُنَكَّرَة "وَيْلٌ .. هُمَزَةٍ .. لُّمَزَةٍ " ، ولم يقل : الويل .. الهُمَزة .. اللُّمَزة ، لماذا ؟ لسبب بسيط .. إنه يريد أن يخرج الخاص إلى العام صفة أو نعتًا ومكانًا ، فـ "وَيْلٌ" هنا أشد إعجازا من الويل ، لقد فسرها بعض القدماء بأنها مكانٌ في جهنم تتجمع فيه أصدية أهل النار وقيحهم ، ولكننا نؤثِر بالويل هنا أن نفسره بعموم الثبور والهلاك .. إنه نوعٌ من الوعيد والترهيب لا حدود لهُ ، كذلك نفعل مع الهُمَزة واللُّمَزة سواءٌ نزلت هذه السورة في شخص محدَّد أو لم تنزل ؛ فالسبب خاص والدلالة عامة ، يوجه النص أنظارنا ليس إلى المغيرة وإنما إلى كل إنسان مكي في مجتمع آثم يتصف بهذه الصفات ؛ الهمز واللمز وجمع المال والتكثر به ، كما ينطبق على كل إنسان في كل زمان ومكان ، ومن هنا نفهم أيضا التنكير في لفظ "مَالاً" بقوله "الَّذِي جَمَعَ مَالاً" ؛ لأن التنكير هنا أدل على الكثرة والرحابة وعلى الفضاء المفتوح ، أما عندما أراد أن يخصص فاستعمل عكس ذلك التعريف في "الْحُطَمَة" ، و "نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ" ؛ لأنهما دلالتان على محدَّد .. هذه النار المشتعلة التي هي نار الله ، ولم ترد الآية إلا هنا مرة واحدة ؛ وهي نسبة النار إلى الله تعالى وإضافتها له .
رابعا : استعمال الألفاظ المناسبة في الأمكنة المناسبة : -
في هذا النص الكريم كمثل سائر النصوص نلغي نظرية الترادف ؛ أي إمكانية إحلال لفظ مكان لفظ كما فعل من قبلنا ابن تيمية ، ونفعل مثلهُ الآن ، ولا أدل على ذلك من كلمتين هما : "الْحُطَمَة" و "الْأَفْئِدَةِ" ، لماذا لم يقل النص : كلا لينبذن في النار أو جهنم ، وإنما قال : "الْحُطَمَةِ" ؟ لأن هذه النار تحطم وتهشم وتمزق وتلاشي .. وكلها معاني تتسق مع إطار التهديد والوعيد ، وكذلك قال : "الْأَفْئِدَةِ" ولم يقل : القلوب لسبب بسيط ؛ إن النص القرآني يفرق في استعمالاته بين القلب وبين الفؤاد , فالقلب هو المضغة المادية .. هذه الجارحة أو العضو المؤلف من لحم ودم ، أما الفؤاد حسب الاستعمال القرآني فهو شيء مغاير .. إنه موطن الشعور والإحساس والعاطفة والتنبه ..إنه الوعاء الباطني أو الداخلي للنفس ، ومن هنا كانت النار تكشف هذا الوعاء أي تظهر الأسرار الداخلية وتذيعها وتنشرها .
خامسا : النسق ووظائف التعبير : -
هذه الصورة إطار واحد .. نسق واحد من المبتدَا إلى المنتهَى .. نسق الوعيد والترهيب والتحذير لكل الصفات الجاهلية ، ومن يحملها أو يتمثلها من الهمز واللمز .. من الغيبة والنميمة والتنابز بالألقاب وجمع المال وما يؤول إليه يوم القيامة في نار الله الموقدة التي تكشف أسراره ويُحكم إغلاقها عليه ، وكأن كل مفردة إخبارية أو إنشائية من فعل أو اسم .. من تنكير أو تعريف ؛ إنما أتت في موضع سياقها لتحقق وظيفتها التعبيرية والتأثيرية وتتناسب مع حركة النفس الإنسانية .
أليست البلاغة العربية في قمة تعريفها هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال ؟ أوَلم يحقق هذا النص ما طمحت إليه البلاغة بأرقى صورها وأكثرها إعجازًا ! اللهم نعم .
 
عودة
أعلى