بودفلة فتحي
New member
- إنضم
- 10/08/2010
- المشاركات
- 295
- مستوى التفاعل
- 1
- النقاط
- 18
نظرة الإمام السخاوي للإعجاز من خلال رسالته: الإفصاح الموجز في إيضاح المعجز
فتحي بودفلة
بيانات الكتاب: جمال القراء وكمال الإقراء. أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الصمد المعروف بعلم الدين السخاوي (558هـ - 643هـ) ، تحقيق عبد الحق عبد الدايم سيف القاضي (والكتاب عبارة عن رسالة مقدمة لنيل درجة الدكتوراة بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة تقدّم بها الكاتب تحت إشراف الدكتور محمد سالم محيسن، مؤسسة الكتب الثقافية بيروت الطبعة الأولى 1419هـ 1999م
1. الفائدة الأولى : لا بدّ من وجود مقتضى المعارضة وإجابة التحدِّي في المعجزة
إنّ من أهمّ ما ركّز وأكّد عليه الإمام علم الدين السخاوي في بداية حديثه عن الإعجاز مسألة وجود مقتضى المعارضة والدافع والباعث عليه حيث يقول: "لا ريب في عجز البلغاء وقصور الفصحاء عن معارضة القرآن العظيم، وذلك ظاهر مكشوف ومتيقن معروف، لاسيما القوم الذين تحداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنّهم كانوا ذوي حرص على تكذيبه والردّ عليه...." [205] ثمّ استدلّ على هذا الحرص بأمور:
أوّلها: حالتهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من "معاداته وإظهار بغضه وأذاه، وقذفه بالجنون والشعر والسحر، فكيف يترك من هذه حاله معارضته، وهو قادر عليها ومماثلته وهو واصل إليها"[206]
ثانيا: تقريع القرآن الكريم المستمر وانتقاده الحادّ لكفار قريش ولعقائدهم وأعرافهم وأحلامهم حيث يقول:"هذا والقرآن ينادي عليهم بقوله: {قل لئن اجتمعت الإنس والجنّ على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا} [الإسراء88] مع ما فيه من سبّهم وسبّ آبائهم، ووصفهم بالجهل والعجز، وإيعادهم بالعذاب والنكال وسوء المنقلب، ورميهم بالكذب والافتراء، وتقبيح الأفعال، وتهجين ما هم عليه من الأحكام الفاسدة، وإطالة القول في ذلك، وفي شرح أحوالهم واستقباح أعمالهم، وفيما أعدّ لهم من الهوان والنكال في الدنيا والمآل" ثمّ يستنتج بعد ذلك: "أليس هذا وشبهه ممّا يحملهم على المعارضة لو كانوا قادرين عليها؟.." [206]
ثالثا: عادتهم في الذود عن عرضهم والذبّ عنه بالغالي والنفيس فيما هو أقلّ من هذا بكثير، حيث يقول: "وحالهم في الجدال معلومة، وأمورهم في تفاخرهم وطلبهم الترفّع مفهومة، وقد كانوا يجعلون أموالهم دون أعراضهم، ويَهون عليهم كلّ مستصعب في بلوغ أغراضهم، فإذا هجاهم شاعر جدّوا في معارضته وإجابته، واستعانوا على ذلك بمن يحسنه ويظهر عليه في مقاولته ومحاورته..." [206]
وجميل من الإمام السخاوي تركيزه وتأكيده على هذا الركن من أركان الإعجاز خاصة دون باقي أركانه، فجمهور من عرّف المعجزة من المتقدمين والمعاصرين يذكر خرق العادة والتحدّي والسلامة من المعارضة[1]... ولكن هل هذا يكفي؟ ...هل تكون المعجزة معجزة بمعناها الاصطلاحي إذا لم يكن لدى المتحدَّى الرغبة والمقتضى والدافع لإجابة المتحدِّي ؟ فلو كان المتحدَّى غير مقرّ بالمعجزة الخارقة للعادة المقرونة بالتحدّي، ولكنّه في غنًى عن إجابة المتحدِّي لعدم اهتمامه بالموضوع أو لاشتغاله عنها بما يراه أهمّ، فلم يعارضها من أجل ذلك هل تعدّ هذه معجزة؟ طبعاً لا، ولعلّ من أبرز مَن أشار إلى هذه النقطة المركزية في الإعجاز – لا عرضا وتبعاً بل على أساس أنّها ركن فيه- الأستاذ صادق الرافعي حيث يقول: "إنّما الإعجاز شيئان ضعف القدرة البشرية عن محاولة المعجزة ومزاولتها مع شدّة [حرص] الإنسان وعنايته ثمّ استمرار هذا الضعف مع تراخ الزمن وتقدمه ...." [بتصرف]
2. الفائدة الثانية: أين تكمن أدلة إعجاز القرآن الكريم؟
ينتقل الإمام السخاوي بعد ذلك إلى تقرير كون عدم معارضة القرآن الكريم من قبل فصحاء العرب دليل على ربّانيته وإعجازه حيث يقول: " فلا ريب إذاً في أنّهم راموا ذلك فما أطاقوه، وحاولوه فما استطاعوه، وأنّهم رأوا نظما عجيباً خارجاً عن أساليب كلامهم، ورصفاً بديعاً مبايناً لقوانين بلاغتهم ونظامهم، فأيقنوا بالقصور عن معارضته، واستشعروا العجز عن مقابلته." [206]
فلعلّ دليل إعجاز القرآن من خلال هذا النّص والبيان الذي قبله يكمن في أمرين اثنين:
الأوّل: بيانه ونظمه ورصفه
الثاني: عجز العرب عن معارضته
وإذا كان الأمر الأوّل لا يستطيع الوقوف عليه إلاّ من أوتي معرفةً دقيقة بكلام العرب وبيانهم واستطاع التمييز بين مراتبه والتفريق بين ما هو في طوق البشر وما هو معجز خارج عن قدرتهم وطاقتهم، فإنّ الثاني يعرفه كلّ من وقف على حقيقة عجز فصحاء العرب قديما وحديثاً عن معارضة القرآن والإتيان بمثله، وهذا الأسلوب الثاني هو سبيل عموم النّاس وسبيل الجاهلين بلغة العرب للوقوف على إعجاز القرآن الكريم. وبهذا يكون القرآن الكريم – الذي يخاطب النّاس أجمعين – قد أثبت إعجازه للعارفين بلغة العرب وللجاهلين بها على حدٍّ سواء أي للمخاطبين به كلّهم
ولعلّ هذا هو الذي قصده الباقلاني بقوله: "إنّما احتيج في باب القرآن للتحدّي لأنّ كثيراً من النّاس لا يعرف كونه معجزاً...وإنّما عرف إعجازه من طريقه..." أي عن طريق التحدي [بتصرف]
3. الفائدة الثالثة: الفرق بين إعجاز القرآن الكريم وبين دلائل صدق النبوّة وربانية القرآن الكريم
و هي مسألة ذهل عنها كثير من النّاس...فالتبس عليه الأمر بين أدلة النبوة العامة والإعجاز وهو أخصّ منها مفهوما وأضيق مجالاً وموضوعاً ...
يقول عليه رحمة الله: "وأمّا ما تضمنه القرآن العزيز من الأخبار عن المغيّب: فليس ذلك ممّا تحدّاهم به ولكنّه دليل على صدق الرسول، وأنّه كلام علام الغيوب...." إلى أن يقول: "ولكن إعجاز القرآن من قبل أنّه خارج في بديع نظمه وغرابة أساليبه...." [207]
ويقول في موضع آخر: [212] "فإن قيل: فهل في إقامة البراهين وإيراد الدلائل على الوحدانية بذكر السماوات والأرض وتصريف الرياح والسحاب، وبأنّه {لو كان فيهما آلهة إلاّ الله لفسدتا} وعلى البعث بإنزال الماء وإحياء الأرض بعد موتها، وبالنشأة الأولى وغير ذلك: إعجاز؟. قلت: الإعجاز من جهة إيراد هذه الحجج في الأساليب العجيبة والبلاغة الفائقة، فهو راجع إلى ما قدّمناه من نظم القرآن وإعجازه وأما كونها براهين قاطعة، فهو دليل على صدق النبيّ صلى الله عليه وسلم لأنّه لم يكن من أهل هذا ولا قومه، ولا يعرف شيئا منه...." اهـ
فالإعجاز الاصطلاحي هو ما كان مقرونا بالتحدّي وما لم يكن كذلك فإنّما هو من دلائل النبوة ولعلّ من أبرز وأهمّ ما يستدل به في المسألة أنّه سبحانه وتعالى قَبِل من المشركين معارضة القرآن ولو بآيات مفتريات أي ولو بالمختلق المصنوع المكذوب لا يضرّ ما دام في أسلوبه وبيانه وصياغته مماثل للقرآن الكريم... قال عزّ وجلّ: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }هود13
4. الفائدة الرابعة: وجوه إعجاز القرآن البيانية
· النظم: "...فلا ريب إذاً في أنّهم راموا ذلك فما أطاقوه، وحاولوه فما استطاعوه، وأنّهم رأوا نظما عجيباً خارجاً عن أساليب كلامهم، ورصفاً بديعاً مبايناً لقوانين بلاغتهم ونظامهم، فأيقنوا بالقصور عن معارضته، واستشعروا العجز عن مقابلته." [206] إذاً فهو النظم العجيب والرصف البديع
· القرآن نسج وحده لا هو بالشعر ولا هو بالخطب والسجع: "...لا هو من الشعر، ولا هو من ضروب الخطب والسجع، يعلم من تأمله أنه خارج عن المالوف، مباين للمعروف...." [208]
· شمول بلاغته وفصاحته لجميع آياته وسوّره ولجميع موضوعاته وأغراضه: "...وكلام البشر – وإن كان من فصيح بليغ – يظهر فيه – إذا طال – تفاوت واختلاف وإخلال. والقرآن العزيز على ذوق واحد، إنْ بَشَّرَ أو أنْذرَ أو وَعَظَ أو حَذّرَ أو قصَّ أو أخبرَ، أو نهى أو أمرَ، وليس ذلك لرؤساء الكلام وفحول النظام، فقد يجيد بعضهم المدح ويقصّر في ضدّه، وفي وصف الخيل وسير الليل دون وصف الحرب والجود والمطر والسيل." [208]
· ولكنّه رغم ما أورده من وجوه إعجاز بلاغة القرآن وأسلوبه، إلاّ أنّ ما ذكره لا يخلو من عجز عن الوصف الدقيق ، كما لا يخلو من اضطراب في تحديد مكمن الإعجاز بالدقّة المغنية والتحديد المتناهي...وليس هذا من سلبيات الإمام السخاوي رحمه الله في هذه الرسالة وإنّما هو وصف للدرس الإعجازي كلّه ؛ فالاضطراب المنهجي والاختلاف في القول وعدم الجزم والقطع كلّها ميزات لم يخلو منها كتاب من كتب الإعجاز، ابتداء من الجاحظ ومرورا بالرماني والخطابي والباقلاني...وغيرهم من الخائضين في هذه المباحث... ولهذا الاضطراب أسباب كثيرة ليس هذا محلّ ذكرها...
يظهر اضطراب الإمام السخاوي رحمه الله وعجزه عن وصف مكمن الإعجاز في قوله يجيب من سأل عن مكمن الإعجاز في ترتيب الكلم ونظمه : "...قيل: ما كل ما يحيط به العلم تؤديه الصفة، ولكن ألست تفضّل كلام البلغاء والخطباء على غيره؟ وترى أيضاً فلاناً أبلغ وأخطب وأشعر وأفصح؟ فبأيّ شيء حلت هذه التفرقة؟ فكذلك عرفت العرب ومن يعلم البلاغة من غيرهم مباينة القرآن العزيز سائر الكلام، وذلك بصحة الذوق، وسلامة الطبع ولطف الحسّ...." ولكن أين مكمن هذه المباينة لماذا لم تحدّد كلّ التحديد وتبيّن كلّ التبيين...؟
5. الفائدة الخامسة: الردّ على بعض الشبه الواردة في باب الإعجاز
· الشبهة الأولى: تكرار القصص القرآني
قال رحمه الله: [211] "فإن قيل: فأيّ فائدة في تكرير القصص فيه والأنباء؟ قيل: لذلك فوائد:
أ. منها أن يقول المعاند والجاحد: كيف أعارض – مثلا – قصة موسى، وقد سردتها وأوردتها على أفصح القول وأحسنه، وسبقت إلى ذلك، فلم يبقَ لي طريق إلى المعارضة؟ !. فيقال له: ها هي قد جاءت في القرآن العزيز على أنحاء ومباني، فأْتب ها ولو على بناء واحد.
ب. ومنها أنّهم لمّا عجزوا عن الإتيان بسورة مثله أتاهم بسور مماثلة في المعنى والنظم والقصة، وذلك أنكى لقلوبهم.
ت. ومنها أنّ كلّ أحدٍ لا يقدر على كلّ سورة، فجاءت هذه السور فيها هذه القصص على قدر قوى البشر، فمن أطاق هذه حفظها، ومن لم يطق حفظ الأخرى، لينال الضعيف نحو ما نال القويّ.
ث. ومنها أنّ [إعادة] هذه القصص المتحدة على الأنحاء المختلفة مع التماثل في حسن النظم: أبلغ في الفصاحة وأعظم في المعجزة، فكانت تلك المعاني كعرائس تجلى في ملابس مختلفة رائعة، [212] إذا رأيت الواحدة منها قلت: هذه، فإذا رأيت الأخرى قلت: بل هذه، فإذا جاءت الأخرى قلت: لا بل هذه، حتى لا تفضل واحدة على الأخرى، ولا يقدر بليغ ولا ناقد في الفصاحة على ذلك ابداً." انتهى كلام السخاوي رحمه الله
· الشبهة الثانية: معارضة مسيلمة الكذاب
قال رحمه الله: [212] "ومن آيات الله عزّ وجلّ وتمام حكمته أن تعاطى مسيلمة الكذاب معارضته، فأتى بما جعله ضحكة للعالمين، ليظهر بذلك مضمون خبره الصادق، بأنّ المعارضة ممتنعة، وأنّ المماثلة مندفعة." ثمّ ساق قصته مع عمرو بن العاص رضي الله عنه وفيها قول الكذّاب يعارض – زعما – سورة العصر : (يا وبر يا وبر، أذنان وصدر، وسائرك حقر نقر) قال معلقا على هذا النقيق العقيق: "فقد خرج مسيلمة بهذا الكلام عن كلام العقلاء، ودخل في تخليط المجانين". [214]
· الشبهة الثالثة: تفسير خاطئ لآيات التحدي
قال عليه رحمة الله [214] "وأما من قال في قوله عزّ وجلّ {فاتوا بسورة من مثله}[البقرة23] إنّ الهاء تعود على النبي صلى الله عليه وسلم، أي من مثل محمد صلى الله عليه وسلم في أمّته، لا يعرف هو ولا قومه ما في القرآن من الأنباء، واستشهد على صحة ما ذهب إليه بقوله عزّ وجلّ {تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا...}[هود49] . فكلام من ركب الخطر ولم [يمعن] النظر لأنّ كلامه يقتضي أنّ بعض النّاس يقدر على الإتيان بمثله، وهم العلماء بالسير، والممارسون للكُتُبِ وهذا يبطله قوله عزّ وجلّ [215] {قل لئن اجتمعت الإنس والجنّ على أن ياتوا بمثل هذا القرآن لا ياتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا} [الإسراء 88] ." انتهى كلامه
· الشبهة الرابعة: إبطال القول بالصرفة انطلاقاً من إبطال القول لخلق القرآن
انطلق في ردّه على الصرفة من إبطال القول بخلق القرآن، ولعلّ سبب ذلك اعتقاده أنّ أصل القول بالصرفة وسببه هو القول بخلق القرآن، وهذا مذهب ومنهج في غاية التحقيق والتقرير[2] فالقول بخلق القرآن يقتضي أن يشابه القرآن مخلوقات الله عزّ وجلّ، وأن يكون لفظا كألفاظ عباده المخلوقة...وألفاظ العباد ليست معجزة
وقد ردّ رحمه الله على المعتزلة في هذا المبحث بداية ببيان مذهب أهل السنة في القرآن بقوله: "والقرآن كلام رب العالمين، غير مخلوق عند أهل الحقّ، وعلى ذلك أئمة المسلمين كسفيان الثوري ومالك بن أنس والشافعي وأحمد بن حنبل وعامة الفقهاء والعلماء ، ثمّ ساق أدلة عقلية كلامية أبطل بها هذه الفرية وردّها . فجزاه الله عنّا وعن الإسلام خير الجزاء وصلّ اللهمّ وسلّم على نبيّك وحبيبك محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم.
فتحي بودفلة
[1] السيوطي. الإتقان في علوم القرآن، المكتبة الثقافية بيروت 1973م 2\116 مناع القطان. مباحث في علوم القرآن، مؤسسة الرسالة ط 35 1414هـ 1998م ص236 الأستاذ الدكتور محمد دراجي. مباحث في علوم القرآن، دار قرطبة دار ابن طفيل الجزائر1431هـ 2010م ص242 الأستاذ الدكتور مصطفى أكرور. لطائف البيان في علوم القرآن، دار الإمام مالك الجزائر 1424هـ 2004م ص63 وبعضهم عرّف المعجزة بأقلّ من ذلك انظر التعريفات للشريف الجرجاني ص214 دار الطلائع مصر2009م
[2] وذلك لو أضيفت له أسباب أخر كأصلها الهندي المجوسي وكمنهج النّظام في الاستدلال ...انظر الصرفة حقيقتها أصلها والردّ عليها لصاحب هذا البحث
بيانات الكتاب: جمال القراء وكمال الإقراء. أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الصمد المعروف بعلم الدين السخاوي (558هـ - 643هـ) ، تحقيق عبد الحق عبد الدايم سيف القاضي (والكتاب عبارة عن رسالة مقدمة لنيل درجة الدكتوراة بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة تقدّم بها الكاتب تحت إشراف الدكتور محمد سالم محيسن، مؤسسة الكتب الثقافية بيروت الطبعة الأولى 1419هـ 1999م
1. الفائدة الأولى : لا بدّ من وجود مقتضى المعارضة وإجابة التحدِّي في المعجزة
إنّ من أهمّ ما ركّز وأكّد عليه الإمام علم الدين السخاوي في بداية حديثه عن الإعجاز مسألة وجود مقتضى المعارضة والدافع والباعث عليه حيث يقول: "لا ريب في عجز البلغاء وقصور الفصحاء عن معارضة القرآن العظيم، وذلك ظاهر مكشوف ومتيقن معروف، لاسيما القوم الذين تحداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنّهم كانوا ذوي حرص على تكذيبه والردّ عليه...." [205] ثمّ استدلّ على هذا الحرص بأمور:
أوّلها: حالتهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من "معاداته وإظهار بغضه وأذاه، وقذفه بالجنون والشعر والسحر، فكيف يترك من هذه حاله معارضته، وهو قادر عليها ومماثلته وهو واصل إليها"[206]
ثانيا: تقريع القرآن الكريم المستمر وانتقاده الحادّ لكفار قريش ولعقائدهم وأعرافهم وأحلامهم حيث يقول:"هذا والقرآن ينادي عليهم بقوله: {قل لئن اجتمعت الإنس والجنّ على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا} [الإسراء88] مع ما فيه من سبّهم وسبّ آبائهم، ووصفهم بالجهل والعجز، وإيعادهم بالعذاب والنكال وسوء المنقلب، ورميهم بالكذب والافتراء، وتقبيح الأفعال، وتهجين ما هم عليه من الأحكام الفاسدة، وإطالة القول في ذلك، وفي شرح أحوالهم واستقباح أعمالهم، وفيما أعدّ لهم من الهوان والنكال في الدنيا والمآل" ثمّ يستنتج بعد ذلك: "أليس هذا وشبهه ممّا يحملهم على المعارضة لو كانوا قادرين عليها؟.." [206]
ثالثا: عادتهم في الذود عن عرضهم والذبّ عنه بالغالي والنفيس فيما هو أقلّ من هذا بكثير، حيث يقول: "وحالهم في الجدال معلومة، وأمورهم في تفاخرهم وطلبهم الترفّع مفهومة، وقد كانوا يجعلون أموالهم دون أعراضهم، ويَهون عليهم كلّ مستصعب في بلوغ أغراضهم، فإذا هجاهم شاعر جدّوا في معارضته وإجابته، واستعانوا على ذلك بمن يحسنه ويظهر عليه في مقاولته ومحاورته..." [206]
وجميل من الإمام السخاوي تركيزه وتأكيده على هذا الركن من أركان الإعجاز خاصة دون باقي أركانه، فجمهور من عرّف المعجزة من المتقدمين والمعاصرين يذكر خرق العادة والتحدّي والسلامة من المعارضة[1]... ولكن هل هذا يكفي؟ ...هل تكون المعجزة معجزة بمعناها الاصطلاحي إذا لم يكن لدى المتحدَّى الرغبة والمقتضى والدافع لإجابة المتحدِّي ؟ فلو كان المتحدَّى غير مقرّ بالمعجزة الخارقة للعادة المقرونة بالتحدّي، ولكنّه في غنًى عن إجابة المتحدِّي لعدم اهتمامه بالموضوع أو لاشتغاله عنها بما يراه أهمّ، فلم يعارضها من أجل ذلك هل تعدّ هذه معجزة؟ طبعاً لا، ولعلّ من أبرز مَن أشار إلى هذه النقطة المركزية في الإعجاز – لا عرضا وتبعاً بل على أساس أنّها ركن فيه- الأستاذ صادق الرافعي حيث يقول: "إنّما الإعجاز شيئان ضعف القدرة البشرية عن محاولة المعجزة ومزاولتها مع شدّة [حرص] الإنسان وعنايته ثمّ استمرار هذا الضعف مع تراخ الزمن وتقدمه ...." [بتصرف]
2. الفائدة الثانية: أين تكمن أدلة إعجاز القرآن الكريم؟
ينتقل الإمام السخاوي بعد ذلك إلى تقرير كون عدم معارضة القرآن الكريم من قبل فصحاء العرب دليل على ربّانيته وإعجازه حيث يقول: " فلا ريب إذاً في أنّهم راموا ذلك فما أطاقوه، وحاولوه فما استطاعوه، وأنّهم رأوا نظما عجيباً خارجاً عن أساليب كلامهم، ورصفاً بديعاً مبايناً لقوانين بلاغتهم ونظامهم، فأيقنوا بالقصور عن معارضته، واستشعروا العجز عن مقابلته." [206]
فلعلّ دليل إعجاز القرآن من خلال هذا النّص والبيان الذي قبله يكمن في أمرين اثنين:
الأوّل: بيانه ونظمه ورصفه
الثاني: عجز العرب عن معارضته
وإذا كان الأمر الأوّل لا يستطيع الوقوف عليه إلاّ من أوتي معرفةً دقيقة بكلام العرب وبيانهم واستطاع التمييز بين مراتبه والتفريق بين ما هو في طوق البشر وما هو معجز خارج عن قدرتهم وطاقتهم، فإنّ الثاني يعرفه كلّ من وقف على حقيقة عجز فصحاء العرب قديما وحديثاً عن معارضة القرآن والإتيان بمثله، وهذا الأسلوب الثاني هو سبيل عموم النّاس وسبيل الجاهلين بلغة العرب للوقوف على إعجاز القرآن الكريم. وبهذا يكون القرآن الكريم – الذي يخاطب النّاس أجمعين – قد أثبت إعجازه للعارفين بلغة العرب وللجاهلين بها على حدٍّ سواء أي للمخاطبين به كلّهم
ولعلّ هذا هو الذي قصده الباقلاني بقوله: "إنّما احتيج في باب القرآن للتحدّي لأنّ كثيراً من النّاس لا يعرف كونه معجزاً...وإنّما عرف إعجازه من طريقه..." أي عن طريق التحدي [بتصرف]
3. الفائدة الثالثة: الفرق بين إعجاز القرآن الكريم وبين دلائل صدق النبوّة وربانية القرآن الكريم
و هي مسألة ذهل عنها كثير من النّاس...فالتبس عليه الأمر بين أدلة النبوة العامة والإعجاز وهو أخصّ منها مفهوما وأضيق مجالاً وموضوعاً ...
يقول عليه رحمة الله: "وأمّا ما تضمنه القرآن العزيز من الأخبار عن المغيّب: فليس ذلك ممّا تحدّاهم به ولكنّه دليل على صدق الرسول، وأنّه كلام علام الغيوب...." إلى أن يقول: "ولكن إعجاز القرآن من قبل أنّه خارج في بديع نظمه وغرابة أساليبه...." [207]
ويقول في موضع آخر: [212] "فإن قيل: فهل في إقامة البراهين وإيراد الدلائل على الوحدانية بذكر السماوات والأرض وتصريف الرياح والسحاب، وبأنّه {لو كان فيهما آلهة إلاّ الله لفسدتا} وعلى البعث بإنزال الماء وإحياء الأرض بعد موتها، وبالنشأة الأولى وغير ذلك: إعجاز؟. قلت: الإعجاز من جهة إيراد هذه الحجج في الأساليب العجيبة والبلاغة الفائقة، فهو راجع إلى ما قدّمناه من نظم القرآن وإعجازه وأما كونها براهين قاطعة، فهو دليل على صدق النبيّ صلى الله عليه وسلم لأنّه لم يكن من أهل هذا ولا قومه، ولا يعرف شيئا منه...." اهـ
فالإعجاز الاصطلاحي هو ما كان مقرونا بالتحدّي وما لم يكن كذلك فإنّما هو من دلائل النبوة ولعلّ من أبرز وأهمّ ما يستدل به في المسألة أنّه سبحانه وتعالى قَبِل من المشركين معارضة القرآن ولو بآيات مفتريات أي ولو بالمختلق المصنوع المكذوب لا يضرّ ما دام في أسلوبه وبيانه وصياغته مماثل للقرآن الكريم... قال عزّ وجلّ: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }هود13
4. الفائدة الرابعة: وجوه إعجاز القرآن البيانية
· النظم: "...فلا ريب إذاً في أنّهم راموا ذلك فما أطاقوه، وحاولوه فما استطاعوه، وأنّهم رأوا نظما عجيباً خارجاً عن أساليب كلامهم، ورصفاً بديعاً مبايناً لقوانين بلاغتهم ونظامهم، فأيقنوا بالقصور عن معارضته، واستشعروا العجز عن مقابلته." [206] إذاً فهو النظم العجيب والرصف البديع
· القرآن نسج وحده لا هو بالشعر ولا هو بالخطب والسجع: "...لا هو من الشعر، ولا هو من ضروب الخطب والسجع، يعلم من تأمله أنه خارج عن المالوف، مباين للمعروف...." [208]
· شمول بلاغته وفصاحته لجميع آياته وسوّره ولجميع موضوعاته وأغراضه: "...وكلام البشر – وإن كان من فصيح بليغ – يظهر فيه – إذا طال – تفاوت واختلاف وإخلال. والقرآن العزيز على ذوق واحد، إنْ بَشَّرَ أو أنْذرَ أو وَعَظَ أو حَذّرَ أو قصَّ أو أخبرَ، أو نهى أو أمرَ، وليس ذلك لرؤساء الكلام وفحول النظام، فقد يجيد بعضهم المدح ويقصّر في ضدّه، وفي وصف الخيل وسير الليل دون وصف الحرب والجود والمطر والسيل." [208]
· ولكنّه رغم ما أورده من وجوه إعجاز بلاغة القرآن وأسلوبه، إلاّ أنّ ما ذكره لا يخلو من عجز عن الوصف الدقيق ، كما لا يخلو من اضطراب في تحديد مكمن الإعجاز بالدقّة المغنية والتحديد المتناهي...وليس هذا من سلبيات الإمام السخاوي رحمه الله في هذه الرسالة وإنّما هو وصف للدرس الإعجازي كلّه ؛ فالاضطراب المنهجي والاختلاف في القول وعدم الجزم والقطع كلّها ميزات لم يخلو منها كتاب من كتب الإعجاز، ابتداء من الجاحظ ومرورا بالرماني والخطابي والباقلاني...وغيرهم من الخائضين في هذه المباحث... ولهذا الاضطراب أسباب كثيرة ليس هذا محلّ ذكرها...
يظهر اضطراب الإمام السخاوي رحمه الله وعجزه عن وصف مكمن الإعجاز في قوله يجيب من سأل عن مكمن الإعجاز في ترتيب الكلم ونظمه : "...قيل: ما كل ما يحيط به العلم تؤديه الصفة، ولكن ألست تفضّل كلام البلغاء والخطباء على غيره؟ وترى أيضاً فلاناً أبلغ وأخطب وأشعر وأفصح؟ فبأيّ شيء حلت هذه التفرقة؟ فكذلك عرفت العرب ومن يعلم البلاغة من غيرهم مباينة القرآن العزيز سائر الكلام، وذلك بصحة الذوق، وسلامة الطبع ولطف الحسّ...." ولكن أين مكمن هذه المباينة لماذا لم تحدّد كلّ التحديد وتبيّن كلّ التبيين...؟
5. الفائدة الخامسة: الردّ على بعض الشبه الواردة في باب الإعجاز
· الشبهة الأولى: تكرار القصص القرآني
قال رحمه الله: [211] "فإن قيل: فأيّ فائدة في تكرير القصص فيه والأنباء؟ قيل: لذلك فوائد:
أ. منها أن يقول المعاند والجاحد: كيف أعارض – مثلا – قصة موسى، وقد سردتها وأوردتها على أفصح القول وأحسنه، وسبقت إلى ذلك، فلم يبقَ لي طريق إلى المعارضة؟ !. فيقال له: ها هي قد جاءت في القرآن العزيز على أنحاء ومباني، فأْتب ها ولو على بناء واحد.
ب. ومنها أنّهم لمّا عجزوا عن الإتيان بسورة مثله أتاهم بسور مماثلة في المعنى والنظم والقصة، وذلك أنكى لقلوبهم.
ت. ومنها أنّ كلّ أحدٍ لا يقدر على كلّ سورة، فجاءت هذه السور فيها هذه القصص على قدر قوى البشر، فمن أطاق هذه حفظها، ومن لم يطق حفظ الأخرى، لينال الضعيف نحو ما نال القويّ.
ث. ومنها أنّ [إعادة] هذه القصص المتحدة على الأنحاء المختلفة مع التماثل في حسن النظم: أبلغ في الفصاحة وأعظم في المعجزة، فكانت تلك المعاني كعرائس تجلى في ملابس مختلفة رائعة، [212] إذا رأيت الواحدة منها قلت: هذه، فإذا رأيت الأخرى قلت: بل هذه، فإذا جاءت الأخرى قلت: لا بل هذه، حتى لا تفضل واحدة على الأخرى، ولا يقدر بليغ ولا ناقد في الفصاحة على ذلك ابداً." انتهى كلام السخاوي رحمه الله
· الشبهة الثانية: معارضة مسيلمة الكذاب
قال رحمه الله: [212] "ومن آيات الله عزّ وجلّ وتمام حكمته أن تعاطى مسيلمة الكذاب معارضته، فأتى بما جعله ضحكة للعالمين، ليظهر بذلك مضمون خبره الصادق، بأنّ المعارضة ممتنعة، وأنّ المماثلة مندفعة." ثمّ ساق قصته مع عمرو بن العاص رضي الله عنه وفيها قول الكذّاب يعارض – زعما – سورة العصر : (يا وبر يا وبر، أذنان وصدر، وسائرك حقر نقر) قال معلقا على هذا النقيق العقيق: "فقد خرج مسيلمة بهذا الكلام عن كلام العقلاء، ودخل في تخليط المجانين". [214]
· الشبهة الثالثة: تفسير خاطئ لآيات التحدي
قال عليه رحمة الله [214] "وأما من قال في قوله عزّ وجلّ {فاتوا بسورة من مثله}[البقرة23] إنّ الهاء تعود على النبي صلى الله عليه وسلم، أي من مثل محمد صلى الله عليه وسلم في أمّته، لا يعرف هو ولا قومه ما في القرآن من الأنباء، واستشهد على صحة ما ذهب إليه بقوله عزّ وجلّ {تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا...}[هود49] . فكلام من ركب الخطر ولم [يمعن] النظر لأنّ كلامه يقتضي أنّ بعض النّاس يقدر على الإتيان بمثله، وهم العلماء بالسير، والممارسون للكُتُبِ وهذا يبطله قوله عزّ وجلّ [215] {قل لئن اجتمعت الإنس والجنّ على أن ياتوا بمثل هذا القرآن لا ياتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا} [الإسراء 88] ." انتهى كلامه
· الشبهة الرابعة: إبطال القول بالصرفة انطلاقاً من إبطال القول لخلق القرآن
انطلق في ردّه على الصرفة من إبطال القول بخلق القرآن، ولعلّ سبب ذلك اعتقاده أنّ أصل القول بالصرفة وسببه هو القول بخلق القرآن، وهذا مذهب ومنهج في غاية التحقيق والتقرير[2] فالقول بخلق القرآن يقتضي أن يشابه القرآن مخلوقات الله عزّ وجلّ، وأن يكون لفظا كألفاظ عباده المخلوقة...وألفاظ العباد ليست معجزة
وقد ردّ رحمه الله على المعتزلة في هذا المبحث بداية ببيان مذهب أهل السنة في القرآن بقوله: "والقرآن كلام رب العالمين، غير مخلوق عند أهل الحقّ، وعلى ذلك أئمة المسلمين كسفيان الثوري ومالك بن أنس والشافعي وأحمد بن حنبل وعامة الفقهاء والعلماء ، ثمّ ساق أدلة عقلية كلامية أبطل بها هذه الفرية وردّها . فجزاه الله عنّا وعن الإسلام خير الجزاء وصلّ اللهمّ وسلّم على نبيّك وحبيبك محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم.
فتحي بودفلة
[1] السيوطي. الإتقان في علوم القرآن، المكتبة الثقافية بيروت 1973م 2\116 مناع القطان. مباحث في علوم القرآن، مؤسسة الرسالة ط 35 1414هـ 1998م ص236 الأستاذ الدكتور محمد دراجي. مباحث في علوم القرآن، دار قرطبة دار ابن طفيل الجزائر1431هـ 2010م ص242 الأستاذ الدكتور مصطفى أكرور. لطائف البيان في علوم القرآن، دار الإمام مالك الجزائر 1424هـ 2004م ص63 وبعضهم عرّف المعجزة بأقلّ من ذلك انظر التعريفات للشريف الجرجاني ص214 دار الطلائع مصر2009م
[2] وذلك لو أضيفت له أسباب أخر كأصلها الهندي المجوسي وكمنهج النّظام في الاستدلال ...انظر الصرفة حقيقتها أصلها والردّ عليها لصاحب هذا البحث