مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (*) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ

إنضم
18/12/2011
المشاركات
1,302
مستوى التفاعل
1
النقاط
38
الإقامة
أنتويرب
بسم الله الرحمان الرحيم والصلاة والسلام على رسل الله أجمعين.
حياكم الله. السلام عليكم ورحمة الله.

من خلال هذه الآية المقدسة من سورة الرحمان أحببت الإنطلاق للتفكير في مسألتين مهمتين:
1) مسألة التأويل والتفسير.
2) مسألة طبيعة الآيات القرآنية التي لا تنتمي إلى جنس أحكام التشريع والمعاملات ولا تنتمي إلى تعاليم الإيمان ولا العلويات الغيبية.

الآية المتناولة في هذا الشريط، المطروحة للمشاركة التفكرية إن شاء الله، لا تنهي ولا تأمر وهي بذلك ليست توجيهية إنشائية (instructive) ، ولا هي خبرية (informative) تتعلق بمسائل الإيمان والغيب - إذا أخذنا تقسيم إبن تيمية للكلام إلى إنشاء و خبر بعين الإعتبار -، لكن خبرية وصفية (descriptive) تتعلق بشيء آخر: فما هو؟ أي ما طبيعة هذا الكلام، وما قيمته وما هدفه؟ المعنى واضح وبين وهذا عام يشمل كل القرآن وخاصة للعارفين المتمكنين باللغة العربية.

حاولت المقارنة بين تفسير، أو تعليق أو تأويل، الطبري، الرازي و الإعجازوعلميين.
ثم حاولت مقاربة هذه الآية بتحليل مالك بن نبي المجازي للآية الكريمة {أو كظلمات في بحر لجي..}.
وتذكرت التأويلات الباطنية (esoteric interpretation) والمذهبية (doctrinal projection) مثل الذي نجده في بحار الأنوار أن البحرين فاطمة وعلي، ومثل الذي نجده في فلسفة إبن عربي حيث يعتقد البعض في تحليلاتهم لمراتب الوجود عند إبن عربي أن (البرزخ) كان عنده مصدر إلهام (inspiration source) للتوسيط بين الوجود المطلق والعدم المطلق أي أن البرزخ فاصل يميز أحدهما عن الآخر، لكن من ينظر في تأويله للآية يرى أنه تأويل غير بعيد عن فلسفته الوجودية في تمييز بحر (الهيولي المتجسم) عن بحر (الروح المتجرد) المجتمعين في الإنسان ببرزخ ليس في صفاء البحر الثاني ولا في كدورة البحر الأول. ومثل الذي نجده عند بعض الفلاسفة بنظرياتهم في الخيال والرمز.
ولا أنسى رؤية المعنويين الملكوتيين أصحاب نظرية العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، والعبرة بالمعنى والقيمة المتجاوزة للظاهر.

في نظري وكما أفهم: كل تأويل باطني ممكن يكون مذهبي والعكس غير صحيح لأن مذهبة أو أدلجة التأويل يجري على الرجحانية والتسييقية بحيث لا يضيع علاقة الكلام بالممكن اللغوي والممكن السياقي، أما الباطنية فتلعب على أوتار رمزية واحساسات أو قناعات ذاتية قد تصل إلى حد إستحالة إختزال نتائجها القولية في ممكن لغوي أو سياقي يتعلق بلفظ الكلام ومعانيه الممكنة وسياقاته المحتملة، الأمر الذي قد يؤدي إلى إسقاط مذهبي لكنه ليس تفسيرا مذهبيا بالمعنى المفترض هنا.

يتبع ..
 
الطبري ينقل روايات تؤول البحرين ببحر في السماء وآخر في الأرض وروايات أخرى تؤول البحرين ببحر الروم وبحر فارس واليمن. أما البرزخ بين الجزيرة واليبس بالرواية، وبرواية أخرى الأرض. هل يؤول الطبري هنا برأيه؟ أعني:هل نقل رواية دون التأكد من ثبوتها يُعتبر رأيا؟
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال: البرزخ الذي بينهما: الأرض التي بينهما.
نقله لهذه الرواية يعني أنه لا يعمل برأي نقدي وإلا لوضح كيف يجمع بين كون البحرين بحر في السماء وآخر في الأرض، وهو التأويل الذي عنده أولى بالصواب، حين أن هذه الأرض نفسها هي الحاجز!
وينقل رواية أخرى:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن مروان، قال: ثنا أبو العوّام، عن قتادة { بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ } قال: حُجِز المالح عن العذب، والعذب عن المالح، والماء عن اليبس، واليبس عن الماء، فلا يبغي بعضه على بعض بقوّته ولطفه وقُدرته.
دون أن يشير بهذه الرواية ولا بالآية إلى آية أخرى وهي: {وَمَا يَسْتَوِى ٱلْبَحْرَانِ هَـٰذَا عَذبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وهَـٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ}
هذا ما فعله الرازي فيكون بذلك الرازي يطبق في تأويل هذه الآية بالذات قاعدة تفسير القرآن بالقرآن.
ثم ختم التعليق على الآية بالقول أن الصواب التعميم دون التخصيص وهنا ربما يتبين الفرق بين التفسير والتأويل: الأول يعمم والثاني يخصص.

أهل ما يسمى الإعجاز العلمي لا يفسرون بل يؤولون والدليل، عندي كما أرى، هو إلى جانب المعنى التحققي للتأويل عند السلف هو تخصيصهم للبحرين ببنيات في البحار تتمايز بصفات كيميائية معينة تلتقي لكنها لا تتمازج.

المهم هو أنهم جميعا يدورون في فلك الظاهر وأن الآية تشير إلى ظاهرة طبيعية تجري في عالم البحار، لكن كيف يكذبان بنعم الله إن كانوا لا يعلمون بهذا أو يختلفون إن صحت تلك الروايات؟ المناسب لطبيعة القرآن أنه يخاطب الناس أجمعين على إختلاف مستواياتهم المعرفية والثقافية دون حصول أي تناقض في ذلك، ولكن هل (بحر السماء) ظاهرة؟ هل يستطيع أحد أن يعي أو يفهم هذا التمايز بينه وبين بحر الأرض؟ هذه أسئلة يمكن أن تجلب أسئلة أخرى لنعيد طرح السؤال: ما طبيعة هذا الكلام؟ هل يحمل قيمة معرفية؟

يتبع ..
 
والذي أراده مالك بن نبي بتحليله للمجاز في الآية الكريمة {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ ..} هو أن الآية تعكس ما لا علاقة له بالوسط الجغرافي والثقافي العلمي ولا بالمعارف البحرية في ذلك العصر، فلا يمكن إذن أن ننسب هذه الصورة المجازية للذات المحمدية التي تفاعلت مع و في بيئة صحرواية كل الصور والمثل التي تختلقها غير خصبة لمثل هذا التركيب التصويري، عكس ما نعرفه فيما يسمى بالخيال العلمي لأنه في النهاية خيال مُركب على أساس معلومات معروفة ننزع خصائصها العينية، نجردها ونصف بها المركبات الصورية في الذهن ثم نعبر عنها بلغة مثلية (صورية أو مرئية visual language) ومحمد خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم ما عرف عنه الإشتغال بمثل هذه الأمور إضافة إلى طبيعة البيئة التي ترعرع فيها لا تزوده بمثل هذه المعلومات ليركب منها خيالا حول ظلمات البحر بتلك الصورة التي نقرأها في الآية الشريفة.
ولا أدري هل يمكن ربط هذه الرؤية بمحاولة تحديد طبيعة { مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (*) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ} لأن الآية التي تناولها مالك لها طبيعة "مثلية" و في ذلك يقول إبن كثير في تفسير الآية المقدسة {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} من سورة الرعد:
ثم قال في المثل الآخر : {أوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ} الآية [ النور : 40 ]

والسؤال الذي أطرحه هنا هو هل (مثل القرآن) لا تكون إلا "مضروبة" أي أن الله يضرب للناس مثلا/أمثالا ليفهموا مسائل متصلة بالخبر والإنشاء (الإيمان والشريعة) أم هناك إمكانية أخرى مثل مخاطبتهم بكلام لا يعرفون منه إلا اللفظ والمعنى المجرد القصد منه ما يتصل بقضية (إعجاز القرآن)؟ بمعنى آخر: هل هذه الآية المقدسة من سورة الرحمان الهدف منها "أدبي خالص" لا إشارة إلى ظاهرة متحققة في الواقع؟

أم أن الآية إسترسالية -أذا صح هذا الوصف- بمعنى أن الثقلين يعرفون معاني القيم والنعم الواردة في سورة الرحمان فيرسلونها مع نعمة ما يجري في البحرين دون الوقوف على حقيقتها ولا حتى معناها إفتراض تجريد هذا الخبر وهو أفتراض تصححه معاني قيمية أخرى مرتبطة بالجنة لا نستطيع تأويلها؟ وهذا طريق الملكوتيين الذين لا يؤولون لكن يتوقفون عند محور الآية وهدفها العام والقيم التي تحملها: التفكر في نعمة الله وقدرته بغض النظر عن تأويل الظاهر هل البحرين العذب والمالح،، بحر الروم وبحر الهند،، بحر السماء وبحر الأرض،، بحر فارس والروم،، البحر المالح والانهار العذبة،، بحر المشرق وبحر المغرب،، بحر اللؤلؤ وبحر المرجان،، بحر القلزم واليمن وبحر الشام،، مطر السماء وبحر الأرض أو غير ذلك ...وهل البرزخ الناس،، الجزائر،، عرض الأرض،، ما بين السماء والأرض،، جزيرة العرب،، أجرام الأرض أم غير ذلك..

إن الآية المقدسة هذه من ناحية إتصالها بـ 1) إعجاز القرآن في بيانه ونظمه ولفظه، 2) التعبد بالتلاوه و 3) الملكوتية: آية مُحكمة، أما من ناحية التأويل عامة فإنها آية متشابهة إذا صحت القاعدة الأثرية القائلة بأن المختلف فيه من القرآن متشابه.
وقد يأخذ بعض أهل الهوى المتشابه هذا بابا للطعن في القرآن، بينما آخرون يأخذونه بابا للتأويل بدون علم كما يفعل أهل الباطنوية يملئون تلك الألفاظ -كما قال الثعلبي ونقله ابن عطية وغيره- بألغاز وأقوال باطنة لا يجب أن يلتفت إلى شيء منها. ولكن المتشابه من القرآن الذي لا يتعلق بأمور خبرية غيبية دليل على حياة القرآن المستمرة لأنه لو كان محكما في كل شيء لكان "وثيقة تاريخية" تخص الجيل الأول من المسليمن وحدهم، وهذا كلام صحيح أورده ناصر أبو زيد بمحاضرة في الجامعة الكاثوليكية نوتردام، لكن كما يقال كلام حق يراد به باطل والباطل هنا ملئ الآيات القرآنية المتصلة بالشرائع بطريقة لا تراعي المحكم ولا القواعد الفوقزمنية الثابتة.
أما الإعجازوعلميين فالخطأ الأكبر الذي سقطوا فيه ليس التعامل مع ظاهر مثل هذه الآيات بالتأويل (نقل المعنى من معنى مجرد إلى معنى مخصص، أو الإنتقال من المعنى meaning إلى الإحالة reference) لأن هذا ما فعله كثير من المفسرين الكبار، بل وصفهم لهذه النقلة بالإعجاز وهو وصف يبغي على إعجاز القرآن بمعناه الأصلي والوحيد، ثم إن هذا الوصف ينزع طابع النظر عن تأويلهم ويخرجه من القابل للدحض والمراجعة (theory) إلى اليقينية (certainty) سواء في تفسير الآية أو تفسير المقولة العلمية الطبيعية وإسقاطها، ثم إن البعض يعتدي أيضا على ما تقدم في التفسير بدون محاولة الفهم المقارن والذي نستطيع من خلاله أن نطرح السؤال التالي: هل هذا الإختلاف الذي نقرأه إختلاف تعارض أم تنوع؟ ليس هناك ما يدل على التعارض سواء صحت الروايات أم لم تصح.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
 
عودة
أعلى