موقف مفسري مدرسة مكة من الروايات الإسرائيلية

إنضم
7 أغسطس 2007
المشاركات
68
مستوى التفاعل
0
النقاط
6
الإقامة
المغرب
مدخل:
إن الحديث عن الروايات الاسرائيلية في التفسير هو حديث عن موضوع لم يسلم منه إلا القليل من مصادر تراث الأمة، أو مؤلف من مؤلفاتها، وإن لم يكن عندنا إحصاء دقيق واستقراء لهذا الأمر استقراء علميا تاما. ولكن الأمر غير خاف للعيان ولكل متتبع ومتمرس ودارس لتراث الأمة .
ولكن ما يثلج الصدر في بعض هذه المصادر هو أن مؤلفيها بينوا هذا الدخيل وبينوا ضعفه وعدم صحته، وكذا تدليس أصحابه إن دلسوا، أو موافقة كلامهم لما بينته شريعتنا.
ولفظ الاسرائيليات: يدل على اللون اليهودي للتفسير، وما كان من أثر للثقافة اليهودية فيه إلا أنه في حقيقة الأمر يعني ما هو أوسع من هذا ، فيضاف إليه اللون النصراني، وإطلاق اللفظ على جزئية منه فقط هو من باب التغليب ليس غير، إذ الأثر الغالب كان للثقافة اليهودية.(1). لأن ثقافة اليهود وثقافة النصارى ثقافة دينية، وكلتا الثقافتين كان لهما أثر في التفسير الى حد ما.
فثقافة اليهود كانت تعتمد أول ما تعتمد على التوراة التي أشار إليها القرآن بقوله:" إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور" (2).ودل عل بعض ما جاء فيها من أحكام بقوله:" وكتبنا فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص".(3).
وكثيرا ما يستعمل المسلمون واليهود أنفسهم لفظ التوراة ويطلقونه على كل الكتب المقدسة عند اليهود فيشمل الزبور وغيره. وتسمى التوراة بما اشتملت عليه من الأسفار الموسوية وغيرها: العهد القديم.
وكان لليهود بجانب التوراة سنن ونصائح وشروح لم تؤخذ عن موسى بطريق الكتابة، وإنما تحملوها ونقلوها بطريق المشافهة، ثم نمت على مرور الزمن وتعاقب الأجيال، ثم دونت وعرفت باسم التلمود، ووجد بجوار ذلك كثير من الأدب اليهودي، والقصص والتاريخ والتشريع والأساطير.
وأما النصارى فكانت ثقافتهم تعتمد في الغالب الأهم على الانجيل، وقد أشار القرآن الى أنه من كتب السماء التي نزلت على الرسل فقال:" ثم قفينا عل آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الانجيل ".(4).
والأناجيل المعتبرة عند النصارى يطلق عليها وعلى ما انضم إليها من رسائل الرسل. اسم: العهد الجديد والكتاب المقدس لدى النصارى يشمل التوراة والانجيل ويطلق عليه العهد القديم والعهد الجديد.
وكان طبعيا أن يُشرح الانجيل بشروح مختلفة، كانت فيما بعد منبعا من منابع الثقافة النصرانية، كما وجد بجوار ذلك ما زاده النصارى من القصص، والأخبار والتعاليم التي زعموا أنهم تلقوها عن عيسى عليه السلام، وهذا كله كان من ينابيع الثقافة النصرانية.
وإذا نحن أجلنا النظر في التوراة والانجيل نجد أنهما اشتملا على كثير مما اشتمل عليه القرآن الكريم، وبخاصة ما كان له تعلق بقصص الانبياء عليهم السلام. مع اختلاف في الاجمال والتفصيل، هذا التفصيل هو الذي جعل المسلمين يقتبسون من الكتب الكتابية بقدر ما يرون أنه شارح لهذا الايجاز وموضح لما فيها من غموض، ومن ثم بدأت الاسرائيليات تدخل في التفسير، وتطور هذا الدخول ليتأثر التفسير بالتعاليم اليهودية والنصرانية" (5).
 
تفسير مدرسة مكة والروايات الاسرائيلية:
-أقصد بمدرسة مكة في التفسير ما روي من نصوص تفسيرية مسندة كانت أو غير مسندة عن جهابذة أعلام هذه المدرسة أسهموا في تشكيلها بناء ومسارا، وكذلك نصوص الذين تتلمذوا وجلسوا الى شيوخها يأخذون من معينهم الفياض وزادهم المعرفي .
-فمكة حرسها الله تعتبر منذ البعثة من أعظم البيوت القرآنية ، فيها نزل أول لفظ يدعو للقراءة ، وبها تأسس أول مركز لتعليم المسلمين " دارالأرقم" ليتخرج منها الأرقميون الذين تعهدوا القرآن وعلموه ، وساحوا في بقاع الأرض ينشرونه ، وبعد اتساع الفتوحات ، تفرق الصحابة في الأمصار وتفرق العلم معهم لتتوفر الدواعي على تطلب الأخبار الراجعة الى التفسير وغيره من العلوم الشرعية .
-وقد عرف رجال بأنهم أثبات الأخبار وحجج الآثار تفاوتوا قلة وكثرة فيما روي عنهم ليتفوق في هذا المجال مؤسسو المدارس التفسيرية المشتهرة في هذا العهد ، ابن مسعود في العراق ، وأبي بالمدينة ، وابن عباس بمكة.
-وتعد مدرسة مكة الأولى في هذا الحقل العلمي بفضل مؤسسها وخريجيها ، فابن عباس المؤسس هو حبر الأمة وبحرها، اعترف له كبار الصحابة بطول الباع في التفسير وغيره ، فيه قال ابن مسعود رضي الله عنه :"نعم ترجمان القرآن ابن عباس"(6) وقال فيه أيضا:" لو أدرك ابن عباس أسناننا ما عاشره منا أحد " (7)، وفيه قال علي بن أبي طالب:" كأنما ينظر الى الغيب من ستر رقيق "(8)، أما تلامذته وخريجو مدرسته فعددهم لا يحصر ولا يحصى ، ولكن اشتهر منهم خمسة عدوا من الجهابذة الأول قال فيهم ابن تيمية : " أعلم الناس بالتفسير أهل مكة ، لأنهم أصحاب ابن عباس كمجاهد وعطاء وعكرمة وطاوس وسعيد بن جبير وغيرهم."(9).
 
أ-التوجيه النبوي وفهم الصحابة له:
عاش موجه الأمة المحمدية واقعه الفكري ، وحرص (عليه الصلاة والسلام) في بداية الأمر على ربط أتباعه بكتاب الله وحده ، حتى لا تكثر عليهم الأقوال ، وتختلط في أذهانهم الأفكار ، ولتنفيذ ذلك لم يسمح لهم بكتابة الحديث في بدايته (10) ، وإن ورد الأمر بما يخالف هذا ولكن بقلة . وأمرهم كذلك بأن لا يخلطوا ثقافتهم بثقافة غيرهم حتى يكتسوا الحصانة الفكرية ، وبين لهم بأن ثقافة الاسلام كاملة تامة ، وشاملة ناسخة وبيضاء نقية.
-فقد جاءه عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) يوما بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب فقرأه عليه فغضب وقال:" أمتهوكون-متحيرون-فيها يا ابن الخطاب، والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حيا، ما وسعه إلا أن يتبعني".(11).
-وقال لهم أيضا : " لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم" وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيئون من ربهم ، لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ".(12).
وهو الخطاب الذي فهمه الصحابة الكرام ، وتمثلوه في علاقاتهم مع أهل الكتاب ، وخصوصا ابن عباس شيخ المدرسة الذي وجه خطابه لتلاميذه حاثا إياهم على ما حث عليه الرسول الكريم فقال : "يا معشر المسلمين كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أنزل عليكم بين أظهركم محصن ولم يشب ، فهو أحدث الأخبار بالله ، وقد أخبركم الله عن أهل الكتاب أنهـم كتبوا بأيديهم كتبا ثم قالوا هذا من عند الله "ليشتروا به ثمنا قليلا " فبدلوها وحرفوها عن موضعها أفما ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم ؟ فو الله ما رأينا أحدا منهم يسألكم عن الذي أنزل إليكم (13). وهي نصوص واضحة في الدلالة على المنع من الأخذ عن أهل الكتاب .
لكن ورد أيضا عن النبي (صلى الله عليه وسلم) نص يستفاد منه الجواز ، وهو قوله :"بلغوا عني ولو آية ، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ، ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار"(14).
وهذا الاختلاف في الحكم وجهه العلماء موفقين بين الأدلة فقال ابن حجر في الفتح : " قال الشافعي : " من المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يجيز التحدث بالكذب ، فالمعنى حدثوا عن بني إسرائيل بما لا تعلمون كذبه ، وأما ما تجوزونه فلا حرج عليكم في التحدث به عنهم ، وهو نظير قوله (صلى الله عليه وسلم ): " إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم " ، ولم يرد المنع من التحدث بما يقطع صدقه."(15).
وقال ابن حجر أيضا : " ويؤخذ من هذا الحديث التوقف عن الخوض في المشكلات والجزم فيها بما يقع في الظن وعلى هذا يحمل ما جاء عن السلف من ذلك."(16).
-وقد تعامل الصحابة رضوان الله عليهم مع هذه التوجيهات بعلم ، فلم يفهموا من النهي المذكور المنع البات في كل أمور العلم ، وإلا كيف يكون قوله صلى الله عليه وسلم : " فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم" إلا بعد وقوع الرواية.؟ ومن هنا فإنهم امتنعوا بتاتا عن الرواية عنهم في أبواب العقيدة والتشريع، وتساهلوا في الأخبار والتواريخ وبدء الخليقة ، وهي ما تشكل موضوع القصص.
وممن يذكر له سماع عن أهل الكتاب أو محاورة لهم : الفاروق عمر بن الخطاب وأبو هريرة الذي شهد له كعب الأحبار بقوله : " ما رأيت أحدا لم يقرأ التوراة أعلم بما فيها من أبي هريرة ".(17). وعبد الله بن عمرو بن العاص الذي أصاب جملة من كتب أهل الكتاب وأدمن النظر فيها ورأى فيها العجائب وكان يحدث منها أحيانا في الأخبار وبدء الخليقة وتاريخ الانبياء.."(18). وكذا صنع أعلام المدرسة ، وخصوصا شيخهم ، الذي تحاور معهم وساءلهم وراسلهم .
ولعله من الأسباب الطبيعية التي دفعت الصحابة الكرام ليتعاملوا مع أهل الكتاب تلك الحركة الأولى في تفسير القرآن التي كانت تعتمد على النقل، وليس ثمة مجال للعمل الفكري الذي ينفي ويثبت، وإنما الأمر مرده الى الرواية المحضة."(19). ومن الأسباب أيضا : احتواء القرآن على كثير من القصص المجملة ، وفي النفس فضول -كما هو معلوم-لمعرفة التفاصيل وليس من مصدر مسعف ، لأنه ليس من مقاصد الدين تزويد الناس بمعلومات تاريخية مفصلة.
ولتفصيل هذا المجمل لجأ الناس وخاصة القصاصون الى أهل الكتاب أو الى كتبهم يغرفون منها ويغمرون الساحة الاسلامية بركام هائل من الأخلاط الكتابية . وقد استغل أهل الكتاب هذا الفضول فلبوا على القصاص أمرهم ، وغلبوهم على عقولهم ، وملأوها بكثرة الأخبار الزائفة والمكذوبة ، وأوهموهم أن كتبهم ترجع الى الأنبياء ، فصدقوهم لقلة علمهم، ولسطحية تفكيرهم.
ليحصل لهم ما حصل لمن يحتاج شراء سلعة عند تاجر خبيث ، وقد نبه العلماء الى هذه المداخل ، كما حذروا من القصاص، وعلى رأس المحذرين الامام علي (كرم الله وجهه)، الذي أخرجهم من جامع البصرة . إلا أن الأمر اتسع فيما بعد على المداوي حتى أعياه.
 

ب-مدرسة مكة والاسرائيليات:
إن المطلع على الانتقادات التي وجهت الى الكثير من علماء الأمة ، الذين رجعوا الى أهل الكتاب ، وأخذوا عنهم-خاصة انتقادات المستشرقين ومن ركب مركبهم من المستغربين -أحمد أمين مثلا - ليجد نفسه أمام تحامل خطير وممنهج ، الغرض منه الوصول مستقبلا الى الطعن في النص المروي عنهم.إذ لو قبل المسلمون المطعن الأول لسهل قبول ما يأتي بعده.
وبالتأكيد لم يسلم أعلام "المدرسة" من هذا التحامل ، ولكن الرد عليهم سهل ميسر على كل من درس مروياتهم واطلع على نصوصهم.
فابن عباس الحبر ، تعلم من النبي ، وفقه إرشاداته ، فميز بين ما يلزم فعله وما لا يلزم.، حيث تعامل أولا مع علماء أهل الكتاب الذي أسلموا وحسن إسلامهم ، مثل:عبد الله بن سلام ، الذي كان أعلم اليهود وابن أعلمهم كما أخبر عن نفسه (20).وأخبر معاذ بن جبل في حديث موته أنه ممن شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة.(21).
كما تعامل مع كعب الاحبار المعدود من علماء أهل الكتاب وأحد أحبارهم، أسلم في خلافة عمر،وشهد بتزكيته المحدثون.(22). وهي شهادة كافية في توثيقه ورد كل تهمة تلصق به.
-وقد رأى ابن عباس أن أحسن الفهم موجود عند أمثال هذا الرجل ، لهذا ساءله عن كثير من القضايا المتعلقة بما تتشوف العقول الى معرفته ، وقد اعتمد الحبر في هذه المساءلة طرقا متعددة.
*فتارة كان يسأله مباشرة مثل:
-ما روي عنه أنه ذهب الى كعب الاحبار فقال له : حدثني عن قول الله عز وجل "الله نور السموات والأرض " (سورة النور)، الآية ، فقال كعب : الله نور السموات والأرض ، مثل نوره : مثل محمد صلى الله عليه وسلم كمشكاة(23).
*وتارة كان يسأل أبناءه عن علمه مثل:
-ما رواه ابن ابي حاتم في تفسيره عن معاذ بن عبد الله بن حبيب الجهني قال : رأيت عبد الله بن عباس مر به تبيع ابن امرأة كعب فسلم عليه فسأله : هل سمعت كعبا يقول في السحاب شيئا ؟ قال: نعم سمعته يقول: إن السحاب غربال المطر ، ولولا السحاب حين ينزل الماء من السماء لأفسد ما يقع عليه ، قال: قال سمعت كعبا يقول في الأرض : تنبت العام نباتا وعام قابل غيره ؟ قال : نعم سمعته يقول : إن البذر ينزل من السماء قال ابن عباس : سمعت ذلك من كعب يقوله(24).
*ليصل به الأمر أحيانا الى جعله حكما فيما اختلف فيه مع غيره، مثل:
-ما روي عنه في تفسير قوله تعالى : " عين حمئة " قال : قرأ معاوية هذه الآية : " (عين حامية) فقال ابن عباس : إنها عين حمئة ، قال : فجعلا كعبا بينهما ، قال : فأرسلا إلى كعب الأحبار فسألاه، فقال كعب: أما الشمس فإنها تغيب في ثأط ، فكانت على ما قال ابن عباس والشأط ، الطين.(25).
*وتارة كان يراسله مثل:
-ما روي عن كريب قال : دعاني ابن عباس ، فقال : اكتب بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله بن عباس، إلى فلان حبر تيماء : سلام عليك ، فإني أحمد إليك الله ، الذي لا إله إلا هو ، أما بعد: قال : فقلت : تبدؤه تقول : السلام عليك؟ فقال : إن الله هو السلام ، ثم قال : أكتب ، سلام عليك أما بعد : فحدثني عن مستقر ومستودع ، قال : ثم بعثني بالكتاب إلى اليهودي ، فأعطيته إياه ؛ فلما نظر إليه قال : مرحبا بكتاب خليلي من المسلمين ، فذهب بي إلى بيته ، ففتح أسفاطا له كبيرة فجعل يطرح تلك الأشياء لا يلتفت إليها ، قال : قلت : ما شأنك ؟ قال : هذه أشياء كتبها اليهود ، حتى أخرج سفر موسى عليه السلام ، قال فنظر إليه مرتين ، فقال المستقر : الرحم ، قال ثم قرأ (ونقر في الأرحام ما نشاء)، وقرأ (ولكم في الأرض مستقر ومتاع) قال : مستقره فوق الأرض: ومستقره في الرحم ، ومستقره تحت الأرض ، حتى يصير إلى الجنة ، او إلى النار.(26).
-وعنه أيضا قال : أرسلني ابن عباس الى رجل من أهل الكتاب أسأله عن هذه الآيات "جنة عرضها السماوات والارض " فأخرج أسفار موسى ، فجعل ينظر قال : سبع سماوات وسبع أرضين تلفق كما تلفق الثياب بعضها الى بعض ، هذا عرضها ، وأما طولها فلا يقدر قدره إلا الله.(27).
*بل كثيرا ما جمعتهم مجالس العلم ، ليحصل النقاش العلمي المبني على المساءلة والتناصح مثل:
ما روي عن عكرمة قال : " كنا جلوسا عند ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما فمر طائر يصيح، فقال رجل من القوم : خير خير فقال ابن عباس : لا خير ولا شر، قال كعب لابن عباس : ما تقول في الطيرة ؟ قال: وما عسيت أن أقول فيها؟ لا طير إلا طير الله ولا خير إلا خير الله ولا حول ولا قوة إلا بالله ، قال كعب: أن هذه الكلمات في كتاب الله ، المنزل يعني التوراة."(28).
وكثيرا ما كانت ترد عن ابن عباس روايات في بدء الخليقة وقصص القرآن مما لا مرجع له فيها إلا أهل الكتاب كما روي عنه في تفسير قوله تعالى : " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك.."(29).
وبالتأكيد لم يقتصر الأمر فقط على مثل هذه الأسئلة ، بل تجاوزه الى قصص الأنبياء بدءا بقصة آدم عليه السلام ، الى نوح فهود فسليمان وهلم جرا...
وهي روايات مطعون في أسانيد بعضها ، وما صح منها أدرج ضمن ما سمح به ابن عباس لنفسه،وفهمه من التوجيهات النبوية ، وما كان غير ذلك فهو مدسوس عليه أو ضعيف من حيث السند أو المتن . إذ لا ننسى الاختلاقات التي مست تفسيره وما نسب إليه رضي الله عنه.
 
فالتوفيق بين أخذ ابن عباس عن أهل الكتاب وبين دعوته الى عدم الأخذ عنهم ، سهل وبين.
إذ إن رجوعه إليهم لم يكن من طالب علم مبتدئ ، أو قاص جاهل ، إنما كان من عالم يعير سمعه لما يقال ، ثم يعمل فكره وعقله فيما سمع ، لينخل منه الزيف ويحتفظ بالصحيح .
وقد وضع أساس منهج الاختيار العلمي بقوله : " العلم أكثر من أن يحاط به فخذوا منه أحسنه".
وأنشد محمد بن مضعب لابن عباس:
ما أكثر العلم وما أوسعه***من ذا يقدر أن يجمعه
إن كنت لابد له طالبـا***محاولا فالتمس أنفعه.(30).
وعزز هذه المقولة بسلوكه مع كعب الأحبار نفسه في موضوع بلغه عنه، لتظهر الصورة الحقيقية للحبر والمتمثلة في المؤمن المعتز بدينه الكريم على نفسه وثقافته.
حيث يروى أن رجلا أتى ابن عباس يبلغه زعم كعب الأحبار أنه يجاء بالشمس والقمر يوم القيامة كأنهما ثوران عقيران فيقذفان في النار ، فغضب ابن عباس وقال : كذب كعب الأحبار ، قالها ثلاثا ، بل هذه يهودية يريد إدخالها في الاسلام.(31). وقد اعتذر له كعب بعد وتعلل.(32)..
ومن هذا الوادي ايضا ما روي من انه ذكر الظلم في مجلس ابن عباس فقال كعب : إني لا أجد في كتاب الله المنزل أن الظلم يخرب الديار ، فقال ابن عباس: أنا أوجدكه في القرآن ، قال الله عز وجل: " فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا..".(33).
هذه هي حقيقة موقف ابن عباس من أهل الكتاب ، وهو إذا كان يدعو الى تجنب الرجوع الى اهل الكتاب ، فبسبب ما أدخل من فساد على عقول العامة ، أما العلماء فإن معهم من الأسباب ما يجعلهم يقفون طويلا قبل أن يصدقوا ما يلقى إليهم من قول.
وعلى نهج الحبر ابن عباس سار تلاميذه الكبار الذين شكلوا معه مدرسة التفسير ، وخصوصا سعيد بن جبير ومجاهد بن جبر وعكرمة مولى ابن عباس، وطاوس بن كيسان اليماني وعطاء بن أبي رباح ، وأضافوا بما حصلوا عليه من معارف شيوخهم ، وبما استزادوه من معارف عصرهم وبيئتهم ما لم يحصل أو لم يكن موجودا في عصر السابقين.
ومرجع ذلك بالأساس الى أمرين اثنين:
-كثرة من دخل من أهل الكتاب في الاسلام .
-ميل نفوس القوم لسماع التفاصيل عما يشير إليه القرآن من أحداث يهودية أو نصرانية.
مما جعل الكثير من النقاد ينظرون الى تفاسيرهم بعين الريبة في بعض الأحيان . ومن ذلك قولهم في تفسير مجاهد : " كتابه في التفسير يتقيه المفسرون"(34). وقد علل تلميذه الأعمش ذلك بقوله : " كانوا يرون أنه يسأل أهل الكتاب اليهود والنصارى".(35).
وبالتأكيد أن هذا الاتقاء لتفسيره ظهر منذ البدايات الأولى في عصره ، كما صرح الأعمش وهو من تلاميذه ، ولكن مجاهدا ليس بدعا في هذا الأمر ، ولكنه فيه آثر متبع ، إذ بعض هذه الروايات منقولة عن شيخه ابن عباس والبعض الآخر من شيوخه الآخرين من الصحابة مثل عبد الله بن عمرو بن العاص وهو أكثر قليلا ، وقسم ثالث مصدره الأخبار التي راجت في عصره وبيئته .
ورغم ذلك كله ، فبالرجوع الى النصوص المروية عنه في هذا المجال نجده فعلا قد أكثر وخالف المبدأ الشرعي للحديث المحذر " لا تصدقوهم ولا تكذبوهم " إذ كثيرا ما يروي عنهم أحاديث في الأنبياء وقصصا عنهم لا تجوز في حقهم وحق عصمتهم ، ومهما التمسنا له من مبررات للأخذ من أهل الكتاب وحصرنا الروايات القليلة التي رويت عنه في هذا المجال ، فإن المبدأ يبقى هو المبدأ والمنهج ذاته غير مقبول في رواية تلك الأخبار حتى ولو كان خبرا واحدا. وهذا لا ينقص من تفسيره ولا يزعزع ثقة الأمة فيه ، إذ يكفي لإزالة هذه الآثار وإلغائها ، القيام بتنقيحه والتعليق عليه لتسهل الاستفادة وتعم الفائدة ، وتزول الشبهات.
وهو الكلام نفسه الذي يمكن أن يقال في تفسير باقي التلاميذ وكل تراث الأمة ، إذ تنقية تراثنا أضحى واجبا من الواجباب التي ينبغي أن تصرف فيه جهود الأمة اليوم ، وهو من الواجب الذي لا يتم الواجب إلا به.
 
وهذا مثال يحدثنا عن قصة النبي يوسف (عليه السلام )تحدث عنها علماء "المدرسة"بتفصيل ، ساقوا أثناءها أسماء وأحداثا وأرقاما وتفاصيل بدت فيها الروايات الاسرائيلية جلية واضحة.
ولنبدأ بما روي عن مجاهد حول هذه القصة قبل وقوعها وقبل أن يرمى في الجب حيث قال:"كان أول ما دخل على يوسف من البلاء فيما بلغني أن عمته ابنة اسحاق ، وكانت أكبر ولد اسحاق ، وكانت إليها منطقة اسحاق ، وكانوا يتوارثونها بالكبر ، فكان من اختص بها ممن وليها ، كان له سلما لا ينازع فيه،يصنع فيه ما يشاء ، وكان يعقوب حين ولدله يوسف ، كان قد حضنته عمته ، فكان معها وإليها ، فلم يحب أحد شيئـا من الأشياء حبها إياه ، حتى إذا ترعرع وبلغ سنوات ، وقعت نفس يعقوب عليه ، أتاها فقال : يا أخية سلمي إلي يوسف ، فو الله لا أقدر على أن يغيب عني ساعة ، فقالت : والله ما أنا بتاركته ، والله ما أقدر أن يغيب عني ساعة، قال : فو الله ما أنا بتاركه ، فقالت : فدعه عندي أياما أنظر إليه ، وأسكن عنه ، لعل ذلك يسليني عنه ، أو كما قالت : فلما خرج من عندها يعقوب عمدت الى منطقة اسحاق فحزمتها على يوسف من تحت ثيابه ، ثم قالت : لقد فقدت منطقة اسحاق ، فانظروا من أخذها ومن أصابها ، فالتمست ثم قالت : اكشفوا أهل البيت ، فكشفوهم ، فوجدوها مع يوسف ، فقالت : والله إنه لي لسلم أصنع فيه ما شئت ، قال: وأتاها يعقوب فأخبرته الخبر ، فقال لها : أنت وذاك إن كان فعل ذلك ، فهو سلم لك ، ما أستطيع غير ذلك، فأمسكته فما قدر عليه يعقوب حتى ماتت ، قال : فهو الذي تقول إخوة يوسف حين صنع بأخيه ما صنع ، حين أخذه ( إن يسرق فقد سرق له أخ من قبل ) .(36).
فهذا التفصيل في سوق الأحداث والبيئة التي عاش فيها نبي الله يوسف ، مما تتطلبه النفس من معارف ولكن أنى لنا أن نصدق بصحتها ، وليس من صحيح القول في هذا المجال إلا ما أخبر به الصادق المصدوق وهذا لم يحصل. ومما يؤكد هذا المنحى ، اي الاهتمام بالتفاصيل التي لاطائل من ورائها:
ما روي عن مجاهد قال : ألقى يوسف في الجب وهو ابن (سبع عشرة سنة ) ، وغاب عن ابيه (ثمانين سنة) (37).ولبث في السجن من ثلاث سنين الى تسع (38). وعند طاوس بقي فيه (أربع عشرة ) سنة ، وأعطي الحكم والعلم وهو ابن (ثلاث وثلاثين سنة) (39).ومات وهو ابن (مائة وعشرين سنة ).
فهذا التفصيل والمتابعة من مجاهد على الخصوص في البحث عن كل صغيرة وكبيرة من حياة الرسول يوسف عليه السلام ، جعلته يقع في أخطاء كثيرة ، مما يبين أن مرجعيتها لا تتعدى المصادر الكتابية.
ولكن قد يتساهل فيما سبق بيانه من مرويات إذ لا تعدو مشبعات للنفس فيما تتشوف إليه من معارف ،ولكن أن يذهب الأمر الى اتهام الأنبياء والشك في عصمتهم ، والتحدث عنهم بما لا يليق بمقامهم ،فهذا مما يحتاج الى التوقف في هذه المرويات والنظر إليها بحذر شديد ، بل وبرفض أشد.
ففي تفسير قوله تعالى : " ولقد همت به وهم بها لولا أن رأىبرهان ربه " رويت عنه رويات متعددة،اذكرها ثم أعقب عليها بأقوال العلماء .
-ففي رواية قال:" رأى صورة ابيه يعقوب في وسط البيت عاضا على إبهامه، فأدبر هاربا وقال: وحقك يا أبت لا أعود ابدا.(40).
-وقال ايضا : " حل الهميان وجلس منها مجلس الخاتن ، فنودي : يا ابن يعقوب أتزني فتكون كالطائر وقع ريشه فذهب يطير فلا ريش له.(41).
-وقال : " أسلمت له وحل التبان وقعد بين فخذيها ، فنادى مناد يا يوسف لا تكن كالطير إذا زنى،ذهب ريشه ، فلم يعظ النداء شيئا،فنودي الثانية فلم يعظ النداء شيئا ، فتمثل له يعقوب فضرب صدره فقام فخرجت الشهوة من أنامله.(42).
-وقال : " فلم يتعظ بالنداء حتى صكه جبريل في صدره ، فطارت كل شهوة في رأسه ، فخرجت من أنامله ، فوثب الى الباب ، فوجده مغلقا ، فرفع يوسف رجله ، فضرب بها الباب الأدنى ، فانفرج له،فانفرجت له الأبواب التي دونه ، واتبعته فأدركته عند آخر باب منها.(43).
-وقال : " جلس منها مجلس الرجل من امرأته حتى رأى صورة يعقوب في الجدار وفي رواية:"تمثل له يعقوب فضرب في صدر يوسف ، فطارت شهوته من أطراف أنامله ، فولد لكل ولد يعقوب اثنا عشر ذكر غير يوسف لم يولد له إلا غلامان.(44).
وقد تصدى الكثير من العلماء لتفنيد هذه الأقوال ومن أجمع ما قيل في الرد عليها قول ابن حزم في الملل والنحل حيث قال : " قوله : " همت به وهم بها " فليس كما ظن بعض من لم يمعن النظر من المتأخرين، فقال : إنه قعد منها مقعد الرجل من امرأته ، معاذ الله أن يظن هذا برجل من صالحي المسلمين أو مستوريهم ، فكيف برسول من رسل الله صلى الله عليهم وسلم .
فإن قيل : إن هذا قد روي عن ابن عباس من طرق جيدة ، قلنا نعم ولا حجة في قول أحد إلا فيما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط ، وال
وهم في تلك الرواية إنما هي بلا شك عمن دونه ، أو لعل الحبر لم يقطع بذلك ، إنما أخذه عمن لا يدري من هو ، ولا شك في أنه شيء سمعه فذكره ، لأنه رضي الله عنه لم يحضر ذلك ، ولا ذكره عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ومحال أن يقطع (رضي الله عنه) بما لا علم له به ولكن معنى الآية لا يعدو أن يكون أحد وجهين:
-إما أنه هم بالايقاع بها وضربها كما قال تعالى : " وهمت كل أمة برسولها ليأخذوه"(45). لكنه عليه السلام امتنع من ذلك ببرهان أراه الله إياه استغنى به عن ضربها وعلم أن الفرار أجدى له وأظهر لبراءته على ما ظهر بعد ذلك من حكم الشاهد.
-وإما أن الكلام قد تم عند قوله:" ولقد همت به " ثم ابتدأ الله تعالى خبرا آخر فقال:" وهم بها " لولا أن رأى برهان ربه، وهذا ظاهر الآية بلا تكلف تأويل .(46).
وقال الشنقيطي رحمه الله في تفسيره بعد أن ساق هذه الروايات وغيرها : " الظاهر الغالب على الظن المزاحم لليقين أنه إنما تلقاه عن اسرائيليات لأنه لا مجال للرأي فيها ولم يرفع منه قليل ولا كثير إليه صلى الله عليه وسلم وبهذا نعلم أن لا ينبغي التجرؤ على القول في نبي الله يوسف بأنه جلس بين رجلي كافرة أجنبية يريد أن يزني بها اعتمادا على مثل هذه الروايات..(47). ثم شرح أوجه براءة يوسف عليه السلام.
وبين الشيخ العدوي بأن ما قاله يوسف من عبارات جافة لامرأة العزيز تدل على نفرته من المعصية وبين أن نبي الله منزه عما شحنت به بعض كتب التفسير مما لا يليق بمن أعده الله لأن يكون رسولا وهيأه ليتولى زعامة أمة في دينها وخلُقها.(48).
وقال الطباطبائي بعد أن ذكر أن ما روي عن يوسف من جلوس وغيره إنما هو إسرائيليات لا تسلم"ولو وجدت من يوسف أدنى زلة لنعيت عليه وذكرت توبته واستغفاره كما نعيت على آدم زلته وعلى داود وعلى نوح وعلى أيوب وعلى ذي النون وذكرت توبتهم واستغفارهم كيف وقد أثنى الله عليه وسماه مخلصا.(49).
ويكفي في براءته أن شهود براءته كثيرون ، فالله تعالى يشهد بذلك إذ يقول : " إنه من عبادنا الصالحين"والشاهد الذي شهد من أهلها والعزيز يقولان : " إنه من كيدكن "وامرأة العزيز تقول : " أنا راودته عن نفسه " والنسوة إذ قلن:"حاش لله ما علمنا عليه من سوء"ويوسف ينفي ذلك عن نفسه وقد سماه صديقا.(50).
أما ابن العربي المعافري فقال : " قد بينا في السالف من كتابنا وفي غير موضع عصمة الأنبياء صلوات الله عليهم من الذنوب ، وحققنا القول فيما نسب إليهم من ذلك ، وعهدنا إليكم عهدا لن تجدوا له ردا،وأن أحدا لا ينبغي أن يذكر نبيا إلا بما ذكره الله لا يزيد عليه ، فإن أخبارهم مروية وأحاديثهم منقولة بزيادات تولاها أحد رجلين : إما غبي عن مقدارهم ، وإما بدعي لا رأي له في برهم ووقارهم ، فيدس تحت المقال المطلق الدواهي ولا يراعي الأدلة والنواهي، وكذلك قال الله تعالى : " نحن نقص عليك أحسن القصص "يوسف:3،اي أصدقه على أحد التأويلات وهي كثيرة بيناها في أمالي أنوار الفجر.".(51)..
وقال أيضا : "...فما تعرض لامرأة العزيز ولا أناب الى المراودة ، بل أدبر عنها وفر منها،حكمة خص بها، وعملا بمقتضى ما علمه الله سبحانه ، وهذا يطمس وجوه الجهلة من الناس ، والغفلة من العلماء في نسبتهم إليه مالا يليق به، وأقل ما اقتحموه من ذلك أن هتك السراويل وهم بالفتك فيما رأوه من تأويل ، وحاش لله ما علمت عليه من سوء ، بل أبرئه مما برأه منه ، فقال : " ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما"....فما لهؤلاء المفسرين لا يكادون يفهمون حديثا ويقولون:فعل وفعل ، والله إنما قال :هم بها ، لا أقالهم الله ولا أقاتهم ولا عالهم"(52).
هذا نموذج مما ورد من روايات اسرائيلية أثناء الحديث عن قصص الأنبياء ولو شئنا تتبعها كلها لكانت لوحدها بحثا ضافيا وغنيا ،ولكن بحسبي الاشارة والتنبيه ، وإلا فما ورد في قصة أبينا آدم وهو في الجنة وخروجه منها وقصة نبي الله نوح والخرافات التي حيكت حول دعوته وسفينته ورحلته ، ونبي الله ايوب وما نمقه القصاص حول ابتلائه ، ولا ننسى نبينا محمد وما حيك من ترهات حول زواجه بزينب رضي الله عنها،وحول نطقه بألفاظ الكفر وهلم جرا من التفسيرات والخرافات التي يجب الحذر والتحذير منها..
 
وهو المثال الذي أختم به هذا المبحث لتعلقه بنبينا محمد (صلى الله عليه وسلم ) ورسالته المنزلة.
-ففي تفسير قوله تعالى : " وما أرسلنا قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ ما يلقي الشيطان ثم يحكم آياته والله عليم حكيم " (53)..فقد أورد الطبري رواية عن ابن عباس في الموضوع،بسند من طريق العوفي الذي تكلم فيه العلماء (54) ، كما نقله السيوطي عن البزار وابن مردويه والضياء في المختارة ويقول السيوطي : بسند رجاله ثقات من طريق سعيد بن جبير ، وايضا نقله عن ابن جرير وابن مردويه من طريق العوفي ، وعن ابن مردويه من طريق الكلبي والنص على الشكل التالي:
-حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي، قال : حدثني عمي ، قال: حدثني أبي عن ابيه،عن ابن عباس قوله (وما أرسلنا من قبلك من رسول الله ولا نبي إلا إذا تمنى القى الشيطان في امنيته) إلى قوله (والله عليم حكيم) وذلك ان نبي الله صلى الله عليه وسلم بينم اهو يصلي ، إذنزلت عليه قصة آلهة العرب ، فجعل يتلوها فسمعه المشركون ، فقالوا : إنا نسمعه يذكر آلهتنا بخير ، فدنوا منه ، فبينما هو يتلوها وهو يقول : أفرايتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى " ألقى الشيطان: إن تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى ، فجعل يتلوها ، فنزل جبريل عليه السلام ، فنسخها ثم قال : " وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته الى قوله : " والله عليم حكيم ".(55).
وهذا حديث خطير أورده أغلب المفسرين في تصانيفهم ، وبالتأكيد سيقرأه كل طالب علم ، وقد يسأل أهل العلم وقد لا يسأل ، وهنا تحصل الكارثة ويحصل التشكيك لدى طلبة العلم والقراء ، لا يزول إلا بتتبع أقوال العلماء في الموضوع.
قال القاضي عياض رحمه الله : " قال ابن عطية: هذا الحديث الذي فيه الغرانيق العلا ، وقع في كتب التفسير ونحوها ، ولم يدخله البخاري ومسلم ولا ذكره في علمي مصنف مشهور، بل يقتضي مذهب أهل الحديث أن الشيطان ألقى ، ولا يعينون هذا السبب ولا غيره ، ولا خلاف أن إلقاء الشيطان إنما هو لألفاظ مسموعة وقعت بها الفتنة ، ثم اختلف الناس في صورة هذا الالقاء ،...وإنما الأمر أن الشيطان نطق بلفظ أسمعه الكفار عند قوله النبي صلى الله عليه وسلم " أفرايتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى" وقرب صوته من صوت النبي حتى التبس الأمر على المشركين ، وقالوا : محمد قرأها ، وقد روي نحو هذا التأويل عن ابي المعالي ، وقيل: ألقى شيطان الانس كقول الله عز وجل : " والغوا فيه".(56).
وبعد أن ذكر القاضي عياض ( رحمه الله) الدليل على صدق النبي صلى الله عليه وسلم، وإجماع الأمة -فيما طريقه البلاغ-بعصمته من الاخبار عن شيء بخلاف ما هو عليه لا قصدا ولا عمدا سهوا أو غلط أضاف قائلا : " اعلم رحمك الله ، أن لنا في الكلام على مشكل هذا الحديث مأخذين :
أحدهما في توهين أصله ، والثاني على تسليمه.
أما المأخذ الأول : فيكفيك أن هذا الحديث لم يخرجه أحد من اهل الصحة، ولا رواه بسند صحيح سليم متصل ثقة ، وإنما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم.
قال ابو بكر البزار : وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبي (صلى الله عليه وسلم) بإسناد متصل إلا ما رواه شعبة عن ابي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فيما أحسب ، والشك في الحديث أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان بمكة وذكر القصة،ولم يسنده عن شعبة ، وإنما يعرف عن الكلبي عن ابي صالح عن ابن عباس ، فقد بين لك ابو بكر رحمه الله أنه لا يعرف من طريق يجوز ذكره سوى هذا ، وفيه من الضعيف ما نبه عليه من وقوع الشك فيه ، الذي ذكرناه الذي لا يوثق به ولا حقيقة معه ،.أما حديث الكلبي فما تجوز له الرواية عنه،ولا ذكره لقوة ضعفه وكذبه ، كما أشار إليه البزار رحمه الله . والذي منه في الصحيح أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قرأ " والنجم " بمكة فسجد المشركون وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والانس ،وهذا توهينه من طريق النقل.
أما المأخذ الثاني : فهو مبني على تسليم الحديث لو صح ، وقد أعاذنا الله من صحته ، ولكن على كل حال فقد أجاب أئمة المسلمين عنه بأجوبة منها الغث والسمين ، والذي يظهر على تسليمه أن النبي(صلى الله عليه وسلم) كما امره ربه يرتل القرآن ترتيلا ، ويفصل الآي تفصيلا في قراءته كما رواه الثقات عنه،فيمكن ترصد الشيطان لتلك السكتات ودسه فيما اختلقه من تلك الكلمات محاكيا نغمة النبي (صلى الله عليه وسلم) بحيث يسمعه من دنا إليه من الكفار ، فظنوها من قول النبي (صلى الله عليه وسلم) وأشاعوها ، ولم يقدح ذلك عند المسلمين لحفظ السورة قبل ذلك على ما أنزلها الله وتحققهم من حال النبي (صلى الله عليه وسلم) في ذم الأوثان وعيبها ما عرف منها.(57).
والطبري رحمه الله عندما ذكر هذه الرواية ، ذكر لها روايات كثيرة كلها باطلة لا أصل لها ، (58). فصوب على المرمى وقرطس ، ولو شاء الله ما ذكرت رواية واحدة ولا سطرت ، ولكن الله فعال لما يريد.
أما ابن كثير فقال : " ذكر كثير من المفسرين ههنا قصة الغرانيق ،..,ولكنها من طريق مرسلة ، ولم أرها مسندة من وجه صحيح ، والله أعلم.ونقل أيضا كلام القاضي عياض في الموضوع.(59).
قال القاضي: " فاعلم أن للناس في معنى هذه الاية أقاويل منها السهل والوعث ، والسمين والغث ، وأولى ما يقال فيها ما عليه الجمهور من المفسرين، أن التمني هاهنا التلاوة ، وإلقاء الشيطان فيها شغله بخواطر وأذكار من أمور الدنيا للتالي حتى يدخل عليه الوهم ، والنسيان فيما تلاه ، أو يدخل غير ذلك على أفهام السامعين من التحريف وسوء التأويل ما يزيله الله سبحانه ويكشف لبسه ، ويحكم آياته.(60).

وبعد ، فهذه بعض التصحيحات لما يمكن أن يطلع عليه شبابنا في كتب التفسير ، وخصوصا ما يمكن أن يصبح عائقا في حسن فهمهم وربما تدينهم بسبب الشبهات التي تقدمها النصوص التفسيرية لأحاديث الأنبياء ، ومثل هذا المبحث يجب أن يقدم لكل التفسير وكل كتب التراث الاسلامي ، عسى أن يخرج دخنه وتزول علله فتصبح الكتب في متناول كل دارس دون أن يخشى على نفسه وعقله من تلك الترهات الفكرية التي تتشوف إليها العقول ، ولكنها قد تخربها في بعض الأحيان.
 
مدرسة مكة

مدرسة مكة

بارك الله بالدكتور أحمد على هذا البحث القيم . واشكره على استحداث هذا المصطلح(مدرسة مكة للتفسير) ولكن يا دكتور وكما تعلم بأن أي مدرسة من المدارس سواء كانت فكرية او نحوية أو تفسيرية كما استحدثتم لا بد لها من ميزات تميزها عن غيرها. فمثلاً بالنسبة للمدارس النحوية فإن مدرسة الكوفة تختلف عن البصرة وتتميز عنها من ناحية بعض الإعراب أو طريقة الإملاء أو الاختلاف على الهمز والى غير ذلك من اختلافات. أي أن المدرسة يجب أن تتميز عن غيرها من المدارس التي تحمل نفس الموضوع . والسؤال الآن بما أن حضرتكم قد استحدثتم هذا الإصطلاح. : ما هو الذي يميز المدرسة المكية عن غيرها من المدارس التفسيرية ؟ بل قل أولاً ما هي المدارس التفسيرية الأخرى غير المدرسة المكيّة؟. وهل المدرسة المكية التي تتكلمون عنها هي المدرسة القديمة في فترة ما بعد الوحي والتابعين فقط؟ أم أنها تحوي كل من سكن مكة من المفسرين الى يومنا هذا؟؟ .وبماذا تتميز مدرسة مكة عن غيرها من ناحية الأخذ من الإسرائيليات؟؟ مع ذكر تميز المدارس الأخرى لو تكرمتم . وبارك الله تعالى بكم .
 
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الدكتور الفاضل أحمد العمراني..حفظك الله.
المجال هنا في الملتقى مجال مناقشات علمية ، ولعل صدرك يسع ما سأقوله، ولا يكن في الخلاف في الرأي خلاف للود .
إن موقف الصحابة رضي الله عنهم والتابعين من الإسرائيليات واضح وسهل جدا. وعلى موقفهم هذا سار السلف من بعدهم ولم يكن هناك أي إشكال في الرواية عن بني إسرائيل ، فقد جاء الحديث الصريح بجواز التحديث عنهم، فما علمنا صدقه صدقناه، وما علمنا كذبه كذبناه، وما لم نعلم صدقه أو كذبه سكتنا عنه.
ولو تأملتَ - حديثك حفظك الله - وجدته مبنياً على أحكام وتصورات سابقة لا على الآثار التي اعتمدت عليها أو على غيرها مما هو موجود في كتب الآثار ؛ فليس في تلك الآثار ما يدل على قولك:
"ولعله من الأسباب الطبيعية التي دفعت الصحابة الكرام ليتعاملوا مع أهل الكتاب تلك الحركة الأولى في تفسير القرآن التي كانت تعتمد على النقل، وليس ثمة مجال للعمل الفكري الذي ينفي ويثبت، وإنما الأمر مرده الى الرواية المحضة"
فمعلوم أن الصحابة والتابعين كانوا يجتهدون ، وكان هناك مجال كبير للعمل الفكري ، والآثار التي تدل على اجتهاد الصحابة والتابعين كثيرة جدا.
أو على قولك عن ابن عباس رضي الله عنه وتلاميذه" هذه هي حقيقة موقف ابن عباس من أهل الكتاب ، وهو إذا كان يدعو الى تجنب الرجوع الى اهل الكتاب ، فبسبب ما أدخل من فساد على عقول العامة ، أما العلماء فإن معهم من الأسباب ما يجعلهم يقفون طويلا قبل أن يصدقوا ما يلقى إليهم من قول.
وعلى نهج الحبر ابن عباس سار تلاميذه الكبار الذين شكلوا معه مدرسة التفسير ، وخصوصا سعيد بن جبير ومجاهد بن جبر وعكرمة مولى ابن عباس، وطاوس بن كيسان اليماني وعطاء بن أبي رباح ، وأضافوا بما حصلوا عليه من معارف شيوخهم ، وبما استزادوه من معارف عصرهم وبيئتهم ما لم يحصل أو لم يكن موجودا في عصر السابقين" فلم أجد في الآثار التي ذكرتها نتيجة تؤدي إلى هذا الاستدلال الذي توصلت إليه. ولو ذكرت لنا أمثلة تدل على أن أنهم فرقوا في في الحكم في جواز الأخذ عن بني إسرائيل على حسب المتلقي.
وقولك عن مجاهد"فبالرجوع الى النصوص المروية عنه في هذا المجال نجده فعلا قد أكثر وخالف المبدأ الشرعي للحديث المحذر " لا تصدقوهم ولا تكذبوهم " إذ كثيرا ما يروي عنهم أحاديث في الأنبياء وقصصا عنهم لا تجوز في حقهم وحق عصمتهم ، ومهما التمسنا له من مبررات للأخذ من أهل الكتاب وحصرنا الروايات القليلة التي رويت عنه في هذا المجال ، فإن المبدأ يبقى هو المبدأ والمنهج ذاته غير مقبول في رواية تلك الأخبار حتى ولو كان خبرا واحدا"
فأخالفك – حفظك الله - في قولك هذا ، فليس في الآثار ما يدل على أن مجاهد خالف هذا الحديث ، بل كان عمله موافق لهذا الدليل ولغيره، كقوله صلى الله عليه وسلم"حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج"
وهذه الأحاديث الإسرائيلية كما هو معلوم لديك تذكر للاستشهاد لا للاعتقاد،كما قال ابن تيمية رحمه الله ، وكما بيّن في مقدمته أنها على ثلاثة أقسام :
أحدها : ما علمنا صحته مما بأيدينا مما يشهد له بالصدق فذاك صحيح .
والثاني : ما علمنا كذبه بما عندنا مما يخالفه .
والثالث : ما هو مسكوت عنه لا من هذا القبيل ولا من هذا القبيل، فلا نؤمن به ولا نكذبه وتجوز حكايته؛ لما تقدم . وغالب ذلك مما لا فائدة فيه تعود إلى أمر ديني؛ ولهذا يختلف علماء أهل الكتاب في مثل هذا كثيرًا . ويأتي عن المفسرين خلاف بسبب ذلك، كما يذكرون في مثل هذا أسماء أصحاب الكهف، ولون كلبهم، وعدتهم، وعصا موسي من أي الشجر كانت، وأسماء الطيور التي أحياها اللّه لإبراهيم، وتعيين البعض الذي ضرب به القتيل من البقرة، ونوع الشجرة التي كلم اللّه منها موسى، إلى غير ذلك مما أبهمه اللّه في القرآن، مما لا فائدة في تعيينه تعود على المكلفين في دنياهم ولا دينهم، ولكن نقل الخلاف عنهم في ذلك جائز، كما قال تعالى : { سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاء ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا } [ الكهف : 22 ] .
فقد اشتملت هذه الآية الكريمة على الأدب في هذا المقام، وتعليم ما ينبغي في مثل هذا؛ فإنه تعالى أخبر عنهم بثلاثة أقوال، ضعف القولين الأولين، وسكت عن الثالث، فدل على صحته؛ إذ لو كان باطلاً لرده كما ردهما، ثم أرشد إلى أن الاطلاع على عدتهم لا طائل تحته، فيقال في مثل هذا : { قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم } فإنه ما يعلم بذلك إلا قليل من الناس ممن أطلعه اللّه عليه؛ فلهذا قال : { فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاء ظَاهِرًا } أي : لا تجهد نفسك فيما لا طائل تحته، ولا تسألهم عن ذلك؛ فإنهم لا يعلمون من ذلك إلا رجْم الغيب .
فهذا أحسن ما يكون في حكاية الخلاف؛ أن تستوعب الأقوال في ذلك المقام،وأن ينبه على الصحيح منها، ويبطل الباطل، وتذكر فائدة الخلاف وثمرته؛ لئلا يطول النزاع والخلاف فيما لا فائدة تحته، فيشتغل به عن الأهم . فأما من حكى خلافًا في مسألة ولم يستوعب أقوال الناس فيها فهو ناقص؛ إذ قد يكون الصواب في الذي تركه أو يحكى الخلاف ويطلقه، ولا ينبه على الصحيح من الأقوال فهو ناقص أيضًا . فإن صحح غير الصحيح عامدًا فقد تعمد الكذب، أو جاهلا فقد أخطأ، كذلك من نصب الخلاف فيما لا فائدة تحته أو حكى أقوالاً متعددة لفظًا، و يرجع حاصلها إلى قول أو قولين معنى فقد ضيع الزمان، وتكثر بما ليس بصحيح فهو كلابس ثوبي زور . واللّه الموفق للصواب " أنظر: مجموع فتاوى ابن تيمية (التفسير) (ج 2 / ص 313-315).
فالأمر يسير – حفظك الله - ولا يحمل أن المرء " يخشى على نفسه وعقله من تلك الترهات الفكرية التي تتشوف إليها العقول ، ولكنها قد تخربها في بعض الأحيان"فلم نعهد أن الحديث عن بني إسرائيل كان له أثر سلبي على عقيدة أو أفكار المسلمين يوماً ما.
هذه ملاحظات سريعة على مقالك، ليتسع لها صدرك ، وليتك – رعاك المولى – تطلع على مقدمة ابن تيمية مع شرح الشيخ مساعد الطيار، وكذلك كتابه: مقالات في علوم القرآن وأصول التفسير ، وهي موجودة في الملتقى على الرابط:http://vb.tafsir.net/showthread.php?t=19163
ففيها نفائس ودرر.
وأستغفر الله الذي لا إله إلا هو وأتوب إليه.
 
بسم الله الرحمن الرحيم ، و الصلاة و السلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين .
الأخ الفاضل الأستالذ الدكتور أحمد العمراني ـ حفظه الله ـ
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته .
سعيد بتجديد اللقاء معكم على هذا الموقع المبارك ، في هذا الشهر المبارك.
جزاكم الله خيرا .
و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته.
 
الدكتور أحمد العمراني
حياكم الله في الملتقى ، وبارك الله لكم في بحوثكم .
وهذا البحث مما وقع فيه نزاع ظاهر ، وكم أتمنى أن تتأملوا بعض ما وصلتم إليه ، وبعض المصطلحات التي استخدمتموها .
1 ـ أرجو أن تتأمل عبارة : (وهي روايات مطعون في أسانيد بعضها ، وما صح منها أدرج ضمن ما سمح به ابن عباس لنفسه،وفهمه من التوجيهات النبوية ، وما كان غير ذلك فهو مدسوس عليه أو ضعيف من حيث السند أو المتن)
إن عبارة ( مدسوس عليه ) كلمة خطيرة ، فهل خفي هذا المدسوس على الطبري وابن عطية وابن كثير والخازن وغيرهم ؟!
وكيف نعرف أنه مدسوس عليه ، وهون ثابت عنه ؟!
2 ـ وأرجو أن تتأمل هذه الجملة : (والوهم في تلك الرواية إنما هي بلا شك عمن دونه ، أو لعل الحبر لم يقطع بذلك ، إنما أخذه عمن لا يدري من هو ، ولا شك في أنه شيء سمعه فذكره ، لأنه رضي الله عنه لم يحضر ذلك ، ولا ذكره عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ومحال أن يقطع (رضي الله عنه) بما لا علم له به) .
كيف حصل لكم الجزم بأن الوهم هو عمن دونه؟
ثم هل هذه الاحتمالات تكفي في ردِّ الثابت عنه؟!
وكيف يُتَّهم الحبر بأنه أخذ عمن لا يدري من هو؟!
3 ـ لا حقيقة لوجود مدارس تفسيرية بين السلف ، فهم مدرسة واحدة ، وأصولها واحده ، ومنهجها واحد ، وأرجو أنتتأمل هذا ، فهم مدرسة واحدة أمام غيرهم من أهل البدع من الرافضة والمعتزلة وغيرهم ممن يخالفهم في الأصول .
إن الموضوع بحاجة إلى إعادة نظر ، وأتمنى أن يتسع صدركم لهذا .
وأسأل الله أن ينفعني وإياكم بالعلم النافع والعمل الصالح .
 
التعديل الأخير:
الاخوة الأفاضل ، السلام عليكم ورحمة الله
أشكركم على قراءة الموضوع ، ثم أشكركم على ما أبديتموه من ملاحظات علمية ، واعذروني إن لم أجبكم الآن ، لأنكم طلبتم مني بحوثا وليس ردودا وأجوبة ، وأعدكم أني سأجيبكم قريبا عما طلبتم بعد توفير بعض الوقت لذلك ، وإن كنت سأختلف مع إخوة عقبوا على ما خطت يدي ، والخلاف لا يفسد للود قضية ، وكل كلام يؤخذ منه ويرد إلا كلام الوحي الصادق ، وشكرا لكم مرة أخرى والسلام عليكم وحرمة الله وبركاته.
كما أشكر الإخوة الذين رحبوا بي ، وعلى رأسهم الأستاذ عبد الرحمان الشهري ، والأستاذ أحمد بزوي ، والأستاذ مساعد الطيار،والأستاذ الفجر الباسم،والأستاذ تيسير الغول،والأستاذ عطاء الله الأزهري ، وكل الاخوة الأفاضل جزاهم الله خيرا.
محبكم د/ أحمد العمراني.
 
حياكم الله يادكتور أحمد مرة أخرى ، وقولكم : (والخلاف لا يفسد للود قضية ، وكل كلام يؤخذ منه ويرد إلا كلام الوحي الصادق ) هي من أصول الملتقى التي يقوم عليها ، وأرجو أن يستمر على ذلك ، وحياكم الله مرة أخرى .
 
الاخوة الأفاضل ، السلام عليكم ورحمة الله
أشكركم على قراءة الموضوع ، ثم أشكركم على ما أبديتموه من ملاحظات علمية ، واعذروني إن لم أجبكم الآن ، لأنكم طلبتم مني بحوثا وليس ردودا وأجوبة ، وأعدكم أني سأجيبكم قريبا عما طلبتم بعد توفير بعض الوقت لذلك ، وإن كنت سأختلف مع إخوة عقبوا على ما خطت يدي ، والخلاف لا يفسد للود قضية ، وكل كلام يؤخذ منه ويرد إلا كلام الوحي الصادق ، وشكرا لكم مرة أخرى والسلام عليكم وحرمة الله وبركاته.
كما أشكر الإخوة الذين رحبوا بي ، وعلى رأسهم الأستاذ عبد الرحمان الشهري ، والأستاذ أحمد بزوي ، والأستاذ مساعد الطيار،والأستاذ الفجر الباسم،والأستاذ تيسير الغول،والأستاذ عطاء الله الأزهري ، وكل الاخوة الأفاضل جزاهم الله خيرا.
محبكم د/ أحمد العمراني.
نعم أخي الفاضل لقد شكرتك من كل قلبي وما زلت شاكراً لك ولكني أيضاً سألت مجموعة من الأسئلة حول ما استحدثتم من من مصطلح (مدرسة مكة ) أرجو التكرم ببيان ذلك رغم أن الدكتور مساعد أثار هذه النقطة بطريقة النفي لها . ولكني ما زلت متسائلاً أنتظر الإجابة الوافية . والسلام عليك
 
لا أريد أن انفي مصطلح المدرسة التفسيرية ولكنه على الأقل مصطلح غير دخيل فهناك وكما هو معلوم مدارس للفقه والحديث وكلها تتبع لأهل السنة والجماعة لا ينازعها أحد بذلك. فما الذي يمنع أن يكون هناك مدارس للتفسير ؟ وهل أهل الظاهر في نهجهم الظاهري إلا نموذجاً للمدارس التفسيرية ؟؟ لا أريد أن أتعجل ولن أتدخل في بحث الدكتور أحمد ولكني متأكد أن لديه ما سيقوله إزاء ذلك . والسلام
 
الاخوة الأفاضل ، والله إن مداخلاتكم وأسئلتكم لثثلج الصدر ، وليت شملنا يجتمع مرة أخرى بالمغرب ، ونخصص منه وقتا للحديث عن العلم الشرعي ومستقبل البحث فيه .
بالنسبة للحديث عن مدارس التفسير ، فقد أعددت رسالة دكتوراة حول موضوع :" مدرسة مكة في التفسير ، جمع وتحقيق ودراسة ، وهي قيد الطبع وستصدر قريبا إن شاء الله عن دار السلام بمصر ، كما أعد أحد الأساتذة الزملاء هنا بالجديدة رسالة دكتوراة حولا موضوع :" مدرسة المدينة في التفسير ".
وأقصد بمدرسة مكة في التفسير :
ما روي من نصوص تفسيرية مسندة كانت أو غير مسندة عن جهابذة أعلام هذه المدرسة أسهموا في تشكيلها بناء ومسارا، وكذلك نصوص الذين تتلمذوا وجلسوا الى شيوخها يأخذون من معينهم الفياض وزادهم المعرفي .قال فيهم ابن تيمية :" أعلم الناس بالتفسير أهل مكة، لأنهم أصحاب ابن عباس كمجاهد وعطاء وعكرمة وطاوس وسعيد بن جبير وغيرهم."[1]
ولقد كان من أثر العناية بالقرآن الكريم والاشتغال به أن تكونت في الأمصار المختلفة مدارس للتفسير، مدرسة مكة ومدرسة المدينة ومدرسة الكوفة، تضاف إليها مدرستان أخريتان هما البصرة والشام،[1] كما أضاف السخاوي[2] مدرسة مصر واليمن والاندلس.
ولعل هذا التقسيم أدق ويعطي فرصة أكبر في دراسة كل مدرسة، ولكل مدرسة من هذه المدارس علماؤها ولها خصائصها ومميزاتها، وأساتذة هذه المدارس من الصحابة الذين مهروا في التفسير وبلغوا فيه شأوا بعيدا، وتلاميذها من أجلة التابعين وأئمتهم.
حيث تعد هذه المدارس اللبنة الأولى في بناء علم التفسير الذي صار فيما بعد قصرا شامخ الذرى ثابت الاركان، وبحسبي أن أشير ولو بإيجاز الى هذه المدارس ولو في سطور قد لا تشفي وإن كانت تغري الباحثين لمزيد من البحث عنها وعن كنوزها.
-مدرسة مكة:
قال فيها ابن تيمية:" وأما التفسير فإن أعلم الناس به أهل مكة لأنهم اصحاب ابن عباس. [1]
-مدرسة المدينة:
تواجد بها أغلب الصحابة مثل عمر وعلي بن ابي طالب وزيد بن ثابت وابن عمر، وجل اعتمادهم كان على الرواية .حيث كان العلم بالمدينة وافرا، ووجوهها من التابعين هم: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وعطاء بن يسار، وابن شهاب الزهري، وعمر بن عبد العزيز، وأبو العالية الرياحي، ومحمد بن كعب القرظي. [2]
-مدرسة الكوفة: أو مدرسة العراق، نزلها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم مثل علي وعمار وابن مسعود، ومن أبرز أعلامها في التفسير سعيد بن جبير (وإن صنف في مدرسة مكة) وزر بن حبيش والنخعي، ومسروق بن الأجدع ، وعلقمة بن قيس، والأسود بن يزيد، والأعمش. [3]
-مدرسة البصرة: منافسة الكوفة في كل الفنون، نزلها من الصحابة أبو موسى الأشعري، وعمران بن حصين، وابن عباس، وعدة من الصحابة، كان خاتمتهم أنس بن مالك، ومن أعيانها المبرزين: الحسن البصري وابن سيرين وقتادة وأيوب السختياني وحماد بن سلمة، وحماد بن زيد. [4]
-مدرسة الشام:
نزل بها عدة من الصحابة منهم: ابو الدرداء، وعبادة ، أرسلهم عمر بن الخطاب لتعليم الناس القرآن، وكذا تميم الداري أول قاص .
وقد كثر العلم بها زمن معاوية ومن بعده، وما توقف العلم بها زمن التابعين وتابعيهم، ولكنها لم تحظ بالعناية اللازمة من الدارسين والمهتمين ، وممن تخرج منها من التابعين؛ ابو ادرس الخولاني ، ومكحول الدمشقي، وعمر بن عبد العزيز، والأوزاعي وغيرهم. [5]
-مدرسة مصر:
بدأت تأخذ مكانتها ودورها منذ زمن عمر، سكنها خلق من الصحابة، مثل: عمرو بن العاص، وعبد بن عمرو، ومعاوية بن خديج، ومسلمة بن خالد، وكثر بها العلم زمن التابعين. [6]
-مدرسة اليمن:
تم الاتصال بها زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد وفد إليها معاذ وعلي ، ومنها أبو هريرة وأبو موسى الاشعري. [7]
-المدرسة الأندلسية :
تأخرت عن المدارس السابقة في الظهور لتأخر فتحها الى زمن التابعين.

هذه إذن هي النشأة، وتلك هي المدارس التي أسهمت في بناء الذات بآثارها المشتتة-مع الأسف الشديد-في بطون الكتب ، ولعل أهمها على الاطلاق" مدرسة مكة " التي شكلت بأعلامها الجهابذة وما روي عنهم من نصوص ، تراثا عز نظيره وقل مثيله .


ــ الحواشي ـــ
[1] -مقدمة ابن تيمية :ص:61.
[2] -مفتاح السعادة :2/20، وتفسير الثوري:ص:7، والاعلان بالتوبيخ :ص:291، وفجر الاسلام:ص:174، والتفسير والمفسرون للذهي:1/114، ودراسات في التفسير :ص:184.
[3] -مفتاح السعادة :2/24، والاعلان بالتوبيخ :ص:295، وضحى الاسلام:2/139، ودراسات في التفسير :ص:75.
[4] -الاعلان بالتوبيخ :ص:294، وفجر الاسلام:ص:189.
[5] -الاعلان بالتوبيخ :ص:296.
[6] -الاتقان :4/204.
[7] -انظر كشف الظنون:1/426.
[1] -الاعلان بالتوبيخ ص:292.
[2] -مفتاح السعادة لطاش كبرى زادة :2/24، والاسرائيليات لأبي شبة :ص:92.
[1]- مقدمة في أصول التفسير لابن تيمية:ص:61.
 
شكر الله لك دكتور أحمد
في الحقيقة أنا أعجب من اعتراض بعض الأخوة على التسمية " مدرسة مكة"
ولقد سبق الذهبي صاحب "التفسير والمفسرون" إلى هذه التسمية فقال في كتابه:
الفصل الأول: ابتداء هذه المرحلة، ومصادر التفسير فى عصر التابعين، ومدارس التفسير التى قامت فيه

تنتهى المرحلة الأولى للتفسير بانصرام عهد الصحابة، وتبدأ المرحلة الثانية للتفسير من عصر التابعين الذين تتلمذوا للصحابة فتلقوا غالب معلوماتهم عنه.
وكما اشتهر بعض أعلام الصحابة بالتفسير والرجوع إليهم فى استجلاء بعض ما خفى من كتاب الله، اشتهر أيضاً بالتفسير أعلام من التابعين، تكلَّموا فى التفسير، ووضَّحوا لمعاصريهم خفى معانيه.

ثم قال:
مدارس التفسير التى قامت فيه
* مدارس التفسير فى عصر التابعين:
فتح الله على المسلمين كثيراً من بلادهم العالَم فى حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفى عهود الخلفاء من بعده، ولم يستقروا جميعاً فى بلد واحد من بلاد المسلمين، بل نأى الكثير منهم عن المدينة مشرق النور الإسلامى ثم استقر بهم النوى، موزَّعين على جميع البلاد التى دخلها الإسلام، وكان منهم الولاة، ومنهم الوزراء، ومنهم القضاة، ومنهم المعلِّمون، ومنهم غير ذلك.
وقد حمل هؤلاء معهم إلى هذه البلاد التى رحلوا إليها، ما وعوه من العلم، وما حفظوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلس إليهم كثير من التابعين يأخذون العلم عنهم، وينقلونه لمن بعدهم، فقامت فى هذه الأمصار المختلفة مدارس علمية، أساتذتها الصحابة، وتلاميذها التابعون.
واشتهر بعض هذه المدارس بالتفسير، وتتلمذ فيها كثير من التابعين لمشاهير المفسِّرين من الصحابة، فقامت مدرسة للتفسير بمكة، وأخرى بالمدينة، وثالثة بالعراق، وهذه المدارس الثلاث، هى أشهر مدارس التفسير فى الأمصار فى هذا العهد.
قال ابن تيمية: "وأما التفسير فأعلم الناس به أهل مكة، لأنهم أصحاب ابن عباس كمجاهد، وعطاء بن أبى رباح، وعكرمة مولى ابن عباس، وغيرهم من أصحاب ابن عباس، كطاووس، وأبى الشعثاء، وسعيد بن جبير وأمثالهم. وكذلك أهل الكوفة من أصحاب ابن مسعود، ومن ذلك ما تميزَّوا به عن غيرهم، وعلماء أهل المدينة فى التفسير، مثل زيد بن أسلم، الذى أخذ عنه مالك التفسير، وأخذ عنه أيضاً ابنه عبد الرحمن، وعبد الله بن وهب".
وأرى أن أتكلم عن كل مدرسة من هذه المدارس الثلاث، وعن أشهر المفسِّرين من التابعين الذين أخذوا التفسير عن أساتذة هذه المدارس من الصحابة، فأقول وبالله التوفيق:

أولاً: مدرسة التفسير بمكة
* قيامها على ابن عباس:
قامت مدرسة التفسير بمكة على عبد الله بن عباس رضى الله عنهما، فكان يجلس لأصحابه من التابعين، يُفسِّر لهم كتاب الله تعالى، ويوضح لهم ما أشكل من العناية، وكان تلاميذه يعون عنه ما يقول، ويروون لمن بعدهم ما سمعوه منه.
* *
* أشهر رجالها:
وقد اشتهر من تلاميذ ابن عباس بمكة: سعيد بن جبير، ومجاهد، وعكرمة مولى ابن عباس، وطاووس بن كيسان اليمانى، وعطاء بن أبى رباح.
وهؤلاء كلهم كانوا من الموالى، وهم يختلفون فى الرواية عن ابن عباس قِلَّة وكثرة، كما اختلف العلاء فى مقدار الثقة بهم والركون إليهم.
ونسوق الحديث عن كل واحد منهم، ليتضح لنا مكانته فى التفسير، ومقدار الاعتماد عليه فيه:

1 -
سعيد بن جبير

* ترجمته:
هو أبو محمد - أو أبو عبد الله - سعيد بن جبير بن هشام الأسدى الوالبى، مولاهم. كان حبشى الأصل، أسود اللون، أبيض الخصال. سمع جماعة من أئمة الصحابة. وروى عن ابن عباس، وابن مسعود، وغيرهما.
* مكانته فى التفسير:
كان رحمه الله من كبار التابعين ومتقدميهم فى التفسير والحديث والفقه، أخذ القراءة عن ابن عباس عرضاً، وسمع منه التفسير، وأكثر روايته عنه وقد جمع سعيد القراءات الثابتة عن الصحابة وكان يقرأ بها، يدلنا على ذلك ما جاء عن إسماعيل بن عبد الملك أنه قال: "كان سعيد بن جبير يؤمنا فى شهر رمضان فيقرأ ليلة بقراءة عبد الله بن مسعود، وليلة بقراءة زيد بن ثابت، وليلة بقراءة غيره، وهكذا أبداً"، ولا شك أن جمعه لهذه القراءات كان يعطيه القدرة على التوسع فى معرفة معانى القرآن وأسراره، ولكن يظهر لنا أنه كان يتورع من القول فى التفسير برأيه، يدلنا على ذلك ما رواه ابن خلكان: من أن رجلاً سأل سعيداً أن يكتب له تفسير القرآن فغضب وقال: لأن يسقط شقِّى أحب إلىَّ من ذلك. ولقد جمع سعيد علم أصحابه من التابعين، وألمَّ بما عندهم من النواحى التى برزوا فيها، فقد قال خصيف: "كان من أعلم التابعين بالطلاق سعيد بن المسيب. وبالحج عطاء، وبالحلال والحرام طاوووس، وبالتفسير أبو الحجاج مجاهد بن جبر، وأجمعهم لذلك كله سعيد بن جبير".
لهذا كله نجد أستاذه ابن عباس يثق بعلمه، ويحيل عليه مَن يستفتيه، وان يقول لأهل الكوفة إذا أتوه ليسألوه عن شئ: أليس فيكم ابن أم الدهماء؟ - يعنى سعيد بن جبير - ويروى عمرو بن ميمون عن أبيه أنه قال: لقد مات سعيد بن جبير وما على ظهر الأرض أحد إلا وهو محتاج إلى عمله. ويرى بعض العلماء أنه مُقدَّم على مجاهد وطاووس فى العلم، وكان قتادة يرى أنه أعلم التابعين بالتفسير.
هذا وقد وَثَّقَ علماء الجرح والتعديل سعيد بن جبير، فقال أبو القاسم الطبرى: هو ثقة، حُجَّة، إمام على المسلمين. وذكره
وقد قُتل فى شعبان سنة 95 هـ (خمس وتسعين من الهجرة)، وهو ابن تسع وأربعين سنة، قال أبو الشيخ: قتله الحجاج صبراً. وله مناظرة قبل قتله مع الحجاج، تدل على قوة يقينه، وثبات إيمانه، وثقته بالله، فرضى الله عنه وأرضاه.

ثم قال:
ثانياً: مدرسة التفسير بالمدينة
*قيامها على أُبَىّ بن كعب:
كان بالمدينة كثير من الصحابة، أقاموا بها ولم يتحوَّلوا عنها كما تحوَّل كثير منهم إلى غيرها من بلاد المسلمين، فجلسوا لأتباعهم يعلمونهم كتاب الله تعالى وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، فقامت بالمدينة مدرسة للتفسير، تتلمذ فيها كثير من التابعين لمشاهير المفسِّرين من الصحابة. ونستطيع أن نقول: إن قيام هذه المدرسة كان على أُبَى بن كعب، الذي يُعتبر بحق أشهر من تتلمذ له مفسِّرو التابعين بالمدينة، وذلك لشهرته أكثر من غيره فى التفسير، وكثرة ما نُقل لنا عنه فى ذلك.
* *
* أشهر رجالها:
وقد وُجِد بالمدينة فى هذا الوقت كثير من التابعين المعروفين بالتفسير، اشتهر من بينهم ثلاثة، هم: زيد بن أسلم، وأبو العالية، ومحمد بن كعب القرظى. وهؤلاء منهم مَن أخذ عن أُبَىّ مباشرة، ومنهم مَن أخذ عنه بالواسطة.
وأرى أن أسوق نبذة عن تاريخ كل واحد من هؤلاء الثلاثة، بما يتناسب مع جانبه العلمى فى التفسير فأقول:
1 -

أبو العالية

* ترجمته ومكانته فى التفسير:
هو أبو العالية رفيع بن مهران الرياحى مولاهم، أدرك الجاهلية، وأسلم بعد وفاة النبى صلى الله عليه وسلم بسنتين. روى عن علىّ، وابن مسعود، وابن عباس. وابن عمر، وأُبَىّ بن كعب، وغيرهم، وهو من ثقات التابعين المشهورين بالتفسير. قال فيه ابن معين، وأبو زرعة، وأبو حاتم: ثقة. وقال اللالكائى: مجمع على ثقته. وقال فيه العجلى: تابعى ثقة. من كبار التابعين. وقد أجمع عليه أصحاب الكتب الستة. وكان يحفظ القرآن ويتقنه، وروى قتادة عنه أنه قال: قرأت القرآن بعد وفاة نبيكم بعشر سنين. وروى معمر عن هشام عن حفصة عنه أنه قال: قرأت القرآن على عهد عمر ثلاث مرات. وقال فيه ابن أبى داود: ليس أحد بعد الصحابة أعلم بالقراءة من أبى العالية.
وتُروى عن أُبَىّ بن كعب نسخة كبيرة فى التفسير، يرويها أبو جعفر الرازى، عن الربيع بن أنس، عن أبى العالية، عن أُبَىّ. وقلنا فيما تقدم: إن هذا الإسناد صحيح، وقلنا أيضاً: إن ابن جرير وابن أبى حاتم أخرجا من هذه النسخة كثيراً، كما أخرج منها الحاكم فى مستدركه، والإمام أحمد فى مسنده. وكانت وفاته سنة 90 هـ (تسعين من الهجرة) على أرجح الأقوال فى ذلك.
* * *
ثم قال:
ثالثاً: مدرسة التفسير بالعراق
* قيامها على ابن مسعود:
قامت مدرسة التفسير بالعراق على عبد الله بن مسعود رضى الله عنه، وكان هناك غيره من الصحابة أخذ عنهم أهل العراق التفسير، غير أن عبد الله ابن مسعود كان يعتبر الأستاذ الأول لهذه المدرسة، نظراً لشهرته فى التفسير وكثرة المروى عنه فى ذلك، ولأن عمر رضى الله عنه لما وَلَّى عمار بن ياسر على الكوفة، سيَّر معه عبد الله بن مسعود مُعلِّماً ووزيراً، فكونه مُعلِّم أهل الكوفة بأمر أمير المؤمنين عمر، جعل الكوفيين يجلسون إليه، ويأخذون عنه أكثر مما يأخذون عن غيره من الصحابة.
ويمتاز أهل العراق بأنهم أهل الرأى. وهذه ظاهرة نجدها بكثرة فى مسائل الخلاف، ويقول العلماء: إن ابن مسعود هو الذى وضع الأساس لهذه الطريقة فى الاستدلال، ثم توارثها عنه علماء العراق، ومن الطبيعى أن تؤثر هذه الطريقة فى مدرسة التفسير، فيكثر تفسير بالرأى والاجتهاد، لأن استنباط مسائل الخلاف الشرعية، نتيجة من نتائج إعمال الرأى فى فهم نصوص القرآن والسُّنَّة.
* *
* أشهر رجالها:
وقد عُرِف بالتفسير من أهل العراق كثير من التابعين، اشتهر من بينهم علقمة بن قيس، ومسروق، والأسود بن يزيد، ومُرَّة الهمدانى، وعامر الشعبى، والحسن البصرى، وقتادة بن دعامة السدوسى، ونتكلم عن كل واحد من هؤلاء على الترتيب:

 
أشكر للدكتور أحمد ما اتحفنا به من فوائد وننتظر رسالته بعد طبعها للاستفادة منها . بارك الله في علمه .
وبخصوص نقطة الحوار في مدرسة مكة وغيرها للتفسير فأقول:
لابد من النظر في أمور :
- هل كان الصحابة والتابعون في تناولهم لأصول مسائل التفسير في مكة والمدينة يختلفون عن إخوانهم في الشام أو اليمن أو العراق ؟ وأعيد السؤال بصيغة أخرى: لو درس أحدٌ عند ابن مسعود ثم انتقل للتتلمذ على أبيّ بن كعب فهل سيجد التباين في المنهج والأصول؟
- هل استقلت كل مدرسة بأصولها التي سارت عليها وتبعها على ذلك أهل العلم في ذلك القُطْر أو العَصْر ؟
- أحسب أن الحوار يدور حول تخصيص الفترة الزمنية الأولى (القرون الثلاثة الأولى) بمدارس في التفسير، ولا يدخل ضمن النقاش ما جاء بعدهم في القرن الخامس والسادس مثلاً كمدرسة الأندلس وغيرها.

إن المتأمل في أعلام القرون المفضلة من الصحابة والتابعين وتابعيهم باختلاف البقاع التي قطنوها فمشربهم ومنطلقهم واحد من حيث الأصول وعليها بنوا تفريعاتهم، فمعالم تفسيرهم لآيات الكتاب العزيز واحدة وهم بذلك في مقابل المشارب المختلفة عن هديهم، ولا يعني هذا أنهم صبغة واحدة (كربونية) في كل ما يقولونه بل فهومهم واجتهاداتهم واهتماتهم العلمية متباينة، ولكن ذلك كله داخل دائرة واحدة في نهجهم التفسيري العام، وعليه فهم مدرسة واحدة وإن اختلفت بقاعهم التي نشروا فيها علومهم. وأما بعد مضي أصحاب القرون المفضلة (السلف الصالح) فقد يقع الخلاف في وجهات المفسرين . وهذا حديث آخر .

ولذا ففرق بين مدرستهم الواحدة في التفسير، والمدارس المختلفة في باقي العلوم كالمذاهب الفقهية أو المدراس النحوية، فإن المذهب الفقهي قد قام على أصول في استنباط الأحكام تخالف المذهب الآخر وعليه سار أبتاعه وانتسبوا له منذ النشأة وحتى الآن. كما أن المدارس النحوية لها معالمها التي سارت عليها وبَنَتْ مسائلها عليها وقام الخلاف بينهم في تفريعات بسبب الأصول التي بنوا عليها ذلك. وهذا ما لا نجده في منهج السلف الصالح في التفسير .
ولذلك لا يستطيع أحد أن ينتسب الآن إلى مدرسة التفسير في مكة بينما قد ينتسب إلى مذهب المالكية أو الظاهرية في الفقه ولا معترض عليه.

وما سبق لا يعني أن نسلب أهل كل بلد أبرز الصفات التي كانت في تفسيرهم، كما أنه لا يستلزم إثبات هذه الصفات أن نجعلها مدرسة مستقلة برأسها .

كما أنه قد تُسمَّى فترة ابن عباس رضي الله عنه وتلاميذه أصحب مدرسة مكة في التفسير، ولكن باعتبار إطلاق كلمة (مدرسة) بمعناها التعليمي بوجود شيخ وتلاميذ ثم يقوم التلاميذ بنشر علمه، لا بمعناها المنهجي المشير لاختلاف أصول هذه المدرسة عن غيرها من مدارس ذلك الزمن. والله أعلم،،
 
أشكر الدكتور أحمد العمراني على ما قدم .
ونحن لا نختلف في ما قاله شيخ الإسلام ، لكنه لم يسمها مدرسها ، ونسبها إلى المدينة التي يقطنها شيخ من شيوخ التفسير ، وكما تلاحظ فإنه لم يقسمهم إلى مدارس تتمايز في الأصول ، وهذا ملحظ مهم لا يخفى على مثلكم من أهل التحرير .
وأما أخي أبو سعد ، فهل تتوقع أنه يخفى علي ما قاله الذهبي في التفسير والمفسرون .
أقول لك : لقد أخطأ الذهبي في هذه التسمية ، وهو انطلق من كلام شيخ الإسلام ، وأعتمد مصطلح مدرسة ، وهل لأن الذهبي قال ، فإنه صواب ؟!
 
السلام عيكم ورحمة الله
والله ايها الاخوة إني لأغبط نفسي بوجودكم وحواركم ، وكأني أجالسكم على مائدة علمية ، نتحدث حول هذا الموضوع ، وكم تمنين لحظتي هاته لو عاد بي الزمن الى الوارء قليلا، وقدمت هذا الموضوع للنقاش معكم ، لاختزلت الوقت اختزالا بما ستجود به علي أفكاركم واقتراحاتكم ، ولكن لا ضير ، فالفائدة متى كانت أفادت ، فشكرا لكم على هذا الحوار العلمي الهام ، وأرجو الاطلاع على مقالي الاخر :" مدرسة مكة في التفسير بين الأثر والتأثير"، . وشكر الله لكم مرة أخرى .ورمضان مبارك سعيد .
 
وأما أخي أبو سعد ، فهل تتوقع أنه يخفى علي ما قاله الذهبي في التفسير والمفسرون .
أقول لك : لقد أخطأ الذهبي في هذه التسمية ، وهو انطلق من كلام شيخ الإسلام ، وأعتمد مصطلح مدرسة ، وهل لأن الذهبي قال ، فإنه صواب ؟!​

أعلم أنه لا يخفى عليك ما قاله الذهبي
ولا يلزم من تعدد المدارس الاختلاف فيما بينها
وإذا كان لا بد من الاختلاف حتى يصح هذا الإطلاق فلن نعدم بعض الفروق تميز بين المدارس الثلاث
وعلى أي حال لقد أعجبني كلام أخينا الفاضل حاتم القرشي:
ولذلك لا يستطيع أحد أن ينتسب الآن إلى مدرسة التفسير في مكة بينما قد ينتسب إلى مذهب المالكية أو الظاهرية في الفقه ولا معترض عليه.
وما سبق لا يعني أن نسلب أهل كل بلد أبرز الصفات التي كانت في تفسيرهم، كما أنه لا يستلزم إثبات هذه الصفات أن نجعلها مدرسة مستقلة برأسها .
كما أنه قد تُسمَّى فترة ابن عباس رضي الله عنه وتلاميذه أصحب مدرسة مكة في التفسير، ولكن باعتبار إطلاق كلمة (مدرسة) بمعناها التعليمي بوجود شيخ وتلاميذ ثم يقوم التلاميذ بنشر علمه، لا بمعناها المنهجي المشير لاختلاف أصول هذه المدرسة عن غيرها من مدارس ذلك الزمن. والله أعلم،،

 
أبا سعد غفر الله لك .
طريقة عرضك للموضوع يمكن قراتها بأنك ترى أنني أخطئ الدكتور أحمد بذاته ، وليس تخطئةً للفكرة ، فتأمل كلامك حفظك الله : (شكر الله لك دكتور أحمد . في الحقيقة أنا أعجب من اعتراض بعض الأخوة على التسمية " مدرسة مكة" ولقد سبق الذهبي صاحب "التفسير والمفسرون" إلى هذه التسمية فقال في كتابه) .
فأنا لم أعترض على الدكتور أحمد ـ حفظه الله ـ لذاته ، وإنما أعترض على هذا المصطلح ، وقد تكلمت في نقد هذا المصطلح قديمًا ، والمشاركة موجودة في الملتقى ، وهي في كتابي ( مقالات في علوم القرآن وأصول التفسير) ، ثم إن طريقة نقلك لما ذكره الذهبي بهذه الطريقة ليست حميدة في ملتقى متخصص يعرف أصحابه ما هو مرقوم عند الذهبي رحمه الله .
وقد تبع الذهبي آخرون من الأفاضل ، وهذا لا يمنع من وجود مشكلة في هذا المصطلح .
وأما بعض التمايز الذي يكون ضمن المنهج فتسميته ( مدرسة ) هذا فيه تزيُّد في المصطلحات ، ولسنا بحاجته .
ومن المشكلات في هذا المصطلح أنه بُني عليه معلومات يظنها الدارس فروقًا منهجية وأصولية ، وهي ليست كذلك ، ولك أن تطالع بعض الكتابات التي سارت على هذا المصطلح ، وكيف جعلت السلف مدارس في التفسير يتمايزون في الأصول ، والحقيقة أنهم ليسوا كذلك ، فأصولهم واحدة.
وكما قال أخي أحمد : الاختلاف لا يفسد للود قضية .
 
غفر الله لي ولك
أنا لم أقل إنك اعترضت على الدكتور أحمد لذاته ولا كلامي يوحي بذلك هذا ما أظنه أنا
وأما نقلي عن الذهبي بالطريقة التي نقلتُ ووصمتها أنت بأنها ليست حميدة فأقول:
ربما يحمدها غيرك من غير المتخصصين فحسب علمي ليس كل من يدخل إلى هذا الملتقى من المتخصصين بل إن كثير من الأعضاء ليسوا من أهل الاختصاص "ومع هذا هم من أنشط الأعضاء وأكثرهم بعثا للحياة في الملتقى وإثارة للمواضيع المفيدة".(مشاكسة رمضانية).
أما بخصوص التمايز فأمامنا موضوع مهم وهو الذي طرحه الدكتور أحمد: موقف "مدرسة" مكة من الروايات الإسرائيلية.
واطرح سؤالا بخصوص هذا الموضوع ولك أن تجيب عليه إن أحببت:
هل انفردت "مدرسة" بن عباس رضي الله عنهما بشيء في هذا الباب ميزها عن غيرها من "المدارس" ؟​
 
سؤال عن مدارس التفسير

سؤال عن مدارس التفسير

أنا أتفق مع الإخوة المشاركين في مسألة الإسرائيليات ، ولكن عندي استفسار حول ما يسمي بمدارس التفسير
"" قال شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ في (( مقدمة في أصول التفسير )) ؛
{{ وأما التفسير ، فان أعلم الناس به أهل مكة ؛ لأنهم أصحاب ابن عباس ؛ كمجاهد ، وعطاء بن أبى رباح ، وعكرمة مولى ابن عباس ، وغيرهم من أصحاب ابن عباس ؛ كطاووس ، وأبى الشعثاء ، وسعيد بن جبير وأمثالهم .
وكذلك أهل الكوفة من أصحاب ابن مسعود ، {{ومن ذلك ما تميزوا به على غيرهم }} ، وعلماء أهل المدينة في التفسير مثل زيد بن أسلم الذي أخذ عنه مالك التفسير ، وأخذه عنه أيضا ابنه عبدالرحمن ، وأخذه عن عبدالرحمن عبد الله بن وهب .""
أقول أليس من الممكن أن يقصد شيخ الإسلام بقوله { ومن ذلك ما تميزوا به علي غيرهم } ما قال عنه المتأخرون (( مدارس )) وأن كل مدرسة تميزت بأشياء لم تتميز به المدرسة الأخرى ،
كمنهج مختلف ـ وليس بالضرورة أن يكون متسعا ـ ككثرة الاستدلال بالسنة ، أو كثرة الربط بين الكتاب والسنة .........الخ ، مما هو من هذا الباب ، كاختصاص كل جماعة بالرواية عن واحد من الصحابة ، وتكون هذه ((مدارس)) أو ((مناهج)) تحت المنهج العام وهو السنة والأثر ، كما أن هناك مناهج مختلفة في تفاسير أهل السنة أنفسهم ، هذه مجرد وجهة نظر وليتفضل الإخوة بمراجعة هذا الرابط:
http://vb.tafsir.net/showthread.php?t=1430
 
بارك الله في طرحكم المفيد د. أحمد ، وبارك الله في جميع المداخلات العلمية القيمة التي أثارها علمائنا الأفاضل في هذه المشاركة ، وشيخنا د. مساعد أثار نقطة مهمة جدا وتحتاج إلى بسط ، وهي قضية مصطلح المدارس ، ولاشك أن التفسير تنوع في المدارس المختلفة المذكورة - تمشياً مع المصطلح السائد - مع اتفاقهم في الأصول وهي مصادر التفسير ، وتنوعهم في مميزات كل مدرسة وملامحها التي برزت بها ، ويظهر ذلك في توسعها في جانب دون جانب ، فلعل الشيخ يفصل لنا في هذا الجانب أكثر ، ويقترح لنا المصطلح البديل المناسب .
ومن باب إتمام الفائدة لهذا الموضوع ، أود أن أساهم بجزء من رسالتي عن ابن جريج ، وهو ممن يحسب على المدرسة المكية ، وممن أتهم بالإكثار من الاسرائيليات ، فأشير أولاً إلى ملامح المدرسة المكية - إن صحت التسمية - ، مع تخصيص الحديث عن ملامح تفسير أتباع التابعين ، الذي يعد ابن جريج منهم ، ثم أختم بقضية هل يعد ابن جريج من المكثرين من رواية الإسرائيليات ؟
وأسعد بمداخلاتكم ومناقشتكم الهادفة .
أولاً : مميزات المدرسة المكية في التفسير، وهي التي استفاد منها ابن جريج كثيراً، وأثرت في تكوين شخصيته العلمية، فكان له دور كبير في نشر تراث المدرسة المكية .
فمن أبرز ملامح المدرسة المكية ([1]):
1- اعتنت بالجانب الحرفي المعرفي، فغلب على تفسيرهم إيضاح الغامض، وبيان المبهم .
2- تميز المكيون بالعلم بمسائل الحج والمناسك، ولاسيما عطاء بن أبي رباح، ولذلك اهتموا بتفسير آيات الحج .
3- تميز منهجهم بالسهولة واليسر، في تناولهم لآيات الحج ومسائله .
4- اختصت المدرسة المكية، بكثرة اجتهادها في التفسير، والقدرة على الاستنباط.
5- توسعت في الرواية عن أهل الكتاب .
6- اهتمت بالدقة اللغوية، وبالمشكل، والغريب .
7- تعد من أكثر المدارس نتاجاً في التفسير، وذلك بسبب أنها صنفت، ودونت آثارها مبكراً .
هذه أبرز ملامح المدرسة المكية، والتي هي انعكاس لتفسير ابن جريج، ويعتبر ابن جريج من أوائل من صنف في التفسير، ولذلك كان له الأثر الواضح في نشر التراث المكي.
من ناحية أخرى، لا بد من إلقاء نظرة أخرى، على مميزات تفسير أتباع التابعين عموماً، حتى نصل إلى نتائج تساعد في استخلاص منهج ابن جريج .

وفيما يلي عرض لأبرز ملامح منهج أتباع التابعين: ([2]) .
1- كان تفسيرهم للقرآن، تفسير بالمأثور عن رسول الله e، وعن أصحابه، وتابعيهم رضي الله عنهم .
2- لم تكن لهم عناية بالنقد، وتحري الصحة في رواية أحاديث التفسير، بل رووا كل ما ورد في تفسير الآية من صحيح وسقيم، واكتفوا بذكر الإسناد .
3- التوسع في ذكر أسباب النـزول .
4- التوسع في رواية الإسرائيليات .
وكلا الأمرين يدور على الجانب القصصي والروائي، الذي جذب انتباه أتباع التابعين .
5- كان استعمالهم للغة، أكثر من استعمال التابعين، فاهتموا بتوضيح العبارات، بمزيد شرح، وبيان عود للضمير المعلوم .
6- كان اجتهادهم في التفسير، أقل من التابعين، وغلب عليهم أتباع الرواية والنقل، وكان لبعضهم اجتهادات في مباحث محدودة مثل :
أ ) القراءة : حيث اجتهد أتباع التابعين، في بيان القراءة، واعتنوا بالأداء، ومن ثم نقلوه إلى الأئمة بعدهم من القراء، وكانوا لا يتحرجون من القراءة الشاذة في التفسير .
ب) النسخ : توسع أتباع التابعين في النسخ، وهذا تبعاً للمنهج الروائي الذي سلكوه .
ج) ترابط الآيات : وقد برزوا في هذا الجانب أكثر من التابعين .
د ) كليات القرآن : اجتهد أتباع التابعين، في استخراج كليات القرآن، فأعملوا نظرهم، وفكرهم، في استخراج كليات، ما ذكرها التابعون .
هذه أبرز ملامح تفسير أتباع التابعين، بالإضافة إلى المصادر الأخرى، التي اعتمد عليها التابعون في تفسيرهم. ولو نظرنا إلى روايات أتباع التابعين في التفسير، نجد أن أكثرها منقول عن التابعين، أو اجتهادات، هي في الواقع أثر ونتاج لأقوال التابعين .
وبالنسبة لابن جريج، كمثال للتفسير في عهد أتباع التابعين، نجده قد استفاد كثيراً، من تفسير التابعين، وغالب مروياته عنهم، وممن أكثر عنهم في تفسيره : مجاهد، وعطاء، وعكرمة .

http://vb.tafsir.net/newreply.php?do=newreply&noquote=1&p=116070#_ftnref1([1]) انظر : تفسير التابعين 1/548، 2/846-848 .

http://vb.tafsir.net/newreply.php?do=newreply&noquote=1&p=116070#_ftnref2([2]) انظر : بحوث في أصول التفسير ص 36-37، تفسير التابعين .


..............................................................
ثانياً – هل يعد ابن جريج من المكثرين من رواية الإسرائيليات؟
عند الرجوع إلى كتب أصول التفسير ومناهجه، وكتب الإسرائيليات نجد كل من كتب في موضوع الإسرائيليات، اعتبر ابن جريج من المكثرين من رواية الإسرائيليات إلى جانب كعب الأحبار، ووهب بن منبه، وعبدالله بن سلام، وذلك ابتداء من الدكتور الذهبي – رحمه الله -، حيث عده من أشهر من عرف برواية الإسرائيليات من أتباع التابعين، وقال عنه" وأما عبد الملك بن عبدالعزيز بن جريج: فأصله رومي نصراني، أسلم على ما عنده من معارف مسيحية وأخبار إسرائيلية. ومسيحياته يروي الكثير منها ابن جرير في تفسيره للآيات التي وردت في شأن النصارى " ([1]) .
وقد تأثر بكلام الذهبي، من جـاء بعده، ممن ألف في التفسير وأصوله ومناهجه، وكلامه-رحمه الله- عليه مآخذ، واستفاده، ممن سبقه، مثل أبي رية وأحمد أمين، وهما ممن اتهم ابن جريج بذلك، فقد قال أحمد أمين:" اتصل بعض الصحابة بوهب بن منبه، وكعب الأحبار، وعبدالله بن سلام، واتصل التابعون بابن جريج، وهؤلاء كانت لهم معلومات يروونها عن التوراة والإنجيل" ([2]).
وقال أبو رية عن ابن جريج:" وممن كان يبث في الدين الإسلامي مما يخفيه قلبه، ابن جريج الرومي الذي مات سنة 150، وكان البخاري لا يوثقه وهو على حق في ذلك"([3]).
وقال في موضع آخر:" ابن جريج كان من النصارى"([4]).
ومن هذه النصوص يتضح لنا أن الدكتور الذهبي- رحمه الله – قد اعتمد في كلامه السابق على مثل هذه المصادر. وقد رد الشيخ المعلمي([5])، على بعض هذه التهم. والرد على هذه التهم من عدة أوجه:
1- أن ابن جريج لم يكن نصرانياً فأسلم، بل هو مسلماً منذ الولادة، وكذلك والده، وقد ولد ونشأ في مكة. وإنما يسلَّم ذلك لجده جريج، فقد كان رومياً نصرانياً.
2- أن ابن جريج من أتباع التابعين ولا شأن له بالإسرائيليات، وكأن أبي رية اغتر باسم" جريج" فحشره في زمرة هؤلاء.
3- أن ابن جريج لم يعرف بالإسرائيليات ولم يكثر منها، إلا أن يروي شيئاً عمن تقدمه.
4- ابن جريج إمـام جليل وقد احتج به البخاري، ووثقه كثير من أئمة الحديث كما سيأتي.
من خلال ما سبق تبين لي أن اتهام ابن جريج، بالإكثار من الإسرائيليـات، دعوى لا دليل عليها، وقد تتبعت مواطن الإسرائيليـات في الجزء الذي درستـه وبلغت مروياته (1868) رواية فبلغت تقريبا (40) موضعاً، وأغلبها يرويها ابن جريج، عن غيره مثل: ابن عباس، ومجاهد، وشعيب الجبـائي، وسعيـد بن جبـير. وبلغت روايات ابن جريج منها (9) روايات فقط، منها روايتان بلاغاً. وهي نسبة قليلة جداً بالنظر إلى مرويات ابن جريج.
وقد قمت بدراسة هذه الروايات الإسرائيلية، فأغلبها مما يحتمل الصدق والكذب، ومما يتعلق بتفصيل قصة وردت مجملة في القرآن، أو بيان مبهم، كاسم رجل أو شجـرة، أو
بيان عدد، كعدد ملائكة، أو بني إسرائيل، أو بيان صفة شيء معين، كصفـة سفينة نوح،
وصفة الألواح، وغير ذلك مما لا يعتبر تفسيراً للآيات، ولا يتوقف تفسير الآية على تلك الأخبار.
ومما يؤخذ على ابن جريج من هذه الإسرائيليات، روايتان فقط:
أحدهما: في نسبة الشرك إلى آدم وحواء، وقد رواها عن سعيد بن جبير، وهذه الروايات قد اغتر بها كثير من المفسرين، وأوردوها في تفاسيرهم، كابن جرير، والثعلبي، والبغوي، والقرطبي، والآلوسي. وذكرها ابن كثير ونقدها نقداً علمياً([6]).
والثانية: ما ذكر من الإسرائيليات في قوله تعالى] وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا [([7]) ورواها ابن جريج، عن ابن عباس.
وقد ذكر هذه الروايات: ابن جرير، والثعلبي، والبغوي، وابن كثير، والسيوطي، ونقلها ابن كثير بدون أن ينبه على زيفها. ومن العجيب أن الطبري نسب هذه المرويات بأنها قول جميع أهل العلم بتأويل القرآن، وتبعه على ذلك من جاء بعده من المفسرين كالثعلبي، والبغوي، والواحدي([8]).
ومما ينبغي التنبيه إليه، أنه لا يصح أن نتهم التابعين وأتباعهم، بالتوسع في الإسرائيليات، ونجعل ذلك طريقاً للطعن والقدح فيهم، وذلك لأن من هؤلاء من هم على الثقة والعدالة، عند كثير من العلماء، ولأنهم يروونها بالأسانيد، فما صح منها أثبتناه، ومالم يصح نفيناه. فإننا قلَّ أن نظفر بكتاب من كتب التفسير، أو بمفسر من المفسرين، سالماً من رواية الإسرائيليات([9]).




http://vb.tafsir.net/newreply.php?do=newreply&noquote=1&p=116070#_ftnref1([1]) الإسرائيليات ص 109 .

http://vb.tafsir.net/newreply.php?do=newreply&noquote=1&p=116070#_ftnref2([2]) انظر : الأنوار الكاشفة ص 97 .

http://vb.tafsir.net/newreply.php?do=newreply&noquote=1&p=116070#_ftnref3([3]) انظر : الأنوار الكاشفة ص 97، وكلام أبي رية في ص 148 من كتابه ( أضواء على السنة ) .

http://vb.tafsir.net/newreply.php?do=newreply&noquote=1&p=116070#_ftnref4([4]) المرجع السابق، قاله في حاشية ص 216 .

http://vb.tafsir.net/newreply.php?do=newreply&noquote=1&p=116070#_ftnref5([5]) الأنوار الكاشفة ص 97 .

http://vb.tafsir.net/newreply.php?do=newreply&noquote=1&p=116070#_ftnref6([6]) انظر : الإسرائيليات والموضوعات لأبي شهبة ص 209-211 .

http://vb.tafsir.net/newreply.php?do=newreply&noquote=1&p=116070#_ftnref7([7]) سورة يوسف آية : 24 .

http://vb.tafsir.net/newreply.php?do=newreply&noquote=1&p=116070#_ftnref8([8]) انظر: الإسرائيليات والموضوعات لأبي شهبة ص 223-224 .

http://vb.tafsir.net/newreply.php?do=newreply&noquote=1&p=116070#_ftnref9([9]) انظر : منهج ابن كثير في التفسير ص 339 .
 
للرفع
سؤال للمتخصصين في رواية الاسرائيليات : ما موقف الإمام البخاري والإمام مسلم من الاسرائيليات في صحيحيهما؟
هل هناك دراسة حول منهج المحدثين في رواية الاسرائيليات في كتب السنة كالصحيحين تحديداً ؟
 
عودة
أعلى