وقال صاحب الظلال رحمه الله في تفسير نفس الآية:
(وما كان المؤمنون لينفروا كافة , فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة , ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون). .
ولقد وردت روايات متعددة في تفسير هذه الآية ,
وتحديد الفرقة التي تتفقه في الدين وتنذر قومها إذا رجعت إليهم . .
والذي يستقيم عندنا في تفسير الآية:
أن المؤمنين لا ينفرون كافة .
ولكن تنفر من كل فرقة منهم طائفة - على التناوب بين من ينفرون ومن يبقون -
لتتفقه هذه الطائفة في الدين بالنفير والخروج والجهاد والحركة بهذه العقيدة ;
وتنذر الباقين من قومها إذا رجعت إليهم ,
بما رأته وما فقهته من هذا الدين في أثناء الجهاد والحركة . .
والوجه في هذا الذي ذهبنا إليه
- وله أصل من تأويل ابن عباس - رضي اللّه عنهما -
ومن تفسير الحسن البصري , واختيار ابن جرير , وقول لابن كثير
- أن هذا الدين منهج حركي , لا يفقهه إلا من يتحرك به ;
فالذين يخرجون للجهاد به هم أولى الناس بفقهه ;
بما يتكشف لهم من أسراره ومعانيه ;
وبما يتجلى لهم من آياته وتطبيقاته العملية في أثناء الحركة به .
أما الذين يقعدون فهم الذين يحتاجون أن يتلقوا ممن تحركوا ,
لأنهم لم يشاهدوا ما شاهد الذين خرجوا ; ولا فقهوا فقههم ;
ولا وصلوا من أسرار هذا الدين إلى ما وصل إليه المتحركون
وبخاصة إذا كان الخروج مع رسول اللّه - [ صلى الله عليه وسلم ] -
والخروج بصفة عامة أدنى إلى الفهم والتفقه .
ولعل هذا عكس ما يتبادر إلى الذهن ,
من أن المتخلفين عن الغزو والجهاد والحركة ,
هم الذين يتفرغون للتفقه في الدين !
ولكن هذا وهم , لا يتفق مع طبيعة هذا الدين . .
إن الحركة هي قوام هذا الدين ; ومن ثم لا يفقهه إلا الذين يتحركون به ,
ويجاهدون لتقريره في واقع الناس , وتغليبه على الجاهلية , بالحركة العملية .
والتجارب تجزم بأن الذين لا يندمجون في الحركة بهذا الدين لا يفقهونه ;
مهما تفرغوا لدراسته في الكتب - دراسة باردة ! -
وأن اللمحات الكاشفة في هذا الدين إنما تتجلى للمتحركين به حركة جهادية لتقريره في حياة الناس ;
ولا تتجلى للمستغرقين في الكتب العاكفين على الأوراق !
إن فقه هذا الدين لا ينبثق إلا في أرض الحركة .
ولا يؤخذ عن فقيه قاعد حيث تجب الحركة .
والذين يعكفون على الكتب والأوراق في هذا الزمان
لكي يستنبطوا منها أحكاماً فقهية "يجددون" بها الفقه الإسلامي
أو "يطورونه" - كما يقول المستشرقون من الصليبيين ! -
وهم بعيدون عن الحركة التي تستهدف تحرير الناس من العبودية للعباد ,
وردهم إلى العبودية للّه وحده , بتحكيم شريعة اللّه وحدها وطرد شرائع الطواغيت . .
هؤلاء لا يفقهون طبيعة هذا الدين ;
ومن ثم لا يحسنون صياغة فقه هذا الدين !
إن الفقه الإسلامي وليد الحركة الإسلامية . .
فقد وجد الدين أولاً ثم وجد الفقه . وليس العكس هو الصحيح . .
وجدت الدينونة للّه وحده , ووجد المجتمع الذي قرر أن تكون الدينونة فيه للّه وحده . .
والذي نبذ شرائع الجاهلية وعاداتها وتقاليدها ;
والذي رفض أن تكون شرائع البشر هي التي تحكم أي جانب من جوانب الحياة فيه . .
ثم أخذ هذا المجتمع يزاول الحياة فعلاً وفق المبادئ الكلية في الشريعة
- إلى جانب الأحكام الفرعية التي وردت في أصل الشريعة -
وفي أثناء مزاولته للحياة الفعلية في ظل الدينونة للّه وحده ,
واستيحاء شريعته وحدها , تحقيقاً لهذه الدينونة , جدت له أقضية فرعية بتجدد الحالات الواقعية في حياته . .
وهنا فقط بدأ استنباط الأحكام الفقهية , وبدأ نمو الفقه الإسلامي . .
الحركة بهذا الدين هي التي أنشأت ذلك الفقه ,
والحركة بهذا الدين هي التي حققت نموه .
ولم يكن قط فقها مستنبطاً من الأوراق الباردة ,
بعيداً عن حرارة الحياة الواقعة ! . .
من أجل ذلك كان الفقهاء متفقهين في الدين ,
يجيء فقههم للدين من تحركهم به ,
ومن تحركه مع الحياة الواقعة لمجتمع مسلم حي ,
يعيش بهذا الدين , ويجاهد في سبيله ,
ويتعامل بهذا الفقه الناشئ بسبب حركة الحياة الواقعة .
(في ظلال القرآن)