(من لغو الصيف): مقالات سيد قطب حول رحلته إلى الاسكندرية للاصطياف سنة 1946م

محمد براء

New member
إنضم
12/03/2006
المشاركات
375
مستوى التفاعل
1
النقاط
18
من لغو الصيف:
إلى الإسكندرية. . .
للأستاذ سيد قطب
إلى الإسكندرية...
لابد من تغيير الهواء في هذا العام... فها هي ذي أعصابي تعلن الثورة، وتعلنها وتعلنها، ثم تمل من هذا الإعلان فتضرب إضرابًا تامًّا وتنام!... وها هو ذا الطبيب والطبيب والطبيب، لا يجدون في جعبتهم - بعد أن أتناول نصف ما في صيدلية حلوان من الأدوية حقنًا وتجرعًا وبلعًا - إلا أن يقولوا: غيِّر الهواء!
لا بد من تغيير الهواء في هذا العام... فقد انقضت سبع سنوات عجاف ولم أغادر فيها حلوان شتاء ولا صيفًا إلا أيامًا في الصعيد - في مطلع الصيف - (للتفتيش)! التفتيش لحساب وزارة المعارف (ولا أدري متى تغير هذا العنوان، ومتى تغير - تبعًا لهذا - وظيفته فتجعلها مثلا (التوجيه) اسمًا ومعنى ).
لم يكن تفتيشًا في الواقع. لقد كان نفيًا!
كانت الحرب، وكانت الأحكام العرفية، وقال الوزير: لا بد أن يفصل هذا الموظف أو ينفي من الأرض أو يشرد فيها. فقد أبلغتني إدارة الأمن العام عنه أشياء!
إدارة الأمن العام؟ أي إدارة الأمن العام!... وأبلغتني أنه يعمل لحساب المعارضة. . . ثم إن (دوسيهه) ليس نظيفًا. فيه إنذاران على كتابته في الصحف مقالات سياسية وهو موظف!
موظف: أي عبد. لا رأي له في قضية بلده، ولو لم يكن لهذا الرأي صفة الحزبية!
وأبلغت أنني منفي من الأرض. وقررت أن أستقيل! وأباها الرجل الأريحي الدكتور طه حسين. وقال: لن تصنعها وأنا هنا في الوزارة!
قلت: ولكنني لن أخضع لأهواء الوزراء. واجهوني بما يقال عني، ثم اصنعوا ما تشاءون. وسأصنع كذلك ما أشاء!
قال: وإذا استقلت فماذا تصنع وأنا أعرف أعباءك الثقال؟ قلت: أصنع ما يتيهأ لي، فلست من عجزة الديوان!
قال: لن تستطيع أن تصنع شيئًا في هذه الأيام. فالأحكام العرفية تملك أن تنقلك إلى أي مكان، وأن تلزمك الإقامة في هذا المكان، حتى لو استقلت من الحكومة! فخير لك أن تقيم فيه موظفًا، ولا تقيم فيه منفيًا!
قلت: معذرة يا سيدي الدكتور؛ فإني أفضل أن أقيم هناك منفيًا! ثم. . . ثم. . . إنني سأكون بطلا في عهد الوزارة القادمة!
(ولم لا؟ ألم تتدهور البطولة عندنا حتى صارت تكتسب بالنقل إلى جهة نائية في عهد من العهود، أو بالتخلف عن درجة استثنائية كالزملاء!).
وقال الرجل:
- أتنفي لي أنك أتيت ما نسب إليك؟
- قلت: وهل أدري ما ينسب إلي؟
- قال: أشياء، جلست في بار اللواء، وقلتها لبعض الجالسين والأصدقاء عن بعض الوزراء! ومعارضات سرية للعهد الحاضر تنفيذًا لخطة حزبية معينة.
- قلت لقد اعتدت أن أنشر آرائي، وأن أوقعها بإمضائي. فليس من عادتي أن أثرثر في المجالس بشيء! أو أن أعمل في الخفاء!.
- قال: وأنت عندي مصدق. فدع لي الأمر. وسأحدث أزمة من أجلك لو اقتضى الحال!.
ووفق الرجل بين أريحيته الكريمة وتشدد الوزير. فكلفني أن أقوم بمهمة تفتيشية في الصعيد لمدة شهرين اثنين، أختار فيها من الجهات والمدارس ما أشاء، وأكتب له تقريرًا شاملًا عن دراسة اللغة العربية في المدارس على اختلافها، وأفصل اقتراحاتي في إصلاح هذه الدراسة بصفة عامة!.
ووجدت في ذات المهمة ما يغري، وفي أريحية الرجل ما يخجل... فنفت التكليف.
نفذته متناسيًا - بل ناسيًا - تلك المهزلة، مهزلة الاتهام. لقد أخطأ الوزير. أخطأ، فلم أعد أجد في حزب من هذه الأحزاب ما يستحق عناء الحماسة له والعمل من أجله. كلهم سواء أولئك الرجال! رجال الجيل الماضي. للجميع عقلية واحدة لا تصلح لهذا الجيل - عقلية أنصاف الحلول - كلهم نشأوا وفي قرارة نفوسهم أن إنجلترا دولة لا تقهر؛ وأن الفقر مرض مستوطن.. وكلهم يؤمن - إن كانت قد بقيت لأحد منهم طاقة الإيمان بشيء – أن الله خلق الدنيا في ستة أيام!.
هؤلاء جميعًا لم يعودوا يصلحون لقيادة الجيل. أعصاب منهوكة. وقلوب خاوية من الإيمان الحار بشعبهم وأمتهم. كلهم يستحقون (المعاش)، كلهم سواء، لا يستحقون من الجيل الجديد الحماس!
إلى الإسكندرية...
فقد انقضت سبع سنوات عجاف لم أغادر فيها حلوان شتاءً ولا صيفًا، إلا لهذا (التفتيش)! ولم أبصر فيها وجه البحر يسفر، ولم أستمع فيها إلى صوته يجيش. . . وكيف؟ ولم أكن (غنى حرب!) بل موظفًا وصاحب قلم؟! موظفًا في وزارة المعارف. لا في وزارة التموين، ولا في وزارة التجارة، ولا حتى في الأشغال أو المواصلات!. وصاحب قلم للأدب أو السياسة القومية؛ لا للدعاية الإنجليزية والأمريكية ولا للسياسة الحزبية فأنى لي بوجه البحر في تلك السنوات العجاف؟!
وهبني كنت أجد المال الذي أجارى به أغنياء الحرب ومأجوري الدعاية أو الحزبية، فما يحملني على أن أكون من أهداف طيارات المحور، ولست ضابطًا ولا جنديًا في الجيش المصري الذي احتمل ضحاياه في أثناء الحرب، دون أن يفوز بشرف الحرب!.
لقد كان موقف الساسة المصريين حرجًا حقًا!
فهم لا يعلنون الحرب على المحور - ولهم العذر - فلم يعلنونها؟ ليقاوموا احتلالا متوقعًا، وهم في احتلال واقع؟! لينصروا الديمقراطية، والديمقراطية تفعل بهم الأفاعيل؟. . . أم لا يعلنون الحرب، ومصر تحتمل ويلاتها بلا مقابل، وتهدد في النهاية بأنها إذا لم تعلن الحرب فستحرم من مؤتمر الصلح. (ثم تعلنها وتحرم من مؤتمر الصلح أيضا!).
أم لا تعلن الحرب، ولا تساهم فيها؟... هناك معاهدة الشرف والاستقلال، وهناك الشيخوخة الروحية، وهي أشد (شرفًا) من معاهدة الشرف والاستقلال!!!.
إنهم رجال الجيل الماضي! أولئك الذين لا يعرفون متى يحسن اللاعب أن ينسحب من الميدان.
إلى الإسكندرية. . .
فقد انقضت سبع سنوات عجاف لم أغادر فيها حلوان شتاءً ولا صيفًا إلا لذلك (التفتيش) السياسي العجيب!
ولكن ما هذا؟
أهذه محطة القاهرة؟ أم ذلك يوم الحشر الأكبر؟ ما بال الناس هكذا يتدافعون بالمناكب، ولا يعرف حميم حميما؟ أهذا قطار؟ أم حمام الثلاثاء! وإن كنت لا أعرف حمام الثلاثاء. ولعل الدكتور زكي مبارك يعرفه فله قصيدة عن ليلة الثلاثاء. لا بد أنها كتبت هناك!
فلنزاحم، على شدة ما أكره الزحام!
الحمد لله! لقد وجدت مكانًا... مكانًا للحقيبة في (طرقة) العربة. في الممر... وهل ذلك شيء هين؟ إن السعيد من يجد لحقيبته مكانًا في هذا الممر. إنه بعد أن يهدأ القطار ويروق، وينزل المودعون الذين يكظون الفراغ كظاً، يستطيع أن يتخذ من حقيبته مقعداً، بينما الآخرون يقفون طول الطريق خفافًا أو ثقالا يحملون بعض متاعهم، ما لم يريحوه على أقدام المسافرين!!!
وجلست بعد فترة ووقف الآخرون. وسار القطار. . وفي الزحام الشديد وقعت عيناي على سيدة شابة جميلة واقفة تحمل شيئًا، شيئًا أثمن من كل ما يحمل المسافرون. . . تحمل جنينا!
وبمقدار ما يثير في نفسي منظر الشابة الحامل من الأسى، يثير في نفسي كذلك الاحترام والإشفاق.
فأما الأسى، فعلى ذلك الجمال الضائع. كلما تخيلت هذه الشابة في رشاقتها الفاتنة، ثم في هذه الكظة التي عير بها ابن الرومي - سامحه الله - إحدى المغنيات! إنه أسى يكمد نفسي ويؤذيها بقدر ما ترتفع في هذه الشابة درجة الجمال!.
وأما الاحترام والإشفاق فلهه التضحية النبيلة التي تبذلها الفتاة للحياة - أرادت أم لم ترد. وشعرت أم لم تشعر - التضحية بالجمال - أعز شيء في هذه الحياة - وبالراحة، وبالذاتية كلها في النهاية التضحية إلى حد الفناء!
أقول وقعت عيناي على هذه السيدة الشابة الجميلة تحمل كنزها وكنز الحياة في حرص وإشفاق. وتحركت في نفسي كل هذه المعاني، فوقفت متنازلا عن مقعدي الخاص - على ما برجلي من ألم وما بأعصابي من تعب - لهذه السيدة المضحية. . . فجلست شاكرة. . .
وفجأة همس في أذني أحد الواقفين: خسارة! إنها لا تستحق، إنها من بنات صهيون!.
وتفرست في ملامحها فرجحت رأى الزميل - الزميل في الوقوف - وكدت أنا الآخر أندم ما صنعت لولا نظرة إلى الحمل الثمين!
قلت:
ليت الصهيونيين يعلمون ماذا يفعلون! إنهم بموقفهم الإجرامي في قضية فلسطين يكادون يجردون نفوسنا حتى من العطف الإنساني، والروح الآدمي على أبناء صهيون، وبناته الملاعين!
ماذا يكسب أولئك الصهيونيون من عداء العرب؟ العرب الذين عطفوا عليهم وآووهم... على مدى التاريخ - والعالم كله يسومهم سوء النكال؟!
ماذا يكسب أولئك الصهيونيون من خطتهم الحمقاء التي تثير عليهم سبعين مليونًا من العرب، ومائة مليون على الأقل من المسلمين الآخرين في مشارق الأرض ومغاربها، دون أن تكسبهم صداقة حقيقية من أحد في هذا الكوكب الأرضي - ولا في كواكب السماء -! فهذه أمريكا التي تشتري أصواتهم الانتخابية ونفوذهم المالي بتصريحات جوفاء، لا ترضى بأن تبيح لهم الهجرة إلى بلادها الواسعة الغنية، بدل هذه التصريحات الجوفاء. وهذه إنجلترا التي تحميهم بالمدافع والدبابات لا تشارك في تخفيف محنتهم بإيوائهم في مستعمراتها الواسعة!
لقد كان لهم من صدور العرب الكرام حصن رفيق رحيم في عهود التشريد المديدة، ففقدوا بحماقتهم في النهاية هذا الحصن الرفيق الرحيم.
هذا كل ما جنوه من سياستهم الأثيمة الحمقاء.
إلى الإسكندرية. . .
وها هي ذي مشارفها تبدو. الركاب يتحركون. يتحركون - ولا مؤاخذة - حركة بغلة الشاعر القاهري الظريف - البها زهير - أو بغلة صديقه على الأصح:
لك يا صديقي بغلة ... ليست تساوي خردلة
تمشي فتحسبها العيو ... ن على الطريق مشكلة
تهتز وهي مكانها ... فكأنما هي زلزلة
وتخال مدبرة إذا ... ما أقبلت مستعجلة
مقدار خطوتها الطوي ... لة حين تسرع: أنملة
أشبهتها بل أشبه ... تك كأن بينكما صلة!
إلى الإسكندرية. . .
فقد أوصيت زميلا كصديق البها زهير! أن يختار لي منزلا هادئاً فاختاره - حفظه الله - على هواه.
أما قصة ذلك المنزل... فإلى حديث آخر من (لغو الصيف) الذي اخترته في هذا الأوان بعداً بنفسي وبالقراء عن معارك النقد الحامية، وعن مضايقة عباد الله المؤلفين، وكفى الله المؤمنين القتال!!!
سيد قطب
مجلة الرسالة، العدد (681)، بتاريخ: 22 - 07 - 1946



من لغو الصيف:
صراصير. . .!
للأستاذ سيد قطب
- 2 -
... لقيني صاحبي ذاك - أو صاحب ألبها زهير - على محطة سيدي جابر، متهلل الوجه، منطلق الأسارير... قال: لقد وجدت لك داراً هادئة توافق أمثالك الشعراء!
قلت: خير وبركة، وشكرت وانطلقت إلى الدار
ولكن ماذا؟
يا لعنة الله! أهذه هي الدار التي وتوافق الشعراء؟ أهذا هو الشعر عندك يا صديق ألبها زهير؟ يا رحمة للشعر والشعراء!
أيها القارئ:
أرأيت السراديب والكهوف؟ أم هل سمعت عن السراديب والكهوف؟ تلك هي الدار التي فهم صاحبنا إنها توافق أمزجة الشعراء!
تلك جناية بعض المتصعلكة على الشعر، فلقد مرت فترة كان الشعر فيها هو البؤس، أو هو التباؤس، ولم يكن الناس يصدقون أن فلاناً شاعر إلا إذا بدا في مزق مهلهلة، منتكث الشعر، يضم تحت إبطه (رزمة) من ورق الصحف القديمة، ويحشو جيوبه الممزقة بخرق من الورق الخلق، وقطع من علب السجائر وما إليها، دون فيها شعره، ولا بد أن يقول للناس: إنه جائع، وانه (خرمان) سجاير و (كيوفاً) أخرى. . . وإلا فما هو بشاعر!
ووجد هؤلاء بعض من يعطف عليهم، أما تظرفا وتباهيا بالعطف على الشعراء، وأما رحمة حقيقية لهذه الحال البائسة!
وكان هؤلاء البائسون، أو المتبائسون، يعيشون في جحور أو يقولون: إنهم يعيشون في جحور، ويصفون (صراصيرها) وفيرانها وعناكبها في كلام يهتزله بعض الناس - ولو لم يكن فيه شيء من الفن - لمجرد التظرف والتفكه، ومن هنا اختار لي صاحب ألبها زهير، تلك الدار. . .!
الصراصير. . .
ولكن. . . أهذه صراصير؟!
إنني أعرف الصراصير جيدا. . . اعرفها في حلوان! فقد شاء السفه الذي يستحق الحجر من القضاء الشرعي، إن تهمل هذه الضاحية الجميلة الفريدة بين بلاد العالم كله - كما يقول العارفون - بهوائها وتربتها ومياهها واتفاعها، حتى تصبح أكوماً من الأتربة، ومجاري من القاذورات، تسبح فيها وتعيش شتى الهوام والحشرات!
ومن هنا كانت صراصير حلوان، تلك التي كتبت في شأنها على صفحات الصحف مرات. . .
وقيل لي: اسكت فلا فائدة من الكتابة، فرنين الكلمات غير رنين الجنيهات، ومنطق العبارات غير منطق الشيكات، وهناك شركات أجنبية يهمها ألا تقوم لحلوان قائمة، ومنطقها هو منطق الشيكات، فأين يذهب منطقك أنت، ولو كان هو منطق الحق والعدل والحياء؟!
وسكت من يومها وتركت أمر حلوان لله، وليقظة الضمير العام، حين يستيقظ ذلك الضمير العام!
المهم إنني في حلوان تعرفت على جميع (عائلات الصراصير) وصنوفها وأشكالها، ولم أجد من بينها نظيراً ولا شبيها لصراصير تلك الدار التي اختارها لي صاحبي، أو صاحب ألبها زهير!
وما هذا أنت الذي تبص وتتوارى في ثقب الجدار؟ انك لست بصرصار... وإلا فأين خبرتي بكل صنوف الصراصير في حلوان؟
أوه. . خيبة الله عليك! هذا أنت (صرصار) عجوز، فقد لونه الذهبي، وفقد أحد شاربيه أيضا، وتقلص ظهره وانكمش وتضاءل، حتى بدا في هيئة الخنفساء! تعال هنا... يا لعنة الله عليك! أو هكذا تغشني فيك، وتعبث بمعارفي كلها في عالم الصراصير؟!
لا يا عم! لا يا صاحب ألبها زهير، لا ويفتح الله، لن أقيم في دار الصراصير هذه، أو في دار الشعراء!
وكلها (فركة كعب) بين الصراصير وبعض الشعراء، لا أولئك الشعراء البائسين أو المتبائسين الذين تحدثت عنهم في الفقرة السابقة، ولكن هؤلاء الشعراء الذين كثروا في هذه الأيام، شعراء الحفلات والمناسبات والسهرات والرحلات!
يا لعنة الله!
لقد كنا استرحنا فترة من (شعراء المناسبات)، ففي عام 1932 أخرجت كتيباً صغيرا اسمه (مهمة الشاعر في الحياة وشعراء الجيل الحاضر)، وحملت فيه حملة شعواء على شعراء المناسبات، أولئك الذين قلت عنهم: إنهم كخدم الفنادق يستقبلون كل قادم ويودعون كل راحل بنفس الابتسامة، ويعدون أيام العظماء والمشهورين ليعدوا لهم - مقدما - قصائد الرثاء! انهم يأكلون على كل مائدة كالقطط الضالة! استغفر الله، بل كالصراصير!
لقد تطوروا أخيرا مع الزمن، فلم يعودوا يقولون فقط في (مناسبات) التكريم والرثاء، بل امتد رشاشهم. . فأصاب القمر وفصول السماء!. . . صراصير!!
واخترت دارًا أخرى غير دار الشعراء! والدور في الإسكندرية كثير في هذا العام. إن (أغنياء الحرب) لم يزحموها تماماً. فالكثيرون قد ذهبوا إلى أوربا ولبنان، وأغنياء الحرب الذين اعنيهم ليسوا هم الذين أغنتهم هذه الحرب وحدها، فغيرهم كثير في تاريخ هذا الشعب قد اغتنوا في حروب، حروب طويلة، لا بين الدول، ولكن بينهم وبين الشعب المصري المنكوب!
حروب الجشع والطمع، والغدر والخيانة، وحروب التسفل والتبذل، ولو سن قانون: من أين لك هذا؟ لتكشفت أشياء وأشياء!
كثيرون من هؤلاء يسمون (الطبقة الأرستقراطية) ووسائل إثراء الكثيرين منهم - على مدى التاريخ - مما يندى له الجبين، بعضهم دفع أعراضاً، وبعضهم دفع خدمات لا يقوم بها الشرفاء. . ثم صاروا فيما بعد (أرستقراط)!
كثيرون من هؤلاء لم يزحموا الإسكندرية في هذا العام، لأنهم في أوربا أو لبنان، وقليلون منهم في الاسكندرية، ولهم حديث خاص في (لغو الصيف) فلندعهم الآن!
واسترحت في الدار الجديدة شيئًا، وأخذت سمتي إلى الشاطئ. . هذا هو البحر، إنني أعرفه هذه هي الحياة المرحة القوية تدب في أوصالي. هذا هو صدري المقوس ينشد لاستقبال هوائه الجذل، هذه هي نفسي المنقبضة تتفتح لاستجلاء المنظر البهيج، هذه هي أعصابي المكدودة تستروح وتنشط وتحيا. . .
وعرائس البحر. . .؟
ويحي! إنني لا أرى هنا عرائس ولا حتى شياطين.
إن العرائس والجنيات، لأطياف هائمة طليقة، خالصة من الضرورات والقيود. ولكني أحس هنا ثقل الضرورات وصلصلة القيود. هنا أجساد تشدها الغريزة؛ هنا لحم. لحم فقط يكاد يتجرد من الروح. لحم قذر رخيص.
هنا صراصير!
محال أن تقنعني أن هذه التي تتخلع مع زميلاتها، وهي تقطع (البلاج) ذهاباً وإياباً بلباس البحر (المايوه) وكل ما فيها جسد يتخلج بالغريزة الهابطة. . . وان هذا الفتى الذي يتدسس بالنظرة الخائنة إلى مواضع الضرورة في هذه الأجساد المتخلجة، بينما يلقي بنظره متباهيا على مواضع الحيوانية في جسده (بالمايوه). . . محال أن تقنعني أن هؤلاء أو هؤلاء، عرائس البحر، أو - حتى (شياطين).
إن الشيطان أنظف وارشق وأخف، وأكثر انطلاقا من القيود! هنا لحم. لحم فقط. لحم رخيص!
رخيص. فكثير من هذه الأجساد العارية يفقد حتى قيمة اللحم العزيز. لست اشك الآن في أن الملابس من صنع حواء. فهذا التستر وهذا الخفاء هما مبعث الفتنة والأشواق - حتى الجسدية - وحين يتجرد الجسد نفسه يموت!
ولكن المرأة في هذا الجيل تفتقد حتى فطنة الغريزة وسلامتها. إنها الشهوة المريضة. شهوة الحيوان الضال الهزيل، لا الحيوان الفاره الأصيل!
وبين يوم وليلة قدمني أصدقاء إلى كثيرات، وقدمتني صديقات إلى كثيرين!
الإباحية! التي لا تخجل ولا تستحي ولا تغار!
هنا الصداقات السريعة: يبدأ التعارف ضحى. ويتم كل شيء في المساء. وفي الصباح التالي يتفرق الجميع؛ وتتبدد الصداقات، كأن لم يكن هنالك شيء. ويبحث الجميع عن شيء جديد!
سعار. . .!
وفي المساء جلست أتناول طعامي. وعلى المائدة المقابلة جلس أربعة شخوص: انهم لا يحوجون أحداً للتسمع. . فالأصوات جهورية، والضحكات رنانة.
هذه سيدة شابة، خاتم الرباط المقدس في يدها اليسرى. وهذه فتاة خاتم الرباط المقدس في يدها اليمنى. . . وما هذان؟ ليسا زوجا ولا خطيبا، فأصابعهما خلو من كل قيد!
وزجاجات البيرة. . . والضحكات والغمزات. . .
ويحي!
إن الرجلين ليطأطئان رأسيهما خجلا، لنكتة خارجة ترسلها سيدة، وتتضاحك لها الآنسة. . . نكتة في الصميم!
ولقيت سيدة بعد لحظات فلم أتمالك أن أقص عليها ما شهدت. سيدة من آسرة. لها زوج ولها عائلة وقالت تعلق على الحادث:
يا سيدي نحن في المصيف! إن اسخف سيدة هي التي تستصحب زوجها في مصيفها، ماذا تأخذ؟ وماذا يستفيد؟ يجب أن يذهب إلى مصيف وتذهب إلى مصيف، لتكون هنالك قيمة للتصييف!
فلسفة المغامرة! ومنطق الجموح!
رباه! أتكون هذه هي مصر وأنا لا ادري؟ إنني رجل متخلف. لست - مع الأسف - من (التقدميين) في هذا الجيل!
ولكن لا. إن مصر لشيء آخر وإلا لانهارت إلى الحضيض. مصر لا تزال أمة. ولن تقوم أمة على هذا الأساس المنهار:
إنما هي حفنة من الرقعاء الذين لا أعراض لهم، ظلوا يهتفون للمرأة بهذا النشيد: وأوتي بعضهم أقلاماً وصحفاً، فلكي يرتعوا في كلأ مباح ومن اجل هذا الغرض الصغير، حاولوا إتلاف أمة، وإضاعة شعب. ولكن لم يستسلم لهم إلا عدد محدود! عدد يطفو على سطح المجتمع كما تطفو الجيف فيتمتعن بنشر أسمائهن ونشر صورهن. . . أما الحرائر فهن هناك في البيوت، لا تقع عليهن أنظار هؤلاء الرقعاء، ولا عدساتهم المصورة. ولا تلوك الألسنة أسماءهن في هذا الجيل!
وأحسست أني اختنق داخل الجدران، فخرجت. خرجت إلى البحر والليل. . لا أحد هنا
على (البلاج). . .
أيها البحر. . . انك هنا الشيء الوحيد النظيف!.
سيد قطب
مجلة الرسالة، العدد (683) بتاريخ: 05 - 08 – 1946


3 - من لغو الصيف
سوق الرقيق
للأستاذ سيد قطب
هذا الحشد من العرايا فوق (البلاج) إنه يذكرني بسوق الرقيق. لم أر هذه السوق، ولكنني قرأت عنها، ورسمت لها في نفسي صورة إنها لو تجسمت ما كانت إلا هذا الحشد من العرايا فوق (البلاج)!
إنني أسمع هنا صلصلة القيود ووسوسة الأغلال وسوط النخاس! لا ألمح هنا طلاقة الروح، ولا حتى فراهة الجسد! لا ألمح الحرية التي ترفرف بلا سدود ولا قيود!.
يخيل إليّ في أحيان كثيرة أن هناك (نخاساً) هو الذي يعرض هذه الأجساد للشراء. أكاد ألمحه مختبأ خلف هذه الأجساد الرخيصة التي تتحرك وفيها ثقلة القيد، وتترنح فتوسوس الأغلال!
ويحي!
مالي لا ألمح الفرح في هذه الوجوه الضاحكة، ولا أحس السعادة في هذه الملامح المرحة؟
ليس هنا فرح ولا سعادة، فالفرح نورانية وإشراق، والسعادة شفافية واطمئنان. . . هنا عربدة تخفي وراءها ضجراً، ومرح يستر في الجوانح الضيق!
هؤلاء قوم ضاق عالمهم (الباطن)، فانطلقوا يذرعون الأرض بحثاً عن عالم (الظاهر)، ومن فقد نفسه فهيهات يجد في (الخارج) شيئاً يطمئن إليه، ويستشعر به السعادة والهدوء!
مساكين!!!
ولكن أهذه محنة رواد (البلاج) وحدهم في هذه الأيام؟
كلا! إنما هي محنة هذه الإنسانية التي غلفت عن نفسها لتسمع صوت الآلات، محنة هذه الحضارة المادية الواردة من أوربا، والتي فتنت الناس عن أنفسهم بما أبدعته من وهج وبريق وضجيج!
كم أمقت هذه الحضارة الأوربية وأحتقرها، وأرثي للإنسانية التي خدعت بها، فأوردتها التهلكة... بريق وضجيج، ومتاع حسي غليظ. وفي هذه الضجة تختنق الروح، ويخفت الضمير، وتنطلق الغرائز والحواس، سكرانة معربدة تهيجها الأنوار الحمراء، كالديكة والثيران في بلاد الأسبان!
حينما كان للإنسانية (باطن) تستجليه، وتستشرف فيه النور المشرق الشفيف، وتستروح فيه الأشواق الخالدة، والآفاق البعيدة... كانت هادئة مطمئنة مستقرة، لأنها في الأعماق هناك غنية بما تجد، مستغرقة في ذلك العالم الفسيح...
فلما طفت على السطح بفضل هذه الحضارة المادية البائسة، ظلت تقفز وتقفز، فلا تستقر أبدا وظلت في قلق دائم، وهياج مستمر. تبحث في كل يوم عن جديد، وتزهد بعد يوم في هذا الجديد.
إنها اللعنة التي يعدها (معجزة) بعض المفتونين بالبريق.
ما قيمة آلات واختراعات وكشوف لا تحقق للنفس سعادتها، ولا تهب للضمير اطمئنانه، ولا تستمتع فيها الإنسانية حتى بالراحة من الضجر والقلق والعربدة والضيق؟
ولقيني بائع الكتب في أحد مقاهي المدينة... فشكا إلي كساد سوق الكتب في هذه الأيام! وقلت أعزيه عن خسارته أو أسليه:
- أو تحسب الناس هنا جاءوا ليقرءوا كتبًا؟ إنهم يستروحون ويستجمون ويستعيدون نشاطهم المفقود!
فما كان أسرعه بالجواب. . إنه فيلسوف:
- وهل هذه السهرات الحمراء الصاخبة التي يغرقون فيها مما يريح الأعصاب يا سيدي الأستاذ؟!
وحرت كيف أجيبه. وجمجمت بالكلمات المخنوقة، في الوقت الذي كان هو يتابع حديثه بعد هذا الاستفهام:
- الكتب يا سيدي الأستاذ تباع الآن في الحي الحسيني. هناك تجد الإقبال على جميع أنواع الكتب القيمة حتى في هذا الصيف الشديد. . .
إذن ما يزال في هذه الأمة خير. هذا الخير هناك في الحي الحسيني حيث يعيش الفقراء من الناس، وحيث يعيش الأزهريون. هنالك حيث يخفت صوت الحضارة المادية الجوفاء، وحيث يحيا جزء من الماضي.
ولكن إلى كم يا ترى يعيش هذا الخير قبل أن يخنق؟ ليخيل إلى أن الأزهر في السنوات (يتجدد) على طريقة (الغراب). فهلا اتقى الله فيه أولئك (المجددون) فحفظوا له قديمه في عهد الاجتهاد، وصانوه عن ذلك (التجديد) أو ذلك (التقليد)؟!
الكتب. .
وهل يصبر هذا الجيل الضجر القلق المعربد الصاخب... على الكتاب؟ ولماذا يقرأ الكتاب الجاد، ولديه تلك المجلات الرخيصة والأفلام الداعرة تملق غرائزه، وتنادي أحقر ما فيه؛ وتنشر له صور العرايا على البلاج، وتحدثه بالدعارة عن القلب الإنساني وما فيه؟
أقول القلب الإنساني! وهل تعرف هذه الصحف والأفلام القذرة ومحرروها وممثلوها الرقعاء، شيئاً عن القلب الإنساني؟ ولكنهم يسودون صفحات كل أسبوع وينشرون أفلاماً في كل شهر عن هذا القلب الذي يزعمون!
آه. لو سوّط الجلاد!
هنالك في (نجد) يجلدون الشعراء الذين يقولون الغزل. وهنا في مصر يصفقون لمن يدلون الفتيات والفتيان على طرق الدعارة ويدربونهم على المجون الرقيع...
شئ من التسامح هناك. وشئ من الحزم هنا... يرحمك الله يا محمد بن عبد الوهاب، ويرعاك الله يا عبد العزيز آل سعود! يوم وليلة فقط من هذا في مصر، ليجلد أولئك الرقعاء في محطة الإذاعة وفي (ستوديهات السينما) وفي جميع المجلات المصرية، الإعداد لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، يشرف عليه بعض الشرفاء ذوي الأعراض وهم قليلون!!
ولكنهم مساكين.
لقمة العيش وشهوة الجسد... هذا كل عالمهم في الوجود!
هم وقراؤهم ومستمعوهم ومشاهدوهم من ذلك الطراز... ليس هناك أفق مجهول، ولا هدف مكنون.
ليس هنالك عالم في الضمير يعيشون فيه بعض الوقت، ثم يخرجون منه ليروا هذا العالم الظاهر بعين المستطلع، وحس المتذوق، وشعور الغني بالرصيد المذخور!
نهم بالمتاع وسعار، المتاع الحسي الغليظ، المتاع المتاح في هذا العالم المادي. . . لو كان لهم روح تستشرف آفاقًا وأنوارًا أخرى لاقتصدوا في هذا المتاع الحسي الغليظ!
ولولا جريمتهم في نشر الدعارة بين الشعب كله، لاستحقوا الرثاء ولكنهم ينشرون في صفحاتهم وأفلامهم وأغانيهم ما يعاقب بوليس الآداب على بعضه في المواخير، ويسمون بعد ذلك كله صحفيين أو مطربين ناجحين!
ويحي! لماذا استطردت هذا الاستطراد؟ إنما أتحدث عن (سوق الرقيق)!
والملطعة؟
هذا هو الاسم الذي اختاره بعضهم بحق للقسم من (الكورنيش) بين (بلاج سيدي بشر رقم 1) و (بلاج سيدي بشر رقم 2)
فحينما ينقضي النهار، ويخرج رواد (البلاج) منه، ويصطف بعضهم في المساء على سور (الكورنيش) بينما يجول بعضهم ذهابا وإيابا.
يستعرض هؤلاء أولئك، ويستعرض أولئك هؤلاء!
هؤلاء هن جواري سوق الرقيق... هؤلاء هن معروضات تجول فيهن الأنظار، وتحملق فيهن العيون، وتتدسس الخطرات المريضة إلى أجسادهن الرخيصة في رقاعة وفضول.
هذه هي الضحكات الرخوة المائعة؛ وهذه هي الحركات الرقيعة الماجنة... ضحكات الجواري، لا تدل على فرح عميق ولا حتى على مرح أصيل. إنما هي ضحكات الرقيق لاجتذاب (الزبون)! ضحكات يحاسب عليها النخاس أو يثيب!
من ذا ينقذكن أيتها الجواري المسكينات من سوق الرقيق؟
من ذا يردكن إلى البيوت الكريمة المصونة، ويرد إليكن كرامتكن المهدرة، التي سلبت منكن باسم (المودرنزم) في هذه الأيام السود؟
كان الرجال يشتهون نظرة من بعيد، ويتشوقون إلى زواج كريم نظيف. فصرتن اليوم سلعة معروضة على الأنظار، سلعة في سوق الرقيق!
ونسيت أن أقول: إن تسعة أعشار هذا الهوان، إنما تبعثه الرغبة في أن تجد هذه الجواري أزواجًا!
أزواج في الطريق. . . وفي (البلاج)!
لن تجدن هنا يا آنساتي أزواجًا. إنما تجار أعراض وشراة أجساد. . .
ولن تكون إلا النخاسة يا عزيزاتي الأوانس: في هذه السوق. . . سوق الرقيق!
سيد قطب
مجلة الرسالة، العدد 685، بتاريخ: 19 - 08 - 1946


4 - من لغو الصيف
هؤلاء الأرستقراط. . .!
للأستاذ سيد قطب
قلت: اذهب إلى (بلاج سيدي بشر رقم 2، ورقم 3) أرى هؤلاء (الاستقراط) الذين خصتهم الدولة بشواطئ خاصة، لا تطؤها أقدام الشعب إلا لقاء جعل معلوم!
وأديت هذا الجعل، وحملت في يدي (تذكرة الدخول) بارزة، فأنا رجل من الشعب. وما آمن أن يعترضني شرطي أو حارس، وأنا أسير في الأرض المحرمة، التي لا يجوز أن تطأها أقدام الشعب إلا بترخيص!
وسرت بحذر واحتراس، أتوجس خيفة من كلُّ خطوة - على الرغم أني أحمل الترخيص بالمرور - فأنا هنا في وسط (الأرستقراط) وأنا رجل من الشعب. وتعليمات الدولة المسطرة على المداخل توقع الرعب في القلوب: (ممنوع دخول هذا البلاج لغير أصحاب الكابينات إلا. . . الخ)، وذكرني هذا بتعليمات أخرى في بعض الحدائق والأماكن: (ممنوع دخول الكلاب إلا. . . الخ).
ورأيت الدولة قد اختارت أجمل مناظر الشاطئ على الإطلاق لتخص بها هؤلاء السادة المحظوظين. فبلاجا سيدي بشر رقم 2 ورقم 3 يلخصان جميع مناظر (الكورنيش). مناظر الشواطئ الصخرية، والشواطئ الرملية، والشواطئ الصناعية، والموج الصاخب، والموج الهادئ، والموج العميق.
وهل أقل من أن تجمع الدولة لهؤلاء السادة أجمل المناظر وأبهجها ملخصة في الشاطئ المحرم، الذي لا يجوز أن تطأه أقدام الشعب إلا بترخيص؟!
وسرت ترمقني أنظار السادة كما ترمق العبيد... من هذا الدخيل الواغل؟ إنه رجل من الشعب. يا لهذا الشعب الطفبلي الذي لا يني يعكر صفو السادة بهذا التطفل الغريب... ولكني أحمل الترخيص!!!
وانتبهت بعد هنيهة، واستعدت رباطة جأشي، وتقويت بهذا الترخيص الذي تحمله يدي، فدسسته في جيب قميصي، وحرصت - مع هذا - على إبقائه ظاهراً؟!
لا بد أن يكون هؤلاء السادة يستحقون هذا التدليل لا بد أنهم يترفعون بمستواهم وأخلاقهم عن العامة. لا بد أنهم (أستقراط) في نفوسهم، قبل أن يكونوا أرستقراطاً بجيوبهم، وإلا فهل تقدم الدولة على عزلهم هكذا عن الشعب - في نفس الوقت الذي تحارب فيه انعزال الطبقات - إلا لسبب معلوم!
ولكنني لا ألمح هنا امتيازاً خلقياً ولا نفسياً. إنهم - والشهادة لله - أوقح وأجرأ وأشد تبذلاً من عامة الشعب في (بلاجات الشعب، التي يمرح فيها بلا جعل ولا ترخيص!
شيء واحد يفرق هؤلاء السادة عن الشعب... أنهم لا يتكلمون لغة هذا الشعب. اللغة العربية أو المصرية هنا غريبة... ولقد سمعت الفرنسية والتركية والرومية... ولكني لم أسمع العربية والمصرية إلا من الخدم وحراس الشاطئ... والمصريون هنا غرباء. عرفت منهم علي ماهر، ومكرم عبيد، وإبراهيم عبد الهادي، وعبد المنصف محمود... وحفنة قليلة ممن تحمل وجوههم الطابع المصري... أما الأغلبية فمن ذوى الوجوه الحمر أو الوجوه البيض...
مستعمرون!!! وليس الإنجليز وحدهم هم المستعمرين!!!
هؤلاء هم قادوا الشعب إلى الهاوية... انحلت أخلاقهم، لأنهم لا رصيد لهم من خلق ولا دين. ولا رصيد لهم كذلك من عراقة ولا تقاليد.
وكلمة (أرستقراط) التي تطلق عليهم لا تحمل من معناها العالمي شيئاً. ليس في مصر طبقة أستقراط كطبقة اللوردات المحافظين في إنجلترا مثلاً... فأعرق أسرة من هؤلاء لا يزيد تاريخها في الغنى على مائة عام...
جاء محمد على الكبير والشعب المصري فقير. والأثرياء هم المماليك ومن يلوذون بالمماليك... وجعل محمد على زمام الأطيان كلها في يده، فلم يبق ثري لا في الشعب ولا في المماليك... ثم أخذت الثروات تتسرب إلى أيدي طبقات خاصة على مدى السنين في هذا الحيز القصير.
وفاز بنصيب الأسد على توالي الأجيال: أبناء الجواري، والمعاتيق، والذين خدموا الاحتلال - والذين عرفوا كيف يدورون مع الريح. والقلة القليلة في العصور المتأخرة هي التي كسبت ثروتها بالجهد وعرق الجبين.
تلك هي قصة الثراء في مصر مختصرة. كلهم محدثو نعمة، لم تتأصل فيهم تقاليد
(الأرستقراط) المعروفة في بلاد العالم. ومن هنا لم يكن لهم رصيد من العراقة... ووجدوا في أيدهم النقود.
هؤلاء هم الذين يقودون الشعب اجتماعياً - مع الأسف الشديد... هؤلاء هم الذين انحلوا فانحل معهم الشعب. ومن هنا جاءت كارثة الجيل...
تفاهة. . .
هذه الكلمة المفردة تلخص طابع الجيل. . .
لا يعيب الفتاة العصرية شئ كما يعيبها الجهل بماركات السيارات وأسماء الممثلين والممثلات، والمطربين والمطربات وعناوين الأفلام والروايات، وشيء آخر أهم: ألعاب القمار، الكونكان والبوكر والباكاراه... لا يعيبها أن تجهل الجمال في الطبيعة، والجمال في الفن، والخبرة بالأسرة والعالم...
والفتى كالفتاة. . . أحاديثه أحادثيها. وطراوته طراوتها. وهي أنثى وهو يتأنث. لأن (أولاد الذوات) هكذا أطرياء لُدْنً مخانيث! لقد شهدتهم هنا وفي كلُّ مكان. الحركة الطرية، والملابس الطرية، والإيماءة الطرية. إنهم لا يكادون يتماسكون. ونفوسهم من الداخل كأجسامهم لا تماسك فيها ولا قوام لها كالهلاميات التي لم تتماسك بعد في عالم التكوين. . .
وهؤلاء هم الذين يقلدهم الشعب المسكين!!
وجيل تافه. . .
ليس هناك عالم نفسي يعيش فيه بعض الوقت. فلا شئ إلا هذه الظواهر، ولا شئ في هذا العالم الظاهر إلا أتفه ما فيه. . .
(شيكوكو) المنولوجست معبود الجمهور و (أنور وجدي) ممثله المرموق. . . ومن في مستواهما من المطربين والمطربات. . . هذا وحده يكفي لليأس من ذوق هذا الجيل، ومن نفيسته وشخصيته
لا إذن تحسن السماع، ولا ذوق بفطن للفنون... (كله عندهم صابون) والمهم أن يكون أكثر ميوعة، وأشد رقاعة وكل جديد هو خير من القديم!
حضر (أنور وجدي) و (ليلى مراد) إلى (البلاج) فتزاحمت عليهما الجماهير، حتى ضاقت أنفاسها بالجماهير. ويبلغني إن (عبد الوهاب) يضيق بالحفلات الخاصة بالبنات اللواتي يترامين عليه في مجون رقيع... ذباب... ذباب وصراصير!. . .
وجيل حائر. . .
شهدت شابًا وشابة زوجين، يخرجان من البحر بلباس البحر ويجلسان على الكازينو كذلك يتناولان الشاي والمرطبات ويدور الحديث بينهما وبين معارف لهما. فتذكر الشابة إن زوجها لا يلبس خاتم الزواج لأنه من الذهب، والتختم بالذهب حرام في الدين!
أي والله، هكذا... حرام! حرام أن يتختم بالذهب أما العري القذر هكذا على الكازينو، فذلك متاع بالبحر لا شئ فيه.
ذلك مظهر من مظاهر التفكك النفسي، كالجهاز المفك، كلُّ جزء فيه يشتغل على هواه، بلا ضابط، ولا اتصال.
وعرفت سيدة تصلي وتصوم... ثم... تخرج من البحر بالمايوه، وتجلس على الرمال بالمايوه حيث تتدسس النظرات المريضة إلى كلُّ موضع في هذا الجسد المكشوف. فأما حين تقف للصلاة فتفيض عليها من الجلباب والخمار... إنها تتحجب هنا فقط، تتحجب على الله!!!
وذكرني هذا بتلك المرأة التي عادت من الحج، لتحي حفلة راقصة تدور فيها الكؤوس ويكون بعدها ما يكون، احتفالاً بهذا الحج المبرور. . .
إنها من أولئك (الأرستقراط) اللواتي يقلدهن الجيل! والمجلات الداعرة... إنها تنشر صور هؤلاء الأرستقراط في مباذلهم، وتقول عن نسائهم المبذلات إنهن شرفن مصر! وتقلدهن بنات الشعب المسكين.
وهنا في (بلاج الشعب) في سيدي بشر رقم 1 شاهدت مصوراً لإحدى هذه المجلات الداعرة، يلتقط صورة لفتاة من بنات الشعب (بالمايوه). وكلفها أن تضطجع ضجعة خاصة فأطاعت. ويبدو أن شيئاً من حياء الأنوثة، وأحياء الإنسانية كان لا يزال يراودها فضمت فخذيها. . . ولم يعجبه المنظر فقرب منها وقرب، ولمس بيده ركبتيها لتفتح ما ضمت. فلما ترددت قليلا. . . قال: (الله! إنت فلاحة وإلا إيه)؟
وانحلت العقدة: فمن هي التي تريد أن تكون فلاحة؛ وهل تستحي إلا الفلاحة؟ والفلاحون ليسوا (أرستقراط) بشهادة الجميع!!!
و (تانت) و (أنكل) و (دادي). . .
ميوعة أولاد الذوات ورقاعتهم المهينة، المهينة لأنها لا تعتز بقومية ولا لغة، المهينة لأنها تحتقر نفسها حين تلجأ إلى اصطلاحات الآخرين... هذه الميوعة مع الأسف أخذت طريقها إلى الشعب.
والمسألة أعمق من أنها مجرد ألفاظ. المسألة هي الشعور بالنفس أو عدم الشعور. المسألة أن لي كرامة في نفسي ولغتي وبلدي أم ليست لي هذه الكرامة. وأولاد الذوات لا كرامة لهم لأنهم لا نفوس لهم ولا وطن ولا عراقة... فما بال الشعب ينزلق إلى التميع المهين؟
يا بحر. إنك لتغضب. وإنك لتزمجر. وإنك لتجرف في ساعات غضبك وزمجرتك كلُّ خبث في جوفك، فتقذف به إلى الشاطئ... اعكس مرة أيها البحر، فاجرف إلى جوفك قذر الشاطئ بكل ما فيه!
سيد قطب
مجلة الرسالة، العدد (687)، بتاريخ: 02 - 09 - 1946


5 - بقية من لغو الصيف:
مفارقات. . .!
للأستاذ سيد قطب
أيها القارئ. . .
في (سوق الرقيق) على البلاج، وبين هذا الحشد من العرايا، وفي غمار هذا اللحم الرخيص الذي يعرض في سوق الرقيق، فيعبث به العابثون، وتتجسس إليه النظرات المريضة، دون أن يقدم على شرائه أحد إلا بثمن اللحم الرخيص!
وفي هذا المكان. . . على البلاج، يقوم البوليس بجولات للمحافظة على الآداب!
أي والله! لا تضحك، ولا تدهش، فعين الدولة ساهرة على الآداب! ويد الدولة باطشة بمن يخدش الآداب، وبما يخدش الآداب!
وإليك البيان:
(مايوهات) الرجال ثلاثة أنواع:
نوع بحمالة على العاتق، ونوع بحزام، ونوع برباط من المطاط... وقد استفتيت الآداب فقالت: إنها ترتضي النوعين الأول والثاني... أما النوع الثالث فلا... وليس مرد هذا كله إلى فرق في حجم هذه الأنواع الثلاثة ولا شكلها، ولا في أن واحداً منها ساتر أو كاشف... لا... لا فتلك شكليات لا تعني الآداب! إنما السر كله في الحمالة أو الحزام أو الرباط!
ويمر الشرطي بالشاطئ، فأما من كان لباسه بحمالة أو حزام فذاك، وأما كان لباسه برباط، فيسوقه إلى (النقطة) ما لم يتوسط في الأمر الوسطاء!
ذلك كل ما يعني الدولة هناك من حفظ الآداب، وإن عين الدولة لساهرة، وإن يدها لباطشة... فحذار - أيها القارئ - أن تظن أن عين الدولة هناك غافلة عن رعاية الآداب!!!
ورعاية أخرى للآداب من تلك الرعايات في سوق العرايا على البلاج هذه الأجساد الرخيصة المكشوفة، المتلاحمة في البحر وعلى الرمال، المرمية في أوضاع حيوانية مريضة على مشهد من الأنظار... هذا اللحم المكدس المختلط من نساء ورجال في كل مكان، حيث لا يثير في أي حس سليم إلا التقزز والاشمئزاز، حتى في نفوس طلاب الجسد من ذوي الغرائز القوية السليمة!.
هذا اللحم تفرق الدولة بينه في مكان واحد على البلاج: في الرشاش (الدش) فهو يتلاحم في البحر كما يشاء، ويتكدس على الرمال كما يشاء، ويخلج ذهابًا وإيابًا على الشاطئ، كما يشاء. ويرى الجميع الجميع في كل وضع وفي كل مكان... إلا حيث يذهب هؤلاء وهؤلاء إلى الرشاش. فهناك يكون الفصل والحجاب!
وهان ذلك لو أن كل رشاش منفصل مستور له باب - كما في (بلاج الأرستقراط) - فهناك مظنة أن يخلع المستحم أو المستحمة لباس البحر؛ تلك البقية الضئيلة من الستر، ولكن رشاشات الرجال والنساء في معظم (بلاجات الشعب) مكشوفة كرشاشات السجون التي يشكو بعضهم من خدشها للآداب هناك! والفاصل بين هذه وتلك حائط في الوسط، وهذه وتلك مكشوفة من الجانب الآخر ينظر الرائحون والغادون فيرون من فيها تحت الرشاش!
وإن الأمر ليبدو (مسخرة) من المساخر. فما قيمة هذا الفصل بين الجنسين في لحظة الرشاش؟
وتسأل: ولمَ لا تكون هناك حمامات خاصة للسيدات، وحمامات خاصة للرجال؟ ولم لا يحرم لباس البحر على (البلاج) ولا يباح إلا في الماء وفي الحمامات الخاصة لهؤلاء وهؤلاء؟
تسأل إن واتتك الجرأة على السؤال. فهنالك مخنثون رقعاء في الصحف الداعرة وفي كل مكان... هناك أولاد لا أعراض لهم في بيوتهم، يصيحون في وجهك كما يصيح الكلاب: هذا تأخر! هذه رجعية! هذا جمود!
ويقولون لك: في أوربا وفي أمريكا، وفي بلاد العالم المتحضر تختلط اللحوم وتتعرى الأجساد!
وفي الغابة كذلك - يا أولاد - تختلط اللحوم وتتعرى الأجساد.
ولكن الغابة أشرف وأسلم، لأن الفطرة هنالك أصدق وأنظف؛ فأنثى كثير من الحيوان والوحوش هناك لذكر واحد. وهي بذلك أعف وأشرف من تسعة وتسعين في المائة ممن تنشرون صورهن عارية على البلاج، أو شبه عارية في الحفلات الداعرة في أوساط
(الأرستقراط). ونفوس الذكران من الحيوان هنالك أرقى وأقوى من نفوس تسعة وتسعين في المائة من نفوس الرقعاء من مخنثين الصحافة والإذاعة والسينما والطرب وفي هذه الأيام!
ويقولون لك: الشعب هو الذي يقبل على المجلات الداعرة، وعلى الأفلام الفاجرة، وعلى الأغنيات المخنثة، وعلى كل ما يثير الغريزة في كل وضع من الأوضاع.
وينسون جريمتهم في انحلال الشعب، هم والذين يسمونهم كذباً (أرستقراط) ينسون أنهم هم الذين هتفوا لكل أنثى داعرة مريضة الغريزة شاذة التكوين خرجت إلى سوق الرقيق باسم (المودرن)! والمرأة خاصة يغريها الثناء وتغرها (المودة) ويغويها الإغراء. والرجال المخنثون الذين يشرفون على هذه المرأة لم يجدوا في عروقهم دماء الرجال!
وينسون أن في كل نفس بشرية غريزة، وأن ليس من وظيفة الصحافة والفنون أن تملق هذه الغريزة وتستثيرها، وتلج في استثارتها، فهي لابد أن تستجيب!
وأن في كل نفس بشرية كذلك ميلا إلى الترفع من قيود الضرورة، وأنها من هنا كذلك يمكن أن تقاد.
في كل نفس بشرية خيط للصعود وخيط للهبوط؛ ومن أي الخيطين يمكن أن تجذب فتستجيب. فإذا كان الرواج هو الذي يغري هؤلاء الهابطين بتملق الغريزة، فليجربوا الخيط الآخر فقد يؤدي كذلك إلى الرواج.
صحفيون ناجحون، ومطربون ناجحون، وممثلون ناجحون، لماذا؟ لأنهم يحترفون الدعارة والقوادة. لأنهم دعاة مواخير. . . ولم يتعقب بوليس الآداب إذن مديري المواخير؟... إنهم صحفيون ناجحون، أو مطربون ناجحون، أو ممثلون ناجحون. . . كلها (فركه كعب) بين هؤلاء وهؤلاء!
ما الفرق بين ذلك الصحفي الذي ينشر في صحيفته تلك الصور الداعرة على البلاج أو في حفلات (الأرستقراط) ليقودك إلى شراء صحيفته، وبين ذلك (القواد) الذي يعرض عليك الصور العارية خلسة على المقهى أو البار ليقودك إلى الماخور؟!
فرق ضئيل.
ولكن عين الدولة مع ذلك ساهرة، ويدها مع ذلك باطشة. وإذا شئت أن تتأكد، فلتذهب إلى البلاج، لترى كيف تفرق بين الجنسين في الرشاش!
سأل ولد رقيع من أولئك الذين يسمونهم صحفيين ناجحين، راقصة عدة أسئلة قذرة، فأجابته بما شاء، ليروج صحيفته بصورة من الحياة الداخلية لواحدة من أولئك اللواتي لسن عذارى ولسن أمهات!
وكان في آخر أسئلته سؤال: ما رأيك في (بنات الذوات):
وكان الجواب: هن اللواتي يعشن مثل حياتنا، ثم يقال عنا: بنات الهوى، ويقال عنهن: بنات الذوات!
رد بارع، كدت والله أحترمها من أجله!
وهؤلاء هن اللواتي تستلهمهن الصحف الناجحة، وتسميهن الطبقة الراقية، وتقول: إنهن شرفن مصر في المجتمعات.
ونشرت إحدى هذه الصحف مرة صورة نسوان من هؤلاء، يركبن الخيل في لباس الفرسان. وقالت: لقد آن لمصر أن تستقل وهؤلاء نساؤها يزاولن جميع الرياضات، حتى رياضة الفروسية!
كأن لم يكن ينقص مصر لتستقل إلا بضع نسوان فارغات لاهيات من أولئك اللواتي يعشن حياة الراقصات، فيقال عن هؤلاء: إنهن بنات الهوى. ويقال عن أولئك: إنهن بنات الذوات!
ومالي وهؤلاء (الأرستقراط)؟ الأرستقراط المزيفين الذين ليس لهم من سمات الأرستقراطية إلا الثراء. الثراء الذي دفع بعضهم فيه - على توالي الأجيال المحدودة أعراضاً - ودفع بعضهم فيه خدمات لا يرضها الشرفاء، للاحتلال ولغير الاحتلال؟
مالي ولهؤلاء؟ انهم لا يستحقون هذه الكلمات.
ولكن مشهداً في (بلاج الأرستقراط) لا أنساه:
هبط إلى حرمهم المقدس - وان لم تكن لهم حرمات - متسول عاجز... لا أدري كيف تسلل من عيون الشرط والحراس إلى تلك الأرض المحرمة التي لا تطئوها أقدام الشعب إلا بترخيص! هبط إلى حيث أقامت الدولة سياجاً حول هؤلاء المقدسين، فراراً بهم من الشعب الملعون!
هبط هذا المتسول العاجز القذر، يسأل من هناك قوتاً وطعاما... لله!... المسكين يعرف أن الله في كل مكان!!!
وإن هي إلا لحظة حتى توجهت إليه النظرات الشرر، مصحوبة بالتأفف والتقزز والاشمئزاز. وسرعان ما تداولته أيدي الشرطة والحراس، في حنق وغيظ: كيف جاز لهذا المنبوذ أن يطأ الأرض المحرمة التي لا تطئوها أقدام الشعب إلا بترخيص؟!
وبعد وساطة بعض الطيبين من حراس الشاطئ هناك رضى الشرطي أن يقذف به على (الكورنيش) ولا يقوده إلى (النقطة) وحسبه ما لقي من صفعات...
وفي وسط هذه المظاهرة تبرز في خفية وفي تلصص فتاة... فتاة خادم رقيقة الحال، تبرز لتندسس خفية إلى الرجل المسكين وتدس في يده شيئا وهي مذعورة. ثم تهمس في حذر: (أدي قرش ساغ يا عمي. بس إدي لي منه تعريفه. أحسن والنبي عايزاه وما عندي غير القرش ده)!
وبحث الرجل في جيوبه فوجد نصف القرش المطلوب. فكررت له الفتاة معذرتها في طلب نصف القرش، وأنا أسمع وأرى. ثم سارت تسرع الخطى، هابطة إلى الأرض المحرمة. فهي من هناك!
وفجأة وجدت نفسي تضطرب، فتسرع نحوها خطاي. وأمد يدي إليها بقرش قائلاً: خذي يا بنية قرشك الذي أعطيته للشحاذ!
ونظرت إلى برهة ثم قالت: (لا يا عم. إدية للراجل الغلبان. أنا موش عايزاه. أنا عايزه الثواب من الله!).
الله! لقد صدق الرجل في حدسه! فالله موجود في كل مكان حتى هنا في (بلاج الأرستقراط)!!!
سيد قطب
مجلة الرسالة، العدد (689)، بتاريخ: 16 - 09 - 1946
 
عودة
أعلى