فهد الوهبي
Member
الحمد لله رب العالمين .. والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد ..
فإن هذا النوع من طرق الاستنباط من القرآن ليس ضمن دلالات الألفاظ التي يذكرها أهل الأصول، بل هو طريق مأخوذ من عادة الله تعالى في إنزاله(1 )، وخطابِ الخلْق به(2 ).
قال الشاطبي ( ت: 790 ) في هذا الطريق: "والحاصل أن القرآن احتوى من هذا النوع من الفوائد والمحاسن التي تقتضيها القواعدُ الشرعية، على كثيرٍ يشهد بها شاهدُ الاعتبار، ويصححها نصوصُ الآيات والأخبار"(3 ).
معنى أسلوب القرآن :
تواضع المتأدبون وعلماء العربية على أن الأسلوب هو: الطريقة الكلامية التي يسلكها المتكلم في تأليف كلامه، واختيار ألفاظه، أو هو المذهب الكلامي الذي انفرد به المتكلم في تأدية معانيه، ومقاصده من كلامه، أو هو طابع الكلام، أو فنه الذي انفرد به المتكلم كذلك.
وعلى هذا فأسلوب القرآن الكريم: هو طريقته التي انفرد بها في تأليف كلامه واختيار ألفاظه(4 ).
والمُطَّرِدُ مأخوذ من اطَّرد الشيء: إذا تابع بعضه بعضاً، ويقال: اطَّرد الأمر أي: استقام(5).
والمراد بالمطرد من أسلوب القرآن: تتابعُ الأَفْعَالِ، واختيارِ الألفاظ، تجاه أمرٍ ما في القرآن الكريم.
كتتابع إخباره تعالى عن نفسه تعذيب الأقوام لنفس العلة من الكفر والفسوق، وكتتابع اختياره تعالى للكناية فيما يستحيى من ذكره في الغالب، فيكون ذلك مطرداً من أسلوب القرآن الكريم.
ومن طريقة القرآن وعادته والمطرد من أسلوبه؛ استنبط العلماء عدداً من الأحكام والفوائد والآداب، إذ القرآن كلام الله، وفعله تعالى محل للاقتداء والاستنباط.
وجهةُ الدّلالة في هذا الطريق:هو الاقتداء بأفعال الله تعالى، قال الشاطبي ( ت: 790 ) بعد سوق عددٍ من الأمثلة: "هذه الأمثلة وما جرى مجراها لم يُستفد الحكم فيها من جهة وضع الألفاظ للمعاني، وإنما استفيد من جهةٍ أخرى، وهي جهة الاقتداء بالأفعال"(6 ).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ( ت: 728 هـ): " وأصل هذا(7 ) أن الأصل قول الله تعالى، وفعله، وتركه القول، وتركه الفعل(8 )... وإن كانتْ قد جرتْ عادةُ عامَّة الأصوليين أنهم لا يذكرون من جهة الله إلا قوله الذي هو كتابه" ومَثَّلَ لذلك بقوله: "وأما فِعْلُ الله ـ كعذابه للمنذَرين ـ فإنه دليلٌ على تحريم ما فعلوه ووجوب ما أمروا به، وكما استدلَّ أصحابنا وغيرهم من السلف بفعل الله تعالى ورجم قوم لوط على رجمهم، وأما ترك القول فكما يستدل بعدم أمره على عدم الإيجاب وبعدم نهيه على عدم التحريم... وأما ترك الفعل فكإنجائه للمؤمنين دون المنذَرين"(9 )(10 ).
وإذا ثبت أنَّ آحاد فعل الله تعالى محلٌّ للقدوة والاستنباط فأولى أن يكون كذلك ما كان مطرداً من فعله جلَّ وعلا.
أمثلة للاستنباط بهذا الطريق:
المثال الأول:
ومن الاستنباطات الكلية ما ذكره الشاطبي ( ت: 790 هـ) عن أسلوب القرآن بقوله: "كلُّ حكايةٍ وقعتْ في القرآن، فلا يخلو أن يقع قبلها أو بعدها ـ وهو الأكثر ـ رَدٌّ لها أو لا. فإنْ وَقَعَ رَدٌّ فلا إشكال في بطلان ذلك المحكي وكذبه؛ وإنْ لم يَقَعْ معها رَدٌّ فذلك دليلُ صحةِ المحكي وصِدْقِه"(11 ).
وأما في وجه صحتها فقال: "ولكن الدليل على صحته من نفس الحكاية وإقرارها؛ فإن القرآن سُمِّيَ فرقاناً، وهدى، وبياناً، وتبياناً، لكل شيءٍ؛ وهو حجةُ الله على الخلق على الجملة والتفصيل، والإطلاق والعموم؛ وهذا المعنى يأبى أن يُحكى فيه ما ليس بحقٍّ ثم لا ينبّه عليه"(12 ).
فأنت ترى أنّ الشاطبي ( ت: 790 هـ) قد استنبط من عادة القرآن في عدم الرد، صحةَ المحكي. وقد مثل لذلك بأمثلة متعددة ومنها(13 ):
استنباط جماعة من الأصوليين أن الكفار مخاطبون بالفروع من قوله تعالى: ( قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين ) [ المدثر: 43، 44 ] (14 ).
ووجهه: أنه لو كان قولهم باطلاً لَرُدَّ عند حكايته(15 ).
ومنه: استنباط بعضُ العلماء أن أصحابَ الكهف سبعةٌ وثامنهم كلبهم، من قوله تعالى: ( سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجماً بالغيب .. ) الآية [ الكهف: 22 ].
ووجهه: أن الله تعالى لما حكى قولهم بأنهم ( ثلاثة رابعهم كلبهم )، وأنهم ( خمسة سادسهم كلبهم ) أعقب ذلك بقوله: ( رجماً بالغيب ) أي: ليس لهم دليل ولا علم غير اتّباع الظنّ، ورجم الظنون لا يغني من الحق شيئاً، ولما حكى قولهم: ( سبعة وثامنهم كلبهم ) لم يتبعه بإبطال، بل قال: ( قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل ) فدلَّ المساقُ على صحته دون القولين الأولين(16 ).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ( ت: 728 هـ): "فإنه تعالى أخبر عنهم بثلاثة أقوال ضَعَّفَ القولين الأولين وسكت عن الثالث فدَلَّ على صِحَّتِه، إذ لو كان باطلاً لردَّه كما ردَّهما"(17 ).
وقال السّعدي ( ت: 1376 هـ): "منهم من يقول: ( ثلاثة رابعهم كلبهم ) ومنهم من يقول: ( خمسة سادسهم كلبهم ) وهذان القولان ذَكَرَ الله بعدهما أنّ هذا رَجْمٌ منهم بالغيب فدلَّ على بطلانهما، ومنهم من يقول: ( سبعة وثامنهم كلبهم ) وهذا ـ والله أعلم ـ هو الصواب لأن الله أبطل الأولين ولم يبطله فدلَّ على صحته"(18 ).
المثال الثاني:
استنباط عدم المؤاخذة قبل الإنذار، حيث أخبر جل وعلا عن نفسه بقوله: ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً ) [ الإسراء: 15 ].
قال الشَّاطبيُّ ( ت: 790 هـ): "فجَرَتْ عادتُه في خَلْقه أنه لا يؤاخذ بالمخالفة إلا بعد إرسال الرُّسُل"(19 ).
وقال ابنُ عطية ( ت: 542 هـ): "وتلخيص هذا المعنى أن مقصد الآية في هذا الموضع الإعلامُ بعادة الله مع الأمم في الدنيا... ومع هذا فالظاهر من كتاب الله في غير هذا الموضع ومن النظر أن الله تعالى لا يعذب في الآخرة إلا بعد بعثة الرسل"(20 ).
وقد بين الله هذا المعنى في آيات كثيرة كقوله: ( رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزاً حكيماً ) [ النساء: 165 ] وقوله: ( وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ) [ فاطر: 24] وقوله: ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن أعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ) [ النحل: 36 ] إلى غير ذلك من الآيات(21 ).
المثال الثالث:
استنباط أنه من الأدبِ تحسين العبارة بالكناية ونحوها في المواطن التي يُحتاج فيها إلى ذِكْر ما يستحيى من ذِكْرِه في عادتنا.
وذلك من عادة القرآن كقوله تعالى: ( أو لامستم النساء ) [ النساء: 43 ]، وقوله: ( ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه ) [ التحريم: 12 ]، وقوله: ( كانا يأكلان الطعام ) [ المائدة: 75 ] (22 ).
قال الشاطبي ( ت: 790 هـ): " أتى فيه الكناية في الأمور التي يستحيا من التصريح بها؛ كما كنّى عن الجماع باللباس والمباشرة، وعن قضاء الحاجة بالمجيء من الغائط... فاستقر ذلك أَدَبَاً لنا استنبطناه من هذه المواضع"(23 ).
المثال الرابع:
استنباط أن من الأدب في المناظرة أن لا يفاجئ بالرد كفاحاً، دون التقاضي بالمجاملة والمسامحة لأن ذلك أدعى إلى القبول وترك العناد وإطفاء نار العصبية(24 ).
وذلك من أسلوب القرآن كما في قوله: ( وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ) [ سبأ: 24 ]، وقوله: ( قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين ) [ الزخرف: 81 ]، وقوله: ( قل إن افتريته فعلي إجرامي ) [ هود: 35 ]، وقوله: ( قل أولو كانوا لا يملكون شيئاً ولا يعقلون ) [ الزمر: 43 ]، وقوله: ( أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون ) [ المائدة: 104 ] (25 ).
ووجه الاستنباط من هذه الآيات:
استعمال القرآن لهذا الأسلوب في المحاورة والمناظرة .
وختاماً فإن هذا النوع من الاستنباطات حري بالتأمل والنظر لغزارة ما احتواه القرآن من المعاني العظيمة عن طريقه ولقوة مأخذه ..
والله أعلم ،،،
ــــــــــــــــــــــــــ
الحواشي :
(1 ) أثبت الله تعالى أن له عادات مع خلقه في غير ما آية كما قال جل وعلا: ( سنة الله في الذين خلوا من قبل ) وقوله: ( سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا ) [ الإسراء: 77 ] قال الكلبي: " ومعناه: العادة. أي: هذه عادة الله مع رسله". التسهيل لعلوم التنزيل: ( 381 ). وقوله: ( سنة الله في الذين خلوا من قبل ) [ الأحزاب: 38 ] قال الكلبي: " ( سنة الله ): أي عادته ". التسهيل: ( 569 )، وقوله: ( لا يؤمنون به وقد خلت سنة الأولين ) [ الحجر: 13 ] قال السعدي: " أي عادة الله فيهم بإهلاك من لم يؤمن بآيات الله ". تيسير الكريم الرحمن: ( 383 ).
( 2) انظر: الموافقات: ( 3 / 284 ).
(3 ) الموافقات: ( 3 / 284 ).
( 4) انظر: مناهل العرفان للزرقاني: ( 2 / 277 )، والأسلوب لأحمد الشايب: ( 41 )، والأسلوب الإعلامي في القرآن لمحمد محمود: ( 5 )، والتعبير الفني في القرآن لبكر شيخ أمين: ( 179 ).
(5 ) انظر: معجم مقاييس اللغة لابن فارس: ( 612 ـ 613 )، والخصائص لابن جني: ( 1 / 96 ).
( 6) الموافقات: ( 2 / 82 ).
(7 ) كان كلامه في حجية قول الصحابي: ( كنا نفعل ).
( 8) كون إقرار الله تعالى حجة كقوله محل بحث. انظر: الجدل لابن عقيل: ( 256 )، المسودة: ( 1 / 587 )، والبرهان للزركشي: ( 2 / 9 )، وسبل السلام للصنعاني: ( 2 / 59 )، وإقرار الله في زمن الحجة لأبي زنيد: (9)، وأفعال الرسول للأشقر: ( 2 / 167 ).
(9 ) المسودة: ( 1 / 587 ـ 588 ).
(10 ) أنكر بعض الباحثين الاقتداء بأفعال الله تعالى وجعله من المسالك الفاسدة وعلل ذلك بقوله: " وهذا مسلك فاسد، لأن الله تعالى ليس كمثله شيء، ولم يكن له كفواً أحد، ولذلك فإن الناس مأمورون بعبادة الله تعالى وبطاعته وليس بالاقتداء به ومحاكاته عز وجل فإنه محال. وهذا أصل واضح ولكن ربما غفل بعضهم فحكم بالفقه بقياس أفعال الناس على أفعال الله تبارك وتعالى!!".
انظر: تمكين الباحث من الحكم بالنص بالحوادث للدكتور وميض العمري: ( 399 ).
والمتأمل يلاحظ على تعليل هذا الإنكار ما يلي:
أولاً: أنه لا تلازم بين كونه تعالى ليس كمثله شيء وبين استنباط الحكم من أفعاله تعالى، فالمستنبِط لا يفعل عين فِعْله تعالى ومثله.
ثانياً: أنه ليس المقصود بالاستنباط من أفعاله تعالى مشابهته في صفاته الذاتية والفعلية بل المقصود هو التعبد بما يمكن للعبد اقتداء بالله تعالى كرحمة العباد، والعفو عنهم، والتوبة على من تاب وأصلح، وعدم المؤاخذة قبل العلم، وغير ذلك.
( 11) الموافقات: ( 3 / 263 ).
(12 ) الموافقات: ( 3 / 264 ).
( 13) انظر هذه الأمثلة في: الموافقات: ( 3 / 264 ـ 267 ).
(14 ) انظر: تفسير البيضاوي: ( 19 / 437 )، والتفسير الكبير للرازي: ( 30 / 211)، وتفسير الثعالبي: ( 5 / 517)، وتفسير أبي السعود: ( 9 / 62)، وروح المعاني للآلوسي: ( 15 / 147 )، وفتح القدير للشوكاني: (1855)، وأضواء البيان للشنقيطي: ( 7 / 114 ).
( 15) انظر: الموافقات للشاطبي: ( 3 / 264 ).
(16 ) انظر: الموافقات للشاطبي: ( 3 / 264 )، وتفسير البيضاوي: ( 12 / 52 )، والتفسير الكبير للرازي: ( 21 / 107 )، والكشاف للزمخشري: ( 3 / 577 )، وأضواء البيان للشنقيطي: ( 4 / 75 )، وتفسير السمرقندي: (2 / 295 )، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي: ( 10 / 392 )، وروح المعاني للآلوسي: ( 8 / 229 )، وفتح القدير للشوكاني: ( 1036 ـ 1037 )، مجموع الفتاوى: ( 13 / 367 ).
( 17) مجموع الفتاوى: ( 13 / 367 ). وهذا الاستنباط وإن كان الأصل عدم الخوض فيه إلا أن المقصود من إيراده هو معرفة واستنتاج طريق الاستنباط.
(18 ) انظر: تيسير الكريم الرحمن: ( 424 ).
( 19) الموافقات: ( 3 / 282 ). وانظر: التسهيل لعلوم التنزيل للكلبي: ( 373 )، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: (10 / 236 )، مجموع الفتاوى: ( 12 / 493 ).
(20 ) المحرر الوجيز: ( 1133 ). وذكر اختلاف العلماء في الآية فقال الجمهور: هذا في حكم الدنيا . أي: أن الله لا يهلك أمة بعذاب إلا بعد الرسالة والإنذار . وقالت فرقة: هذا عام في الدنيا والآخرة .
( 21) انظر: أضواء البيان: ( 2 / 211 ) و ( 3 / 471 ـ 472 ).
(22 ) انظر: الموافقات: ( 3 / 282 )، والبرهان للزركشي: ( 2 / 303 )، فصول في البلاغة لمحمد بركات: (152 ـ 153 ).
( 23) الموافقات: (2/80). وانظر: البرهان للزركشي: ( 2 / 303 )، والإتقان للسيوطي: (2 / 59 ـ 60)، ومعترك الأقران له: (1 /287)، وأسلوب القرآن الكريم بين الهداية والإعجاز البياني لباحاذق: ( 262 )، وجماليات المفردة القرآنية لأحمد ياسوف: ( 255 ).
(24 ) انظر: الموافقات للشاطبي: ( 2 / 81 ).
( 25) انظر: الموافقات للشاطبي: ( 2 / 81 ).
فإن هذا النوع من طرق الاستنباط من القرآن ليس ضمن دلالات الألفاظ التي يذكرها أهل الأصول، بل هو طريق مأخوذ من عادة الله تعالى في إنزاله(1 )، وخطابِ الخلْق به(2 ).
قال الشاطبي ( ت: 790 ) في هذا الطريق: "والحاصل أن القرآن احتوى من هذا النوع من الفوائد والمحاسن التي تقتضيها القواعدُ الشرعية، على كثيرٍ يشهد بها شاهدُ الاعتبار، ويصححها نصوصُ الآيات والأخبار"(3 ).
معنى أسلوب القرآن :
تواضع المتأدبون وعلماء العربية على أن الأسلوب هو: الطريقة الكلامية التي يسلكها المتكلم في تأليف كلامه، واختيار ألفاظه، أو هو المذهب الكلامي الذي انفرد به المتكلم في تأدية معانيه، ومقاصده من كلامه، أو هو طابع الكلام، أو فنه الذي انفرد به المتكلم كذلك.
وعلى هذا فأسلوب القرآن الكريم: هو طريقته التي انفرد بها في تأليف كلامه واختيار ألفاظه(4 ).
والمُطَّرِدُ مأخوذ من اطَّرد الشيء: إذا تابع بعضه بعضاً، ويقال: اطَّرد الأمر أي: استقام(5).
والمراد بالمطرد من أسلوب القرآن: تتابعُ الأَفْعَالِ، واختيارِ الألفاظ، تجاه أمرٍ ما في القرآن الكريم.
كتتابع إخباره تعالى عن نفسه تعذيب الأقوام لنفس العلة من الكفر والفسوق، وكتتابع اختياره تعالى للكناية فيما يستحيى من ذكره في الغالب، فيكون ذلك مطرداً من أسلوب القرآن الكريم.
ومن طريقة القرآن وعادته والمطرد من أسلوبه؛ استنبط العلماء عدداً من الأحكام والفوائد والآداب، إذ القرآن كلام الله، وفعله تعالى محل للاقتداء والاستنباط.
وجهةُ الدّلالة في هذا الطريق:هو الاقتداء بأفعال الله تعالى، قال الشاطبي ( ت: 790 ) بعد سوق عددٍ من الأمثلة: "هذه الأمثلة وما جرى مجراها لم يُستفد الحكم فيها من جهة وضع الألفاظ للمعاني، وإنما استفيد من جهةٍ أخرى، وهي جهة الاقتداء بالأفعال"(6 ).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ( ت: 728 هـ): " وأصل هذا(7 ) أن الأصل قول الله تعالى، وفعله، وتركه القول، وتركه الفعل(8 )... وإن كانتْ قد جرتْ عادةُ عامَّة الأصوليين أنهم لا يذكرون من جهة الله إلا قوله الذي هو كتابه" ومَثَّلَ لذلك بقوله: "وأما فِعْلُ الله ـ كعذابه للمنذَرين ـ فإنه دليلٌ على تحريم ما فعلوه ووجوب ما أمروا به، وكما استدلَّ أصحابنا وغيرهم من السلف بفعل الله تعالى ورجم قوم لوط على رجمهم، وأما ترك القول فكما يستدل بعدم أمره على عدم الإيجاب وبعدم نهيه على عدم التحريم... وأما ترك الفعل فكإنجائه للمؤمنين دون المنذَرين"(9 )(10 ).
وإذا ثبت أنَّ آحاد فعل الله تعالى محلٌّ للقدوة والاستنباط فأولى أن يكون كذلك ما كان مطرداً من فعله جلَّ وعلا.
أمثلة للاستنباط بهذا الطريق:
المثال الأول:
ومن الاستنباطات الكلية ما ذكره الشاطبي ( ت: 790 هـ) عن أسلوب القرآن بقوله: "كلُّ حكايةٍ وقعتْ في القرآن، فلا يخلو أن يقع قبلها أو بعدها ـ وهو الأكثر ـ رَدٌّ لها أو لا. فإنْ وَقَعَ رَدٌّ فلا إشكال في بطلان ذلك المحكي وكذبه؛ وإنْ لم يَقَعْ معها رَدٌّ فذلك دليلُ صحةِ المحكي وصِدْقِه"(11 ).
وأما في وجه صحتها فقال: "ولكن الدليل على صحته من نفس الحكاية وإقرارها؛ فإن القرآن سُمِّيَ فرقاناً، وهدى، وبياناً، وتبياناً، لكل شيءٍ؛ وهو حجةُ الله على الخلق على الجملة والتفصيل، والإطلاق والعموم؛ وهذا المعنى يأبى أن يُحكى فيه ما ليس بحقٍّ ثم لا ينبّه عليه"(12 ).
فأنت ترى أنّ الشاطبي ( ت: 790 هـ) قد استنبط من عادة القرآن في عدم الرد، صحةَ المحكي. وقد مثل لذلك بأمثلة متعددة ومنها(13 ):
استنباط جماعة من الأصوليين أن الكفار مخاطبون بالفروع من قوله تعالى: ( قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين ) [ المدثر: 43، 44 ] (14 ).
ووجهه: أنه لو كان قولهم باطلاً لَرُدَّ عند حكايته(15 ).
ومنه: استنباط بعضُ العلماء أن أصحابَ الكهف سبعةٌ وثامنهم كلبهم، من قوله تعالى: ( سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجماً بالغيب .. ) الآية [ الكهف: 22 ].
ووجهه: أن الله تعالى لما حكى قولهم بأنهم ( ثلاثة رابعهم كلبهم )، وأنهم ( خمسة سادسهم كلبهم ) أعقب ذلك بقوله: ( رجماً بالغيب ) أي: ليس لهم دليل ولا علم غير اتّباع الظنّ، ورجم الظنون لا يغني من الحق شيئاً، ولما حكى قولهم: ( سبعة وثامنهم كلبهم ) لم يتبعه بإبطال، بل قال: ( قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل ) فدلَّ المساقُ على صحته دون القولين الأولين(16 ).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ( ت: 728 هـ): "فإنه تعالى أخبر عنهم بثلاثة أقوال ضَعَّفَ القولين الأولين وسكت عن الثالث فدَلَّ على صِحَّتِه، إذ لو كان باطلاً لردَّه كما ردَّهما"(17 ).
وقال السّعدي ( ت: 1376 هـ): "منهم من يقول: ( ثلاثة رابعهم كلبهم ) ومنهم من يقول: ( خمسة سادسهم كلبهم ) وهذان القولان ذَكَرَ الله بعدهما أنّ هذا رَجْمٌ منهم بالغيب فدلَّ على بطلانهما، ومنهم من يقول: ( سبعة وثامنهم كلبهم ) وهذا ـ والله أعلم ـ هو الصواب لأن الله أبطل الأولين ولم يبطله فدلَّ على صحته"(18 ).
المثال الثاني:
استنباط عدم المؤاخذة قبل الإنذار، حيث أخبر جل وعلا عن نفسه بقوله: ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً ) [ الإسراء: 15 ].
قال الشَّاطبيُّ ( ت: 790 هـ): "فجَرَتْ عادتُه في خَلْقه أنه لا يؤاخذ بالمخالفة إلا بعد إرسال الرُّسُل"(19 ).
وقال ابنُ عطية ( ت: 542 هـ): "وتلخيص هذا المعنى أن مقصد الآية في هذا الموضع الإعلامُ بعادة الله مع الأمم في الدنيا... ومع هذا فالظاهر من كتاب الله في غير هذا الموضع ومن النظر أن الله تعالى لا يعذب في الآخرة إلا بعد بعثة الرسل"(20 ).
وقد بين الله هذا المعنى في آيات كثيرة كقوله: ( رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزاً حكيماً ) [ النساء: 165 ] وقوله: ( وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ) [ فاطر: 24] وقوله: ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن أعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ) [ النحل: 36 ] إلى غير ذلك من الآيات(21 ).
المثال الثالث:
استنباط أنه من الأدبِ تحسين العبارة بالكناية ونحوها في المواطن التي يُحتاج فيها إلى ذِكْر ما يستحيى من ذِكْرِه في عادتنا.
وذلك من عادة القرآن كقوله تعالى: ( أو لامستم النساء ) [ النساء: 43 ]، وقوله: ( ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه ) [ التحريم: 12 ]، وقوله: ( كانا يأكلان الطعام ) [ المائدة: 75 ] (22 ).
قال الشاطبي ( ت: 790 هـ): " أتى فيه الكناية في الأمور التي يستحيا من التصريح بها؛ كما كنّى عن الجماع باللباس والمباشرة، وعن قضاء الحاجة بالمجيء من الغائط... فاستقر ذلك أَدَبَاً لنا استنبطناه من هذه المواضع"(23 ).
المثال الرابع:
استنباط أن من الأدب في المناظرة أن لا يفاجئ بالرد كفاحاً، دون التقاضي بالمجاملة والمسامحة لأن ذلك أدعى إلى القبول وترك العناد وإطفاء نار العصبية(24 ).
وذلك من أسلوب القرآن كما في قوله: ( وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ) [ سبأ: 24 ]، وقوله: ( قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين ) [ الزخرف: 81 ]، وقوله: ( قل إن افتريته فعلي إجرامي ) [ هود: 35 ]، وقوله: ( قل أولو كانوا لا يملكون شيئاً ولا يعقلون ) [ الزمر: 43 ]، وقوله: ( أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون ) [ المائدة: 104 ] (25 ).
ووجه الاستنباط من هذه الآيات:
استعمال القرآن لهذا الأسلوب في المحاورة والمناظرة .
وختاماً فإن هذا النوع من الاستنباطات حري بالتأمل والنظر لغزارة ما احتواه القرآن من المعاني العظيمة عن طريقه ولقوة مأخذه ..
والله أعلم ،،،
ــــــــــــــــــــــــــ
الحواشي :
(1 ) أثبت الله تعالى أن له عادات مع خلقه في غير ما آية كما قال جل وعلا: ( سنة الله في الذين خلوا من قبل ) وقوله: ( سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا ) [ الإسراء: 77 ] قال الكلبي: " ومعناه: العادة. أي: هذه عادة الله مع رسله". التسهيل لعلوم التنزيل: ( 381 ). وقوله: ( سنة الله في الذين خلوا من قبل ) [ الأحزاب: 38 ] قال الكلبي: " ( سنة الله ): أي عادته ". التسهيل: ( 569 )، وقوله: ( لا يؤمنون به وقد خلت سنة الأولين ) [ الحجر: 13 ] قال السعدي: " أي عادة الله فيهم بإهلاك من لم يؤمن بآيات الله ". تيسير الكريم الرحمن: ( 383 ).
( 2) انظر: الموافقات: ( 3 / 284 ).
(3 ) الموافقات: ( 3 / 284 ).
( 4) انظر: مناهل العرفان للزرقاني: ( 2 / 277 )، والأسلوب لأحمد الشايب: ( 41 )، والأسلوب الإعلامي في القرآن لمحمد محمود: ( 5 )، والتعبير الفني في القرآن لبكر شيخ أمين: ( 179 ).
(5 ) انظر: معجم مقاييس اللغة لابن فارس: ( 612 ـ 613 )، والخصائص لابن جني: ( 1 / 96 ).
( 6) الموافقات: ( 2 / 82 ).
(7 ) كان كلامه في حجية قول الصحابي: ( كنا نفعل ).
( 8) كون إقرار الله تعالى حجة كقوله محل بحث. انظر: الجدل لابن عقيل: ( 256 )، المسودة: ( 1 / 587 )، والبرهان للزركشي: ( 2 / 9 )، وسبل السلام للصنعاني: ( 2 / 59 )، وإقرار الله في زمن الحجة لأبي زنيد: (9)، وأفعال الرسول للأشقر: ( 2 / 167 ).
(9 ) المسودة: ( 1 / 587 ـ 588 ).
(10 ) أنكر بعض الباحثين الاقتداء بأفعال الله تعالى وجعله من المسالك الفاسدة وعلل ذلك بقوله: " وهذا مسلك فاسد، لأن الله تعالى ليس كمثله شيء، ولم يكن له كفواً أحد، ولذلك فإن الناس مأمورون بعبادة الله تعالى وبطاعته وليس بالاقتداء به ومحاكاته عز وجل فإنه محال. وهذا أصل واضح ولكن ربما غفل بعضهم فحكم بالفقه بقياس أفعال الناس على أفعال الله تبارك وتعالى!!".
انظر: تمكين الباحث من الحكم بالنص بالحوادث للدكتور وميض العمري: ( 399 ).
والمتأمل يلاحظ على تعليل هذا الإنكار ما يلي:
أولاً: أنه لا تلازم بين كونه تعالى ليس كمثله شيء وبين استنباط الحكم من أفعاله تعالى، فالمستنبِط لا يفعل عين فِعْله تعالى ومثله.
ثانياً: أنه ليس المقصود بالاستنباط من أفعاله تعالى مشابهته في صفاته الذاتية والفعلية بل المقصود هو التعبد بما يمكن للعبد اقتداء بالله تعالى كرحمة العباد، والعفو عنهم، والتوبة على من تاب وأصلح، وعدم المؤاخذة قبل العلم، وغير ذلك.
( 11) الموافقات: ( 3 / 263 ).
(12 ) الموافقات: ( 3 / 264 ).
( 13) انظر هذه الأمثلة في: الموافقات: ( 3 / 264 ـ 267 ).
(14 ) انظر: تفسير البيضاوي: ( 19 / 437 )، والتفسير الكبير للرازي: ( 30 / 211)، وتفسير الثعالبي: ( 5 / 517)، وتفسير أبي السعود: ( 9 / 62)، وروح المعاني للآلوسي: ( 15 / 147 )، وفتح القدير للشوكاني: (1855)، وأضواء البيان للشنقيطي: ( 7 / 114 ).
( 15) انظر: الموافقات للشاطبي: ( 3 / 264 ).
(16 ) انظر: الموافقات للشاطبي: ( 3 / 264 )، وتفسير البيضاوي: ( 12 / 52 )، والتفسير الكبير للرازي: ( 21 / 107 )، والكشاف للزمخشري: ( 3 / 577 )، وأضواء البيان للشنقيطي: ( 4 / 75 )، وتفسير السمرقندي: (2 / 295 )، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي: ( 10 / 392 )، وروح المعاني للآلوسي: ( 8 / 229 )، وفتح القدير للشوكاني: ( 1036 ـ 1037 )، مجموع الفتاوى: ( 13 / 367 ).
( 17) مجموع الفتاوى: ( 13 / 367 ). وهذا الاستنباط وإن كان الأصل عدم الخوض فيه إلا أن المقصود من إيراده هو معرفة واستنتاج طريق الاستنباط.
(18 ) انظر: تيسير الكريم الرحمن: ( 424 ).
( 19) الموافقات: ( 3 / 282 ). وانظر: التسهيل لعلوم التنزيل للكلبي: ( 373 )، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: (10 / 236 )، مجموع الفتاوى: ( 12 / 493 ).
(20 ) المحرر الوجيز: ( 1133 ). وذكر اختلاف العلماء في الآية فقال الجمهور: هذا في حكم الدنيا . أي: أن الله لا يهلك أمة بعذاب إلا بعد الرسالة والإنذار . وقالت فرقة: هذا عام في الدنيا والآخرة .
( 21) انظر: أضواء البيان: ( 2 / 211 ) و ( 3 / 471 ـ 472 ).
(22 ) انظر: الموافقات: ( 3 / 282 )، والبرهان للزركشي: ( 2 / 303 )، فصول في البلاغة لمحمد بركات: (152 ـ 153 ).
( 23) الموافقات: (2/80). وانظر: البرهان للزركشي: ( 2 / 303 )، والإتقان للسيوطي: (2 / 59 ـ 60)، ومعترك الأقران له: (1 /287)، وأسلوب القرآن الكريم بين الهداية والإعجاز البياني لباحاذق: ( 262 )، وجماليات المفردة القرآنية لأحمد ياسوف: ( 255 ).
(24 ) انظر: الموافقات للشاطبي: ( 2 / 81 ).
( 25) انظر: الموافقات للشاطبي: ( 2 / 81 ).